سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَلَمْ يَزِدْ جَازَ الْوَقْفُ، وَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَ إِلَى مِلْكِهِ لَوْ حَيًّا، وَإِلاَّ فَإِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ حَتَّى تُصْرَفَ الْغَلَّةُ بَعْدَ الأَْوْلاَدِ إِلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ وَالْوَقْفِ الْمُؤَقَّتِ.
فَبِالنِّسْبَةِ لِلْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا رَجَعَ الْوَقْفُ لأَِقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَةِ الْمُحْبِسِ نَسَبًا وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَوِي فِي الأَْنْصِبَةِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ فِي أَصْل وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّ مَرْجِعَ الْوَقْفِ إِلَيْهِمْ لَيْسَ بِإِنْشَاءِ الْوَاقِفِ وَإِنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، لَكِنْ لَوْ قَال الْوَاقِفُ إِنِ انْقَطَعَ الْوَقْفُ رَجَعَ لأَِقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَتِي لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْمَل بِشَرْطِهِ حَيْثُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَرْجِعِ، لأَِنَّ الْمَرْجِعَ صَارَ بِذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَبْسِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ فَابْنُهُ فَالأَْخُ فَابْنُهُ فَالْجَدُّ فَالْعَمُّ فَابْنُهُ وَيَشْتَرِكُ مَعَهُمْ أَقْرَبُ امْرَأَةٍ مِنْ فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ لَوْ كَانَتْ ذَكَرًا كَانَتْ عَصَبَتُهُ كَالْبِنْتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 365، وتبيين الحقائق 3 / 326 - 327، وفتح القدير 6 / 214 - 215.(44/148)
وَالأُْخْتِ وَالْعَمَّةِ، فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْفُ فِي الْغَلَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ قُدِّمَ الْبَنَاتُ عَلَى الأُْخْوَةِ لاَ عَلَى الاِبْنِ فَتَأْخُذُ الْبَنَاتُ مَا يَكْفِيهِنَّ وَلاَ يَأْخُذْنَ الْجَمِيعَ، وَلاَ يَدْخُل فِيهِ الْوَاقِفُ وَلَوْ فَقِيرًا، فَإِنْ كَانَ الأَْقْرَبُ غَنِيًّا فَلِمَنْ يَلِيهِ فِي الرُّتْبَةِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُؤَقَّتًا كَمَنْ وَقَفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَيَّدَهُ بِحَيَاتِهِمْ أَوْ حَيَاةِ فُلاَنٍ أَوْ قَيَّدَ بِأَجَلٍ كَعَشَرَةِ أَعْوَامٍ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَنَصِيبُهُ لِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا رَجَعَ مَلِكًا لِرَبِّهِ أَوْ لِوَارِثِهِ إِنْ مَاتَ، فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ وَأَطْلَقَ فَيَرْجِعُ بَعْدَ انْقِرَاضِ جَمِيعِهِمْ مَرْجِعَ الأَْحْبَاسِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَمِنْهُمُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ رُجُوعُهُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَارِثِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ.
وَإِذَا رَجَعَ مَرْجِعَ الأَْحْبَاسِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ أَيْ لأَِقْرَبِ عَصَبَةِ الْمُحْبِسِ وَلاِمْرَأَةٍ لَوْ فُرِضَتْ ذَكَرًا عَصَّبَتْ كَالْبِنْتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ أَوِ انْقَرَضُوا فَلِلْفُقَرَاءِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَهُمْ رَأْيَانِ، الأَْوَّل وَهُوَ الأَْظْهَرُ: صِحَّةُ الْوَقْفِ لأَِنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَةُ وَالدَّوَامُ وَإِذَا بُيِّنَ مَصْرِفُهُ ابْتِدَاءً سَهُل إِدَامَتُهُ عَلَى سَبِيل الْخَيْرِ. وَالثَّانِي: بُطْلاَنُ الْوَقْفِ لاِنْقِطَاعِهِ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 85 - 87، والشرح الصغير 2 / 305 - 306.(44/148)
وَعَلَى الأَْظْهَرِ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ فَلَهُمْ رَأْيَانِ:
فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا.
وَالثَّانِي: يَرْتَفِعُ الْوَقْفُ وَيَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَارِثِهِ إِنْ مَاتَ.
وَعَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّل الَّذِي يَرَى صِحَّةَ الْوَقْفِ، لَهُمْ رَأْيَانِ فِي مَصْرِفِهِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الأَْقَارِبِ مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (1) .
وَيَخْتَصُّ الْمَصْرِفُ وُجُوبًا - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَوَارِزْمِيُّ وَغَيْرُهُ بِفُقَرَاءَ قَرَابَةِ الرَّحِمِ لاَ الإِْرْثِ فِي الأَْصَحِّ فَيُقَدَّمُ ابْنُ بِنْتٍ عَلَى ابْنِ عَمٍّ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ صَرَفَ الإِْمَامُ الرَّيْعَ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ النَّصِّ، وَقِيل: يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ يَؤُول إِلَيْهِمْ فِي الاِنْتِهَاءِ (2) .
__________
(1) حديث: " الصدقة على المسكين. . . " أخرجه الترمذي (3 / 38) من حديث سلمان بن عامر. وقال: حديث حسن.
(2) مغني المحتاج 2 / 384، والمهذب 1 / 448 وما بعدها.(44/149)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيُصْرَفُ بَعْدَ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إِلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ نَسَبًا حِينَ الاِنْقِطَاعِ عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلاَ يَمْلِكُونَ نَقْل الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا مَعْلُومَةً:
49 - الأَْصْل فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا مَعْلُومَةً، فَإِذَا لَمْ تُحَدَّدِ الْجِهَةُ أَصْلاً فِي الْوَقْفِ كَمَا إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ وَسَكَتَ، وَلَمْ يُحَدِّدْ مَصْرِفًا، أَوْ إِذَا كَانَتِ الْجِهَةُ مَجْهُولَةً أَوْ مُبْهَمَةً كَالْوَقْفِ عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صِحَّتَهُ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفًا بِأَنْ قَال: وَقَفْتُ وَسَكَتَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْجِهَةَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَوْقُوفُ:
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَوْلَهُ وَقَفْتُ يَقْتَضِي إِزَالَتَهُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 498.(44/149)
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِلَى نَائِبِهِ وَهُوَ الْفَقِيرُ وَمِثْل ذَلِكَ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ قَال دَارِي وَقْفٌ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهُ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مَا يُوَجِّهُهُ الْمَالِكُ إِنْ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ سُؤَالُهُ صُرِفَ فِي غَالِبِ مَا يُقْصَدُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ غَالِبًا فِي عُرْفِ أَهْل بَلَدِ الْوَاقِفِ كَأَهْل الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبٌ لَهُمْ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ بِالاِجْتِهَادِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُصْرَفُ إِلَى وَرَثَتِهِ نَسَبًا عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِمْ فَلاَ يَمْلِكُونَ نَقْل الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ، وَيَقَعُ الْحَجْبُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ كَالإِْرْثِ فَلِلْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ الثُّلُثُ وَلَهُ الْبَاقِي وَلِلأَْخِ مِنَ الأُْمِّ مَعَ الأَْخِ لِلأَْبِ السُّدُسُ وَلَهُ مَا بَقِيَ، فَإِنْ عُدِمُوا فَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَنَصُّ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُل وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبُطْلاَنُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِعَدَمِ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ.
لَكِنْ قَال مُحَمَّدٌ: لَوْ قَال: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَصَدَقَةُ الْوَقْفِ وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، لأَِنَّ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ يَدُل عَلَى التَّأْبِيدِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لأَِنَّ مَحَل الصَّدَقَةِ فِي(44/150)
الأَْصْل الْفُقَرَاءُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ مَجْهُولَةٍ كَالْوَقْفِ عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِهَةُ مُبْهَمَةً كَالْوَقْفِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ مُنْجَزٌ فَلَمْ يَصِحَّ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ:
50 - إِذَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ طَبَقَةً وَاحِدَةً فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ كَأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي أَوْ وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَال يَنْفَرِدُ بِالاِسْتِحْقَاقِ مَنْ يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ أَوْلاَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى كَمَا قَالَهُ أَهْل اللُّغَةِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لأَِنَّهُ جَعَلَهُ لَهُمْ، وَإِطْلاَقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ
__________
(1) الإسعاف ص16، الطبعة الثانية طبعة هندية، وحاشية ابن عابدين 3 / 365 - 366، والفتاوى الهندية 2 / 357 - 358، وفتح القدير 6 / 202، والدسوقي 4 / 87 - 88، والشرح الصغير 2 / 300، ومغني المحتاج 2 / 384، وشرح منتهى الإرادات 2 / 498، ونيل المآرب 2 / 14.
(2) المهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 / 485، ونيل المآرب 2 / 13، وروضة القصاة للسمناني 2 / 794.(44/150)
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ وَلَدٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
وَإِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الاِسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ الزَّاغَوَانِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُبْهِجِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَاخْتَارَهُ فِي الإِْقْنَاعِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَدْخُل فِي الاِسْتِحْقَاقِ الْوَلَدُ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَقْفِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ (2) .
51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ فِيمَا لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الأَْوْلاَدِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ لأَِنَّ الْوَلَدَ حَقِيقَةً
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 436 - 437، والإسعاف 95 - 96، وفتح القدير 6 / 242 - 243، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 93، والمهذب 1 / 451، ومغني المحتاج 2 / 387، وكشاف القناع 4 / 277 - 278.
(2) فتح القدير 6 / 243، وأحكام الأوقاف ص104، وحاشية الدسوقي 4 / 77، 89، ومغني المحتاج 2 / 387، والروضة 5 / 337، ونهاية المحتاج 5 / 378، وكشاف القناع 4 / 278، ومنتهى الإرادات 2 / 508، والإنصاف 7 / 74 وما بعدها.(44/151)
وَعُرْفًا إِنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا مَجَازًا وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ اقْتَصَرَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَطْنُ الأَْوَّل وَلَمْ يُوجَدْ نَصٌّ أَوْ شَرْطٌ بِدُخُول أَوْلاَدِ الاِبْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَوْلاَدَ الاِبْنِ فَقَطْ دُونَ الإِْنَاثِ يَدْخُلُونَ لأَِنَّ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَدٌ لَهُ بِدَلِيل قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ} (2) وَ {يَابَنِي إِسْرَائِيل} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (4) ، وَلاَ يَدْخُل فِي ذَلِكَ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ لأَِنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، وَلأَِنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّاعِرُ:
بَنُونَا بَنُو آبَائِنَا وَبَنَاتُنَا
بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَال الأَْبَاعِدِ (5)
__________
(1) الإسعاف ص96، ومغني المحتاج 2 / 387، والروضة 5 / 335 - 336، والمغني 5 / 609.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) سورة البقرة / 40.
(4) حديث: " ارموا بني إسماعيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 413) من حديث سلمة بن الأكوع.
(5) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 44، ومنح الجيل 4 / 73، والروضة 5 / 336، ومغني المحتاج 2 / 387، وكشاف القناع 4 / 278، وشرح المنتهى 2 / 508، والإنصاف 7 / 74.(44/151)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلاَدَ الْبَنِينَ أَوْ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ لأَِنَّ الْبَنَاتَ أَوْلاَدُهُ، وَأَوْلاَدُهُنَّ أَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (1) وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ - وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ (2) يَعْنِي الْحَسَنَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ " إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ أَوْلاَدٌ حِينَ الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ وَكَانَ لَهُ أَوْلاَدُ أَوْلاَدٍ فَإِنَّ اللَّفْظَ يُحْمَل عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ وَصِيَانَةً لِكَلاَمِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الإِْلْغَاءِ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَيَكُونُ وَلَدُ الاِبْنِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ وَلَدُ صُلْبٍ حِينَ الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ فَيُخْتَصُّ بِوَلَدِ الاِبْنِ وَلَوْ أُنْثَى، لأَِنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَعُمُّهُ دُونَ مَنْ دُونَهُ مِنَ الْبُطُونِ وَدُونَ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي الصَّحِيحِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 307) من حديث أبي بكرة.(44/152)
هِلاَلٌ، لأَِنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ لاَ آبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ بِخِلاَفِ وَلَدِ الاِبْنِ، وَقَال فِي الإِْسْعَافِ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَلاَ وَلَدُ وَلَدٍ وَكَانَ لَهُ وَلَدُ وَلَدِ وَلَدٍ فَالْغَلَّةُ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ أَسْفَل مِنَ الْبُطُونِ، وَعَمَّ نَسْلُهُ الأَْقْرَبَ وَالأَْبْعَدَ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ (1) .
52 - وَيَسْتَوِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الْوَاقِفُ: عَلَى وَلَدِي بِصِيغَةِ الإِْفْرَادِ، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ، فَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامٍ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِصِيغَةِ الإِْفْرَادِ، أَمَّا إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي بِلْفِظِ الْجَمْعِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الاِخْتِيَارِ أَنَّهُ يَشْمَل جَمِيعَ الْبُطُونِ لِعُمُومِ اسْمِ الأَْوْلاَدِ، وَيُقَدَّمُ الْبَطْنُ الأَْوَّل، فَإِذَا انْقَرَضَ فَالثَّانِي، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْبُطُونِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 437، والإسعاف ص96، وفتح القدير 6 / 243، ومغني المحتاج 2 / 387، والمغني 5 / 609، ونهاية المحتاج 5 / 378.(44/152)
السَّوَاءِ قَرِيبُهُمْ وَبِعِيدُهُمْ، لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْخَانِيَّةِ فَفِيهَا: رَجُلٌ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى أَوْلاَدِهِ وَجَعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ فَمَاتَ بَعْضُهُمْ قَال هِلاَلٌ: يُصْرَفُ الْوَقْفُ إِلَى الْبَاقِي فَإِذَا مَاتُوا يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ لاَ إِلَى وَلَدِ الْوَلَدِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْخُلاَصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَخِزَانَةِ الْفَتَاوَى وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ (1) .
وَإِنْ خَصَّصَ فِي وَقْفِهِ الذُّكُورَ دُونَ الإِْنَاثِ اخْتُصَّ بِهِمْ، وَكَذَا إِذَا ذَكَرَ أَوْلاَدَهُ بِالاِسْمِ فَقَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فَلاَ يَشْمَل الْمَسْكُوتَ عَنْهُ مِنْ أَوْلاَدِهِ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ:
53 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي فَقَطْ، أَيْ لَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْبَطْنَيْنِ وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْغَلَّةِ، وَلاَ يُقَدَّمُ الصُّلْبِيُّ عَلَى وَلَدِ الاِبْنِ، لأَِنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا حَيْثُ لَمْ يَذْكُرُ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الأَْوْلاَدُ وَأَوْلاَدُهُمْ صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ لاِنْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلاَ يَدْخُل الْبَطْنُ الثَّالِثُ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرِ الْوَلَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَوْ زَادَ فَذَكَرَ الْبَطْنَ الثَّالِثَ بِأَنْ قَال: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 438.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 92، ومواهب الجليل 6 / 44، وكشاف القناع 4 / 281، وفتح القدير 6 / 243.(44/153)
وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي عَمَّ نَسْلَهُ فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى أَوْلاَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا لاَ لِلْفُقَرَاءِ مَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفُل، وَيَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْبُطُونِ فِي الْغَلَّةِ لِعَدَمِ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَدُل عَلَى التَّرْتِيبِ كَأَنْ يَقُول: الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، أَوْ يَقُول: عَلَى وَلَدِي ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي وَهَكَذَا، أَوْ يَقُول: بَطَنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَحِينَئِذٍ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْوَاقِفُ (1) .
أَمَّا لَوْ ذَكَرَ الأَْوْلاَدَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَال: عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي فَإِنَّ الْغَلَّةَ تُصْرَفُ إِلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مَا دَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَاقِيًا وَإِنْ سَفُل، لأَِنَّ اسْمَ الأَْوْلاَدِ يَتَنَاوَل الْكُل بِخِلاَفِ اسْمِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ ثَلاَثَةِ بُطُونٍ حَتَّى يُصْرَفَ إِلَى النَّوَافِل (2) مَا تَنَاسَلُوا، وَالأَْقْرَبُ وَالأَْبْعَدُ فِي الْغَلَّةِ سَوَاءٌ، فَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ وَالأُْنْثَى مِثْل الذَّكَرِ (3) .
هَل يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبِنْتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ:
54 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 437، والإسعاف ص98.
(2) النوافل جمع نافلة، ومن معانيها: ولد الولد (المصباح المنير) .
(3) الإسعاف ص98.(44/153)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ اعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمُفْتَى بِهِ عَدَمُ دُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي الأَْوْلاَدِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ قَال: عَلَى أَوْلاَدِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ أَوْ بِلَفْظِ اسْمِ الْجِنْسِ كَوَلَدِي وَسَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل أَوْ ذَكَرَ الْبَطْنَ الثَّانِيَ مُضَافًا إِلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاقِفِ كَأَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي أَوِ الْعَائِدِ عَلَى الأَْوْلاَدِ كَأَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ.
وَقَال الْخَصَّافُ: يَدْخُلُونَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَقَال عَلِيٌّ الرَّازِيُّ: إِنْ ذَكَرَ الْبَطْنَ الثَّانِي بِلَفْظِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْوَاقِفِ كَوَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي لاَ يَدْخُلُونَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الأَْوْلاَدِ كَأَوْلاَدِي، وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمْ دَخَلُوا.
وَقَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لاَ يَدْخُلُونَ فِي الْبَطْنِ الأَْوَّل رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الدُّخُول لأَِنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ اسْمٌ لِمَنْ وَلَدَهُ وَلَدُهُ، وَابْنَتُهُ وَلَدُهُ، فَمَنْ وَلَدَتْهُ بِنْتُهُ يَكُونُ وَلَدَ وَلَدِهِ حَقِيقَةً (1) .
وَفِي الإِْسْعَافِ: قَال هِلاَلٌ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ تَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ ابْنِهِ. لأَِنَّهُ سَوَّى بَيْنِهِمَا فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 434.(44/154)
الذِّكْرِ وَيَدْخُل وَلَدُ الْبِنْتِ.
وَنَقَل صَاحِبُ الإِْسْعَافِ قَوْل عَلِيٍّ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، ثُمَّ قَال: وَالصَّحِيحُ مَا قَال هِلاَلٌ، لأَِنَّ اسْمَ وَلَدِ الْوَلَدِ كَمَا يَتَنَاوَل أَوْلاَدَ الْبَنِينَ يَتَنَاوَل أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ وَأَوْلاَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَل الْحَافِدَ أَيْ وَلَدَ الْبِنْتِ، لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَوَلَدُهُ بِمَنْزِلَتِهِ دَخَل وَلَدُ الْبِنْتِ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ (فَمَنْ مَاتَ) مِنْ تَمَامِ صِيغَةِ الْوَقْفِ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ لَمْ يَدْخُل وَلَدُ الْبِنْتِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْ تَمَامِ الْوَقْفِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ حِينَ الْوَقْفِ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ وَالتَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيل وَذَكَرَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ.
فَإِنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى ابْنَتِي وَوَلَدِهَا دَخَل أَوْلاَدُهَا الذُّكُورُ وَالإِْنَاثُ فَإِنْ مَاتُوا كَانَ لأَِوْلاَدِ الذُّكُورِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَلاَ شَيْءَ لاِبْنِ بِنْتٍ ذَكَرٍ وَلاَ لاِبْنِ بِنْتٍ أُنْثَى.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ فِيمَا لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي، أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي.
__________
(1) الإسعاف ص97.(44/154)
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي الْحَسَنِ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِي فِي تَكْمِيلِهِ وَقَال عَقِيبَهُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيل: إِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لاَ يَدْخُل وَلاَ يَسْتَحِقُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ (1) .
كَمَا اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي دُخُول وَلَدِ الْبِنْتِ فِيمَا لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِهِمْ فَأَفْتَى أَهْل قُرْطُبَةَ بِدُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ وَقَضَى بِهِ ابْنُ السَّلِيمِ، وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لاَ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِل مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ دَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ لِصِدْقِ اللَّفْظِ بِهِمْ، فَإِنْ قَال: عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيَّ مِنْ أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي لَمْ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ بَل إِلَى آبَائِهِمْ (3) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي دُخُول الْبَطْنِ الثَّالِثِ فِيمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى بَطْنَيْنِ فَقَطْ، قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ فَفِي دُخُول أَوْلاَدِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 93.
(2) منح الجليل 4 / 74، 75.
(3) روضة الطالبين 5 / 336، ومغني المحتاج 2 / 388.(44/155)
أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ الْخِلاَفُ (أَيِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي دُخُول أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لاَ يَدْخُلُونَ) (1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي أَصْل الإِْعْطَاءِ وَالْمِقْدَارِ بَيْنَ الْكُل وَهُوَ جَمِيعُ أَفْرَادِ الأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِهِمْ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، لأَِنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لاَ لِلتَّرْتِيبِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، وَكَذَا يُسَوَّى بَيْنَ الْكُل لَوْ زَادَ فَقَال: مَا تَنَاسَلُوا، أَيْ أَوْلاَدُ الأَْوْلاَدِ، وَكَذَا لَوْ قَال: بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَوْ نَسْلاً بَعْدَ نَسْلٍ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَمِيعِ فَيُشَارِكُ الْبَطْنُ الأَْسْفَل الْبَطْنَ الأَْعْلَى، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَالْفَوْرَانِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. لِلتَّرْتِيبِ وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ تَبَعًا لاِبْنِ يُونُسَ.
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي ثُمَّ أَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ فَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الأَْوَّل وَاحِدٌ وَلاَ إِلَى الثَّالِثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثَّانِي أَحَدٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ دَخَل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ، وَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 336.
(2) مغني المحتاج 2 / 386 - 387، وروضة الطالبين 5 / 334 - 336.(44/155)
الْبَنَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَكَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ ثُمَّ أَوْلاَدِهِمْ، أَوْ قَال: عَلَى أَنَّ لِوَلَدِ الذَّكَرِ سَهْمَيْنِ وَلِوَلَدِ الأُْنْثَى سَهْمًا فَإِنَّهُ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ يَدْخُل فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ (1) .
وَإِنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا الأَْعْلَى فَالأَْعْلَى أَوِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ أَوِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل أَوِ الْبَطْنِ الأَْوَّل ثُمَّ الْبَطْنِ الثَّانِي أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي أَوْ عَلَى أَوْلاَدِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي فَكُل هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ فَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ الأَْوَّل كُلُّهُ وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَطْنِ الأَْوَّل كَانَ الْجَمِيعُ لَهُ.
وَإِنْ قَال: عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ مَا تَعَاقَبُوا وَتَنَاسَلُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ بَيْنَ كُل وَلَدٍ وَوَلَدِهِ، فَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَل إِلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الأَْوَّل أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ.
وَإِنْ رَتَّبَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَقَال: وَقَفْتُ عَلَى
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 508، والمغني 5 / 615.(44/156)
وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا فَهُوَ عَلَى مَا قَال، يَشْتَرِكُ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ، وَتَرْتِيبُ مَنْ رَتَّبَهُ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ ثُمَّ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى يَشْتَرِكُ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ إِذَا انْقَرَضُوا صَارَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَطْنَانِ الأَْوَّلاَنِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِذَا انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ (1) .
الْوَقْفُ عَلَى الْبَنِينَ:
55 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنِينَ هَل يَشْمَل الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ أَمْ يَقْتَصِرُ عَلَى الذُّكُورِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْوْجُهِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ فَإِنَّهُ يَشْمَل الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 610 - 611، وكشاف القناع 4 / 280.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 433، 438، وشرح الزرقاني 7 / 90، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 93.(44/156)
جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى بَنِيِّ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ قَال هِلاَلٌ: تَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالسَّوِيَّةِ، لأَِنَّ الْبَنَاتَ إِذَا جُمِعْنَ مَعَ الْبَنِينَ ذُكِرْنَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: عَلَى إِخْوَتِي وَلَهُ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ تَكُونُ الْغَلَّةُ لَهُمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (1) وَأَنَّهُ يَشْمَل الإِْنَاثَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُهُ عَلَى بَنِيِّ وَلَهُ بَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ قَال: عَلَى بَنَاتِي وَلَهُ بَنُونَ لاَ غَيْرَ تَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ وَلاَ شَيْءَ لَهُمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا مُنْقَطِعًا، وَلاَ شَيْءَ لِلْبَنَاتِ أَوِ الْبَنِينَ لِعَدَمِ صِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى مَدْلُول الآْخَرِ، فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ وُلِدَ لَهُ بَنُونَ فِي الأَْوَّل أَوْ وُلِدَ لَهُ بَنَاتٌ فِي الثَّانِي عَادَ الْوَقْفُ إِلَيْهِمْ.
وَلَوْ قَال: عَلَى بَنَاتِي وَلَهُ بَنَاتٌ وَبَنُونَ تَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْبَنَاتِ فَقَطْ لِعَدَمِ شُمُول لَفْظِ الْبَنَاتِ الْبَنِينَ، وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى بَنِيَّ وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ تَكُونُ الْغَلَّةُ كُلُّهَا لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْغَلَّةِ وَالنِّصْفُ الآْخَرُ لِلْمَسَاكِينِ، لأَِنَّ أَقَل الْجَمْعِ اثْنَانِ هُنَا كَالْوَصِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ لاَ يَدْخُل الإِْنَاثُ وَتَكُونُ الْغَلَّةُ
__________
(1) سورة النساء / 11.
(2) الإسعاف ص96، والدر المختار 3 / 438.(44/157)
لِلذُّكُورِ خَاصَّةً، لأََنَّ الْبَنِينَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً (1) ، قَال تَعَالَى: {أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (2) ، وَقَال تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ وَهُمْ قَبِيلَةٌ - كَالْوَقْفِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ - فَإِنَّهُ يَشْمَل الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ، لأَِنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقَبِيلَةِ.
وَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ الْقَبِيلَةِ وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الإِْنَاثَ لاَ يَدْخُلْنَ لأَِنَّ الْبَنِينَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ حَقِيقَةً (4) .
الْوَقْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْل وَالْعَقِبِ:
أ - الْوَقْفُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ:
56 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى ذُرِّيَّتِي فَإِنَّهُ يَشْمَل أَوْلاَدَهُ الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ وَأَوْلاَدَ أَوْلاَدِهِ الذُّكُورَ وَالإِْنَاثَ وَهَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لأَِنَّ الْبَنَاتِ أَوْلاَدُهُ وَأَوْلاَدَهُنَّ أَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ
__________
(1) المهذب 1 / 451، والإنصاف 7 / 84، وكشاف القناع 4 / 285، وشرح منتهى الإرادات 2 / 511، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 93.
(2) سورة الصافات / 153.
(3) سورة آل عمران / 14.
(4) الإسعاف ص96، والمهذب 1 / 450، وكشاف القناع 4 / 285، وروضة الطالبين 5 / 336.(44/157)
حَقِيقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِيسَى} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ (2) يَعْنِي الْحَسَنَ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقَال فِي الشَّرْحِ: وَالْقَوْل بِدُخُولِهِمْ أَصَحُّ وَأَقْوَى دَلِيلاً.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ الذُّكُورِ دُونَ أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ، فَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ لأَِنَّهُمْ لاَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ (3) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى النَّسْل:
57 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى نَسْلِي فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الْمَذْهَبِ - وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ وَأَوْلاَدُ الذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهِ دُونَ أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: فَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ لأَِنَّهُمْ لاَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِدُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ لأَِنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ عَلَى الْعُرْفِ.
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) حديث: " إن ابني هذا سيد. . " تقدم تخريجه ف49.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 433، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 92، 93، وروضة الطالبين 5 / 337، وكشاف القناع 4 / 287، والمهذب 1 / 451.(44/158)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى النَّسْل كَأَوْلاَدِ الذُّكُورِ، لأَِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ نَسْلِهِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (2) .
ج - الْوَقْفُ عَلَى الْعَقِبِ:
58 - لَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى عَقِبِي فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الْمَذْهَبِ - يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَأَوْلاَدُ الذُّكُورِ مِنْ أَوْلاَدِهِ دُونَ أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ وَلَدَ وَلَدِهِ الذُّكُورِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ عُرْفٌ بِدُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ، لأَِنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْعَقِبِ (3) .
الْوَقْفُ عَلَى الْقَرَابَةِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْقَرَابَةِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَرَابَتُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 439، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 93، والمهذب 1 / 451، وكشاف القناع 4 / 287، ومغني المحتاج 2 / 388.
(2) سورة الأنعام / 84 - 85.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 439، وحاشية الدسوقي 4 / 93، والمهذب 1 / 451، وكشاف القناع 4 / 287، ومغني المحتاج 2 / 388.(44/158)
وَأَرْحَامُهُ وَأَنْسَابُهُ كُل مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْسْلاَمَ أَسْلَمَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الأَْبِ الأَْعْلَى وَلاَ يَشْمَل ذَلِكَ أَبَوَيْهِ وَوَلَدَهُ لِصُلْبِهِ فَإِنَّهُمْ لاَ يُسَمَّوْنَ قَرَابَةً اتِّفَاقًا وَكَذَا مَنْ عَلاَ مِنْهُمْ أَوْ سَفُل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ فَقَدْ عَدَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَتَنَاوَل لَفْظُ الأَْقَارِبِ أَقَارِبَ جِهَةِ أَبِيهِ وَجِهَةِ أُمِّهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ يَقْرُبُ لأُِمِّهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا أَوْ جِهَةِ أُمِّهَا، ذُكُورًا وَإِنَاثًا كَوَلَدِ الْخَال أَوِ الْخَالَةِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِصِدْقِ اسْمِ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَفَ عَلَى أَقَارِبِهِ دَخَل فِيهِ كُل مَنْ تُعْرَفُ قَرَابَتُهُ غَيْرَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ فِي الأَْصَحِّ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَاقِفِ أَبٌ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ دَخَل فِي وَقْفِهِ كُل مَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الأَْبِ وَلاَ يَدْخُل فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَخِي الأَْبِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْتَوِي فِيمَنْ يَدْخُل مَنْ قَرُبَ وَبَعُدَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى لِتَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ حَدَثَ قَرِيبٌ بَعْدَ الْوَقْفِ دَخَل فِيهِ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 439.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 94.(44/159)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّ الأَْصْل وَالْفَرْعَ يَدْخُلُونَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَةِ زَيْدٍ فَهُوَ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَبِيهِ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، وَأَوْلاَدُ جَدِّهِ وَهُمْ أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ، وَأَوْلاَدُ جَدِّ أَبِيهِ وَهُمْ جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُ أَبِيهِ فَقَطْ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ وَلَمْ يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا مِنْهُ.
وَيُسَوَّى مَنْ يُعْطَى مِنْهُمْ فَلاَ يُفَضِّل أَعْلَى وَلاَ فَقِيرًا وَلاَ ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلاَ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُ دِينَ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُل فِي قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُل الْمُسْلِمُ فِي قَرَابَتِهِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الآْل وَالأَْهْل:
60 - الآْل وَالأَْهْل بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّ مَدْلُولَهُمَا يَخْتَلِفُ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ
__________
(1) المهذب 1 / 451، ومغني المحتاج 3 / 63، وروضة الطالبين 6 / 176.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 511، والإنصاف 7 / 85، وكشاف القناع 4 / 287.(44/159)
مَنْ يَشْمَلُهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الآْل وَالأَْهْل:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الآْل وَالأَْهْل كَالْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الآْل وَالأَْهْل يَشْمَل الْعَصَبَةَ (1) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (آل ف3) .
انْقِرَاضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:
61 - الاِنْقِرَاضُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِطَاعُ، وَانْقَرَضَ الْقَوْمُ: دَرَجُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ (2) وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُمْ تَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِرَاضٍ) وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ (انْقِطَاعٍ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَهُمَا (3) ، إِلاَّ أَنَّهُمْ غَالِبًا مَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ انْقِرَاضٍ فِي تَرْتِيبِ الطَّبَقَاتِ أَوِ الْبُطُونِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ وَذَلِكَ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدَيَّ هَذَيْنِ فَإِذَا انْقَرَضَا فَهِيَ عَلَى أَوْلاَدِهِمَا أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، قَال الشَّيْخُ الإِْمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 391، وابن عابدين 3 / 439، والبدائع 7 / 349 - 350، وحاشية الدسوقي 4 / 94، وروضة الطالبين 6 / 174 وما بعدها، وقليوبي وعميرة 3 / 171، وشرح منتهى الإرادات 2 / 511، والإنصاف 7 / 87.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح.
( x663 ;) المغني 5 / 623، والمهذب 1 / 448.(44/160)
الْفَضْل: إِذَا انْقَرَضَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ وَخَلَّفَ وَلَدًا يُصْرَفُ نِصْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْبَاقِي، وَالنِّصْفُ الآْخَرُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ الآْخَرُ يُصْرَفُ جَمِيعُ الْغَلَّةِ إِلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ لأَِنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ لاَزِمَةٌ فِي الْوَقْفِ وَهُوَ إِنَّمَا جَعَل لأَِوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا يُصْرَفُ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْبُطُونِ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ (ثُمَّ) أَوِ (الْفَاءِ) فَلَوْ قَال الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي مَا تَنَاسَلُوا أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَتُصْرَفُ غَلَّةُ الْوَقْفِ إِلَى الْبَطْنِ الأَْوَّل وَهُمْ أَوْلاَدُهُ، لاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّانِي شَيْءٌ إِلاَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْبَطْنِ الأَْوَّل وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الْبَطْنِ الثَّالِثِ شَيْءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الْبَطْنِ الثَّانِي وَاحِدٌ (2) .
وَقَدْ يَقْصِدُ بِالاِنْقِرَاضِ انْقِطَاعَ جِهَةِ الْوَقْفِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَرِضُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا جِهَةً أُخْرَى كَالْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ فَقَطْ.
وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي فِقْرَةِ (48) .
__________
(1) الإسعاف ص99، وكشاف القناع 4 / 278 - 279.
(2) الروضة 5 / 334، ونهاية المحتاج 5 / 375، والمغني 5 / 611.(44/160)
تَعَطُّل الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا:
62 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا فَإِنَّ رَيْعَ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهَا وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا.
فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَقْفٌ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ فَخَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوِ الرِّبَاطُ أَوِ الْحَوْضُ وَأَصْبَحَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا، فَإِنَّ مَا وُقِفَ عَلَى الْمَسْجِدِ يُصْرَفُ عَلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى حَوْضٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ رِبَاطٍ وَمَا وُقِفَ عَلَى الْحَوْضِ أَوِ الْبِئْرِ أَوِ الرِّبَاطِ يُصْرَفُ وَقْفُهَا لأَِقْرَبِ مُجَانِسٍ لَهَا (1) .
وَمَا حُبِسَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِمَحَلٍّ عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ، ثُمَّ تَعَذَّرَ الطَّلَبُ فِي ذَلِكَ الْمَحَل فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُل الْحَبْسُ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ عَلَى الطَّلَبَةِ بِمَحَلٍّ آخَرَ، وَمَا حُبِسَ عَلَى مَدْرَسَةٍ فَخَرِبَتْ وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا صُرِفَ فِي مِثْلِهَا حَقِيقَةً إِنْ أَمْكَنَ، فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِمَدْرَسَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَ فِي مِثْلِهَا نَوْعًا فِي قُرْبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهَا وُقِفَ لَهَا لِيُصْرَفَ فِي التَّرْمِيمِ أَوِ الإِْحْدَاثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالإِْصْلاَحِ (2) .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 371 - 372، وحاشية الدسوقي 4 / 87، وكشاف القناع 4 / 293.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 87.(44/161)
حَوْلَهُ قَال الشَّافِعِيَّةُ: تُحْفَظُ غَلَّةُ الْوَقْفِ لاِحْتِمَال عَوْدِهِ ثَغْرًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اخْتَل الثَّغْرُ صُرِفَ الْمَوْقُوفُ فِي ثَغْرٍ مِثْلِهِ أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إِذَا خَرِبَ، إِذِ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ هُنَا الصَّرْفُ إِلَى الْمُرَابِطِ، فَإِعْمَال شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ مُعَطِّلٌ لَهُ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إِلَى ثَغْرٍ آخَرَ، قَال فِي التَّنْقِيحِ: وَعَلَى قِيَاسِهِ مَسْجِدٌ وَرِبَاطٌ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَارِثِيُّ، قَال: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ لِلْحَاجَةِ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ (2) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَوْقُوفُ:
مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ وَقْفُهُ:
63 - لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْرِيفٍ مُحَدَّدٍ لِمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: بِأَنَّهُ الْمَال الْمُتَقَوَّمُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، فِيهِ تَعَامُلٌ، أَوْ هُوَ مَا لاَ يُنْقَل وَلاَ يُحَوَّل كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 358.
(2) كشاف القناع 4 / 296.(44/161)
الْمَنْقُول مَقْصُودًا كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ (1) وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ مَا مُلِكَ مِنْ ذَاتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا يَقْبَل النَّقْل، وَيَحْصُل مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَائِدَةٌ، أَوْ مَنْفَعَةٌ يُسْتَأْجَرُ لَهَا (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ يَصِحُّ بَيْعُهَا وَيُنْتَفَعُ بِهَا عُرْفًا مَعَ بَقَائِهَا (4) .
وَالأَْصْل الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا مَمْلُوكَةً يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ تَشْمَل الْعَقَارَ وَالْمَنْقُول وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: وَقْفُ الْعَقَارِ:
64 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَآبَارٍ وَقَنَاطِرَ (5) وَالدَّلِيل عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 359، والبدائع 6 / 220، والإسعاف ص10، وفتح القدير 6 / 217.
(2) الشرح الصغير 2 / 298.
(3) مغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 447، وروضة الطالبين 5 / 314، وتحفة المحتاج 6 / 237.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 491.
(5) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه3 / 359، والهداية 3 / 15، ومنح الجليل 4 / 35، والخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 447، وكشاف القناع 4 / 273، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، 492.(44/162)
صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَفُوا ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيْفِ (1) .
مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ فِي الْوَقْفِ وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ:
65 - فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الإِْسْعَافِ: يَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ دُونَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَدْخُل أَيْضًا الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ كَالإِْجَارَةِ، وَلَوْ جَعَل الأَْرْضَ مَقْبَرَةً وَفِيهَا أَشْجَارٌ عِظَامٌ وَأَبْنِيَةٌ لاَ تَدْخُل، وَلَوْ زَادَ فِي وَقْفِ الأَْرْضِ وَقَال: بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَعَلَى الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ قَائِمَةٌ يَوْمَ الْوَقْفِ قَال هِلاَلٌ: لاَ تَدْخُل قِيَاسًا، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أصاب عمر أرضا. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 354 - 355) ، ومسلم (3 / 1255) .(44/162)
التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ لاَ الْوَقْفِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: إِذَا قَال: بِحُقُوقِهَا تَدْخُل فِي الْوَقْفِ وَهَذَا أَوْلَى خُصُوصًا إِذَا زَادَ: بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَفِيهَا حَمَامَاتٌ يَطِرْنَ، أَوْ بَيْتًا وَفِيهِ كِوَارَاتُ عَسَلٍ يَدْخُل الْحَمَامُ وَالنَّحْل تَبَعًا لِلدَّارِ وَالْعَسَل كَمَا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً وَذَكَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَالِيبِ وَآلاَتِ الْحِرَاثَةِ (1) .
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَوْ وَقَفَ الْعَقَارَ بِبَقَرِهِ وَأَكَرَتِهِ - أَيْ عَبِيدُهُ الْحَرَّاثُونَ - صَحَّ اسْتِحْسَانًا تَبَعًا لِلْعَقَارِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ، لأَِنَّ مُحَمَّدًا أَجَازَ إِفْرَادَ بَعْضِ الْمَنْقُول بِالْوَقْفِ فَبِالتَّبَعِ أَوْلَى (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مِثْل هَذَا التَّفْصِيل فِي بَابِ الْوَقْفِ وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَقْفِ اسْتِطْرَادًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَاعْتَبَرُوا أَنَّ مَا يَدْخُل فِي بَيْعِ الأُْصُول كَالأَْرْضِ وَالدَّارِ وَالشَّجَرِ يَدْخُل فِي وَقْفِهَا كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَقْفَ نَاقِلٌ لِلْمَلِكِ كَالْبَيْعِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 373.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 372 - 373.(44/163)
التَّفْصِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالاً فِيمَا يَأْتِي:
أ - وَقْفُ الأَْرْضِ يُدْخِل مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِكَوْنِهِ رَطْبًا لاَ يَابِسًا.
وَفِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ لاَ يَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ، أَمَّا الْبَذْرُ وَالأُْصُول الَّتِي تَبْقَى فِي الأَْرْضِ سَنَتَيْنِ - كَالْقَتِّ - فَإِنَّهَا تَدْخُل فِي وَقْفِ الأَْرْضِ (1) .
ب - وَقْفُ الدَّارِ يُدْخِل فِيهَا الأَْرْضَ وَالْبِنَاءَ وَالْفِنَاءَ وَالأَْشْيَاءَ الثَّابِتَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا وَكَذَلِكَ يُدْخِل فِيهَا الشَّجَرَ الْمَغْرُوسَ لَكِنْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِالشَّجَرِ الرَّطْبِ دُونَ الْيَابِسِ، كَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ وَقْفَ الدَّارِ يَتَنَاوَل الأَْرْضَ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ إِنْ لَمْ تَكُنِ الأَْرْضُ مَوْقُوفَةً كَمِصْرَ وَالشَّامِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ (2) .
__________
(1) منح الجليل 2 / 723، والشرح الكبير على حاشية الدسوقي 3 / 170، 171، ومغني المحتاج 2 / 80، 81، وشرح منتهى الإرادات 2 / 207.
(2) منح الجليل 2 / 725 - 726، ومغني المحتاج 2 / 84، وشرح منتهى الإرادات 2 / 206 - 207.(44/163)
ج - وَقْفُ الشَّجَرِ يَدْخُل فِيهِ الأَْرْضُ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَتَنَاوَل حَرِيمَهَا، وَقِيل: لاَ يَتَنَاوَلُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الشَّجَرِ لاَ يَتَنَاوَل الأَْرْضَ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرُ لأَِنَّ اسْمَ الشَّجَرِ لاَ يَتَنَاوَلُهُ (1) .
ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ:
66 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ الْعَقَارِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ حُدُودِهِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا، وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَتِ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ، اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا.
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ التَّحْدِيدِ، وَلاَ يَخْفَى مَا فِيهِ، بَل ذَلِكَ شَرْطٌ لِقَبُول الشَّهَادَةِ بِوَقْفِيَّتِهَا (2) .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بَابٌ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَذَا أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَشْهُورًا مُتَمَيِّزًا
__________
(1) منح الجليل 2 / 722، ومغني المحتاج 2 / 85 - 86، وشرح منتهى الإرادات 2 / 210.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 373، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.(44/164)
بِحَيْثُ يُؤْمَنُ أَنْ يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّحْدِيدِ اتِّفَاقًا، لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ مَنْ قَال: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَمْلاَكِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ مَصْرِفَهَا وَلَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا مِنْهَا صَارَتْ جَمِيعُهَا وَقْفًا وَلاَ يَضُرُّ جَهْل الشُّهُودِ بِالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ بِالصِّيغَةِ الَّتِي لاَ تَحْدِيدَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْوَاقِفِ وَإِرَادَتِهِ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّحْدِيدُ لأَِجْل الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ حَقَّ الْغَيْرِ (1) .
ثَانِيًا: وَقْفُ الْمَنْقُول:
67 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُول مِنْ أَثَاثٍ وَحَيَوَانٍ وَسِلاَحٍ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيل اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ
__________
(1) فتح الباري 5 / 396.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 77، ومنح الجليل 4 / 37، والمهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، 492، والقوانين الفقهية ص374.
(3) حديث " من احتبس فرسا في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 57) من حديث أبي هريرة.(44/164)
احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُول قَصْدًا، وَهَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَقَفَ الْمَنْقُول إِذَا كَانَ تَبَعًا لِلأَْرْضِ اسْتِحْسَانًا كَمَا إِذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَكَذَا سَائِرُ آلاَتِ الْحِرَاثَةِ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لِلأَْرْضِ فِي تَحْصِيل مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَثْبُتُ مِنَ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لاَ يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ وَفِي الْوَقْفِ (2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ - وَهِيَ الْخَيْل وَالسِّلاَحُ - اسْتِحْسَانًا لِلآْثَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَال لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: " إِذَا أَنَا مُتُّ فَانْظُرُوا سِلاَحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيل اللَّهِ " (3) وَتَأْخُذُ الإِْبِل حُكْمَ الْخَيْل لأَِنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا
__________
(1) حديث " أما خالد فقد احتبس أدراعه. . . " أخرجه مسلم (2 / 677) .
(2) الهداية 3 / 15، 16، وفتح القدير 6 / 216 نشر دار الفكر.
(3) حديث " وقال خالد: إذا أنا مت فانظروا سلاحي. . . " أخرجه الطبراني في الكبير (3 / 106) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 350) : إسناده حسن.(44/165)
وَكَذَا السِّلاَحُ يُحْمَل عَلَيْهَا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُول لأَِنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ، فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِلآْثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ - وَقْفُ الْمَنْقُول قَصْدًا إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَفِيهِ تَعَامُلٌ لِلنَّاسِ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْقِدْرِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ لأَِنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُل، لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ " (1) بِخِلاَفِ مَا لاَ تَعَامُل فِيهِ، أَيْ لَمْ يَجُزِ التَّعَامُل بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَمِنْهُمُ السَّرَخْسِيُّ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَقْفُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ (2) .
ثَالِثًا: وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ:
68 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ
__________
(1) أثر ابن مسعود " ما رأى المسلمون حسنا. . . " أخرجه أحمد في المسند (1 / 379) وحسن إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة (ص367) .
(2) فتح القدير 6 / 217، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 375.(44/165)
الْمَنْفَعَةِ إِذْ إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَيْنًا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَمَا أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ تَأْبِيدَ الْوَقْفِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِفَ مَنْفَعَتَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيَنْقَضِيَ الْوَقْفُ بِانْقِضَائِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ تَأْبِيدُ الْوَقْفِ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً:
69 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُبْهَمِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَعْلُومًا فَلَوْ وَقَفَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ لاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الشَّيْءَ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ وَلَوْ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذْ رُبَّمَا يُبَيِّنُ شَيْئًا قَلِيلاً لاَ يُوقَفُ عَادَةً، وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ هَذِهِ الأَْرْضَ أَوْ هَذِهِ الأَْرْضَ كَانَ بَاطِلاً لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492، والبدائع 6 / 220، وحاشية ابن عابدين 3 / 359.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76، والشرح الصغير 2 / 298 ط. الحلبي.
(3) البحر الرائق 5 / 203، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360.(44/166)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنْ وَقَفَ عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ أَحَدَ دَارَيْهِ أَوْ أَحَدَ عَبْدَيْهِ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّ الْوَقْفَ نَقْل مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَلاَ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَا لاَ يَصِحْ فِي عَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَدَارٍ وَعَبْدٍ وَلَوْ مَوْصُوفًا (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ - أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ كَقَوْل الْوَاقِفِ: إِنْ مَلَكْتُ دَارَ فُلاَنٍ فَهِيَ وَقْفٌ. وَعَلَّقَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَانْظُرْ هَل لاَ بُدَّ فِي التَّعْلِيقِ مِنْ تَعْيِينِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ أَوْ يَدْخُل فِيهِ مَا إِذَا قَال: كُل مَا تَجَدَّدَ لِي مِنْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَخَل فِي مِلْكِي فَهُوَ مُلْحَقٌ بِوَقْفِي؟ أَقُول: الْمَأْخُوذُ مِنْ كَلاَمِ الرَّصَاعِ فِي شَرْحِ الْحُدُودِ أَنَّهُ إِذَا عَمَّ التَّعْلِيقُ فَإِنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ لِلتَّحْجِيرِ كَالطَّلاَقِ (2) ..
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ:
70 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْقُوفِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ (3) ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 374، وفتح القدير 6 / 218، والخرشي 7 / 80، ومغني المحتاج 2 / 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 399، والمغني 5 / 640.(44/166)
قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ مَا يُسْتَهْلَكُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ فِي اسْتِهْلاَكِهِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ وَالتَّحَلِّي بِهَا، أَوْ لِلْوَزْنِ، أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِإِقْرَاضِهَا، لأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ بِإِتْلاَفِهِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى قَوْل مَنْ أَجَازَ إِجَارَتَهَا.
وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ النَّدِّ وَالصَّنْدَل وَقِطَعِ الْكَافُورِ.
أَمَّا الْمَشْمُومُ الَّذِي لاَ تَبْقَى عَيْنُهُ فَلاَ يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَهُمْ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَقَدْ أَجَازُوا وَقْفَ الطَّعَامِ كَالْحِنْطَةِ وَوَقْفَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِذَا وَقَفَ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ وَرَدِّ الْبَدَل، وَاعْتَبَرُوا أَنَّ رَدَّ الْبَدَل قَائِمٌ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 447، وشرح منتهى الإرادات 2 / 400، والمغني 5 / 640 - 641.(44/167)
مُقَامَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، أَمَّا وَقْفُهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَلاَ يَجُوزُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الدَّرَاهِمُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا لَكِنَّ بَدَلَهَا قَائِمٌ مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا فَكَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَلاَ شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَنْقُول، فَحَيْثُ جَرَى فِيهَا تَعَامُلٌ دَخَلَتْ فِيمَا أَجَازَهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ وَقْفُ كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لاَ بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الإِْدْرَاكِ قَدْرَ الْقَرْضِ ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيل، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لِيُبَاعَ وَيُدْفَعَ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً، وَكَذَا يُفْعَل فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الرِّبْحِ يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي جِهَةِ الْوَقْفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَقْفُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُرَدُّ بَدَلُهُ، لأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي اسْتِهْلاَكِهِ وَالْوَقْفُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ (1) .
جـ - أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ الْغَيْرِ:
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 374، 375، وفتح القدير 6 / 219، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، والخرشي 7 / 8.(44/167)
الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَأَنْ تَكُونَ مَرْهُونَةً أَوْ مُؤَجَّرَةً.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوِ الْمُؤَجَّرَةِ وَتَعُودُ الْعَيْنُ بَعْدَ افْتِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ.
وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَفِيهَا عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ كَالْعِتْقِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ.
وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَرْهُونِ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ لاَ يَسْرِي إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَلاَ يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ (1) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ وَبَطَل الرَّهْنُ لأَِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَمْنَعُ الرَّهْنَ ابْتِدَاءً فَامْتَنَعَ مَعَهُ دَوَامًا (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 201، وحاشية الدسوقي 4 / 77، والزرقاني 7 / 75، والمهذب 1 / 320، وشرح منتهى الإرادات 2 / 234، 400، 376، والمغني 4 / 401، وأسنى المطالب 2 / 458.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 234، والمغني 4 / 401، والإنصاف 5 / 153 - 156.(44/168)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ لِكُل مَذْهَبٍ نَوْعٌ مِنَ التَّفْصِيل، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ وَغَيْرِهِ: لَوْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ صَحَّ وَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى دَفْعِ مَا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَبْطَل الْوَقْفَ وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ وَقَفَ الْمَرْهُونَ وَافْتَكَّهُ جَازَ فَإِنْ مَاتَ عَنْ عَيْنٍ تَفِي بِالدَّيْنِ صَحَّ الْوَقْفُ وَلاَ يُغَيَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ مَا تَرَكَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِل الْوَقْفَ وَيَبِيعُهُ لِلدَّيْنِ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ وَقْفِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بِمَا إِذَا قَصَدَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا بَعْدَ الْخَلاَصِ مِنَ الرَّهْنِ وَالإِْجَارَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ التَّنْجِيزُ (2) .
د - أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ:
72 - اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَقْبَل النَّقْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَصِحُّ وَقْفُ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمَرْهُونِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لاَ يُصَادُ بِهَا، لأَِنَّ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 391، 395، والإسعاف ص21.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 77، وشرح الزرقاني 7 / 75.(44/168)
الْوَقْفَ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ يَحْصُل فِيهِ تَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَالْكَلْبُ أُبِيحَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزِ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إِبْطَال حَقِّ الْمُرْتَهَنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ (1) .
وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ وَالْحَمْل وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَهَذَا فِي الأَْصَحِّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يَصِحُّ وَقْفُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، أَمَّا الْكَلْبُ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ الَّذِي أُرِيدَ وَقْفُهُ وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَجِلْدِ أُضْحِيَةٍ وَكَلْبِ صَيْدٍ وَعَبْدٍ آبِقٍ خِلاَفًا لِبَعْضِهِمْ (2) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ لاَ تَأْبَاهُ، فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُول إِلاَّ تَبَعًا أَوْ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَقْفُ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ
__________
(1) المغني 5 / 641، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(2) الدسوقي 4 / 75 - 76، والخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 377 - 378، وأسنى المطالب 2 / 458.(44/169)
قِيَاسًا عَلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ، قُلْنَا: الأَْصْل عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَالْكُرَاعُ وَالسِّلاَحُ، وَأَوْرَدَ الْمِرْغِينَانِيُّ قَوْل الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَال: وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لاَ يَتَأَبَّدُ (يَقْصِدُ الْمَنْقُول) بِخِلاَفِ الْعَقَارِ (1) .
رَابِعًا: وَقْفُ الْمَشَاعِ:
73 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمَشَاعِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (أَنَّهُ أَصَابَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَأَمَرَهُ بِوَقْفِهَا) (2) ، وَهَذَا صِفَةُ الْمَشَاعِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مَشَاعًا كَالْبَيْعِ، أَوْ عَرْصَةً يَجُوزُ بَيْعُهَا فَجَازَ وَقْفُهَا كَالْمُفْرَزَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا يَحْصُل فِي الْمَشَاعِ كَحُصُولِهِ فِي الْمُفْرَزِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ وَقْفُ الْمَشَاعِ مَسْجِدًا وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلاَحِ، وَإِذَا وَقَفَ الْمَشَاعَ مَسْجِدًا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تَجِبُ لِتَعَيُّنِهَا طَرِيقًا لِلاِنْتِفَاعِ بِالْمَوْقُوفِ (4) .
__________
(1) الزيلعي 3 / 327، والهداية 3 / 16.
(2) حديث " أن عمر أصاب مائة سهم. . " أخرجه النسائي (6 / 232) .
(3) المغني لابن قدامة 5 / 643.
(4) مغني المحتاج 2 / 377 - 378، والمهذب 1 / 448، وكشاف القناع 4 / 243 - 244، والمغني 5 / 643.(44/169)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ، قَال الدَّرْدِيرُ: يَصِحُّ وَقْفُ الْمَمْلُوكِ وَإِنْ كَانَ مَشَاعًا فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، وَيُجْبَرُ الْوَاقِفُ عَلَى الْقِسْمَةِ إِنْ أَرَادَهَا الشَّرِيكُ، أَمَّا مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ مُرَجَّحَانِ، أَيْ فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا، وَعَلَى الْقَوْل بِالصِّحَّةِ يُجْبَرُ الْوَاقِفُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ وَيُجْعَل ثَمَنُهُ فِي مِثْل وَقْفِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى جَعْل ثَمَنِهِ فِي مِثْل وَقْفِهِ (1) .
وَقَدْ حَكَى الْبُنَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الزُّرْقَانِيِّ مَا حَصَّلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ قَال: وَقَدْ حَصَّل ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: الْجَوَازُ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ أَوْ لاَ يَقْبَلُهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَظَاهِرُ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَصُّ ابْنِ زَرِبٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَتَوَقَّفُ وَقْفُ الْمَشَاعِ عَلَى إِذْنِ شَرِيكِهِ فِيمَا لاَ يُقَسَّمُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ صَحَّ الْوَقْفُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بَطَل الْوَقْفُ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْوَقْفُ مُطْلَقًا وَيُجْعَل لِحَظِّ الْمُحْبِسِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ فِي مِثْل مَا حَبَسَهُ فِيهِ وَهُوَ لاِبْنِ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَوَضَّحَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْفَاسِيُّ قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ،
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 76.(44/170)
فَقَال: هُوَ جَوَازُ الإِْقْدَامِ عَلَى تَحْبِيسِ الْمَشَاعِ مُطْلَقًا انْقَسَمَ أَمْ لاَ وَعَدَمُ التَّوَقُّفِ عَلَى إِذْنِ الشَّرِيكِ، فَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ الشَّرِيكُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَبْقَى شَرِيكًا فِي الْحَبْسِ أَوْ بِيعَ وَحْدَهُ أَيْضًا عَلَى الإِْشَاعَةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِيعَ وَيُجْبَرُ عَلَى جَعْل الثَّمَنِ فِي مِثْلِهِ.
قَال الْبُنَانِيُّ: وَكَلاَمُ التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَحَل الْخِلاَفِ هُوَ النُّفُوذُ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَالنُّزُول، أَمَّا ابْتِدَاءً فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَى تَحْبِيسِ مَا لاَ يَنْقَسِمُ دُونَ إِذْنِ الشَّرِيكِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاؤُهُمْ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَشَاعِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ كَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَضُرُّهُ الشُّيُوعُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ، لأَِنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ فِيهِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلأَِنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهَا مِنْ أَقْبَحِ مَا يَكُونُ، بِأَنْ يُدْفَنَ الْمَوْتَى فِي الْمَقْبَرَةِ سَنَةً وَيُزْرَعَ سَنَةً، وَيُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذُ اصْطَبْلاً فِي وَقْتٍ بِخِلاَفِ وَقْفِ غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الاِسْتِغْلاَل وَقِسْمَةُ الْغَلَّةِ فَلاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَقْفِ فِيمَا لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ (2) .
أَمَّا الْمَشَاعُ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا
__________
(1) حاشية البناني على هامش الزرقاني 7 / 74.
( x662 ;) الهداية 3 / 16، وفتح القدير 6 / 212، والبحر الرائق 5 / 212 - 213، والزيلعي 3 / 324.(44/170)
فِيهِ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ كَالْمَشَاعِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَكَذَا تَتِمَتُّهُ، وَأَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخٍ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ (1) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: لَوْ وَقَفَ نِصْفَ أَرْضٍ أَوْ نِصْفَ دَارٍ مَشَاعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ فِيمَا يُقْسَمُ بِالْقِسْمَةِ، ثُمَّ أَصْل الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْوَقْفِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَذْهَبِهِ قِيَاسُ الْعِتْقِ وَالشُّيُوعُ لاَ يَمْنَعُ الْعِتْقَ فَكَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ الْوَقْفَ (2) وَإِذَا صَحَّ وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَطَلَبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ لأَِنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ ثُمَّ إِنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى وَصِّيهِ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 211 - 212.
(2) المبسوط 12 / 36، 37.(44/171)
وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَالَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي، أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا.
وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْل دَرَاهِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ أَجْوَدَ مِنَ الآْخَرِ فَجُعِل بِإِزَاءِ الْجَوْدَةِ دَرَاهِمُ فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ لِلدَّرَاهِمِ هُوَ الْوَاقِفَ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْوَقْفِ هُوَ الأَْحْسَنَ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ الْوَقْفِ وَبَيْعُ الْوَقْفِ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الآْخِذُ شَرِيكَهُ بِأَنْ كَانَ نَصِيبُ الْوَقْفِ أَحْسَنَ جَازَ، لأَِنَّ الْوَاقِفَ مُشْتَرٍ لاَ بَائِعٌ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَوَقَفَهُ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَشَاعِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، لأَِنَّ أَصْل الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ، فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ الْقَبْضُ، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: لَمَّا شَرَطَ مُحَمَّدٌ الْقَبْضَ مَنَعَهُ - أَيِ الْوَقْفَ - لأَِنَّ الشُّيُوعَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ - أَلاَ تَرَى أَنَّ الشَّائِعَ كَانَ مَقْبُوضًا لِمَالِكِهِ قَبْل أَنْ يَقِفَهُ - لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ، فَلِذَا مَنَعَهُ مُحَمَّدٌ عِنْدَ إِمْكَانِ تَمَامِ الْقَبْضِ وَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَسَّمَ أَوَّلاً ثُمَّ يَقِفُهُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ اعْتِبَارَ تَمَامِ الْقَبْضِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْمْكَانِ
__________
(1) الهداية 3 / 16، وفتح القدير 6 / 220 - 221.(44/171)
وَذَلِكَ فِيمَا لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، لأَِنَّهُ لَوْ قَسَّمَ قَبْل الْوَقْفِ فَاتَ الاِنْتِفَاعُ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ فَاكْتَفَى بِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَخَذَ مَشَايِخُ بُخَارَى بِقَوْل مُحَمَّدٍ، وَصَرَّحَ فِي الْخُلاَصَةِ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ، وَكَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا (1) .
وَإِنَّمَا يَكُونُ الشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ مَانِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ هَذَا الشُّيُوعُ وَقْتَ الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْعَقْدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْضٌ وَقَفَاهَا وَدَفَعَاهَا مَعًا إِلَى قَيِّمٍ وَاحِدٍ جَازَ اتِّفَاقًا، لأََنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ الشُّيُوعُ وَقْتَ الْقَبْضِ لاَ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا لِوُجُودِهِمَا مَعًا مِنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى جِهَةٍ وَسَلَّمَاهُ مَعًا لِقَيِّمٍ وَاحِدٍ جَازَ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَكَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي وَقْفَيْهِمَا جِهَةً وَقَيِّمًا وَاتَّحَدَ زَمَانُ تَسْلِيمِهِمَا لَهُمَا أَوْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا لِقَيِّمِهِ: اقْبِضْ نَصِيبِي مَعَ نَصِيبِ صَاحِبِي لأَِنَّهُمَا صَارَا كَمُتَوَلٍّ وَاحِدٍ (2) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الشُّيُوعَ - فِيمَا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ - الَّذِي يَمْنَعُ الْوَقْفَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ الشُّيُوعُ الْمُقَارَنُ
__________
(1) الهداية وشروحها فتح القدير والعناية 6 / 211، والبحر الرائق 5 / 212.
(2) حاشة ابن عابدين على الدر المختار 3 / 365.(44/172)
لاَ الشُّيُوعُ الطَّارِئُ، فَلَوْ وَقَفَ شَخْصٌ كُل عَقَارِهِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ جُزْءٌ مِنْهُ شَائِعًا بَطَل الْوَقْفُ فِي الْبَاقِي، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بَعْدَ الاِسْتِحْقَاقِ أَنَّ الشُّيُوعَ كَانَ مُقَارِنًا لِلْوَقْفِ.
أَمَّا إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ دَارَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لاَ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ وَقْفَ الْجُزْءِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَبْطُل فِي الْجُزْءِ الزَّائِدِ وَيُصْبِحُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي مِنَ الدَّارِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ وَقْفًا، وَقَدْ صَحَّ الْوَقْفُ هُنَا مَعَ كَوْنِهِ حِصَّةً شَائِعَةً، لأَِنَّ الشُّيُوعَ طَارِئٌ بِسَبَبِ عَدَمِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (1) .
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمَوْقُوفِ:
زَكَاةُ الْمَال الْمَوْقُوفِ:
يَتَأَتَّى الْكَلاَمُ فِي زَكَاةِ الْمَوْقُوفِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: زَكَاةُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ نَفْسِهَا:
74 - زَكَاةُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ لاَ زَكَاةَ فِيهَا، يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْل الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لأَِنَّ فِي
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 6 / 212، والبحر الرائق 5 / 213، وحاشية ابن عابدين 3 / 364، 365.(44/172)
الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لاَ يُتَصَوَّرُ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ الْمَاشِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاجِدِ أَوِ الْغُزَاةِ أَوِ الْيَتَامَى أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ.
وَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى مُعَيَّنٍ - سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً - فَبِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ زَكَاةَ فِيهَا كَالْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ - وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ تَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ - فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ تَجِبُ، لأَِنَّ مِلْكَهُ مِلْكُ ضَعِيفٍ بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا مُسْتَقِرًّا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَوْقُوفِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَعَلَى ذَلِكَ فَزَكَاتُهُ عَلَى الْوَاقِفِ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: مَنْ وَقَفَ عَيْنًا لِلسَّلَفِ يَأْخُذُهَا الْمُحْتَاجُ وَيَرُدُّ مِثْلَهَا، يَجِبُ عَلَى الْوَاقِفِ زَكَاتُهَا، لأَِنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ فَتُزَكَّى كُل عَامٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 9.
(2) المجموع شرح المهذب 5 / 339 - 340، ومغني المحتاج 2 / 389.(44/173)
وَلَوْ بِانْضِمَامِهَا لِمَالِهِ، وَإِنْ مَكَثَتْ عِنْدَ الْمَدِينِ أَعْوَامًا فَإِنَّهَا تُزَكَّى بَعْدَ قَبْضِهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَفَ أَنْعَامًا لِتَفْرِقَةِ لَبَنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوِ الْحَمْل عَلَيْهَا أَوْ لِتَفْرِقَةِ نَسْلِهَا فَإِنَّ الْجَمِيعَ يُزَكَّى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِنْ كَانَ فِيهَا نِصَابٌ وَلَوْ بِالاِنْضِمَامِ لِمَالِهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ وَيَقُومُ النَّاظِرُ مَقَامَ الْوَاقِفِ إِلاَّ أَنَّ النَّاظِرَ يُزَكِّيهَا إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا وَلاَ يَتَأَتَّى الضَّمُّ لِمَالِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ يَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَوْقُوفِ مِنْ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ سَائِمَةٍ، لأَِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِل لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَشْبَهَ سَائِرَ أَمْلاَكِهِ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِضَعْفِ الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ مَثَلاً فَلاَ تَجُبِ الزَّكَاةُ فِي الْمَوْقُوفِ (2) . انْظُرْ (زَكَاة: ف17) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَكَاةُ غَلَّةِ الأَْرْضِ وَثِمَارِ الأَْشْجَارِ:
75 - غَلَّةُ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَثِمَارُ الأَْشْجَارِ إِنْ
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 229 ط الحلبي.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 367 و2 / 499.(44/173)
كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَحَصَل لِبَعْضِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوِ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، لأَِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ يَمْلِكُونَ الثِّمَارَ وَالْغَلَّةَ مِلْكًا تَامًّا وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ فَمَتَى حَصَل لأَِحَدِهِمْ نِصَابٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُوسٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي ذَلِكَ لأَِنَّ الأَْرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ كَالْمَسَاكِينِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ - تَجِبُ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) ، وَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لاَ فِي الأَْرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الأَْرْضِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَخْرُجُ أَوَّلاً بِمَعْرِفَةِ مَنْ يَلِي الْوَقْفَ ثُمَّ يُفَرِّقُ الْبَاقِي عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِالاِجْتِهَادِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَلاَ فِيمَا يَحْصُل فِي
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) بدائع الصنائع 2 / 56، ومنح الجليل 4 / 77.(44/174)
أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ حَصَل فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ أَوْ لَمْ يَحْصُل، لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لاَ يَتَعَيَّنُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
إِجَارَةُ الْمَوْقُوفِ:
أ - مَنْ يَمْلِكُ حَقَّ تَأْجِيرِ الْمَوْقُوفِ:
76 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ حَقَّ تَأْجِيرِ الْمَوْقُوفِ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، إِنْ كَانَ قَدْ شَرَطَ نَاظِرًا مُعَيَّنًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو أَمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ أَمْ كَانَ غَيْرَهُ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُحَدِّدِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا لِلْوَقْفِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ بِإِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا إِنْ كَانَ رَشِيدًا (3) .
__________
(1) المغني 5 / 639، والمجموع شرح المهذب 5 / 292 و457.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 399، 400، 409، وفتح القدير 6 / 244، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 88، 96، والخرشي 7 / 92، 100، ومغني المحتاج 2 / 393، وشرح منتهى الإرادات 2 / 505، والإنصاف 7 / 53.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88، وشرح منتهى الإرادات 2 / 503، 504، والإنصاف 7 / 69.(44/174)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ الْعِمَادِيَّةِ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْغَلَّةُ أَوِ السُّكْنَى لاَ يَمْلِكُ الإِْجَارَةَ وَلاَ الدَّعْوَى إِلاَّ بِتَوْلِيةٍ أَوْ إِذْنِ قَاضٍ، وَلَوِ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الْغَلَّةِ لاَ الْعَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَال: أَمَّا فِي الإِْيجَارِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْعِمَادِيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَل قَال: وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْلِكُوا إِجَارَةَ الْوَقْفِ، وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ كَانَ الأَْجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ فِي الْغَلَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ إِجَارَتُهُ فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ، وَأَمَّا الأَْرَاضِي: فَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ وَالْخَارِجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ وَجَعَل لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْفَاضِل لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا، لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ كُل الأَْجْرِ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ وَالْمُؤَنُ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَنَحْوُهُ فِي الإِْسْعَافِ ثُمَّ قَال: فَقَدْ عُلِمَ صِحَّةُ إِيجَارِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ. ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي عَدَمُ التَّرَدُّدِ فِي صِحَّةِ إِيجَارِهِ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ التَّوْلِيَةَ وَالنَّظَرَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِعَارَةُ شَخْصٍ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 399 - 400، والبحر الرائق 5 / 236.(44/175)
مَالِكٍ انْتِفَاعًا بِنَفْسِهِ فَقَطْ كَمُحْبَّسٍ عَلَيْهِ لِسُكْنَاهُ وَلاَ تَصِحُّ إِجَارَتُهُ أَيْضًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ، لَكِنْ لاَ يُؤَجِّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ، هَذَا إِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا عَلَى أَنْ يُسَكِّنَهَا مُعَلِّمَ الصِّبْيَانِ فِي الْقَرْيَةِ مَثَلاً لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَكِّنَهَا غَيْرَهُ بِأُجْرَةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا.
وَقَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالطَّرِيقُ الثَّانِي يَنْبَنِي عَلَى أَقْوَال الْمِلْكِ (2) .
وَقَال فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ لَمْ يَشْرُطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِلَى الْوَاقِفِ، لأَِنَّهُ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرُطْهُ بَقِيَ عَلَى نَظَرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْغَلَّةُ لَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 145.
(2) مغني المحتاج 2 / 393، 389، وروضة الطالبين 5 / 344.(44/175)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّظَرَ لِلْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَحَقُّ مَنْ يَنْتَقِل إِلَيْهِ، فَكَانَ الْحَاكِمُ أَوْلَى وَهُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ - كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ - وَلَمْ يُحَدِّدِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا كَانَ النَّظَرُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
ب - اتِّبَاعُ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي التَّأْجِيرِ:
77 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ فَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يُؤَجَّرَ الْمَوْقُوفُ أَصْلاً أَوْ أَنْ لاَ يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ مَثَلاً صَحَّ الْوَقْفُ وَاتُّبِعَ شَرْطُهُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّهُ حَجْرٌ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 452 - 453.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 410، والبحر الرائق 5 / 251، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 88 - 96، والخرشي 7 / 92 - 100، ومغني المحتاج 2 / 393، وشرح منتهى الإرادات 2 / 503 - 504، والإنصاف 7 / 69 - 70.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 396، والخرشي 7 / 100، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 96، ومغني المحتاج 2 / 385، وشرح منتهى الإرادات 2 / 501.(44/176)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنَ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي تَحْدِيدِ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ أَوْ عَدَمِ التَّأْجِيرِ مَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِلتَّأْجِيرِ كَمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ تُؤَجَّرَ الدَّارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ انْهَدَمَتْ وَلَيْسَ لَهُ جِهَةُ عِمَارَةٍ إِلاَّ بِإِجَارَةِ سِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ، لأَِنَّ اتِّبَاعَ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِهِ (1) .
كَذَلِكَ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَ النَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِ الْمَوْقُوفِ الْمُدَّةَ الَّتِي شَرَطَهَا الْوَاقِفُ كَمَا إِذَا شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجَّرَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَالنَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِهَا، وَكَانَتْ إِجَارَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ أَنْفَعَ وَأَدَرَّ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ بَل يَرْفَعُ الأَْمْرَ لِلْقَاضِي لِيُؤَجِّرَهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، لأَِنَّ لِلْقَاضِي وِلاَيَةَ النَّظَرِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَائِبِينَ وَالْمَوْتَى.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ شَيْئًا فَلِلْقَيِّمِ ذَلِكَ بِلاَ إِذْنِ الْقَاضِي (2) .
هَذَا إِذَا كَانَ لِلْوَاقِفِ شَرْطٌ فِي التَّأْجِيرِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ مُدَّةً لِلتَّأْجِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
__________
(1) الخرشي 7 / 100، ومغني المحتاج 2 / 385، وشرح منتهى الإرادات 2 / 502.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 396، والإسعاف ص64.(44/176)
الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ التَّأْجِيرُ فِيهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ تَأْجِيرُ الْمَوْقُوفِ فِيهَا إِذْ لاَ تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ فَتَجُوزُ الإِْجَارَةُ مُدَّةً تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُهَا مَوْتٌ أَوْ هَدْمٌ لإِِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَيَذْكُرُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَبْقَى فِيهَا الْعَيْنُ غَالِبًا يَرْجِعُ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ فَيُؤَجَّرُ الدَّارُ وَالرَّقِيقُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَالدَّابَّةُ عَشْرَ سِنِينَ وَالثَّوْبُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالأَْرْضُ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَفِي قَوْلٍ: لاَ يُزَادُ عَلَى سَنَةٍ لاِنْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِهَا، وَفِي قَوْلٍ عَلَى ثَلاَثِينَ سَنَةً لأَِنَّهَا نِصْفُ الْعُمْرِ الْغَالِبِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: أَقَل مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ الأَْرْضُ فِيهَا لِلزِّرَاعَةِ مُدَّةُ زِرَاعَتِهَا، وَأَقَل مُدَّةٍ تُؤَجَّرُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى يَوْمٌ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَهْمَل الْوَاقِفُ مُدَّةَ الإِْجَارَةِ قِيل: تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ لِلْقَيَّمِ وَقِيل: تُقَيَّدُ بِسَنَةٍ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ إِذَا طَالَتْ تُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ فَإِنَّ مَنْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 349، وشرح منتهى الإرادات 2 / 363، وتحفة المحتاج 6 / 172.(44/177)
رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ عَلَى طُول الزَّمَانِ يَظُنُّهُ مَالِكًا، قَال فِي الدُّرِّ: وَبِإِجَارَةِ السَّنَةِ يُفْتَى فِي الدَّارِ وَبِثَلاَثِ سِنِينَ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُصْلِحَةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ زَمَانًا وَمَوْضِعًا، وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّهُ لَوِ احْتِيجَ لِذَلِكَ يَعْقِدُ عُقُودًا أَيْ عُقُودًا مُتَرَادِفَةً كُل عَقْدٍ سَنَةً بِكَذَا، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا فِي الدَّارِ، أَمَّا فِي الأَْرْضِ فَيَصِحُّ كُل عَقْدٍ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول: آجَرْتُكَ الدَّارَ الْفُلاَنِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ بِكَذَا وَآجَرْتُكَ إِيَّاهَا سَنَةَ خَمْسِينَ بِكَذَا، وَآجَرْتُكَ إِيَّاهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ بِكَذَا وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ.
وَيَكُونُ الْعَقْدُ الأَْوَّل لاَزِمًا وَمَا عَدَا الْعَقْدَ الأَْوَّل لاَ يَكُونُ لاَزِمًا، لأَِنَّ جَمِيعَ مَا عَدَاهُ مُضَافٌ، وَذَكَرَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: أَنَّ الإِْجَارَةَ الْمُضَافَةَ تَكُونُ لاَزِمَةً فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا أَوْ دَارًا وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا وَكَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ إِجَارَةُ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ سِنِينَ وَلاَ يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 397.(44/177)
جَازَ أَنْ تُكْرَى أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ لاَ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا فَلاَ تُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا أَمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أَكْرَى النَّاظِرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّارِ أَوِ الأَْرْضِ - فَإِنْ كَانَ نَظَرًا (أَيْ لِلْمَصْلَحَةِ) مَضَى وَلاَ يُفْسَخُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَالْحُكْمُ فِي كُل مَا سَبَقَ إِذَا كَانَ الْكِرَاءُ لِغَيْرِ مَنْ مَرْجِعُهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ لِمَنْ مَرْجِعُهَا لَهُ جَازَ الْكِرَاءُ كَعَشْرِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا لِخِفَّةِ الْغَرَرِ، لأَِنَّ الْمَرْجِعَ لَهُ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ دَارًا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو فَأَكَرَاهَا زَيْدٌ لِعَمْرٍو الَّذِي لَهُ الْمَرْجِعُ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَتَحْدِيدُ الْمُدَدِ السَّابِقَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ تَسْتَدْعِي الإِْجَارَةَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ تَقْتَضِي الْكِرَاءَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَهَدَّمَ الْوَقْفُ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهُ بِمَا يُبْنَى بِهِ وَلَوْ طَال الزَّمَانُ كَأَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ أَزْيَدَ بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِي الضَّرُورَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ ضَيَاعِهِ وَانْدِرَاسِهِ (1) .
وَانْظُرْ (إِجَارَة ف84)
تَقْدِيرُ أُجْرَةِ الْمَوْقُوفِ:
الأَْصْل أَنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ تَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 96، والشرح الصغير 2 / 310 - 311، والخرشي 7 / 93 - 95.
(2) الدر المختار 3 / 398، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 95، والخرشي 7 / 98 - 99، ومغني المحتاج 2 / 395، وروضة الطالبين 5 / 351 - 352، وشرح منتهى الإرادات 2 / 506، ومطالب أولي النهى 4 / 34.(44/178)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
أ - الإِْجَارَةُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل:
78 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يُؤَجِّرَ النَّاظِرُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْقُوفَةً عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، فَلَوْ أَجَّرَهَا بِالأَْقَل فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ غَيْرَ صَحِيحٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَال الْحَارِثِيُّ عَنْهُ: هُوَ الأَْصَحُّ - لاِنْتِفَاءِ الإِْذْنِ فِيهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَيَضْمَنُ النَّاظِرُ قِيمَةَ النَّقْصِ الَّذِي لاَ يُتَغَابَنُ بِهِ عَادَةً، لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَال غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ فَضَمِنَ مَا نَقَصَهُ بِعَقْدِهِ، كَالْوَكِيل إِذَا بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل أَوْ أَجَّرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 395، وشرح منتهى الإرادات 2 / 506، والإنصاف 7 / 73، وكشاف القناع 4 / 269.(44/178)
عَلَى جَوَازِ الإِْعَارَةِ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لاَ يَجُوزُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ النَّاظِرُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل سَوَاءٌ أَكَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ غَيْرَهُ، لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْوَقْفِ بِسَبَبِ الأُْجْرَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ النُّقْصَانُ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل يَسِيرًا وَهُوَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً أَيْ يَقْبَلُونَهُ وَلاَ يَعُدُّونَهُ غَبْنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا فَلاَ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ، وَاعْتُبِرَ خِيَانَةً مِنَ الْمُتَوَلِّي إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأُجْرَةِ الْمِثْل. لَكِنْ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ بِالأَْقَل أَيْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِلضَّرُورَةِ وَمَثَّلُوا لَهَا بِمَا يَأْتِي:
أ - إِذَا نَابَتِ الْوَقْفَ نَائِبَةٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ الدَّارُ عَلَيْهَا مُرْصَدٌ. وَالْمُرْصَدُ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ يُنْفِقُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِعِمَارَةِ الدَّارِ لِعَدَمِ مَالٍ حَاصِلٍ فِي الْوَقْفِ.
ب - إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِي إِجَارَتِهَا إِلاَّ بِالأَْقَل.
وَيَذْكُرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَجَّرَ الْمُتَوَلِّي بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل، وَكَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 390، 395، وشرح منتهى الإرادات 2 / 50، ومطالب أولي النهى 4 / 340، والإنصاف 7 / 73.(44/179)
ضَرُورَةٌ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَلْزَمُهُ تَمَامُ أُجْرَةِ الْمِثْل (1) .
قَال أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْل: عَلَى أَصْل أَصْحَابِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لاَ يَصِيرُ غَاصِبًا وَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْل، فَقِيل لَهُ: أَتُفْتِي بِهَذَا؟ قَال: نَعَمْ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ أَبْطَل بِالتَّسْمِيَةِ مَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى إِلَى تَمَامِ أَجْرِ الْمِثْل وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ، فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل، كَمَا لَوْ أَجَّرَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ أَجْرٍ (2) . وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْوَاقِفَ أَيْضًا إِذَا آجَرَ بِالأَْقَل مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ تَجُزْ وَيُبْطِلُهَا الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مَأْمُونًا وَفَعَل ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ أَقَرَّهُ الْقَاضِي فِي يَدِهِ وَأَمَرَهُ بِالإِْجَارَةِ بِالأَْصْلَحِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهَا فِي يَدِ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 398.
(2) الإسعاف ص65.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 401.(44/179)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاظِرَ إِذَا أَكْرَى الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِنَّ النَّاظِرَ يَضْمَنُ تَمَامَ أُجْرَةِ الْمِثْل إِنْ كَانَ مَلِيًّا وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لأَِنَّهُ مُبَاشِرٌ وَكُل مَنْ رَجَعَ عَلَيْهِ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الآْخَرِ، هَذَا مَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ بِأَنَّ الأُْجْرَةَ غَيْرُ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَامِنٌ فَيَبْدَأُ بِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ - أَنَّ الإِْجَارَةَ لَوْ وَقَعَتْ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل ثُمَّ زَادَ شَخْصٌ آخَرُ مَا يَبْلُغُ أُجْرَةَ الْمِثْل فُسِخَتْ إِجَارَةُ الأَْوَّل وَتُؤَجَّرُ لِلثَّانِي الَّذِي زَادَ، وَلَوِ الْتَزَمَ الأَْوَّل تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَنْ زَادَ حَيْثُ لَمْ تَبْلُغْ زِيَادَةُ مَنْ زَادَ أُجْرَةَ الْمِثْل، فَإِنْ بَلَغَتْهَا فَلاَ يُلْتَفَتُ لِزِيَادَةِ مَنْ زَادَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَحَل وَقْفٍ وَقَعَتْ إِجَارَتُهُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهَا شَخْصٌ أُجْرَةَ الْمِثْل وَطَلَبَتِ الْبَقَاءَ بِالزِّيَادَةِ فَإِنَّهَا تُجَابُ إِلَى ذَلِكَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل وَطَلَبَتِ الْبَقَاءَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل فَقَطْ فَإِنَّهَا تُجَابُ لِذَلِكَ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَدَوِيّ عَلَى الْخَرَشِيِّ أَنَّ هَذَا رَأْيُ عَلِيٍّ الأَْجْهُورِيِّ ثُمَّ قَال: وَلاَ يَخْفَى بَعْدَهُ، ثُمَّ قَال: يُحْتَمَل أَنَّ مَعْنَى عِبَارَةِ عَلِيٍّ الأَْجْهُورِيِّ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتِ الأُْجْرَةُ الزَّائِدَةُ تَمَامَ الْمِثْل وَالْتَزَمَهَا السَّاكِنُ كَانَ أَحَقَّ وَلاَ يُلْتَفَتُ لِزِيَادَةِ مَنْ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ زَادَ الْغَيْرُ أُجْرَةَ الْمِثْل وَالْتَزَمَهَا السَّاكِنُ كَانَ أَحَقَّ لِوُقُوعِ عَقْدٍ عُقِدَ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَزِدِ الآْخَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلاَّ كَانَ أَحَقَّ لِوُقُوعِ الْخَلَل(44/180)
فِي الْعَقْدِ مَا لَمْ يَلْتَزِمِ السَّاكِنُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ (1) .
ب - حُكْمُ مَا إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل ثُمَّ زَادَتِ الأُْجْرَةُ:
79 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَجَّرَ النَّاظِرُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، ثُمَّ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل أَثْنَاءَ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - هِيَ رِوَايَةُ فَتَاوَى سَمَرْقَنْدَ وَعَلَيْهَا مَشَى فِي التَّجْنِيسِ لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالإِْسْعَافِ - وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ صَحِيحًا لاَزِمًا وَكَانَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل عِنْدَ الْعَقْدِ فَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِزِيَادَةِ الأُْجْرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْمِثْل يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِي وَقْتِهِ كَانَ الْمُسَمَّى أَجْرَ الْمِثْل، فَلاَ يَضُرُّ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّهُ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ قَدْ جَرَى بِالْغِبْطَةِ فِي وَقْتِهِ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَال الطِّفْل ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْقِيَمُ بِالأَْسْوَاقِ أَوْ ظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ (2) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 7 / 99، وحاشية الدسوقي 4 / 95.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 399، والخرشي 7 / 98 - 99، والإسعاف ص65، وحاشية الدسوقي 4 / 95، ومغني المحتاج 2 / 395، ومطالب أولي النهى 4 / 340، وكشاف القناع 4 / 269.(44/180)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ وَيُعْقَدُ ثَانِيَةً بِالزِّيَادَةِ أَيْ أَنَّهُ يُجَدِّدُ الْعَقْدَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل بِالأُْجْرَةِ الزَّائِدَةِ، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ الأَْشْبَاهِ: لَوْ زَادَ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي نَفْسِهِ بِلاَ زِيَادَةِ أَحَدٍ فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الإِْجَارَةِ وَبِهِ يُفْتَى وَمَا لَمْ يَفْسَخْ فَلَهُ الْمُسَمَّى، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُول الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ. وَقَدَ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ عِدَّةَ قُيُودٍ عَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ هَذَا هِيَ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ عَابِدِينَ:
أ - أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ مَا يَشْمَل زِيَادَةَ تَعَنُّتٍ أَيْ إِضْرَارٍ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، بَل الْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ فِي نَفْسِهَا عِنْدَ الْكُل - أَيْ كُل النَّاسِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الإِْسْبِيجَابِيُّ (1) .
ب - أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْوَقْفِ أَيْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الأَْرْضِ فِي نَفْسِهَا، لاَ بِسَبَبِ عِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لأَِجْل الْعِمَارَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مُسْتَأْجِرُ أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا بَنَى فِيهَا ثُمَّ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ فَلاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ لأَِنَّهَا أُجْرَةُ عِمَارَتِهِ وَبِنَائِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ بِسَبَبِ زِيَادَةِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 398 - 399.(44/181)
أُجْرَةِ الأَْرْضِ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ (1) .
ج - أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ بَل يَفْسَخُهُ الْمُتَوَلِّي كَمَا حَرَّرَهُ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل وَقَال: فَإِنِ امْتَنَعَ يَفْسَخُهُ الْقَاضِي.
د - أَنَّهُ قَبْل الْفَسْخِ لاَ يَجِبُ إِلاَّ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ بَعْدَهُ.
ثُمَّ إِذَا قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ الأَْوَّل الزِّيَادَةَ كَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَل الزِّيَادَةَ وَكَانَتِ الأَْرْضُ خَالِيَةً مِنَ الزِّرَاعَةِ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي مِنَ الثَّانِي، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ مَشْغُولَةً بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل مِنْ وَقْتِهَا - أَيْ وَقْتِ الزِّيَادَةِ - إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ، لأَِنَّ شَغْلَهَا بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ إِيجَارِهَا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا اسْتُحْصِدَ فُسِخَ وَأُجِّرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَنَى فِي الأَْرْضِ أَوْ غَرَسَ لَكِنَّ هَذَا يَبْقَى إِلَى انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ مَعْلُومَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ بِخِلاَفِ الزَّرْعِ، فَإِذَا انْتَهَى الْعَقْدُ وَلَمْ يَقْبَل الزِّيَادَةَ أُمِرَ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَتُؤَجَّرُ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ قَبْل فَرَاغِ الأُْجْرَةِ وَقَدْ قَبِل الزِّيَادَةَ، أَمَّا إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بَل لِنَاظِرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 391.(44/181)
الْوَقْفِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا مِمَّنْ أَرَادَ وَإِنْ قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ الأَْوَّل الزِّيَادَةَ لِزَوَال عِلَّةِ الأَْحَقِّيَّةِ وَهِيَ بَقَاءُ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ بِالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ إِذَا قَبِل الزِّيَادَةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَقْفِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ إِذَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ وَقْعٌ وَالطَّالِبُ ثِقَةٌ لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ عَلَى خِلاَفِ الْغِبْطَةِ (2) .
انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ:
إِجَارَةُ الْمَوْقُوفِ تَنْتَهِي إِمَّا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوِ الْمَوْتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْوَقْفِ بِالْمَوْتِ:
80 - الأَْصْل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، بَل تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَزِمٌ فَلاَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، وَيَخْلُفُ الْمُسْتَأْجِرَ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 399.
(2) مغني المحتاج 2 / 395.(44/182)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ (1) .
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ نَاظِرِ الْوَقْفِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ الَّذِي آجَرَ هُوَ الْوَاقِفَ أَوِ الْحَاكِمَ أَوْ نَائِبَهُ أَوْ كَانَ النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ مِنَ الْوَاقِفِ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَالْعُقُودُ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيل (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي آجَرَ الْمَوْقُوفَ هُوَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمْ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ مَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ آجَرَ مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تُفْسَخُ وَهَذَا إِذَا كَانَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلاَ ضَرُورَةَ لِلإِْجَارَةِ بِالأَْقَل (3) .
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَقْفٌ عَلَى أَرْبَابٍ وَأَحَدُهُمْ مُتَوَلٍّ فَأَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْمُتَوَلِّي لاَ تَبْطُل الإِْجَارَةُ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لِلْمَوْقُوفِ فَلاَ تَبْطُل
__________
(1) الاختيار 2 / 61، والبدائع 4 / 222، وأسهل المدارك 2 / 330، 331، ومغني المحتاج 2 / 356، وشرح منتهى الإرادات 2 / 373.
(2) الاختيار 2 / 61 و3 / 47، وحاشية ابن عابدين 3 / 398، ومنح الجليل 3 / 797، ومغني المحتاج 2 / 356، وشرح منتهى الإرادات 2 / 362، 363.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 398.(44/182)
بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَمَا لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْوَكِيل فِي الإِْجَارَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ لِوَقْفٍ سِنِينَ، وَمَاتَ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ لاِنْقِطَاعِ حَقِّهِ مِنَ الْوَقْفِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِهِ وَانْتِقَال الْحَقِّ لِمَنْ يَلِيهِ فِي تَرْتِيبِ الْوَقْفِ عَلَى الأَْصَحِّ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: إِذَا أَكْرَى الْمُسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مُدَّةً يَجُوزُ لَهُ كِرَاؤُهُ فِيهَا وَمَاتَ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ كِرَاءَهُ لاَ يَنْفَسِخُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ النَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَقْفِ وَآجَرَ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَلَوْ آجَرَ الْبَطْنُ الأَْوَّل مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ مُدَّةً وَمَاتَ الْبَطْنُ الْمُؤَجِّرُ قَبْل تَمَامِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ شَرَطَ لِكُل بَطْنٍ مِنْهُمُ النَّظَرَ فِي حِصَّتِهِ مُدَّةَ اسْتِحْقَاقِهِ فَقَطْ، فَالأَْصَحُّ أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ.
لأَِنَّ الْوَقْفَ انْتَقَل اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لِغَيْرِهِ وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَ نِيَابَةَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ بِالأَْرْشَدِيَّةِ ثُمَّ
__________
(1) الفتاوى الخانية 3 / 334.
(2) منح الجليل 3 / 797، وحاشية الدسوقي 4 / 33، والشرح الصغير 5 / 318.(44/183)
مَاتَ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الأَْذْرُعِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْغُزِّيُّ فِي الْفَتْوَى (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ آجَرَ النَّاظِرُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْوَقْفِ وَكَانَ الْوَاقِفُ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ النَّظَرَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَنْفَسِخِ الإِْجَارَةُ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّهُ أَجَّرَ بِطَرِيقِ الْوِلاَيَةِ أَشْبَهَ الأَْجْنَبِيَّ، وَإِنْ أَجَّرَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ لِكَوْنِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ لَمْ تَنْفَسِخِ الإِْجَارَةُ فِي وَجْهٍ كَمَا لَوْ أَجَّرَ وَلِيٌّ مَال مُوَلِّيهِ أَوْ نَاظِرٌ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ زَالَتْ وِلاَيَتُهُ. قَال الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْعَمَل.
وَقَال فِي التَّنْقِيحِ: وَإِنْ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ انْفَسَخَتْ إِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَصْل الاِسْتِحْقَاقِ. وَقِيل: لاَ تَنْفَسِخُ كَمِلْكِهِ وَهُوَ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْعَمَل (2) .
81 - وَمَا سَبَقَ مِنْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤَجِّرِ، أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا مَاتَ فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ فَسْخِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 314، 315.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 362، والمغني 5 / 469.(44/183)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ إِجَارَةَ الْمَوْقُوفِ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، لأَِنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ جَمَاعَةً فَلاَ تَبْطُل بِمَوْتِ بَعْضِهِمْ قَبْل تَمَامِ الْمُدَّةِ وَتُصْرَفُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ (1) .
ثَانِيًا: انْتِهَاءُ إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ:
82 - إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ فِي عَقْدِ إِجَارَةِ الْمَوْقُوفِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لأَِنَّ الثَّابِتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ يَقْتَضِي بَقَاءَ الإِْجَارَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا.
فَلَوِ انْتَهَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الأَْرْضِ مِلْكٌ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ كَزَرْعٍ لَمْ يَبْلُغْ حَصَادَهُ فَإِنَّ الأَْرْضَ تَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ الْمِثْل إِلَى أَنْ يَحْصُدَ الزَّرْعَ، لأَِنَّهُ بِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْوَقْفِ مَا دَامَ يَسْتَحِقُّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الخانية 3 / 335، وأسهل المدارك 2 / 330، 331.
(2) الاختيار 2 / 52، وبدائع الصنائع 4 / 223، والمهذب 1 / 410 - 411، وشرح المنتهى 2 / 381 - 382، والمغني 5 / 488 - 490، وجواهر الإكليل 2 / 196، ومنح الجليل 3 / 818.(44/184)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٍ ف60) .
الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ:
83 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ هُوَ الْوَاقِفَ أَوِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ لأَِرْضِ الْوَقْفِ أَوْ كَانَ أجنبيًّا مَا دَامَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغِرَاسُ مُفِيدًا لِلْوَقْفِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي مِلْكِيَّةِ هَذَا الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ هَل تَكُونُ لِلْبَانِي أَوِ الْغَارِسِ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ نَقْضِهِ وَقَلْعِهِ أَمْ تَكُونُ وَقْفًا كَالأَْرْضِ وَهُمْ يَبْنُونَ ذَلِكَ عَلَى أُمُورٍ كَنِيَّةِ الْبَانِي أَوْ إِشْهَادِهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ أَرْضِ الْوَقْفِ غَرْسُ الأَْشْجَارِ وَالْكُرُومِ فِيهَا إِذَا لَمْ يُضِرَّ بِالأَْرْضِ بِدُونِ صَرِيحِ الإِْذْنِ مِنَ الْمُتَوَلِّي دُونَ حَفْرِ الْحِيَاضِ، وَإِنَّمَا يَحِل لِلْمُتَوَلِّي الإِْذْنُ فِيمَا يَزِيدُ بِهِ الْوَقْفُ خَيْرًا وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ حَقُّ قَرَارِ الْعِمَارَةِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فَيَجُوزُ لَهُ الْحَفْرُ وَالْغَرْسُ وَالْحَائِطُ مِنْ تُرَابِهَا لِوُجُودِ الإِْذْنِ فِي مِثْلِهَا دَلاَلَةً، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَحَلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالأَْرْضِ.
وَمَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَرَسَهُ وَكَانَ مِنْ مَالِهِ بِلاَ(44/184)
إِذْنِ النَّاظِرِ فَهُوَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَانِي هُوَ مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ فَإِنْ كَانَ بِمَال الْوَقْفِ فَهُوَ وَقْفٌ، سَوَاءً بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ مِنْ مَالِهِ لِلْوَقْفِ أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَقْفٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَانِي هُوَ الْوَاقِفَ وَأَطْلَقَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ بَنَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ قَبْل الْبِنَاءِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَانِي مُتَوَلِّيًا فَإِنْ بَنَى بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي لِيَرْجِعَ فَهُوَ وَقْفٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ بَنَى لِلْوَقْفِ فَوَقْفٌ، وَإِنْ بَنَى لِنَفْسِهِ أَوْ أَطْلَقَ لَهُ رَفَعَهُ إِنْ لَمْ يُضِرَّ بِالأَْرْضِ، وَلَوْ غَرَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلْمَسْجِدِ، لأَِنَّهُ لاَ يَغْرِسُ فِيهِ لِنَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِالْوَصْفِ كَالإِْمَامِ وَالْمُدَرِّسِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ أَوِ الْغِرَاسَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَارِثُهُ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِنْ مَاتَ، وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ وَقْفٌ فَلاَ يُورَثُ عَنْهُ قَل أَوْ كَثُرَ، وَلَوْ كَانَ الْبَانِي أَوِ الْغَارِسُ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ كَانَ وَقْفًا وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَلِوَارِثِهِ وَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ لاَ يَحْتَاجُ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ يَحْتَاجُ لِهَذَا الْبِنَاءِ فَيُوَفَّى لَهُ مِنْ غَلَّتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَنَى النَّاظِرُ أَوْ أَصْلَحَ فَإِنَّهُ يُوَفَّى لَهُ جَمِيعُ مَا صَرَفَهُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 428 - 429، والإسعاف ص22.(44/185)
الْبِنَاءِ وَيُجْعَل الْبِنَاءُ وَقْفًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ أَرْضًا غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، امْتَنَعَ عَلَيْهِ غَرْسُهَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ إِلاَّ إِنْ نَصَّ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ أَوْ شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الاِنْتِفَاعَاتِ كَمَا رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ، وَمِثْل الْغَرْسِ الْبِنَاءُ. فَلَوْ وَقَفَ أَرْضًا خَالِيَةً مِنَ الْبِنَاءِ لاَ يَجُوزُ بِنَاؤُهَا، مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ جَمِيعُ الاِنْتِفَاعَاتِ، وَضَابِطُهُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كُل مَا غَيَّرَ الْوَقْفَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ اسْمِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَال الْوَقْفِ، بِخِلاَفِ مَا يَبْقَى الاِسْمُ مَعَهُ، نَعَمْ إِنْ تَعَذَّرَ الْمَشْرُوطُ جَازَ إِبْدَالُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى نَاظِرٌ فِيمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَالْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ لِغَارِسِهِ أَوْ بَانِيهِ، وَهُوَ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ طَلَبُهُ بِقَلْعِهِ، لِمِلْكِهِ لَهُ وَلأَِصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي شَرِيكًا فِي الْوَقْفِ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جَمَاعَةٍ فَغَرَسَ فِيهِ أَحَدُهُمْ أَوْ بَنَى فَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغَارِسُ أَوِ الْبَانِي نَاظِرًا فَقَطْ أَيْ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ فَغَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ لَهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا أَهْل الْوَقْفِ.
وَيَتَوَجَّهُ إِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ نَاظِرٌ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 96.
(2) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 386، 387.(44/185)
فِي وَقْفٍ أَنَّهُ لَهُ إِنْ أَشْهَدَ أَنَّ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ بِذَلِكَ فَهُمَا لِلْوَقْفِ لِثُبُوتِ يَدِ الْوَقْفِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ غَرَسَهُ أَوْ بَنَاهُ لِلْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَهُوَ وَقْفٌ، وَيَتَوَجَّهُ فِي غَرْسِ أَجْنَبِيٍّ وَبِنَائِهِ أَنَّهُ لِلْوَقْفِ بِنِيَّتِهِ، وَالتَّوْجِيهَانِ لِصَاحِبِ الْفُرُوعِ، وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَدُ الْوَقْفِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمُتَّصِل بِهِ مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَهَا كَمَعْرِفَةِ كَوْنِ الْغَارِسِ غَرَسَهَا لَهُ بِحُكْمِ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لَهُ دَعْوَى الْبِنَاءِ بِلاَ حُجَّةٍ، وَيَدُ أَهْل عَرْصَةٍ مُشْتَرَكَةٍ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِيهَا بِحُكْمِ الاِشْتِرَاكِ إِلاَّ مَعَ بَيِّنَةٍ بِاخْتِصَاصِهِ بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ (1) .
قِسْمَةُ الْمَوْقُوفِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ:
84 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي قِسْمَةِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْوِيَةٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بَيْنَهُمْ أَوْ تَقْدِيمِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ وَهَكَذَا (2) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلأَْوْقَافِ الَّتِي لَهَا غَلَّةٌ وَشَرَطَ الْوَاقِفُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل ذَلِكَ وَبَيَانُ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِيهِ فِي الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ لِلْوَاقِفِينَ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 506.
(2) المهذب 1 / 450، وشرح منتهى الإرادات 2 / 501 - 502، والإسعاف ص126، والشرح الكبير 4 / 88 - 89.(44/186)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا لِلسُّكْنَى مَثَلاً أَوْ أَرْضًا مَوْقُوفَةً لِلزِّرَاعَةِ وَكَانَتِ الدَّارُ أَوِ الأَْرْضُ لاَ تَسْتَوْعِبُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ أَعْيَانِ الْوَقْفِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لاَ مِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ، فَإِذَا جَازَتِ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا تَجُوزُ فِي الْمَنَافِعِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ يَكُونُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ وَقْفِ الْمُشَاعِ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِفَاتِ، فَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمُ الْقِسْمَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَسَّمُ وَلَكِنْ يَتَهَايَئُونَ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ الشَّلَبِيِّ أَنَّ الْقِسْمَةَ بِطَرِيقِ التَّهَايُؤِ التَّنَاوُبُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ كَمَا إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا مَثَلاً بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَتَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مِنَ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ قِطْعَةً مُعَيَّنَةً يَزْرَعُهَا لِنَفْسِهِ هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الأُْخْرَى يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ قِطْعَةً غَيْرَهَا فَذَلِكَ سَائِغٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِلاَزِمٍ فَلَهُمْ إِبْطَالُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بِقِسْمَةٍ، إِذِ الْقِسْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَنْ يَخْتَصَّ بِبَعْضٍ مِنَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الدَّوَامِ.(44/186)
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ التَّهَايُؤِ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي طُول الزَّمَانِ إِلَى دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ أَوْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وَبَيَّنَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ قِسْمَةَ مِلْكٍ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ لَيْسَ فِي الْعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ قِسْمَةِ الْوَقْفِ قِسْمَةَ مُهَايَأَةٍ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَمَّا الْحَبْسُ (أَيِ الْوَقْفُ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَسْمُ رِقَابِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا قِسْمَتُهُ لِلاِغْتِلاَل بِأَنْ يَأْخُذَ هَذَا كِرَاءَهُ شَهْرًا مَثَلاً وَالآْخَرُ كَذَلِكَ فَقِيل: يُقَسَّمُ وَيُجْبَرُ مَنْ أَبَى لِمَنْ طَلَبَ، وَيَنْفُذُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ يَحْصُل مَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْقِسْمَةِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُوجِبُ التَّغْيِيرَ.
وَقِيل: لاَ يُقَسَّمُ بِحَالٍ وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ كَلاَمُ الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقِيل: يُقَسَّمُ قِسْمَةَ اغْتِلاَلٍ بِتَرَاضِيهِمْ، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمُ الْقِسْمَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ الْقَوْل الثَّالِثَ.
وَسَوَاءٌ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ قُسِّمَ قِسْمَةَ اغْتِلاَلٍ أَوْ قِسْمَةَ انْتِفَاعٍ بِأَنْ يَنْتَفِعَ كُل وَاحِدٍ بِالسُّكْنَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِالزِّرَاعَةِ بِنَفْسِهِ مُدَّةً، وَإِنْ كَانَتِ الأَْقْوَال
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 367 - 369، وفتح القدير 6 / 212، والبحر الرائق 5 / 224.(44/187)
الثَّلاَثَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي قِسْمَةِ الاِغْتِلاَل (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْوَقْفِ بَيْنَ أَرْبَابِهِ مُمْتَنِعَةٌ مُطْلَقًا، لأَِنَّ فِيهِ تَغْيِيرًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ مُهَايَأَةٍ رَضُوا بِهَا كُلُّهُمْ إِذْ لاَ تَغْيِيرَ فِيهَا لِعَدَمِ لُزُومِهَا (2) .
وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْقُوفِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا قِسْمَةَ عَيْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَصِحُّ قَسْمُ مَوْقُوفٍ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، قَال عَنْ شَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ: صَرَّحَ الأَْصْحَابُ بِأَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ إِذَا كَانَ عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلاَ تُقَسَّمُ عَيْنُهُ قِسْمَةً لاَزِمَةً اتِّفَاقًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، لَكِنْ تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ بِلاَ مُنَاقَلَةٍ، ثُمَّ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَنِ الأَْصْحَابِ وَجْهٌ، يَعْنِي كَغَيْرِهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَحْكِيَّةِ، قَال: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْصْحَابِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ أَوْ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 499، ومنح الجليل 3 / 623.
(2) تحفة المحتاج 4 / 306، ومغني المحتاج 2 / 393.(44/187)
جِهَتَيْنِ، وَفِي الْمَنْهَجِ: لُزُومُهَا إِذَا اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِسْمَةَ الْمُهَايَأَةِ الَّتِي يَقُول بِهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَتْ عَلَى قَوْمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لاَ يُحَاطُ بِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ فَإِنَّ النَّاظِرَ يُعْطِي مِنَ الْغَلَّةِ بِالاِجْتِهَادِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُفَضِّل النَّاظِرُ أَهْل الْحَاجَةِ وَالْعِيَال الْفُقَرَاءَ بِالاِجْتِهَادِ فِي غَلَّةٍ وَسُكْنَى (2) .
التَّصَرُّفَاتُ اللاَّزِمَةُ عِنْدَ تَعَطُّل الْمَوْقُوفِ:
إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ فَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ هِيَ:
أ - عِمَارَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ إِنْ أَمْكَنَ.
ب - بَيْعُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ غَيْرَهُ.
ج - رُجُوعُهُ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 513.
(2) ينظر شرح منتهى الإرادات 2 / 501، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 96، وفتح القدير 6 / 245.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 382، 383، وفتح القدير 6 / 238، وحاشية الدسوقي 4 / 90، والخرشي 7 / 94، ومغني المحتاج 2 / 391، 393، وكشاف القناع 4 / 292 - 294، وشرح منتهى الإرادات 2 / 514 - 516، والمغني 5 / 631 - 632.(44/188)
أَوَّلاً: عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ: 85 - الْغَرَضُ مِنْ عِمَارَةِ الْمَوْقُوفِ بَقَاءُ عَيْنِهِ صَالِحَةً لِلاِنْتِفَاعِ تَحْقِيقًا لِلْغَرَضِ الأَْصْلِيِّ مِنَ الْوَقْفِ.
وَتَتِمُّ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: تَعَهُّدُهُ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَعَمَل مَا يُحَقِّقُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ صَالِحًا لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ الآْنَ وَلَيْسَ بِهِ خَلَلٌ.
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل الدُّرِّ الْمُخْتَارِ " وَيَبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ قَبْل الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ ": وَالْعِمَارَةُ اسْمٌ لِمَا يُعْمَرُ بِهِ الْمَكَانُ بِأَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْقَى إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ الزِّيَادَةِ إِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ شَجَرًا يُخَافُ هَلاَكُهُ كَانَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَلَّتِهِ قَصِيلاً (زَرْعًا) فَيَغْرِزُهُ، لأَِنَّ الشَّجَرَ يَفْسُدُ عَلَى امْتِدَادِ الزَّمَانِ. . . وَكَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ سَبِخَةً لاَ يَنْبُتُ فِيهَا شَيْءٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُصْلِحَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ دَفْعُ الْمَرْصَدِ (أَيِ الدَّيْنِ) الَّذِي عَلَى الْمَوْقُوفِ فَإِنَّ الْمَرْصَدَ دَيْنٌ عَلَى الْوَقْفِ لِضَرُورَةِ تَعْمِيرِهِ فَإِذَا وُجِدَ فِي الْوَقْفِ مَالٌ وَلَوْ فِي كُل سَنَةٍ شَيْءٌ دُفِعَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ رَقَبَةُ الْوَقْفِ وَيَصِيرَ يُؤَجَّرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لَزِمَ النَّاظِرَ ذَلِكَ، وَكَوْنُ(44/188)
التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ بِصُنْعِ أَحَدٍ (1) .
وَمِمَّا يُصْرَفُ فِيهِ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ - السُّلَّمُ، وَالْبَوَارِي لِلتَّظْلِيل بِهَا، وَالْمَكَانِسُ لِيُكْنَسَ بِهَا، وَالْمَسَاحِي لِيُنْقَل بِهَا التُّرَابُ، وَظُلَّةٌ تَمْنَعُ إِفْسَادَ خَشَبِ الْبَابِ بِمَطَرٍ وَنَحْوِهِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ (2) .
ثَانِيهُمَا: أَنْ تَتِمَّ الْعِمَارَةُ بِالْبِنَاءِ وَالتَّرْمِيمِ وَالتَّجْصِيصِ لِمَا تَشَقَّقَ أَوْ تَهَدَّمَ مِنَ الأَْبْنِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ.
يَقُول الْخَرَشِيُّ: يَبْدَأُ بِمَرَمَّةِ الْوَقْفِ وَإِصْلاَحِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَدَوَامِ مَنْفَعَتِهِ.
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ: يُصْرَفُ رَيْعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ الْمُحْكَمِ وَالسُّلَّمِ وَالْبَوَارِي. . . إِلَخْ (3) .
أ - تَقْدِيمُ الْعِمَارَةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَارِفِ:
86 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْوَقْفِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَصَارِفِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 376.
(2) مغني المحتاج 2 / 393.
(3) الخرشي 7 / 93 - 94، وحاشية الدسوقي 4 / 90، ومغني المحتاج 3 / 393.(44/189)
الأُْخْرَى، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، لأَِنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلاَ تَبْقَى دَائِمَةً إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً.
بَل إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ عَدَمَ الْبَدْءِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِإِصْلاَحِهِ، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الْبَدْءِ بِنَفَقَتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ فَلاَ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ بَل يَبْدَأُ بِمَرَمَّتِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ لِتَبْقَى عَيْنُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَبَّعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ سِلاَحٍ وَمَتَاعٍ وَكُتُبٍ لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطٍ، فَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عِمَارَتَهُ عُمِل بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا فَيُعْمَل بِمَا شَرَطَ، فَإِنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْجِهَةِ عَلَى الْعِمَارَةِ عُمِل بِهِ، لَكِنْ قَال الْحَارِثِيُّ: مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى تَعْطِيل الْوَقْفِ، فَإِنْ أَدَّى إِلَيْهِ قُدِّمَتِ الْعِمَارَةُ حِفْظًا لأَِصْل الْوَقْفِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَاقِفُ وَلَمْ يُحَدِّدْ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، قَال فِي التَّنْقِيحِ: مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى تَعْطِيل مَصَالِحِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الإِْمْكَانِ (2) .
وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعِمَارَةِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 376، 377، والبحر الرائق 5 / 225، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 90، ومغني المحتاج 2 / 393، ونهاية المحتاج 5 / 393.
(2) كشاف القناع 4 / 266، وشرح المنتهى 2 / 507.(44/189)
الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِمَارَةُ ضَرُورِيَّةً وَاحْتِيجَ إِلَيْهَا كَرَفْعِ سَقْفٍ أَوْ بِنَاءِ جِدَارٍ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ، إِذْ لَيْسَ مِنَ النَّظَرِ خَرَابُ الْمَسْجِدِ لأَِجْل مَا يُعْطَى لِلإِْمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ فَضَل عَنِ التَّعْمِيرِ شَيْءٌ يُعْطَى مَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِمَّا فِي قَطْعِهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ بِحَيْثُ لاَ يُؤَدِّي تَرْكُهَا إِلَى خَرَابِ الْعَيْنِ لَوْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ إِلَى غَلَّةِ السَّنَةِ الْقَادِمَةِ فَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ (1) .
وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّةِ الأَْرْضِ فِي يَدِ الْقَيِّمِ، فَظَهَرَ لَهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ نَحْوُ فَكِّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ إِعَانَةِ الْغَازِي الْمُنْقَطِعِ، وَكَانَ الْوَقْفُ مُحْتَاجًا إِلَى الإِْصْلاَحِ وَالْعِمَارَةِ، وَيَخَافُ الْقَيِّمُ لَوْ صَرَفَ الْغَلَّةَ إِلَى الْعِمَارَةِ يُفَوِّتُ ذَلِكَ الْبِرَّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِ إِصْلاَحِ الأَْرْضِ وَمَرَمَّتِهِ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ يُخَافُ خَرَابُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى ذَلِكَ الْبِرِّ، وَتُؤَخَّرُ الْمَرَمَّةُ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي تَأْخِيرِ الْمَرَمَّةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْغَلَّةَ إِلَى الْمَرَمَّةِ، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ يُصْرَفُ إِلَى ذَلِكَ الْبِرِّ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَتَأْخِيرُ الْعِمَارَةِ إِلَى الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ إِذَا لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 377 - 379.(44/190)
ثُمَّ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَوْ صَرَفَ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَهُنَاكَ عِمَارَةٌ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا، لأَِنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنَ الْعِمَارَةِ وَالْمُؤْنَةِ مُسْتَثْنًى عَنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، فَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ ضَمِنَ (1) .
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعِمَارَةِ ثُمَّ يُصْرَفُ الْفَاضِل لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُسْتَحِقِّينَ، لَزِمَ النَّاظِرَ إِمْسَاكُ قَدْرِ الْعِمَارَةِ كُل سَنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْهُ الآْنَ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ وَلاَ غَلَّةٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْعِمَارَةِ كُل سَنَةٍ وَالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَعَ السُّكُوتِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَلاَ يُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعَ الاِشْتِرَاطِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي، لأَِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَل الْفَاضِل عَنْهَا لِلْفُقَرَاءِ (2) .
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي الْعِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَال صَرَفَهُ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 225.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 389.(44/190)
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَدَّخِرُ مِنْ زَائِدِ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا يُعَمِّرُهُ بِتَقْدِيرِ هَدْمِهِ، وَيَشْتَرِي لَهُ بِالْبَاقِي عَقَارًا وَيَقِفُهُ، لأَِنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ لاَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ لأَِنَّ الْوَاقِفَ وَقَفَ عَلَيْهَا (1) .
ب - الْجِهَةُ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ:
87 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْقُوفِ وَعِمَارَتِهِ، وَإِصْلاَحِ مَا وَهَى مِنْ بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ لأَِنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَجْرِي إِلاَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ بَطَل شَرْطُهُ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 382، والهداية مع الفتح 6 / 224، ونهاية المحتاج 5 / 393، ومغني المحتاج 2 / 392 - 393.
(2) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية الدسوقي 4 / 90.
(3) الخرشي 7 / 94.(44/191)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ دَارَهُ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا مِنْ مَالِهِ لاَ مِنَ الْغَلَّةِ، إِذِ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ، وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتِ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْعِمَارَةِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لِفَقْرِهِ آجَرَهَا الْقَاضِي مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَعَمَّرَهَا بِالأُْجْرَةِ كَعِمَارَةِ الْوَاقِفِ، وَلاَ يُجْبَرُ الآْبِي عَلَى الْعِمَارَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ لِلْغَزْوِ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَلاَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُ الْوَاقِفَ وَلاَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَدِمَ بَيْتُ الْمَال بِيعَ وَعُوِّضَ بِثَمَنِهِ سِلاَحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ.
فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَوْقُوفِ وَمُؤْنَةَ تَجْهِيزِهِ وَعِمَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ شُرِطَتْ، سَوَاءٌ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال الْوَقْفِ، وَإِلاَّ فَمِنْ مَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ كَكَسْبِ الْعَبْدِ وَغَلَّةِ الْعَقَارِ، فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَالنَّفَقَةُ وَمُؤَنُ التَّجْهِيزِ لاَ الْعِمَارَةُ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، كَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لاَ كَسْبَ لَهُ، أَمَّا الْعِمَارَةُ فَلاَ تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ حِينَئِذٍ
__________
(1) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية الدسوقي 4 / 90.
(2) البدائع 6 / 221، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 380، وحاشية الدسوقي 4 / 90.(44/191)
كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ لِصِيَانَةِ رُوحِهِ وَحُرْمَتِهِ (1) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يُرْجَعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الْمَوْقُوفِ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ وَخَرِبَ، بِأَنْ يَقُول: يُنْفَقُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَمَّرُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، فَإِنْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عُمِل بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ذَا رُوحٍ كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْل فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا، وَإِنْ أَمْكَنَ إِجَارَتُهُ أُجِّرَ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، وَكَذَا لَوِ احْتَاجَ خَانٌ مُسْبِلٌ إِلَى مَرَمَّةٍ أُوجِرَ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَقَارًا وَنَحْوَهُ كَسِلاَحٍ وَمَتَاعٍ لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ (2) .
جـ - حُكْمُ التَّعَدِّي عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ:
88 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَعَدَّى عَلَى الْوَقْفِ بِهَدْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 397، وأسنى المطالب 2 / 473.
(2) كشاف القناع 4 / 265 - 266.(44/192)
عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ كَوْنَ التَّعْمِيرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَرَابُ بِصُنْعِ أَحَدٍ، وَلِذَا قَال فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: رَجُلٌ آجَرَ دَارَ الْوَقْفِ فَجَعَل الْمُسْتَأْجِرُ رِوَاقَهَا مَرْبِطًا لِلدَّوَابِّ وَخَرَّبَهَا يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ فَعَل بِغَيْرِ إِذْنٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَنْ هَدَمَ وَقْفًا تَعَدِّيًا فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَهْدُومُ بَالِيًا، لأَِنَّ الْهَادِمَ ظَالِمٌ بِتَعَدِّيهِ وَالظَّالِمُ أَحَقُّ بِالْحَمْل عَلَيْهِ، وَلاَ تُؤْخَذُ قِيمَةُ الْمَهْدُومِ، وَذَلِكَ كَمَا قَال ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ شَاسٍ. وَالرَّاجِحُ: أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَسَائِرِ الْمَتْلَفَاتِ وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَهَّرَهُ عِيَاضٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ (2) .
وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ - أَيِ الضَّمَانِ بِالتَّعَدِّي - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْكُتُبُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِلاَ تَعَدٍّ وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ. وَمِنَ التَّعَدِّي اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُقِفَ لَهُ (3) .
د - الاِسْتِدَانَةُ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ:
89 - إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَعْمِيرٍ وَإِصْلاَحٍ، أَوْ كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفَقَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنَ الرَّيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدِّ حَاجَةِ التَّعْمِيرِ وَالإِْصْلاَحِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 376.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 92.
(3) مغني المحتاج 2 / 391.(44/192)
فَهَل يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ لِهَذَا السَّبَبِ وَهَل يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى إِذْنٍ أَوْ لاَ يَحْتَاجُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقْتَرِضَ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ كَشِرَائِهِ لِلْوَقْفِ نَسِيئَةً أَوْ بِنَقْدٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، لأَِنَّ النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالإِْذْنُ وَالاِئْتِمَانُ ثَابِتَانِ كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوِ الْتَزَمَ حِينَ أَخَذَ النَّظَرَ أَنْ يَصْرِفَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ مَالِهِ إِنِ احْتَاجَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا صَرَفَهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الاِقْتِرَاضُ دُونَ شَرْطِ الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرِضَ الإِْمَامُ النَّاظِرَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الاِقْتِرَاضِ أَوِ الإِْنْفَاقِ مِنْ مَال نَفْسِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، وَلَوِ اقْتَرَضَ النَّاظِرُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ وَلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلاَ يَرْجِعُ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 89، ومواهب الجليل 6 / 40، وكشاف القناع 4 / 267، وحاشية ابن عابدين 3 / 419.
(2) روضة الطالبين 5 / 361، ونهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 397.(44/193)
الاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ، فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ: الأَْوَّل: إِذْنُ الْقَاضِي، فَلَوْ يَبْعُدُ عَنْهُ يَسْتَدِينُ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي: أَلاَّ يَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفُ مِنْ أُجْرَتِهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّ الاِسْتِدَانَةَ عَلَى الْوَقْفِ لاَ تَجُوزُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ، لأَِنَّ الدِّينَ لاَ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إِلاَّ فِي الذِّمَّةِ، وَالْوَقْفُ لاَ ذِمَّةَ لَهُ، وَالْفُقَرَاءُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَكِنْ لِكَثْرَتِهِمْ لاَ تُتَصَوَّرُ مُطَالَبَتُهُمْ، فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ عَلَى الْقَيِّمِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَيِّمِ لاَ يَمْلِكُ قَضَاءَهُ مِنْ غَلَّةِ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. لَكِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الاِسْتِدَانَةِ بُدٌّ فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِأَمْرِ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنِ الْمُتَوَلِّي، لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقَاضِي أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا مَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ - كَالصَّرْفِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ - فَلاَ تَجُوزُ الاِسْتِدَانَةُ لأَِجْل ذَلِكَ، كَمَا فِي الْقُنْيَةِ، إِلاَّ مَا يُعْطَى لِلإِْمَامِ وَالْخَطِيبِ وَالْمُؤَذِّنِ لأَِنَّ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَظْهَرُ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الاِسْتِدَانَةُ لِلْحُصْرِ وَالزَّيْتِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ.(44/193)
وَإِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي فَادَّعَى الْمُتَوَلِّي الإِْذْنَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي مَقْبُول الْقَوْل، لَمَّا أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ فِي الْغَلَّةِ وَهُوَ إِنَّمَا يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الأَْخْذُ مِنَ الْغَلَّةِ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا مَا دَامَ لَمْ يُوجَدْ إِذْنٌ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ فَأَنْفَقَ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَال نَفْسِهِ لإِِصْلاَحِ الْوَقْفِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْحَانُوتِيَّ أَنَّهُ لَهُ الرُّجُوعُ دِيَانَةً، لَكِنْ لَوِ ادَّعَى ذَلِكَ لاَ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي (2) .
ثَانِيًا: بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ:
90 - إِذَا تَعَطَّل الْمَوْقُوفُ وَصَارَ بِحَالَةٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ بَيْعَهُ وَجَعْل ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ وَالاِسْتِبْدَال وَلَوْ لَمْ يَتَعَطَّل الْمَوْقُوفُ، لَكِنْ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 419.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 420.(44/194)
كَمَا فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
لِلاِسْتِبْدَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ صُوَرٌ ثَلاَثٌ:
الصُّورَةُ الأُْولَى:
91 - أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ الاِسْتِبْدَال بِأَرْضِ الْوَقْفِ أَرْضًا أُخْرَى حِينَ الْوَقْفِ، وَلِهَذِهِ الصُّورَةِ صِيغَتَانِ:
الصِّيغَةُ الأُْولَى: أَنْ يَقُول: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل أَبَدًا عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ وَقْفًا بِشَرَائِطِ الأُْولَى (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلاَلٍ وَالْخَصَّافِ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ اسْتِحْسَانًا (2) .
وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ، لأَِنَّ هَذَا شَرْطٌ لاَ يُبْطِل حُكْمَ الْوَقْفِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ مِمَّا يَحْتَمِل الاِنْتِقَال مِنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى، وَيَكُونُ الثَّانِي قَائِمًا مَقَامَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 387، 388، والإسعاف ص31.
(2) الإسعاف ص31، وفتح القدير 6 / 227.(44/194)
الأُْولَى فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إِذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ بَحْرًا لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا أَرْضًا أُخْرَى، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ وَقْفًا عَلَى شَرَائِطِ الأُْولَى، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْوَقْفِ إِذَا قَل نُزْلُهَا (رَيْعُهَا) لآِفَةٍ وَصَارَتْ بِحَيْثُ لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لاَ تَفْضُل غَلَّتُهَا عَنْ مُؤَنِهَا يَكُونُ صَلاَحُ الْوَقْفِ فِي الاِسْتِبْدَال بِأَرْضٍ أُخْرَى فَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ وِلاَيَةَ الاِسْتِبْدَال وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَيْهِ فِي الْحَال (1) .
وَقَال مُحَمَّدٌ وَيُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ: الْوَقْفُ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ (2) .
وَقَدْ وَجَّهَ السَّرَخْسِيُّ رَأْيَ مُحَمَّدٍ فِي كَوْنِ فَسَادِ شَرْطِ الاِسْتِبْدَال لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ فَقَال: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ قَوْل أَهْل الْبَصْرَةِ - الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ وَالْوَقْفُ يَتِمُّ بِذَلِكَ، وَلاَ يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْل الْوَقْفِ فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الاِسْتِبْدَال شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلاً فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إِذَا شَرَطَ الاِسْتِبْدَال بِهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 239، والإسعاف ص31، وفتح القدير 6 / 228، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 306.
(2) الإسعاف ص31، والبحر الرائق 5 / 239، والهداية مع فتح القدير 6 / 227، 228.(44/195)
دُونَ قَوْمٍ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فَاسِدَانِ (2) .
وَنَقَل الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ لَكِنْ لاَ يَبِيعُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ - إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ - أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إِذَا رَآهُ أَنْظَرَ لأَِهْل الْوَقْفِ (3) .
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا أُخْرَى وَلَمْ يَزِدْ صَحَّ اسْتِحْسَانًا، وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ وَقْفًا بِشَرَائِطِ الأُْولَى وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِيقَافِهَا لأَِنَّ الأَْرْضَ تَعَيَّنَتْ لِلْوَقْفِ فَيَقُومُ ثَمَنُهَا مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ أَرْضٍ بِثَمَنِهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى شَرَائِطِ الأُْولَى مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ وَقْفٍ.
وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِقَامَةَ أَرْضٍ أُخْرَى مَقَامَ الأُْولَى (4) .
الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ شَرَطَ أَنَّ لِلْقَيِّمِ الاِسْتِبْدَال وَلَمْ يَشْرُطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِل لِنَفْسِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) المبسوط 12 / 41، 42.
(2) الإسعاف ص31، وفتاوى الخانية 3 / 306.
(3) فتح القدير 6 / 228.
(4) الإسعاف ص31، والبحر الرائق 5 / 240، وفتح القدير 6 / 229.(44/195)
إِفَادَتَهُ الْوِلاَيَةَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا (1) .
وَلَوْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَ نَفْسِهِ مَلَكَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال وَحْدَهُ، وَلاَ يَمْلِكُهُ فُلاَنٌ وَحْدَهُ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَالاِسْتِبْدَال جَائِزٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيل اتِّفَاقًا.
وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِدَارٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَل دَارًا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهَا بِأَرْضٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَرْضَ قَرْيَةٍ لاَ يَسْتَبْدِلُهَا بِأَرْضِ غَيْرِهَا، لِتَفَاوُتِ أَرَاضِي الْقُرَى مُؤْنَةً وَاسْتِغْلاَلاً فَيَلْزَمُ الشَّرْطُ.
وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدِ الْبَدَل بِأَرْضٍ وَلاَ دَارٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِل بِهَا مِنْ جِنْسِ الْعَقَارَاتِ بِأَيِّ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ بَلَدٍ شَاءَ لِلإِْطْلاَقِ (3) .
وَإِنْ شَرَطَ الاِسْتِبْدَال فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِل الأَْرْضَ الثَّانِيَةَ بِأَرْضٍ ثَالِثَةٍ لأَِنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ فِي الأُْولَى فَقَطْ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 228.
(2) البحر الرائق 5 / 240، وفتح القدير 6 / 229.
(3) البحر الرائق 5 / 240، والإسعاف ص32، وحاشية ابن عابدين 3 / 387.
(4) الدر المختار وابن عابدين 3 / 388، وفتح القدير 6 / 228.(44/196)
وَالاِسْتِبْدَال فِي حَالَةِ اشْتِرَاطِهِ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ ذَاتَ رَيْعٍ وَنَفْعٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ خُرُوجُ الْوَقْفِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ وَلاَ مُبَاشَرَةُ الْقَاضِي لَهُ وَلاَ عَدَمُ رَيْعٍ يُعَمَّرُ بِهِ (1) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
92 - أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال حِينَ الْوَقْفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال أَوْ سَكَتَ لَكِنْ صَارَ الْوَقْفُ بِحَيْثُ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً أَوْ لاَ يَفِي بِمُؤْنَتِهِ، فَالاِسْتِبْدَال فِي هَذِهِ الصُّورَةِ جَائِزٌ عَلَى الأَْصَحِّ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ كَلاَمُ قَاضِيخَانْ، فَفِي مَوْضِعٍ جَوَّزَ لِلْقَاضِي الاِسْتِبْدَال بِلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنَعَ مِنْهُ وَلَوْ صَارَتِ الأَْرْضُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الاِسْتِبْدَال بِالشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْقُوفُ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 388.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 387.(44/196)
ب - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ رَيْعٌ لِلْوَقْفِ يُعَمَّرُ بِهِ.
ج - أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ.
د - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَبْدِل قَاضِيَ الْجَنَّةِ، الْمُفَسَّرَ بِذِي الْعِلْمِ وَالْعَمَل، لِئَلاَّ يَحْصُل التَّطَرُّقُ إِلَى إِبْطَال أَوْقَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَاضِي الْجَنَّةِ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ " (1) .
هـ - أَنْ يَكُونَ الْبَدَل عَقَارًا لاَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ.
و أَنْ لاَ يَبِيعَهُ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ وَلاَ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
ز - أَنْ يَكُونَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لِمَا فِي الْخَانِيَّةِ: لَوْ شَرَطَ اسْتِبْدَالَهَا بِدَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِبْدَالُهَا بِأَرْضٍ وَبِالْعَكْسِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْعَلاَّمَةِ قِنَالِي زَادَةَ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْمَوْقُوفَةِ لِلاِسْتِغْلاَل، لأَِنَّ الْمَنْظُورَ فِيهَا كَثْرَةُ الرَّيْعِ وَقِلَّةُ الْمَرَمَّةِ وَالْمُؤْنَةِ، فَلَوِ اسْتَبْدَل الْحَانُوتَ بِأَرْضٍ تُزْرَعُ وَيَحْصُل مِنْهَا غَلَّةٌ قَدَّرَ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَانَ أَحْسَنَ، لأَِنَّ الأَْرْضَ أَدْوَمُ وَأَبْقَى وَأَغْنَى عَنْ كُلْفَةِ التَّرْمِيمِ وَالتَّعْمِيرِ بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفَةِ لِلسُّكْنَى، لِظُهُورٍ أَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الاِنْتِفَاعُ بِالسَّكَنِ.
ح - فِي الْقُنْيَةِ مُبَادَلَةُ دَارِ الْوَقْفِ بِدَارٍ أُخْرَى
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه أبو داود (4 / 5 - ط حمص) من حديث بريدة.(44/197)
إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا كَانَتْ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى خَيْرًا، وَالْعَكْسُ لاَ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتِ الْمَمْلُوكَةُ أَكْثَرَ مِسَاحَةً وَقِيمَةً وَأُجْرَةً، لاِحْتِمَال خَرَابِهَا فِي أَدْوَنِ الْمَحَلَّتَيْنِ لِدَنَاءَتِهَا وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (1) .
وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ، لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال، أَوْ يَكُونُ النَّاظِرُ مَعْزُولاً قَبْل الاِسْتِبْدَال، أَوْ إِذَا هَمَّ بِالاِسْتِبْدَال انْعَزَل هَل يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ؟ قَال الطَّرَسُوسِيُّ: إِنَّهُ لاَ نَقْل فِيهِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَبْدِل إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الاِسْتِبْدَال (2) .
وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَيْضًا: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا ضَعُفَتِ الأَْرْضُ الْمَوْقُوفَةُ عَنِ الاِسْتِغْلاَل وَالْقَيِّمُ يَجِدُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رَيْعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ رَيْعًا، ثُمَّ قَال: وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهُ تَعَطَّل الْوَقْفُ أَوْ لَمْ يَتَعَطَّل، وَكَذَا لَمْ يُجَوِّزِ الاِسْتِبْدَال فِي الْوَقْفِ، وَقَال قَاضِيخَانْ: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُرْسَلاً أَيْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَرْطُ الاِسْتِبْدَال فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ وَلَوْ كَانَ أَرْضُ الْوَقْفِ سَبِخَةً لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا لأَِنَّ سَبِيل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 388، والبحر الرائق 5 / 240 - 241، والإسعاف ص32.
(2) البحر الرائق 5 / 241.(44/197)
الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا لاَ يُبَاعُ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وَلاَيَةُ الاِسْتِبْدَال بِالشَّرْطِ وَبِدُونِ الشَّرْطِ لاَ تَثْبُتُ (1) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: 93 - أَلاَّ يَشْرُطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال وَلِلْوَقْفِ رَيْعٌ وَغَلاَّتٌ وَغَيْرُ مُعَطَّلٍ، وَلَكِنْ فِي الاِسْتِبْدَال نَفْعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَبَدَلُهُ خَيْرٌ مِنْهُ نَفْعًا وَرَيْعًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا لاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ عَلَى الأَْصَحِّ الْمُخْتَارِ كَذَا حَرَّرَهُ الْعَلاَّمَةُ قِنَالِي زَادَةَ (2) .
ثُمَّ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الأَْشْبَاهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَال الْعَامِرِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ مَسَائِل:
الأُْولَى: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الاِسْتِبْدَال.
الثَّانِيَةُ: إِذَا غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى صَارَ بَحْرًا فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَيَشْتَرِي الْمُتَوَلِّي بِهَا أَرْضًا بَدَلاً.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْحَدَهُ الْغَاصِبُ وَلاَ بَيِّنَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الْقِيمَةِ فَلِلْمُتَوَلِّي أَخْذُهَا لِيَشْتَرِيَ بِهَا بَدَلاً.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرْغَبَ إِنْسَانٌ فِيهِ بِبَدَلٍ أَكْثَرَ غَلَّةً وَأَحْسَنَ صُقْعًا فَيَجُوزُ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ، قَال صَاحِبُ النَّهْرِ: قَوْل قَارِئِ الْهِدَايَةِ: وَالْعَمَل عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ مَعَارَضٌ بِمَا قَالَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ:
__________
(1) البحر الرائق 5 / 223.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 387.(44/198)
نَحْنُ لاَ نُفْتِي بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ (1) .
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
94 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ آخَرُ: إِذْ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول فِي بَيْعِهِ وَاسْتِبْدَال غَيْرِهِ بِهِ، فَأَجَازُوا الاِسْتِبْدَال فِي الْمَنْقُول إِذَا لَمْ تُوجَدْ جِهَةٌ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ أَوْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ وَصَارَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ مِنْ أَجْلِهِ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَيْهِ: الْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ فِي سَبِيل اللَّهِ كَالْغَزْوِ وَالرِّبَاطِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ عُدِمَ بَيْتُ الْمَال فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ بَدَلَهُ سِلاَحٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ. وَكَذَلِكَ يُبَاعُ كُل حَبْسٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ - غَيْرَ عَقَارٍ - كَفَرَسٍ يُكْلَبُ أَيْ يُصَابُ بِدَاءِ الْكَلْبِ وَأَصْبَحَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِيمَا حُبِسَ عَلَيْهِ أَوْ كَثَوْبٍ يَخْلَقُ أَوْ عَبْدٍ يَهْرَمُ أَوْ كُتُبٍ تَبْلَى، وَإِذَا بِيعَ جُعِل ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ شِقْصِهِ - أَيْ فِي جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ - إِنْ لَمْ يُمْكِنْ شِرَاءُ الشَّيْءِ كَامِلاً، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تُصُدِّقَ بِالثَّمَنِ (2) ، كَمَا أَنَّ ذُكُورَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْغَزْوِ وَكَانَ فِيهَا مَا يَزِيدُ لِتَحَصُّل اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ إِذَا كَبُرَتْ وَأَصْبَحَتْ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا فَإِنَّهَا تُبَاعُ وَيُجْعَل ثَمَنُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 389.
(2) الشرح الصغير 2 / 307، والدسوقي 4 / 90 - 91.(44/198)
إِنَاثٍ لِتَحْصِيل اللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ مِنْهَا لِيَدُومَ الْوَقْفُ.
قَال الدَّرْدِيرُ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا مِنَ النَّعَامِ لِيُنْتَفَعَ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا فَنَسْلُهَا كَأَصْلِهَا فِي التَّحْبِيسِ فَمَا فَضَل مِنْ ذُكُورِ نَسْلِهَا عَنِ النَّزْوِ، وَمَا كَبُرَ مِنْ إِنَاثِهَا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُعَوَّضُ عَنْهُ إِنَاثٌ صِغَارٌ لِتَمَامِ النَّفْعِ وَتَكُونُ وَقْفًا كَأَصْلِهَا (1) .
أَمَّا الْعَقَارُ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ خَرِبَ وَصَارَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَارًا أَوْ حَوَانِيتَ أَوْ غَيْرَهَا كَمَا لاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ غَيْرِ خَرِبٍ، قَال مَالِكٌ: لاَ يُبَاعُ الْعَقَارُ الْمُحَبَّسُ وَلَوْ خَرِبَ، وَبَقَاءُ أَحْبَاسِ السَّلَفِ دَاثِرَةً دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَكِنْ رَوَى أَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا رَأَى بَيْعَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ وَيُجْعَل ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ (2) .
كَمَا أَجَازَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُعَاوَضَةَ الرَّبْعِ الْخَرِبِ، فَفِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل: يُمْنَعُ بَيْعُ مَا خَرِبَ مِنْ رَبْعِ الْحَبْسِ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ الْجَهْمِ: إِنَّمَا لَمْ يُبَعِ الرَّبْعُ الْمُحَبَّسُ إِذَا خَرِبَ، لأَِنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُصْلِحُهُ بِإِيجَارَتِهِ سِنِينَ، فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي مُعَاوَضَةِ الرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ،
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 307 - 308، والدسوقي 4 / 91.
(2) الشرح الصغير 2 / 308، والدسوقي 4 / 91.(44/199)
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ مِنَ الأَْرْضِ الْمُحَبَّسَةِ انْقَطَعَتْ مَنْفَعَتُهَا جُمْلَةً وَعَجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا وَكَرَائِهَا فَلاَ بَأْسَ بِالْمُعَاوَضَةِ فِيهَا بِمَكَانٍ يَكُونُ حَبْسًا مَكَانَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُكْمٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَالْغِبْطَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَيُسَجَّل ذَلِكَ وَيُشْهَدُ بِهِ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الْعَقَارِ لِضَرُورَةِ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ جَامِعٍ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: ظَاهِرُ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُل مَسْجِدٍ وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ. وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالأَْخَوَيْنِ وَأَصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ لِذَلِكَ، لاَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ.
كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِتَوْسِعَةِ مَقْبَرَةٍ أَوْ طَرِيقٍ لِمُرُورِ النَّاسِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِذَلِكَ وَلَوْ جَبْرًا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ أَوِ النَّاظِرِ، وَأَمَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ وُجُوبًا بِجَعْل ثَمَنِهِ فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ، وَلاَ يُجْبِرُهُمُ الْحَاكِمُ عَلَى الْجَعْل فِي حَبْسٍ غَيْرِهِ، أَيْ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِهِ.
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 42.(44/199)
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَا وُسِّعَ بِهِ الْمَسْجِدُ مِنَ الرِّبَاعِ فَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إِذَا كَانَ حَبْسًا عَلَى مُعَيَّنٍ، أَمَّا مَا كَانَ حَبْسًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَلاَ يَلْزَمُ تَعْوِيضُهُ أَيْ دَفْعُ ثَمَنٍ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِمُعَيَّنٍ، وَمَا يَحْصُل مِنَ الأَْجْرِ لِوَاقِفِهِ إِذَا دَخَل فِي الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِمَّا قَصَدَ تَحْبِيسَهُ لأَِجْلِهِ أَوَّلاً (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيل عُمِل بِهِ، وَفِي النَّوَادِرِ وَالْمَتِّيطِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِيهِ ثَمَّ رَغْبَةٌ - أَيْ ثَمَنًا مَرْغُوبًا فِيهِ - بِيعَ وَاشْتُرِيَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى وَعُمِل بِشَرْطِهِ (2) .
وَفِي فَتْحٍ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى سَبِيلٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شَرَطَ وَاقِفُهَا أَلاَّ تُبَاعَ وَلاَ تُسْتَبْدَل بِغَيْرِهَا، ثُمَّ اسْتَبْدَل نَاظِرُ السَّبِيل تِلْكَ الأَْرْضَ بِأَرْضٍ أُخْرَى مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ: بِأَنْ دَفَعَ أَرْضَ الْوَقْفِ لِرَجُلٍ مِنَ الْفَلاَّحِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الدِّيوَانِ، وَصَارَ النَّاظِرُ يَدْفَعُ مَصَارِيفَ الْوَقْفِ وَالْفَلاَّحُ يَدْفَعُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَرَاجِ، قَال الدَّرْدِيرُ: حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال وَأَطْلَقَ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 308، والدسوقي 4 / 91 - 92.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 87، ومواهب الجليل 6 / 33.(44/200)
الْحَاصِلَةُ مِنَ النَّاظِرِ بَاطِلَةً، وَيَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ رَدُّ أَرْضِ الدِّيوَانِ لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ أَرْضِ الْوَقْفِ بِعَيْنِهَا، وَمَنِ امْتَنَعَ فَعَلَى الْحَاكِمِ زَجْرُهُ (1) .
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
95 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الاِسْتِبْدَال تَفْصِيلٌ:
جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ الْمَكَانُ وَانْقَطَعَتِ الصَّلاَةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لأَِنَّ مَا زَال الْمِلْكُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالاِخْتِلاَل كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: الأَْصَحُّ جَوَازُ بَيْعِ حُصُرِ الْمَسْجِدِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إِذَا انْكَسَرَتْ أَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَلَمْ تَصْلُحْ إِلاَّ لِلإِْحْرَاقِ لِئَلاَّ تَضِيعَ وَيَضِيقَ الْمَكَانُ بِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَتَحْصِيل نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْ ثَمَنِهَا يَعُودُ إِلَى الْوَقْفِ أَوْلَى مِنْ ضَيَاعِهَا، وَلاَ تَدْخُل بِذَلِكَ تَحْتَ بَيْعِ الْوَقْفِ، لأَِنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ:
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 243.(44/200)
وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصِيرٌ لاَ غَيْرُهَا.
قَال: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ أَمْكَنَ وَإِلاَّ فَالأَْوَّل. وَكَالْحُصْرِ فِي ذَلِكَ نُحَاتَةُ الْخَشَبِ وَأَسْتَارُ الْكَعْبَةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا نَفْعٌ وَلاَ جَمَالٌ. وَالثَّانِي: لاَ يُبَاعُ مَا ذُكِرَ إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهِ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي طَبْخِ جِصٍّ أَوْ آجُرٍّ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَقَدْ تَقُومُ قِطْعَةٌ مِنَ الْجُذُوعِ مَقَامَ آجُرَّةٍ وَقَدْ تَقُومُ النُّحَاتَةُ مَقَامَ التُّرَابِ وَيُخْتَلَطُ بِهِ. قَال الأَْذْرُعِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَقَامَ التِّبْنِ الَّذِي يُسْتَعْمَل فِي الطِّينِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
أَمَّا الْحُصْرُ الْمَوْهُوبَةُ أَوِ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمَسْجِدِ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ لِلْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْجُذُوعُ وَمَا شَابَهَهَا إِذَا صَلَحَ لِغَيْرِ الإِْحْرَاقِ بِأَنْ أَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا أَلْوَاحٌ وَأَبْوَابٌ فَلاَ تُبَاعُ قَطْعًا.
فَإِنْ خِيفَ عَلَى الْمَسْجِدِ - كَأَنْ كَانَ آيِلاً لِلسُّقُوطِ - نُقِضَ وَبَنَى الْحَاكِمُ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَأَى ذَلِكَ وَإِلاَّ حَفِظَهُ، وَبِنَاؤُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، وَلاَ يَبْنِي بِهِ بِئْرًا كَمَا لاَ يَبْنِي بِنَقْضِ بِئْرٍ خَرِبَتْ مَسْجِدًا بَل بِئْرًا أُخْرَى مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ وَانْحَرَقَ(44/201)
الْوَادِي وَتَعَطَّلَتِ الْقَنْطَرَةُ وَاحْتِيجَ إِلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى جَازَ نَقْلُهَا إِلَى مَحَل الْحَاجَةِ، وَغَلَّةُ وَقْفِ الثَّغْرِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُلاَصِقُ مِنْ بِلاَدِنَا بِلاَدَ الْكُفَّارِ إِذَا حَصَل فِيهِ الأَْمْنُ يَحْفَظُهُ النَّاظِرُ لاِحْتِمَال عَوْدِهِ ثَغْرًا (1) .
وَإِنْ وَقَفَ نَخْلَةً فَجَفَّتْ أَوْ بَهِيمَةً فَزَمِنَتْ أَوْ جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّهُ لاَ يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِخِلاَفِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلاَةُ فِيهِ مَعَ خَرَابِهِ وَقَدْ يَعْمُرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا تُبَاعُ كَانَ الْحُكْمُ فِي ثَمَنِهِ حُكْمَ الْقِيمَةِ الَّتِي تُوجَدُ مِنْ مُتْلَفِ الْوَقْفِ.
فَمِنَ الأَْصْحَابِ مَنْ قَال إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ - كَانَ ثَمَنُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بَدَل مِلْكِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ الأَْظْهَرُ - اشْتَرَى بِهِ مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفِرَايِينِيُّ: يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهُ لِيَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهُ قَوْلاً وَاحِدًا (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 392.
(2) المهذب 1 / 450، 452، ومغني المحتاج 2 / 38، 391 - 392.(44/201)
الاِسْتِبْدَال بِالْمَوْقُوفِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
96 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال فِي الْوَقْفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْغَرَضِ الَّذِي وُقِفَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَمْ يَعُدْ صَالِحًا لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا، مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ مَسْجِدٍ.
قَالُوا: يَحْرُمُ بَيْعُ الْوَقْفِ وَلاَ يَصِحُّ وَلاَ تَصِحُّ الْمُنَاقَلَةُ بِهِ أَيْ إِبْدَالُهُ وَلَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ نَصًّا، إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّل مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ بِخَرَابٍ وَلَمْ يُوجَدْ فِي رَيْعِ الْوَقْفِ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَيُبَاعُ، أَوْ تَتَعَطَّل مَنَافِعُهُ الْمَقْصُودَةُ بِغَيْرِ الْخَرَابِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ نَصًّا. وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مَسْجِدًا وَتَعَطَّل نَفْعُهُ الْمَقْصُودُ لِضِيقِهِ عَلَى أَهْلِهِ نَصًّا وَتَعَذَّرَ تَوْسِعَتُهُ أَوْ تَعَذَّرَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِخَرَابِ مَحَلَّتِهِ أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَذِرًا، قَال الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال، وَفِي إِبْقَائِهِ كَذَلِكَ إِضَاعَةٌ، فَوَجَبَ الْحِفْظُ بِالْبَيْعِ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْغَرَضَ وَهُوَ الاِنْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، وَاتِّصَال الأَْبْدَال يَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ وَالْجُمُودُ عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ (1) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 514 - 515، وكشاف القناع 4 / 292.(44/202)
وَيَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ، وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، قَال فِي التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ جِذْعُ الْوَقْفِ عَلَى الاِنْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى الاِنْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسْبَلَةُ وَنَحْوُهَا جَائِزٌ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا وَجْهًا وَاحِدًا (1) .
وَالْفَرَسُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَزْوِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، وَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: الَّذِي يَعْجُفُ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُحَبَّسُ فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ يُبَاعُ ثُمَّ يُجْعَل ثَمَنُهُ فِي حَبِيسٍ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَل يَصِيرُ الْبَدَل وَقْفًا (2) .
كَمَا قَالُوا: وَمَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وُجُوبًا وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ بَيْعِهِ فَشَرْطُهُ فَاسِدٌ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَ الْمَوْقُوفِ - حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ - هُوَ الْحَاكِمُ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيل الْخَيْرَاتِ كَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّهُ فَسْخٌ لِعَقْدٍ لاَزِمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلاَفًا قَوِيًّا فَتُوقَفُ عَلَى الْحَاكِمِ كَالْفُسُوخِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ مَنْ يَؤُمُّ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَقُومُ بِهَذَا الْمَسْجِدِ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 293.
(2) كشاف القناع 4 / 294 - 295.(44/202)
وَنَحْوِهِ فَالَّذِي يَتَوَلَّى بَيْعَهُ نَاظِرُهُ الْخَاصُّ، وَالأَْحْوَطُ أَلاَّ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعَ عَلَى مَنْ سَيَنْتَقِل إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْجُودِينَ الآْنَ أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ، وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَل لِجِهَةِ الْوَقْفِ يَصِيرُ وَقْفًا، وَالاِحْتِيَاطُ وَقْفُهُ بِصِيغَةٍ جَدِيدَةٍ لِئَلاَّ يَنْقُضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لاَ يَرَى وَقْفِيَّتَهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ (1) ..
ثَالِثًا: رُجُوعُ الْوَقْفِ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ:
97 - ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَرِبَ مَا حَوْل الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِي عَنْهُ وَلَوْ مَعَ بَقَائِهِ عَامِرًا، وَكَذَا لَوْ خَرِبَ الْمَسْجِدُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعْمَرُ بِهِ وَقَدِ اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، وَعَلَّل مُحَمَّدٌ ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَاقِفَ عَيَّنَ الْوَقْفَ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ وَقَدِ انْقَطَعَتْ فَيَنْقَطِعُ هُوَ أَيْضًا، وَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، وَقِنْدِيلِهِ إِذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ، وَكَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ عَادَ الْكَفَنُ إِلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، وَكَهَدْيِ الإِْحْصَارِ إِذَا زَال الإِْحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 515، 516.(44/203)
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَل إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ بِإِذْنِ الْقَاضِي، فَيُبَاعُ نَقْضُهُ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى بَعْضِ الْمَسَاجِدِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا انْهَدَمَ الْوَقْفُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَانِي أَوْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ مَا خَرَجَ عَنِ الاِنْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ لِلْوَاقِفِ بِالْكُلِّيَّةِ كَحَانُوتٍ احْتَرَقَ، وَلاَ يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ، وَرِبَاطٍ وَحَوْضِ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمَّرُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مُعَدًّا لِلْغَلَّةِ فَلاَ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْقَاضُهُ وَتَبْقَى سَاحَتُهُ وَقْفًا تُؤَجَّرُ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ قَال مُحَمَّدٌ فِي الْفَرَسِ إِذَا جَعَلَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيل اللَّهِ فَصَارَ بِحَيْثُ لاَ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُرْكَبَ: فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرِسِهَا قَبْل جَفَافِهَا فَإِنَّ الْوَقْفَ يَنْقَطِعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 371، والهداية مع فتح القدير 6 / 236 - 237.(44/203)
وَيَنْقَلِبُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وَارِثِهِ.
أَمَّا الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لاَ يَعُودُ مِلْكًا بَل يَظَل وَقْفًا، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
النَّظَرُ عَلَى الْوَقْفِ:
98 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي النَّظَرِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِذَا جَعَل النَّظَرَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ اتُّبِعَ شَرْطُهُ، " لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَعَل وَقْفَهُ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ تَلِيهِ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ إِلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا " (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ مَصْرِفَ الْوَقْفِ يُتَبَّعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِيهِ (3) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحُزِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 391، والروضة 5 / 356، وكشاف القناع 4 / 296 - 297.
(2) أثر وقف عمر إلى ابنته حفصة. . أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6 / 161) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 409، وفتح القدير 6 / 230 - 231، وحاشية الدسوقي 4 / 88، والخرشي 7 / 92، ومغني المحتاج 2 / 393، والمهذب 1 / 452، والمغني 5 / 646 - 647.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 384، وفتح القدير 6 / 230، 231، ومغني المحتاج 2 / 393، والمغني 5 / 647.(44/204)
الْوَقْفَ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ فَلِسَ بَطَل الْوَقْفُ.
أَمَّا إِذَا حَازَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ، وَشَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ، وَأُجْبِرَ الْوَاقِفُ عَلَى أَنْ يَجْعَل النَّظَرَ لِغَيْرِهِ إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَل النَّظَرَ لِنَفْسِهِ (1) .
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا عَلَى الْوَقْفِ بِأَنْ أَغْفَل ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، لأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يُمْكِنُهُ تَوَلِّي النَّظَرِ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ رَشِيدٍ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ مَلَكَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، فَكَانَ نَظَرُهُ إِلَيْهِ كَمِلْكِهِ الْمُطْلَقِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ، وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 81، والحطاب 6 / 25، والخرشي 7 / 84، والزرقاني 7 / 79، ومنح الجليل 4 / 47.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 88، والخرشي 7 / 92، والمغني 5 / 647.(44/204)
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِلاَلٍ - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لِلْوَاقِفِ، ثُمَّ لِوَصِيِّهِ إِنْ كَانَ وَإِلاَّ فَلِلْحَاكِمِ، لأَِنَّ الْمُتَوَلِّيَ إِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلاَيَةَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيل أَنْ يَكُونَ لَهُ الْوِلاَيَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلاَيَةَ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلاَيَتِهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لِلْوَاقِفِ مَا دَامَ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إِلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلاَيَةٌ فِيهِ (1) .
وَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ وَلَمْ يَجْعَل وِلاَيَتَهُ لأَِحَدٍ جَعَل الْقَاضِي لَهُ قَيِّمًا وَلاَ يَجْعَلْهُ مِنَ الأَْجَانِبِ مَا دَامَ يَجِدُ مِنْ أَهْل بَيْتِ الْوَاقِفِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، إِمَّا لأَِنَّهُ أَشْفَقُ، أَوْ لأَِنَّهُ مَنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ نِسْبَةَ الْوَقْفِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَمِنَ الأَْجَانِبِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ النِّظَارَةَ لأَِحَدٍ فَالنَّظَرُ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ لَهُ النَّظَرَ الْعَامَّ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 384، وفتح القدير 6 / 231.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 410، 411، والإسعاف ص50.(44/205)
فِي الْوَقْفِ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْوَاقِفِ، لأَِنَّهُ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرُطْهُ بَقِيَ عَلَى نَظَرِهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْغَلَّةَ لَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصَلاَحِيَّةِ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ شُرُوطًا عِدَّةً، مِنْهَا مَا هُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّكْلِيفُ:
99 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، فَلاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الصَّبِيِّ وَلاَ الْمَجْنُونِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْضُ التَّفْصِيل:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَاظِرًا مُعَيَّنًا، وَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَلِي أَمْرَ الْوَقْفِ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ نَاظِرًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 389 - 393.
(2) المهذب 1 / 452.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 385، والبحر الرائق 5 / 244، وفتح القدير 6 / 242، وحاشية الدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 393، وروضة الطالبين 5 / 347، وكشاف القناع 4 / 270.(44/205)
عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي النَّظَرِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتَّبَعُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فِي تَخْصِيصِ نَاظِرٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَل الْوَاقِفُ نَاظِرًا فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ مُعَيَّنًا رَشِيدًا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَوَلِيُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ فَالْحَاكِمُ يُوَلِّي عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ جَمْعًا مَحْصُورًا كَأَوْلاَدِهِ أَوْ أَوْلاَدِ زَيْدٍ، وَيَنْظُرُ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا، أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ وَلِيُّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ سَفِيهًا. وَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى: يَنْظُرُ فِيهِ الْحَاكِمُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَوْصَى إِلَى صَبِيٍّ تَبْطُل فِي الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ هِيَ بَاطِلَةٌ مَا دَامَ صَغِيرًا فَإِذَا كَبُرَ تَكُونُ الْوِلاَيَةُ لَهُ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ فِي الْوِلاَيَةِ كَحُكْمِ الصَّغِيرِ قِيَاسًا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ الشَّلَبِيِّ: وَأَمَّا الإِْسْنَادُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88.
(2) كشاف القناع 4 / 244 - 255، 270، والمغني 5 / 647، والإنصاف 7 / 66 - 67.(44/206)
لِلصَّغِيرِ فَلاَ يَصِحُّ بِحَالٍ لاَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْلاَل بِالنَّظَرِ وَلاَ عَلَى سَبِيل الْمُشَارَكَةِ لِغَيْرِهِ، لأَِنَّ النَّظَرَ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ بَابِ الْوِلاَيَةِ، وَالصَّغِيرُ يُوَلَّى عَلَيْهِ لِقُصُورِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى عَلَى غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: رَأَيْتُ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلإِْسْتُرُوشِنِيِّ عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ قَال: الْقَاضِي إِذَا فَوَّضَ التَّوْلِيَةَ إِلَى صَبِيٍّ يَجُوزُ إِذَا كَانَ أَهْلاً لِلْحِفْظِ، وَتَكُونُ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ، كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ إِذْنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لاَ يَأْذَنُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَيْهِ فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِحَمْل مَا فِي الإِْسْعَافِ وَغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل لِلْحِفْظِ بِأَنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ، أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَتَكُونُ تَوْلِيَتُهُ مِنَ الْقَاضِي إِذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأَذَنَ لِلصَّغِيرِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَلِيُّهُ (1) .
وَكَمَا أَنَّ الْجُنُونَ يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ يَمْنَعُهَا بَقَاءً، فَلَوْ كَانَ نَاظِرًا ثُمَّ جُنَّ فَإِنَّهُ يُعْزَل عَنِ النِّظَارَةِ. لَكِنْ لَوْ عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَبَرِئَ مِنْ عِلَّتِهِ هَل يَعُودُ نَاظِرًا؟ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ النَّاظِرَ يَنْعَزِل بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ سَنَةً لاَ أَقَل، وَلَوْ بَرِئَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 385، والبحر الرائق 5 / 244 - 245.(44/206)
عَادَ إِلَيْهِ النَّظَرُ، قَال فِي النَّهْرِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ، أَمَّا مَنْصُوبُ الْقَاضِي فَلاَ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ الْوِلاَيَاتُ (2) ، قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ: لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ تَعُودُ إِلَيْهِ وِلاَيَةُ النِّظَارَةِ بِنَفْسِ الإِْفَاقَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ إِذَا كَانَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَدَالَةُ:
100 - يُشْتَرَطُ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ:
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْعَدَالَةِ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطَ أَوْلَوِيَّةٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ. فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ: وَلاَ يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ لأَِنَّهُ يُخِل بِالْمَقْصُودِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا فُسِّقَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 385.
(2) نهاية المحتاج 4 / 343.
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 345.(44/207)
اسْتَحَقَّ الْعَزْل وَلاَ يَنْعَزِل، كَالْقَاضِي إِذَا فُسِّقَ لاَ يَنْعَزِل عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ شَرْطًا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَوْ مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَطَّابِ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَل الْمُحَبِّسُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ النَّظَرُ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَرْتَضِيهِ. . وَالنَّاظِرُ عَلَى الْحَبْسِ إِذَا كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ وَيَسْتَمِرُّ، وَذَكَرَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَعْزِل نَاظِرًا إِلاَّ بِجُنْحَةٍ، وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ جُنْحَةٍ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ، قَال السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَال الأَْذْرُعِيُّ: تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ أَيْضًا، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالأَْوَّل أَوْجَهُ.
وَإِذَا فُسِّقَ النَّاظِرُ انْعَزَل وَمَتَى انْعَزَل بِالْفِسْقِ فَالنَّظَرُ لِلْحَاكِمِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 385، والبحر الرائق 5 / 244.
(2) الحطاب 6 / 37، وحاشية الدسوقي 4 / 88.
(3) مغني المحتاج 2 / 393، ونهاية المحتاج 5 / 396، وتحفة المحتاج 6 / 288.(44/207)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ فُسِّقَ النَّاظِرُ ثُمَّ صَارَ عَدْلاً فَإِنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ مَشْرُوطَةً فِي أَصْل الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَادَتْ وِلاَيَتُهُ وَإِلاَّ فَلاَ، أَفْتَى بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ وَوَافَقَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ. قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تَوْلِيَةُ النَّاظِرِ مِنَ الْحَاكِمِ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَلَّى الْحَاكِمُ نَاظِرًا مِنْ غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَانَ النَّظَرُ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ وِلاَيَتُهُ مِنْ حَاكِمٍ بِأَنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَوَلَّى الْحَاكِمُ مِنْهُمْ نَاظِرًا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ مِنْ نَاظِرٍ أَصْلِيٍّ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ عَلَى مَالٍ فَاشْتُرِطَ لَهَا الْعَدَالَةُ كَالْوِلاَيَةِ عَلَى مَال الْيَتِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً لَمْ تَصِحَّ وِلاَيَتُهُ وَأُزِيلَتْ يَدُهُ عَنِ الْوَقْفِ حِفْظًا لَهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَى أَهْلِيَّتِهِ عَادَ حَقُّهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا لَمْ تَصِحَّ وَأُزِيلَتْ يَدُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَيُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ عَدْلٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمَل بِالشَّرْطِ وَحِفْظِ الْوَقْفِ، وَلاَ تُزَال يَدُهُ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ حِفْظُهُ مِنْهُ فَتُزَال وِلاَيَتُهُ،
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 179، ونهاية المحتاج 5 / 397.(44/208)
لأَِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلاَيَةٍ لِفَاسِقٍ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ النَّاظِرُ أَجْنَبِيًّا أَوْ بَعْضَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ وَأَنَّهُ يَنْعَزِل إِذَا فُسِّقَ فِي أَثْنَاءِ وِلاَيَتِهِ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَنَفَاهَا الْفِسْقُ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِمَّا بِجَعْل الْوَاقِفِ النَّظَرَ لَهُ بِأَنْ قَال: وَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدِ وَنَظَرُهُ لَهُ أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ لِعَدَمِ نَاظِرٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ، عَدْلاً كَانَ أَوْ فَاسِقًا، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لأَِنَّهُ يَمْلِكُ الْوَقْفَ فَهُوَ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَقِيل: يُضَمُّ إِلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ، حِفْظًا لأَِصْل الْوَقْفِ عَنِ الْبَيْعِ أَوِ التَّضْيِيعِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْكِفَايَةُ:
101 - الْمَقْصُودُ بِالْكِفَايَةِ قُوَّةُ الشَّخْصِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الْكِفَايَةُ، لأَِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّاظِرُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ مُرَاعَاةُ حِفْظِ الْوَقْفِ.
فَإِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْزِعُ الْحَاكِمُ الْوَقْفَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ النَّظَرُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 270، 272، والإنصاف 7 / 67، والمغني 5 / 647، وشرح المنتهى 2 / 504.(44/208)
الْوَاقِفَ، وَقَضِيَّةُ كَلاَمِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَوَلاَّهُ اسْتِقْلاَلاً فَيُوَلِّيهِ مَنْ أَرَادَ وَأَنَّ النَّظَرَ لاَ يَنْتَقِل لِمَنْ بَعْدَهُ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لإِِنْسَانٍ بَعْدَ آخَرَ أَيْ إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ زَال الاِخْتِلاَل عَادَ نَظَرُهُ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَإِنِ اقْتَضَى كَلاَمُ الإِْمَامِ خِلاَفَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَّتِ الْكِفَايَةُ لاَ يُعْزَل، قَال الْبُهُوتِيُّ: يُضَمُّ إِلَى نَاظِرٍ ضَعِيفٍ قَوِيٌّ أَمِينٌ، لِيُحَصَّل الْمَقْصُودُ سَوَاءٌ كَانَ نَاظِرًا بِشَرْطٍ أَوْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُنْزَعُ النَّاظِرُ وُجُوبًا لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ عَاجِزًا.
وَفِي الإِْسْعَافِ: لاَ يُوَلَّى إِلاَّ أَمِينٌ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ لأَِنَّهُ يُخِل بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا تَوْلِيَةُ الْعَاجِزِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل بِهِ.
لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَرْطُ الأَْوْلَوِيَّةِ لاَ شَرْطُ صِحَّةٍ (2) .
وَكَلاَمُ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ اشْتِرَاطَ الْكِفَايَةِ أَيْضًا،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 393، ونهاية المحتاج 5 / 396 - 397، وكشاف القناع 4 / 270، وشرح المنتهى 2 / 504.
(2) ابن عابدين 3 / 385، والإسعاف ص49.(44/209)
فَقَدْ قَالُوا: النَّاظِرُ عَلَى الْحَبْسِ إِنْ كَانَ سَيِّئَ النَّظَرِ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَعْزِلُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَبَّسُ عَلَيْهِ مَالِكًا أَمْرَ نَفْسِهِ وَيَرْضَى بِهِ وَيَسْتَمِرُّ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الإِْسْلاَمُ:
102 - قَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الإِْسْلاَمُ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَانَتِ الْجِهَةُ كَمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (2) } ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ جَازَ شَرْطُ النَّظَرِ فِيهِ لِكَافِرٍ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ الْكُفَّارِ وَشَرَطَ النَّظَرَ لأَِحَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (3) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا وَأَنَّ الإِْسْلاَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَوْ كَانَ النَّاظِرُ ذِمِّيًّا وَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي لأَِيِّ سَبَبٍ ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ لاَ تَعُودُ الْوِلاَيَةُ إِلَيْهِ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الرَّمْلِيُّ: قِيَاسُ مَا فِي
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 37.
(2) سورة النساء / 141.
(3) كشاف القناع 4 / 270، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504.
(4) ابن عابدين 3 / 385، والإسعاف ص52، والبحر الرائق 5 / 245.(44/209)
الْوَصِيَّةِ وَالنِّكَاحِ صِحَّةُ شَرْطِ ذِمِّيٍّ النَّظَرَ لِذِمِّيٍّ عَدْلٍ فِي دِينِهِ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ ذِمِّيًّا لَكِنْ يُرَدُّ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ: الْقَوْل بِالرَّدِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَتَزْوِيجِ الذِّمِّيِّ مُوَلِّيَتَهُ أَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ فِيهِ وَازِعٌ طَبِيعِيٌّ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِينِ مُوَلِّيَتِهِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ بِخِلاَفِ الْوَقْفِ (1) .
وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْمَوَّاقِ قَال ابْنُ عَرَفَةَ: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، قَال الْمَتِّيطِيُّ: يَجْعَلُهُ لِمَنْ يُوثَقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ (2) .
أُجْرَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:
الْكَلاَمُ عَلَى أُجْرَةِ النَّاظِرِ يَشْمَل عِدَّةَ مَسَائِل؛ مِثْل أَحَقِّيَّتِهِ فِي الأُْجْرَةِ، وَفِي تَقْدِيرِهَا مِنَ الْوَاقِفِ أَوِ الْقَاضِي، وَفِي مِقْدَارِهَا، وَهَل يَسْتَحِقُّ أَجْرًا إِذَا لَمْ يَجْعَل لَهُ الْوَاقِفُ أَوِ الْقَاضِي أَجْرًا؟ وَهَكَذَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - أَحَقِّيَّةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ فِي الأُْجْرَةِ:
103 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّاظِرَ عَلَى الْوَقْفِ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً نَظِيرَ قِيَامِهِ بِإِدَارَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 396، وأسنى المطالب 2 / 471، وتحفة المحتاج 6 / 288 مع الحاشيتين.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 37.(44/210)
الْوَقْفِ وَالْعِنَايَةِ بِمَصَالِحِهِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ أَرْضَهُ بِخَيْبَرَ حَيْثُ قَال: " لاَ بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ ".
وَمَا فَعَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ جَعَل نَفَقَةَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ وَقَفَهُمْ مَعَ صَدَقَتِهِ لِيَقُومُوا بِعِمَارَتِهَا مِنَ الْغَلَّةِ (2) .
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى عَامِل الزَّكَاةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ " (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ دَالٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أُجْرَةِ الْعَامِل عَلَى الْوَقْفِ، وَمُرَادُ الْعَامِل فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْقَيِّمُ عَلَى الأَْرْضِ (5) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 264، والدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 380، 394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(2) البحر الرائق 5 / 264، والدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 380، 394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(3) الإسعاف ص53، والمغني لابن قدامة 5 / 605 - 606.
(4) حديث: " لا تقتسم ورثتي دينار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 406) من حديث أبي هريرة.
(5) فتح الباري 5 / 406.(44/210)
ب - تَقْدِيرُ أُجْرَةِ النَّاظِرِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنَ الأَْجْرِ:
96 - أُجْرَةُ النَّاظِرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ أَوْ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَل الْقَاضِي.
104 - فَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مَشْرُوطَةً مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ فَإِنَّ النَّاظِرَ يَأْخُذُ مَا شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ أَجْرِ مِثْلِهِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ لَهُ الْوَاقِفُ أَقَل مِنْ أَجْرِ الْمِثْل فَلِلْقَاضِي أَنْ يُكْمِل لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ بِطَلَبِهِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل النَّظَرَ لِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ أَجْرًا فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ لأَِنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ أُجْرَةً أَيْ عِوَضًا مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْل اخْتُصَّ بِهِ وَكَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهُ الْوَقْفُ مِنْ أُمَنَاءَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل فَكُلْفَةُ مَا
__________
(1) حاشة ابن عابدين 3 / 417، والبحر الرائق 5 / 264، ومغني المحتاج 2 / 394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 295، 503.
(2) مغني المحتاج 2 / 380، ونهاية المحتاج 5 / 364.(44/211)
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ مِنْ نَحْوِ أُمَنَاءَ وَعُمَّالٍ يَكُونُ عَلَى النَّاظِرِ يَصْرِفُهَا مِنَ الزِّيَادَةِ حَتَّى يَبْقَى لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ شَرَطَهُ لَهُ خَالِصًا (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا شَيْئًا وَتَرَكُوا ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ الْوَاقِفِ أَوِ الْقَاضِي (2) .
105 - وَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مُقَدَّرَةً مِنْ قِبَل الْقَاضِي بِأَنْ لَمْ يَجْعَل الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي لِلنَّاظِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْجْرَ الْمُقَدَّرَ مِنَ الْقَاضِي يَجِبُ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ زَائِدًا عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل يُمْنَعْ عَنْهُ الزَّائِدُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُتْرَكُ الأَْمْرُ لاِجْتِهَادِ الْقَاضِي. جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إِلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَإِنْ غَفَل الْمُحَبِّسُ عَنْ جَعْل النَّظَرِ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ، كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِلْقَاضِي فَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَنْ يَرْتَضِيهِ وَيَجْعَل لَهُ مِنْ كِرَاءِ الْوَقْفِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي سَدَادًا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَقَال ابْنُ فَتُّوحٍ: لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَل لِمَنْ قَدَّمَهُ لِلنَّظَرِ فِي الأَْحْبَاسِ رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُل شَهْرٍ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 271.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88، ومنح الجليل 4 / 64.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 417، والبحر الرائق مع هامشه منحة الخالق 5 / 264، والفروع لابن مفلح 4 / 595.(44/211)
بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرٍ ذَلِكَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَفَعَلَهُ الأَْئِمَّةُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أُجْرَةً فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَإِنْ فَعَل ضَمِنَ وَلَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ بِإِقْبَاضِهِ لِلْحَاكِمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَوْ رَفَعَ النَّاظِرُ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةً فَهُوَ كَمَا إِذَا تَبَرَّمَ الْوَلِيُّ بِحِفْظِ مَال الطِّفْل فَرَفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيُثْبِتَ لَهُ أُجْرَةً، قَالَهُ الْبَلْقِينِيُّ، قَال تِلْمِيذُهُ الْعِرَاقِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الأُْجْرَةَ مَعَ الْحَاجَةِ إِمَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لَهُ - كَمَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ - أَوِ الأَْقَل مِنْ نَفَقَتِهِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقِيل: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النَّفَقَةِ (2) .
ج - حُكْمُ مَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أَجْرًا:
106 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيَّنْ لِلنَّاظِرِ أَجْرٌ.
فَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا جَعَل لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةً مِثْل عَمَلِهِ فِي
__________
(1) الدسوقي 4 / 88، ومنح الجليل 4 / 64، والحطاب 6 / 40.
(2) نهاية المحتاج 5 / 398، ومغني المحتاج 2 / 394.(44/212)
الْوَقْفِ، فَيَأْخُذُهُ عَلَى أَنَّهُ أُجْرَةٌ (1) .
وَحَرَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْمَسْأَلَةَ فَقَال: فَتَحَرَّرَ أَنَّ الْوَاقِفَ إِنْ عَيَّنَ لَهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلاً عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَهُ، عَمِل أَوْ لَمْ يَعْمَل، حَيْثُ لَمْ يَشْرُطْهُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْوَاقِفُ وَعَيَّنَ لَهُ الْقَاضِي أُجْرَةَ مِثْلِهِ جَازَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ أَكْثَرَ يُمْنَعُ عَنْهُ الزَّائِدُ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، هَذَا إِنْ عَمِل، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل لاَ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً. وَبِمَثَلِهِ صَرَّحَ فِي الأَْشْبَاهِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.
وَإِنْ نَصَبَهُ الْقَاضِي وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ شَيْئًا يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ الْمَعْهُودُ أَنْ لاَ يَعْمَل إِلاَّ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، لأَِنَّ الْمَعْهُودَ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (2) .
لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ نَقَل عَنِ الْقُنْيَةِ رَأْيَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْصُوبِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أُجْرَةً.
الأَْوَّل: أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ نَصَبَ قَيِّمًا مُطْلَقًا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أَجْرًا فَسَعَى فِيهِ سَنَةً فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَيِّمَ يَسْتَحِقُّ مِثْل أَجْرِ سَعْيِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ لَهُ الْقَاضِي أَوْ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَجْرًا أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل الْقِوَامَةَ ظَاهِرًا إِلاَّ بِأَجْرٍ، وَالْمَعْهُودُ كَالْمَشْرُوطِ (3) .
__________
(1) منحة الخالق بهامش البحر الرائق 5 / 264.
(2) المرجع السابق.
(3) البحر الرائق 5 / 264.(44/212)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَشْرُطِ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ شَيْئًا لاَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ.
وَإِذَا رُفِعَ الأَْمْرُ لِلْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَعَ الْحَاجَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ في ف 105. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: آرَاءٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: أَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَأْكُل مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ بِالْمَعْرُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلْحَاقًا لَهُ بِعَامِل الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْخَطَّابِ (2) .
الثَّانِي: أَنَّ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَأْخُذَ الأَْقَل مِنْ أَجْرِ الْمِثْل أَوْ كِفَايَتِهِ، قِيَاسًا عَلَى وَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ هَذَا الأَْجْرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ (3) .
الثَّالِثُ: أَنَّ لِلنَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَجْرَ عَمَلِهِ الْحَقُّ فِي أَجْرِ الْمِثْل لأَِنَّهُ مُقَابِل عَمَلٍ يُؤَدِّيهِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئًا فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 472، ونهاية المحتاج 5 / 398.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 295، والفروع 4 / 325، وينظر الكافي 2 / 457.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 295، والفروع 4 / 324 - 325.(44/213)
عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (1) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْقَاضِي يَجْعَل لَهُ فِي الأَْحْبَاسِ أُجْرَةً، أَوْ كَمَا يَقُول ابْنُ فَتُّوحٍ رِزْقًا مَعْلُومًا فِي كُل شَهْرٍ بِاجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ (2) .
د - الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مِنْهَا النَّاظِرُ أُجْرَتَهُ:
107 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ابْنِ عَتَّابٍ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ النَّاظِرُ مِنْ أَجْرٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْرُوطًا مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ أَمْ مِنْ قِبَل الْقَاضِي يَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال: لِوَالِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً (3) .
وَقَال ابْنُ عَتَّابٍ عَنِ الْمُشَاوِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَكُونُ أَجْرُ النَّاظِرِ إِلاَّ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الأَْحْبَاسِ أُخِذَتْ مِنْهُ وَرَجَعَ بِأَجْرِهِ فِي بَيْتِ الْمَال فَإِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْهَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، قَال الْحَطَّابُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَل لَهُ فِيهَا شَيْءٌ لأَِنَّهُ تَغْيِيرٌ
__________
(1) الفروع 4 / 595، والاختيارات ص177، وكشاف القناع 4 / 271.
(2) مواهب الجليل 6 / 40.
(3) الإسعاف ص53، وحاشية ابن عابدين 3 / 417، والحطاب 6 / 40، ومغني المحتاج 2 / 394، والفروع 4 / 323 - 325، وشرح المنتهى 2 / 295.(44/213)
لِلْوَصَايَا، وَبِمِثْل قَوْل الْمُشَاوِرِ أَفْتَى ابْنُ وَرْدٍ (1) .
لَكِنَّ الدُّسُوقِيَّ ضَعَّفَ قَوْل ابْنِ عَتَّابٍ (2) .
هـ - الْعَمَل الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الأُْجْرَةَ:
108 - الْعَمَل الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّاظِرُ الأُْجْرَةَ هُوَ حِفْظُ الْوَقْفِ وَعِمَارَتُهُ وَإِيجَارُهُ، وَتَحْصِيل رَيْعِهِ مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَالاِجْتِهَادُ فِي تَنْمِيَتِهِ، وَصَرْفُهُ فِي جِهَاتِهِ مِنْ عِمَارَةٍ وَإِصْلاَحٍ وَإِعْطَاءٍ مُسْتَحَقٌّ لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ (3) .
وَلِلنَّاظِرِ الأُْجْرَةُ مِنْ وَقْتِ نَظَرِهِ فِيهِ لأَِنَّهَا فِي مُقَابَلَتِهِ، فَلاَ يُسْتَحَقُّ إِلاَّ بِقَدْرِهِ (4) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَمَتَى فَرَّطَ النَّاظِرُ سَقَطَ مِمَّا لَهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِقَدْرِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى الْوَقْفِ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَل، فَيُوَزَّعُ مَا قُدِّرَ لَهُ عَلَى مَا عَمِل وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَيَسْقُطُ قِسْطُ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ (5) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ نَازَعَ أَهْل الْوَقْفِ الْقَيِّمَ، وَقَالُوا لِلْحَاكِمِ: إِنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَل لَهُ الأَْجْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل وَهُوَ لاَ يَعْمَل شَيْئًا، لاَ يُكَلِّفُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْعَمَل مَا لاَ يَفْعَلُهُ الْوُلاَةُ، وَلَوْ حَلَّتْ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 40.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88.
(3) كشاف القناع 4 / 268، وروضة الطالبين 5 / 348، ومغني المحتاج 2 / 394.
(4) كشاف القناع 4 / 272، والإسعاف ص53 - 54، ومواهب الجليل 6 / 40.
(5) كشاف القناع 4 / 271.(44/214)
بِهِ آفَةٌ يُمْكِنُهُ مَعَهَا الأَْمْرُ وَالنَّهْيُ وَالأَْخْذُ وَالإِْعْطَاءُ فَلَهُ الأَْجْرُ وَإِلاَّ فَلاَ أَجْرَ لَهُ، وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لَوْ جَعَل ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ، فَهَذَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ (1) .
وَلَوْ وَقَفَ أَرْضَهُ عَلَى مَوَالِيهِ ثُمَّ مَاتَ، فَجَعَل الْقَاضِي لِلْوَقْفِ قَيِّمًا وَجَعَل لَهُ عُشْرَ الْغَلَّةِ، وَفِي الْوَقْفِ طَاحُونٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لاَ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْقَيِّمِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْفِ يَقْبِضُونَ غَلَّتَهَا مِنْهُ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْقَيِّمُ عُشْرَ غَلَّتِهَا، لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ الأُْجْرَةِ وَلاَ أُجْرَةَ بِدُونِ عَمَلٍ (2) .
و مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:
109 - مِنْ وَظِيفَةِ النَّاظِرِ تَحْصِيل غَلَّةِ الْوَقْفِ وَالإِْنْفَاقُ مِنْهَا عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ الْوَقْفُ وَالصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّاظِرِ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَمْ مِنْ قِبَل الْمُسْتَحِقِّينَ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَبُول قَوْل النَّاظِرِ فِي الإِْنْفَاقِ، هَل يُقْبَل دُونَ بَيِّنَةٍ أَمْ لاَ بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ هَل يُقْبَل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ دُونَ يَمِينٍ.
__________
(1) الإسعاف ص53 - 54.
(2) الإسعاف ص56.(44/214)
وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
110 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُ أَنْ يُحَاسِبَ الْقَاضِي مُتَوَلِّيَ الْوَقْفِ بِالتَّفْصِيل لِكُل مَا صَرَفَهُ مِنْ غَلاَّتِ الْوَقْفِ، بَل يَكْتَفِي مِنْهُ بِالإِْجْمَال لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالأَْمَانَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مُتَّهَمًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلاَ يَحْبِسُهُ، وَلَكِنْ يُحْضِرُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً وَيُخَوِّفُهُ وَيُهَدِّدُهُ إِنْ لَمْ يُفَسِّرْ، فَإِنْ فَعَل فَبِهَا، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي مِنْهُ بِالْيَمِينِ (1) .
وَنَقَل فِي الدُّرِّ عَنِ الْقُنْيَةِ: لَوِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُحَلِّفُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ وَلَوْ كَانَ أَمِينًا، كَالْمُودَعِ يَدَّعِي هَلاَكَ الْوَدِيعَةِ أَوْ رَدَّهَا.
وَقِيل: إِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَاضِي شَيْئًا مَعْلُومًا، وَقِيل: يُحَلَّفُ عَلَى كُل حَالٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الْمُتَوَلِّي الدَّفْعَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ.
فَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: قُبِل قَوْلُهُ بِلاَ يَمِينٍ (2) .
لَكِنْ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَالإِْسْعَافِ خِلاَفُ هَذَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ قَال الْمُتَوَلِّي: قَبَضْتُ الأُْجْرَةَ وَدَفَعْتُهَا إِلَى هَؤُلاَءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 425، والبحر الرائق 5 / 262.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.(44/215)
وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ كَالْمُودَعِ إِذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ، لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى. وَيَبْرَأُ مُسْتَأْجِرُ عَقَارِ الْوَقْفِ مِنَ الأُْجْرَةِ لاِعْتِرَافِ الْمُتَوَلِّي بِقَبْضِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال الْمُتَوَلِّي: قَبَضْتُ الأُْجْرَةَ وَضَاعَتْ مِنِّي أَوْ سُرِقَتْ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ عَنِ الْمُفْتِي أَبِي السُّعُودِ: أَنَّهُ أَفْتَى بِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إِنْ كَانَ مُفْسِدًا مُبَذِّرًا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بِصَرْفِ مَال الْوَقْفِ بِيَمِينِهِ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْل فِي الأَْمَانَةِ قَوْل الأَْمِينِ مَعَ يَمِينِهِ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَمْرًا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، فَحِينَئِذٍ تَزُول الأَْمَانَةُ وَتَظْهَرُ الْخِيَانَةُ فَلاَ يُصَدَّقُ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ كَذَلِكَ عَنْ فَتَاوِي الشَّلَبِيِّ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الَّتِي صَارَ بِهَا فَاسِقًا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا صَرَفَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَل يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ الثِّقَةِ بَعْدَ الْعَزْل؟ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِهِمُ
__________
(1) الإسعاف ص68 - 69، والبحر الرائق 5 / 263.(44/215)
الْقَبُول لأَِنَّ الْعَزْل لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ أَمِينًا (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْمُنْلاَ أَبِي السُّعُودِ تَفْصِيلاً آخَرَ حَيْثُ أَفْتَى بِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَوِ ادَّعَى الدَّفْعَ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ الَّذِي وَقَفَهُ عَلَى أَوْلاَدِهِ أَوْ أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ قُبِل قَوْلُهُ.
وَإِنِ ادَّعَى الدَّفْعَ لأَِرْبَابِ الْوَظَائِفِ كَالإِْمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ مِثْل مَنِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلْبِنَاءِ فِي الْجَامِعِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ثُمَّ ادَّعَى تَسْلِيمَ الأُْجْرَةِ إِلَيْهِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ هَذَا التَّفْصِيل التِّمِرْتَاشِيُّ حَيْثُ قَال إِنَّهُ تَفْصِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ (2) .
111 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ وَعُدِمَ كِتَابُ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ فِي الْجِهَاتِ الَّتِي يَصْرِفُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ أَمِينًا، وَإِذَا ادَّعَى النَّاظِرُ أَنَّهُ صَرَفَ الْغَلَّةَ صُدِّقَ إِنْ كَانَ أَمِينًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شُهُودٌ فِي أَصْل الْوَقْفِ فَلاَ يَصْرِفُ إِلاَّ بِاطِّلاَعِهِمْ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ بِدُونِهِمْ.
وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ صَرَفَ عَلَى الْوَقْفِ مَالاً مِنْ عِنْدِهِ صُدِّقَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا وَإِلاَّ فَيُحَلَّفُ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 425.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 5 / 404، وحاشية الدسوقي 4 / 89.(44/216)
وَفِي الْحَطَّابِ: سُئِل السَّيُورِيُّ عَنْ إِمَامِ مَسْجِدٍ وَمُؤَذِّنِهِ وَمُتَوَلِّي جَمِيعِ أُمُورِهِ قَامَ عَلَيْهِ مُحْتَسِبٌ بَعْدَ أَعْوَامٍ فِي غَلَّةِ حَوَانِيتَ لَهُ وَقَال: فَضَلَتْ فَضْلَةٌ عَمَّا أَنْفَقْتَ. فَقَال الْمُتَوَلِّي: لَمْ يَفْضُل شَيْءٌ فَقَال لَهُ الْمُحْتَسِبُ: بَيِّنْ لِلْقَاضِي صِفَةَ الْخُرُوجِ (أَيِ الإِْنْفَاقِ) فَقَال: لاَ يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ مَا تَوَلَّيْتُ وَلاَ قُمْتُ بِهِ، وَالْحَال أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ بِهِ إِلاَّ هُوَ، وَلَوْلاَ هُوَ لَضَاعَ، فَهَل يُقْبَل قَوْلُهُ أَوْ لاَ يُقْبَل؟ فَأَجَابَ السَّيُورِيُّ: الْقَوْل قَوْلُهُ فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ إِذَا كَانَ يُشْبِهُ مَا قَال، قَال الْبِرِزْلِيُّ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ دَخْلاً وَلاَ خَرْجًا إِلاَّ بِإِشْهَادٍ (1) .
112 - وَالشَّافِعِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ مُعَيَّنِينَ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو مَثَلاً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ.
فَلَوِ ادَّعَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ صَرْفَ الرَّيْعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَالْقَوْل قَوْلُهُمْ وَلَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ فَهَل لِلإِْمَامِ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ أَوْ لاَ؟ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا الْقَاضِي الإِْمَامُ أَبُو نَصْرٍ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ، أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل، وَيُصَدَّقُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَهُ عِنْدَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 40.(44/216)
الاِحْتِمَال، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْحَاكِمُ حَلَّفَهُ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَال الأَْذْرُعِيُّ إِنْفَاقُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَادَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ بِخِلاَفِ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ (1) .
113 - وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّاظِرِ الْمُتَبَرِّعِ بِنَظَرِهِ عَلَى الْوَقْفِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى النِّظَارَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يُقْبَل قَوْل النَّاظِرِ الْمُتَبَرِّعِ فِي الدَّفْعِ لِمُسْتَحَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ وَالْمُرْدَاوِيُّ: لاَ اعْتِرَاضَ لأَِهْل الْوَقْفِ عَلَى مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ أَمْرَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ الْمُوَلَّى أَمِينًا، وَلأَِهْل الْوَقْفِ مُسَاءَلَةُ النَّاظِرِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَى عَمَلِهِ مِنْ أُمُورِ وَقْفِهِمْ حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُهُمْ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ، وَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا مُسْتَوْفِيًا لِحِسَابِ أَمْوَال الأَْوْقَافِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ (3) .
قَال فِي الإِْنْصَافِ: مُبَاشَرَةُ الإِْمَامِ الْمُحَاسَبَةَ بِنَفْسِهِ كَنَصْبِ الإِْمَامِ الْحَاكِمَ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُ الْحُكْمَ فِي الْمَدِينَةِ بِنَفْسِهِ وَيُوَلِّي مَعَ الْبُعْدِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394.
(2) كشاف القناع 4 / 269.
(3) كشاف القناع 4 / 277، والإنصاف 7 / 68.
(4) الإنصاف 7 / 68.(44/217)
ز - عَزْل نَاظِرِ الْوَقْفِ وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ:
سَبَقَ بَيَانُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي النَّاظِرِ مَعَ بَيَانِ الْحُكْمِ فِي عَزْلِهِ إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَزْل:
أَوَّلاً: حَقُّ الْوَاقِفِ فِي عَزْل نَاظِرِ الْوَقْفِ:
114 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْوَاقِفِ فِي عَزْل مَنْ وَلاَّهُ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ ثُمَّ أَسْنَدَ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا شَرَطَ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ.
أ - فَإِذَا شَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ ثُمَّ أَسْنَدَ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ فَلَهُ عَزْلُهُ وَنَصْبُ غَيْرِهِ مَكَانَهُ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا يَعْزِل الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ وَيَنْصِبُ غَيْرَهُ (1) .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ وَالصَّوَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 399، وكشاف القناع 4 / 272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، والفروع 4 / 592، والإنصاف 7 / 60 - 61.(44/217)
وَنَبَّهَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ لِلْوَاقِفِ الْعَزْل بِلاَ سَبَبٍ، وَبِهِ صَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ فَقَال: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ وَلِلنَّاظِرِ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ عَزْل الْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ، لِمَصْلَحَةٍ وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل.
ثُمَّ قَال: وَأَفْتَى كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ رَزِينٍ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَزْل بِلاَ سَبَبٍ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ الْعَزْل، لأَِنَّ مِلْكَهُ زَال فَلاَ تَبْقَى وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِ (1) .
ب - أَمَّا إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِشَخْصٍ حَال الْوَقْفِ، كَأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ هَذَا الشَّيْءَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فُلاَنٌ نَاظِرًا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ، لأَِنَّهُ لاَ نَظَرَ لَهُ بَعْدَ شَرْطِهِ لَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَغْيِيرَ لِمَا شَرَطَهُ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَزَل النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ نَفْسَهُ أَوْ فُسِّقَ، فَتَوْلِيَةُ غَيْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ لاَ إِلَى الْوَاقِفِ، إِذْ لاَ نَظَرَ لَهُ بَعْدَ أَنْ جَعَل النَّظَرَ حَال الْوَقْفِ لِغَيْرِهِ (2) .
لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394 - 395، وروضة الطالبين 5 / 349، والإنصاف 7 / 60 - 61، والفروع 4 / 591.
(2) مغني المحتاج 2 / 395، ونهاية المحتاج 5 / 400، وكشاف القناع 4 / 272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، والفروع 4 / 592، والإنصاف 7 / 60.(44/218)
لِغَيْرِهِ، وَشَرَطَ أَنَّ لَهُ عَزْلَهُ كَانَ لَهُ عَزْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ تَكُونَ الْوِلاَيَةُ لَهُ وَلأَِوْلاَدِهِ فِي تَوْلِيَةِ الْقُوَّامِ وَعَزْلِهِمْ وَالاِسْتِبْدَال بِالْوَقْفِ، وَفِي كُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْوِلاَيَةِ، وَسَلَّمَ الْوَقْفَ إِلَى الْمُتَوَلِّي، جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ لِنَفْسِهِ وِلاَيَةَ عَزْل الْمُتَوَلِّي فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ بَعْدَمَا سَلَّمَهَا (أَيِ الْوِلاَيَةَ) إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَامَ أَهْل الْوَقْفِ (2) ، قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي، فَإِنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلاَ تَبْقَى لِلْوَاقِفِ وِلاَيَةٌ إِلاَّ بِالشَّرْطِ (4) .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْوِلاَيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَاقِفِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ، لأَِنَّ التَّسْلِيمَ إِلَى الْمُتَوَلِّي لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُ، قَال الْمِرْغِينَانِيُّ: وَهُوَ قَوْل هِلاَلٍ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا وَلَّى الْوَاقِفُ غَيْرَهُ كَانَ وَكِيلاً عَنْهُ وَلَهُ عَزْلُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّ لَهُ عَزْلَهُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ (5) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 272، وشرح منتهى الإرادات 2 / 504، ومطالب أولي النهى 4 / 329.
(2) الإسعاف ص49.
(3) البحر الرائق 5 / 244.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 412.
(5) الإسعاف ص49، والهداية وشروحها فتح القدير والعناية 6 / 230 - 231.(44/218)
قَال الرَّمْلِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ عَزْلُهُ بِجُنْحَةٍ وَبِغَيْرِ جُنْحَةٍ، لأَِنَّهُ وَكَيْلٌ وَلِلْمُوَكِّل عَزْل الْوَكِيل مُطْلَقًا (1) .
قَال فِي الدُّرِّ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ. وَفِي الْبَحْرِ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُتْبَعُ شَرْطُهُ فِي تَعْيِينِ النَّاظِرِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فُلاَنٌ نَاظِرَ وَقْفِهِ اتُّبِعَ شَرْطُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ لِغَيْرِهِ، قَال الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ: وَلِلْوَاقِفِ عَزْلُهُ وَلَوْ لِغَيْرِ جُنْحَةٍ (3) وَكَذَا نَصَّ ابْنُ عَرَفَةَ، قَال: لَوْ قَدَّمَ الْمُحَبِّسُ مَنْ رَأَى لِذَلِكَ أَهْلاً فَلَهُ عَزْلُهُ وَاسْتِبْدَالُهُ، وَقَال الْحَطَّابُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ النَّوَازِل وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ فِيهَا: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ حَبَّسَ شَيْئًا وَجَعَلَهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ عَزْلَهُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِمُوجِبٍ يَظْهَرُ، كَالْقَاضِي إِذَا قَدَّمَ أَحَدًا (4) .
ثَانِيًا: حَقُّ الْقَاضِي فِي الْعَزْل:
115 - لِلْقَاضِي حَقُّ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ
__________
(1) منحة الخالق لابن عابدين بهامش البحر الرائق 5 / 244.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 312، والبحر الرائق 5 / 244.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 88.
(4) مواهب الجليل 6 / 39.(44/219)
يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ عَزْل النَّاظِرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ النَّظَرُ مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ الَّذِي تَثْبُتُ خِيَانَتُهُ (1) . أَوِ الَّذِي لَمْ يَتَوَافَرْ فِيهِ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي النَّاظِرِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ تَفْصِيلٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ بِلاَ سَبَبٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي أَسْنَدَ إِلَيْهِ النِّظَارَةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْلِهِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ الْقَاضِي إِلاَّ بِسَبَبٍ، مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَزْل النَّاظِرِ بِلاَ خِيَانَةٍ (3) .
ح - تَعَدُّدُ نُظَّارِ الْوَقْفِ:
116 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 384 - 385، ومواهب الجليل 6 / 37، وحاشية الدسوقي 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 393.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 386، والبحر الرائق 5 / 245، 252 - 254، والدسوقي 4 / 88، ونهاية المحتاج 5 / 399.
(3) الحطاب 6 / 40، والدسوقي 4 / 88، وكشاف القناع 4 / 272، ومطالب أولي النهى 4 / 330، وحاشية ابن عابدين 3 / 386، 419، والبحر الرائق 5 / 254، ونهاية المحتاج 5 / 399.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 409، ومغني المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 4 / 272، والعدوي على الخرشي 8 / 193، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 430.(44/219)
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَسْنَدَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لاِثْنَيْنِ، هَل يَصِحُّ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ دُونَ الآْخَرِ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ أَسْنَدَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لاِثْنَيْنِ فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُسْتَقِلًّا عَنِ الآْخَرِ، لأََنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، لَكِنْ إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحَّ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا (1) .
وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ عِمَارَةَ الْوَقْفِ لِوَاحِدٍ، وَجَعَل تَحْصِيل رَيْعِهِ لِلآْخَرِ صَحَّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ؛ لِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى شَرْطِهِ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ هُوَ الأَْرْشَدَ مِنْ أَوْلاَدِهِ فَالأَْرْشَدَ، فَأَثْبَتَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الأَْرْشَدُ؛ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي النَّظَرِ إِنْ وُجِدَتِ الأَْهْلِيَّةُ فِيهِمْ، وَلاَ يَسْتَقِل أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالتَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الأَْرْشَدِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ وَبَقِيَ أَصْل الرُّشْدِ، وَإِنْ وُجِدَتِ الأَْرْشَدِيَّةُ فِي بَعْضٍ مِنْهُمُ اخْتُصَّ بِالنَّظَرِ (3) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ
__________
(1) الإسعاف ص50، ومغني المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 4 / 272.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 505.
(3) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 398 - 399.(44/220)
كُلٌّ مِنَ النَّاظِرَيْنِ بِالتَّصَرُّفِ مُنْفَرِدًا، جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوْ جَعَل الْوَاقِفُ وِلاَيَةَ الْوَقْفِ إِلَى رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ انْفِرَادُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَعَل النَّظَرَ لِرَجُلٍ ثُمَّ جَعَل رَجُلاً آخَرَ وَصِيًّا كَانَا نَاظِرَيْنِ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ شَرِيكًا لِلْمُتَوَلِّي فِي أَمْرِ الْوَقْفِ، إِلاَّ أَنْ يُخَصِّصَ بِأَنْ يَقُول: وَقَفْتُ أَرْضِي عَلَى كَذَا وَجَعَلْتُ وِلاَيَتَهَا لِفُلاَنٍ، وَجَعَلْتُ فُلاَنًا وَصِيِّي فِي تَرِكَاتِي وَجَمِيعِ أُمُورِي، فَحِينَئِذٍ يَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ، نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ عَنِ الإِْسْعَافِ، ثُمَّ قَال: وَلَعَل وَجْهَهُ أَنَّ تَخْصِيصَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ، ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنَّ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل عَنِ الذَّخِيرَةِ: وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ فِي الْوَقْفِ وَأَوْصَى إِلَى آخَرَ فِي وَلَدِهِ، كَانَا وَصِيَّيْنِ فِيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (2) .
وَقَالُوا: لَوْ وُجِدَ كِتَابَانِ لِوَقْفٍ وَاحِدٍ، فِي كُل كِتَابٍ اسْمُ مُتَوَلٍّ، وَتَارِيخُ الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ؛ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ (3) .
وَلَوْ جَعَل الْوَاقِفُ الْوِلاَيَةَ لأَِفْضَل أَوْلاَدِهِ وَكَانُوا فِي الْفَضْل سَوَاءً فَلاَ يَشْتَرِكُونَ فِي
__________
(1) الإسعاف ص50.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 409، 410، والإسعاف ص51.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 410.(44/220)
الْوِلاَيَةِ وَإِنَّمَا تَكُونُ لأَِكْبَرِهِمْ سِنًّا (1) .
وَلَوْ جَعَل النَّظَرَ إِلَى رَجُلَيْنِ فَقَبِل أَحَدُهُمَا وَرَدَّ الآْخَرُ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَامَ بِهِ مَانِعٌ، أَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ آخَرَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
6 -
تَفْوِيضُ نَاظِرِ الْوَقْفِ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ:
117 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَوْ يُوصِيَ بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ جَعَل لَهُ ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ فِيهِ (3) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَعْضُ التَّفْصِيل، بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ تَفْوِيضُ الْوَاقِفِ لِلْمُتَوَلِّي عَامًّا، أَيْ إِنَّ الْوَاقِفَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَجَعَل لَهُ أَنْ يُسْنِدَ النَّظَرَ وَيُوصِيَ بِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ فِي حَال صِحَّتِهِ وَفِي حَال مَرَضِهِ الْمُتَّصِل بِالْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّفْوِيضُ لَهُ عَامًّا فَلَمْ يَجْعَل لَهُ الْوَاقِفُ
__________
(1) الإسعاف ص51.
(2) الإسعاف ص50، ومغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 398، ومطالب أولي النهى 4 / 331، والإنصاف 7 / 60 - 61.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 411 ت412، وحاشية الدسوقي 4 / 88، والحطاب 6 / 38، ونهاية المحتاج 5 / 399، ومغني المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 4 / 272.(44/221)
أَنْ يُسْنِدَ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ الْمُتَوَلِّي النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِ فِي حَال صِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْوَاقِفُ: جَعَلْتُ النَّظَرَ لِفُلاَنٍ، وَلَهُ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ إِلَى مَنْ أَرَادَ، جَازَ ذَلِكَ، وَهَل يَزُول نَظَرُ الْمُفَوِّضِ، أَوْ يَكُونُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ وَكِيلاً عَنِ الْمُفَوِّضِ؟ رَأْيَانِ: الأَْوَّل، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَزُول نَظَرُ الْمُفَوِّضِ، فَلَوْ أَسْنَدَ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ النَّظَرَ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ، فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ وَلاَ لِلْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ عَزْلُهُ وَلاَ مُشَارَكَتُهُ، وَلاَ يَعُودُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لأَِنَّ التَّفْوِيضَ بِمَثَابَةِ التَّمْلِيكِ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ لِلإِْمَامِ السُّبْكِيِّ -: أَنَّهُ يَكُونُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ وَكِيلاً عَنِ الْمُفَوِّضِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُفَوِّضُ لاَ يَبْقَى النَّظَرُ لِلْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ يَعُودُ النَّظَرُ لِلْمُفَوِّضِ، لأَِنَّهُ كَالْوَكِيل (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ النَّاظِرَ الْمَشْرُوطَ لَهُ النَّظَرُ مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ نَصْبُ وَكِيلٍ عَنْهُ وَعَزْلُهُ؛ لأَِصَالَةِ وِلاَيَتِهِ، أَشْبَهَ الْمُتَصَرِّفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 411 - 412.
(2) مغني المحتاج 2 / 394، ونهاية المحتاج 5 / 399، وتحفة المحتاج 6 / 291.(44/221)
فِي مَال نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّاظِرُ الْمَشْرُوطُ غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصْبُ نَاظِرٍ وَلاَ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا لَهُ أَنْ يَنْصِبَ مَنْ شَاءَ أَوْ يُوصِيَ (1) .
انْتِهَاءُ الْوَقْفِ:
118 - مِنْ صُوَرِ انْتِهَاءِ الْوَقْفِ عَوْدَةُ الْمَوْقُوفِ إِلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعَطُّل الْمَوْقُوفِ وَتَخَرُّبِهِ وَعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ، كَمَا يَقُول بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (ر: ف 97) ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ، كَمَا يَقُول بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: ف47) ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَقْفِ الْمُؤَقَّتِ الَّذِي أَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ (ر: ف 18) ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسَائِل فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 272.(44/222)
وَكَالَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الْحِفْظُ، وَمِنْهُ الْوَكِيل، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَافِظِ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ، يُقَال: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، أَيْ فَوَّضْنَا أُمُورَنَا.
وَالتَّوْكِيل: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْغَيْرِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيل وَكِيلاً؛ لأَِنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الأَْمْرُ. (1)
وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ، " اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ " (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ - تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا - فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الاثير.
(2) حديث: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " أخرجه أحمد (5 / 42) من حديث أبي بكرة.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 400، واللباب شرح الكتاب 2 / 138.(45/5)
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ - غَيْرِ ذِي إِمْرَةٍ وَلاَ عِبَادَةٍ - لِغَيْرِهِ فِيهِ، غَيْرَ مَشْرُوطٍ بِمَوْتِهِ. (1)
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ. (2)
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - النِّيَابَةُ
2 - النِّيَابَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَابَ الشَّيْءُ نَوْبًا: قَرُبَ، وَنَابَ عَنْهُ نِيَابَةً قَامَ مَقَامَهُ. (4)
وَالنِّيَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قِيَامُ الإِْنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْل أَمْرٍ. (5)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَكَالَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ إِنَّهُمَا
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 181 وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 125.
(2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5 / 14، مغني المحتاج 2 / 217، حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 400.
(3) كشاف القناع 3 / 461 وانظر الإنصاف 5 / 353.
(4) المعجم الوسيط، والمصباح المنير ولسان العرب.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 17و3 / 377، وقواعد الفقه للبركتي ص 519.(45/5)
مُتَرَادِفَانِ. (1)
ب - الْوِلاَيَةُ:
3 - الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ.
وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
وَوَلِيُ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِهِ دُونَهُ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوِلاَيَةُ تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى. (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْوِلاَيَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَنِيَابَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ إِجْبَارِيَّةٌ.
ج - الإِْيصَاءُ:
الإِْيصَاءُ فِي اللُّغَةِ، مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَال: أَوْصَى فُلاَنًا، وَأَوْصَى إِلَيْهِ: جَعَلَهُ وَصِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ وَمَالِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ. (5)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 377.
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 296 ط بولاق.
(4) المعجم الوسيط وتهذيب الأسماء واللغات.
(5) فتاوى قاضيخان 3 / 513 بهامش الفتاوى الهندية، ومغني المحتاج 3 / 73.(45/6)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالإِْيصَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ أَثْنَاءَ الْحَيَاةِ، أَمَّا الإِْيصَاءُ فَبَعْدَ الْوَفَاةِ.
د - الْقِوَامَةُ:
5 - الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ عَلَى الأَْمْرِ أَوِ الْمَال، أَوْ وِلاَيَةُ الأَْمْرِ. (1) .
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْقِوَامَةِ فِي مَعَانٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، مِنْهَا:
وِلاَيَةٌ يُفَوِّضُهَا الْقَاضِي إِلَى شَخْصٍ رَاشِدٍ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِ الْمَالِيَّةِ.
وَمِنْهَا: وِلاَيَةٌ يَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ. (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالْقَوَامَةِ، أَنَّ الْوَكَالَةَ نِيَابَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، أَمَّا الْقِوَامَةُ فَقَدْ تَكُونُ قَضَائِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَكَالَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ. (3)
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 4 / 16، ابن عابدين 3 / 431، الفتاوى الهندية 6 / 214، القليوبي 3 / 177، تفسير القرطبي 5 / 169.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 509، وتبيين الحقائق 4 / 254، وتكملة فتح القدير 8 / 3، وحاشية الدسوقي 3 / 339، ونهاية المحتاج 5 / 15، والمغنى لابن قدامة 5 / 201.(45/6)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْقُرْآنُ: فَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (1) } .، وَذَاكَ كَانَ تَوْكِيلاً، وَقَدْ قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِلاَ نَكِيرٍ. (2)
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (3) } . . فَهَذِهِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ الْقَائِل بِأَنَّ الْحَكَمَ وَكِيلٌ عَنِ الزَّوْجَيْنِ. (4)
أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ (5) .
__________
(1) سورة الكهف / 19
(2) المغني 5 / 87 وتكملة فتح القدير 8 / 3 ـ 4.
(3) سورة النساء / 35
(4) تفسير ابن كثير 1 / 493، ومغني المحتاج 2 / 217و3 / 261.
(5) حديث عروة بن أبي الجعد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632 ـ ط السلفية) .(45/7)
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. (1)
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَأُرْبِحَ فِيهَا دِينَارًا فَاشْتَرَى أُخْرَى مَكَانَهَا، فَجَاءَ بِالأُْضْحِيَّةِ وَالدِّينَارِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: ضَحِّ بِالشَّاةِ وَتَصَدَّقْ بِالدِّينَارِ (2) .، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي شِرَاءِ الأُْضْحِيَّةِ وَتَقْسِيمِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَال. (3)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَال: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ (4) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 4 ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 5، ومغني المحتاج 2 / 217 والمغني 5 / 87.
(2) حديث حكيم بن حزام " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 549) وأعله بالانقطاع بين حكيم بن حزام والراوي عنه.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 4، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 5 ـ 6.
(4) حديث جابر بن عبد الله: " أردت الخروج إلى خيبر. . " أخرجه أبو داود (4 / 47 ـ 48) ، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 51) .(45/7)
وَأَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُوكِل وَيُقِيمَ عَامِلاً عَلَى الصَّدَقَةِ فِي قَبْضِهَا وَدَفْعِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَإِلَى مَنْ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ بِأَمَارَةٍ. (1)
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَال: " تَزَوَّجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلاَلٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلاَلٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُول بَيْنَهُمَا " (2) . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي النِّكَاحِ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ. (3)
أَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا مُنْذُ عَصْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (4)
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ لِكُل وَاحِدٍ فِعْل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا. (5)
قَال قَاضِي زَادَهْ: لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الأَْحْوَالِ، بِأَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 87.
(2) حديث أبي رافع " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة. . " أخرجه الترمذي (3 / 19) وقال حديث حسن.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 4، والمغني 5 / 87، ومغني المحتاج 2 / 217 ونيل الأوطار 6 / 3.
(4) تكملة فتح القدير 8 / 4، والمغني 5 / 87، ومغني المحتاج 2 / 217.
(5) المغني 5 / 87، ومغني المحتاج 2 / 217.(45/8)
كَانَ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ رَجُلاً ذَا وَجَاهَةٍ لاَ يَتَوَلَّى الأُْمُورَ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُوكِل غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ التَّوْكِيل لَزِمَ الْحَرَجُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ. (1)
قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) } .
أَرْكَانُ الْوَكَالَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْوَكَالَةِ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ (الْمُوَكِّل وَالْوَكِيلُ، وَمَحَل الْعَقْدِ) الْمُوَكَّل فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْوَكَالَةِ هُوَ: الإِْيجَابُ وَالْقَبُولُ، لأَِنَّ وُجُودَ هَذَا الرُّكْنِ يَسْتَلْزِمُ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ الرُّكْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ، وَهَذَا طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْعَقْدِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
8 - الصِّيغَةُ هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَيُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ التَّرَاضِي الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى.
وَالْوَكَالَةُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 5.
(2) سورة الحج / 78.
(3) بدائع الصنائع 6 / 20، والشرح الصغير 2 / 3، ونهاية المحتاج 5 / 16، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141، وكشاف القناع 3 / 461.(45/8)
فَافْتَقَرَ إِلَى رِضَاهُمَا.
وَلِلتَّفْصِيل فِي تَعْرِيفِ الصِّيغَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَحْكَامِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صِيغَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَقْد ف 6 - 27) .
أَوَّلاً: الإِْيجَابُ:
تَعْرِيفُهُ:
9 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الإِْيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالإِْيجَابُ هُنَا كُل مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُوَكِّل وَيَدُل عَلَى إِذْنِهِ بِالتَّوْكِيل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْيجَابَ هُوَ مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى رَغْبَتِهِ فِي إِنْشَاءِ الْعَقْدِ. (1)
بِمَ يَتَحَقَّقُ الإِْيجَابُ:
يَتَحَقَّقُ الإِْيجَابُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالْوَكَالَةِ سَوَاءٌ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ أَوْ بِغَيْرِهَا.
أ - الإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ:
10 - يَتَحَقَّقُ الإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الدَّال عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ كَوَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 20، والشرح الصغير 2 / 3، ونهاية المحتاج 5 / 16، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141، وكشاف القناع 3 / 461.(45/9)
كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الإِْذْنِ بِالتَّوْكِيلِ، كَأَنْ يَأْمُرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِفِعْل شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ أَيْ يَقُول لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فِعْل كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِيهِ. (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّل عُرْوَةَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَخْبَرَ عَنْ أَهْل الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ (2) } . وَلأَِنَّ أَيَّ لَفْظٍ يَدُل عَلَى الإِْذْنِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْل الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ. (3)
وَلأَِنَّ الشَّخْصَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَال غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَالرِّضَا يَكُونُ بِكُل مَا يَدُل عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. (4)
وَالإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُضُورِ الْوَكِيل مُشَافَهَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي غِيَابِ الْوَكِيل مُرَاسَلَةً.
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: الإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ عِنْدَ حُضُورِ الْوَكِيل مُشَافَهَةً:
__________
(1) البحر الرائق 7 / 54، ونهاية المحتاج 5 / 27، والمغني 5 / 8، وشرح منتهى الإرادات 2 / 461، وحاشية الدسوقي 3 / 380، والخرشي 6 / 70.
(2) سورة الكهف / 19
(3) المغني مع الشرح الكبير 5 / 209.
(4) نهاية المحتاج 5 / 27، ومغني المحتاج 2 / 22.(45/9)
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الإِْيجَابُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِلَفْظِ: وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كَذَا، أَوْ: أَنَبْتُكَ فِيهِ، أَوْ: أَذِنْتُ لَكَ فِيهِ، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي كَذَا، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ. (1)
كَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الإِْيجَابَ يَتَحَقَّقُ بِلَفْظِ الأَْمْرِ، مِثْل: بِعْهُ، أَوْ: أَعْتِقْهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِمِثْل هَذِهِ الأَْلْفَاظِ، حَيْثُ قَالُوا: الْوَكَالَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهَا كَوَكَّلْتُكَ وَأَشْبَاهِهِ، رَوَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قَال الرَّجُل لِغَيْرِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَبِيعَ دَارِي هَذِهِ، أَوْ: هَوَيْتُ، أَوْ: رَضِيتُ، أَوْ: شِئْتُ، أَوْ: أَرَدْتُ، فَذَاكَ تَوْكِيلٌ وَأَمْرٌ بِالْبَيْعِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال: سَأُوَكِّلُكَ، لَمْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 564 ـ 565، وبدائع الصنائع 6 / 20، ونهاية المحتاج 5 / 27، والحاوي للمارودي 8 / 187، وكشاف القناع 3 / 461، والإنصاف 5 / 353، وشرح الخرشي 6 / 70.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 527، والإنصاف 5 / 353، وروضة الطالبين 4 / 300، والخرشي 6 / 70.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 4، والفتاوى الهندية 3 / 564 ـ 565.(45/10)
يَصِحَّ، لأَِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَكَذَا لَوْ قَال: أُوَكِّلُكَ، لأَِنَّهُ مَوْعِدٌ.
كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال: قَدْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ، فَلاَ يَصِحُّ عَقْدُ الْوَكَالَةِ، لاِحْتِمَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَوِّلاً عَلَى رَأْيِهِ أَوْ مَعُونَتِهِ أَوْ نِيَابَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَال: قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، أَوِ اسْتَكْفَيْتُ، أَوْ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا أَحَدَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّوْكِيل. (1)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ فِي غِيَابِ الْوَكِيل مُرَاسَلَةً:
12 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الإِْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ بِالرِّسَالَةِ. (2)
وَصُورَةُ التَّوْكِيل بِالرِّسَالَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: خُذْ هَذَا الْمَال لِفُلاَنٍ وَلْيَبِعْهُ، أَوْ يَقُول: اذْهَبْ إِلَى فُلاَنٍ وَأَخْبِرْهُ أَنْ يَبِيعَ مَالِي الْفُلاَنِيَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَبَاعَ الآْخَرُ الْمَال بَعْدَ بُلُوغِ هَذَا الْخَبَرِ إِلَيْهِ، كَانَتِ الْوَكَالَةُ وَالْبَيْعُ صَحِيحَيْنِ.
كَذَلِكَ لَوْ وَكَّل أَحَدٌ شَخْصًا غَائِبًا بِأَمْرٍ مَا
__________
(1) الحاوي للماوردي 8 / 186 ـ 187، ومغني المحتاج 2 / 222.
(2) شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 3 / 527، والخرشي 6 / 70، ومغني المحتاج 2 / 223، وروضة الطالبين 4 / 300.(45/10)
فَبَلَّغَهُ أَحَدٌ خَبَرَ الْوَكَالَةِ وَقَبِل الآْخَرُ، انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ عَادِلاً أَمْ مَسْتُورَ الْحَالِ، أَمْ كَانَ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ أَأَعْطَى الْخَبَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ أُخْبِرَ بِهِ رِسَالَةً مِنْ طَرَفِ الآْمِرِ، وَسَوَاءٌ أَصَدَّقَ الْغَائِبُ هَذَا الْخَبَرَ أَمْ كَذَّبَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَكِيلاً فِي الأَْحْوَال الْمَذْكُورَةِ. (1)
ب - الإِْيجَابُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ:
مِنْ صُوَرِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:
الصُّورَةُ الأُْولَى: الْكِتَابَةُ:
13: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتَحَقَّقُ بِالْخَطِّ أَوِ الْكِتَابَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ فِعْلٌ يَدُل عَلَى الْمَعْنَى.
وَمَثَّل الْحَنَفِيَّةُ بِذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرْسَل أَحَدٌ لآِخَرَ غَائِبٍ كِتَابًا مُعَنْوَنًا وَمَرْسُومًا بِتَوْكِيلِهِ إِيَّاهُ بِأَمْرٍ مَا، وَقَبِل الآْخَرُ الْوَكَالَةَ، انْعَقَدَتْ. (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد ف 13) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الإِْشَارَةُ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 3 / 527، وانظر الفتاوى الهندية 3 / 561، وحاشية ابن عابدين 4 / 399.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 3 / 527، نشر مكتبة النهضة، والشرح الصغير 3 / 505، ومغني المحتاج 2 / 223، ومطالب أولي النهى 3 / 429، وروضة الطالبين 4 / 300.(45/11)
الْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي تَحَقُّقِ إِيجَابِ الْوَكَالَةِ بِهَا. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ الاِعْتِدَادِ بِالإِْشَارَةِ. (ر: إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِعْل:
15 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الإِْيجَابَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَتِمُّ بِفِعْلٍ دَل عَلَى الإِْذْنِ. (2)
حَيْثُ دَل كَلاَمُ الْقَاضِي عَلَى انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِفِعْلٍ دَالٍّ كَبَيْعٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّيْخِ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى قَصَّارٍ أَوْ خَيَّاطٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ، كَالْقَبُول. (3)
وَبِهَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِانْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ قَال الْخِرَشِيُّ: الْوَكَالَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. (4)
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَدُل فِي الْعَادَةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ إِيجَابًا:
16 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإِْيجَابَ فِي الْوَكَالَةِ قَدْ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 343، وما بعدها وتنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 346، ومواهب الجليل 5 / 190، وروضة الطالبين 8 / 39، وما بعدها، وإعانة الطالبين 3 / 87.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 429، والمبدع 4 / 355.
(3) الفروع 4 / 340 ط عالم الكتب، وكشاف القناع 3 / 461.
(4) الخرشي 6 / 70.(45/11)
يَتَحَقَّقُ بِمُوجِبِ الْعَادَةِ كَتَصَرُّفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي مَالِهَا وَهِيَ عَالِمَةٌ سَاكِتَةٌ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَكَالَةِ.
وَكَمَا إِذَا كَانَ رَيْعٌ بَيْنَ أَخٍ وَأُخْتٍ وَكَانَ الأَْخُ يَتَوَلَّى كِرَاءَهُ وَقَبْضَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَالْقَوْل قَوْلُهُ أَنَّهُ دَفَعَ لأُِخْتِهِ مَا يَخُصُّهَا فِي الْكِرَاءِ، قَال ابْنُ نَاجِي عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: لأَِنَّهُ وَكِيلٌ بِالْعَادَةِ. (1)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ السُّكُوتُ إِيجَابًا فِي الْوَكَالَةِ، فَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً عَنْهُ بِسُكُوتِهِ، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. (2)
ثَانِيًا: الْقَبُول:
الْقَبُول إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِغَيْرِ اللَّفْظِ.
أ - الْقَبُول بِاللَّفْظِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَبُول يَتَحَقَّقُ بِاللَّفْظِ، كَمَا لَوْ قَال الْمُوَكِّل لآِخَرَ: قَدْ وَكَّلْتُكَ بِهَذَا الأَْمْرِ، فَقَال لَهُ الْوَكِيل: قَبِلْتُ، أَوْ قَال كَلاَمًا آخَرَ غَيْرَ لَفْظِ قَبِلْتُ، مُشْعِرًا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 505 ـ 506، وحاشية الدسوقي 3 / 380، ومواهب الجليل 5 / 191.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 154 ـ 155، وللسيوطي ص142، وحاشية الحموي على الاشباه 1 / 184، والمنثور في القواعد 2 / 205، ومغني المحتاج 2 / 15 / 100.(45/12)
الْقَبُول يَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ. (1)
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَبُول الْوَكِيل لَفْظًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ، فَلَوْ رَدَّ الْوَكِيل الْوَكَالَةَ بَعْدَ الإِْيجَابِ بِأَنْ قَال: لاَ أَقْبَل أَوْ لاَ أَفْعَل، فَلاَ يَبْقَى حُكْمِ الإِْيجَابِ، وَلاَ تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ قَبِل بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجَدِّدِ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول. (2)
ب - الْقَبُول بِغَيْرِ اللَّفْظِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ بِالْقَبُول بِغَيْرِ اللَّفْظِ، وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الصُّورَةُ الأَْوْلَى: الْقَبُول بِالْفِعْل:
18 - لِلْفُقَهَاءِ فِي قَبُول الْوَكَالَةِ بِالْفِعْل ثَلاَثَةَ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الأَْوْجُهِ - وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَبُول يَتَحَقَّقُ بِكُل فِعْلٍ دَل عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَل الْوَكِيل مَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّل بِفِعْلِهِ لأَِنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 3 / 526 ـ 527، المادة (1451) ، ومواهب الجليل 5 / 190، ومغني المحتاج 2 / 222، وإعانة الطالبين 3 / 87، وكشاف القناع 3 / 461 ـ 462.
(2) شرح المجلة لعلي حيدر 3 / 529، والفتاوى الهندية 3 / 560، ومغني المحتاج 2 / 223، وروضة الطالبين 4 / 300.(45/12)
لَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَال أَمْرِهِ، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فَجَازَ الْقَبُول فِيهِ بِالْفِعْل كَأَكْل الطَّعَامِ.
وَجَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يَكُونُ الإِْيجَابُ صَرَاحَةً وَالْقَبُول دَلاَلَةً، فَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْوَكِيل شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إِيجَابِ الْمُوَكِّل، وَحَاوَل إِجْرَاءَ ذَلِكَ الأَْمْرِ الْمُوكَّل بِهِ، فَيَكُونُ قَدْ قَبِل الْوَكَالَةَ دَلاَلَةً وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ صَحِيحًا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُول لاَ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْل وَلاَ بُدَّ لِتَحَقُّقِهِ مِنَ اللَّفْظِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ: بِعْ وَاشْتَرِ، يَتِمُّ الْقَبُول بِالْفِعْل وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّفْظُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْيجَابُ بِصِيغَةِ عَقْدٍ، كَوَكَّلْتُكَ، أَوْ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ فَلاَ بُدَّ فِي الْقَبُول مِنَ اللَّفْظِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْل إِلْحَاقًا لِصِيَغِ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ وَالأَْمْرِ بِالإِْبَاحَةِ. (3)
__________
(1) شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 3 / 528، والفتاوى الهندية 3 / 560، والمغني لابن قدامة 5 / 93، ومواهب الجليل 5 / 190، وكشاف القناع 3 / 461 ـ 462، والخرشي 6 / 70، وأسنى المطالب 2 / 266، وروضة الطالبين 4 / 300، ومغني المحتاج 2 / 222.
(2) روضة الطالبين 4 / 300، والإنصاف 5 / 354، وروضة القضاة للسمناني 2 / 140.
(3) روضة الطالبين 4 / 300، ومغني المحتاج 2 / 222.(45/13)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَبُول بِالْكِتَابَةِ:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَبُول فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ الْمُعَنْوَنَةِ. (1)
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَبُول بِالإِْشَارَةِ:
20 - يَصِحُّ الْقَبُول فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ الْمَعْلُومَةِ الْمَفْهُومَةِ. (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ الْعَمَل بِالإِْشَارَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِشَارَة ف 5، عَقْد ف 15) .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ الْقَبُول بِالسُّكُوتِ:
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ سُكُوتَ الْوَكِيل قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ. (3)
تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ قَبُول
__________
(1) شرح المجلة لمحمد خالد الأتاسي 1 / 190 المادة (69) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 339، والأشباه والنظائر للسيوطي 308 ـ 309، وروضة الطالبين 4 / 300، والإنصاف 5 / 354، ومطالب أولي النهى 3 / 429.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 343، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 213، ومواهب الجليل 4 / 229، والمغني 3 / 566.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 445، والأشباه والنظائر لأبن نجيم ص 154.(45/13)
الْوَكِيل فَوْرَ صُدُورِ الإِْيجَابِ مِنَ الْمُوَكِّل فَإِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَنْعَقِدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ قَبُول الْوَكَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي، لأَِنَّ قَبُول وُكَلاَئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِفِعْلِهِمْ وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إِيَّاهُمْ، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، وَالإِْذْنُ قَائِمٌ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَشْبَهَ الإِْبَاحَةَ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ كَوْنَ الْقَبُول عَلَى التَّرَاخِي بِمَا إِذَا لَمَّ يَتَعَيَّنْ زَمَانُ الْعَمَل الَّذِي وَكَّل فِيهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ وَخِيفَ فَوَاتُهُ، كَانَ قَبُول الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ.
وَكَذَا لَوْ عَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عِنْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ صَارَ قَبُولُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَيْضًا. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَبُول الْوَكَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلاَ يَصِحُّ إِذَا تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ بِالزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ فِي حَال
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 641، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 678 ـ 679، ومواهب الجليل 5 / 190 ـ 191، والحاوي للماوردي 8 / 189، والمهذب 1 / 357، وكشاف القناع 3 / 462، والمغني 5 / 93.(45/14)
الْحَيَاةِ، فَكَانَ الْقَبُول فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ كَالْبَيْعِ. (1) .
وَقَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْعَوَائِدِ، هَل الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ فَوْرًا فَإِنْ تَأَخَّرَ سَقَطَ حُكْمُ الْخِطَابِ؟ أَوِ الْمُرَادُ اسْتِدْعَاءُ الْجَوَابِ مُعَجَّلاً أَوْ مُؤَجَّلاً؟ . (2)
أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ:
أَوَّلاً: أَقْسَامُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ تَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا:
تَنْقَسِمُ الصِّيغَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى الصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ، وَالصِّيغَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَالصِّيغَةِ الْمُوَقَّتَةِ. (3)
أ - الصِّيغَةُ الْمُنَجِّزَةُ لِلْوَكَالَةِ:
23 - التَّنْجِيزُ هُوَ خِلاَفُ التَّعْلِيقِ. (4) وَالتَّعْلِيقُ هُوَ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى. (5)
وَالْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ الْمُنَجِّزَةِ لِلْوَكَالَةِ أَنْ لاَ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، وَلاَ مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ، كَقَوْل
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 2 / 679، والحاوي 8 / 189، والمهذب 1 / 357.
(2) عقد الجواهر الثمينة 2 / 679، ومواهب الجليل 5 / 191.
(3) مجلة الأحكام العدلية المادة (1456) .
(4) قواعد الفقه للبركتي ص 238.
(5) الدر المختار 2 / 492.(45/14)
الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ الدَّارِ الْفُلاَنِيَّةِ، فَصِيغَةُ الْوَكَالَةِ فِي هَذَا الْمِثَال مُنَجِّزَةٌ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تُعَلَّقْ بِشَرْطٍ، كَمَا أَنَّهَا لَمْ تُضَفْ إِلَى وَقْتٍ. (1)
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُنَجِّزَةً. (2)
ب: الصِّيغَةُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَبِعْ هَذَا الطَّعَامَ، وَإِذَا طَلَبَ مِنْكَ أَهْلِي شَيْئًا فَادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَال: أَمَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قُتِل زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِل جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (3) . .
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 3 / 534 ـ 535.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 428، وبدائع الصنائع 6 / 20، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 534 ـ 535، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 55، والذخيرة 8 / 5.
(3) حديث عبد الله بن عمر: " أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة. . .: أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 510) .(45/15)
وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ اعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْوَكِيل حُكْمُهُ وَهُوَ إِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتُهُ، فَكَانَ صَحِيحًا، وَلأَِنَّهُ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّأْمِيرَ. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِشَرْطٍ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ بِالشُّرُوطِ وَالآْجَال فَاسِدَةٌ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّل لَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَشَرَطَ لِلتَّصَرُّفِ شَرْطًا جَازَ، كَأَنْ يَقُول: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ دَارِي وَبِعْهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ.
قَال الْغَزَالِيُّ: لَوْ قَال الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ الآْنَ، وَلَكِنْ لاَ تُبَاشِرِ التَّصَرُّفَ إِلاَّ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَ قُدُومِ فُلاَنٍ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِالْجَوَازِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا، إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرٌ فَيَجِبُ عَلَى الْوَكِيل الاِمْتِثَال. (2)
صِيغَةُ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ:
25 - الْوَكَالَةُ الدَّوْرِيَّةُ مِنْ قَبِيل الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 20، وروضة القضاة للسمناني 2 / 643، والمغني 5 / 93 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 3 / 428 ـ 429، والإنصاف 5 / 355، ومغني المحتاج 2 / 223، والوسيط في المذهب للغزالي 3 / 284 ط دار السلام.
(2) مغني المحتاج 2 / 223، والوسيط في المذهب للغزالي 3 / 284، والحاوي للماوردي 8 / 190، والإنصاف 5 / 355.(45/15)
بِالشَّرْطِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: وَكَّلْتُكَ بِبَيْعِ هَذَا الْمَال وَكُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَإِنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَكُونُ وَكِيلاً، وَكُلَّمَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّل تَجَدَّدَتِ الْوَكَالَةُ.
وَسُمِّيَتْ وَكَالَةً دَوْرِيَّةً، لأَِنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْعَزْلِ، فَكُلَّمَا عَزَلَهُ عَادَ وَكِيلاً. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِل وَكِيلَهُ فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ مَتَى شَاءَ، لأَِنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّل فَلَهُ إِبْطَالُهَا، وَلأَِنَّ مَا لاَ يَكُونُ لاَزِمًا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَالْوَكَالَةُ مِنْهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَيَحْصُل التَّوْكِيل فِي الْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ بِقَوْل الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: عَزَلْتُكَ، وَكُلَّمَا وَكَّلْتُكَ فَقَدْ عَزَلْتُكَ، فَقَطْ. (2) .
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ الدَّوْرِيَّةَ لاَ تَصِحُّ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 535، وحاشية ابن عابدين 4 / 416، وكشاف القناع 3 / 468.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 535، وحاشية ابن عابدين 4 / 416، وتبيين الحقائق 6 / 224، وكشاف القناع 3 / 468، والإنصاف 5 / 368، ومعونة أولي النهى 4 / 636.(45/16)
لاَزِمَةً، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْمُعَلِّقِ إِيقَاعَ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ التَّوْكِيل وَحَلُّهُ قَبْل وُقُوعِهِ، وَالْعُقُودُ لاَ تُفْسَخُ قَبْل انْعِقَادِهَا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: وَكَّلْتُكَ، وَمَتَى عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي، فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَال وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ لِوُجُودِ الإِْذْنِ. وَالثَّانِي لاَ تَصِحُّ لاِشْتِمَالِهَا عَلَى شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَهُوَ الْتِزَامُ الْعَقْدِ الْجَائِزِ.
فَإِذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، أَوْ كَانَ قَوْلُهُ " مَتَى عَزَلْتُكَ " مَفْصُولاً عَنِ الْوَكَالَةِ، فَعَزَلَهُ، نُظِرَ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ، وَاعْتَبَرْنَا عِلْمَهُ فِي نُفُوذِ الْعَزْل فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ.
وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ، أَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَفِي عَوْدِهِ وَكِيلاً بَعْدَ الْعَزْل وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ، لأَِنَّهُ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ ثَانِيًا عَلَى الْعَزْلِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ.
فَإِنْ قُلْنَا: يَعُودُ، نُظِرَ فِي اللَّفْظِ الْمَوْصُول بِالْعَزْلِ، فَإِنْ كَانَ قَال: إِذَا عَزَلْتُكَ، أَوْ، مَهْمَا، أَوْ: مَتَى، لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ عَوْدَ الْوَكَالَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَإِنْ قَال: " كُلَّمَا عَزَلْتُكَ " اقْتَضَى الْعَوْدَ مَرَّةً
__________
(1) الإنصاف 5 / 368.(45/16)
بَعْدَ مَرَّةٍ أَبَدًا، لأَِنَّ " كُلَّمَا " لِلتَّكْرَارِ. (1)
ج - الصِّيغَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل لِلْوَكَالَةِ:
26 - مِنْ صُوَرِ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَكُونُ الصِّيغَةُ فِيهَا مُضَافَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَل أَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: وَكَّلْتُكَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ دَوَابِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ يَقُول الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ غَدًا، وَيَقْبَل الْوَكِيل ذَلِكَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلإِْضَافَةِ، زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ وَكِيلاً فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلاَ يَكُونُ وَكِيلاً قَبْل الْغَدِ. (3)
وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكَالَةَ نُجِّزَتْ فِي الْحَال وَعُلِّقَ التَّصَرُّفُ عَلَى تَحَقُّقِ شَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُمْ بِالاِتِّفَاقِ. (4) لأَِنَّهُ عَجَّل عَقْدَ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا جَعَل الْمَوْعِدَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَحَلًّا
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 301 ـ 302، ومغني المحتاج 2 / 243، وتحفة المحتاج 5 / 312، والوسيط في المذهب للغزالي 3 / 284 ط دار السلام.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (1456) ، وبدائع الصنائع 6 / 20.
(3) بدائع الصنائع 6 / 20، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 535، ومطالب أولي النهى 3 / 428 ـ 429.
(4) نهاية المحتاج 5 / 28، والحاوي للماوردي 8 / 190.(45/17)
لِوَقْتِ الْبَيْعِ. (1)
27 - أَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى وَقْتٍ كَأَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ دَارِي، كَانَتِ الْوَكَالَةُ بَاطِلَةً فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالآْجَال فَاسِدَةٌ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ تَكُونُ الْوَكَالَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ. (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ تَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ وَإِضَافَتِهَا، فَالإِْيجَابُ الْمُضَافُ يَكُونُ سَبَبًا فِي انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا انْعَقَدَتِ الْوَكَالَةُ فِي الإِْضَافَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَالاً فَيَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
أَمَّا الإِْيجَابُ الْمُعَلَّقُ فَالتَّعْلِيقُ فِيهِ مَانِعٌ لِصَيْرُورَتِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَعَلَيْهِ فَالْوَكَالَةُ فِي التَّعْلِيقِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ انْعِقَادُ الْوَكَالَةِ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ. (3)
__________
(1) الحاوي للماوردي 8 / 190، وكشاف القناع 3 / 462.
(2) بدائع الصنائع 6 / 20، ومطالب أولي النهى 3 / 428 ـ 429، وكشاف القناع 3 / 462، ونهاية المحتاج 5 / 28، والحاوي للماوردي 8 / 190.
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 536.(45/17)
د - الصِّيغَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِلْوَكَالَةِ:
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهَا مُؤَقَّتَةً، كَقَوْل الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: أَنْتَ وَكِيلِي شَهْرًا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الْوَكَالَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي أَقَّتَهُ الْمُوَكِّل.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّل.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال: بِعْ دَارِي الْيَوْمَ، أَوِ اشْتَرِ لِي الدَّارَ الْيَوْمَ، فَفَعَل ذَلِكَ غَدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قَال بَعْضُهُمْ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ الْيَوْمِ لأَِنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيل لاَ لِتَوْقِيتِ الْوَكَالَةِ بِالْيَوْمِ، إِلاَّ إِذَا دَل الدَّلِيل عَلَيْهِ.
وَفِي " مِنْحَةِ الْخَالِقِ " نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيل إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لاَ تَنْتَهِي وَكَالَتُهُ بِمُضِيِّ الْعَشْرَةِ فِي الأَْصَحِّ. (1)
__________
(1) كشاف القناع 3 / 462، والإنصاف 5 / 355، وأسنى المطالب 1 / 267، وروضة الطالبين 4 / 302، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3 / 5، وفتاوى الهندية 3 / 567، ومنحة الخالق على البحر الرائق 7 / 141.(45/18)
اقْتِرَانُ صِيغَةِ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ:
29 - إِذَا اقْتَرَنَتِ الْوَكَالَةُ بِشَرْطٍ، فَإِمَّا أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، أَيَّ شَرْطٍ كَانَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ:
مَا لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: امْنَعِ الْمَبِيعَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَفْسُدُ بِهِ، لأَِنَّ مَنْعَ الْحَقِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِثْبَاتَ يَدِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَصَحَّ الْبَيْعُ بِالإِْذْنِ. (2)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَفَاسِدُهَا لاَ يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإِْذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُول بِفَسَادِهَا فَلاَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَاسِدَةِ. (3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 567، والبحر الرائق 5 / 191، ومجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 339.
(2) أسنى المطالب 2 / 269، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 377.
(3) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 409 ـ 410.(45/18)
وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ عَلَّقَ الْوَكَالَةَ عَلَى شَرْطٍ وَتَصَرَّفَ الْوَكِيل بَعْدَ الشَّرْطِ، الأَْصَحُّ الصِّحَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ بَطَل خُصُوصُ الْوَكَالَةِ فَيَبْقَى عُمُومُ الإِْذْنِ. (1) ، وَفَائِدَةُ فَسَادِ الْوَكَالَةِ سُقُوطُ الْمُسَمَّى إِنْ سَمَّى لَهُ أُجْرَةً، وَالرُّجُوعُ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْل. (2)
وَحَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَذْوَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ فَسَادَ الْوَكَالَةِ لاَ يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإِْذْنِ، فَقَدْ قَال ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الْوَكِيل تَقْتَضِي فَسَادَ الْوَكَالَةِ لاَ بُطْلاَنَهَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ.
وَقَال أَيْضًا: الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، إِنَّ فَسَادَهَا لاَ يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإِْذْنِ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُول بِفَسَادِهَا، فَلاَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ إِلاَّ مُقَيَّدَةً بِالْفَسَادِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل كَالْوَدِيعَةِ لِزَوَال الاِئْتِمَانِ، وَالإِْذْنُ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ مَنُوطًا بِهِ. (4)
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 116.
(2) الوسيط للغزالي 3 / 284.
(3) القواعد لابن رجب ص 65.
(4) القواعد لابن رجب ص 65.(45/19)
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الاِتِّجَاهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَال: الإِْذْنُ لَيْسَ مُنْفَصِلاً عَنِ الْوَكَالَةِ، فَمَعْنَى فَسَادِ الْوَكَالَةِ بُطْلاَنُ الإِْذْنِ. (1)
أَمَّا الشَّرْطُ الصَّحِيحُ فَإِنَّهُ إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل الْمُوَكِّل فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ آرَاءً (تُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 79 وَمَا بَعْدَهَا) .
صِفَةُ عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ تَبَرُّعٌ وَلاَ لُزُومَ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ بِأَنَّ الْمُوَكِّل قَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْكِ مَا وَكَّل فِيهِ أَوْ فِي تَوْكِيل آخَرَ، كَذَلِكَ الْوَكِيل قَدْ لاَ يَتَفَرَّغُ، فَيَكُونُ لُزُومُ الْعَقْدِ مُضِرًّا بِهِمَا. (2)
__________
(1) الوسيط للغزالي 3 / 284.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 567 وابن عابدين4 / 416، والشرح الصغير 3 / 523، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 688، وروضة الطالبين 4 / 332، ومغني المحتاج 2 / 231 ـ 232، وكشاف القناع 3 / 468، والإنصاف 5 / 368، والمبدع 4 / 362، ودرر الحكام 3 / 528.(45/19)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لاَزِمَةً. (1) .
وَمَثَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِوَكِيل خُصُومَةٍ بِطَلَبِ الْخَصْمِ، فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّل عَزْلُهُ، فَإِذَا وَكَّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلاً بِالْخُصُومَةِ بِطَلَبِ الْخَصْمِ (الَّذِي هُوَ الْمُدَّعِي) ثُمَّ غَابَ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَعَزَلَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِئَلاَّ يَضِيعَ حَقُّ الْمُدَّعِي.
وَكَذَا لَوْ عَزَل الْعَدْل الْمُوَكَّل بِبَيْعِ الرَّهْنِ نَفْسَهُ بِحَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ، إِنْ رَضِيَ بِالْعَزْل صَحَّ وَإِلاَّ لاَ يَصِحُّ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ.
كَمَا أَنَّ لِلْوَكِيل أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ وَلَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ يَكُونُ مَجْبُورًا عَلَى إِبْقَاءِ الْوَكَالَةِ. (2)
وَمَثَّل الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا وَكَّل الْمُوَكِّل وَكِيلاً فِي خُصُومَةٍ وَقَاعَدَ خَصْمُهُ ثَلاَثَ مَجَالِسَ وَلَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَانْعَقَدَتِ الْمَقَالاَتُ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّل حِينَئِذٍ عَزْل الْوَكِيل إِلاَّ لِمُقْتَضٍ كَظُهُورِ تَفْرِيطٍ أَوْ مَيْلٍ مَعَ الْخَصْمِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْذَارِ.
وَلَيْسَ لِلْوَكِيل حِينَئِذٍ عَزْل نَفْسِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 416، ومواهب الجليل 5 / 188، ودرر الحكام 3 / 658 ـ 659.
(2) ابن عابدين4 / 416، ودرر الحكام 3 / 658 - 659.
(3) الشرح الكبير 3 / 379 والخرشي 6 / 69.(45/20)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِهَذَا الْجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ خَالِيَةً عَنِ الْجُعْل وَلَمْ تُعْقَدْ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَتَفَرَّعُ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ ثَلاَثُ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: لاَ يَدْخُل الْوَكَالَةَ خِيَارُ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عَقْدٍ لاَزِمٍ لِيَتَمَكَّنَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ فَسْخِهِ إِذَا أَرَادَ. (2)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْوَكَالَةِ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي ضِمْنِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ عَلَى غَرِيمٍ. (3)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا أَنَّ لِلْمُوَكِّل عَزْل وَكِيلِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، فَإِنَّ لِلْوَكِيل أَيْضًا أَنْ يَسْتَقِيل مِنَ الْوَكَالَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ. (4)
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْحَالاَتِ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِل وَكِيلَهُ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ عَزْل الْوَكِيل.
الرَّأْيُ الثَّانِي: إِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأُجْرَةٍ عَلَى سَبِيل الإِْجَارَةِ فَهِيَ لاَزِمَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهَا شَرَائِطُ الإِْجَارَةِ، وَبِهَذَا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 231 - 232.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام3 / 528، وحاشية ابن عابدين 4 / 416 والفتاوى الهندية 3 / 567.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 416 ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 528.
(4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 528.(45/20)
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ. (1)
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ لاَزِمٌ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيل وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ. (2)
وَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيل الْجَعَالَةِ فَفِي صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: اللُّزُومُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (3)
الْقَوْل الثَّانِي: الْجَوَازُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (4)
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَاعِل وَالْمَجْعُول لَهُ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ لاَزِمًا مِنْ جِهَةِ الْجَاعِل - وَهُوَ الْمُوَكِّل - بِشُرُوعِ الْمَجْعُول لَهُ بِالْعَمَل، وَهَذَا أَحَدُ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (5)
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 2 / 688، وروضة الطالبين 4 / 332.
(2) عقد الجواهر الثمينة 2 / 688.
(3) المرجع السابق.
(4) عقد الجواهر الثمينة 2 / 688 والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 523.
(5) عقد الجواهر الثمينة 2 / 688 والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 3 / 523 طبعة دار المعارف.(45/21)
الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْوَكَالَةِ: الْعَاقِدَانِ:
وَهَمَّا الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل:
أَوَّلاً: الْمُوَكِّل:
31 - الْمُوَكِّل: هُوَ مَنْ يُقِيمُ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ، وَتَلْزَمُهُ الأَْحْكَامُ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ، وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مُطْلَقًا مَهْمَا كَانَ نَوْعُ التَّصَرُّفِ مَحَل الْوَكَالَةِ. (2) ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَأْتِي:
أ - تَوْكِيل الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيل الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي تَصَرُّفَاتٍ نَافِعَةٍ لَهُ نَفْعًا مَحْضًا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَوْكِيلِهِ فِيمَا كَانَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 6، وانظر حاشية ابن عابدين 4 / 400، والبحر الرائق 7 / 140، والفتاوى الهندية ج3 ص561، والإنصاف 5 / 355، وكشاف القناع 3 / 462، ومغني المحتاج 2 / 217، ومواهب الجليل5 / 118، ونهاية المحتاج ج5 ص16، المغني مع الشرح الكبير 5 / 202.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 400، والبدائع 6 / 20، والفتاوى الهندية 3 / 561، ونهاية المحتاج 5 / 16، والمغني 5 / 202.(45/21)
ضَارًّا ضَرَرًا مَحْضًا.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْل وَصْفِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيل الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِيهَا.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَكَالَةُ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فِي كُل تَصَرُّفٍ لاَ يُعْتَبَرُ لَهُ الْبُلُوغُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَوْكِيل الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بَاطِلٌ. (1)
ب - تَوْكِيل السَّفِيهِ:
33 - لاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فِيمَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَمَّا مَا يَسْتَقِل بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيهِ. (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَفَه ف 30) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 561، وكشاف القناع 3 / 463، والإنصاف 5 / 355، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي3 / 384، ومغني المحتاج 2 / 217.
(2) نهاية المحتاج 5 / 15، وحاشية الجمل 3 / 403، المغني 5 / 808، ومغني المحتاج 2 / 217، والبحر الرائق 7 / 149، والمبدع 4 / 356.(45/22)
ج - تَوْكِيل الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ:
34 - لاَ يَجُوزُ تَوْكِيل الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهَا لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا فَلاَ تُوَكَّل فِيهِ وَإِنَّمَا وَلِيُّهَا الَّذِي يُزَوِّجُهَا.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. (1)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (نِكَاح ف 109) .
د - تَوْكِيل الْمُرْتَدِّ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْكِيل الْمُرْتَدِّ لِغَيْرِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: الْوَكَالَةُ مِنَ الْمُرْتَدِّ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى عَوْدَتِهِ إِلَى الإِْسْلاَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ) فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بَطَلَتْ. وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ وَكَالَةَ الْمُرْتَدِّ لِغَيْرِهِ صَحِيحَةٌ وَنَافِذَةٌ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجُوزُ تَوْكِيلُهَا بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 10، ونهاية المحتاج 6 / 219 - 220، والمغني 7 / 337، والبدائع 2 / 247.(45/22)
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ تَوْكِيل الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ، وَهَذَا الْقَوْل اسْتَوْجَهَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ. وَقَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ: هُوَ الْمُعْتَمَدُ. (1)
هـ - تَوْكِيل الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْكِيل الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَوْكِيل مُسْلُمٍ ذِمِّيًّا فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهِمَا؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُوَكِّل نَفْسَ التَّصَرُّفِ الَّذِي يُوَكِّل فِيهِ الْغَيْرَ. وَالْمُسْلِمُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَفَاقِدُ الشَّيْءِ لاَ يُعْطِيهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى صِحَّةِ تَوْكِيل الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ إِذْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَكِّل أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ تُخَوِّل لَهُ حَقَّ تَوْكِيل الْغَيْرِ فِيمَا يُوَكِّلُهُ فِيهِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 400، والبدائع 7 / 20، والخرشي 8 / 66، جواهر الإكليل 2 / 279، وحاشية الشبراملسي، ونهاية المحتاج 5 / 17، وروضة الطالبين 4 / 299.
(2) تبيين الحقائق 4 / 254، وحاشية ابن عابدين 4 / 400 ط بولاق، ومطالب أولي النهى 3 / 434، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 678، ومغني المحتاج 2 / 11، 217 - 218، والإنصاف 3 / 434.(45/23)
و - تَوْكِيل الْمُحْرِمِ:
37 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيل الْمُحْرِمِ لِحَلاَلٍ فِي النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْكِيل الْمُحْرِمِ لِحَلاَلٍ فِي النِّكَاحِ يَعْقِدُهُ لَهُ حَال إِحْرَامِ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّهُ لاَ يُبَاشِرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيل الْمُحْرِمِ فِي الزَّوَاجِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ فَجَازَ لَهُ التَّوْكِيل فِيهِ. (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 73) .
ز - جَهَالَةُ الْمُوَكِّل:
38 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْوَكِيل مُوَكِّلَهُ بِأَنْ قِيل لَهُ: وَكَّلَكَ زَيْدٌ وَلَمْ يُنْسَبْ لَهُ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ أَوْ شُهْرَتِهِ مَا يُمَيِّزُهُ. (2)
ثَانِيًا - الْوَكِيل:
39 - الْوَكِيل هُوَ الْمَعْهُودُ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ الْوَكَالَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكِّل مِنَ الْعَقْل، فَلاَ يَجُوزُ تَوْكِيل الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 430، كشاف القناع 3 / 462، الإنصاف 5 / 355.(45/23)
وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الأُْمُورِ الآْتِيَةِ فِي الْوَكِيل:
أ - الْبُلُوغُ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ فِي الْوَكِيل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. (2)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ يَعْقِل الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، أَيْ يَعْقِل الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُقُودِ، فَيَعْرِفُ أَنَّ الشِّرَاءَ جَالِبٌ لِلْمَبِيعِ وَسَالِبٌ لِلثَّمَنِ، وَالْبَيْعَ عَلَى عَكْسِهِ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ مِنَ الْيَسِيرِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَالرِّبْحِ لاَ الْهَزْل.
وَقَالُوا: إِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيل إِذَا كَانَ بَالِغًا، أَمَّا إِذَا كَانَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوكِّل لاَ إِلَى الْوَكِيل. كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. (3)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيل الْمُمَيِّزِ وَتَوَكُّلُهُ فِي كُل تَصَرُّفٍ لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ،
__________
(1) المغني 5 / 88.
(2) البدائع 6 / 20، والبحر الرائق 7 / 142، وكشاف القناع 3 / 463، والإنصاف 5 / 355.
(3) البدائع 7 / 3447، وتبيين الحقائق 4 / 254، وتكملة فتح القدير 8 / 14(45/24)
كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ. (1)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. (2) بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَال لِعَمْرِو ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: قُمْ فَزَوِّجْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَهُ وَكَانَ صَبِيًّا (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ أَنْ يَتَوَكَّل لِغَيْرِهِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ لَمْ يَمْلِكْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيل. (4)
ب - تَعْيِينُ الْوَكِيل:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيل مُعَيَّنًا، فَإِذَا كَانَ مَجْهُولاً بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، فَلَوْ قَال شَخْصٌ: وَكَّلْتُ أَحَدَ النَّاسِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ لِجَهَالَةِ الْوَكِيل وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 463، والإنصاف 5 / 355، والمغني 5 / 88.
(2) البدائع 6 / 20.
(3) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خطب أم سلمة. . . " أخرجه النسائي (6 / 81 ـ 82) .
(4) حاشية الجمل 3 / 403.(45/24)
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: مِنَ التَّوْكِيل الْمَجْهُول قَوْل الدَّائِنِ لِمَدْيُونِهِ: مَنْ جَاءَكَ بِعَلاَمَةِ كَذَا، وَمَنْ أَخَذَ أُصْبُعَكَ، أَوْ قَال لَكَ كَذَا، فَادْفَعْ مَا لِي عَلَيْكَ إِلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ تَوْكِيل مَجْهُولٍ، فَلاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. (1)
ج - عِلْمُ الْوَكِيل بِالْوَكَالَةِ:
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيل بِالْوَكَالَةِ لِصِحَّتِهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلْمُ بِالتَّوْكِيل فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ بِلاَ خِلاَفٍ، إِمَّا عِلْمُ الْوَكِيل وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ، حَتَّى لَوْ وَكَّل رَجُلاً بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيل مِنْ رَجُلٍ قَبْل عِلْمِهِ وَعِلْمِ الرَّجُل بِالتَّوْكِيل لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُجِيزَهُ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيل عَلَى التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيل فَهَل هُوَ شَرْطٌ؟ ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَإِذَا قَال الرَّجُل: اذْهَبْ بِثَوْبِي هَذَا إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يَبِيعَهُ، أَوِ اذْهَبْ إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يَبِيعَكَ ثَوْبِي الَّذِي عِنْدَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ لِفُلاَنٍ فِي بَيْعِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 18، وتحفة المحتاج 5 / 297، ومطالب أولي النهى 3 / 429 - 430، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص251، وحاشية الدسوقي 3 / 378، وروضة القضاة للسمناني 2 / 641.(45/25)
ذَلِكَ الثَّوْبِ، إِنْ أَعْلَمَهُ الْمُخَاطَبُ بِمَا قَالَهُ الْمَالِكُ جَازَ بَيْعُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَلَوْ قَال: اذْهَبْ بِهَذَا الثَّوْبِ إِلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يَقْصُرَهُ، أَوْ إِلَى الْخَيَّاطِ حَتَّى يَخِيطَهُ قَمِيصًا، فَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ لِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل حَتَّى لاَ يَصِيرَ ضَامِنًا بِعَمَلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: انْطَلِقِي إِلَى فُلاَنٍ حَتَّى يُطَلِّقَكِ، فَطَلَّقَهَا فُلاَنٌ وَلَمْ يَعْلَمْ يَقَعُ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرْخَسِيِّ فِي بَابِ مَا تَقَعُ بِهِ الْوَكَالَةُ.
وَعِلْمُ الْوَكِيل بِالْوَكَالَةِ شَرْطُ عَمَل الْوَكَالَةِ حَتَّى إِنَّ مَنْ وَكَّل غَيْرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ وَالْوَكِيل لاَ يَعْلَمُ فَطَلَّقَ أَوْ بَاعَ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ طَلاَقُهُ. هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَإِذَا وَكَّل إِنْسَانًا لاَ يَصِيرُ وَكِيلاً قَبْل الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. (1) .
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ عِلْمُ الْوَكِيل بِالتَّوْكِيل شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيل بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ، أَوْ كَتَبَ الْمُوَكِّل بِذَلِكَ كِتَابًا إِلَيْهِ فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ، أَوْ أَرْسَل إِلَيْهِ رَسُولاً فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِالتَّوْكِيل رَجُلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ - صَارَ وَكِيلاً بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 562 ـ 563.(45/25)
عَدْلٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلاً أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لاَ يَكُونُ وَكِيلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَكُونُ وَكِيلاً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل بِالتَّوْكِيل فَبَاعَهَا نَفَذَ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ. (2)
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْظْهَرِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ مَال غَيْرِهِ ظَاهِرًا إِنْ بَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةً كَوَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ، اعْتِبَارًا فِي الْعُقُودِ بِمَا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ لِعَدَمِ حَاجَتِهَا إِلَى النِّيَّةِ. وَقَالُوا: يَحْرُمُ عَلَى الْوَكِيل تَعَاطِي هَذَا التَّصَرُّفِ قَبْل الْعِلْمِ بِأَنَّ لَهُ وِلاَيَةً عَلَيْهِ. (3)
د - عَدَالَةُ الْوَكِيل:
43 - لاَ تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْوَكِيل فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا فِي عُقُودٍ مُعَيَّنَةٍ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيل أَوِ الْوَلِيُّ عَدْلاً، وَمِنْهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلِلتَّفْصِيل (ر: نِكَاح ف 7، وَفِسْق ف 14) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3448.
(2) كشاف القناع 3 / 462 طبعة دار الفكر، وشرح المنتهى 2 / 185 طبعة عالم الكتب، والمغني لابن قدامة 5 / 145.
(3) حاشية الجمل 3 / 32 مغني المحتاج 2 / 15.(45/26)
هـ - ذُكُورَةُ الْوَكِيل:
44 - لَمْ يَشْتَرِطِ الْفُقَهَاءُ ذُكُورَةَ الْوَكِيل فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمُ اشْتَرَطَ كَوْنَ الْوَكِيل رَجُلاً فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَمِنْهَا النِّكَاحُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 107) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْوَكَالَةِ: مَحَل الْوَكَالَةِ:
45 - مَحَل الْوَكَالَةِ: هُوَ التَّصَرُّفُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنَ الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل بِمَلِكٍ أَوْ وِلاَيَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ لِمَحَل الْوَكَالَةِ شُرُوطًا ثَلاَثَةً:
أ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ.
ب - أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِلنِّيَابَةِ.
ج - أَنْ يَمْلِكَهُ الْمُوَكِّل حَال التَّوْكِيل. (1)
أَنْوَاعُ الْوَكَالَةِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:
تَتَنَوَّعُ الْوَكَالَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَل: إِلَى وَكَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَوَكَالَةٍ عَامَّةٍ.
أ - الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ:
46 - الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ مَا كَانَ إِيجَابُ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 23 وما بعدها - ومغني المحتاج 2 / 217 ـ 219 وما بعدها.(45/26)
الْمُوَكِّل فِيهَا خَاصًّا بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ، كَأَنْ يُوَكِّل إِنْسَانٌ آخَرَ فِي أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلاَّ فِيمَا وُكِّل بِهِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب - الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ:
47 - الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ قَدْ تَكُونُ عَامَّةً فِي كُل شَيْءٍ، كَأَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُل شَيْءٍ، أَوْ يَقُول لَهُ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل الْعَامِّ فِي الْجُمْلَةِ. (1) وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال لِغَيْرِهِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُل شَيْءٍ، أَوْ قَال: أَنْتَ وَكِيلِي بِكُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، يَكُونُ وَكِيلاً بِحِفْظٍ لاَ غَيْرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا لَوْ قَال: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُل شَيْءٍ جَائِزٌ أَمْرُكَ، يَصِيرُ وَكِيلاً فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَلاَقٍ وَعِتَاقٍ وَوَقْفٍ، فَقِيل: يَمْلِكُ ذَلِكَ لإِِطْلاَقِ تَعْمِيمِ اللَّفْظِ، وَقِيل: لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا دَل دَلِيل سَابِقَةِ الْكَلاَمِ وَنَحْوِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
__________
(1) فتح القدير 7 / 501، والبحر الرائق7 / 140، الفتاوى الهندية 3 / 565، وابن عابدين 4 / 399 - 400، وبداية المجتهد 2 / 272.(45/27)
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُل شَيْءٍ جَائِزٌ أَمْرُكَ، مَلَكَ الْحِفْظَ وَالْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَيَمْلِكُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ حَتَّى إِذَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَال جَازَ حَتَّى يُعْلَمَ خِلاَفُهُ مِنْ قَصْدِ الْمُوَكِّلِ، وَعَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصُهُ بِالْمُعَاوَضَاتِ وَلاَ يَلِي الْعِتْقَ وَالتَّبَرُّعَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَكَذَا لَوْ قَال طَلَّقْتُ امْرَأَتَكَ وَوَهَبْتُ وَوَقَفْتُ أَرْضَكَ، فِي الأَْصَحِّ لاَ يَجُوزُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْمُعَاوَضَاتِ لاَ بِالإِْعْتَاقِ وَالْهِبَاتِ، وَبِهِ يُفْتَى ا. هـ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَالْحَاصِل أَنَّ الْوَكِيل وَكَالَةً عَامَّةً يَمْلِكُ كُل شَيْءٍ إِلاَّ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ وَالْوَقْفَ وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَمْلِكَ الإِْبْرَاءَ وَالْحَطَّ عَنِ الْمَدْيُونِ لأَِنَّهُمَا مِنْ قَبِيل التَّبَرُّعِ وَأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَرَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى، وَهَل لَهُ الإِْقْرَاضُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ. فَإِنَّهُمَا بِالنَّظَرِ إِلَى الاِبْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ فَإِنَّ الْقَرْضَ عَارِيَّةٌ ابْتِدَاءً، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَمْلِكَهُمَا الْوَكِيل بِالتَّوْكِيل الْعَامِّ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُمَا مَنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَال الْيَتِيمِ وَلاَ هِبَتُهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ(45/27)
وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً فِي الاِنْتِهَاءِ، وَظَاهِرُ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الدَّيْنِ وَاقْتِضَاءَهُ وَإِيفَاءَهُ وَالدَّعْوَى بِحُقُوقِ الْمُوَكِّل وَسَمَاعَ الدَّعْوَى بِحُقُوقٍ عَلَى الْمُوَكِّل وَالأَْقَارِيرِ عَلَى الْمُوَكِّل بِالدُّيُونِ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ بِالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ فِي الْعَامِّ، فَإِنْ قَال لَهُ: وَكَّلْتُكَ وَكَالَةً مُطْلَقَةً عَامَّةً، فَهَل يَتَنَاوَل الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ وَالتَّبَرُّعَاتِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، لأَِنَّ مِنَ الأَْلْفَاظِ مَا صَرَّحَ قَاضِي خَانَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَامٌّ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِهِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَنْعَقِدُ الْوَكَالَةُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: وَكَّلْتُكَ، لأَِنَّهُ لاَ يَدُل عُرْفًا عَلَى شَيْءٍ بَل حَتَّى يُفَوِّضَ لِلْوَكِيل الأَْمْرَ بِأَنْ يَقُول: وَكَّلْتُكَ وَكَالَةً مُفَوَّضَةً، أَوْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِي، أَوْ: أَقَمْتُكَ مَقَامِي فِي أُمُورِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِذَا فَوَّضَ لَهُ فَيَمْضِي وَيَجُوزُ النَّظَرُ وَهُوَ الصَّوَابُ، أَيْ مَا فِيهِ تَنْمِيَةُ الْمَال لاَ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ تَنْمِيَةُ الْمَال كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمُوَكِّل: وَيَمْضِي مِنْكَ غَيْرُ النَّظَرِ، فَيَمْضِي إِنْ وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً فَلَيْسَ لِلْمُوَكِّل رَدُّهُ، وَلاَ تَضْمِينُ الْوَكِيل.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 399 - 400، وفتح القدير 7 / 500 - 501.(45/28)
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ النَّظَرِ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلاَ تَبْذِيرٍ. وَقَالُوا: لاَ يَمْضِي عَنِ الْوَكِيل طَلاَقُ زَوْجَةِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْكَاحُ بِكْرِهِ، وَبَيْعُ دَارِ سُكْنَاهُ فِي كُلٍّ مِنَ النَّظَرِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ لاَ تَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيل بِإِذْنٍ خَاصٍّ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّوْكِيل الْعَامَّ لاَ يَصِحُّ. (2) فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّل فِيهِ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ حَيْثُ يَقِل مَعَهُ الْغَرَرُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَلَوْ قَال: وَكَّلْتُكَ فِي كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لِي، أَوْ فِي كُل أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كُل شَيْءٍ، أَوْ: أَنْتَ وَكِيلِي فَتَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ وَعَظِيمِ الْخَطَرِ، وَإِنْ قَال وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ أَمْوَالِي وَقَبْضِ دُيُونِي وَاسْتِيفَائِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، صَحَّ وَإِنْ جَهِل الأَْمْوَال وَالدُّيُونَ وَمَنْ هِيَ عَلَيْهِ. (3)
الأُْمُورُ الَّتِي تَقَعُ عَلَيْهَا الْوَكَالَةُ:
48 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ضَابِطًا عَامًّا لِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ: كُل عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّل بِهِ غَيْرَهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 380
(2) نهاية المحتاج 5 / 25، والمهذب 1 / 350، والمغني 5 / 211 - 212.
(3) نهاية المحتاج 5 / 25، والمغني 5 / 211 ـ 212، وشرح المنتهى 2 / 302.(45/28)
الإِْنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الأَْحْوَال فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ. (1) إِلاَّ أَنْ هُنَاكَ أُمُورًا يَصِحُّ التَّوْكِيل فِيهَا بِالاِتِّفَاقِ، وَأُمُورًا لاَ يَصِحُّ التَّوْكِيل فِيهَا بِالاِتِّفَاقِ، وَأُمُورًا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا.
أ - الأُْمُورُ الَّتِي يَصِحُّ التَّوْكِيل فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً الْعُقُودُ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى التَّوْكِيل فِيهِمَا، فَقَدْ يَكُونُ الْمُوَكِّل مِمَّنْ لاَ يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، أَوْ لاَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى السُّوقِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلاَ يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَدْ يُحْسِنُهَا وَلَكِنَّهُ لاَ يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ، وَقَدْ لاَ تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ لِكَوْنِهِ امْرَأَةً، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا وَيَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ، وَأَبَاحَهَا الشَّرْعُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَتَحْصِيلاً لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ. (2) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّل
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 7 / 501، وابن عابدين 4 / 401، والبحر الرائق7 / 140، بداية المجتهد2 / 329، وشرح الخرشي4 / 285، ونهاية المحتاج5 / 21، والمغني5 / 87، وحاشية الدسوقي3 / 377، ومغني المحتاج2 / 219.
(2) البدائع 6 / 21، والبحر الرائق7 / 140، والفتاوى الهندية3 / 564، وحاشية الدسوقي3 / 377، وجواهر الإكليل2 / 125، والتاج والإكليل5 / 181، ومواهب الجليل5 / 182، ونهاية المحتاج5 / 22 - 25، والمغني5 / 88 - 89، ومغني المحتاج2 / 220، وروضة القضاة للسمناني2 / 634.(45/29)
عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ (1) .، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ دِينَارًا إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً " (2) .
50 - وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالإِْجَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْفَسْخِ، وَالإِْبْرَاءِ، وَالْمُصَارَفَةِ، وَالإِْقَالَةِ، وَالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ كُل هَذِهِ الْعُقُودِ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى التَّوْكِيل فِيهَا فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُهُ. (3)
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الضَّمَانِ وَالصُّلْحِ وَالْهِبَةِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى التَّوْكِيلِ، وَلأَِنَّ الْمُوَكِّل يَمْلِكُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إِلَى غَيْرِهِ. (4)
__________
(1) حديث: توكيله صلى الله عليه وسلم عروة البارقي في شراء الشاة. . تقدم تخريجه ف 6
(2) حديث: دفعه صلى الله عليه وسلم ديناراً إلى حكيم بن حزام. . تقدم تخريجه ف 6.
(3) البدائع6 / 21، والفتاوى الهندية3 / 564، وحاشية الدسوقي3 / 377، وجواهر الإكليل2 / 125، ونهاية المحتاج5 / 23، وكشاف القناع3 / 461، والمغني مع الشرح الكبير5 / 203، ومغني المحتاج2 / 222، وروضة القضاة للسمناني2 / 634.
(4) المراجع السابقة.(45/29)
51 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيل فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الرَّجُل؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّل عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُول النِّكَاحِ لَهُ (1) ، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ الْمُوَكِّل إِلَى التَّزَوُّجِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لاَ يُمْكِنُهُ السَّفَرُ إِلَيْهِ. (2) ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ (3) .
ثَانِيًا: الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ 52 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْمَنْذُورَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ. (4) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا، " وَقَال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
__________
(1) حديث: توكيل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية في قبول النكاح له أخرجه البيهقي في السنن (7 / 139) من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلاً. وحديث توكيل النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع في قبول النكاح له. أخرجه الترمذي (3 / 191) وقال: حديث حسن.
(2) البدائع 6 / 21، والفتاوى الهندية3 / 564، وحاشية الدسوقي3 / 377، وبداية المجتهد2 / 349، وشرح الخرشي 6 / 68، وجواهر الإكليل2 / 125، ونهاية المحتاج5 / 23، والمغني5 / 204، ومغني المحتاج 2 / 220.
(3) حديث: " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وهي يومئذ في أرض الحبشة ". أخرجه أبو داود (2 / 583) .
(4) المراجع السابقة، وكشاف القناع2 / 445.(45/30)
فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ (1) . .
ثَالِثًا: الطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ وَالْخُلْعِ 53 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْخُلْعِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ كَدُعَائِهَا إِلَى التَّوْكِيل فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. (2)
ب - الأُْمُورُ الَّتِي لاَ يَصِحُّ التَّوْكِيل فِيهَا بِالاِتِّفَاقِ:
أَوَّلاً الشَّهَادَةُ:
54 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الشَّهَادَةِ، فَلَوْ قَال الشَّاهِدُ لِغَيْرِهِ: وَكَّلْتُكَ لِتَشْهَدَ عَنِّي فِي كَذَا، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، لأَِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الشَّاهِدِ لِكَوْنِهَا خَبَرًا عَمَّا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَائِبِهِ، وَلأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّعَبُّدِ وَالْيَقِينِ الَّذِي لاَ تُمْكِنُ النِّيَابَةُ فِيهِ.
فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا كَانَ النَّائِبُ شَاهِدًا عَلَى
__________
(1) حديث: " أخبرهم أن الله قد فرض عليهم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 64) ، ومسلم (1 / 50) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) البدائع6 / 21، وحاشية الدسوقي3 / 377، وجواهر الإكليل2 / 125، ونهاية المحتاج5 / 23، والمغني مع الشرح 5 / 204.(45/30)
شَهَادَتِهِ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي مَا سَمِعَ مِنْ شَاهِدِ الأَْصْل وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ. (1) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَهَادَة ف 42) .
ثَانِيًا: الأَْيْمَانُ وَالنُّذُورُ:
55 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الأَْيْمَانِ وَالنُّذُورِ، لأَِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ فَأَشْبَهَتِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ، وَلأَِنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ صِدْقَ الْحَالِفِ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ اللِّعَانُ، وَالإِْيلاَءُ، وَالْقَسَامَةُ، لأَِنَّهَا أَيْمَانٌ فَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. (2)
ثَالِثًا الْمَعَاصِي:
56 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْمَعَاصِي كَالْجِنَايَاتِ مِثْل: الْقَتْل وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال مُحَرَّمَةٌ فَلاَ يَصِحُّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُوَكِّل
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 22، والمغني مع الشرح الكبير5 / 205، وكشاف القناع3 / 461 - 464، ومغني المحتاج2 / 220، وتبيين الحقائق4 / 238، والفتاوى الهندية3 / 523، بدائع الصنائع3 / 239، والفروق للقرافي 4 / 26 ـ 27، وجواهر الإكليل 2 / 125، والإنصاف 5 / 358.
(2) روضة القضاة للسمناني 2 / 636، وجواهر الاكليل 2 / 125، والفروق للقرافي 4 / 26، ونهاية المحتاج 5 / 23، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 205، ومغني المحتاج 2 / 220، والإنصاف 5 / 358.(45/31)
وَلاَ مِنَ الْوَكِيل. (1)
رَابِعًا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ:
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ، أَيِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَال، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، لأَِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا. (2) انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عِبَادَة ف 7) .
ج - الأُْمُورُ الْمُخْتَلَفُ فِي التَّوْكِيل فِيهَا:
أَوَّلاً الْحَجُّ:
58 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِي الْحَجِّ مِنَ الإِْنْسَانِ الْقَادِرِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ.
أَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حَجّ ف 114 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِيَابَة ف 13 - 45، أَدَاء ف 16) .
ثَانِيًا الْعُمْرَةُ:
59 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ
__________
(1) الخرشي6 / 70، المغني5 / 205، ونهاية المحتاج5 / 23، ومغني المحتاج 2 / 220، وحاشية الدسوقي 3 / 380، وجواهر الإكليل 2 / 126.
(2) البدائع2 / 212، وابن عابدين2 / 238، والمجموع7 / 116، ونهاية المحتاج 5 / 22، القليوبي وعميرة 3 / 76، ومطالب أولي النهى 2 / 273.(45/31)
الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عُمْرَة ف 38) .
ثَالِثًا: النِّكَاحُ مِنَ الْمَرْأَةِ:
60 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَكِّل وَلاَ أَنْ تَتَوَكَّل فِي الزَّوَاجِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَعْقِدَهُ بِنَفْسِهَا، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَوَكَّل وَلاَ أَنْ تُوَكَّل فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، لأَِنَّهَا تَمْلِكُ أَنْ تَعْقِدَهُ بِنَفْسِهَا عِنْدَهُمْ، فَمَلَكَتِ التَّوَكُّل وَالتَّوْكِيل فِيهِ أَيْضًا (نِكَاح ف 107) .
رَابِعًا الظِّهَارُ:
61 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الظِّهَارِ بِأَنْ يَقُول الْوَكِيل: أَنْتِ عَلَى مُوَكِّلِي كَظَهْرِ أُمِّهِ، لأَِنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ فَلاَ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَلاَ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّوْكِيل فِيهِ. وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ
__________
(1) فتح القدير3 / 144ط دار الفكر، وبدائع الصنائع2 / 213، والشرح الصغير2 / 308 - 309ط الحلبي، ومغني المحتاج1 / 428 و2 / 219، والمغني لابن قدامة3 / 243ط الرياض.(45/32)
الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال: الأَْقْرَبُ فِي الظِّهَارِ أَنَّهُ كَالطَّلاَقِ لأَِنَّ قَوْل الْوَكِيل: زَوْجَةُ مُوَكِّلِي عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، كَقَوْلِهِ: امْرَأَةُ مُوَكِّلِي طَالِقٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الظِّهَارَ وَالطَّلاَقَ إِنْشَاءٌ مُجَرَّدٌ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. (1)
خَامِسًا تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ:
62 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَالاِحْتِشَاشِ، أَوْ يُوَكِّل مَنْ يَحْفُرُ لَهُ مَعْدِنًا، لأَِنَّهَا تَمَلُّكُ مَالٍ بِسَبَبٍ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَجَازَ التَّوْكِيل فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْمُبَاحَاتِ، وَالْمَلِكُ فِيهَا لِلْوَكِيل لأَِنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ قَدْ وُجِدَ فَلاَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ. (2)
__________
(1) نهاية المحتاج5 / 23، مغني المحتاج2 / 220، جواهر الإكليل2 / 125، الإنصاف5 / 358، المغني مع الشرح الكبير5 / 205، روضة القضاة للسمناني2 / 636.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 564، وروضة القضاة 2 - 635، ونهاية المحتاج 5 / 24، ومغني المحتاج 2 / 221، والإنصاف 5 / 357 ـ 358، وكشاف القناع 3 / 464، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 204، ومواهب الجليل5 / 181.(45/32)
سَادِسًا الإِْقْرَارُ:
63 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِالإِْقْرَارِ فِي الْحُقُوقِ، فَلَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ لِتُقِرَّ عَنِّي لِفُلاَنٍ بِكَذَا، جَازَ هَذَا التَّوْكِيلُ، لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ بِالْقَوْل فَجَازَ التَّوْكِيل فِيهِ كَالْبَيْعِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. (2) وَالطَّحَاوِيُّ. (3) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الإِْقْرَارِ، لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ فَلَمْ يَقْبَل التَّوْكِيل كَالشَّهَادَةِ.
سَابِعًا الْخُصُومَةُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ:
64 - الْخُصُومَةُ هِيَ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ أَوِ الْجَوَابُ الصَّرِيحُ بِنَعَمٍ أَوْ لاَ. (4)
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، حَاضِرًا كَانَ الْمُوَكِّل أَوْ غَائِبًا، صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا، رَضِيَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَرْضَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي3 / 379، وشرح الخرشي6 / 70، والبدائع 6 / 22، وروضة القضاة 2 / 639، ومطالب أولي النهى3 / 438، وحاشية الجمل3 / 404، ومغني المحتاج 2 / 221.
(2) نهاية المحتاج 5 / 25.
(3) البدائع 7 / 3452.
(4) قرة عيون الأخيار1 / 280.(45/33)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا كَانَ الْوَكِيل عَدُوًّا لِلْخَصْمِ فَلاَ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ مَا لَمْ يَرْضَ الْخَصْمُ عَلَيْهِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَكَّل عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَقِيلاً عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَقَال: مَا قَضَى لَهُ فَلِي وَمَا قَضَى عَلَيْهِ فَعَلَيَّ، وَبِأَنَّهُ حَقٌّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فَكَانَ لِصَاحِبِهِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ، كَحَال غَيْبَتِهِ وَمَرَضِهِ وَكَدَفْعِ الْمَال الَّذِي عَلَيْهِ.
وَبِأَنَّ التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّل فَلاَ يَقِفُ عَلَى رِضَا الْخَصْمِ، كَالتَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَدَلاَلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي، وَالإِْنْكَارَ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيل مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَلاَ يَقِفُ عَلَى رِضَا خَصْمِهِ كَمَا لَوْ كَانَ خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ.
وَأَضَافُوا بِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُوَكِّل قَدْ يَكُونُ لَهُ حَقٌّ، أَوْ يُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ وَلاَ يُحْسِنُ الْخُصُومَةَ أَوْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ. (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي3 / 378، والخرشي6 / 69،77، ونهاية المحتاج 5 / 24، ومغني المحتاج2 / 222، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 205، ومطالب أولي النهى3 / 442، وحاشية ابن عابدين5 / 512، والبدائع6 / 22.
(2) المراجع السابقة، والهداية 7 / 507، والبحر الرائق7 / 143 - 144، والفتاوى الهندية 3 / 564.(45/33)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ إِلاَّ بِرِضَاءِ الْخَصْمِ، حَتَّى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ الْوَكِيلِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّل مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ مُحَاكَمَةِ الْوَكِيل إِذَا كَانَ الْمُوَكِّل حَاضِرًا، لأَِنَّ حُضُورَ الْمُوَكِّل مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمُخَاصَمَتَهُ حَقٌّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ كَالدَّيْنِ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ، وَالإِْنْكَارُ الصَّادِقُ وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ، وَكَذَا إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلاَ يَزْدَادُ الاِحْتِمَال فِي خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَكُنْ كُل ذَلِكَ حَقًّا فَكَانَ الأَْصْل أَلاَّ يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْل الْخُصُومَاتِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْفَسَادِ وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّل فَلاَ تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عَنْ جَوَابِ الْوَكِيل مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، مَعَ أَنَّ النَّاسَ فِي الْخُصُومَاتِ عَلَى التَّفَاوُتِ، بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً مِنَ الآْخَرِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيل أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ فَيَعْجِزُ مَنْ يُخَاصِمُهُ عَنْ إِحْيَاءِ حَقِّهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَيُشْتَرَطُ رِضَاءُ الْخَصْمِ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إِلَى الْتِزَامِهِ، أَمَّا إِذَا(45/34)
كَانَ الْمُوَكِّل مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الدَّعْوَى وَعَنِ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكِ النَّقْل إِلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيل لَضَاعَتِ الْحُقُوقُ وَهَلَكَتْ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ. (1)
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لاَ فَصْل فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتَحْسَنُوا فِي الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً غَيْرَ بَرَزَةٍ، فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي مَوْضِعِهِ، لأَِنَّهَا تَسْتَحِي عَنِ الْحُضُورِ لِمَحَافِل الرِّجَالِ، وَعَنِ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فَيَضِيعُ حَقُّهَا.
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ تَوْكِيل الْبِكْرِ. (2)
ثَامِنًا إِثْبَاتُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ:
أ - إِثْبَاتُ الْقِصَاصِ:
65 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّل حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، لأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الآْدَمِيِّ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى التَّوْكِيل فِيهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ وَلاَ تُقْبَل الْبَيِّنَةُ فِيهِ إِلاَّ
__________
(1) البدائع 6 / 22.
(2) بدائع الصنائع 6 / 22.(45/34)
مِنَ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل إِنَابَةٌ وَشُبْهَةٌ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (1)
ب - اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ:
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّوْكِيل فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِيهِ، لأَِنَّ كُل مَا جَازَ التَّوْكِيل فِيهِ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّل وَغَيْبَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِنْ كَانَ الْمُوَكِّل غَائِبًا، وَيَجُوزُ التَّوْكِيل فِي الاِسْتِيفَاءِ إِنْ كَانَ الْمُوَكِّل حَاضِرًا، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الاِسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّوْكِيلِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِي الاِسْتِيفَاءِ إِنْ كَانَ الْمُوَكِّل غَائِبًا، لأَِنَّ احْتِمَال الْعَفْوِ قَائِمٌ، لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَعَفَى، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّل. (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3449 ـ 34450، وفتح القدير 6 / 105 ط ـ بولاق ـ بداية المجتهد، وابن رشد 2 / 302، ومغني المحتاج 2 / 221، ونهاية المحتاج 5 / 25، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 207، والمبدع 4 / 359، والإنصاف 5 / 361، وكشاف القناع 3 / 465 - 466، والمهذب 1 / 355.
(2) المراجع السابقة.(45/35)
تَاسِعًا إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاؤُهَا:
67 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَائِهَا عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَائِهَا تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإِْثْبَاتِ وَالاِسْتِيفَاءِ.
أَمَّا فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ (1) ، فَقَدْ وَكَّلَهُ فِي إِثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا وَاسْتِيفَائِهِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ: لاَ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِي إِثْبَاتِ الْحُدُودِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ جَوَازِ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالدَّرْءِ وَالتَّوَصُّل إِلَى إِسْقَاطِهِ، وَبِالتَّوْكِيل يُتَوَصَّل إِلَى إِيجَابِهِ فَلَمْ يَجُزْ.
وَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِ حَدِّ الْقَذْفِ فَقَدْ
__________
(1) حديث: " اغد يا أنيس إلى امرأة هذا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 160) ومسلم (3 / 1325) .(45/35)
عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَجَازَ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِهِ كَالْمَال. (1)
وَأَمَّا فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ لِحَدِيثِ أُنَيْسٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ فَرَجَمُوهُ (2) .
وَوَكَّل عُثْمَانُ عَلِيًّا فِي إِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَوَكَّل عَلِيٌّ الْحَسَنَ فِي ذَلِكَ فَأَبَى الْحَسَنُ، فَوَكَّل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَأَقَامَهُ وَعَلَيٌّ يَعُدُّ (3) .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيل فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ كُلِّهَا فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّل وَغَيْبَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الْقَذْفِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّل لاِحْتِمَال الْعَفْوِ. (4)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّوْكِيل
__________
(1) الإنصاف 5 / 360، وكشاف القناع 3 / 465، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 339، والمهذب 1 / 356.
(2) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز. . . " أخرجه مسلم (3 / 1322) من حديث بريدة.
(3) أثر عثمان حين جلد الوليد بن عقبة. أخرجه مسلم (3 / 1331 ـ 1332 ط الحلبي) .
(4) الإنصاف 5 / 360، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 206، المهذب 1 / 356، ومغني المحتاج 2 / 221، جواهر الإكليل 2 / 125.(45/36)
بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالإِْثْبَاتِ،
وَالثَّانِي: بِالاِسْتِيفَاءِ.
أَمَّا التَّوْكِيل بِالإِْثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَ حَدًّا لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِيهِ بِالإِْثْبَاتِ، لأَِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيل بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الإِْثْبَاتِ وَالاِسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّوْكِيل فِي الاِسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي التَّوْكِيل بِالإِْثْبَاتِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَجُوزُ وَلاَ تُقْبَل الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إِلاَّ مِنَ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِيهِ بِالاِسْتِيفَاءِ، فَكَذَا بِالإِْثْبَاتِ، لأَِنَّ الإِْثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إِلَى الاِسْتِيفَاءِ.
أَمَّا التَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ حَدَّيِ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ أَوِ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ حَاضِرًا وَقْتَ الاِسْتِيفَاءِ جَازَ التَّوْكِيلُ، لأَِنَّ وِلاَيَةَ الاِسْتِيفَاءِ إِلَى الإِْمَامِ وَأَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى الاِسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ عَلَى كُل حَالٍ.
أَمَّا إِنْ كَانَ غَائِبًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: فَقَال بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ، لأَِنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ(45/36)
لاِحْتِمَال الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ وَأَنَّهُ لاَ يَحْتَمِلُهُمَا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يَحْتَمِل الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ، فَيَحْتَمِل الإِْقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ. (1)
أَحْكَامُ الْوَكَالَةِ:
لِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيل مِنْ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ:
68 - تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيل أَحْكَامٌ، مِنْهَا:
الأَْوَّل: أَنْ يَقُومَ الْوَكِيل بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل بِهَا أَوِ الَّتِي قَيَّدَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعُرْفُ بِالْتِزَامِهَا.
الثَّانِي: مُوَافَاةُ الْمُوَكِّل بِالْمَعْلُومَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَتَقْدِيمُ حِسَابٍ عَنِ الْوَكَالَةِ.
الثَّالِثُ: رَدُّ مَا لِلْمُوَكِّل فِي يَدِ الْوَكِيل وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِيمَا يَلِي:
الْحُكْمُ الأَْوَّل: تَنْفِيذُ الْوَكَالَةِ:
69 - سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ إِمَّا عَامَّةٌ وَإِمَّا خَاصَّةٌ، وَبَيَّنَّا حُكْمَ كُلٍّ، وَنُبَيِّنُ هُنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ
__________
(1) البدائع 6 / 21 - 22، والفتاوى الهندية 3 / 564، والبحر الرائق 7 / 147.(45/37)
الْخَاصَّةَ تَارَةً تَصْدُرُ مُطْلَقَةً وَتَارَةً تَصْدُرُ مُقَيَّدَةً.
الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ فِي عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ:
مِنْ صُوَرِ الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ مَا يَلِي:
الصُّورَة ُالأُْولَى: الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ:
الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ إِِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً.
أَوَّلاً: إِطْلاَقُ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا َجُوزُ لِلْوَكِيل عِنْدَ تَوْكِيلِهِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ.
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا عَنِ الْقُيُودِ لاَ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِأَيِّ قَيْدٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا.
فَالْوَكِيل فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَبِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَبِالْعَرْضِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُجْرَى عَلَى إِطْلاَقِهِ وَلاَ يَصِحُّ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ، فَإِنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّل بِثَمَنِهِ إِلَى شِرَاءِ مَا هُوَ أَرْبَحُ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا، فَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مَعَ التَّعَارُضِ، مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلاً، فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا، أَوْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ(45/37)
لُغَةً، وَقَدْ وُجِدَ، وَمُطْلَقُ الْكَلاَمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْل. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ عِدَّةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الْبَيْعُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ:
71 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ عِنْدَ إِطْلاَقِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إِلَى نَقْدِ الْبَلَدِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَكِيل لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ إِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الْوَكِيل يَبِيعُ حَالًّا بِنَقْدِ بَلَدِهِ وَبِغَيْرِهِ، لاَ نَسَاءً. (2)
ب - الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْل:
72 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 27، والبحر الرائق 7 / 166 - 167، ابن عابدين 4 / 406، والفتاوى الهندية 3 / 588.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 382، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 254، والإنصاف 5 / 378 - 379، والمبدع 4 / 368، وحاشية الجمل 3 / 408، مغني المحتاج 2 / 223 - 224.(45/38)
بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ.
وَأَمَّا مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ كَالدِّرْهَمِ فِي الْعَشْرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبِيعُ الْوَكِيل بِثَمَنِ الْمِثْل وَثَمَّ رَاغِبٌ بِأَزْيَدَ.
73 - وَإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل فَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَبُول وَالرَّدِّ إِذَا بَاعَ الْوَكِيل بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْل وَلَوْ يَسِيرًا، وَالْيَسِيرُ عِنْدَهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَأَقَل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْوَكِيل الْمَبِيعَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ وَلَوْ مِثْلِيًّا لِتَعَدِّيهِ بِتَسْلِيمِهِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَيَسْتَرِدُّهُ إِنْ بَقِيَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَضْمَنُ الْوَكِيل النَّقْصَ، لأَِنَّ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْل صَحَّ بِدُونِهِ كَالْمَرِيضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لاَ يَصِحُّ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ. (1)
__________
(1) الإنصاف 5 / 379 - 380، والمبدع 4 / 369، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 255 - 256، وحاشية الجمل 3 / 408 - 409، وحاشية الدسوقي 3 / 382 - 383، بدائع الصنائع 6 / 27، البحر الرائق 7 / 167.(45/38)
ج - الْبَيْعُ بِالنُّقُودِ:
74 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ بِالْبَيْعِ لاَ يَصِحُّ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ بِعَرَضٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ إِلاَّ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لأَِنَّ مُطْلَقَ الأَْمْرِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ، لأَِنَّ التَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ بِالنُّقُودِ. كَمَا أَنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْعِ.
وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ الْعَرَضُ مِمَّا لاَ يَتَعَامَل بِهِ أَهْل الْبَلَدِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْمُوجَزِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِالْعَرَضِ. (1)
د - الْحُلُول:
75 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ وَأَطْلَقَ انْصَرَفَ إِلَى الْحُلُولِ، فَكَذَا وَكَيْلُهُ.
وَيَتَخَرَّجُ - بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ فِي الْمَضَارِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً لأَِنَّهُ
__________
(1) القوانين الفقهية ص333، والإنصاف 5 / 379، وبدائع الصنائع 6 / 27، وحاشية الجمل 3 / 408.(45/39)
مُعْتَادٌ فَأَشْبَهَ الْحَال. (1)
هـ - الْبَيْعُ بِالْعَيْنِ:
76 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِمَنْفَعَةٍ. (1)
و عَدَمُ بَيْعِ الْوَكِيل لِنَفْسِهِ:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْقَيْدِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ الرَّجُل مِنْ غَيْرِهِ فَحُمِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا، وَقَالُوا: لَوْ أَمَرَ الْمُوَكِّل الْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ: يَتَوَلَّى الْوَكِيل طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا انْتَفَتِ التُّهْمَةُ كَأَبِ الصَّغِيرِ.
__________
(1) المبدع 4 / 368، والإنصاف 5 / 378، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 254، وحاشية الجمل 3 / 408.
(2) الإنصاف 5 / 379.(45/39)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْعِ مَا إِذَا تَنَاهَتِ الرَّغَبَاتُ فِي الْمَبِيعِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّل فَيَجُوزُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: يَجُوزُ لِلْوَكِيل فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِذَا زَادَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ، أَوْ وَكَّل مَنْ يَبِيعُ وَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ، لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَحْصُل غَرَضُ الْمُوَكِّل مِنَ الثَّمَنِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ لأَِجْنَبِيٍّ.
وَفِي الْكَافِي وَالشَّرْحِ: أَنَّ الْجَوَازَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ.
قَال الْقَاضِي: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الثَّانِي وَاجِبًا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِكَلاَمِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يُحَابِ نَفْسَهُ. (1)
ز - عَدَمُ بَيْعِ الْوَكِيل لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ:
78 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقَيُّدِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 406، والفتاوى الهندية 3 / 589، الإنصاف 5 / 375، المبدع 4 / 367 - 368، مطالب أولي النهى 3 / 463 - 464، عقد الجواهر الثمينة 2 / 681، القوانين الفقهية ص333، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 387، مغني المحتاج 2 / 224 - 225، تحفة المحتاج 5 / 318 - 319.(45/40)
مُطْلَقًا بِعَدَمِ الْبَيْعِ لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ، مِثْل قَرَابَةِ الأَْوْلاَدِ، وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، حَسَبَ التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ إِذَا بَاعَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ يَجُوزُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِأَقَل مِنَ الْقِيمَةِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ.
وَإِنْ بَاعَ بِمِثْل الْقِيمَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ بِمِثْل الْقِيمَةِ إِلاَّ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتِبِهِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل مُطْلَقٌ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهِ، لأَِنَّ الأَْمْلاَكَ مُتَبَايِنَةٌ وَالْمَنَافِعَ مُنْقَطِعَةٌ فَصَارَ الْوَكِيل كَالْمُضَارِبِ بِخِلاَفِ عَبْدِهِ وَمُكَاتِبِهِ، لأَِنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ، وَلَهُ فِي مَال مُكَاتِبِهِ حَقٌّ.
وَإِنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّل بِالْبَيْعِ مِنْ هَؤُلاَءِ أَوْ أَجَازَ لَهُ مَا صَنَعَ بِأَنْ قَال لَهُ: بِعْ مِمَّنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلاَءِ بِمِثْل الْقِيمَةِ بِالإِْجْمَاعِ، إِلاَّ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَطْعًا.
وَإِنْ كَانَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُمْ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ: لاَ يَجُوزُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 589، والبحر الرائق 7 / 166، وتبيين الحقائق 4 / 369 - 370.(45/40)
لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لِمَحْجُورِهِ مِنْ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَرَقِيقٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ كَمَا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ شَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ إِنِ اشْتَرَى بِمَال الْمُفَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ الآْخِذُ بِعِنَانِهِ إِذَا كَانَ الشِّرَاءُ بِمَال الشَّرِكَةِ وَإِلاَّ جَازَ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيل مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الرَّشِيدِ وَرَقِيقِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالتِّجَارَةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُحَابِيَ لَهُمْ، فَإِنْ حَابَى مُنِعَ وَمَضَى الْبَيْعُ وَغَرِمَ الْوَكِيل مَا حَابَى بِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْمُحَابَاةِ وَقْتَ الْبَيْعِ.
وَقِيل: يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لِمَنْ ذُكِرَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَحَاجِيرِهِ وَلَوْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لِتَضَادِّ غَرَضَيِ الاِسْتِرْخَاصِ لَهُمْ وَالاِسْتِقْصَاءِ لِلْمُوَكِّلِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ لِيَهَبَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ لاِتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل.
أَمَّا بَيْعُهُ لأُِصُولِهِ كَأَبِيهِ أَوْ لِفُرُوعِهِ غَيْرِ الْمَحْجُورِينَ كَابْنِهِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لَهُمَا لاِنْتِفَاءِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَلأَِنَّهُ بَاعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي لَوْ بَاعَ بِهِ لأَِجْنَبِيٍّ لَصَحَّ، فَلاَ تُهْمَةَ حِينَئِذٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ صَدِيقِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 387 - 388، عقد الجواهر الثمينة 2 / 681.(45/41)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْمَيْل إِلَيْهِمْ كَمَا لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ مَنْ شَاءَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيضُهُ إِلَى أُصُولِهِ وَلاَ فُرُوعِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ عِنْدَ التَّوْكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لِوَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ مُكَاتِبِهِ، لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِمْ وَيَمِيل إِلَى تَرْكِ الاِسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الثَّمَنِ كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لِهَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ أَذِنَ لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ أَيْضًا.
قَال الْمَرْدَاوِيُّ: مَفْهُومُ كَلاَمِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْوَكِيل لإِِخْوَتِهِ وَسَائِرِ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَذَكَرَ الأَْزْجِيُّ فِيهِمْ وَجْهَيْنِ:
قَال الْمَرْدَاوِيُّ: حَيْثُ حَصَلَتْ تُهْمَةٌ فِي ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 224 - 225، وتحفة المحتاج 5 / 318 - 319.
(2) الإنصاف 5 / 377 - 378، والمبدع 4 / 368.(45/41)
ثَانِيًا: الْوَكَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ فِي الْبَيْعِ:
79 - إِذَا قَيَّدَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِقُيُودٍ مُعَيَّنَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَا عِنْدَ تَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّوْكِيل بِالْبَيْعِ إِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ بِالإِْجْمَاعِ حَتَّى أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوكِّلِ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خِلاَفُهُ إِلَى خَيْرٍ، لأَِنَّ الْوَكِيل يَتَصَرَّفُ بِوِلاَيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَل الْمُوَكِّل فَيَلِي مِنَ التَّصَرُّفِ قَدْرَ مَا وَلاَّهُ. وَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ إِلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ خِلاَفًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى، لأَِنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلاَلَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّل فَنَفَذَ.
بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذَا قَال لَهُ: بِعْ ثَوْبِي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِأَقَل مِنَ الأَْلْفِ لاَ يَنْفُذُ، وَكَذَا إِذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ لاَ يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لأَِنَّهُ خِلاَفٌ إِلَى شَرٍّ، لأَِنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْجْنَاسِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخِلاَفِ إِلَى شَرٍّ.
وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ لأَِنَّهُ خِلاَفٌ إِلَى خَيْرٍ فَلَمْ يَكُنْ خِلاَفًا أَصْلاً.
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَمْ يَنْفُذْ بَل يَتَوَقَّفْ.(45/42)
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارِ لِلآْمِرِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْخِيَارَ لَمْ يَجُزْ بَل يَتَوَقَّفْ.
وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلآْمِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ لأَِنَّهُ لَوْ مَلَكَ الإِْجَازَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا زَادَ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ كَأَنْ قَال لَهُ الْمُوَكِّل: بِعْ بِعَشَرَةٍ، فَبَاعَ بِأَكْثَرَ، أَوْ نَقَصَ فِي الشِّرَاءِ كَأَنْ قَال لَهُ: اشْتَرِ بِعَشَرَةٍ، فَاشْتَرَى بِأَقَل، فَلاَ خِيَارَ لِمُوَكِّلِهِ فِيهِمَا، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ فَكَأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ مُطْلَقُ الْمُخَالَفَةِ تُوجِبُ خِيَارًا وَإِنَّمَا تُوجِبُهُ مُخَالَفَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَمْلِكُ الْوَكِيل مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ الْمُوَكِّل مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِْذْنِ فَلاَ يَمْلِكُ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ الإِْذْنُ، وَالإِْذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ وَبِالْعُرْفِ، فَإِنْ تَنَاوَل الإِْذْنُ تَصَرُّفَيْنِ وَفِي أَحَدِهِمَا إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّل لَمْ يَجُزْ مَا فِيهِ إِضْرَارٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 27.
(2) الزرقاني 6 / 81، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 385.(45/42)
ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، فَإِنْ تَنَاوَل تَصَرُّفَيْنِ وَفِي أَحَدِهِمَا نَظَرٌ لِلْمُوَكِّل لَزِمَهُ مَا فِيهِ النَّظَرُ لِلْمُوَكِّل، لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ وَلَيْسَ مِنَ النُّصْحِ أَنْ يَتْرُكَ مَا فِيهِ الْحَظُّ وَالنَّظَرُ لِلْمُوَكِّل. وَإِنْ وَكَّل فِي الْبَيْعِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَمْلِكِ الْبَيْعَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ لأَِنَّ الإِْذْنَ لاَ يَتَنَاوَل مَا قَبْلَهُ وَلاَ مَا بَعْدَهُ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ الْبَيْعَ فِي زَمَانٍ لِحَاجَةٍ وَلاَ يُؤْثِرُ فِي زَمَانٍ بَعْدَهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ فِي مَكَانٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ أَكْثَرَ أَوِ النَّقْدُ فِيهِ أَجْوَدَ لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ أَوْ جَوْدَةِ النَّقْدِ فَلاَ يَجُوزُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَاحِدًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:(45/43)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فِي غَيْرِهِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَكَانَ الإِْذْنُ فِي أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ دَل أَنَّهُ قَصَدَ عَيْنَهُ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ - مِنْ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا - فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ تَمْلِيكَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَلاَ يَكُونُ الإِْذْنُ فِي الْبَيْعِ مِنْهُ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِنْ قَال: خُذْ مَا لِي مِنْ فُلاَنٍ، فَمَاتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَا لَهُ عِنْدَهُ وَيَرْضَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ الإِْذْنُ فِي الأَْخْذِ مِنْهُ إِذْنًا فِي الأَْخْذِ مِنْ وَرَثَتِهِ. وَإِنْ قَال: خُذْ مَا لِي عَلَى فُلاَنٍ، فَمَاتَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَرَثَتِهِ لأَِنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَا لَهُ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَل الأَْخْذَ مِنْهُ وَمِنْ وَرَثَتِهِ. وَإِنْ وَكَّل الْعَدْل فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ رَجُلٌ فَأُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُ الْقِيمَةِ لأَِنَّ الإِْذْنَ لَمْ يَتَنَاوَل بَيْعَ الْقِيمَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَمْلِكُ الْوَكِيل مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِْذْنِ فَاخْتُصَّ بِمَا أُذِنَ فِيهِ، وَالإِْذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ تَارَةً وَبِالْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى،(45/43)
وَلَوْ وَكَّل رَجُلاً فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إِذْنُهُ نُطْقًا وَلاَ عُرْفًا لأَِنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا عَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادَتِهِ وَقْتًا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَلاَ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ، فَلَوْ قَال لَهُ: بِعْ ثَوْبِي غَدًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ الْيَوْمَ وَلاَ بَعْدَ غَدٍ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمَكَانَ وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مِثْل أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ فِي سُوقٍ، وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ النَّقْدِ أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ أَوْ حِلِّهِ، أَوْ بِصَلاَحِ أَهْلِهِ أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّل وَبَيْنَهُمْ - تَقَيَّدَ الإِْذْنُ بِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي الْغَرَضِ لَمْ يَتَقَيَّدِ الإِْذْنُ بِهِ وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَوِ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ، كَانَ إِذْنًا فِي زِرَاعَةِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ، وَلَوِ اشْتَرَى عَقَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مِثْلَهُ، وَلَوْ نَذَرَ صَلاَةً أَوِ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ جَازَ الاِعْتِكَافُ وَالصَّلاَةُ فِي غَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمُشْتَرِيَ فَقَال: بِعْهُ فُلاَنًا، لَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ إِيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيل بِقَرِينَةٍ أَوْ صَرِيحٍ أَنَّهُ لاَ غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي.
وَقَالُوا: كُل تَصَرُّفٍ كَانَ الْوَكِيل مُخَالِفًا فِيهِ(45/44)
لِمُوَكِّلِهِ فَحُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ الأَْجْنَبِيِّ. (1)
مُخَالَفَةُ الْوَكِيل لِقُيُودِ الْمُوَكِّل فِي الْبَيْعِ:
مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ تَكُونُ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ:
الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي وَصْفِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِهِ.
أ - الْمُخَالَفَةُ فِي الْوَصْفِ:
قَدْ يَأْمُرُ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ نَسِيئَةً، فَيَبِيعَهَا حَالَّةً، وَقَدْ يَكُونُ الْعَكْسُ، فَيَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُول فَيَبِيعُ نَسِيئَةً.
الْحَالَةُ الأُْولَى: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ نَسِيئَةً بِأَنْ بَاعَ حَالًّا.
80 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ، إِلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَنَفَاذِهِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ الْمُوَكِّل حَصَل لَهُ مَقْصُودُهُ وَزَادَهُ الْوَكِيل خَيْرًا بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى أَوْ فِي صِفَةِ الْحُلُولِ، فَكَانَ الْوَكِيل مَأْذُونًا فِي هَذَا الْبَيْعِ عُرْفًا.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 251 - 256، وانظر المغني المحقق 13 / 520 ط هجر.(45/44)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْمُوَكِّل غَرَضٌ مُعَيَّنٌ مِنَ التَّأْجِيل كَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا يَسْتَضِرُّ بِحِفْظِهِ فِي الْحَال فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْوَكِيل لِقَيْدِ الأَْجَلِ، فَإِذَا خَالَفَ بِأَنْ بَاعَ حَالًّا بَطَل الْبَيْعُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: بِعْ مُؤَجَّلاً، فَبَاعَ حَالًّا أَوْ بِأَجَلٍ دُونَ الْمُقَدَّرِ بِقِيمَةِ الْمُؤَجَّلِ، أَوْ بِمَا رَسَمَ بِهِ الْمُوَكِّل وَلاَ غَرَضَ لِلْمُوَكِّل فِيمَا أَمَرَ بِهِ - صَحَّ لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا.
أَمَّا إِنْ بَاعَ بِهِمَا وَلِلْمُوَكِّل غَرَضٌ كَأَنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لاَ يَأْمَنُ مِنْ نَحْوِ نَهْبٍ أَوْ كَانَ لِحِفْظِهِ مُؤْنَةٌ، فَلاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضَهُ. (2)
81 - أَمَّا إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل الْوَكِيل بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ نَسِيئَةً بِثَمَنٍ مُحَدَّدٍ فَخَالَفَ وَبَاعَهَا نَقْدًا بِثَمَنٍ أَقَلَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً يَقْتَضِي الْبَيْعَ بِمَا يُسَاوِي نَسِيئَةً، فَإِذَا بَاعَ بِالأَْقَل
__________
(1) المبسوط 19 / 56، وبدائع الصنائع 6 / 27، والفتاوى البزازية 3 / 476، والمغني 5 / 254، والإنصاف 5 / 382 - 383، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 685، والتاج والإكليل بهامش مذاهب الجليل 5 / 198.
(2) أسنى المطالب 2 / 273.(45/45)
لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيل مَقْصُودَ الْمُوَكِّل وَمَا سَمَّى لَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ وَلَزِمَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتِهَا إِنْ فَاتَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِحَوَالَةِ السُّوقِ فَأَعْلَى، هَذَا إِذَا لَمَّ يُسَمِّ. فَإِنْ سَمَّى الْمُوَكِّل الثَّمَنَ وَفَاتَتْ فَلَهُ تَغْرِيمُ الْوَكِيل تَمَامَ التَّسْمِيَةِ وَلَكِنْ إِذَا تَحَمَّل الْوَكِيل النَّقْصَ فِي الثَّمَنِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُوَكِّل لإِِزَالَتِهِ الْمُخَالَفَةَ. (2)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُول بِأَنْ بَاعَ نَسِيئَةً:
82 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيل مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَلأَِنَّ الأَْغْرَاضَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْجِيلِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوَكِّل غَرَضٌ مُعَيَّنٌ بِتَعْجِيل الثَّمَنِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيل احْتِرَامُ رَغْبَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ وَإِلاَّ لاَ يَنْفُذُ فِي حَقِّهِ. (3)
__________
(1) المبسوط 19 / 56، والمبدع 4 / 371، والمهذب 1 / 361، وأسنى المطالب 2 / 273.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 384.
(3) المبسوط 19 / 56، والفتاوى الهندية 3 / 588، والمادة 1498 من المجلة، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 85، والمبدع 4 / 368 - 369، والحاوي للماوردي 8 / 241، والخرشي 6 / 74، والزرقاني 6 / 80، وحاشية الدسوقي 3 / 384.(45/45)
وَهَذَا الْقَوْل ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِهِ حَيْثُ قَال: لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، لَمْ يَنْفُذْ، بَل يَتَوَقَّفْ. (1)
ب - الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ:
83 - قَدْ يَأْمُرُ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِجِنْسٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَبِيعَهَا بِجِنْسٍ آخَرَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهَا بِالدَّنَانِيرِ فَبَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعُرُوضِ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيل مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَلأَِنَّ الإِْذْنَ فِي جِنْسٍ لَيْسَ بِإِذْنٍ فِي جِنْسٍ آخَرَ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ قَال الْمُوَكِّل: بِعْهُ بِدِرْهَمٍ فَبَاعَهُ الْوَكِيل بِدِينَارٍ صَحَّ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ بِمَكَانِهِ بِدِينَارٍ.
وَيَرَى الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ وَيُخَيَّرُ
__________
(1) البدائع 6 / 27.(45/46)
الْمُوَكِّل بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ. (1)
وَلِلْمَالِكِيَّةِ إِذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ بِالدَّنَانِيرِ فَبَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الْعَكْسِ قَوْلاَنِ فِي تَخْيِيرِ الْمُوَكِّل وَإِمْضَاءِ الْبَيْعِ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا نَقْدَ الْبَلَدِ وَالسِّلْعَةَ مِمَّا تُبَاعُ بِهِمَا وَاسْتَوَتْ قِيمَةُ الذَّهَبِ وَالدَّرَاهِمِ وَإِلاَّ خُيِّرَ قَوْلاً وَاحِدًا. (2)
84 - أَمَّا إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ فَبَاعَهُ بِالثِّيَابِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُرُوضِ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لأَِنَّ الْعُرُوضَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَْثْمَانِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. (3)
ج - الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
85 - إِذَا بَاعَ الْوَكِيل بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُحَدَّدِ لَهُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ) لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ هُنَا إِلَى خَيْرٍ فَلاَ تَكُونُ مُخَالَفَةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَلأَِنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا إِنَّمَا هُوَ مَنْعُ النَّقْصِ.
__________
(1) المبدع 4 / 370، الإنصاف 5 / 382، شرح الزرقاني 6 / 80، البدائع 6 / 27، والفتاوى الهندية 3 / 590، المهذب 1 / 360.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 386، والزرقاني 6 / 81.
(3) المغني مع الشرح الكبير 5 / 257، والزرقاني 6 / 80.(45/46)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالنَّهْيِ عَنِ الزِّيَادَةِ فَتَمْتَنِعُ، لأَِنَّ النُّطْقَ أَبْطَل حَقَّ الْعُرْفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ، لأَِنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي إِبْرَارِ قَسَمٍ. (1)
86 - أَمَّا إِذَا بَاعَ بِأَقَل مِنَ الثَّمَنِ الْمُحَدَّدِ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِلاَّ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ فَاتَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. (2)
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِذَا قَال الْوَكِيل أَوِ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُتِمُّ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّل فَفِيهِ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا نَفَذَ الْبَيْعُ عَلَيْهِ وَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْبَيْعِ فَلَهُ الرَّدُّ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى
__________
(1) البدائع 7 / 3462، والفتاوى الهندية 3 / 590، وتكملة ابن عابدين 7 / 329، والزرقاني 6 / 80، والمهذب 1 / 362، وحاشية الجمل 3 / 413، ومغني المحتاج 2 / 228، ومعونة أولي النهى 4 / 647، والمبدع 4 / 370، وروضة الطالبين 4 / 316.
(2) البدائع 6 / 27، الفتاوى الهندية 3 / 590، المادة 1495 من المجلة، والشرح الكبير 3 / 345، مواهب الجليل 5 / 196، وشرح الخرشي 4 / 289 - 290، والمدونة الكبرى 4 / 244.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 385، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 684.(45/47)
بُطْلاَنِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْوَكِيل. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعَ ضَمَانِ الْوَكِيل نُقْصَانَ الثَّمَنِ، وَلَهُمْ فِي تَقْدِيرِ قِيمَةِ النُّقْصَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْوَكِيل مَا بَيْنَ ثَمَنِ الْمِثْل وَالثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ. وَالثَّانِي يَضْمَنُ مَا بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَمَا لاَ يَتَغَابَنُونَ بِهِ لأَِنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. (2)
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْمُخَالَفَةُ فِي الْمَكَانِ:
87 - إِذَا عَيَّنَ الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ مَكَانًا مُحَدَّدًا لِيَبِيعَ السِّلْعَةَ فِيهِ، فَخَالَفَ وَبَاعَهَا فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ لِلْمُوَكِّلِ، مِثْل أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ فِي سُوقٍ مُعَيَّنَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ النَّقْدِ أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ أَوْ حِلِّهِ أَوْ بِصَلاَحِ أَهْلِهِ أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّل وَبَيْنَهُمْ، وَجَبَ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا الْمَكَانِ وَلاَ تَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بِأَنْ يَبِيعَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ
__________
(1) المهذب 1 / 355، ومغني المحتاج 2 / 228، والمغني 5 / 255.
(2) المغني 5 / 255، والإنصاف 5 / 379.(45/47)
غَرَضٌ مُعَيَّنٌ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ بِأَنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي نَظَرِ الْمُوَكِّل. فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَذَا الْمَكَانِ، وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَكَانَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إِذْنًا فِي الآْخَرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَقَيُّدِ الْوَكِيل بِالْمَكَانِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ، فَإِذَا خَالَفَ كَانَ ضَامِنًا، وَلاَ يُلْزِمُ الْمُوَكِّل بِالْبَيْعِ الْمُخَالِفِ، لأَِنَّ مَقْصُودَهُ سِعْرُ الْمَكَانِ الَّذِي قُيِّدَ الْبَيْعُ فِيهِ فَلاَ تَصِحُّ مُخَالَفَةٌ مَقْصُودَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمُخَالِفَ لِقَيْدِ الْمَكَانِ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِلاَّ لاَ يَنْفُذُ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ، سَوَاءً كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْغْرَاضُ أَمْ لاَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ دَل عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ
__________
(1) المبسوط 19 / 54 - 55، وتكملة ابن عابدين 7 / 366.
(2) شرح الخرشي 7 / 73، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 5 / 196، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 684، وحاشية الدسوقي 3 / 383.(45/48)
عَيْنَهُ لِمَعْنًى هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ يَمِينٍ وَغَيْرِهَا فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. (1)
الأَْمْرُ الثَّالِثُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الزَّمَانِ:
88 - إِذَا حَدَّدَ الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 413، ومغني المحتاج 2 / 227 ـ 228، والمغني 5 / 257، وشرح منتهى الإرادات 2 / 311، والمبدع شرح المقنع 4 / 375، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 684.(45/48)
لِيَبِيعَ لَهُ السِّلْعَةَ فِيهِ، فَخَالَفَ وَبَاعَهَا فِي زَمَنٍ آخَرَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ الْمُخَالِفِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَلاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَكِّل قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفَ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلاَ يُؤْثِرُهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَلأَِنَّ إِذْنَ الْمُوَكِّل لاَ يَتَنَاوَل تَصَرُّفَ الْوَكِيل الْمُخَالِفِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ. (2)
الأَْمْرُ الرَّابِعُ: الْمُخَالَفَةُ فِي الْبَيْعِ لِمُشْتَرٍ مُعَيَّنٍ:
89 - إِذَا حَدَّدَ الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ مُشْتَرِيًا مُعَيَّنًا وَقَال لَهُ: لاَ تَبِعْ إِلاَّ لَهُ، فَخَالَفَ الْوَكِيل وَبَاعَ لِمُشْتَرٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمَ يُقَدِّرْهُ. لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ الْمَبِيعَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلاَ يَكُونُ الإِْذْنُ فِي الْبَيْعِ لَهُ إِذْنًا فِي الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ. وَرُبَّمَا كَانَ مَالُهُ أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِذَا عَلِمَ الْوَكِيل بِقَرِينَةٍ أَوْ صَرَاحَةً أَنَّ الْمُوَكِّل لاَ غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي جَازَ لَهُ الْبَيْعُ لِغَيْرِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، أَمَّا إِنْ فَاتَتْ فَلَهُ رَدُّ قِيمَتِهَا. (4)
الأَْمْرُ الْخَامِسُ: الْمُخَالَفَةُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، فَخَالَفَ وَبَاعَ بَعْضَهَا فَقَطْ وَلَمْ يَبِعِ الْبَاقِي، أَوْ بَاعَ الْبَعْضَ ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 227، والمغني 5 / 251، والفتاوى الهندية 3 / 567، والبدائع 7 / 3462، وتكملة ابن عابدين 7 / 336.
(2) شرح الخرشي 6 / 73، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 383.
(3) المبسوط 19 / 37، والفتاوى الهندية 3 / 590، والمهذب 1 / 352، ومغني المحتاج 2 / 227، والمغني 5 / 252.
(4) شرح الخرشي 4 / 290 - 291، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 5 / 196.(45/49)
الْحَالَةُ الأُْولَى: تَبْعِيضٌ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّل:
90 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لاَ ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ كَأَنْ وَكُلَّهُ فِي بَيْعِ عَقَارَيْنِ أَوْ حَيَوَانَيْنِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ التَّفْرِيقِ، لأَِنَّ التَّفْرِيقَ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ، بَل قَدْ يَكُونُ فِي صَالِحِهِ، لأَِنَّ الْوَكِيل قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ بَيْعَ السِّلْعَةِ كُلِّهَا إِلاَّ بِالتَّفْرِيقِ، وَلأَِنَّ الْعُرْفَ قَدْ يَقْتَضِي أَنْ تُبَاعَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَا لَمْ يَنْهَهُ الْمُوَكِّل عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ. (1) وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا خَالَفَ الْوَكِيل مُوَكِّلَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ خَالَفَ مَا قَضَتِ الْعَادَةُ بِهِ فَإِنَّ الْمُوَكِّل يُخَيَّرُ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ وَالرَّدِّ إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَفِي الإِْجَازَةِ وَالتَّضْمِينِ إِنْ فَاتَتْ. (2)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: تَبْعِيضٌ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّل:
91 - إِذَا كَانَ التَّبْعِيضُ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّل كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ فَقَدِ
__________
(1) المبسوط 19 / 53، والبدائع 7 / 3463 - 3464، والمادة 1499 من المجلة، والفتاوى الهندية 3 / 593، والبحر الرائق 7 / 170، والمهذب 1 / 353، والمغني 5 / 252.
(2) الخرشي 6 / 74، والزرقاني 6 / 80 وعقد الجواهر الثمينة 2 / 687، والتاج والإكليل 5 / 196.(45/49)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَبْعِيضِ الْمَبِيعِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّل وَقَعَ الْبَيْعُ بَاطِلاً وَلاَ يَنْفُذُ فِي حَقِّهِ. لأَِنَّ التَّوْكِيل تَنَاوَل جَمِيعَ الصَّفْقَةِ، وَفِي التَّبْعِيضِ إِضْرَارٌ بِالْمُوكِّل وَتَشْقِيصٌ لِمِلْكِهِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلأَِنَّ الْعُرْفَ فِيهِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى جَمِيعِهِ فَحُمِلَتِ الْوِكَالَةُ عَلَيْهِ. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيل بِالسِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَبِقِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ.
أَمَّا إِذَا قَامَ الْوَكِيل بِبَيْعِ الْبَاقِي مِنَ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لِزَوَال الْمُخَالَفَةِ بِبَيْعِ الْبَاقِي فَتَحَقَّقَ لِلْمُوَكِّل غَرَضُهُ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ. (2)
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ وَنَفَاذِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الْوَكِيل قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّل فِي الْبَيْعِ، وَالْمُوكِّل مَالِكٌ لِبَيْعِ الْبَعْضِ، كَمَا هُوَ مَالِكٌ لِبَيْعِ الْكُلِّ،
__________
(1) المهذب 1 / 353، والمغني 5 / 252.
(2) البدائع 7 / 3464، والمبسوط 19 / 53، والفتاوى البزازية 3 / 476، وتكملة فتح القدير 8 / 85.(45/50)
فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَلأَِنَّهُ لَوْ بَاعَ الْكُل بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الثَّمَنِ يَجُوزُ فَلأَِنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْبَعْضِ بِهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّهُ نَفَعَ مُوَكِّلَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ الْبَعْضَ عَلَى مِلْكِهِ. (1)
الأَْمْرُ السَّادِسُ: الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ:
92 - إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، فَخَالَفَ وَبَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى مَكَانَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ نَفَاذِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الْوَكِيل خَالَفَ إِذْنَ مُوَكِّلِهُ فَبَاعَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ، وَالْوَكِيل لاَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذَنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَهُ رَدُّ السِّلْعَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قَدْ فَاتَتْ فِي حَالَةِ الرَّدِّ. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 3464، والمبسوط 19 / 53، وتكملة فتح القدير 8 / 85، وتكملة ابن عابدين 7 / 339، وشرح الخرشي 4 / 290 - 291.
(2) شرح المنهج 3 / 414 - 415، والمغني 5 / 249 - 250.
(3) شرح الخرشي 4 / 290 - 291، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 345، والبدائع 7 / 3462، والمغني 5 / 250.(45/50)
ثَانِيًا: الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ:
الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً.
أ - إِطَلاَقُ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ:
93 - يَجُوزُ إِطْلاَقُ التَّوْكِيل بِالشِّرَاءِ، لأَِّنَهُ مِمَّا يَمْلِكُ الْمَوَكِّل مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ الْتَفْوِيضَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ، أَوْ مَا رَأَيْتَ، أَوْ أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ، أَوْ أَيَّ دَارٍ شِئْتَ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنَ الثِّيَابِ وَمِنَ الدَّوَابِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ، لأَِّنَهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إِلَيْهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. (1)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ إِطْلاَقَ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ - كَأَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ - لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 23، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 212، والدسوقي3 / 344.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 212، ومغني المحتاج 2 / 221 - 222.(45/51)
شِرَاءُ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ سِلْعَةً مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيل أَوْ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ لَهُ:
94 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ شِرَاءِ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ بِهِ، أَوَ مِنْ مَال الَّذِينَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ لِلْوَكِيل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ لاَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ نَفْسِهِ لِمُوَكِّلِهِ، حَتَّى وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَرْجَعُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الإِْحَالَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا، مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا، وَلأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ. (1)
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لأََنَّ ذَلِكَ شِرَاءٌ مِنْ نَفْسِهِ.
أَمَّا الشِّرَاءُ مِنَ الأَْشْخَاصِ الآْخَرِينَ الَّذِينَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ لَهُ كَأَبِيهِ وَجَدِّهُ وَوَلَدِهِ الْكَبِيرِ وَزَوْجَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةُ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَيْضًا، لِمَا سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ (ر: ف / 78) .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا اشْتَرَى بِمِثْل الْقِيمَةِ، أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِزِيَادَةٍ
__________
(1) البدائع 6 / 37، والمادة 1488 من المجلة(45/51)
يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا.
وَلَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ عَامَّةً، بِأَنْ قَال لَهُ: اعْمَل مَا شِئْتَ، أَوْ قَال لَهُ: بِعْ مِنْ هَؤُلاَءِ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، جَازَ الشِّرَاءُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ بِالأَْمْرِ وَالإِْجَازَةِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ شِرَاءُ الْوَكِيل لِلْمُوَكِّل مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيل لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ الْعُرْفَ فِي الشِّرَاءِ شِرَاءُ الرَّجُل مِنْ غَيْرِهِ فَحُمِلَتِ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ وَكَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ وَيَتَنَافَى الْغَرَضَانِ فِي شِرَائِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ لِمُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَيْثُ قَالُوا بِجَوَازِهِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، فَيَصِحُّ لِلْوَكِيل أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. (2)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: مِثْل الإِْذْنِ لِلْوَكِيل فِي شِرَائِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيل مَا لَوِ اشْتَرَى الْوَكِيل مِنْ نَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّل.
__________
(1) البدائع 7 / 3472، والبحر الرائق 7 / 166، وتكملة فتح القدير 8 / 33، 74.
(2) كشاف القناع 3 / 473، والإنصاف 5 / 375 - 377، وحاشية الدسوقي 3 / 387، والقوانين الفقهية ص 333، والزرقاني 6 / 83، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 681.(45/52)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيل مِنْ نَفْسِهِ إِنْ لَمْ يُحَابِ نَفْسَهُ. (1)
وَعَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ وَكَل مَنْ يَشْتَرِي حَيْثُ جَازَ التَّوْكِيل. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَلَدُهُ وَوَالِدُهُ وَزَوْجَتُهُ وَسَائِرُ مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ لأَِنَّ الْوَكِيل مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِمْ كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيل لِلْمُوَكِّل مِمَّا يَمْلِكُهُ هَؤُلاَءِ إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ، لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. (3)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَحَدُ مَحَاجِيرِهِ كَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْ أَحَدِ مَحَاجِيرِهِ، أَوْ تَمَّ الشِّرَاءُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّل. (4)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 387، والزرقاني 6 / 83، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 681، القوانين الفقهية 333.
(2) الإنصاف 5 / 375 - 377.
(3) كشاف القناع 3 / 474.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 387، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 681.(45/52)
يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ مَحْجُورُهُ إِنْ لَمْ يُحَابِهِ. (1)
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ لِلْوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ إِخْوَتُهُ وَأَقَارِبُهُ كَعَمِّهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ وَعَمِّهِ، وَقَيَّدَ فِي الإِْنْصَافِ جَوَازَ الشِّرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، وَحَيْثُ حَصَل تُهْمَةٌ فِي ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا لاَ يَشْتَرِي لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْوَكِيل أَوْ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ أَوْ أَحَدُ مَحَاجِيرِهِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ اتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ، وَلأَِنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ لِيَهَبَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنِ انْتَفَتِ التُّهْمَةُ، لاِتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل.
وَقَالُوا فِي الأْصَحِّ: يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَبُو الْوَكِيل وَابْنُهُ الْبَالِغُ وَسَائِرُ فُرُوعِهِ الْمُسْتَقِلِّينَ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْمَيْل إِلَيْهِمْ. (3)
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 2 / 681، والقوانين الفقهية 333.
(2) كشاف القناع 3 / 474، والإنصاف 5 / 378، وحاشية الدسوقي 3 / 387.
(3) مغني المحتاج 2 / 244 - 245، وانظر نهاية المحتاج 5 / 35 - 36.(45/53)
ب - الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةُ:
95 - تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ خُلُوِّهَا عَنِ الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ الْمُقَيَّدَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَ السِّلْعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا. كَأَنْ يَقُول الْمُوَكُّل لِلْوَكِيل: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا - وَلَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ - فِإِنَّهُ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ ذِكْرَ نَوْعِهِ كَالْقِرَاضِ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الَحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ دِينَارًا إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً (1) . وَلَوْ كَانَتِ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْتَوْكِيل بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَِنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لاَ تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الأُْضْحِيَّةِ وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَلأََّنَ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأَِنَّ مَبْنَى التَّوْكِيل عَلَى الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ لأَِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايِقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ الْمَال بِالْمَالِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ
__________
(1) حديث: دفع ديناراً إلى حكيم ". . . سبق تخريجه ف 6.(45/53)
تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ. (1)
مُخَالَفَةُ الْوَكِيل لِقُيُودِ الْمُوَكِّل فِي الشِّرَاءِ:
مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الشِّرَاءِ تَكُونُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: الْمُخَالَفَةُ فِي الثَّمَنِ:
مُخَالَفَةُ وَكَيْل الشِّرَاءِ فِي الثَّمَنِ قَدْ تَكُونُ فِي وَصْفِهِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي جِنْسِهِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي قَدْرِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أـ الْمُخَالَفَةُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ:
وَتَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِي وَصْفِ الثَّمَنِ فِي حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ عَلَى الْحُلُول بِأَنِ اشْتَرَى نَسِيئَةً:
96 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ عَلَى الْحُلُول بِأَنِ اشْتَرَى نَسِيئَةً عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 23، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 213 ط المنار، ومغني المحتاج 2 / 222.(45/54)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَلُزُومِهِ لِلْمُوَكِّل إِذَا لَمَّ يَزِدِ الْوَكِيل فِي الثَّمَنِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُوَكِّلُ، لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ هُنَا فِي الصُّورَةِ فَقَطْ وَلَكِنَّهَا وِفَاقٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي دُونَ الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَلَوْ تَضَرَّرَ. (1)
الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الشِّرَاءُ لأَِنَّ الْمُوَكِّل قَصَدَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَأَنْ لاَ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ إِلاَّ بِمَا مَعَهُ، فَلاَ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّل وَلاَ لِلْوَكِيل بَل تَبْقَى الْعَيْنُ فِي مِلْكِ مَالِكِهَا. (2)
الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الشِّرَاءُ إِنْ حَصَل ضَرَرٌ لِلْمُوَكِّل وَإِلاَّ يَصِحُّ قَال الْمِرْدَاوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 3468، والفتاوى الهندية 3 / 575، وجواهر الإكليل 2 / 128، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 346، والخرشي وحاشية العدوى عليه 4 / 291، والإنصاف 5 / 383 - 385، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 685، والمغني 5 / 255، والروض المربع 2 / 249 طبعة الرياض، وكشاف القناع 2 / 449، والمهذب 1 / 361، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 82، ومغني المحتاج 2 / 229.
(2) المهذب 1 / 361، والفتاوى الكبرى للحجر الهيثمي 3 / 85. 210) الإنصاف 5 / 383 - 385.
(3) الإنصاف 5 / 383 - 385.(45/54)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل عَلَى النَّسِيئَةِ بِأَنِ اشْتَرَى حَالًّا:
97 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيل عَلَى النَّسِيئَةِ بِأَنِ اشْتَرَى حَالًّا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْوَكِيل وَلاَ يَلْزَمُ مُوَكِّلَهُ، لأَِنَّهُ خَالَفَ قَيْدَ مُوَكِّلِهِ فَيَلْزَمُهُ هُوَ دُونَ مُوَكِّلِهِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل مُخَصَّصَاتِ الْمُوَكِّل فَإِنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّل فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى فِعْلَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَتَلْزَمُ السِّلْعَةُ الْوَكِيل. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَتَى خَالَفَ الْوَكِيل الْمُوَكِّل فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ بِأَنِ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. (3)
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الْمُوَكِّل لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ خَالَفَ الْوَكِيل مُوَكِّلَهُ فِيهِ فَكَتَصَرُّفٍ فُضُولِيٍّ. (4)
__________
(1) البدائع 7 / 3467 - 3468، والفتاوى الهندية 3 / 575.
(2) التاج والإكليل 5 / 196، والزرقاني 6 / 79 والخرشي 6 / 73.
(3) مغني المحتاج 2 / 229، وروضة الطالبين 4 / 324.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 310، وكشاف القناع 3 / 450.(45/55)
ب - الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ:
98 - إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِجِنْسٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَخَالَفَ وَاشْتَرَى بِجِنْسٍ آخَرَ مِنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَاطِلاً لِمُخَالَفَةِ الْوَكِيل مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ. لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ جَعْل الدَّرَاهِمِ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ وَالْعَكْسِ، لأَِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ مَكَانَهُ بِدِينَارٍ، أَمَّا الْعُرُوضُ فَلاَ يَصِحُّ جَعْلُهَا مَكَانَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَْثْمَانِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَال الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ: اشْتَرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى بِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوكِّل وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ، لأَِنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِمُوَكِّلِهِ.
أَمَّا لَوْ قَال لَهُ: اشْتَرِهَا لِي بِمِائَةِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهَا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 229، والمغني 5 / 257 - 258، ومطالب أولي النهى 3 / 468، والإنصاف 5 / 382.
(2) المغني 5 / 257، منتهى الإرادات 2 / 476، وبدائع الصنائع 7 / 3467.(45/55)
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَكَانَ التَّقَيُّدُ بِأَحَدِهِمَا مُفِيدًا (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى بِعُرُوضٍ بَدَلاً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ أَجَازَهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ وَإِلاَّ وَقَعَ لِلْوَكِيل. (2)
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ نَصَّ لَهُ الْمُوَكِّل عَلَى الدَّنَانِيرِ أَوِ اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ وَقَدْ نَصَّ لَهُ الْمُوَكِّل عَلَى الدَّرَاهِمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ لاَزِمٌ لِلْمُوَكِّل بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: لِلْمُوَكِّل الْخِيَارُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَمَحَل الْقَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ نَقْدَ الْبَلَدِ وَثَمَنَ الْمِثْلِ، وَالسِّلْعَةُ مِمَّا تُبَاعُ بِهِ وَاسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا، وَإِلاْ خُيِّرَ الْمُوَكِّل قَوْلاً وَاحِدًا. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 3467، والبحر الرائق 7 / 159، وتكملة ابن عابدين 7 / 330، وتكملة فتح القدير 8 / 46.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 344، وجواهر الإكليل 2 / 127، شرح الخرشي 6 / 76، ومواهب الجليل 5 / 196.
(3) الخرشي 6 / 76.(45/56)
ج ـ الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
99 - إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْمُوكَّل بِالشِّرَاءِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ إِلَى خَيْرٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ إِلَى خَيْرٍ كَأَنْ أَمْرَهُ بِشِرَاءِ دَابَّةٍ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَاهَا بِأَقَل صَحَّ الشِّرَاءُ وَلَزِمَ الْمُوكِّل، لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ إِلَى خَيْرٍ خِلاَفٌ فِي الصُّورَةِ فَقَطْ، فَلاَ تُعَدُّ مُخَالَفَةً حَقِيقِيَّةً.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل مَا إِذَا نَهَى الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ عَنِ النَّقْصِ كَأَنْ يَقُول لَهُ اشْتَرِهِ بِمِائَةٍ وَلاَ تَشْتَرِهِ بِدُونِهَا فَخَالَفَهُ وَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ لَمْ يَجُزِ الشِّرَاءُ، لِمُخَالَفَتِهِ مُوَكِّلَهُ، وَلأَِنَّ النُّطْقَ أَبْطَل حَقَّ الْعُرْفِ. (1)
أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ لَيْسَتْ فِي صَالِحِ الْمُوَكِّلِ، بِأَنِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الْمُقَدَّرِ لَهُ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل بِأَكْثَرَ
__________
(1) البدائع 7 / 3467، البحر الرائق 7 / 159، وتكملة ابن عابدين 7 / 311، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 344، ومواهب الجليل 5 / 196، والوجيز 1 / 193، ومغني المحتاج 2 / 228 - 229، المغني 5 / 255، ومطالب أولي النهى 3 / 468.(45/56)
مِنَ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى يَلْزَمُ الْوَكِيل وَلاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل. (1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل السِّلْعَةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَبْلَغِ الْمُسَمَّى وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً مِثْل وَاحِدٍ فِي عِشْرِينَ، وَاثْنَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَلاَ خِيَارَ لَهُ لِيَسَارَةِ الزِّيَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَشَأْنُ النَّاسِ التَّغَابُنُ فِي ذَلِكَ. إِمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً فَإِنَّ الشِّرَاءَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُول وَعَدَمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَل الزِّيَادَةَ لَزِمَ الْوَكِيل.
وَلَكِنْ لَوِ الْتَزَمَ الْوَكِيل الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي حَدَّدَهُ لَهُ الْمُوَكِّل فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ، لِتَصْحِيحِ الْمُخَالَفَةِ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمَبْلَغِ الْمُقَدَّرِ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ تَصْرِفٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. (3)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَضْمَنُ الْوَكِيل الزِّيَادَةَ. (4)
__________
(1) البدائع 7 / 3467، والبحر الرائق 7 / 159، الفتاوى الهندية 3 / 575.
(2) الشرح الكبير 3 / 383، ومواهب الجليل 5 / 196، وجواهر الإكليل 2 / 127، وشرح الخرشي 6 / 74.
(3) مغني المحتاج 2 / 228 - 229، والوجيز 1 / 193، والمبدع 4 / 371.
(4) المبدع 4 / 371، والإنصاف 5 / 383 - 384.(45/57)
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْمُخَالَفَةُ فِي الْمُشْتَرَى:
أـ الْمُخَالَفَةُ فِي جِنْسِ الْمُشْتَرَى:
100 - إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل فَاشْتَرَى خِلاَفَ مَا وُكِّل فِي شِرَائِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيل، لأَِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ فَوَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَلاَ يَلْزَمُ بِهِ الْمُوَكِّلَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ بِهَذَا الشِّرَاءِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَكِّل مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُول وَعَدَمِهِ، فَإِنْ شَاءَ قَبِل وَإِنْ شَاءَ رَدَّ. فَإِذَا رَدَّهُ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل لِمُخَالَفَتِهِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ هُوَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَكِيل اشْتَرَى غَيْرَ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِ الْمَال أَوْ يَشْتَرِيَهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَال كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلاً، وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّل وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل وَلاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل وَإِنْ نَوَى الْمُوكِّلَ، لأَِنَّ الْخِطَابَ وَقَعَ مِنْهُ وَإِنَّمَا
__________
(1) البدائع 7 / 3467، والفتاوى الهندية 3 / 575، والمادة 1470 من المجلة.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 383، وجواهر الإكليل 2 / 127، والخرشي 6 / 73.(45/57)
يَنْصَرِفُ بِالنِّيَّةِ إِلَى الْمُوَكِّل إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لإِِذْنِهِ، فَإِنْ خَالَفَ لَغَتْ نِيَّتُهُ.
وَإِنْ سَمَّاهُ فَقَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، فَقَال: اشْتَرَيْتُ لِفُلاَنٍ، فَكَذَا يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل فِي الأَْصَحِّ وَتَلْغُو تَسْمِيَةُ الْمُوَكِّل فِي الْقَبُول لأَِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشِّرَاءِ، فَإِذَا سَمَّاهُ وَلَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهَا إِلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَبْطُل الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ صَرَّحَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّل وَقَدِ امْتَنَعَ إِيقَاعُهُ لَهُ فَيُلْغَى. (1)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيل فِي جِنْسِ الْمُشْتَرَى لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيل قَدِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَال.
فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ الشِّرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي نَفَاذِهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الشِّرَاءُ لاَزِمٌ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إِذَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 229 - 230، وحاشية الجمل 3 / 414.(45/58)
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَقِفُ نَفَاذُ الشِّرَاءِ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ وَقَدْ أَجَازَهُ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّل وَلَزِمَ الْوَكِيل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُوَكِّلَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ، لأَِنَّ الشِّرَاءَ صَدَرَ مِنْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ.
أَمَّا إِنِ اشْتَرَاهُ الْوَكِيل بِعَيْنِ الْمَالِ، مِثْل أَنْ يَقُول الْوَكِيل: بِعْنِي الدَّابَّةَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَل وَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ. (1)
ب ـ الْمُخَالَفَةُ فِي قَدْرِ الْمُشْتَرَى:
101 - إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا، فَاشْتَرَى الْوَكِيل الشَّيْءَ وَزِيَادَةً مِنْ جِنْسِهِ بِنَفْسِ الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرَهُ الْمُوَكِّل أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ هَذَا الشَّيْءَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا التَّصَرُّفِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْقِيمِيَّاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ:
فَأَمَّا الْقِيمِيَّاتُ فَلاَ يَنْفُذُ بِشَيْءٍ عَلَى الْمُوَكِّل (إِجْمَاعًا) فَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ هَرَوِىٍّ بِعَشَرَةٍ،
__________
(1) المغني 5 / 249 - 250.(45/58)
فَاشْتَرَى لَهُ ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ بِعَشَرَةٍ مِمَّا يُسَاوِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةً لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ ثَمَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ؛ إِذْ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالْحَزْرِ.
أَمَّا الْمَوْزُونُ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَال لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلاً بِدِرْهَمٍ مِمَّا يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ.
فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَاقِي، لأَِنَّ الْوَكِيل يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الأَْمْرِ فَلاَ يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الأَْمْرِ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشْرَةٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ، فَنَفَذَ شِرَاؤُهَا عَلَيْهِ، وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ فَرَسِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ هُنَا بَدَل مِلْكِ الْمُوَكِّل فَتَكُونُ لَهُ.
- وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَلْزَمُ الْمُوَكِّل الْعِشْرُونَ؛ لأَِنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ، وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ رِطْلاً فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا، وَصَارَ كَمَا إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ فَرَسِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ.
- وَإِذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنَ اللَّحْمِ لاَ تُسَاوِي دِرْهَمًا نَفَذَ الْكُل عَلَى الْوَكِيل بِالاِتِّفَاقِ.
وَلَوِ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رِطْلٍ بِدِرْهَمٍ(45/59)
يَلْزَمُ الْمُوَكِّل اسْتِحْسَانًا. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْل أَصْبَغَ بِأَنَّهُ لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: اشْتَرِ لِي شَاةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ تَسَاوَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دِينَارًا صَحَّ، وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل. (2)
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الشِّرَاءَ يَصِحُّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الشَّاتَيْنِ تُسَاوِي الدِّينَارَ وَإِنْ لَمْ تُسَاوِهِ الشَّاةُ الأُْخْرَى، أَمَّا إِذَا لَمْ تُسَاوِ إِحْدَاهُمَا دِينَارًا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ سَاوَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّاتَيْنِ نِصْفَ دِينَارٍ صَحَّ لِلْمُوَكِّل وَيَلْزَمُهُ لاَ لِلْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لاَ تُسَاوِي نِصْفَ دِينَارٍ فَرِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل.
وَقِيل: الزَّائِدُ عَلَى الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ الْمُقَدَّرَيْنِ لِلْوَكِيل. (3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا وَصَفَ الْمُوَكِّل الشَّاةَ أَوْ لَمَ يَصِفْهَا.
__________
(1) البحر الرائق 7 / 158، والبدائع 7 / 3470، واللباب2 / 49.
(2) المبدع 4 / 272، وجواهر الإكليل 2 / 128.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 471، والمبدع 4 / 372، والإنصاف 5 / 386، وانظر كشاف القناع 3 / 477 - 478.(45/59)
وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَصِفِ الْمُوَكِّل الشَّاةَ فَإِنَّ التَّوْكِيل لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: اشْتَرِ بِهَذَا الدِّينَارِ شَاةً وَوَصَفَهَا فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ: فَإِنْ لَمْ تُسَاوِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا دِينَارًا لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ لِلْمُوكِّل وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا جَمِيعًا عَلَى الدِّينَارِ لِفَوَاتِ مَا وَكَّل فِيهِ.
وَإِنْ سَاوَتْهُ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَالأَْظْهَرُ صِحَّةُ الشِّرَاءِ وَحُصُول الْمِلْكِ فِيهِمَا لِلْمُوَكِّل.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: لَوِ اشْتَرَى الْوَكِيل فِي الذِّمَّةِ فَلِلْمُوكِّل وَاحِدَةٌ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَالأُْخْرَى لِلْوَكِيل وَيَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّل نِصْفَ دِينَارٍ.
وَأَمَّا لَوِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الدِّينَارِ فَقَدِ اشْتَرَى شَاةً بِإِذْنٍ وَشَاةً بِغَيْرِ إِذْنٍ فَيَبْطُل فِي شَاةٍ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. (1)
- أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الشَّاتَانِ بِالصِّفَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالصِّفَةِ دُونَ الأُْخْرَى وَتُسَاوِيهِ وَقَعَ شِرَاؤُهُمَا لِلْمُوكِّل وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِالصِّفَةِ لَمْ يَقَعْ شِرَاؤُهُمَا لِلْمُوَكِّل. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: لاَ خِيَارَ لِلْمُوكِّل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 229.
(2) حاشية الجمل 3 / 414.(45/60)
إِنْ قَال لِوَكِيلِهِ اشْتَرِ شَاةً بِدِينَارٍ مَثَلاً دَفَعَهُ لَهُ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الأُْخْرَى بِالشِّرَاءِ لاِمْتِنَاعِ الْبَائِعِ مِنْهُ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِفْرَادُ إِحْدَاهُمَا بِالشِّرَاءِ وَاشْتَرَاهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَزِمَتِ الأُْولَى إِنِ اشْتَرَاهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا إِنِ اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَالأُْولَى فِي الصُّورَةِ الأُْولَى وَإِحْدَاهُمَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَيُخَيَّرُ فِي أَخْذِ الشَّاةِ الثَّانِيَةِ، وَتَرْكِهَا لِلْوَكِيل بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ. (1)
ج - الْمُخَالَفَةُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
102 - إِذَا قَامَ الْوَكِيل بِتَفْرِيقِ مَا وَكَّل بِشِرَائِهِ بِأَنْ قَامَ بِشِرَاءِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ فَقَطْ، وَلَمْ يَشْتَرِ الْبَاقِي، أَوْ قَامَ بِشِرَاءِ الْبَعْضِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْبَاقِي، فَالأَْمْرُ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَتَيْنِ:
103 - الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّل بِهِ مِمَّا لاَ يَمْتَنِعُ تَبْعِيضُهُ عُرْفًا، وَلاَ يَضُرُّ الْمُوَكِّل تَبْعِيضُهُ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّبْعِيضِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بَعْضَهَا سَوَاءً أَتْبَعَ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْبَاقِي أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَقَطْ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 128.(45/60)
فَلَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاتَيْنِ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، فَاشْتَرَى الْوَكِيل وَاحِدَةً فَقَطْ بِنِصْفِ الْمَبْلَغِ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَلَزِمَتِ الْمُوَكِّل الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ النَّفَاذُ عَلَى شِرَاءِ الأُْخْرَى، لأَِنَّ الإِْذْنَ وَإِنْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا لَكِنَّ الْعُرْفَ لاَ يَمْنَعُ التَّبْعِيضَ وَهُوَ لاَ يَضُرُّ بِالْمُوَكِّلِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْوَكِيل إِلاَّ شِرَاءَ وَاحِدَةً فَقَطْ، فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَهَكَذَا فِي كُل سِلْعَةٍ لاَ يَضُرُّ تَفْرِيقُهَا بِالْمُوَكِّل.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ جَوَازَ الشِّرَاءِ مُفَرَّقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا لَمْ يَقُل الْمُوَكِّل: اشْتَرِ لِي ذَلِكَ صَفْقَةً، لأَِنَّ تَنْصِيصَهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُل عَلَى غَرَضِهِ فِيهِ فَلَمْ يَتَنَاوَل إِذْنَهُ سِوَاهُ. (1)
104 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْنَعَ الْعُرْفُ تَبْعِيضَهُ، أَوْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِالْمُوَكِّلِ، كَأَنْ يُوَكِّل شَخْصٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ الصُّوفِ، فَيَشْتَرِي الْوَكِيل بَعْضَهُ فَقَطْ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ
__________
(1) حاشية الشلبي على الكنز 4 / 272، البدائع 7 / 3470، المادة 1480من المجلة، المهذب 1 / 360، والمغني 5 / 252 - 253، ومعونة أولي النهى 4 / 648 - 649، ومطالب أولي النهى 3 / 469 - 470.(45/61)
الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الإِْذْنَ تَنَاوَل جَمِيعَهُ، وَفِي التَّبْعِيضِ إِضْرَارٌ بِهِ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّل لَزِمَ الْوَكِيل مَا اشْتَرَاهُ لِمُخَالَفَتِهِ إِذَنْ مُوَكِّلِهِ.
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِذَا قَامَ الْوَكِيل بِشِرَاءِ الْبَاقِي مِنَ الصَّفْقَةِ وَقَعَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَلَزِمَ الْمُوَكِّل بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يُخَاصِمَهُ الْمُوَكِّل أَمَامَ الْقَضَاءِ، لأَِنَّ شِرَاءَ الْبَعْضِ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً لِلاِمْتِثَال كَأَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْرُوثًا فَيَشْتَرِيَهُ الْوَكِيل شِقْصًا شِقْصًا يَأْخُذُ مِنْ كُل وَارِثٍ حِصَّتَهُ فَإِنِ اشْتَرَى الْبَاقِيَ قَبْل مُخَاصَمَةِ الْمُوَكِّل تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ لِلْبَعْضِ كَانَ وَسِيلَةً لِلاِمْتِثَال فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل.
وَقَال زُفَرُ: لاَ يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُوَكِّل بَل يَقَعُ لِلْوَكِيل. (1)
أَمَّا لَوْ خَاصَمَ الْمُوكِّل وَكِيلَهُ إِلَى الْقَاضِي قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيل الْبَاقِيَ وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ، ثُمَّ قَامَ الْوَكِيل بِشِرَاءِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَى لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَكِيل بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُخَالَفَتِهِ لأَِمْرِ
__________
(1) اللباب 2 / 148، والبدائع 7 / 3469، تكملة الفتح 8 / 86، المادة 1480 من المجلة، مواهب الجليل 5 / 196 - 197، وجواهر الإكليل 2 / 127.(45/61)
مُوَكِّلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ الشِّرَاءِ مَعَ التَّفْرِيقِ، لأَِنَّ الْوَكِيل خَالَفَ إِذْنَ مُوَكِّلِهِ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ، وَفِي تَبْعِيضِ الْمَبِيعِ إِضْرَارٌ بِالْمُوَكِّل وَتَفْرِيقٌ لِمِلْكِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ هَذَا الشِّرَاءُ. (2)
د - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ بِأَنِ اشْتَرَى مَعِيبًا:
105 - إِذَا وَكَّل إِنْسَانٌ شَخْصًا فِي أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً مَوْصُوفَةً لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إِلاَّ سَلِيمَةً خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، لأَِنَّ إِطْلاَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي السَّلاَمَةَ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى عَيْنًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا ثَبَتَ لَهُ الرَّدُّ. (3)
106 - فَإِذَا خَالَفَ وَاشْتَرَاهَا مَعِيبَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الشِّرَاءِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا وَكَّل فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ
__________
(1) اللباب 2 / 148، وابن عابدين 7 / 339، وتكملة فتح القدير 8 / 86.
(2) المغني 5 / 252، ومعونة أولي النهى 4 / 648 - 649، ومطالب أولي النهى 3 / 470، والمهذب 1 / 360.
(3) البحر الرائق 7 / 155، والفتاوى الهندية 3 / 575، وتكملة فتح القدير 8 / 34، مغني المحتاج 2 / 225، ونهاية المحتاج 5 / 37 - 38، والمغني 5 / 260، ومطالب أولي النهى 3 / 473، كشاف القناع 3 / 478.(45/62)
مَوْصُوفَةٍ، فَاشْتَرَى سِلْعَةً لاَ تَتَحَقَّقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةُ، لَمْ تَلْزَمِ الآْمِرَ (الْمُوَكِّل) .
فَلَوْ قَال لَهُ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تَخْدُمُنِي أَوْ لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِلْخَبْزِ، أَوْ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِعَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال فَاشْتَرَى جَارِيَةً عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل إِجْمَاعًا.
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً يَرْكَبُهَا فَاشْتَرَى مُهْرًا، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَلْزَمِ الآْمِرَ.
- وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا يَقْطَعُهُ قَمِيصًا، فَاشْتَرَى ثَوْبًا لاَ يَكْفِيهِ قَمِيصًا، لاَ يَلْزَمِ الآْمِرَ.
أَمَّا لَوْ وَكَّل رَجُلاً وَقَال لَهُ اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أُعْتِقُهَا عَنْ ظِهَارِي، فَاشْتَرَى عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ، أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل بِذَلِكَ، لَزِمَ الآْمِرَ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ. لَوْ عَلِمَ الْوَكِيل بِذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ الشِّرَاءُ الآْمِرَ. (1)
وَقَالُوا: إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل وَقَبَضَ الْمُشْتَرَى ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيل فِي مِثْل هَذَا الْعَقْدِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 575، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 / 35.(45/62)
فَإِنَّ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُوكِّل لَمْ يَرُدَّهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ لأَِنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُوَكِّل فَخَرَجَ مِنَ الْوَكَالَةِ.
وَلَوْ رَضِيَ الْوَكِيل بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، ثُمَّ الْمُوَكِّل إِنْ شَاءَ قَبِلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْوَكِيل. (1)
107 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل مَعِيبًا مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ لَزِمَهُ إِذَا كَانَ اشْتَرَاهُ عَلَى الْبَتِّ أَوْ عَلَى الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَأَمْضَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيل عَلَى خِيَارٍ لَهُ وَلَمْ يَنْقَضِ زَمَنُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَهُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَمَحَل هَذَا إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّل.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ قَلِيلاً يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ عَادَةً وَالشِّرَاءُ فُرْصَةً أَيْ غِبْطَةً فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل كَدَابَّةٍ مَقْطُوعَةِ ذَنَبٍ لِغَيْرِ ذِي هَيْئَةٍ وَهِيَ رَخِيصَةٌ، أَمَّا شِرَاءُ دَابَّةٍ مَقْطُوعَةِ ذَنَبٍ لِذِي هَيْئَةٍ فَلاَ تَلْزَمُ وَلَوْ رَخِيصَةً. (2)
108 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: شِرَاءُ الْوَكِيل الْمَعِيبَ لاَ يَخْلُو:
إِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَعِيبَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ الْمَعِيبَ مَعَ الْعَيْبِ مَا اشْتَرَاهُ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 155، وتكملة فتح القدير 8 / 34.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 384.(45/63)
بِهِ، وَإِمَّا أَنْ لاَ يُسَاوِيَ.
فَإِذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَالْمَعِيبُ يُسَاوِي مَعَ الْعَيْبِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ وَقَعَ الشِّرَاءُ عَنِ الْمُوَكِّل إِنْ جَهِل الْمُشْتَرِي الْمَعِيْبَ، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ، لِتَخْيِيرِهِ، وَلاَ تَقْصِيرَ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيل لِجَهْلِهِ، وَلاَ خَلَل مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لإِِطْلاَقِهِ.
وَإِنْ عَلِمَ الْوَكِيل الْعَيْبَ فَلاَ يَقَعُ الشِّرَاءُ عَنِ الْمُوَكِّل فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ سَوَاءٌ سَاوَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَمْ زَادَ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الصِّيغَةَ مُطْلَقَةٌ وَلاَ نَقْصَ فِي الْمَالِيَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ الْمَعِيبُ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْمُوكِّل إِنْ عَلِمَ الْوَكِيل الْعَيْبَ لِتَقْصِيرِهِ، وَقَدْ يَهْرُبُ الْبَائِعُ فَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الرَّدِّ فَيَتَضَرَّرُ.
أَمَّا إِنْ جَهِل الْوَكِيل الْعَيْبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَعَ لِلْمُوَكِّل فِي الأَْصَحِّ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ جَاهِلاً.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل لأَِنَّ الْغَبْنَ يَمْنَعُ الْوُقُوعَ عَنِ الْمُوَكِّل مَعَ السَّلاَمَةِ فَعِنْدَ الْعَيْبِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل الْمَعِيبَ بِعَيْنِ مَال الْمُوَكِّل وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْعَيْبَ فَإِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل.
وَإِذَا عَلِمَ الْوَكِيل الْعَيْبَ وَاشْتَرَى بِعَيْنِ مَال الْمُوَكِّل لاَ يَصِحُّ الشِّرَاءُ.(45/63)
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَنُصَّ الْمُوَكِّل عَلَى سَلاَمَةِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَيْبِ، فَإِنْ نَصَّ عَلَى السَّلاَمَةِ فَالْوَجْهُ كَمَا قَال الإِْسْنَوِيُّ: أَنَّهُ لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ. (1)
وَإِذَا وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّل فِي صُورَتَيِ الْجَهْل فَلِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، أَمَّا الْمُوَكِّل فَلأَِنَّهُ الْمَالِكُ وَالضَّرَرُ لاَحِقٌ بِهِ، وَأَمَّا الْوَكِيل فَلأَِنَّهُ نَائِبُهُ.
أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل فِي صُورَةِ الْعِلْمِ فَيَرُدُّهُ الْمُوَكِّل وَحْدَهُ.
وَلَوْ رَضِيَ الْمُوَكِّل بِالْعَيْبِ أَوْ قَصَّرَ فِي الرَّدِّ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَرُدَّ الْوَكِيلُ، إِذْ لاَ حَظَّ لَهُ فِي الْفَسْخِ.
وَلَوْ قَصَّرَ الْوَكِيل فِي الرَّدِّ أَوْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ رَدَّهُ الْمُوَكِّل لِبَقَاءِ حَقِّهِ إِذَا سَمَّاهُ الْوَكِيل فِي الشِّرَاءِ أَوْ نَوَاهُ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَإِلاَّ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل لأَِنَّهُ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمُوَكِّل فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ.
وَلَوْ قَال الْبَائِعُ لِلْوَكِيل: أَخِّرِ الرَّدَّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّل لَمْ تَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ، وَإِنْ أَخَّرَ فَلاَ رَدَّ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 225 - 226، ونهاية المحتاج 5 / 37 - 38.
(2) مغني المحتاج 2 / 226، ونهاية المحتاج 5 / 37 - 38.(45/64)
109 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً مَعِيبَةً: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيل عَيْبَهَا، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ.
فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ، لَمْ يَلْزَمِ الْمُوَكِّل مَا اشْتَرَاهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي شِرَائِهِ.
هَذَا إِذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيل فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا: إِنِ اشْتَرَى الْوَكِيل بِعَيْنِ الْمَال فَكَشِرَاءِ فُضُولِيٍّ فِي الْمَذْهَبِ. (1)
وَقَال الأَْزَجِيُّ: إِنِ اشْتَرَاهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ فَهَل يَقَعُ عَنِ الْمُوَكِّل؟ لأَِنَّ الْعَيْبَ إِنَّمَا يُخَافُ مِنْهُ نَقْصُ الْمَالِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلثَّمَنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ، أَمْ لاَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل؟ فِيهِ وَجْهَانِ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الشِّرَاءُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الصَّحِيحِ فِي الظَّاهِرِ لِعَجْزِهِ عَنِ التَّحَرُّزِ عَنْ شِرَاءِ مَعِيبٍ لاَ يَعْلَمُ عَيْبَهُ.
وَقَال الأَْزَجِيُّ: إِنْ جَهِل الْوَكِيل عَيْبَ الْمُشْتَرَى وَقَدِ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَال فَهَل يَقَعُ عَنِ الْمُوَكِّل؟ فِيهِ خِلاَفٌ. (3)
فَإِذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ مَلَكَ الرَّدَّ، لأَِنَّهُ قَائِمٌ فِي الشِّرَاءِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلِلْمُوَكِّل رَدُّهُ بِالْعَيْبِ أَيْضًا
__________
(1) المغني 5 / 260 - 261، الروض المربع 1 / 207، والإنصاف 5 / 387، كشاف القناع 3 / 478.
(2) الإنصاف 5 / 387.
(3) الإنصاف 5 / 387.(45/64)
لأَِنَّ الْمِلْكَ لَهُ.
فَإِنْ حَضَرَ قَبْل رَدِّ الْوَكِيل وَرَضِيَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيل رَدُّهُ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ. (1)
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَخَالَفَ الْوَكِيل فَاشْتَرَاهَا مَعِيبَةً.
أَمَّا أَمْرُ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ عَيَّنَهَا لَهُ وَهِيَ مَعِيبَةٌ فَقَدْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيل بِالْعَيْبِ قَبْل الشِّرَاءِ وَإِمَّا أَنْ لاَ يَعْلَمَ بِهِ.
فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ قَبْل الشِّرَاءِ فَلَيْسَ لَهُ شِرَاؤُهُ، لأَِنَّ الْعَيْبَ إِذَا جَازَ بِهِ الرَّدُّ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلأََنْ يُمْنَعَ مِنَ الشِّرَاءِ أَوْلَى.
فَإِنِ اشْتَرَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَزِمَ الْوَكِيل الشِّرَاءُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَعِيبٍ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَهُ الْمُوَكِّل فَلَهُ، لأَِنَّ الْوَكِيل نَوَى الْعَقْدَ لَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَهُ الْمُوَكِّل لَزِمَ الْمَعِيبُ الْوَكِيل.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل بِالْعَيْبِ قَبْل الشِّرَاءِ بِحَيْثُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ وَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَلَهُ الرَّدُّ لاِقْتِضَاءِ الأَْمْرِ السَّلاَمَةَ. (2)
هَذَا إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَال الَّذِي وُكِّل فِي
__________
(1) المغني 5 / 261.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 473.(45/65)
الشِّرَاءِ بِهِ فَشِرَاءٌ فُضُولِيٌّ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيل لاَ يَصِحُّ لِلْمُوَكِّل. (1)
وَقَالُوا: لِلْوَكِيل وَلِلْمُوَكِّل رَدُّ مَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيل غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهِ، أَمَّا الْمُوَكِّل فَلأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَأَمَّا الْوَكِيل فَلِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.
وَلاَ يَرُدُّ وَكِيلٌ مَا عَيَّنَهُ لَهُ مُوَكِّلٌ كَاشْتَرِ هَذَا الثَّوْبَ أَوِ الْحَيَوَانَ، فَاشْتَرَاهُ بِعَيْبٍ وَجَدَهُ الْوَكِيل فِيهِ قَبْل إِعْلاَمِ الْمُوَكِّل قَال فِي الرِّعَايَتَيْنِ: هَذَا أَوْلَى، وَقَال فِي تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ: هَذَا الأَْظْهَرُ، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِقَطْعِهِ نَظَرَ وَكِيلِهِ بِتَعْيِينِهِ، فَرُبَّمَا رَضِيَهُ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مُعَيَّنٍ، فَاشْتَرَاهُ، وَوَجَدَهُ مَعِيبًا؛ فَلَهُ الرَّدُّ قَبْل إِعْلاَمِهِ مُوَكِّلَهُ.
وَيَرُدُّ الْوَكِيل مَبِيعًا وَجَدَهُ مَعِيبًا مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُ الْمُوَكِّل.
فَإِنِ ادَّعَى بَائِعُ مَعِيبٍ رِضَا مُوَكِّلِهِ بِالْعَيْبِ وَالْمُوَكِّل غَائِبٌ؛ حَلَفَ الْوَكِيل أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ رِضَا مُوَكِّلِهِ، وَرَدَّ الْمَبِيعَ لِلْعَيْبِ، ثُمَّ إِنْ حَضَرَ الْمُوَكِّل فَصَدَّقَ بَائِعًا عَلَى رِضَاهُ بِعَيْبِهِ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ لاِنْعِزَال الْوَكِيل مِنَ الرَّدِّ بِرِضَا الْمُوَكِّل بِالْعَيْبِ، وَالْمَعِيبُ بَاقٍ لِلْمُوَكِل؛
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 473.(45/65)
فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَى الرِّضَا مِنْ قَبْلِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ بَائِعٌ رِضَا مُوَكِّلٍ، وَقَال لَهُ: تَوَقَّفْ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّل فَرُبَّمَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ؛ لَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيل ذَلِكَ؛ لاِحْتِمَال هَرَبِ الْبَائِعِ أَوْ فَوَاتِ الثَّمَنِ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ طَاوَعَهُ لَمْ يَسْقُطْ رَدُّ مُوَكِّلٍ.
وَيَتَّجِهُ: لاَ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَعِيبِ الَّذِي ادَّعَى بَائِعٌ رِضَا الْمُوَكِّل بِعَيْبِهِ قَبْل مُرَاجَعَةِ الْمُوَكِّل؛ لاِعْتِرَافِ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ أَنَّهُ لِلْمُوَكِّل وَحْدَهُ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَال الرُّحَيْبَانِيُّ: وَهَذَا الاِتِّجَاهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَيَبْقَى الْمَبِيعُ تَحْتَ يَدِ الْبَائِعِ أَمَانَةً إِلَى حُضُورِ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ أَخَذَهُ الْمُوَكِّلُ، وَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ تَلَفَهُ بِلاَ تَعَمُّدٍ وَلاَ تَفْرِيطٍ؛ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ.
وَإِنْ أَسْقَطَ وَكِيلٌ اشْتَرَى مَعِيبًا خِيَارَهُ مِنْ عَيْبٍ وَجَدَهُ، وَلَمْ يَرْضَ مُوَكِّلُهُ بِالْعَيْبِ فَلِلْوَكِيل رَدُّهُ؛ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ. (1)
الأَْمْرُ الثَّالِثُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِأَنْ عَقَدَ عَقْدًا صَحِيحًا:
110 - إِذَا وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ فِي أَنْ يَعْقِدَ لَهُ عَقْدًا فَاسِدًا، لَمْ يَمْلِكِ الْوَكِيل أَنْ يَعْقِدَهُ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 473 ـ 475.(45/66)
لاَ يَمْلِكُهُ، فَالْوَكِيل مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ. (1)
وَلَكِنْ هَل يَمْلِكُ الْوَكِيل أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا صَحِيحًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ بَدَلاً مِنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي وُكِّل فِيهِ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ بَيْعِهِمَا، أَوْ بَيْعِ أَيِّهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَل وَالْخَيْل أَوْ بَيْعَهُمَا بَدَلاً مِنْهُمَا، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَذِنَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ. (2)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ اسْتِحْسَانًا، فَلَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: بِعْهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَبَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا نَفَذَ عَلَى الآْمِرِ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ خَيْرٌ لِلآْمِرِ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ، فَلاَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُوَكِّلِ، كَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ إِذَا بَاعَ بِأَلْفَيْنِ. (3)
__________
(1) المغني 5 / 252، والروض المربع 1 / 208، وروضة الطالبين 4 / 323، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 676.
(2) المبسوط 19 / 56، والفتاوى البزازية 3 / 476، وروضة الطالبين 4 / 323، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 676، والمغني 5 / 252، والانصاف 5 / 392.
(3) المبسوط 19 / 56، والفتاوى البزازية 3 / 476.(45/66)
الأَْمْرُ الرَّابِعُ: مُخَالَفَةُ الْوَكِيل اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ:
111 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلآْمِرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ خِيَارٍ، أَوْ بِخِيَارٍ دُونَ الثَّلاَثَةِ فَدَفَعَهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ، لأَِنَّهُ أَتَى بِعَقْدٍ هُوَ أَضَرُّ عَلَى الآْمِرِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الرَّأْيُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ إِلَى الْمُوَكِّل بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ أَوْ يُمْضِيَهُ، وَقَدْ أَتَى بِعَقْدٍ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الرَّأْيِ لِلآْمِرِ، فَكَانَ مُخَالِفًا كَالْغَاصِبِ.
وَلَوْ قَال: بِعْهُ وَاشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِي شَهْرًا فَبَاعَهُ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ جَازَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِهِمَا، لأَِنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ وَيَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهُ، فَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِعَقْدٍ يَكُونُ فِيهِ الرَّأْيُ إِلَى الآْمِرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَكَانَ ضَامِنًا، وَإِنَّ مِنْ أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ لاَ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا هَذَا وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ، وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا بَاعَ بَيْعًا جَائِزًا نَفَذَ عَلَى الآْمِرِ اسْتِحْسَانًا. فَهَذَا مِثْلُهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ فِي الْبَيْعِ: بِعْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَبَاعَ مُطْلَقًا لَمْ يَصِحَّ
__________
(1) المبسوط 19 / 55 ـ 56.(45/67)
الْبَيْعُ، أَمَّا لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيل شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيل بِالشِّرَاءِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ.
وَإِذَا شَرَطَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ لأَِنْفُسِهِمَا أَوْ لِلْمُوَكِّل فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِلْوَكِيل شَرْطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ لَهُ وَلِمُوَكِّلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ لَمْ يَصِحَّ، وَلَهُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِمُوَكِّلِهِ، لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا.
وَلاَ يَمْلِكُ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدِ مَعَهُ، لأَِنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُوَكِّلِهِ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَعَقْدُ الْوَكَالَةِ لاَ يَقْتَضِيهِ.
وَمُقْتَضَى عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا أَمَرَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ فَإِنَّ الْوَكِيل لَيْسَ لَهُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ. (2)
التَّوْكِيل فِي الْخُصُومَةِ:
إِقْرَارُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ:
112 - لَوْ وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ فِي خُصُومَةٍ، فَهَل يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يُقِرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِيهَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 332.
(2) كشاف القناع 3 / 478، والمبدع 4 / 370.(45/67)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ وَكِيل الْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ لاَ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَلاَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيل كَالإِْبْرَاءِ، وَلأَِنَّ الْوَكِيل مَأْمُورٌ لاَ يَمْلِكُ الإِْنْكَارَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمُوَكِّل مِنَ الإِْقْرَارِ فَلَوْ مَلَكَ الإِْقْرَارَ لاَمْتَنَعَ عَلَى الْمُوَكِّل الإِْنْكَارُ فَافْتَرَقَا، وَلأَِنَّ الْوَكِيل مَأْمُورٌ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ مُنَازَعَةٌ، وَالإِْقْرَارُ ضِدُّهَا لأَِنَّهُ مُسَالَمَةٌ، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ لاَ يَتَنَاوَل ضِدَّهُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ إِقْرَارِ الْوَكِيل عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَطْ، بِاسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ مُطْلَقًا اسْتِحْسَانًا.
وَوَجْهُ عَدَمِ قَبُول إِقْرَارِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْمُوَكِّل أَنَّ فِي الإِْقْرَارِ هُنَا شُبْهَةً فَامْتَنَعَ، أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَيَجُوزُ الإِْقْرَارُ فِيهِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل صَحِيحٌ وَصِحَّتُهُ تَتَنَاوَل مَا يَمْلِكُهُ، وَذَلِكَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ بِالإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ دُونَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلصِّحَّةِ، وَقَدْ خَصَّصَا ذَلِكَ
__________
(1) تكملة ابن عابدين 7 / 365، تكملة فتح القدير 8 / 114، وجواهر الاكليل 2 / 125، ومواهب الجليل 5 / 188، وبداية المجتهد 2 / 272، وقوانين الأحكام الشرعية ص 357، ورضة الطالبين 4 / 320، والإنصاف 5 / 393، والمغني 5 / 218.(45/68)
بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل إِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَحَقِيقَتُهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَمْ يَكُنْ وَكِيلاً فِي غَيْرِهِ، لأَِنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْخُصُومَةِ الَّتِي هُوَ وَكِيلٌ فِيهَا.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا قَبُول الإِْقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَيْضًا، لأَِنَّ الْوَكِيل قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَإِقْرَارُهُ لاَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَبُول إِقْرَارِ وَكِيل الْخُصُومَةِ عَلَى مُوَكِّلِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل أَقَامَ الْوَكِيل مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلإِْقْرَارِ بِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَهَذَا لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لاَ يَكُونُ مُوجِبًا إِلاَّ بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إِلَيْهِ. (2)
أَمَّا لَوِ اسْتَثْنَى الْمُوَكِّل الإِْقْرَارَ بِأَنْ قَال لِلْوَكِيل: وَكَّلْتُكَ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الإِْقْرَارِ صَحَّ التَّوْكِيل وَالاِسْتِثْنَاءُ عَلَى
__________
(1) حاشية قرة عيون الأخيار 7 / 365، والمبسوط 19 / 6، والمادة 1517 من المجلة، والفتاوى الهندية، 3 / 617، والفتاوى البزازية 3 / 467، وتكملة فتح القدير 8 / 114.
(2) تكملة ابن عابدين 7 / 365، والمبسوط 19 / 6، والفتاوى الهندية 3 / 617.(45/68)
الظَّاهِرِ، فَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَصِحُّ الإِْقْرَارُ وَيَخْرُجْ بِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ فَلاَ تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ. (1) (: ف63)
تَصَرُّفُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي الْحَقِّ:
113 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ الْمُصَالَحَةَ عَنِ الْحَقِّ، وَلاَ الإِْبْرَاءَ مِنْهُ، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ أَنَّ يَبِيعَ وَلاَ أَنْ يَهِبَ، لأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَتْ مِنَ الْخُصُومَةِ، بَل هِيَ ضِدُّ الْخُصُومَةِ قَاطِعَةٌ لَهَا، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ لاَ يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يُؤَجِّل الْحَقَّ. (3)
حَقُّ الْوَكِيل بِالْقَبْضِ فِي الْخُصُومَةِ:
114 - إِذَا وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ فِي قَبْضِ حَقٍّ لَهُ قِبَل فُلاَنٍ فَجَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، فَهَل يَمْلِكُ الْوَكِيل إِثْبَاتَ هَذَا الْحَقِّ الْمَأْذُونِ فِي قَبْضِهِ؟
__________
(1) تكملة ابن عابدين 7 / 366، والمادة (1518) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) المبسوط 19 / 12، وقرة عيون الأخيار 1 / 282، وتكملة فتح القدير 8 / 114، والمهذب 1 / 358، والمغني 5 / 218، ومطالب أولي النهى 3 / 484، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 686.
(3) المبسوط 19 / 10 - 12، وتكملة حاشية ابن عابدين 7 / 361.(45/69)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل فِي قَبْضِ الْحَقِّ يَكُونُ وَكِيلاً فِي الْخُصُومَةِ إِذَا جَحَدَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَوَصَّل إِلَى الْقَبْضِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ فَكَانَ إِذْنًا فِيهِ عُرْفًا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ الْمَأْذُونِ فِي قَبْضِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْحَقِّ عَالِمًا بِبَذْل الْغَرِيمِ مَا عَلَيْهِ، أَوْ جَحْدِهُ أَوْ مَطْلِهُ. (1)
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا جَاءَ فِي الْفُنُونِ - صِحَّةَ خُصُومَةِ الْوَكِيل بِالْقَبْضِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَكِيل يَعْلَمُ ظُلْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْل - كَمَا قَال ابْنُ مُفْلِحٍ - صِحَّةُ الْخُصُومَةِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ظُلْمَ الْمُوَكِّلِ، فَلَوْ ظَنَّ ظُلْمَهُ جَازَ وَيَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ، وَمَعَ الشَّكِّ يَتَوَجَّهُ احْتِمَالاَنِ: قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: لَعَل الْجَوَازَ أَوْلَى. (2)
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالْقَبْضِ لاَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِي
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 219، والإنصاف 5 / 394، ومعونة أولي النهى 4 / 663، والمهذب 1 / 358.
(2) الانصاف 5 / 394.(45/69)
الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الْقَبْضِ لَيْسَ إِذْنًا فِي الْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ يَرْضَاهُ لِلْقَبْضِ يَرْضَاهُ لِلْخُصُومَةِ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ كُل مَنْ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَال يَهْتَدِي فِي الْخُصُومَاتِ، فَلَمْ يَكُنِ الرِّضَا بِالْقَبْضِ رِضًا بِالْخُصُومَةِ. (1)
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيل بِقَبْضِ الْعَيْنِ، لاَ يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّل مِنْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قَصْرِ يَدِهِ عَنْهُ، فَتُقْبَل الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ، فَأَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبُ، قُبِل ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ خُصُومَتَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنِ الْوَكِيل فِيهِ. (2)
وَقَال: إِنَّ التَّوْكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ، وَالْحُقُوقُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَال بِالْمَال تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَدَلاَلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لاَ يُتَصَوَّرُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْفِعْل وَهُوَ فِعْل تَسْلِيمِ
__________
(1) المبسوط 19 / 17، وتكملة فتح القدير 8 / 112، والإنصاف 5 / 394، والمغني 5 / 219، والمهذب 1 / 358، ومواهب الجليل 5 / 194، وأسنى المطالب 2 / 259.
(2) المبسوط 19 / 17، وتكملة فتح القدير 8 / 112، وبدائع الصنائع 6 / 25، ط. الجمالية.(45/70)
الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَكُل ذَلِكَ لاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُبَادَلَةٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، وَتَمْلِيكُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْمَالِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ فِي حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَال بِالْمَال فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيل بِخِلاَفِ الْوَكِيل بِقَبْضِ الثَّمَنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لاَ بِالْمُبَادَلَةِ، لأَِنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الاِسْتِيفَاءِ فَلاَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهَا إِلاَّ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْخُصُومَةَ لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنَ الْمُوَكَّل بِالْقَبْضِ، لأَِنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لاَ عَلَى خَصْمٍ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ فِي دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيل. (1)
حَقُّ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ الْمَال الْمُوَكَّل بِهِ:
115 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ مَا وُكِّل بِالْمُخَاصَمَةِ فِيهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْفَتْوَى عَلَيْهِ - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل فِي الْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ قَبْضَ الْحَقِّ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل قَدْ يَرْضَى لِلْخُصُومَةِ مَنْ لاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 25.(45/70)
يَرْضَاهُ لِلْقَبْضِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرَ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ قَطَعَ بِهِ ابْنُ أِبِي الْبَنَّا فِي تَعْلِيقِهِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لأَِنَّ الْوَكِيل بِالشَّيْءِ وَكِيلٌ بِإِتْمَامِهِ، وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ وَالتَّقَاضِي يَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (2)
أَمَّا لَوِ اسْتَثْنَى الْمُوَكِّل الْقَبْضَ فَإِنَّ الْوَكِيل لاَ يَمْلِكُهُ، لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلاَ يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ. أَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ مَعًا فَيَكُونُ لَهُ الْخِلاَفُ بِالاِتِّفَاقِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ يَكُونُ لَهُ الْقَبْضُ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ. (3)
تَوْكِيل الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ غَيْرَهُ فِيهَا:
116 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِنْ أَذِنَ لِلْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي تَوْكِيل غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِيهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا نَهَى الْوَكِيل عَنْ
__________
(1) تكملة ابن عابدين 1 / 280، والبحر الرائق، 7 / 178، والفتاوى الهندية3 / 620، وتكملة فتح القدير 8 / 106، والإنصاف 5 / 393، وكشاف القناع 3 / 483، وأسنى المطالب 2 / 259.
(2) تكملة ابن عابدين 1 / 280، والبحر الرائق، 7 / 178، والفتاوى الهندية3 / 620، وتكملة فتح القدير 8 / 106، والإنصاف 5 / 393.
(3) الإنصاف 5 / 393 - 394.(45/71)
تَوْكِيل غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ مَعَ النَّهْيِ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ. (1)
117 - وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَوْكِيل الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ غَيْرَهُ عِنْدَ إِطْلاَقِ التَّوْكِيل:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِيهَا، لأَِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ (2) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ مِمَّا يَلِيقُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الْوَكِيل بِنَفْسِهِ؛ فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَهُ فِي أَمْرٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَهُ، أَوْ لاَ يُحْسِنُهُ، فَإِنَّهُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِيهِ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ لاَ تَكْثُرَ الْخُصُومَةُ الْمُوَكَّل بِهَا عَلَى الْوَكِيلِ، فَإِذَا كَثُرَتْ فَيُوَكِّل مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي وُكِّل فِيهِ لِيُعِينَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ اسْتِقْلاَلاً.
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 / 10 ـ 11، والحاوي للماوردي 8 / 210 ـ 211، والمغني مع الشرح 5 / 215، وحاشية الدسوقي 3 / 388.
(2) حديث: لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 157) ومسلم (3 / 1337) من حديث أم سلمة.(45/71)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَثُرَتِ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَكَّل فِيهَا، وَلَمْ يُمْكِنِ الإِْتْيَانُ بِجَمِيعِهَا لِكَثْرَتِهَا فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُوَكِّل فِيمَا يَزِيدُ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَلاَ يُوَكِّل فِي الْمُمْكِنِ، وَفِي وَجْهٍ يُوَكِّل فِي الْجَمِيعِ.
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيل غَيْرِهِ فِيهَا. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَخْلُو التَّوْكِيل مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْهَى الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ عَنِ التَّوْكِيلِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ.
الثَّانِي: أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيل فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلاَفًا، وَإِنْ قَال لَهُ: وَكَّلْتُكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ، لأَِنَّ لَفْظَ الْمُوَكِّل عَامٌّ فِيمَا شَاءَ فَيَدْخُل فِي عُمُومِهِ التَّوْكِيل.
الثَّالِثُ: أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيل عَنْ مِثْلِهِ كَالأَْعْمَال الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ
__________
(1) المبسوط 9 / 10 ـ 11، والإنصاف 5 / 362، وكشاف القناع 3 / 466، وحاشية الدسوقي 3 / 388، وروضة الطالبين 4 / 318.(45/72)
النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لاَ يُحْسِنُهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيل فِيهِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَعْمَلُهُ الْوَكِيل عَادَةً انْصَرَفَ الإِْذْنُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الاِسْتِنَابَةِ فِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيل فِي عَمَلِهِ أَيْضًا، لأَِنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيل فَجَازَ التَّوْكِيل فِي فِعْل جَمِيعِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيل بِلَفْظِهِ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا لَهُ التَّوْكِيل فِيمَا زَادَ عَلَى مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل إِنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ فَاخْتَصَّ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، بِخِلاَفِ وُجُودِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ وَلاَ يَتَرَفَّعُ عَنْهُ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيل فِيهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَجُوزُ، نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيل وَلاَ تَضَمَّنَهُ إِذْنُهُ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ نَهَاهُ، وَلأَِنَّهُ اسْتِئْمَانٌ فِيمَا يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ.
وَالأُْخْرَى: يَجُوزُ، نَقَلَهَا حَنْبَلٌ. (1)
__________
(1) المغني 5 / 215 ـ 216.(45/72)
118 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَكَّل شَخْصَانِ شَخْصًا وَاحِدًا بِالْخُصُومَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُخَاصِمُ صَاحِبَهُ، كَانَ ذَلِكَ التَّوْكِيل غَيْرَ صَحِيحٍ وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَتَوَلَّى الْخُصُومَةَ عَنِ الضِّدَّيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الأَْحْكَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا مِنْ جَانِبٍ، وَجَاحِدًا مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَالتَّضَادُّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَفِي الْخُصُومَةِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ لِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ فَوَكَّلُوا جَمِيعًا وَكِيلاً وَاحِدًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا، لأَِنَّ الْوَكِيل مُعَبِّرٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنِ اثْنَيْنِ فَمَا زَادَ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. (1)
التَّوْكِيل بِقَضَاءِ الدَّيْنِ:
119 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّل غَيْرَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَقَال: اقْضِهِ وَلاَ تَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيل إِذَا أَنْكَرَهُ رَبُّ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ حَضَرَ الْمُوَكِّل أَوْ غَابَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ. (2)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّل غَيْرَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُوَكِّل وَأَمَرَ الْوَكِيل بِالإِْشْهَادِ فَقَضَاهُ
__________
(1) المبسوط 13 / 15، والفتاوى الهندية 3 / 627.
(2) معونة أولي النهى 4 / 662، وحاشية الدسوقي 3 / 391، والفتاوى الهندية 3 / 627.(45/73)
وَلَمْ يَشْهَدْ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. (1)
120 - وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ الْوَكِيل إِذَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّل بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْشْهَادِ فَقَضَاهُ وَلَمْ يُشْهِدْ وَأَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ الْقَضَاءَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ، فَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَمَا لَوِ ادَّعَى الْمُوَكِّل ذَلِكَ، وَضَمِنَ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ مَا أَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ قَضَاءَهُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ. (2)
121 - وَهُنَاكَ أَحْوَالٌ لاَ يَضْمَنُ فِيهَا الْوَكِيل بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، مِنْهَا:
أ - أَنْ يَقْضِيَ الْوَكِيل الدَّيْنَ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّل وَلَمْ يُشْهِدْ، لَمْ يَضْمَنْ، لأَِنَّ تَرْكَهُ الإِْشْهَادَ رِضًا مِنَ الْمُوَكِّل بِمَا فَعَل وَكِيلُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) المهذب 1 / 363، والإنصاف 5 / 395، والفتاوى الهندية 3 / 627، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 692، وحاشية الدسوقي 3 / 391.
(2) المهذب 1 / 363، ومغني المحتاج 2 / 236، والإنصاف 5 / 395، والمغني مع الشرح 5 / 232، ومعونة أولي النهى 4 / 662.(45/73)
قَوْلٍ أَنَّ الْوَكِيل يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ، وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ تَرْكَ الإِْشْهَادِ يُثْبِتُ الضَّمَانَ، فَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِحُضُورِ الْمُوَكِّل كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ. (1)
ب - أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْقَضَاءِ عُدُولاً فَمَاتُوا أَوْ غَابُوا أَوْ فَسَقَوْا، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّل الْقَضَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْوَكِيل لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ ضَمَانِ الْوَكِيل مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُوَكِّلُ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّل قُضِيَ لَهُ بِالضَّمَانِ، لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهُ.
وَعَدَمُ تَضْمِينِ الْوَكِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا حَلَفَ الْوَكِيل عَلَى الإِْشْهَادِ فَيَكُونُ بَرِيئًا حِينَئِذٍ. (2)
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لاَ يَضْمَنُ الْوَكِيل سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الإِْشْهَادُ أَوْ لاَ.
وَقِيل: يَضْمَنُ إِنْ أَمْكَنَهُ الإِْشْهَادُ وَلَمْ يُشْهِدْ وَإِلاَّ فَلاَ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ
__________
(1) المغني مع الشرح 5 / 233، والإنصاف 5 / 396، والمهذب 1 / 363، ومغني المحتاج 2 / 236، وفتح العزيز بذيل المجموع 11 / 83.
(2) شرح الزرقاني 6 / 85، والفتاوى الهندية 3 / 627، والمهذب 1 / 363، وفتح العزيز بذيل المجموع 11 / 83، ومطالب أولي النهى 3 / 480، والمغني 5 / 233.(45/74)
يَضْمَنُهُ إِنْ كَذَّبَهُ الْمُوَكِّل وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حُكِيَ بِقِيل - لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيل عِنْدَ عَدَمِ الإِْشْهَادِ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِعَدَمِ الإِْشْهَادِ. (2)
التَّوْكِيل بِاقْتِضَاءِ الدَّيْنِ:
122 - إِذَا وَجَبَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِأَيِّ وَجْهٍ وَجَبَ، فَوَكَّل وَكِيلاً بِقَبْضِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ الْوَكِيل بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَكَانَ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيل مِلْكًا لِلْمُوَكِّلِ، وَأَمَانَةً فِي يَدِ الْوَكِيل يَضْمَنُهُ بِمَا يَضْمَنُ بِهِ الْوَدِيعَةَ.
وَلَيْسَ لِلْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَنْ يَهَبَ الدَّيْنَ لِلْغَرِيمِ، أَوْ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، أَوْ أَنْ يُبْرِئَهُ. (3) وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا بِهِ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِالْمَال جَازَ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْكَفِيل عَلَى أَنْ يَبْرَأَ الْغَرِيمُ لَمْ تَجُزِ الْبَرَاءَةُ، وَلَوْ أَخَذَ الطَّالِبُ مِنْهُ كَفِيلاً لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيل أَنْ يَتَقَاضَى الدَّيْنَ مِنَ الْكَفِيل. (4)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ
__________
(1) الإنصاف 5 / 396.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 391.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 621، وروضة القضاة 2 / 659، وجواهر الإكليل 2 / 125، ومغني المحتاج 2 / 220، والمبدع 4 / 379 ـ 381.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 621.(45/74)
يُصَالِحَ عَنِ الدَّيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُوَكِّل. (1)
حُكْمُ دَفْعِ الْحُقُوقِ إِلَى مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْغَائِبِ:
123 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ فَادَّعَى إِنْسَانٌ أَنَّهُ وَكِيل رَبِّهِ فِي قَبْضِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الدَّفْعِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا. (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دَفْعِ الْحَقِّ إِلَى مُدِّعِي الْوَكَالَةِ إِذَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى التَّوْكِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّ الْحَقَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ دَيْنًا وَلَمْ يُقِمْ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّوْكِيل، فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَدِينُ وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ.
فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَدِينُ عَلَى التَّوْكِيل فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ لاَ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَى مُدِّعِي
__________
(1) البيان والتحصيل 8 / 188، ومطالب أولي النهى 3 / 484، ومعونة أولي النهى 4 / 665.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 233، والمبدع 4 / 386، والإنصاف 5 / 204، مغني المحتاج 2 / 237، وروضة الطالبين 4 / 345، وتكملة ابن عابدين (قرة عيون الأخيار) 1 / 288، والحاوي 8 / 255، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 207.(45/75)
الْوَكَالَةِ، لأَِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لاَ يَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْوَكَالَةَ. (1)
وَإِنْ دَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِاخْتِيَارِهِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى مَنِ ادَّعَى وَكَالَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَأَنْكَرَ الدَّائِنُ ذَلِكَ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوَكِّل الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ لاِحْتِمَال صِدْقِ الْمُدَّعِي الْوَكَالَةَ.
وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِ وَكِيلِهِ.
وَيَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَى الْوَكِيل مَعَ بَقَائِهِ أَوْ تَعَدِّيهِ فِي تَلَفٍ، أَوْ تَفْرِيطِهِ حَتَّى تَلِفَ، لاِسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا صَدَّقَ الدَّافِعُ الْوَكِيل بَرِئَ الدَّافِعُ.
أَمَّا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَإِنَّ الدَّافِعَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ، لأَِنَّ الدَّافِعَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوَكِيل لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّفْرِيطِ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّوْكِيل وَكَذَّبَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي أَنَّهُ وَكِيلُهُ فَلاَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 233 ـ 234، ومعونة أولي النهى 4 / 680، وكشاف القناع 3 / 490 ـ 491، ومغني المحتاج 2 / 237، وروضة الطالبين 4 / 345.
(2) معونة أولي النهى 4 / 680 ـ 681، وكشاف القناع 3 / 490 ـ 491، والمبدع 4 / 386، ومغني المحتاج 2 / 237، وروضة الطالبين 4 / 345، والزرقاني 6 / 87.(45/75)
يَلْزَمُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى مُدَّعِي الْوَكَالَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحَلِفُ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ اسْتِحْلاَفِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَرَجَعَ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ، لأَِنَّ الْحَقَّ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِدَفْعِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَمْ تَثْبُتْ وَكَالَةُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ. (1)
وَإِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا فَالأَْمْرُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ يُصَدِّقُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوْكِيل وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ: فَإِنْ صَدَّقَهُ فَإِنَّ الأَْمْرَ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَائِمَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً.
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الدَّافِعُ وَكَانَ الْمَدْفُوعُ عَيْنًا وَوَجَدَهَا صَاحِبُهَا قَائِمَةً، أَخَذَهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ لأَِنَّهَا عَيْنُ حَقِّهِ.
وَإِنْ تَلِفَتْ فَلَهُ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ وَالْقَابِضِ، لأَِنَّ الدَّافِعَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ، وَالْقَابِضَ قَبْضَ مَا لاَ يَسْتَحِقُّهُ. (2)
وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مُتْلِفٍ أَوْ مُفَرِّطٍ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ ظُلْمٌ وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 491، والمبدع 4 / 376، ومعونة أولي النهى 4 / 681، وروضة الطالبين 4 / 345، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 207.
(2) المبدع 4 / 386، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 234.(45/76)
صَاحِبِهِ تَعَدٍّ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِظُلْمِ غَيْرِهِ. (1)
وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ بَقِيَ الْمَدْفُوعُ بِيَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَوْ تَلِفَ. (2)
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا حَضَرَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَأَنْكَرَ التَّوْكِيلَ، أَمَّا إِذَا صَدَّقَ التَّوْكِيل فَإِنَّهُ لاَ يَبْقَى مَحَلٌّ لِلنِّزَاعِ أَصْلاً.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ كَذَلِكَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ.
أـ أَمَّا الدَّيْنُ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيل الْغَائِبِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، لأَِنَّ مَا يَقْبِضُهُ خَالِصُ حَقِّهِ؛ إِذِ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ إِلَى صَاحِبِهِ (الطَّالِبِ) لاَ يُصَدَّقُ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ إِلَى الْوَكِيل بِإِقْرَارِهِ وَثَبَتَتِ الْوَكَالَةُ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الإِْيفَاءُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ فَلاَ يُؤَخَّرُ حَقُّهُ.
وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ رَبَّ الْمَال وَيَسْتَحْلِفَهُ، وَلاَ
__________
(1) معونة أولي النهى 4 / 682، وروضة الطالبين 4 / 345، ومغني المحتاج 2 / 237، والحاوي 8 / 249 ـ 250، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 207.
(2) معونة أولي النهى 4 / 682 وانظر كشاف القناع 4 / 680 ـ 681، والمبدع 4 / 386، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 233 ـ 234، وروضة الطالبين 4 / 345، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 27.(45/76)
يَسْتَحْلِفُ الْوَكِيل بِاللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدِ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ، لأَِنَّ النِّيَابَةَ لاَ تَجْرِي فِي الأَْيْمَانِ.
فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ فَصَدَّقَ الْوَكِيل بَرِئَ الْغَرِيمُ وَإِلاَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ ثَانِيًا، لأَِنَّهُ إِذَا صَدَّقَهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلاً لَهُ، وَقَبْضُ الْوَكِيل قَبْضُ الْمُوَكِّل فَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ بِهِ. وَإِنْ كَذَّبَ الْغَائِبُ مُدَّعِيَ الْوَكَالَةِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ، لأَِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ، وَالْقَوْل قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَلاَ يَكُونُ قَوْل الدَّافِعِ وَمُدَّعِي الْوَكَالَةِ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الدَّيْنَ ثَانِيًا إِنْ لَمْ يَجْرِ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَرَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيل بِمَا قَبَضَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَانْقَطَعَ حَقُّ الطَّالِبِ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ الاِحْتِمَال فِيهِ حَيْثُ قَبَضَ دَيْنَهُ مِنْهُ ثَانِيًا.
وَإِنْ ضَاعَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْوَكِيل لاَ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْغَرِيمَ بِإِقْرَارِهِ صَارَ مُحِقًّا فِي تَسْلِيمِهِ الدَّيْنَ، وَإِنَّمَا ظَلَمَهُ الطَّالِبُ بِالأَْخْذِ مِنْهُ ثَانِيًا، وَالْمَظْلُومُ لاَ يَظْلِمُ غَيْرَهُ، إِلاَّ أَنْ يَضْمَنَ الْغَرِيمُ الْوَكِيل فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ، لأَِنَّ الضَّمَانَ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ. (1)
وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُدَّعِيَ الْوَكَالَةِ وَدَفَعَ الدَّيْنَ إِلَيْهِ عَلَى ادِّعَائِهِ، فَإِنَّ الْغَرِيمَ يَضْمَنُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 281 ـ 282، ومغني المحتاج 2 / 237، والحاوي 8 / 250.(45/77)
الْوَكِيل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لأَِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ عَلَى احْتِمَال أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً وَلَمْ يَرْضَ بِقَبْضِهِ إِلاَّ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ تَحْصِيلاً لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُل وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُكَذِّبَهُ صَرِيحًا أَوْ يَسْكُتَ، لأَِنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ يَشْمَل الصُّورَتَيْنِ وَزَعْمَهُ فِيمَا إِذَا كَذَّبَهُ أَنَّهُ قَبَضَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَنَّ قَبْضَهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّصْدِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا قَبْل أَنْ يَحْضُرَ الطَّالِبُ، لأَِنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ حَقًّا لِلطَّالِبِ.
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ فَظَاهِرٌ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَتَصَادَقَانِ ظَاهِرًا إِلاَّ عَلَى حَقٍّ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فَلاِحْتِمَال أَنَّهُ وَكَّلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ يَحْتَمِل الإِْجَازَةَ مِنْهُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا الاِحْتِمَالِ، وَلأَِنَّ مَنْ بَاشَرَ التَّصَرُّفَ لِغَرَضٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ مَا لَمْ يَقَعِ الْيَأْسُ مِنْهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ إِذَا دَفَعَهُ إِلَى فُضُولِيٍّ عَلَى رَجَاءِ الإِْجَازَةِ لَمْ يَمْلِكِ اسْتِرْدَادَهُ لاِحْتِمَال أَنْ يُجِيزَ.
وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ لاَ تُقْبَل بَيِّنَتُهُ وَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، وَلَوْ أَرَادَ اسْتِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ لاَ يُسْتَحْلَفُ، لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا أَوْجَبَهُ لِلْغَائِبِ.(45/77)
وَلَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الطَّالِبَ جَحَدَ الْوَكَالَةَ وَأَخَذَ مِنِّي الْمَال تُقْبَلُ، لأَِنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَكِيل بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ سَبَبِ انْقِطَاعِ حَقِّ الطَّالِبِ عَنِ الْمَدْفُوعِ وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَال بِنَفْسِهِ مِنْهُ فَانْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنِ الْغَائِبِ فِي إِثْبَاتِ السَّبَبِ فَيُثْبِتُ قَبْضَ الْمُوَكِّل فَتَنْتَقِضُ يَدُ الْوَكِيل ضَرُورَةً، وَجَازَ أَنْ يُثْبِتَ الشَّيْءَ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ مَقْصُودًا. (1)
ب ـ أَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا كَالْوَدِيعَةِ وَقَال مُدَّعِي الْوَكَالَةِ: إِنِّي وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ فَصَدَّقَهُ الْمُودِعُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِ مَال الْغَيْرِ فَلاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَصَدَّقَهُ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَال نَفْسِهِ إِذِ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لاَ بِأَعْيَانِهَا.
وَلَوْ هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ عِنْدَهُ بَعْدَمَا مَنَعَ، قِيل: لاَ يَضْمَنُ، وَقِيل: يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ، لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ وَكِيل الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ مِنَ الْمُودِعِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ إِلَيْهِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ الْوَكَالَةَ يَضْمَنُ الْمُودَعَ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ الْمُوَدِعُ أَنَّهُ مَا
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 283.(45/78)
وَكَّلَهُ، فَإِذَا نَكَل بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَإِذَا حَلَفَ ضَمِنَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ، لأَِنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُودِعَ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ مَظْلُومٌ وَالْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ إِلاَّ إِذَا ضَمِنَهُ وَقْتَ الدَّفْعِ لَهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ لَهُ عَلَى الْوَكَالَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا.
وَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً أَخَذَهَا فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا، لأَِنَّهُ مَلَكَهَا بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ بَعْدَ مَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ. (1)
تَعَدُّدُ الْوُكَلاَءِ 124 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّل أَنْ يُوَكِّل أَكْثَرَ مِنْ وَكِيلٍ لِلْقِيَامِ بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ عَدَا الْخُصُومَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُمْ بِكَلاَمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوُكَلاَءِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمُفْرَدِهِ فِي مَحَل الْوَكَالَةِ دُونَ اجْتِمَاعِ الآْخَرِينَ مَعَهُ مَا لَمْ يَجُزْ لأَِحَدِهِمُ التَّصَرُّفُ بِمُفْرَدِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ فَيَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمُفْرَدِهِ. (2)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 284.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 634، تكملة ابن عابدين 7 / 344، وبدائع الصنائع 7 / 3374، واللباب 2 / 144، والمغني 5 / 214، والمبدع 4 / 366، والإنصاف 5 / 374 ـ 375، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 5 / 211،، والخرشي 6 / 69، 82، والمهذب 1 / 358، وروضة الطالبين 4 / 321.(45/78)
125 ـ وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَ الْمُوَكِّل اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمُ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ. (1)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَحَل الْوَكَالَةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوَكِيلَيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لاَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، إِذْ لاَ يَنَال بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا مَا يَنَال بِرَأْيِهِمَا.
وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِطْلاَقِ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوَكِيلاَنِ بِالْبَيْعِ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ صَاحِبِهِ، وَإِذَا فَعَل لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُجِيزَ صَاحِبُهُ أَوِ الْمُوَكِّلُ، لأَِنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَالْمُوَكِّل إِنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لاَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَمْتَثِل أَمْرَ الْمُوَكِّل فَلاَ يَنْفُذُ عَلَيْهِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 95، والزرقاني 6 / 87، والخرشي 6 / 73، وحاشية الدسوقي 3 / 392، والمغني 5 / 214، والإنصاف 5 / 374، والمبدع 4 / 366 ـ 367.(45/79)
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِالشِّرَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى أَمْ لَمْ يَكُنْ، لأَِنَّ الْبَدَل وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لاَ يَمْنَعُ اسْتِعْمَال الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيل الآْخَرُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا.
غَيْرَ أَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلاَ يَقِفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، وَفِي الْبَيْعِ يَقِفُ عَلَى الإِْجَازَةِ. (1)
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَالْخُلْعِ، وَكُل عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمْلِيكِ بِأَنْ قَال لِرَجُلَيْنِ: جَعَلَتُ أَمَرَ امْرَأَتِي بِيَدِكُمَا، أَوْ قَال لَهُمَا: طَلِّقَا امْرَأَتِي إِنْ شِئْتُمَا، لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّطْلِيقِ، لأَِنَّهُ جَعَل أَمْرَ الْيَدِ تَمْلِيكًا، وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ كَأَنَّهُ قَال: طَلِّقَا امْرَأَتِي إِنْ شِئْتُمَا. (2) وَكَذَا الْوَكِيلاَنِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لاَ يَمْلِكُ
__________
(1) البدائع 7 / 3474، واللباب 2 / 144، والبحر الرائق 7 / 173، وتكملة فتح القدير 8 / 96، والفتاوى الهندية 3 / 598، وحاشية الدسوقي 3 / 392، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 5 / 211، والإنصاف 5 / 374، وروضة الطالبين 4 / 321، والمهذب 1 / 358.
(2) البدائع 7 / 3475، واللباب 2 / 144، والفتاوى الهندية 3 / 598، والمبدع 4 / 366 ـ 367، والمغني مع الشرح 5 / 214، وحاشية الدسوقي 3 / 392، وروضة الطالبين 4 / 321.(45/79)
أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْبِضَ دُونَ صَاحِبِهِ، لأَِنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ وَالأَْمَانَةِ، وَقَدْ فَوَّضَ الرَّأْيَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا لاَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَرَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا لاَ بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُبَرِّئْهُ الْغَرِيمُ حَتَّى يَصِل مَا قَبَضَهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَيَقَعَ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا أَوَ يَصِل إِلَى الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّهُ لَمَّا وَصَل الْمَقْبُوضُ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ إِلَى الْمُوَكِّل فَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَبَضَاهُ جَمِيعًا ابْتِدَاءً. (1)
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلاَنِ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا. لأَِنَّ حِفْظَ الاِثْنَيْنِ أَنْفَعُ فَلَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ إِذْنِ الآْخَرِ ضَمِنَ. (2)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَحَل الْوَكَالَةِ مِمَّا لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ كَتَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْوُكَلاَءِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، لأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى رَأْيٍ فَكَانَ إِضَافَةُ التَّوْكِيل إِلَى الْوُكَلاَءِ تَفْوِيضًا لِلتَّصَرُّفِ إِلَى
__________
(1) البدائع 7 / 3475، واللباب 2 / 144، والفتاوى البزازية 3 / 469، وتكملة فتح القدير 8 / 97، والإنصاف 5 / 374 ـ 375، والمغني 5 / 214، وروضة الطالبين 4 / 321، وحاشية الدسوقي 3 / 392.
(2) اللباب 2 / 144، وتكملة ابن عابدين 7 / 345، والفتاوى الهندية 3 / 634، وحاشية الدسوقي 3 / 392، والمهذب 1 / 358، والإنصاف 5 / 374 ـ 375، والمغني 2 / 214.(45/80)
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُفْرَدِهِ. (1)
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فَإِنَّ إِطْلاَقَ عِبَارَاتِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِ الْوُكَلاَءِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. (2)
126 ـ أَمَّا إِذَا وَكَّل الْمُوَكِّل الْوَكِيلَيْنِ بِكَلاَمَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ كَمَا إِذَا وَكَّل أَحَدَهُمَا بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ وَكَّل آخَرَ بِالتَّصَرُّفِ نَفْسِهِ أَيْضًا فَأَيُّهُمَا تَصَرَّفَ جَازَ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الاِنْفِرَادِ حَيْثُ وَكَّلَهُمَا مُتَعَاقِبًا.
وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ مَا إِذَا وَكَّل الْمُوَكِّل الْوَكِيلَيْنِ بِكَلاَمٍ أَوْ كَلاَمَيْنِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَل لَهُمَا ذَلِكَ. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 3475.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 392، وروضة الطالبين 4 / 321، والمهذب 1 / 358، والإنصاف 5 / 374 ـ 375، والمغني 5 / 214.
(3) الإنصاف 5 / 374 ـ 375، والمبدع 4 / 366 ـ 367، ومواهب الجليل 5 / 211، والخرشي 6 / 69، تكملة فتح القدير 8 / 95، والفتاوى الهندية 3 / 634.(45/80)
127 ـ أَمَّا الْوَكِيلاَنِ بِالْخُصُومَةِ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَدَا زُفَرَ - وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ - قَال عَنْهُ الْمِرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ - وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذَا رَضِيَ بِهِمَا الْخَصْمُ وَتَرَتَّبَا. (1) لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْخُصُومَةِ إِعْلاَمُ الْقَاضِي بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُخَاصِمُ وَاسْتِمَاعُهُ، وَاجْتِمَاعُ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى ذَلِكَ يُخِل بِالإِْعْلاَمِ وَالاِسْتِمَاعِ، لأَِنَّ ازْدِحَامَ الْكَلاَمِ يُخِل بِالْفَهْمِ فَكَانَ إِضَافَةُ التَّوْكِيل إِلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلْخُصُومَةِ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ كَانَ تَمْثِيلاً، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبْضَ دُونَ صَاحِبِهِ، لأَِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَلاَ يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ. (2)
وَذَهَبَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالْخُصُومَةِ، وَعَلَّل زُفَرُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ الْخُصُومَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى
__________
(1) البدائع 7 / 3475، والبحر الرائق 7 / 174، وتكملة ابن عابدين 7 / 345، وتكملة فتح القدير 8 / 96، وحاشية الدسوقي 3 / 392، والخرشي 6 / 82، والإنصاف 5 / 375، وروضة الطالبين 4 / 321.
(2) البدائع 7 / 3475، واللباب 2 / 144، والإنصاف 5 / 374 ـ 375، وروضة الطالبين 4 / 321.(45/81)
الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَالْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلاَ يَمْلِكُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ.
وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا رَضِيَ الْخَصْمُ بِهِمَا وَلَمْ يَتَرَتَّبَا فَقَدْ قَالُوا: جَازَ تَوْكِيل وَاحِدٍ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ بِرِضَا الْخَصْمِ. (1) .
تَوْكِيل الْوَكِيل فِيمَا وُكِّل فِيهِ:
قَدْ يَقُومُ الْوَكِيل بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ بِمُفْرَدِهِ، وَقَدْ يَقُومُ بِتَوْكِيل شَخْصٍ آخَرَ لِيُسَاعِدَهُ فِي تَنْفِيذِهَا أَوْ يَقُومَ بِتَنْفِيذِهَا بَدَلاً مِنْهُ.
وَتَوْكِيل الْوَكِيل قَدْ يَكُونُ بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّل أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُطْلِقُ الْمُوَكِّل الْوَكَالَةَ فَلاَ يَأْذَنُ بِالتَّوْكِيل وَلاَ يَنْهَى عَنْهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حَالَةُ الإِْذْنِ بِالتَّوْكِيل:
128 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْكِيل الْوَكِيل غَيْرَهُ إِذَا أَذِنَ الْمُوَكِّل لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ بِالتَّوْكِيل فَجَازَ لَهُ فِعْلُهُ، كَأَيِّ تَصَرُّفٍ مَأْذُونٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 3475، وحاشية الدسوقي 3 / 378، وشرح الخرشي 4 / 285، ومواهب الجليل 5 / 211، وروضة الطالبين 4 / 321، والإنصاف 5 / 375.
(2) حاشية ابن عابدين 7 / 527، اللباب 2 / 144، والبدائع 4 / 3474، وشرح الخرشي 4 / 294، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 349، ومغني المحتاج 2 / 226، والمغني 5 / 215، كشاف القناع 3 / 466،(45/81)
ب - حَالَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّوْكِيل:
129 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ إِذَا نَهَاهُ الْمُوَكِّل عَنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّوْكِيل كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ مُطْلَقًا وَالْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِأَمَانَتِهِ هُوَ فَقَطْ (1) .
جـ - حَالَةُ التَّفْوِيضِ:
130 - حَالَةُ التَّفْوِيضِ هِيَ كَأَنْ يَقُول الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، أَوْ تَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ أَوِ اعْمَل بِرَأْيِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْكِيل الْوَكِيل غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّلَ، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ التَّفْوِيضِ إِلَى رَأْيِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ لاَ يَكُونُ إِذْنًا بِالتَّوْكِيل فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل إِذَنْ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ، لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الأَْلْفَاظِ يَحْتَمِل مَا شِئْتَ مِنَ التَّوْكِيلِ، وَمَا شِئْتَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فَلاَ يُوَكِّل
__________
(1) المراجع السابقة.(45/82)
بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا لاَ يَهَبُ (1) .
د - حَالَةُ الإِْطْلاَقِ:
131 - إِذَا صَدَرَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً دُونَ إِذْنِهِ لِلْوَكِيل بِالتَّوْكِيل أَوْ نَهْيِهِ عَنْهُ وَدُونَ تَفْوِيضِهِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيَيْنِ: الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِيمَا وُكِّل بِهِ، لأَِنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيل بِهِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الآْرَاءِ فَلاَ يَكُونُ رَاضِيًا بِغَيْرِهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّل مَا وُكِّل بِهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُوَكِّل أَوْ يُفَوِّضَ لَهُ بِأَنْ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، أَوِ اصْنَعْ مَا شِئْتَ، لإِِطْلاَقِ التَّفْوِيضِ إِلَى رَأْيِهِ (3) .
فَإِنْ وَكَّل بِغَيْرِ إِذْنِ مُوَكِّلِهِ فَعَقَدَ وَكِيل الْوَكِيل بِحَضْرَةِ الْوَكِيل الأَْوَّل جَازَ لاِنْعِقَادِهِ بِرَأْيِهِ، وَكَذَا
__________
(1) اللباب 2 / 144، والبدائع 4 / 3474، وحاشية الدسوقي 3 / 388، الخرشي 6 / 87، وروضة الطالبين 4 / 314، أسنى المطالب 2 / 271، المغني مع الشرح 5 / 215، وكشاف القناع 3 / 466.
(2) كشاف القناع 3 / 466، والإنصاف 5 / 362، والمغني 5 / 216.
(3) اللباب 2 / 144، البحر الرائق 7 / 175، البدائع 7 / 3474.(45/82)
إِنْ عَقَدَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ فَأَجَازَهُ الْوَكِيل الأَْوَّل جَازَ أَيْضًا لِنُفُوذِهِ بِرَأْيِهِ (1) .
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صُورَتَيْنِ حَيْثُ أَجَازُوا لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ، وَهُمَا:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مَحَل الْوَكَالَةِ يَتَرَفَّعُ الْوَكِيل عَنِ الْقِيَامِ بِمِثْلِهِ، كَالأَْعْمَال الدَّنِيئَةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ كَبَيْعِ دَابَّةٍ فِي سُوقٍ، أَوْ يَعْجِزُ الْوَكِيل عَنِ الْعَمَل الَّذِي وُكِّل فِيهِ لِكَوْنِهِ لاَ يُحْسِنُهُ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّ الإِْذْنَ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلأَِنَّ التَّفْوِيضَ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الاِسْتِنَابَةُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُوَكِّل يَعْلَمُ بِوَجَاهَةِ الْوَكِيلِ، أَوِ اشْتَهَرَ الْوَكِيل بِهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الْمُوَكِّل بِهَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنَّ يُوَكِّلَ، وَيَضْمَنُ إِنْ وَكَل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِتَعَدِّيهِ (2) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل الَّذِي فِيهِ
__________
(1) اللباب 2 / 144، والهداية وشروحها 6 / 100 ط دار الفكر.
(2) كشاف القناع 3 / 466، ومغني المحتاج 2 / 226، وأسنى المطالب2 / 270، وحاشية الدسوقي 3 / 388.(45/83)
التَّوْكِيل مِمَّا يَعْمَلُهُ الْوَكِيل بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَدَى حَقِّ الْوَكِيل فِي التَّوْكِيلِ، بِمَعْنَى هَل يَحِقُّ لَهُ التَّوْكِيل فِي فِعْل الْعَمَل كُلِّهِ أَوْ فِيمَا زَادَ عَلَى مَقْدِرَتِهِ فَقَطْ؟ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ الْقَاضِي إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْكِيل إِلاَّ فِي الْعَمَل الزَّائِدِ فَقَطْ، لأَِنَّ التَّوْكِيل إِنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ فَاخْتَصَّ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَقَطْ، بِخِلاَفِ وُجُودِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُوَكِّل مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي وُكِّل فِيهِ لِيُعِينَهُ عَلَيْهِ لاَ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ اسْتِقْلاَلاً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْعَمَل كُلِّهِ، لأَِنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ، فَصَحَّ التَّوْكِيل فِي فِعْل الْعَمَل كُلِّهِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيل بِلَفْظِهِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 388، وشرح الخرشي 6 / 78، وشرح المنهج 3 / 411، ومغني المحتاج 2 / 226، والمغني 5 / 216، والإنصاف 5 / 364، وكشاف القناع 3 / 466.
(2) مغني المحتاج 2 / 226، والمغني 5 / 215.(45/83)
الرَّأْيُ الثَّانِي الْمُتَعَلِّقُ بِالْوَكَالَةِ فِي حَالَةِ الإِْطْلاَقِ: ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ أِبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّ الْوَكِيل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ (1) .
اشْتِرَاطُ الأَْمَانَةِ فِيمَنْ يُوَكِّلُهُ الْوَكِيل:
132 - كُل وَكِيلٍ جَازَ لَهُ التَّوْكِيل فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل إِلاَّ أَمِينًا، رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْمُوَكِّل إِلاَّ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمُوَكِّل الأَْوَّل غَيْرَ أَمِينٍ فَيَتَّبِعَ الْوَكِيل تَعْيِينَهُ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل قَطَعَ نَظَرَ الْوَكِيل بِتَعْيِينِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا عَلِمَ الْوَكِيل أَنَّ مَنْ عَيَّنَهُ لَهُ الْمُوَكِّل فَاسِقٌ وَأَنَّ الْمُوَكِّل لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيل لاَ يُعَيِّنُهُ (2) .
133 - وَلَوْ وَكَّل الْوَكِيل رَجُلاً أَمِينًا وَلَكِنَّهُ صَارَ خَائِنًا، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْوَكِيل عَزْل وَكِيلِهِ الْخَائِنِ، لأَِنَّ تَرْكَهُ يَتَصَرَّفُ مَعَ خِيَانَتِهِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ، وَالْوَكَالَةُ تَقْتَضِي اسْتِئْمَانَ أَمِينٍ، وَهَذَا أَصْبَحَ غَيْرَ أَمِينٍ فَوَجَبَ عَزْلُهُ مِنَ الْوَكَالَةِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 215 ـ 216، والإنصاف 5 / 362، وروضة القضاة للسمناني 2 / 660.
(2) الخرشي 6 / 78، مواهب الجليل 5 / 202، أسنى المطالب 2 / 227، ومغني المحتاج 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 466، المغني 5 / 216، والإنصاف 5 / 364.
(3) المغني 5 / 216، وكشاف القناع 2 / 466، ومغني المحتاج 2 / 227.(45/84)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ عَزْلَهُ، لأَِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيل دُونَ الْعَزْل (1) .
تَكْيِيفُ وَكَالَةِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْوَكِيل:
134 - تَوْكِيل الْوَكِيل لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنَ الْمُوَكِّل صَرَاحَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَصْلاً.
135 - فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيل بِالإِْذْنِ صَرَاحَةً فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيل بِقَوْل الْمُوَكِّل: (وَكِّل عَنِّي) ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَوْلِهِ: (وَكِّل عَنْكَ) ، أَوْ بِقَوْلِهِ: (وَكِّل) .
فَإِنْ قَال الْمُوَكِّل لِوَكِيلِهِ: وَكِّل عَنِّي، أَوْ وَكِّل وَلِيِّ أَوْ فَوِّضْ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْمُوَكِّلِ، لِوُجُودِ الرِّضَا حِينَئِذٍ بِرَأْيِ غَيْرِهِ أَيْضًا، فَلاَ يَنْعَزِل الْوَكِيل الثَّانِي بِعَزْل الْوَكِيل الأَْوَّل وَلاَ بِمَوْتِهِ لأَِنَّ وَكِيل الْمُوَكِّل لَيْسَ وَكِيلاً لِلْوَكِيلِ، وَيَنْعَزِلاَنِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّل.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل الأَْوَّل لاَ يَمْلِكُ عَزْل الْوَكِيل الثَّانِي.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يَمْلِكُ الْوَكِيل الأَْوَّل عَزْل الْوَكِيل الثَّانِي.
__________
(1) شرح المنهج 3 / 412.(45/84)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَكُونُ الثَّانِي وَكِيل الْوَكِيل (1) .
أَمَّا إِنْ قَال الْمُوَكِّل: " وَكِّل عَنْكَ " فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْوَكِيل عَمَلاً بِإِذْنِ الْمُوَكِّل فَيَنْعَزِل بِعَزْل الْوَكِيل الأَْوَّل وَمَوْتِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْوَكِيل الأَْوَّل عَزْل الْوَكِيل الثَّانِي نَظَرًا لِجِهَةِ وَكَالَتِهِ لَهُ. َنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ لِلْمُوَكِّل عَزْل الْوَكِيل الثَّانِي لأَِنَّهُ فَرْعُ فَرْعِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْمُوَكِّل لَيْسَ لَهُ عَزْل وَكِيل وَكِيلِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْمُوَكِّل فَيَأْخُذُ حُكْمَ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ (2) .
أَمَّا إِنْ قَال الْمُوَكِّل: " وَكِّل " وَلَمْ يَقُل عَنِّي وَلاَ عَنْكَ، أَوْ " فَوِّضْ ".
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ الثَّانِي وَكِيلَهُ.
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 660، والبحر الرائق 7 / 175، وحاشية الدسوقي 3 / 388، ومواهب الجليل 5 / 202، والخرشي 6 / 78، ومغني المحتاج 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 466، والإنصاف 3 / 364 - 365.
(2) المراجع السابقة.(45/85)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْمُوَكِّل لاَ يَنْعَزِل بِعَزْل الْوَكِيل وَلاَ بِمَوْتِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْوَكِيل (1) .
136 - أَمَّا التَّوْكِيل بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ مِنَ الْمُوَكِّل فَيُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا وَكَّل الْوَكِيل فِيمَا لاَ يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لاَ يُحْسِنُهُ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْهُ لِكَثْرَتِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل الثَّانِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ وَكِيل الْمُوَكِّل.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكِيل الثَّانِيَ يَكُونُ وَكِيل الْوَكِيل (2) .
137 - أَمَّا التَّوْكِيل بِغَيْرِ إِذْنٍ أَصْلاً فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ لأَِنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيل بِهِ، وَلأَِنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الآْرَاءِ.
وَيَرَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - فِيمَا نَقَل عَنْهُ حَنْبَلٌ - وَابْنُ أِبِي لَيْلَى صِحَّةَ التَّوْكِيل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ،
__________
(1) البحر الرائق 7 / 175، والخرشي 6 / 78، ومغني المحتاج 2 / 227، والإنصاف 5 / 365، وكشاف القناع 3 / 466 - 467.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 388، مغني المحتاج 2 / 226 - 227، والإنصاف 5 / 365.(45/85)
وَيَكُونُ الْوَكِيل الثَّانِي وَكِيل الْوَكِيل (1) .
الْوَكِيل أَمِينٌ:
138 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل أَمِينٌ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَمْوَالٍ لِمُوَكِّلِهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيل لِمَا يَهْلَكُ مِنْهَا إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ.
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَعْمَل بِالأَْجْرِ أَوْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِالْعَمَلِ، لأَِنَّ الْوَكِيل نَائِبُ الْمُوَكِّل - الْمَالِكِ - فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ - الْمُوَكَّل - وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَفِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهَا مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَقْصُودِ الإِْرْفَاقِ وَالْمَعُونَةِ فِيهَا (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْوَكِيل أَمِينًا:
139 - يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْوَكِيل أَمِينًا أَنَّ الْقَوْل يَكُونُ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى الْمُوَكِّل عَلَيْهِ التَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطَ، فَأَنْكَرَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 99، والشرح الصغير 3 / 513، ومغني المحتاج 2 / 226، والمغني 5 / 216، والإنصاف 5 / 365.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 567، وروضة القضاة للسمناني 2 / 658، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 687، ومغني المحتاج 2 / 230، وروضة الطالبين 4 / 325، وكشاف القناع 3 / 484، والقواعد لابن رجب ص 61.(45/86)
الْوَكِيل ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّسَامُحِ وَالْيُسْرِ وَالإِْرْفَاقِ بِالنَّاسِ فَيُقْبَل فِيهَا قَوْل الأَْمِينِ مَعَ يَمِينِهِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلاَّ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنِ الدُّخُول فِي الأَْمَانَاتِ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا فِيهِ (1) .
اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ أَوَ نَفْيُهُ عَلَى الْوَكِيل:
140 - نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ كُل مَا كَانَ أَمَانَةً لاَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ.
وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لاَ يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَال: الْمُؤْمِنُونَ
__________
(1) البدائع 7 / 3479، وروضة القضاة للسمناني 2 / 658، والفتاوى الهندية 3 / 567، وبداية المجتهد 2 / 273، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 692، وحاشية الجمل 3 / 416، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 86، وروضة الطالبين 4 / 342، والمغني 5 / 221، والروض المربع 1 / 208، وكشاف القناع 2 / 452.(45/86)
عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَهَذَا يَدُل عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالأَْوَّل ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ (1) .
ضَمَانُ الْوَكِيل مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَمْوَالٍ:
141 ـ الْوَكِيل أَثْنَاءَ قِيَامِهِ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَقْضِي بِهِ الشَّرْعُ مِنْ عَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالْمُوَكِّل لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) ، وَمُقَيَّدٌ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ، كَمَا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا يَقْضِي بِهِ الْعُرْفُ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً عَنِ الْقُيُودِ، فَإِذَا خَالَفَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَوَجَبَ الضَّمَانُ (3) .
وَلِتَوْضِيحِ ذَلِكَ نَذْكُرُ فِيمَا يَلِي بَعْضَ حَالاَتِ التَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ:
142 ـ إِذَا تَعَدَّى الْوَكِيل فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ مَنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ مِنْهُ، فَلَوْ حَمَل عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ، أَوْ لَبَسَ الثَّوْبَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُوَكِّل وَلَمْ يَقْضِ الْعُرْفُ بِمِثْل هَذَا الاِسْتِعْمَالِ، أَوْ ضَيَّعَ الْمَال الَّذِي تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ وَلاَ يَعْرِفُ كَيْفَ ضَاعَ أَوْ
__________
(1) المغني مع الشرح 5 / 366 ـ 367.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". (تقدم تخريجه فقرة 79)
(3) المهذب 1 / 350، وشرح المنهج مع حاشية الجمل 3 / 409، ومغني المحتاج 2 / 224، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 48.(45/87)
وَضَعَهُ فِي مَحَلٍّ فَنَسِيَهُ كَانَ ضَامِنًا (1) .
143 ـ إِذَا خَلَطَ الْوَكِيل مَال مُوَكِّلِهِ بِمَالِهِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُوَكِّل وَضَاعَ الْمَال كُلُّهُ كَانَ ضَامِنًا لِمَال مُوَكِّلِهِ، وَكَذَا إِذَا ضَاعَ أَحَدُهُمَا كَانَ ضَامِنًا لَهُ (2) .
(ر: خَلْط ف 4) .
144 ـ إِذَا طَلَبَ الْمُوَكِّل مِنَ الْوَكِيل أَنْ يَرُدَّ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَالٍ لَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ بِدُونِ عُذْرٍ كَانَ ضَامِنًا لَهُ.
أَمَّا إِذَا امْتَنَعَ بِعُذْرٍ بِأَنْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّدِّ حَائِلٌ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، فَإِذَا زَال الْعُذْرُ وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ الرَّدَّ كَانَ ضَامِنًا (3) .
145 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَى إِنْسَانٍ مَالاً لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ فَقَضَاهُ الْمُوَكِّل بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَاهُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيل لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فَعَلَهُ الْمُوَكِّل فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيل وَيَرْجِعُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 630، ومجمع الضمانات ص 360، وفتح العلي المالك 2 / 322، ونهاية المحتاج 5 / 48، 49، ومغني المحتاج 2 / 230، وحاشية الجمل 3 / 417، والمغني 5 / 222، وكشاف القناع 3 / 484.
(2) المغني 5 / 231.
(3) البدائع 7 / 3485، والفتاوى الهندية 3 / 587، وتكملة ابن عابدين 7 / 347، وتكملة فتح القدير 8 / 40، ومجمع الضمانات ص 243، ومغني المحتاج 2 / 230، ونهاية المحتاج 5 / 49، والمغني 5 / 229، والمدونة الكبرى 4 / 253.(45/87)
الْمُوَكِّل عَلَى الطَّالِبِ بِمَا قَبَضَ مِنَ الْوَكِيلِ، وَإِنْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمُوَكِّل قَدْ قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمَّا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ عَزَل الْوَكِيلَ، إِلاَّ أَنَّ عَزْل الْوَكِيل لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، فَإِذَا عَلِمَ بِفِعْل الْمُوَكِّل فَقَدْ عَلِمَ بِالْعَزْل فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْوَكِيل بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إِذَا أَدَّى الْمُوَكِّل بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَدَّى الْوَكِيل أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَكِيل عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّل أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أِبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لأَِنَّ الْوَكِيل بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَال مِنَ الْفَقِيرِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنَ الْوَكِيل لِحُصُولِهِ مِنَ الْمُوَكِّلِ، فَبَقِيَ الدَّفْعُ مِنَ الْوَكِيل تَعَدِّيًا مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَعِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَى الطَّالِبِ مَقْبُوضٌ عَنْهُ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ مَضْمُونٌ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَيُقَال: إِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ نَوْعُ شِرَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ، وَالْمَقْبُوضُ مِنَ الْوَكِيل مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى(45/88)
الْمُشْتَرِي بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَفَعَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدِ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ لاِنْعِدَامِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، فَبَقَى تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ التَّعَدِّي، وَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيل فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الْقَوْل قَوْل الأَْمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا مَاتَ الْمُوَكِّل وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل بِمَوْتِهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ ضَمِنَ (1) .
146 ـ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُول لاَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَقْبِضَ ثَمَنَهُ، لِمَا فِي التَّسْلِيمِ قَبْلَهُ مِنَ الْخَطَرِ، فَلَوْ سَلَّمَهُ بِاخْتِيَارِهِ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ فَجَحَدَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّل قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَلَوْ مِثْلِيًّا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثَّمَنِ يَوْمَ التَّسْلِيمِ (2) .
147 ـ إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل شَيْئًا وَقَبَضَهُ وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ بِدُونِ عُذْرٍ، أَمَّا لَوْ أَمْسَكَهُ بِعُذْرٍ: كَأَنْ ذَهَبَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ حَال دُونَ ذَلِكَ حَائِلٌ فَهَلَكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
__________
(1) البدائع 7 / 3482.
(2) مواهب الجليل 5 / 194، ونهاية المحتاج 5 / 36، 37، وشرح المنهج 3 / 410.(45/88)
ضَمَانٌ، لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ فِي الإِْمْسَاكِ (1) .
148 ـ لَوْ وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَذْبَحَ لَهُ بَقَرَةً أَوْ جَامُوسَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَأَخْطَأَ فِي الذَّبْحِ وَصَارَتْ مَيْتَةً لاَ تُؤْكَلُ، كَانَ الذَّابِحُ ضَامِنًا لَهَا، لأَِنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي أَمْوَال النَّاسِ سَوَاءٌ (2) .
149 ـ إِذَا أَمَرَ الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ بِعَدَمِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ إِلاَّ جَمِيعَهَا وَلَكِنَّهُ قَبَضَ بَعْضَهَا فَقَطْ، كَانَ ضَامِنًا وَبَطَل قَبْضُهُ، فَإِنْ قَبَضَ الْبَاقِيَ قَبْل أَنْ يَهْلَكَ الأَْوَّل يَسْقُطُ الضَّمَانُ (3) .
كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ:
150 ـ الْوَكِيل يَضْمَنُ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ. فَإِنْ كَانَ الْمَال مِثْلِيًّا كَانَ الْوَكِيل ضَامِنًا مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِثْلِيًّا وَتَعَذَّرَ الْحُصُول عَلَى الْمِثْل فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ الَّتِي يَضْمَنُهَا الْوَكِيل بِقِيمَةِ الشَّيْءِ يَوْمَ التَّعَدِّي وَالتَّلَفِ أَوِ الْهَلاَكِ، لاَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ آخَرَ، فَلاَ عِبْرَةَ بِمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فِيهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 596، والمغني 5 / 220.
(2) فتح العلي المالك 2 / 323.
(3) تكملة ابن عابدين 7 / 364، مجمع الضمانات ص 250.
(4) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 48 ـ 51، ومغني المحتاج 2 / 231، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 93.(45/89)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (ضَمَان ف 54، 91) .
الْحُكْمُ الثَّانِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيل مِنْ أَحْكَامٍ: تَقْدِيمُ الْوَكِيل لِلْمُوَكِّل الْبَيَانَاتِ الَّتِي يَطْلُبُهَا عَمَّا وُكِّل فِيهِ:
151 ـ يَلْتَزِمُ الْوَكِيل أَثْنَاءَ قِيَامِهِ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ بِأَنْ يُقَدِّمَ لِلْمُوَكِّل الْبَيَانَاتِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْمُوَكِّل عَمَّا قَامَ بِهِ أَثْنَاءَ تَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْنِ حَجَرٍ: وَسُئِل عَنِ الْمُوَكِّل إِذَا طَلَبَ مِنْ وَكِيلِهِ بَيَانًا لِتَصَرُّفَاتِهِ فِيمَا وُكِّل فِيهِ هَل يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ؟ وَهَل تُعْتَبَرُ دَفَاتِرُهُ؟ وَهَل تُقْبَل دَعْوَاهُ زِيَادَةً عَلَى مَصْرُوفِ كُتُبِهِ أَوْ لاَ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: أَطْلَقَ بَعْضُ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ كُل أَمِينٍ طَلَبَ مِنْهُ الْبَيَانَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ، وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا فِي الْخَطِّ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا يَقَعُ فِي الْجَوَابِ وَالدَّعْوَى (1) .
الْحُكْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ الْوَكِيل: رَدُّ مَا لِلْمُوَكِّل فِي يَدِ الْوَكِيل:
151 ـ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَرُدَّ مَا فِي يَدِهِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الرَّدِّ مَعَ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّل لَهُ بِهِ بِدُونِ عُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ حَتَّى هَلَكَ الْمَال أَوْ تَلِفَ كَانَ ضَامِنًا، وَكَذَا إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الرَّدِّ بِعُذْرٍ وَلَكِنْ زَال الْعُذْرُ، فَأَخَّرَ الرَّدَّ حَتَّى تَلِفَ الْمَال أَوْ هَلَكَ كَانَ ضَامِنًا أَيْضًا، لأَِنَّ مَا فِي يَدِ الْوَكِيل لِلْمُوَكِّل أَمَانَةٌ، وَالْوَكِيل أَمِينٌ، وَهُوَ
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 87.(45/89)
مُلْزَمٌ بِرَدِّ الأَْمَانَةِ إِلَى صَاحِبِهَا (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } .
153 ـ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الإِْشْهَادِ عَلَى الرَّدِّ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الرَّدِّ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يَقُول بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ رَدَّ مَالِهِ: لاَ أَرُدُّ حَتَّى أُشْهِدَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ بِيَمِينِهِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَأْخِيرِ الرَّدِّ لِلإِْشْهَادِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ لِلْوَكِيل أَنْ يُؤَخِّرَ الرَّدَّ إِلَى الْمُوَكِّل لِلإِْشْهَادِ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَحْتَاجَ إِلَى يَمِينٍ، لأَِنَّ الأَْخْيَارَ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْيَمِينِ مَا أَمْكَنَ (3) .
__________
(1) البدائع 7 / 3485، وحاشية الدسوقي 3 / 392، وأسنى المطالب 2 / 276، ومغني المحتاج 2 / 236، ونهاية المحتاج 5 / 49، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 87، والمغني لابن قدامة 5 / 229، وما بعدها.
(2) سورة النساء / 58.
(3) مغني المحتاج 2 / 236، وحاشية الدسوقي 3 / 392، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 692 والفروع لابن مفلح 4 / 231.(45/90)
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّل مِنْ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّل أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً ـ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ:
154 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَجْرٍ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْمْرَانِ، حَيْثُ وَكَّل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَيْسًا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ (1) ، وَعُرْوَةَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ (2) ، وَعَمْرًا (3) وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُول النِّكَاحِ لَهُ بِغَيْرِ جُعْلٍ، (4) وَأَيْضًا كَانَ يَبْعَثُ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَيَجْعَل لَهُمْ عِمَالَةً، وَلِهَذَا قَال لَهُ ابْنَا عَمِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ بَعَثْتَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّي إِلَيْكَ مَا يُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ مَا يُصِيبُهُ النَّاسُ (5) يَعْنِيَانِ الْعِمَالَةَ أَيِ الأُْجْرَةَ.
__________
(1) حديث: " توكيل الرسول صلى الله عليه وسلم أنيساً في إقامة الحد. . أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 160) ، ومسلم (3 / 1325) .
(2) حديث: " توكيل الرسول صلى الله عليه وسلم عروة في شراء شاة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632) .
(3) حديث: " توكيل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري في قبول النكاح له. . . " أخرجه البيهقي في السنن (7 / 139) من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلاً.
(4) حديث: " توكيل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا رافع في قبول النكاح له. . أخرجه الترمذي (3 / 191) ، وقال الترمذي: حديث حسن.
(5) حديث: " مجيء ابني عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (2 / 753) . بهذا المعنى(45/90)
وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل عَلَى الأَْجْرِ وَجَبَ الأَْجْرُ اتِّفَاقًا (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَّفِقِ الطَّرَفَانِ عَلَى الأَْجْرِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لاَ يَعْمَل بِالأَْجْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْمِهَنِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالأَْجْرِ.
فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى تَكُونُ الْوَكَالَةُ تَبَرُّعًا، لأَِنَّ الأَْصْل فِيهَا ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ تُشْتَرَطِ الأُْجْرَةُ حُمِل عَلَى الأَْصْل (2) .
نَصَّتِ الْمَادَةُ (1467) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ: " إِذَا اشْتُرِطَتِ الأُْجْرَةُ فِي الْوَكَالَةِ وَأَوْفَاهَا الْوَكِيل اسْتَحَقَّ الأُْجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ وَلَمْ يَكُنِ الْوَكِيل مِمَّنْ يَخْدُمُ بِالأُْجْرَةِ كَانَ مُتَبَرِّعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالأُْجْرَةِ ".
أَمَّا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيل مِنْ أَصْحَابِ الْمِهَنِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالأَْجْرِ لأَِنَّ طَبِيعَةَ مُهِمَّتِهِمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ كَالسِّمْسَارِ وَالدَّلاَّل فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيل الأُْجْرَةَ حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا
__________
(1) المغني 5 / 211، ومعونة أولي النهى 4 / 678 ـ 679، والحاوي 8 / 225، وروضة الطالبين 4 / 332، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 593، وتكملة ابن عابدين 1 / 189، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 688، والقوانين الفقهية ص 334، وحاشية الدسوقي 3 / 397.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 593.(45/91)
وَقْتَ التَّعَاقُدِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل (1) .
وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الأُْجْرَةَ:
155 ـ يَسْتَحِقُّ الْوَكِيل الأُْجْرَةَ بِتَسْلِيمِ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ بِتَنْفِيذِهِ إِلَى الْمُوَكِّل إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَثَوْبٍ يَنْسِجُهُ أَوْ يَخِيطُهُ فَمَتَى سَلَّمَهُ إِلَى الْمُوَكِّل فَلَهُ الأُْجْرَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا.
وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ فِي دَارِ الْمُوَكِّل فَكُلَّمَا فَرَغَ مِنْ عَمَل شَيْءٍ وَقَعَ مَقْبُوضًا فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيل الأُْجْرَةَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخِيَاطَةِ.
وَإِنْ وَكَّل رَجُلٌ آخَرَ فِي أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً أَوْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَوْ يَحُجَّ عَنْهُ، اسْتَحَقَّ الأُْجْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ، وَلَكِنْ لَوِ اشْتَرَطَ الْمُوَكِّل عَلَى الْوَكِيل تَسْلِيمَ الثَّمَنِ حَتَّى يُعْطِيَهُ الأَْجْرَ، وَلَمْ يَقُمِ الْوَكِيل بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنَ الأَْجْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ (2) .
شُرُوطُ اسْتِحْقَاقِ الأُْجْرَةِ:
156 ـ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الأَْجْرِ مَا يَلِي:
أـ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل الْمُوَكَّل بِهِ مَعْلُومًا عِلْمًا
__________
(1) درر الحكام شرح المجلة 3 / 593.
(2) المادة 1467من المجلة، ومادة 903 من مرشد الحيران، والقوانين الفقهية لابن جزي 257، والمغني مع الشرح 5 / 210، 211.(45/91)
يُمْكِنُ مَعَهُ إِيفَاءُ الْوَكَالَةِ (1) .
ب ـ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ مَعْلُومَةَ الْمِقْدَارِ (2) .
جـ ـ أَلاَّ تَكُونَ الأُْجْرَةُ جُزْءًا مِنَ الْمُوَكَّل بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ وَاسْتَحَقَّ الْوَكِيل أَجْرَ الْمِثْل.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: الْوَكَالَةُ تَجُوزُ بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، وَلاَ يَصِحُّ الْجُعْل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ قَال: قَدْ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّ جُعْلَكَ عُشْرُ ثَمَنِهِ، أَوْ مِنْ كُل مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ لَمْ يَصِحَّ لِلْجَهْل بِمَبْلَغِ الثَّمَنِ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل (3) .
(ر: إِجَارَة ف 42) .
د ـ أَنْ يَقُومَ الْوَكِيل بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ تَنْفِيذًا صَحِيحًا.
وَعَلَى ذَلِكَ تَسْقُطُ الأُْجْرَةُ إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل مُوَكِّلَهُ مُخَالَفَةً تَجْعَل الْوَكَالَةَ فَاسِدَةً فَلَوْ أَعْطَاهُ حَبًّا لِبَيْعِهِ وَيَشْتَرِي أَجْوَدَ مِنْهُ، فَقَامَ الْوَكِيل بِإِبْدَالِهِ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الصِّنْفِ، كَانَ عَمَل الْوَكِيل رِبًا فَيَكُونُ قَدْ قَامَ بِتَنْفِيذِ الْوَكَالَةِ تَنْفِيذًا فَاسِدًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا، لأَِنَّ مُطْلَقَ الإِْذْنِ بِالْبَيْعِ
__________
(1) المادة (1468) من مجلة الأحكام العدلية، ومطالب أولي النهى 3 / 582 ـ 583، والقوانين الفقهية ص 280، ومغني المحتاج 2 / 339 ـ 340.
(2) كشاف القناع 2 / 453.
(3) الحاوي للماوردي 8 / 224.(45/92)
يَقْتَضِي الصَّحِيحَ فَقَطْ، أَمَّا الْفَاسِدُ فَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا عَلَيْهِ، جَاءَ فِي الْحَاوِي: لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ بِجُعْلٍ مَعْلُومٍ فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَلاَ جُعْل لَهُ، لأَِنَّ مُطْلَقَ الإِْذْنِ بِالْبَيْعِ يَقْتَضِي مَا صَحَّ مِنْهُ، فَصَارَ الْفَاسِدُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ جُعْلاً عَلَيْهِ.
فَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا وَقَبَضَ ثَمَنَهُ وَتَلِفَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْوَكِيل فَلَهُ الأُْجْرَةُ لِوُجُودِ الْعَمَل (1) .
وَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيل فِي الإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ الأَْجْرَ الْمُسَمَّى، وَإِذَا فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْل (2) .
رُجُوعُ الْوَكِيل عَلَى الْمُوَكِّل بِمَا دَفَعَهُ تَنْفِيذًا لِلْوَكَالَةِ:
157 ـ إِذَا أَمَرَ شَخْصًا بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَدَّاهُ الْمُأْمُورُ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الآْمِرِ، شَرَطَ الآْمِرُ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ (3) . وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ فَدَفَعَ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ ثَمَنَ الْمَبِيعِ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ، فَقَدْ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 593، وكشاف القناع 3 / 555، والقوانين الفقهية ص 283، والحاوي للماوردي 8 / 224 ـ 225.
(2) الماوردي 8 / 224 ـ 225.
(3) البدائع 7 / 3484 ـ 3485، وتكملة فتح القدير 8 / 38، وتكملة ابن عابدين 7 / 377، والفتاوى الهندية 3 / 586، 587، والمادة 1506 و 1508 من مجلة الأحكام العدلية.(45/92)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ ـ عَدَا زُفَرَ ـ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يُسْتَوْفَى الثَّمَنُ مِنَ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ الْوَكِيل عَاقِدٌ وَجَبَ الثَّمَنُ لَهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ ضَمَانًا لِلْمَبِيعِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي (1) .
وَذَهَبَ زُفَرُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَبْسِ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالْهَلاَكُ عَلَى الْمُوَكِّل حَتَّى لاَ يَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلأَْمِينِ حَبْسُ الأَْمَانَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا مِنْ أَهْلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:؟ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ؟ (2) فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (3) .
وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ الْمُوَكِّل فَحَبَسَهُ الْوَكِيل حَتَّى هَلَكَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ (4) وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْبَيْعِ، لأَِنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ هُوَ ثَمَنٌ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً
__________
(1) البدائع 7 / 3485، تكملة ابن عابدين 7 / 303، وما بعدها، وتكملة فتح القدير 8 / 40، والفتاوى الهندية 3 / 587.
(2) سورة النساء / 58.
(3) البدائع 7 / 3485، تكملة ابن عابدين 7 / 303، وما بعدها، وتكملة فتح القدير 8 / 40، والفتاوى الهندية 3 / 587.
(4) البدائع 7 / 3485، والمادة 1492 من مجلة الأحكام العدلية.(45/93)
ضَمَانَ الْبَيْعِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ، لأَِنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ يَسْقُطُ بِهَلاَكِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالأَْقَل مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنَ الدَّيْنِ كَالرَّهْنِ.
وَذَهَبَ زُفَرُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالأَْمِينُ لاَ يَمْلِكُ حَبْسَ الأَْمَانَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِذَا حَبَسَهَا فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا، وَالْمَغْصُّوبُ مَضْمُونٌ بِقَدْرِهِ مِنَ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ:
الْجِهَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ الْعَقْدِ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْوَكِيل:
158 - بِاسْتِقْرَاءِ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْوُكَلاَءُ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: عُقُودٌ تَجُوزُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَكِيل كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: عُقُودٌ لاَ تَجُوزُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَكِيل كَالنِّكَاحِ وَصُلْحِ الدَّمِ، بَل يَلْزَمُ
__________
(1) البدائع 7 / 3485، تكملة ابن عابدين 7 / 303، وما بعدها، وتكملة فتح القدير 8 / 40، والفتاوى الهندية 3 / 587.(45/93)
إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُوَكِّل (1) .
فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَةُ (1460) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ " يَلْزَمُ أَنْ يُضِيفَ الْوَكِيل الْعَقْدَ إِلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْهِبَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالإِْيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالإِْقْرَاضِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إِنْكَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ فَلاَ يَصِحُّ " (2) .
159 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجِهَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ الْعُقُودِ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْوَكِيل.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا تَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْوَكِيل أَوْ لاَ تَجُوزُ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيل عُهْدَةُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُوَكِّلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا تَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْوَكِيل كَالإِْجَارَةِ، أَوْ لاَ تَجُوزُ كَالنِّكَاحِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِّ الْعَمْدِ (4) .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ حَيْثُ قَالُوا:
__________
(1) اللباب شرح الكتاب 2 / 141، 142، والبحر الرائق، وحاشية ابن عابدين عليه 7 / 147، ومعونة أولي النهى 4 / 639.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 571.
(3) مغني المحتاج 2 / 230، 231، ومعونة أولي النهى 4 / 693.
(4) معونة أولي النهى 4 / 639.(45/94)
كُل عَقْدٍ يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى الْوَكِيل - كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ - وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَحُقُوقُ ذَلِكَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيل دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ وَيَقْبَضُ الثَّمَنَ وَيُطَالَبُ بِالثَّمَنِ إِذَا اشْتَرَى وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ وَيُخَاصَمُ بِالْعَيْبِ.
وَكُل عَقْدٍ يَلْزَمُ الْوَكِيل إِضَافَتُهُ إِلَى الْمُوَكِّل - كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ - فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّل دُونَ الْوَكِيلِ، فَلاَ يُطَالَبُ وَكِيل الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ، وَلاَ يَلْزَمُ وَكِيل الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا التَّوْكِيل بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَحُقُوقُهَا تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ وَيَقْبِضُهُ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالَبُ بِهِ وَيُخَاصَمُ فِي الْعَيْبِ وَقْتَ الاِسْتِحْقَاقِ.
وَالأَْصْل أَنَّ كُل عَقْدٍ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَيَكْتَفِي فِيهِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَاقِدِ، كَالْبِيَاعَاتِ وَالأَْشْرِبَةِ وَالإِْجَارَاتِ وَالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيل وَعَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيل فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ كَالأَْجْنَبِيِّ، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْمُوَكِّل مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي مِنَ 91.
وَلَوْ طَالَبَهُ فَأَبَى لاَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَيْهِ،
__________
(1) اللباب شرح الكتاب 2 / 141، 142.(45/94)
وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَكِيل بِقَبْضِ الثَّمَنِ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ، وَأَيُّهُمَا طَلَبَ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ نَهَاهُ الْوَكِيل عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ صَحَّ نَهْيُهُ.
وَلَوْ نَهَى الْمُوَكِّل الْوَكِيل عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ لاَ يُعْمَل نَهْيُهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا نَقَدَ الثَّمَنَ إِلَى الْمُوَكِّل يَبْرَأُ عَنِ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَا الْوَكِيل هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلاَ يُطَالَبُ بِهِ الْمُوَكِّل.
وَإِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيل إِنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إِلَى الْمُوَكِّل يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيل.
وَإِذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الثَّمَنَ مِنَ الْوَكِيل إِنْ كَانَ نَقَدَهُ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إِلَى الْمُوَكِّل أَخَذَهُ مِنْهُ، وَكَذَا الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْمَبِيعَ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَإِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ دُونَ الْمُوَكِّل.
وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا: إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَى الْمُوَكِّل بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِه بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِرِضَا مُوَكِّلِهِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الإِْجَارَةِ وَالاِسْتِئْجَارِ(45/95)
وَأَخَوَاتِهِمَا، وَكُل عَقْدٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّل فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ وَالْعَتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْكِتَابَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إِنْكَارِ الْمُدَعَّى عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّل وَعَلَيْهِ. وَالْوَكِيل فِيهَا يَكُونُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا، حَتَّى إِنَّ وَكِيل الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لاَ يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ، إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ فَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَوَكِيل الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لاَ يَمْلِكُ قَبْضَ الْمَهْرِ.
وَكَذَا الْوَكِيل بِالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ لاَ يَمْلِكُ قَبْضَ بَدَل الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ إِنْ كَانَ وَكِيل الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيل الْمَرْأَةِ لاَ يُطَالَبُ بِبَدَل الْخُلْعِ إِلاَّ بِالضَّمَانِ، وَكَذَا الْوَكِيل بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا وَكَّلَهُ عَلَى بَيْعٍ فَعَلَيْهِ طَلَبُ الثَّمَنِ وَقَبْضُهُ، لأَِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ عَلَى اشْتِرَاءٍ فَعَلَيْهِ قَبْضُ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ وَتَسْلِيمُهُ لِلْمُشْتَرِي.
وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَعِيبِ إِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ حَال شِرَائِهِ.
وَالْوَكِيل مُطَالَبٌ بِثَمَنٍ لِسِلْعَةٍ اشْتَرَاهَا لِمُوَكِّلِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3476، 3477.(45/95)
وَمُثَمَّنٍ اشْتَرَاهُ لَهُ، مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَنْ قَال: لاَ أَتَوَلَّى ذَلِكَ لَمْ يُطَالَبْ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ مُوَكِّلُهُ (1) .
وَقَالُوا: الْوَكِيل مُطَالَبٌ بِالْعُهْدَةِ مِنْ عَيْبٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ مَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وَكِيلٌ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وَكِيلٌ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْمُوَكِّل لاَ الْوَكِيلَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْوَكِيل مُفَوَّضًا فَيُطَالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ (2) .
كَيْفِيَّةُ انْصِرَافِ حُكْمِ الْعَقْدِ إِلَى الْمُوَكِّل:
160 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ انْصِرَافِ حُكْمِ الْعَقْدِ إِلَى الْمُوَكِّل:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ - وَهُوَ قَوْل أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ كَذَلِكَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَنْتَقِل إِلَى الْمُوَكِّل مُبَاشَرَةً، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَهُ فَوَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَهُ بِنَفْسِهِ.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُقَابِل لِلصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيل أَوَّلاً، ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى الْمُوَكِّل لأَِنَّ الْخِطَابَ جَرَى مَعَهُ، فَلَوْ وَكَّل رَجُلٌ آخَرَ لِيَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً فَاشْتَرَاهَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 381 والخرشي 6 / 72.
(2) الدسوقي 3 / 382.(45/96)
الْوَكِيلُ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِل إِلَى الْوَكِيل أَوَّلاً، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لأَِنَّهُ يَعُودُ وَيَنْتَقِل إِلَى الْمُوَكِّل (1) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ، إِلَى أَنَّ الْوَكِيل نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّل فِي حَقِّ الْحُكْمِ، أَصِيلٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ، فَإِنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ لَهُ ثُمَّ تَنْتَقِل إِلَى الْمُوَكِّل (2) .
اخْتِلاَفُ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل
ِلاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل صُوَرٌ نُبَيِّنُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الاِخْتِلاَفُ فِي أَصْل الْوَكَالَةِ:
161 - إِذَا كَانَ الاِخْتِلاَفُ فِي أَصْل الْوَكَالَةِ، فَقَال الْوَكِيل: وَكَّلْتَنِي فِي كَذَا، وَلَكِنَّ الْمُوَكِّل أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَال لَهُ: لَمْ أُوَكِّلْكَ.
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلاَفٌ فِي أَصْل الْوَكَالَةِ كَانَ الْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل. لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَمِينُهُ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 372، والمهذب 1 / 356، وروضة الطالبين 4 / 326، والمغني 5 / 263، وتكملة ابن عابدين 7 / 291، 292، والبحر الرائق 7 / 151، وتكملة فتح القدير 8 / 16 - 18، والفتاوى البزازية 3 / 488.
(2) تكملة ابن عابدين 7 / 191، 292، والبحر الرائق 7 / 151، وتكملة فتح القدير 8 / 16 - 18، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 3 / 488.(45/96)
لِيُقْبَل قَوْلُهُ عَلَيْهِ (1) .
ب - الاِخْتِلاَفُ فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ:
162 - إِذَا اخْتَلَفَ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ، كَأَنْ يَقُول الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْبَعِيرِ، وَيَقُول الْوَكِيل: بَل وَكَّلْتَنِي فِي بَيْعِ هَذِهِ النَّاقَةِ. أَوْ قَال الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ فِي الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ، وَقَال الْوَكِيل: بَل بِأَلْفٍ، أَوْ قَال الْمُوَكِّل: وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِهِ نَقْدًا، وَقَال الْوَكِيل: بَل نَسِيئَةً.
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَنْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي تُمَثِّل الاِخْتِلاَفَ بَيْنَ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - اخْتَارَهُ الْقَاضِي - إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل فِي التَّوْكِيل الَّذِي يَدَّعِيهِ الْوَكِيل - وَالأَْصْل عَدَمُهُ - فَكَانَ الْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل الَّذِي يَنْفِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّل بِتَوْكِيلِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ قَوْل الْمُوَكِّلِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي صِفَةِ كَلاَمِهِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صِفَةِ الطَّلاَقِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صُورَتَيْنِ،
__________
(1) وروضة الطالبين 4 / 338، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 691، والدسوقي 3 / 393، ومعونة أولي النهى 4 / 672.(45/97)
حَيْثُ قَالُوا بِقَبُول قَوْل الْوَكِيل بِيَمِينِهِ فِيهِمَا، وَهُمَا:
الصُّورَةُ الأُْولَى: وَكَّل شَخْصٌ غَيْرَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ وَدَفَعَ لِلْوَكِيل الثَّمَنَ فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً، فَزَعَمَ الْمُوَكِّل أَنَّهُ أَمَرَ الْوَكِيل بِشِرَاءِ غَيْرِهَا، فَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيل مَعَ يَمِينِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْوَكِيل لَزِمَتِ السِّلْعَةُ الْمُوَكِّل.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ، فَبَاعَهَا الْوَكِيل بِعَشَرَةٍ مَثَلاً وَادَّعَى أَنَّ الْمُوَكِّل أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَقَال الْمُوَكِّل: بَل أَمَرْتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيل بِيَمِينِهِ إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِزَوَال عَيْنِهِ وَأَشْبَهَ قَوْل ذَلِكَ الْوَكِيلِ، سَوَاءٌ أَشْبَهَ الْمُوَكِّل أَمْ لاَ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَفُتْ وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفِ الْمُوَكِّلُ، فَإِنْ حَلَفَ الْمُوَكِّل كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ.
وَالْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل بِيَمِينِهِ إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ وَأَشْبَهَ قَوْلَهُ وَحْدَهُ، أَوْ لَمْ يُشْبِهْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَفُتْ وَحَلَفَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْقَوْل عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ قَوْل الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ (1) .
__________
(1) البحر الرائق 7 / 171، وتكملة فتح القدير 8 / 64، وروضة الطالبين 4 / 338، والإنصاف 5 / 399، 400، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 226، 227، وحاشية الدسوقي 3 / 521 - 522.(45/97)
جـ - اخْتِلاَفُ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل فِي تَلَفِ الْمُوَكَّل فِيهِ:
163 - إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل حَوْل تَلَفِ مَا بِيَدِ الأَْوَّل لِلثَّانِي مِنْ ثَمَنٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَكِيل مَعَ يَمِينِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَكِيل أَمِينٌ، وَمَا بِيَدِهِ يُعْتَبَرُ أَمَانَةً، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودَعِ لَدَيْهِ.
وَلأَِنَّهُ لَوْ كَلَّفَ الْوَكِيل إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ مَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُول فِي الأَْمَانَاتِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَيَلْحَقُهُمُ الضَّرَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَكِيل مُتَّهَمًا.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيل التَّلَفَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا (1) .
أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَكِيل التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عَلَى الْوَكِيل
__________
(1) البدائع 6 / 84، وبداية المجتهد 2 / 303، ومغني المحتاج 2 / 235، ونهاية المحتاج 5 / 60 والمغني 5 / 221، ومعونة أولي النهى 4 / 667، والإنصاف 5 / 396، وروضة القضاة 2 / 659، والكافي لابن عبد البر 2 / 789، وروضة الطالبين 4 / 342، والمهذب 1 / 365.(45/98)
إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الأَْمْرِ الظَّاهِرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي التَّلَفِ بِذَلِكَ الأَْمْرِ الظَّاهِرِ فِي رِوَايَةٍ، وَلاَ يُطَالَبُ الْوَكِيل بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُوَكَّل فِيهِ بِعَيْنِهِ حُرِقَ أَوْ نُهِبَ لأَِنَّهُ مُتَعَذِّرٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَثْبَتَ الْحَادِثُ الظَّاهِرُ وَلَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ أَنَّ الْوَكِيل لاَ يَحْلِفُ (1) .
د - الاِخْتِلاَفُ فِي تَعَدِّي الْوَكِيل وَتَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ:
164 - إِذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل فِي تَعَدِّي الْوَكِيل وَتَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ الْمُوَكِّل عَلَى الْوَكِيل أَنَّهُ حَمَل عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ بِدُونِ إِذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَكِيل مَعَ َيَمِينِهِ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 221، والإنصاف 5 / 369، 397، ومعونة أولي النهى 4 / 671.
(2) بداية المجتهد 2 / 274، والمغنى 5 / 22، ومعونة أولي النهى 4 / 667، والإنصاف 5 / 369، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 582.(45/98)
هـ - الاِخْتِلاَفُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالْقَبْضِ:
لِلْفُقَهَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ اتِّجَاهَاتٌ نَتَنَاوَلُهَا فِيمَا يَلِي:
165 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل يَبِيعُ الشَّيْءَ إِذَا قَال: بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ، هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
إِمَّا إِنْ كَانَ الْمُوَكِّل سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَى الْوَكِيل أَوْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إِلَيْهِ فَقَال الْوَكِيل: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُل وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِي، أَوْ قَال: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَهَذَا لاَ يَخْلُو إِمَّا إِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلاَكِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَهْلَكُ الثَّمَنُ مِنْ مَال الْمُوَكِّل وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَكِيل لأَِنَّهُ يَهْلَكُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ.
وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قْبَضٍ، فَإِنَّ الْوَكِيل يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الْوَكِيل فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ.
وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إِلَى(45/99)
الْمُوَكِّل وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْوَكِيل بِمَا نَقَدَهُ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّل قَبَضَ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّل ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَكِيل يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّل بِالْقَبْضِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أَنَّهُ هُنَاكَ لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيل بِشَيْءٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الإِْقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ.
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّل فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلاَكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلْيَهِ، فَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيل فِي دَعْوَى الْهَلاَكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّل عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَلاَ يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إِلَى الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّهُ ثَبَتَ وُصُول الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ، ِ وَوُصُول الثَّمَنِ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إِلَى يَدِهِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مُسَلِّمًا إِلَى الْوَكِيلِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسَلِّمًا إِلَيْهِ فَقَال الْوَكِيل: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُل وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي، أَوْ قَال: دَفَعْتُهُ إِلَى الْمُوَكِّلِ، أَوْ قَال: قَبَضَ الْمُوَكِّل الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكِيل يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْمَبِيعُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ وَلاَ يَمِينَ عَلَيْهِ.(45/99)
أَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلاَ يُشْكَلُ، وَكَذَا إِذَا كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، لأَِنَّ الْوَكِيل أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عَنِ الثَّمَنِ فَلاَ يُحَلَّفُ وَيُحَلَّفُ الْوَكِيلُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَرِئَ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ نَكَل عَنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّل.
فَإِنِ اسْتُحِقَ الْمَبِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيل إِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَالْوَكِيل لاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّل بِمَا ضَمِنَ مِنَ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِقْرَارُ الْوَكِيل فِي حَقِّهِ جَائِزٌ، وَلاَ يَجُوزُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّل عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، فَإِنْ نَكَل رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّل بِقَبْضِ الْوَكِيل الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْهَلاَكِ أَوِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْوَكِيل يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْوَكِيل لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّل قَبَضَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي لاَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّل أَيْضًا، لأَِنَّ إِقْرَارَهُمَا عَلَى الْمُوَكِّل لاَ يَجُوزُ.
وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلِلْوَكِيل أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّل بِمَا ضَمِنَ إِذَا(45/100)
أَقَرَّ الْمُوَكِّل بِقَبْضِ الْوَكِيل الثَّمَنَ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّل بِقَبْضِ الْوَكِيل الثَّمَنَ لاَ يَرْجِعُ الْوَكِيل بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّل عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ، فَإِنْ نَكَل رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَرْجِعُ، وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْمَبِيعَ فَيَسْتَوْفِي مَا ضَمِنَ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَلاَ يُرْجَعُ بِالنُّقْصَانِ عَلَى أَحَدٍ.
وَلَوْ كَانَ الْوَكِيل لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ، لاَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّل أَيْضًا لأَِنَّهُمَا لاَ يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَعَلَى الْمُوَكِّل الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ، فَإِنْ نَكَل رَجَعَ عَلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَهُ، وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْوَكِيل يَبِيعُهُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لاَ يَبِيعُهُ، وَجَعَل هَذَا كَبَيْعِ مَال الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ، وَلَكِنَّ الْوَكِيل لَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، لأَِنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَسْخًا عَادَتِ الْوَكَالَةُ، فَإِذَا بِيعَ الْمَبِيعُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْهُ إِنْ أَقَرَّ الْوَكِيل بِقَبْضِ الْمُوَكِّل وَلَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ مِقْدَارَ مَا غَرِمَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ لاَ يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 47 - 49.(45/100)
166 - وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَكِيل إِذَا قَال لِلْمُوَكِّل: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَال الْمُوَكِّل بَعْدُ: لَمْ تَتَصَرَّفْ، فَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيل لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَيَلْزَمُ الآْمِرَ التَّصَرُّفُ لأَِنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَكَالَةِ.
وَلَوْ قَال قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْل قَوْلُهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَبْضُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّل فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَبْرَأِ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّعْوَى إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ وَكِيلاً مُفَوِّضًا أَوْ وَصِيًّا فَيَبْرَأُ بِاعْتِرَافِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ بِخِلاَفِ الْوَكِيل الْمَخْصُوصِ، وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ لاَ غُرْمَ عَلَى الْوَكِيل (1) .
167 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صُلْحٍ، أَوْ طَلاَقٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ، فَقَال الْوَكِيل: تَصَرَّفْتُ كَمَا أَذَنْتَ، وَقَال الْمُوَكِّل: لَمْ تَتَصَرَّفْ بَعْدُ، نُظِرَ: إِنْ جَرَى هَذَا الاِخْتِلاَفُ بَعْدَ انْعِزَال الْوَكِيلِ، لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ حِينَئِذٍ. وَإِنْ جَرَى قَبْل الاِنْعِزَالِ، فَهَل الْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل أَمِ الْوَكِيل؟ قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ: الأَْوَّلُ، وَقِيل: مَا يَسْتَقِل بِهِ الْوَكِيلُ، كَالطَّلاَقِ وَالإِْعْتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ، وَمَا لاَ كَالْبَيْعِ فَلاَ.
__________
(1) عقد الجواهر 2 / 692.(45/101)
وَلَوْ قَال الْمُوَكِّل: بَاعَ الْوَكِيلُ، فَقَال: لَمْ أَبِعْ. فَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْمُوَكِّلَ، حُكِمَ بِانْتِقَال الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ، فَقَال: قَبَضْتُهُ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، نُظِرَ: إِنْ قَال: قَبَضْتُهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِي فَخُذْهُ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ، وَلاَ مَعْنَى لِهَذَا الاِخْتِلاَفِ. وَإِنْ قَال: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، فَالْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّل مَعَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ حَقِّهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقِيل: بِطَرْدِ الْخِلاَفِ فِي اخْتِلاَفِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذَا حَلَفَ الْمُوَكِّلُ، أَخَذَ حَقَّهُ مِمَّنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ، لاِعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مَظْلُومٌ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَجَوَّزْنَا لَهُ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَاتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَقَال الْوَكِيل: قَبَضْتُهُ وَتَلِفَ فِي يَدِي، أَوْ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ، فَفِي الْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُمَا إِنِ اخْتَلَفَا قَبْل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْل الْمُوَكِّل.(45/101)
وَأَصَحُّهُمَا: قَوْل الْوَكِيلِ، وَبِهِ قَال ابْنُ الْحَدَّادِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل يَدَّعِي تَقْصِيرَهُ وَخِيَانَتَهُ بِالتَّسْلِيمِ بِلاَ قَبْضٍ، وَالأَْصْل عَدَمُهُ.
وَهَذَا التَّفْصِيل فِيمَا إِذَا أَذِنَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا. فَإِذَا أَذِنَ فِي التَّسْلِيمِ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي الْبَيْعِ بِمُؤَجَّلٍ وَفِي الْقَبْضِ بَعْدَ الأَْجَلِ، لَمْ يَكُنْ خَائِنًا بِالتَّسْلِيمِ بِلاَ قَبْضٍ، فَالاِخْتِلاَفُ كَالاِخْتِلاَفِ قَبْل التَّسْلِيمِ، فَإِذَا صَدَّقْنَا الْوَكِيل فَحَلَفَ، فَفِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الإِْمَامِ: يَبْرَأُ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: لاَ (1) .
168 - وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَوْ قَال الْوَكِيل: بِعْتُ الثَّوْبَ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فَالْقَوْل قَوْل الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ فَيُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِمَا، كَمَا يُقْبَل قَوْل وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا.
وَقِيل: لاَ يُقْبَل قَوْل الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ (2) .
و الاِخْتِلاَفُ فِي دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيل:
169 - قَدْ يَخْتَلِفُ الْمُوَكِّل مَعَ الْوَكِيل فِي
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 342 - 343.
(2) الإنصاف 5 / 397، والمغني 5 / 222، ومعونة أولي النهى 4 / 668.(45/102)
دَعْوَى رَدِّ مَا بِيَدِ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْوَكِيل الرَّدَّ فَيُنْكِرُهُ الْمُوَكِّل: َيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَكِيل مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَ الْوَكِيل يَعْمَل بِدُونِ أَجْرٍ، أَوْ بِأَجْرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ثَانٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّ الْوَكِيل إِذَا كَانَ يَعْمَل بِالأَْجْرِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَوْ بِأَجْرٍ (1) .
انْتِهَاءُ الْوَكَالَةِ:
تَنْتَهِي الْوَكَالَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْعَزْل:
170 - لَمَّا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لأَِيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 230، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 583، وروضة القضاة 2 / 659، والشرح الكبير للدردير 3 / 392، والإنصاف 5 / 397 - 398، وروضة الطالبين 4 / 342، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 223.(45/102)
إِنْهَاؤُهَا، فَلِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِل الْوَكِيل مِنْهَا وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّصَرُّفِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْوَكِيل أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ مِنْهَا أَيْضًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْل الْوَكِيل مِنَ الْمُوَكِّل الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: عِلْمُ الْوَكِيل بِالْعَزْل:
171 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيل بِالْعَزْل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيل بِالْعَزْلِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْعَزْل فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنَّهُ لَوِ انْعَزَل قَبْل عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً. وَبِأَنَّ الْوَكِيل يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ، وَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْل عِلْمِهِ كَالْفَسْخِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْوَكِيل بِالْعَزْلِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ
__________
(1) البدائع 6 / 51، وتكملة ابن عابدين 7 / 382، وحاشية الدسوقي 3 / 396، ومغني المحتاج 2 / 231، وروضة الطالبين 4 / 330، 332، والمغني 5 / 242.(45/103)
الْوَكِيل بَعْدَ الْعَزْل فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ الْعَزْل رَفْعُ عَقْدٍ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا صَاحِبِهِ، فَلاَ يَفْتَقِرُ عَلَى عِلْمِهِ كَالطَّلاَقِ (1) .
172 - وَيَتِمُّ عِلْمُ الْوَكِيل بِالْعَزْل - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا الْعَزْل.
ب - إِذَا كَانَ الْوَكِيل غَائِبًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُوَكِّل كِتَابَ الْعَزْلِ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ. لأَِنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ.
جـ - لَوْ أَرْسَل إِلَيْهِ الْمُوَكِّل رَسُولاً فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ، وَقَال لَهُ: فُلاَنٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُول: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ، كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلاً كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. لأَِنَّ الرَّسُول قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسَل مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ.
د - لَوْ أَخْبَرَ الْوَكِيل بِالْعَزْل رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِل بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيل أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إِذَا ظَهَرَ
__________
(1) البدائع 6 / 51، وتكملة ابن عابدين 7 / 382، والفتاوى الهندية 3 / 637، واللباب 2 / 145، والشرح الكبير للدردير 3 / 396، والمهذب 1 / 357، وروضة الطالبين 4 / 330، ومغني المحتاج 2 / 232، والمغني 5 / 242، 243، والإنصاف 5 / 372، 373.(45/103)
صِدْقُ الْخَبَرِ، لأَِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلاَتِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوِ الْعَدْل أَوْلَى.
وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِل بِاتِّفَاقِهِمْ أَيْضًا.
أَمَّا إِنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل حَتَّى وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ. لأَِنَّ الإِْخْبَارَ عَنِ الْعَزْل لَهُ شَبَهُ الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ، وَهُوَ لُزُومُ الاِمْتِنَاعِ عَنِ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوِ الْعَدَدُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الإِْخْبَارَ عَنِ الْعَزْل مِنْ بَابِ الْمُعَامَلاَتِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الإِْخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قُلْنَا لاَ يَنْعَزِل الْوَكِيل حَتَّى يَبْلُغَهُ خَبَرُ عَزْلِهِ فَالْمُعْتَبَرُ خَبَرُ مَنْ تُقْبَل رِوَايَتِهِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْفَاسِقِ (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ:
173 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَزْل الْوَكِيل
__________
(1) البدائع 6 / 51، والفتاوى الهندية 3 / 637.
(2) روضة الطالبين 4 / 330.(45/104)
إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ.
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَزْل بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، لأَِنَّ فِي الْعَزْل إِبْطَال حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَل الْمُرْتَهِنَ أَوِ الْعَدْل مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ عِنْدَ حِل الأَْجَلِ، فَعَزْل الرَّاهِنِ الْمُسَلَّطِ عَلَى الْبَيْعِ لاَ يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا وَكَّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلاً بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي لاَ يَنْعَزِل.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّل رَجُلاً بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ إِنْ غَابَ، ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ، قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَصِحُّ عَزْلُهُ، لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ عَزْلُهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلاَقِ وَلاَ عَلَى التَّوْكِيل بِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالاَتِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَال الْمُوَكِّل: عَزَلْتُ الْوَكِيل أَوْ رَفَعْتُ الْوَكَالَةَ، أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 52 - 53، وانظر المادة من مجلة الأحكام العدلية. ص 105.(45/104)
أَبْطَلْتُهَا، أَوْ أَخْرَجْتُهُ عَنْهَا، فَيَنْعَزِلُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَ تَوْكِيلَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِسُؤَال الْخَصْمِ، بِأَنْ سَأَلَتْ زَوْجَهَا أَنْ يُوَكِّل فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ، أَوْ سَأَل الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ أَنْ يُوَكِّل بِبَيْعِ الرَّهْنِ، أَوْ سَأَلَهُ خَصْمُهُ أَنْ يُوَكِّل فِي الْخُصُومَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُوَكِّل لَيْسَ لَهُ عَزْل وَكِيلِهِ إِذَا قَاعَدَ الْوَكِيل الْخَصْمَ ثَلاَثًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيل لِعُذْرٍ أَمْ لاَ (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ تَقَعَ الْوَكَالَةُ عَلَى وَجْهِ الإِْجَارَةِ:
174 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ عَزْل الْمُوَكِّل وَكِيلَهُ أَنْ لاَ تَكُونَ الْوَكَالَةُ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيل الإِْجَارَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى سَبِيل الإِْجَارَةِ فَهِيَ لاَزِمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيل الْجَعَالَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ وَعَدَمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (فَقْرَةِ 30) .
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْوَكَالَةُ عَلَى سَبِيل الإِْجَارَةِ أَوِ الْجَعَالَةِ فَيَرَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا لاَزِمَةٌ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيل فَقَطْ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَق تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ صِفَةِ عَقْدِ الْوَكَالَةِ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 330.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 379.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 357، وفتح العلي المالك 2 / 327، وشرح الخرشي 4 / 302، وجواهر الإكليل 2 / 132، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 688، وروضة الطالبين 4 / 332.(45/105)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَزْل مَفْسَدَةٌ:
175 - قَال الشَّرَوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ عَلِمَ الْمُوَكِّل أَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَزْل مَفْسَدَةٌ، كَمَا لَوْ وَكَّل فِي مَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَل الْوَكِيل اسْتَوْلَى عَلَى مَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ظَالِمٌ، أَوْ وَكَّل فِي شِرَاءِ مَاءٍ لِطُهْرِهِ، أَوْ ثَوْبٍ لِلسَّتْرِ بِهِ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، أَوْ شِرَاءِ ثَوْبٍ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ اللَّذَيْنِ يَحْصُل بِسَبَبِهِمَا عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ مَحْذُورٌ، تَيَمَّمَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إِذَا عَزَل الْوَكِيل لاَ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، فَيَحْرُمُ الْعَزْل وَلاَ يَنْفُذُ (1) .
عِلْمُ الْمُوَكِّل بِعَزْل الْوَكِيل نَفْسَهُ:
176 - لَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عِلْمَ الْمُوَكِّل بِعَزْل الْوَكِيل نَفْسَهُ مِنَ الْوَكَالَةِ، لأَِنَّ فَسْخَ عَقْدِ الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ، وَمَا لاَ يَحْتَاجُ لِلرِّضَا فِيهِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَزْل الْوَكِيل لِنَفْسِهِ عِلْمُ
__________
(1) حاشية الشرواني مع تحفة المحتاج 5 / 337.(45/105)
الْمُوَكِّل بِالْعَزْل (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَكِيل أَنَّهُ لَوْ عَزَل نَفْسَهُ فِي غَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ اسْتَوْلَى عَلَى الْمَال جَائِرٌ حَرُمَ عَلَيْهِ الْعَزْل عَلَى الأَْوْجَهِ كَالْمُوصِي، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ (2) .
ثَانِيًا: الْوَفَاةُ:
177 - تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لأَِهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُل الْوَكَالَةُ.
وَلأَِنَّ الْوَكِيل نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّل فِي مَالِهِ، وَقَدِ انْتَقَل هَذَا الْمَال بِالْوَفَاةِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُمْ مَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى (3) .
عِلْمُ الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل:
178 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل حَتَّى تَبْطُل الْوَكَالَةُ.
__________
(1) الدسوقي 3 / 356، ومغني المحتاج 2 / 232، وتكملة ابن عابدين 1 / 274، 275، والشرح الكبير مع المغني 5 / 213، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 661.
(2) تحفة المحتاج 5 / 337، ونهاية المحتاج 5 / 52.
(3) البدائع 6 / 54، وتكملة ابن عابدين 1 / 276ـ277، والخرشي 6 / 86، وحاشية الدسوقي 3 / 396، والمهذب 1 / 364، ومغني المحتاج2 / 232، وروضة الطالبين 4 / 330، والمغني 5 / 242، والإنصاف 5 / 368.(45/106)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّل حَتَّى يَصِحَّ الْعَزْلُ، لأَِنَّهُ لَوِ انْعَزَل قَبْل عِلْمِهِ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَتَى تَصَرَّفَ قَبْل عِلْمِهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدُ مَعَ الْوَكِيل حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهَا الْمُوَكِّلُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَتَعَاقَدُ مَعَ وَكِيلٍ بِأَنْ أَعْلَمَهُ الْوَكِيل بِذَلِكَ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِل إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ لِصِحَّةِ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّ الأَْوَّل هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَعَاقِدُ مَوْجُودًا بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُوَكِّلُ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِل الْوَكِيل إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِوَفَاةِ مُوَكِّلِهِ (2) .
ثَالِثًا: الْجُنُونُ:
179 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ طُرُوءِ الْجُنُونِ عَلَى الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل عَلَى الْوَكَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ
__________
(1) البدائع 6 / 54، وتكملة ابن عابدين 1 / 276ـ277، والمغي 5 / 242، 243، والإنصاف 5 / 372،373، ومغني المحتاج 2 / 232.
(2) الشرح الكبير 3 / 396، وشرح الخرشي 6 / 86، وجواهر الإكليل 2 / 132.(45/106)
تَبْطُل بِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل.
وَإِذَا جُنَّ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل جُنُونًا مُطْبَقًا ثُمَّ أَفَاقَ لاَ تَعُودُ الْوَكَالَةُ.
وَحَدُّ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهِ:
فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ وَبِهِ يُفْتِي، وَعَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ، فَقُدِّرَ بِهِ احْتِيَاطًا، وَقِيل: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ. وَوَجْهُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى، أَمَّا وَجْهُ حَدِّهِ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلِسُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِهِ فَقَدَّرَ بِهِ احْتِيَاطًا كَمَا ذَكَرْنَا.
وَحَدَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَا يَسْتَوْعِبُ السَّنَةَ، لأَِنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلسَّنَةِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِالْجُنُونِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُمْتَدِّ وَغَيْرِهِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَنْعَزِل الْوَكِيل بِخُرُوجِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ وَإِنْ زَال عَنْ قُرْبٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَنْعَزِل الْوَكِيل بِجِنُونِهِ أَوْ جِنُونِ مُوَكِّلِهِ إِلاَّ أَنْ يَطُول(45/107)
جُنُونُ مُوَكِّلِهِ جِدًّا فَيَنْظُرَ لَهُ الْحَاكِمُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: لاَ يَنْعَزِل الْوَكِيل بِجِنُونٍ لاَ يَمْتَدُّ بِحَيْثُ تَتَعَطَّل الْمُهِمَّاتُ وَيَخْرُجُ إِلَى نَصْبِ قَوَّامٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيل: إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِالْجُنُونِ (1) .
رَابِعًا: الإِْغْمَاء:
180 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الإِْغْمَاءِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِالإِْغْمَاءِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ الإِْنْسَانُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِإِغْمَاءِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيلِ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْجُنُونِ، لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ يَجْعَل الإِْنْسَانَ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ
__________
(1) تكملة ابن عابدين 1 / 276،277، وبدائع الصنائع 6 / 54، والفتاوى الهندية 3 / 628، والبحر الرائق 7 / 189، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 665 المادة (1530) والزرقاني 6 / 91، والدسوقي 3 / 369، وروضة الطالبين 4 / 330، ومغني المحتاج 2 / 232، والإنصاف 5 / 368،369، ومغني المحتاج 2 / 232، والإنصاف 5 / 368،369، ومعونة أولي النهى 4 / 627، والمغني مع الشرح 5 / 242، 243.
(2) الإنصاف 5 / 369، وكشاف القناع 3 / 469، ومغني المحتاج 2 / 232، وتكملة ابن عابدين 1 / 277.(45/107)
بِالتَّصَرُّفَاتِ، فَتَبْطُل بِهِ الْوَكَالَةُ لِذَلِكَ (1) .
خَامِسًا: الْحَجْرُ:
181 - الْحَجْرُ مِنْ أَسْبَابِ بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ مَنَاهِجُ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَيَانِ آثَارِ الْحَجْرِ عَلَى الْوَكَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل يُبْطِل الْوَكَالَةَ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ وَكَّل إِنْسَانًا فَحَجَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، لأَِنَّ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ أَمْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَال فَيَبْطُل الأَْمْرُ فَتَبْطُل الْوَكَالَةُ.
وَخَصَّصَ الْحَنَفِيَّةُ بُطْلاَنَ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّل إِذَا كَانَ الْوَكِيل وَكِيلاً فِي الْعُقُودِ وَالْخُصُومَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَاقْتِضَائِهِ وَقَبْضِ وَدِيعَتِهِ فَلاَ يَنْعَزِل بِالْحَجْرِ.
وَقَالُوا: تَبْطُل وَكَالَةُ الوَكِيل بِالْحَجْرِ، عَلِمَ الْوَكِيل بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (2)
َصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِالْحَجْرِ لِسَفَهٍ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْوَكِيل أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، لأَِنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَقْل وَعَدَمِ الْحَجْرِ،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 232، ونهاية المحتاج 5 / 55.
(2) بدائع الصنائع 6 / 54، وتكملة ابن عابدين 1 / 279.(45/108)
فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهُ لاِنْتِفَاءِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِبُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِالْحَجْرِ لِلسَّفَهِ حَيْثُ كَانَتْ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي اعْتُبِرَ لَهَا الرُّشْدُ، بِأَنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ لاَ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ يَتَصَرَّفُ فِي مِثْلِهِ السَّفِيهُ بِدُونِ إِذْنٍ، أَوْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ فِي طَلاَقٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فِي تَمَلُّكٍ مُبَاحٍ كَاسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوِ احْتِطَابٍ، وَالَّذِي حُجِرَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّل فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلاَ تَنْفَسِخُ (1) .
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِفَلَسِ الْمُوَكِّل فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ كَالتَّصَرُّفِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لاِنْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَصَرُّفٍ فِي الذِّمَّةِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ حَجَرَ عَلَى الْوَكِيل لِفَلَسٍ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ.
وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْمُوَكِّل وَكَانَتِ الْوَكَالَةُ بِأَعْيَانِ مَالِهِ بَطَلَتْ لاِنْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ أَوِ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ أَوِ الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ أَوِ الْقِصَاصِ فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا، لأَِنَّ
__________
(1) معونة أولي النهى 4 / 627، وانظر كشاف القناع 3 / 469.
(2) كشاف القناع 3 / 468، 469.(45/108)
الْمُوَكِّل أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ، فَلاَ تَنْقَطِعُ الاِسْتِدَامَةُ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِالْحَجْرِ عَلَى الْوَكِيل أَوْ عَلَى الْمُوَكِّل بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ فِي كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَنْفُذُ مِنْهُمَا. وَاعْتَبَرُوا الْحَجْرَ فِي كِلاَ الْحَالَيْنِ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِفَلَسِ الْمُوَكِّل الأَْخَصِّ، لاِنْتِقَال الْمَال لِلْغُرَمَاءِ. (3)
وَالْمُرَادُ بِالْفَلَسِ الأَْخَصِّ: هُوَ حُكْمُ الْحَاكِمُ بِخَلْعِ مَا بِيَدِ الْمُفْلِسِ لِغُرَمَائِهِ بِشُرُوطِهِ، بِأَنْ يَطْلُبَ الْغُرَمَاءُ تَفْلِيسَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ حَالًّا، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْحَال يَزِيدُ عَلَى مَا بِيَدِ الْمَدِينِ مِنَ الْمَال.
وَالْفَلَسُ الأَْخَصُّ يَخْتَلِفُ عَنِ الْفَلَسِ الأَْعَمِّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ وَلَوْ مُؤَجَّلاً - بِمَالِهِ مِنْ تَبَرُّعِهِ بِعِتْقٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ حِمَالَةٍ (4) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِفَلَسِ الْمُوَكِّل الأَْعَمِّ (5) .
__________
(1) المغني مع الشرح 5 / 243.
(2) روضة الطالبين 4 / 330.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 396.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 261، 264.
(5) حاشية الدسوقي 3 / 369، والشرح الصغير 3 / 346ـ350، 523.(45/109)
سَادِسًا: الرِّدَّةُ:
182 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا حُكِمَ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَكِّلاً أَوْ وَكِيلاً، بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ بِعَوْدِهِ مُسْلِمًا عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحَوَاشِي الْيَعْقُوبِيَّةِ: أَنَّ الْوَكِيل إِنْ عَادَ مُسْلِمًا بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَالْقَضَاءِ بِهِ، تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلاَ تَعُودُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ عَادَ الْمُوَكِّل مُسْلِمًا بَعْدَ اللُّحُوقِ وَالْقَضَاءِ بِه لاَ تَعُودُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايِةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَعُودُ كَمَا فِي الْوَكِيل.
أَمَّا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ قَبْل لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهَا الْوَكَالَةُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ قُتِل أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ، فَلاَ تَبْطُل وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَل عَلَى رِدَّتِهِ، أَوْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْعَزِل الْوَكِيل بِرِدَّتِهِ أَيَّامَ الاِسْتِتَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ فَإِنْ قُتِل فَوَاضِحٌ،
__________
(1) تكملة حاشية ابن عابدين 1 / 277ـ 278.(45/109)
وَإِنْ أُخِّرَ لِمَانِعٍ كَالْحَمْل فَقَدْ تَرَدَّدَ الْعُلَمَاءُ فِي عَزْلِهِ، وَكَذَا يَنْعَزِل الْوَكِيل بِرِدَّةِ مُوَكِّلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ الاِسْتِتَابَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يُقْتَل لِمَانِعٍ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَزْل الْوَكِيل بِرِدَّةِ الْمُوَكِّل يَنْبَنِي عَلَى الْخِلاَفِ الْجَارِي فِي زَوَال مِلْكِ الْمُوَكِّل الْمُرْتَدِّ عَنْ مِلْكِهِ (2) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَال مِلْكِ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ أَقْوَالاً:
أَحَدُهَا: يَزُول مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ لِزَوَال عِصْمَةِ الإِْسْلاَمِ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ. وَعَلَيْهِ يَنْعَزِل الْوَكِيل.
وَالثَّانِي: لاَ يَزُول مِلْكُ الْمُرْتَدِّ عَنْ مَالِهِ كَالزَّانِي الْمُحْصِنِ فَلا يَنْعَزِل.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَظْهَرُ الأَْقْوَال: أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، لأَِنَّ بُطْلاَنَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا فَكَذَا مِلْكُهُ، فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الْوَكِيل مَوْقُوفًا.
وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجَعَل الْخِلاَفَ فِي أَنَّهُ هَل يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ؟ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 396.
(2) نهاية المحتاج 5 / 56.
(3) روضة الطالبين 10 / 78.(45/110)
وَقَالُوا: رِدَّةُ الْوَكِيل لاَ تُوجِبُ انْعِزَالَهُ، وَعَلَيْهِ فَتَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ عَنِ الْمُوَكِّل (1) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ، أَوْ رِدَّةِ الْمُوَكِّل. وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: لاَ تَبْطُل بِرِدَّةِ الْوَكِيل وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّل فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُوَكِّل بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: تَبْطُل بِرِدَّةِ الْوَكِيل وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا بِرِدَّةِ الْمُوَكِّل وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَهَل يَنْعَزِل الْوَكِيل بِرِدَّةِ الْمُوَكِّل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؟ وَجْهَانِ فِي الْمَذْهَبِ أَصْلُهُمَا هَل يَنْقَطِعُ مِلْكُهُ وَتَصَرُّفُهُ أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا.
كَمَا أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْخِلاَفَ فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ إِذَا وَكَّلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل مَعًا.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْطَى حُكْمَهُ لَوِ انْفَرَدَ بِالاِرْتِدَادِ (2) .
(ر: رِدَّة ف43) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 56، وحاشية الجمل 3 / 403.
(2) تصحيح الفروع 4 / 343ـ344 طـ عالم الكتب، وانظر الإنصاف 5 / 370ـ371، ومطالب أولي النهى 3 / 454.(45/110)
سَابِعًا: الْفِسْقُ:
183 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِفِسْقِ الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ فِيمَا يُنَافِيِه الْفِسْقُ فَحِينَئِذٍ تَبْطُل. فَالْوَكِيل بِالإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا فَسَقَ انْعَزَل بِفِسْقِهِ، أَوْ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيِّةِ التَّصَرُّفِ. أَمَّا إِذَا كَانَ وَكِيلاً فِي الْقَبُول لِلْمُوَكِّل فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ. لأَِنَّهُ لاَ يُنَافِي جَوَازَ قَبْولِهِ. وَفِي عَزْلِهِ بِفِسْقِ نَفْسِهِ وَجْهَانِ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الأَْمَانَةُ، كَوَكِيل وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَلِيِّ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ هَذَا، انْعَزَل بِفِسْقِ نَفْسِهِ وَفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، لِخُرُوجِهِمَا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْوَكِيل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَنْعَزِل بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً لِوَكِيل مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَال نَفْسِهِ انْعَزَل بِفِسْقِهِ. لأَِنَّ الْوَكِيل لَيْسَ لَهُ تَوْكُيل فَاسِقٍ، وَلاَ يَنْعَزِل بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ لأَِنَّ مُوَكِّلَهُ وَكِيلٌ لِرَبِّ الْمَال وَلاَ يُنَافِيِه الْفِسْقُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِفِسْقِ
__________
(1) المغني 5 / 244، وانظر كشاف القناع 3 / 469، ومطالب أولي النهى 3 / 454، والإنصاف 5 / 369.(45/111)
الْمُوَكِّل فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْفِسْقِ (1) .
ثَامِنًا: السُكْرُ:
184 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل بِلاَ تَعَدٍّ (أَيْ بِمُبَاحٍ) انْعَزَل الْوَكِيل.
أَمَّا إِذَا سَكِرَ أَحَدُهُمَا بِتَعَدٍّ (أَيْ بِمُحَرَّمٍ) فَيُحْتَمَل أَنَّهُ يَنْعَزِل الْوَكِيل لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ، لأَِنَّ الْمُتَعَدِّيَ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّاحِي. (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِالسُّكْرِ الَّذِي يُفَسَّقُ بِهِ فِي غَيْرِ مَا يُنَافِيهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَأَمَّا مَا يُنَافِي الْفِسْقَ كَالإِْيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل فِيهِ بِالسُّكْرِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِالسُّكْرِ، سَوَاءٌ طَرَأَ عَلَى الْمُوَكِّل أَوْ عَلَى الْوَكِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُبَاحٍ أَوْ مِنْ مُحَرَّمٍ.
وَقَالُوا: الْوَكِيل بِالطَّلاَقِ صَاحِيًا إِذَا سَكِرَ فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ، وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ لَوْ سَكِرَ فَبَاعَ لَمْ
__________
(1) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 5 / 340، ونهاية المحتاج 5 / 56.
(2) حاشية الشرواني مع تحفة المحتاج 5 / 340، ونهاية المحتاج 5 / 55، وإعانة الطالبين 3 / 96.
(3) كشاف القناع 3 / 469، والإنصاف 5 / 369، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 244.(45/111)
يَنْفُذْ عَلَى مُوَكِّلِهِ (1) .
تَاسِعًا: خُرُوجُ مَحَل التَّصَرُّفِ عَنْ مِلْكِ الْمُوَكِّل:
185 - تَبْطُل الْوَكَالَةُ إِذَا تَصَرَّفَ الْمُوَكِّل بِنَفْسِهِ فِي مَحَل الْوَكَالَةِ تَصَرُّفًا يَعْجَزُ الْوَكِيل عَنِ التَّصَرُّفِ مَعَهُ.
فَلَوْ وَكَّل شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ فِي أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً، وَلَكِنْ قَبْل أَنْ يَبِيعَهَا الْوَكِيل قَامَ الْمُوَكِّل بِبَيْعِهَا بِنَفْسِهِ، أَوِ اسْتُحِقَّتْ لِشَخْصٍ آخَرَ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، لأَِنَّ الْوَكِيل عَجَزَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فِي مَحَل الْوَكَالَةِ، لِزَوَال مِلْكِ الْمُوَكِّل فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا بِنَفْسِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وَكَّل شَخْصًا عَلَى بَيْعِ سِلْعَةٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُوَكِّل لِشَخْصٍ، وَبَاعَهَا الْوَكِيل لآِخَرَ، فَالأَْوَّل مِنَ الْبَيْعَتَيْنِ هُوَ اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي بَيْعٌ فُضُولِيٌّ لاِنْتِقَال السِّلْعَةِ لِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل بِالْبَيْعِ فِي كُل حَالٍ، إِلاَّ حَال تَلَبُّسِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِقَبْضِ السِّلْعَةِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص311.
(2) البدائع 6 / 55، وتكملة ابن عابدين 1 / 280، والفتاوى الهندية 3 / 636، والبحر الرائق 7 / 190، ومغني المحتاج 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 470، ومعونة أولي النهى 4 / 628.(45/112)
مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي، فَيَمْضِي الْبَيْعُ الثَّانِي وَيُرَدُّ الْبَيْعُ الأَْوَّلُ، إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ الثَّانِي وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ الْبَيْعَ الأَْوَّلَ، وَإِلاَّ فَهِيَ لِلأَْوَّل كَذَاتِ الْوَلِيَّيْنِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِإِقْرَارِ الْوَكِيل عَلَى مُوَكِّلِهِ بِقَبْضِ شَيْءٍ وَكَّل الْوَكِيل فِي قَبْضِهِ أَوِ الْخُصُومَةَ فِيهِ لاِعْتِرَافِ الْوَكِيل بِذَهَابِ مَحَل الْوَكَالَةِ بِالْقَبْضِ (2) .
186 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْدَةِ الْوَكَالَةِ إِذَا عَادَ مَحَل التَّصَرُّفِ إِلَى الْمُوَكِّل.
فَقَال مُحَمَّدٌ: تَعُودُ، لأَِنَّ الْعَائِدَ بِالْفَسْخِ عَيْنُ الْمِلْكِ الأَْوَّل فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ تَعُودُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّل نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْل الْوَكِيلِ، لأَِنَّهُ أَعْجَزَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ، وَالْوَكِيل بَعْد عَزْلِهِ لاَ يَعُودُ وَكِيلاً إِلاَّ بِتَجْدِيدِ الْوَكَالَةِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُوَكِّل لَهُ وَعَادَ إِلَيْهِ مِلْكُهُ الْقَدِيمُ بِمَا هُوَ فَسْخٌ عَادَتِ الْوَكَالَةُ، أَمَّا إِنْ رَدَّ إِلَيْهِ لاَ يَكُونُ فَسْخًا، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَعُودُ،
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 130، وانظر الخرشي 6 / 82.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 456، ومعونة أولي النهى 4 / 629.(45/112)
فَلَوْ وَكَّل شَخْصٌ آخَرَ فِي هِبَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ وَهَبَهُ الْمُوَكِّل بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيل الْهِبَةُ (1) .
عَاشِرًا: تَعَدِّي الْوَكِيل فِيمَا وُكِّل فِيهِ:
187 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِتَعَدِّي الْوَكِيل فِيمَا وُكِّل فِيهِ عَلَى آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِتَعَدِّي الْوَكِيل فِيمَا وُكِّل عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَكِيل إِذَا تَصَرَّفَ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَدَّ.
كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَضَمَّنُ أَمَانَةً وَتَصَرُّفًا، فَإِذَا تَعَدَّى الْوَكِيل فِيهِ بَطَلَتِ الأَْمَانَةُ، وَبَقِيَ التَّصَرُّفُ. كَالرَّهْنِ يَتَضَمَّنُ أَمَانَةً وَوَثِيقَةً، فَإِذَا تَعَدَّى فِيهِ بَطَلَتِ الأَْمَانَةُ وَبَقِيَتِ الْوَثِيقَةُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ بِلَفْظِ قِيل. إِلَى بُطْلاَنِ الْوَكَالَةِ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْوَكِيلِ، لأَِنَّهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ فَتَبْطُل بِالتَّعَدِّي كَالْوَدِيعَةِ (2) .
__________
(1) تكملة ابن عابدين 1 / 280، والفتاوى الهندية 3 / 636، ومغني المحتاج 2 / 233.
(2) المهذب 1 / 364، ومغني المحتاج 2 / 230، والمغني 5 / 244، وكشاف القناع 3 / 469، ومعونة أولي النهى 4 / 630، والإنصاف 5 / 369ـ 370.(45/113)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ يَجْرِي فِيمَا إِذَا كَانَ التَّعَدِّي بِالْفِعْلِ، بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّعَدِّي بِالْقَوْل كَمَا لَوْ بَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ - وَلَوْ بِسَلَمٍ - فَلاَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ جَزْمًا، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَعَدَّ فِيمَا وُكِّل فِيهِ.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ بَعْدَ سَرْدِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ: مُلَخَّصُهُ: إِنْ أَتْلَفَ الْوَكِيل بِتَعَدِّيهِ عَيْنَ مَا وُكِّل فِيهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ مَا تَعَدَّى فِيهِ بَاقِيَةً لَمْ تَبْطُل (1) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَفْسُدُ الْوَكَالَةُ فِي الأَْصَحِّ بِتَعَدِّي الْوَكِيل فِيمَا وُكِّل فِيهِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ فِيمَا جَاءَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ اسْتِئْمَانٍ، فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا لَمْ يَزُل الآْخَرُ.
قَال ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنَ الْوَكِيل تَقْتَضِي فَسَادَ الْوَكَالَةِ لاَ بُطْلاَنَهَا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 230، ونهاية المحتاج 5 / 48، والإنصاف 5 / 370.
(2) الإنصاف 5 / 369ـ370، ومعونة أولي النهى 4 / 630 وانظر كشاف القناع 3 / 469، والقواعد لابن رجب ص64ـ65 القاعدة (45) .(45/113)
الْحَادِي عَشَرَ: إِنْكَارُ الْوَكَالَةِ:
188 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل بِجُحُودِ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل الْوَكَالَةَ، لأَِنَّ الْجُحُودَ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَدُل عَلَى دَفْعِ الإِْذْنِ السَّابِقِ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ طَلاَقًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَلَيْهِ الْفَتْوَى - وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ - إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِالْجُحُودِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِنْكَارَ الْوَكِيل أَوِ الْمُوَكِّل الْوَكَالَةَ لِنِسْيَانٍ أَوْ لِغَرَضٍ فِي الإِْخْفَاءِ لَيْسَ بِعَزْلٍ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِخَوْفِ أَخْذِ ظَالِمٍ الْمَال الْمُوَكَّل فِيهِ، فَإِنْ تَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا إِنْكَارَ الْوَكَالَةِ وَلا غَرَضَ لَهُمَا انْعَزَل بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْجَحْدَ حِينَئِذٍ رَدٌّ لِلْوَكَالَةِ. (1)
الثَّانِي عَشَرَ: تَلَفُ مَا تَعَلَّقَتِ الْوَكَالَةُ بِهِ:
189 - تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِتَلَفِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَلَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الَّتِي وُكِّل فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ أَوِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 417، ومطالب أولي النهى 3 / 458، ومعونة أولي النهى 4 / 633، ومغني المحتاج 2 / 233، ونهاية المحتاج 5 / 56.(45/114)
بِغَيْرِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. وَكَذَلِكَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْمَرْأَةِ الْمُوَكَّل بِطَلاَقِهَا، لِهَلاَكِ مَحَل الْوَكَالَةِ. فَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَحَل لاَ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلاَكِهِ، وَالْوَكَالَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَا لاَ يَحْتَمِل التَّصَرُّفَ مُحَالٌ فَبَطَل (1) .
الثَّالِثَ عَشَرَ: افْتِرَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ:
190 - إِذَا وَكَّل الشَّرِيكَانِ شَخْصًا فَافْتَرَقَا أَوِ افْتَرَقَ أَحَدُهُمَا انْعَزَل الْوَكِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَلأَِنَّهُ وُكِّل مِنْ قِبَل الشَّرِكيَيْنِ لِغَرَضِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا تَفَرَّقَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، فَبَطَل التَّوْكِيل الْحَاصِل بِسَبَبِهَا (2) .
الرَّابِعَ عَشَرَ: إِنْجَازُ التَّصَرُّفِ الْمُوَكَّل فِيهِ:
191 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْعَزِل الْوَكِيل بِلاَ عَزْلٍ بِنِهَايَةِ الشَّيْءِ الْمُوَكَّل فِيهِ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ فَقَبَضَهُ، أَوْ وَكَّلَهُ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ فَزَوَّجَهُ (3) .
__________
(1) معونة أولي النهى 4 / 629، والمغني مع الشرح 5 / 246، وكشاف القناع 3 / 469، وبدائع الصنائع 6 / 56، والفتاوى الهندية 3 / 628، وقليوبي وعميرة 2 / 345.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 938، وحاشية ابن عابدين 4 / 418.
(3) ابن عابدين 4 / 417.(45/114)
الْخَامِسَ عَشَرَ: الرُّجُوعُ عَنِ الْوَكَالَةِ دَلاَلَةً:
192 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُل بِدَلاَلَةِ رُجُوعِ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل.
وَمِنْ صُوَرِ رُجُوعِ الْمُوَكِّل دَلاَلَةً عَنِ التَّوْكِيل وَطْءُ الْمُوَكِّل زَوْجَةً وَكَّل فِي طَلاَقِهَا.
وَمِنْ صُوَرِ دَلاَلَةِ رُجُوعِ الْوَكِيل مَا إِذَا قَبِل الْوَكَالَةَ مِنْ مَالِكِ عَبْدٍ فِي عِتْقِهِ وَكَانَ قَدْ وَكَّلَهُ إِنْسَانٌ فِي شِرَائِهِ، فَإِنَّ قَبُول الْوَكَالَةِ فِي عِتْقِهِ يَدُل عَلَى رُجُوعِهِ عَنِ الْوَكَالَةِ الأُْولَى فِي شِرَائِهِ (1) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 460، ومعونة أولي النهى 4 / 629.(45/115)
وَكِيرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوَكِيرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَكْرِ، وَهُوَ عُشُّ الطَّائِرِ أَيْنَ كَانَ، فِي جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، يُقَال: وَكَرَ الطَّائِرُ: أَتَى الْوَكْرَ أَوْ دَخَلَهُ، وَوَكَرَ الظَّبْيُ: وَثَبَ، وَوَكَرَ الإِْنَاءَ: مَلأََهُ، وَيُقَال: وَكَّرَ الطَّائِرُ ـ بِالتَّشْدِيدِ ـ اتَّخَذَ وَكْرًا، وَوَكَّرَ فُلاَنٌ: اتَّخَذَ الْوَكِيرَةَ، وَوَكَّرَ الْقَوْمَ: أَطْعَمَهُمُ الْوَكِيرَةَ.
وَالْوَكْرَةُ وَالْوَكَرَةُ وَالْوَكِيرَةُ: الطَّعَامُ يَتَّخِذُهُ الشَّخْصُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ بُنْيَانٍ فَيَدْعُو إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُتَّخَذُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بِنَاءِ الدُّورِ فَيُدْعَى إِلَيْهِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 499، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337، ومغني المحتاج 3 / 244، وحاشيتا القليوبي وعميرة على شرح المنهاج 3 / 294، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 5 / 231.(45/115)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَلِيمَةُ:
2 ـ الْوَلِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: طَعَامُ الْعُرْسِ، أَوْ كُل طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، أَوِ اتُّخِذَ لِجَمْعٍ.
يُقَال: أَوْلَمَ فُلاَنٌ: عَمِل وَلِيمَةً، وَأَوْلَمَ فُلاَنٌ: اجْتَمَعَ خَلْقُهُ وَعَقْلُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوَلِيمَةُ تَقَعُ عَلَى كُل طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ مِنْ عُرْسٍ وَإِمْلاَكٌ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنِ اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقَةً فِي الْعُرْسِ أَشْهَرُ (2) .
وَالْوَلِيمَةُ تُطْلَقُ بِمَعْنَاهَا الأَْعَمِّ عَلَى الدَّعَوَاتِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِمُنَاسَبَاتٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ الشَّنْدَخِيَّةُ، وَالإِْعْذَارُ، وَالْخُرْسُ، وَالْعَقِيقَةُ، وَالْوَكِيرَةُ، وَالنَّقِيعَةُ، وَالتُّحْفَةُ، وَالْحُذَّاقُ، وَالشِّنْدَاخُ، وَالْعَتِيرَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْوَلاَئِمِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِهَا وَمُصْطَلَحُ (دَعْوَة ف 26
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَكِيرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيرَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) مغني المحتاج 3 / 244، وحاشية الدسوقي 2 / 337.(45/116)
فِعْل الْوَكِيرَةِ:
3 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ فِعْل الْوَكِيرَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْوَكِيرَةُ ـ كَسَائِرِ الْوَلاَئِمِ غَيْرَ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ ـ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَلاَ تَتَأَكَّدُ تَأَكُّدَ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ.
قَال الْمُتَوَلِّي: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمْ قَوْلاً فِي وُجُوبِ سَائِرِ الْوَلاَئِمِ؛ لأَِنَّ الشَّافِعِيَّ قَال بَعْدَ ذِكْرِهَا: وَلاَ أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِعْل الدَّعَوَاتِ لِغَيْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ مُبَاحٌ، فَلاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ. . نَصًّا، أَمَّا عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (2) ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ الْعُرْسِ، وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ (3) ، وَلَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَمْ يَأْمُرِ ـ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِجَابَتِهَا، وَلَبَيَّنَهَا.
__________
(1) روضة الطالبين للنووي 7 / 233، وشرح المحلي على المنهاج بهامش حاشيتي القليوبي وعميرة 3 / 294 ـ 295.
(2) حديث: " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب " أخرجه مسلم (2 / 1054 ط ـ الحلبي) .
(3) أثر ابن عمر أنه كان يأتي الدعوة في العرس. . . أخرجه مسلم (2 / 1053 ـ ط الحلبي) .(45/116)
وَأَمَّا عَدَمُ اسْتِحْبَابِهَا فَلأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُفْعَل فِي عَهْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَعَهْدِ أَصْحَابِهِ، فَرَوَى الْحَسَنُ قَال: دُعِيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ إِلَى خِتَانٍ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ، وَقَال: " إِنَّا كُنَّا لاَ نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاَ نُدْعَى لَهُ (1) .
وَقَالُوا: وَهَذَا فِي غَيْرِ الْعَقِيقَةِ، أَمَّا الْعَقِيقَةُ فَتُسَنُّ، وَفِي غَيْرِ دَعْوَةِ مَأْتَمٍ فَتُكْرَهُ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الدَّعْوَةُ ـ أَيْ فِي غَيْرِ التَّزْوِيجِ ـ فِي حَقِّ فَاعِلِهَا لَيْسَتْ لَهَا فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهَا، لَكِنْ إِذَا قَصَدَ فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَإِطْعَامَ إِخْوَانِهِ، وَبَذْل طَعَامِهِ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (3) .
حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَكِيرَةِ:
4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِلْوَكِيرَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ لِلْوَكِيرَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) أثر الحسن: دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان. . . أخرجه أحمد (4 / 217 ط ـ الميمنية) ، وأشار ابن قدامة في المغني إلى عدم ثبوته (10 / 207 ط ـ هجر) .
(2) مطالب أولي النهى 5 / 234، وكشاف القناع 5 / 168.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 12.(45/117)
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: أُمِرْنَا بِإِجَابَةِ الدَّاعِي (2) ، وَأَدْنَى أَحْوَال الأَْمْرِ الاِسْتِحْبَابُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ جَبْرِ قَلْبِ الدَّاعِي وَتَطْيِيبِ خَاطِرِهِ، وَدُعِيَ أَحْمَدُ إِلَى خِتَانٍ فَأَجَابَ وَأَكَل (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَكِيرَةِ وَسَائِرِ الْوَلاَئِمِ غَيْرَ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ. فَفِي الْحَدِيثِ مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ وَنَحْوِهِ فَلْيُجِبْ (4) وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ (5) وَقَضِيَّتُهُمَا وُجُوبُ الإِْجَابَةِ فِي سَائِرِ الْوَلاَئِمِ (6) . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ حُضُورَ الدَّعْوَةِ لِلْوَكِيرَةِ مَكْرُوهٌ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ أَنَّ حُضُورَ الدَّعْوَةِ لِلْوَكِيرَةِ مُبَاحٌ (7) .
__________
(1) البناية 9 / 202، وروضة الطالبين 7 / 333، ومغني المحتاج 3 / 245، 246، ومطالب أولي النهى 5 / 234.
(2) حديث البراء: أمرنا بإجابة الداعي. . . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 315 ـ ط السلفية) .
(3) مطالب أولي النهى 5 / 234.
(4) حديث: " من دعي إلى عرس ونحوه فليجب " أخرجه مسلم (2 / 1053 ـ ط الحلبي) من حديث ابن عمر برواتيته.
(5) حديث: " من دعي إلى عرس ونحوه فليجب " أخرجه مسلم (2 / 1053 ـ ط الحلبي) من حديث ابن عمر برواتيته.
(6) مغني المحتاج 3 / 245، وحاشية الشرواني مع تحفة المحتاج 7 / 426، وروضة الطالبين 7 / 333.
(7) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 2 / 499.(45/117)
حِكْمَةُ الإِْجَابَةِ وَالْقَصْدُ بِهَا:
5 ـ الْحِكْمَةُ فِي الإِْجَابَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ لِلْوَكِيرَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِمَشْرُوعِيَّتِهَا إِدْخَال السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الدَّاعِي، وَجَبْرُ قَلْبِهِ، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِهِ.
وَيَنْبَغِي ـ كَمَا نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ ـ أَنْ يَقْصِدَ الْمَدْعُوُّ بِإِجَابَتِهِ الاِقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ حَتَّى يُثَابَ، وَزِيَارَةَ أَخِيهِ وَإِكْرَامِهِ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْمُتَحَابِّينَ الْمُتَزَاوِرِينَ فِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ كِبْرٌ أَوِ احْتِقَارُ مُسْلِمٍ (1) .
الأَْكْل مِنْ طَعَامِ الْوَكِيرَةِ:
6 ـ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَ طَعَامَ الْوَكِيرَةِ وَقَدْ دُعِيَ إِلَيْهِ أَكْلُهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ صَائِمٍ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ: وُجُوبُ أَكْل الْمُفْطِرِ مُحْتَمِلٌ، وَنُقِل عَنِ النَّوَوِيًّ أَنَّهُ اخْتَارَ الْوُجُوبَ أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ إِلَى طَعَامِ الْوَكِيرَةِ صَائِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ وَاجِبًا، أَوْ تَطَوُّعًا.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 343، وفتح الباري 9 / 246 ـ 247، ومطالب أولي النهى 5 / 234، والمغني 7 / 12، ونهاية المحتاج 6 / 367.(45/118)
فَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ وَاجِبًا أَتَمَّهُ، وَلاَ يَأْكُلُ، بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
؟ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ؟ (1) ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ وَفِي رِوَايَةٍ: ". . . فَلْيَدَعُ " (2) أَيْ بَدَلاً مِنْ " فَلْيُصَل ".
وَإِنْ كَانَ الْمُدْعُوُّ مُتَطَوِّعًا بِالصَّوْمِ. . فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ وَالأَْكْل إِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَوْمُهُ وَعَدَمُ أَكْلِهِ مِنْ طَعَامِهِ لإِِمْكَانِ تَدَارُكِ الصَّوْمِ بِنَدْبِ قَضَائِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَال: صَنَعْتُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ. ثُمَّ قَال لَهُ: أَفْطِرْ ثُمَّ صُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ (3) وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَال السُّرُورِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (4) . وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَى صَاحِبِ الدَّعْوَةِ
__________
(1) سورة محمد / 33.
(2) حديث: " إذا دعي أحدكم فليجب ". . . أخرجه مسلم (2 / 1054 ـ ط الحلبي) ، والرواية الأخرى للبيهقي (7 / 263 ـ ط دائرة المعارف العثمانية)
(3) حديث أبي سعيد: " صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً ". . . أخرجه البيهقي (4 / 279 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (4 / 210 ـ ط السلفية) .
(4) نيل الأوطار للشوكاني 6 / 180، وفتح الباري 9 / 247 ـ 248، والفتاوى الهندية 5 / 343، ومواهب الجليل 4 / 5، ومطالب أولي النهى 5 / 235.(45/118)
فَالإِْمْسَاكُ أَفْضَل لِلصَّائِمِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الإِْلْحَاحُ فِي الأَْكْل لِلْمَدْعُوِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفِطْرِ فِي التَّطَوُّعِ، أَوِ الأَْكْل إِنْ كَانَ مُفْطِرًا، فَإِنَّ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ جَائِزٌ، وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لاَ يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا (1) .
شُرُوطُ الإِْجَابَةِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْوَكِيرَةِ: اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَكِيرَةِ شُرُوطًا، مِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّاعِي، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَدْعُوِّ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّعْوَةِ نَفْسِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي وَلِيمَة.
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 235.(45/119)
وَلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوَلاَءُ لُغَةً مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ أَصْلٌ يَدُل عَلَى الْقُرْبِ. قَال الرَّاغِبُ: وَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ، وَمِنْ حَيْثُ النِّسْبَةُ، وَمِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَمِنْ حَيْثُ الصَّدَاقَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالاِعْتِقَادُ.
وَمِنَ الْبَابِ: الْمَوْلَى، وَيُقَال لاِبْنِ الْعَمِّ وَالنَّاصِرِ وَالْحَلِيفِ وَالصَّاحِبِ وَالْمُعِينِ وَالْمُعْتَقِ وَالْجَارِ وَغَيْرِهِمْ.
أَمَّا الْوِلاَءُ ـ بِالْكَسْرِ ـ وَالتَّوَالِي، فَمَعْنَاهُمَا الْمُتَابَعَةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْصُل شَيْئَانِ فَصَاعِدَا حُصُولاً لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا.
وَالْبَابُ كُلُّهُ - كَمَا قَال ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ - رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْوَلاَءُ اصْطِلاَحًا: فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6 141، ومفردات الراغب ص 885 " ط دار القلم "، والمصباح المنير 2 841، وحلية الفقهاء ص 208، وأساس البلاغة ص 509، والمغرب 2 371، وأنيس الفقهاء للقونوي ص 261 وما بعدها.(45/119)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَصَرُوهُ عَلَى الْقَرَابَةِ الْحُكْمِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ زَوَال الْمِلْكِ عَنِ الرَّقِيقِ بِالْحُرِّيَّةِ.
فَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ " اتِّصَالٌ كَالنَّسَبِ نَشَأَ عَنْ عِتْقٍ ". (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: " الْوَلاَءُ شَرْعًا: عُصُوبَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ زَوَال مِلْكٍ، مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ نَسَبٍ، تَقْتَضِي لِلْمُعْتِقِ وَعَصَبَتِهِ الإِْرْثَ وَوِلاَيَةَ النِّكَاحِ وَالصَّلاَةَ عَلَيْهِ وَالْعَقْل عَنْهُ ". (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " هُوَ ثُبُوتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ - أَيْ عُصُوبَةٍ ثَابِتَةٍ - بِعِتْقٍ أَوْ تَعَاطِي سَبَبِهِ كَاسْتِيلاَدٍ وَتَدْبِيرٍ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ قَرَابَةٌ حُكْمِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ مُوَالاَةٍ، وَمِنْ آثَارِهِ الإِْرْثُ وَالْعَقْل وَوِلاَيَةُ النِّكَاحِ. حَيْثُ إِنَّ الْوَلاَءَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ:
ـ وَلاَءُ عَتَاقَةٍ: وَيُسَمَّى وَلاَءَ نِعْمَةٍ. وَسَبَبُهُ الإِْعْتَاقُ.
ـ وَوَلاَءُ مُوَالاَةٍ: وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ الْمَعْرُوفُ
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 225، والزرقاني على خليل 8 169 وحاشية البناني عليه.
(2) تحفة المحتاج 10 375، وانظر حاشية القليوبي 4 357، وكفاية الأخيار 2 177.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 640، وانظر المبدع 6 269.(45/120)
بِالْمُوَالاَةِ. وَهُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ، وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَجُلاً وَالآْخَرُ امْرَأَةً. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الْعِتْقُ:
2 - الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ الْحُرِّيَّةُ. (2)
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ يَصِيرُ بِهَا الْعَبْدُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَّلاَءِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الْعِتْقَ سَبَبٌ لِلْوَلاَءِ.
ب - الإِْرْثُ:
3 ـ أَصْل الإِْرْثِ لُغَةً أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لِقَوْمٍ ثُمَّ يَصِيرَ إِلَى آخَرِينَ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ. أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الأَْمْوَال وَالْحُقُوقِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا
__________
(1) رد المحتار 5 74، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 2 1527 " ط كلكته "، ومجمع الأنهر 2 423، وتكملة فتح القدير 8 153، وتكملة البحر الرائق 8 73، وأنيس الفقهاء للقونوي ص 261 وما بعدها، والمغرب 2 372، والكليات للكفوي 5 43 " ط دمشق "، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي 734.
(2) القاموس المحيط، ومختار الصحاح.
(3) طلبة الطلبة ص 63، والتعريفات للجرجاني ص 79، وقواعد الفقه للبركتي، والمغرب 2 41، وحلية الفقهاء ص 208، والمطلع ص 314، والعذب الفائض 1 16، وحاشية البقري ص9.(45/120)
بِمَوْتِهِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا.
فَهُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا. (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَلاَءِ وَالإِْرْثِ أَنَّ الْوَلاَءَ سَبَبٌ لِلإِْرْثِ.
ج - الْعَقْل:
4 - الْمُرَادُ بِالْعَقْل: الدِّيَةُ. وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْمَال الَّذِي يُعْطَى بَدَلاً لِلنَّفْسِ.
َوَالْعَقْل اصْطِلاَحًا: الْمَال الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلاَءِ وَالْعَقْل أَنَّ الْوَلاَءَ سَبَبٌ لِلْعَقْل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ باِلْوَلاَءِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَلاَءَ إِلَى وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلاَءِ الْمُوَالاَةِ.
وَنَتَنَاوَل فِيمَا يَلِي بَيَانَ أحكام كُلٍّ مِنْهُمَا
النَّوْعُ الأَْوَّل: وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ:
5 - وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ أَوِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُصُوبَةٌ مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ النَّسَبِ تَقْتَضِي
__________
(1) العذاب الفائق 1 16، وحاشية البقري ص9.
(2) المصباح المنير 2 813، وتكملة فتح القدير 9 204، ونهاية المحتاج 7 279، ومطالب أولي النهى 6 75، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 237.(45/121)
لِلْمُعْتِقِ - وَلِعَصَبَتِهِ الذُّكُورِ مِنْ بَعْدِهِ - الإِْرْثَ وَالْعَقْل وَوِلاَيَةَ أَمْرِ النِّكَاحِ وَالصَّلاَةَ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ.
وَاسْمُ " مَوْلَى الْعَتَاقَةِ " يَقَعُ عَلَى الْمُعْتِقِ وَعَلَى الْعَتِيقِ (1) وَقِيل: هُوَ مَنْ لَهُ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ. (2)
مَشْرُوعِيَّةُ وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ:
6 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. (3)
سَبَبُ ثُبُوتِ وَلاَءِ الْعَتَاقَةِ:
7 - سَبَبُ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلاَءِ الْعِتْقُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَحْظُورًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلاَءَ لِلْمُعْتِقِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلاً بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْعَتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الإِْعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، وَهُوَ الإِْعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إِلَى وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ
__________
(1) كفاية الأخيار 2 177.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 2 1528.
(3) حديث: " إنما الولاء لمن أعتق " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 369 - ط السلفية) ، ومسلم (2 1141 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.(45/121)
كَانَ صَرِيحًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، أَوْ كِنَايَةً أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِل بِالتَّدْبِيرِ وَالاِسْتِيلاَدِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالإِْعْتَاقُ وَالاِسْتِيلاَدُ وَالْكِتَابَةُ، وَكَذَلِكَ الْوَلاَءُ لَهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالإِْعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْل أَوِ الظِّهَارِ أَوِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوِ الإِْيلاَءِ، أَوِ الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. (2)
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ وَلاَءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال. (3)
الْوَلاَءُ فِي الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ:
8 ـ الْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الإِْعْتَاقِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الإِْعْتَاقُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْتِقِ أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ
__________
(1) تقدم تخريجه ف6.
(2) بدائع الصنائع 4 160، وحاشية الدسوقي 4 417، والشرح الصغير 4 572، وعقد الجواهر الثمينة 3 37، ومغني المحتاج 4 507، وروضة الطالبين 12 170، وكشاف القناع 4 498، والمغني لابن قدامة 9 348، والإنصاف 7 377، ومعونة أولي النهى 6 724، والفروع 5 60.
(3) الإنصاف 7 377، والفروع 5 60.(45/122)
السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الإِْعْتَاقُ لِلشَّيْطَانِ وَلِلصَّنَمِ.
وَقَالُوا: يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال مَعَ تَحْرِيمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُعْتِقَ يَكْفُرُ عَلَى الأَْظْهَرِ بِالإِْعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ وَالصَّنَمِ.
وَفِي قَوْلٍ يَكْفُرُ بِالإِْعْتَاقِ لِلصَّنَمِ، وَيَأْثَمُ بِالإِْعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ. وَفِي كُل هَذِهِ الصُّوَرِ يَثْبُتُ الْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ. (1)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ ضِمْنَ أَمْثِلَةِ الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ وَفَسَقَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادُ.
وَقَالُوا: يُكْرَهُ الإِْعْتَاقُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال. وَأَمَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِفْضَاءُ الإِْعْتَاقِ إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ الإِْعْتَاقُ مُحَرَّمًا لأَِنَّ التَّوَسُّل إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَحَّ لأَِنَّهُ إِعْتَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ كَإِعْتَاقِ غَيْرِهِ.
وَقَالُوا: كُل مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَمْ
__________
(1) البحر الرائق 4 248، وفتح القدير 4 452، والدر المختار مع رد المحتار 3 10، وبدائع الصنائع 4 160.(45/122)
يُعْتِقْهُ سَائِبَةً فَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلاَءُ. (1)
الْوَلاَءُ فِي الإِْعْتَاقِ سَائِبَةً:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ الْوَلاَءُ فِي الإِْعْتَاقِ سَائِبَةً:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الأَْصَحِّ وَابْنُ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى - إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً، فَالْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ (3) .
وَلأَِنَّهُ كَمَا لاَ يَزُول نَسَبُ إِنْسَانٍ وَلاَ وَلَدٍ عَنْ فِرَاشٍ بِشَرْطٍ لاَ يَزُول وَلاَءٌ عَنْ عَتِيقٍ بِذَلِكَ. (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 330 " ط هجر "، والفروع 5 78، والمغني 6 348 " ط الرياض "، والإنصاف 7 375.
(2) حديث: " إنما الولاء لمن أعتق. . . " تقدم فقرة (6) .
(3) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب. . " عزاه ابن حجر في التلخيص (4 512 - ط العلمية) إلى ابن جرير في التهذيب وقال: ظاهر إسناده الصحة.
(4) بدائع الصنائع 4 160، وفتح القدير 4 452، ومغني المحتاج 4 507، وأسنى المطالب 4 458، ومعونة أولي النهى 6 726، والإنصاف 7 377، والمغني 6 353، وعقد الجواهر الثمينة 3 371.(45/123)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حُكْمِ الإِْعْتَاقِ سَائِبَةً:
فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ سَائِبَةٌ، وَقَصَدَ بِهِ الْعِتْقَ.
وَقَال أَصْبَغُ: يَجُوزُ الإِْعْتَاقُ سَائِبَةً.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونَ: يُمْنَعُ الإِْعْتَاقُ سَائِبَةً. (1)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ الْوَلاَءُ فِي الْعِتْقِ بِلَفْظِ سَائِبَةٍ:
فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ الْوَلاَءَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ وَلاَءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى مُعْتَقِهِ فِي الإِْعْتَاقِ سَائِبَةً.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ فِيمَا رَجَعَ مِنْ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَشْتَرِي بِهِ رِقَابًا يُعْتِقُهُمْ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَال. قَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. (3)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 417.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 417، وعقد الجواهر الثمينة 3 371، والمغني 6 353.
(3) الإنصاف 7 377 ـ378.(45/123)
اخْتِلاَفُ الدِّينِ وَأَثَرُهُ فِي ثُبُوتِ الْوَلاَءِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْوَلاَءِ لِلْمُعْتِقِ إِذَا اخْتَلَفَ دِينُهُ عَنْ دِينِ مُعْتَقِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُبَايِنُهُ فِي دِينِهِ فَلَهُ وَلاَؤُهُ. (1)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لاِسْتِحْقَاقِ الْمُعْتِقِ الْوَلاَءَ أَنْ يَتَسَاوَى الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ فِي الدِّينِ. (2) فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ كَافِرًا فَلاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَى عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ بَل يَكُونُ وَلاَؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لاَ يَعُودُ إِلَيْهِ بِإِسْلاَمِهِ. (3)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَلاَءِ هُنَا بِمَعْنَى الْمِيرَاثِ لاَ بِمَعْنَى اللُّحْمَةِ إِذْ هُوَ ثَابِتٌ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ كَافِرًا. وَلاَ يَلْزَمُ مِنِ انْتِقَال الْمَال انْتِقَالُهَا. (4)
بَيْعُ الْوَلاَءِ وَهِبَتُهُ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْوَلاَءِ وَلاَ هِبَتُهُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 74، والحاوي للماوردي 22 98، وروضة الطالبين 12 170، والإنصاف 7 383.
(2) الفواكه الدواني 2 208.
(3) عقد الجواهر الثمينة 3 370.
(4) حاشية الدسوقي 4 416.(45/124)
عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. (1) وَقَال: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ (2) . وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ (3) . وَلأَِنَّهُ مَعْنًى يُوَرَّثُ بِهِ، فَلاَ يَنْتَقِلُ، كَالْقَرَابَةِ. (4)
انْتِقَال الْوَلاَءِ بِالْمَوْتِ:
12 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَلاَءَ لِلْمُعْتِقِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ بِنَفْسِهَا دُونَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ. (5) وَلاَ تَرِثُ امْرَأَةٌ بِالْوَلاَءِ إِلاَّ مِنْ عَتِيقِهَا وَأَوْلاَدِهِ وَعُتَقَائِهِ. (6)
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الولاء وعن هبته " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 176 - ط السلفية) ، ومسلم (2 1145 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب " تقدم تخريجه فقرة (9) .
(3) حديث: " لعن الله من تولى غير مواليه " أخرجه أحمد (1 317 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 103) : رجاله رجال الصحيح.
(4) البدائع 4 167، وكفاية الطالب الرباني 2 226، والقوانين الفقهية ص 383، والمهذب 2 22، والمغني 9 220 ط هجر.
(5) بدائع الصنائع 4 164، والمهذب 2 22، والمغني 9 220، والمبدع 6 281، والإنصاف 7 387.
(6) معونة أولي النهى 6 735، والمغني 6 365، ومغني المحتاج 4 507، والقوانين الفقهية ص 383ـ384.(45/124)
وَيَرَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ أَنَّ الْوَلاَءَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَال فَيُوَرَّثُ مِنَ الْمُعْتِقِ كَمَا يُوَرَّثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ. (1)
الْمِيرَاثُ بِالْوَلاَءِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَرِثُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا الْوَلاَءُ جَمِيعَ مَال عَتِيقِهِ إِذَا مَاتَ، وَاتَّفَقَ دِينَاهُمَا، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ. وَالنَّسَبُ يُوَرَّثُ بِهِ، وَلاَ يُورَثُ، كَذَلِكَ الْوَلاَءُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَال: إِنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ غُلاَمًا لَهَا، فَتُوُفِّيَ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَابْنَةَ حَمْزَةَ، فَقَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا النِّصْفَ وَلاِبْنَتِهِ النِّصْفَ. (2)
وَعَنِ الْحَسَنِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلاَءُ. (3) وَعَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدًا، فَقَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى فِي مَالِهِ؟ قَال: " إِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَهُوَ لَكَ ". (4)
__________
(1) البدائع 4 164، والحاوي 22 109.
(2) حديث عبد الله بن شداد: " إن ابنة حمزة أعتقت غلاما لها. . . " أخرجه البيهقي (6 240 - ط المعارف العثمانية) ، وحكم عليه بالانقطاع لإرساله.
(3) حديث الحسن مرسلا: " الميراث للعصبة. . . " أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1 75 - ط علمي بريس) .
(4) حديث: " أن رجلا أعتق عبدا. . . " أخرجه البيهقي في السنن (6 240 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن مرسلا.(45/125)
وَيُقَدَّمُ الْمَوْلَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الْرَدِّ وَذَوِي الأَْرْحَامِ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أْو َذَوُو فُرُوضٍ تَسْتَغْرِقُ فُرُوضُهُمُ الْمَالَ، فَلاَ شَيْءَ لِلْمَوْلَى. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفُرُوضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ. وَفِي لَفْظٌ: فِلأَِوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ. (1) وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْوَلاَءِ، لأَِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلاَءِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْوَلاَءِ. (2) ر: إِرْث فَقْرَةَ 51
أ َمَّا إِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْمُعْتِقِ وَدِينُ الْمُعْتَقِ، فَقَدِ
__________
(1) حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 27 - ط السلفية) ، ومسلم (3 1234 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد. ولفظه: " فلأولى عصبة ذكر ": قال ابن حجر في فتح الباري (12 12 - ط السلفية) : قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة غير محفوظة.
(2) المغني لابن قدامة 9 215، 216 ط هجر.(45/125)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يَرِثُ الْمُعْتِقُ الْمُعْتَقَ مَعَ اخْتِلاَفِ دِينَيْهِمَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. (1) وَلأَِنَّهُ مِيرَاثٌ، فَيَمْنَعُهُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ، كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَمَنْعُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلاَءِ كَالْقَتْل وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مُنِعَ الأَْقْوَى فَالأَْضْعَفُ أَوْلَى وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ الْوَلاَءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ. وَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ، كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلاَءِ وَثُبُوتِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الإِْسْلاَمِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الأَْثَرِ وَالنَّظَرِ ". (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ فَإِنَّ الْوَلاَءَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ لاَ لِلْمُعْتِقِ الْكَافِرِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " لا يرث المسلم الكافر. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 50 - ط السلفية) ، ومسلم (3 1233 - ط الحلبي) .
(2) السيل الجرار للشوكاني 3 400، وبدائع الصنائع 4 161، والمهذب 2 25، ومغني المحتاج 3 20، 24، والمغني 9 217، والإنصاف ج7 ص383، 384، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 2 472 وما بعدها.(45/126)
أَمَّا لَوْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَإِنَّ وَلاَءَهُ يَنْتَقِل لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَصَبَتِهِ لِسَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ. فَإِنْ أَسْلَمَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلاَءَ يَعُودُ إِلَيْهِ.
قَال الْعَدَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِعَوْدِ الْوَلاَءِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ الْمِيرَاثُ فَقَطْ.
وَإِذَا أَعْتَقَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَال إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَقَارِبُ كُفَّارٌ فَيَكُونُ الْوَلاَءُ لَهُمْ. (1)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْوَلاَءِ؛ (2) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ النُّصَرْاَنِيَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ (3) .
14 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ لاَ يَرِثُ مَنْ يُعْتِقُهُ لأَِنَّهُ لاَ قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا أُلْحِقَ الْوَلاَءُ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالإِْعْتَاقِ
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 225، وشرح الخرشي 8 162 ـ163.
(2) المغني 9 217، والإنصاف 7 383 - 384 ومطالب أولي النهى 4 647.
(3) حديث: " لا يرث المسلم النصراني. . . " أخرجه الدارقطني (4 74 - ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا، ثم ذكر (4 75) أن المحفوظ وقفه على جابر بن عبد الله.(45/126)
وَتَسَبَّبَ إِلَى حَيَاتِهِ مَعْنًى، فَجُوزِيَ بِاسْتِحْقَاقِ الإِْرْثِ صِلَةً لَهُ وَكَرَامَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ مِنَ الْعَبْدِ فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمَا وَرَّثَا الْمُعْتَقِ مِنَ الْمُعْتِقِ (1) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ (2) .
تَحَمُّل الدِّيَةِ بِالْوَلاَءِ:
15 - نَصَّ جَمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ (وَهِيَ الَّتِي تَتَحَمَّل الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ هُمُ الْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ ثُمَّ الْعَصَبَةُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ. (3)
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِل دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنَ النَّسَبِ لأَِنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِل مُعْتِقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلاَهُ وَقَبِيلَةُ مَوْلاَهُ (4) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
__________
(1) الاختيار 5 110، ومغني المحتاج 3 20، والحاوي للماوردي 22 91، ومطالب أولي النهى 4 561، والمغني 6 380، والقوانين الفقهية ص 382.
(2) حديث ابن عباس: " أن رجلا مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الترمذي (4 423 - ط الرسالة) عن البخاري أنه قال عن أحد رواته: لم يصح حديثه.
(3) القوانين الفقهية 382، ومغني المحتاج 4 95، 96، والمغني 6 378 ـ379، والإنصاف 7 388، 9 120.
(4) بدائع الصنائع 7 256، وتكملة فتح القدير 398، والاختيار 5 61.(45/127)
وَالسَّلاَمُ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي الْمُعْتَمَدِ: عَاقِلَةُ الْجَانِي عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالْمُوَالُونَ الأَْعْلَوْنَ وَهُمُ الْمُعْتِقُونَ - بِكَسْرِ التَّاءِ - لأَِنَّهُمْ عَصَبَةُ سَبَبٍ، وَلَوْ أُنْثَى حَيْثُ بَاشَرَتِ الْعِتْقَ، وَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْسْفَلُونَ (الْمُعْتَقُونَ - بِفَتْحِ التَّاءِ - حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الأَْعْلَيْنِ، فَبَيْتُ الْمَالِ، إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ فَتُنَجَّمُ عَلَى الْجَانِي. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ الْجَانِي هُمْ عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ إِلاَّ الأَْصْل وَإِنْ عَلاَ، وَإِلاَّ الْفَرْعَ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ إِنْ فُقِدُوا، أَوْ لَمْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ فَمُعْتِقٍ، ثُمَّ إِنْ فُقِدَ الْمُعْتِقُ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَعَصَبَةُ الْمُعْتِقِ مِنْ نَسَبٍ غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، ثُمَّ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ وَهَكَذَا أَبَدًا. فَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِل مِمَّنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَبَيْتُ الْمَال يَعْقِل عَنِ الْمُسْلِمِ لِخَبَرِ: أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ. (3)
__________
(1) حديث: " مولى القوم من أنفسهم " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 48 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) الشرح الصغير 4 397 ـ399.
(3) حديث: " أنا وارث من لا وارث له. . . " أخرجه أبو داود (3 320 - ط حمص) من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 182 - علمية) عن أبي زرعة أنه قال: حديث حسن.(45/127)
وَلاَ يَعْقِل عَتِيقٌ عَنْ مُعْتِقِهِ فِي الأَْظْهَرِ كَمَا لاَ يَرِثُ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّهُ يَعْقِلُ، لأَِنّ الْعَقْل لِلنُّصْرَةِ وَالإِْعَانَةِ وَالْعَتِيقُ أَوْلَى بِهَا، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْبَلْقِينِيُّ مِنْهُمْ، أَمَّا عَصَبَةُ الْعَتِيقِ فَلاَ تَعْقِل عَنْ مُعْتِقِهِ قَطْعًا. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ: عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالْوَلاَءِ إِلاَّ عَمُودَيْ نَسَبِهِ: آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ. وَقَالُوا: عَاقِلَةُ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ عَصَبَاتُ سَيِّدِهِ. (2)
النَّوْعُ الثَّانِي: وَلاَءُ الْمُوَالاَةِ
16 - الْمُوَالاَةُ لَغُةً مَصْدَرُ الْفِعْل وَالَى، فَيُقَال: وَالاَهُ مُوَالاَةً وَوَلاَءً؛ أَيْ تَابَعَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ. (3) حُكْمُ وَلاَءِ الْمُوَالاَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ، وَمَدَى ثُبُوتِ الْوَلاَءِ بِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 96، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 9 28 ـ29.
(2) الإنصاف 7 119 ـ120، ومطالب أولي النهى 6 136.
(3) قواعد الفقه للبركتي ص 513.(45/128)
وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُوَ قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ. وَهُوَ أَنَّهُ وَلاَءٌ ثَابِتٌ بِعَقْدٍ مَشْرُوعٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ وَالْعَقْل (1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} . (2) إِذِ الْمُرَادُ مِنَ النَّصِيبِ: الْمِيرَاثُ، لأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَ النَّصِيبَ إِلَيْهِمْ، فَدَل عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، لأَِنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ} . (3) لَكِنْ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَقَدْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: ( {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . (4)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُل يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ الرَّجُل مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَال: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ. (5) أَيْ فِي حَال حَيَاتِهِ وَحَال
__________
(1) الهداية مع الفتح والكفاية 8 161، ورد المحتار 5 78، ومجمع الأنهر والدر المنتقى 2 427، 428، وروضة القضاة للسمناني 3 1128، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1528.
(2) سورة النساء 33.
(3) سورة النساء 33
(4) سورة الأنفال 75.
(5) حديث تميم الداري: " يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل. . . " أخرجه أبو داود (3 333 - 334 - ط حمص) ، ونقل ابن حجر في فتح الباري (12 46) عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ليس بثابت، كما نقل ابن حجر عن الخطابي أنه قال: ضعف أحمد هذا الحديث.(45/128)
مَوْتِهِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: أَرَادَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْيَاهُ فِي الْعَقْل وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ. (1)
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ: إِنَّ مَال الإِْنْسَانِ حَقُّهُ، فَيَصْرِفُهُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ، وَالصَّرْفُ إِلَى بَيْتِ الْمَال إِنَّمَا هُوَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسَتَحِقِّ، لاَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ. (2)
وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَيْتَ الْمَال إِنَّمَا يَرِثُ بِوَلاَءِ الإِْيمَانِ فَقَطْ، لأَِنَّهُ بَيْتُ مَال الْمُؤْمِنِينَ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: ( {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، (3) وَلِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ هَذَا الْوَلاَءُ وَوَلاَءُ الْمُعَاقَدَةِ أَيْضًا، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَال لِلتَّسَاوِي فِي وَلاَءِ الإِْيمَانِ، وَالتَّرْجِيحُ لِوَلاَءِ الْعِتْقِ، كَذَا هَذَا.
إِلاَّ أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرِ الأَْقَارِبِ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَلاَءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلاَءِ بِالْعَقْدِ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَوَلاَءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ بِالإِْعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إِحْيَاءٌ وَإِيلاَدٌ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، (4) وَلِذَلِكَ
__________
(1) البدائع 4 170، وانظر الكفاية على الهداية 8 163.
(2) الهداية 8 163.
(3) سورة التوبة 71.
(4) البدائع 4 170.(45/129)
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ. (1)
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلاَ حُكْمَ لِهَذَا الْعَقْدِ، أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِرْثٌ وَلاَ عَقْلٌ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. (3) لأَِنَّ " إِنَّمَا " فِي الْحَدِيثِ لِلْحَصْرِ، وَالأَْلِفُ وَاللاَّمُ فِي " الْوَلاَءِ " لِلْحَصْرِ أَيْضًا. وَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَعَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ وَلاَءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوّْل إِلاَّ لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ. (4) قَال
__________
(1) حديث: " الولاء لحمة كلحمة. . . " سبق تخريجه ف9.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 226، والمقدمات الممهدات 3 129، والاشراف للقاضي عبد الوهاب 2 994 ـ 995، والفواكه الدواني 2 209، وحاشية الشرواني على التحفة 10 375، والمهذب 2 22، وروضة الطالبين 12 170، وأسنى المطالب 4 459، والمغني لابن قدامة 9 255 ط هجر.
(3) حديث: " إنما الولاء. . . . " تقدم تخريجه فـ6.
(4) حديث جبير بن مطعم: " لا حلف في الإسلام " أخرجه مسلم (4 1961 - ط الحلبي) ، وأخرجه البخاري (فتح الباري 4 472 - ط السلفية) ، وأخرجه أيضا مسلم (4 1690) من حديث أنس بن مالك.(45/129)
أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ: مَعْنَاهُ لاَ حُكْمَ لَهُ فِي الْمُوَارَثَةِ عَلَى مَا كَانَ يُفْعَل بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ فِي عَقْدِ الْمُوَالاَةِ إِبْطَال حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ، كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ. وَكَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَال حَقِّهِمْ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَال حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ.
(وَالثَّالِثُ) لإِِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ وَلاَءَ الْمُوَالاَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلشَّخْصِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ يُوَالِهِ. فَبِنَفْسِ الإِْسْلاَمِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ وَلاَؤُهُ لَهُ، وَيَرِثُهُ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٍ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. (2) وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الآْنِفُ الذِّكْرِ.
__________
(1) المقدمات الممهدات 3 129.
(2) بدائع الصنائع 4 170، والاشراف للقاضي عبد الوهاب 2 994 - 995، المقدمات الممهدات 3 133، وكفاية الطالب الرباني 6 226، 226، والفواكه الدواني 2 209، وبداية المجتهد 2 362، والمهذب 2 22، وأسنى المطالب 4 459، وحاشية الشرواني التحفة 10 375، والمغني 9 254، والسيل الجرار للشوكاني 3 397، 398.(45/130)
سَبَبُ ثُبُوتِ وَلاَءِ الْمُوَالاَةِ:
18 - ذَهَبَ أَصْحَابُ الْقَوْل الثَّالِثِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلاَءِ نَفْسُ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ عَلَى يَدِ آخَرَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُل مِنْ أَهْل الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوَلاَءِ عَقْدُ الْمُوَالاَةِ، وَهُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِأَنْ يَقُول لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ مَوْلاَيَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ وَتَعْقِل عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ. فَيَقُول: قَبِلْتُ. سَوَاءٌ قَال ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لآِخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الإِْرْثَ وَالْعَقْل فِي الْعَقْدِ. وَلَوْ أَسْلَمَ شَخْصٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ، فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالاَهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (2) حَيْثُ جَعَل الْوَلاَءَ لِلْعَاقِدِ دُونَ غَيْرِهِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَكَذَا لَمْ يُنْقَل أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلاَءَ بِنَفْسِ الإِْسْلاَمِ، وَكُل النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ
__________
(1) حديث تميم: " هو أولى الناس. . " سبق تخريجه فـ 17.
(2) سورة النساء 33.(45/130)
وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ لاَ يَقُول أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الإِْسْلاَمِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلاَءِ لَهُ، بَل السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لاَ يَثْبُتُ الإِْرْثُ وَالْعَقْل (1) .
شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ:
19 - شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تِسْعَةٌ:
(أَحَدُهَا) عَقْل الْعَاقِدِ: إِذْ لاَ صِحَّةَ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِدُونِ الْعَقْل. أَمَّا الْبُلُوغُ، فَهُوَ شَرْطُ الاِنْعِقَادِ فِي جَانِبِ الإِْيجَابِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الإِْيجَابُ مِنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلاً، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِل عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالاَهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا عَقْدٌ، وَعَقْدُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل إِنَّمَا يَقِفُ عَلَى إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لِلأَْبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ إِذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لاَ تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالاَةِ.
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْقَبُولِ، فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ، حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا، فَقَبِل الصَّبِيُّ، يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ. فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، لأَِنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ، فَكَانَ قَبُول الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، ً فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ
__________
(1) البدائع 4 170.(45/131)
كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل. (1)
أَمَّا الإِْسْلاَمُ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ وَتَجُوزُ مُوَالاَةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَال جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالاَةُ.
وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالاَةُ الرَّجُل امْرَأَةً وَالْمَرْأَةِ رَجُلاً. وَكَذَا دَارُ الإِْسْلاَمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلاَهُ، لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَلاَ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ وَبِدَارِ الإِْسْلاَمِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ. (2)
(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ: وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ يَرِثُهُ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْمُوَالاَةِ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . (3) فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 170، ورد المحتار 5 78، وتكملة فتح القدير 8 162، 163.
(2) البدائع 4 171.
(3) سورة الأنفال 75.(45/131)
الْعَقْدُ، وَيُعْطَى نَصْيِبَهُ أَوْ نَصْيِبَهَا، وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى. (1)
(وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ وَلاَءُ عَتَاقَةٍ: فَإِنْ كَانَ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالاَةِ، لأَِنَّ وَلاَءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلاَءِ الْمُوَالاَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلاَءُ الْمُوَالاَةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَلاَ يَجُوزُ رَفْعُ الأَْقْوَى بِالأَْضْعَفِ. (2)
(وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ وَلاَءُ مُوَالاَةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَل عَنْهُ: لأَِنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَل عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ، وَخَرَجَ عَنِ احْتِمَال النَّقْضِ وَالْفَسْخِ، فَلاَ يَصِحُّ مُعَاقَدَةُ غَيْرِهِ. (3)
(وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ) أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ عَقَل عَنْهُ بَيْتُ الْمَال: لأَِنَّهُ إِذَا عَقَل عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَقَدْ صَارَ وَلاَؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ. (4)
(وَالشَّرْطُ السَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَجْهُول
__________
(1) البدائع 4 171، والدر المنتقى 2 428.
(2) رد المحتار 5 79، وتكملة البحر الرائق 8 77، وتكملة الفتح مع الفتح مع الكفاية والعناية 8 162، والبدائع 4 171، والدر المنتقى 4 428.
(3) تكملة البحر 8 77، والبدائع 4 171، ورد المحتار 5 79، وتكملة 79، وتكملة الفتح مع الكفاية والعناية 8 162.
(4) البدائع 4 171، والدر المنتقى 2 428.(45/132)
النَّسَبِ: وَذَلِكَ بِأَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لاَ يُدْرَى لَهُ أَبٌ فِي مَسْقَطِ رَأْسِهِ، لأَِنَّ مَنْ عُرِفَ نَسَبُهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ. وهَذَاَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ مُوَالاَتِهِ. (1)
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: كَوْنُهُ مَجْهُول النَّسَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. (2)
(وَالشَّرْطُ السَّابِعُ) أَنْ لاَ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ: حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلاً مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مَوْلاَهُ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إِلَى عَشِيرَتِهِ، وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، لأَِنَّ جَوَازَ الْمُوَالاَةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِقَبَائِلِهِمْ، فَأَغْنَى عَنْ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ. وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالاَةُ الْعَجَمِ لأَِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ يَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالاَتُهُمْ لأَِجْل التَّنَاصُرِ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى، فَلاَ يَصِيرُ مَوْلًى. وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلاَءُ الْمُوَالاَةِ. وَلأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى،
__________
(1) العناية وتكملة الفتح 8 162، وتكملة البحر الرائق 8 77.
(2) رد المحتار 5 79، وتكملة البحر 8 77، والدر المنتقى 2 428، والعناية وتكملة الفتح 8 162.(45/132)
فَوَلاَءُ الْمُوَالاَةِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثُّبُوتِ عَلَيْهِ. (1)
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى اشْتِرَاطِ صَاحِبِ الدُّرِّ هَذَا الشَّرْطَ، فَقَال: وَيُغْنِي عَنْ هَذَا كَوْنُهُ مَجْهُول النَّسَبِ، لأَِنَّ الْعَرَبَ أَنْسَابُهُمْ مَعْلُومَةٌ. (2)
(وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ) أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ: لأَِنَّ مَوْلاَهُمْ مِنْهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. (3)
(وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ) أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَقْل وَالإِْرْثَ: أَيْ أَنْ يَعْقِل عَنْهُ إِذَا جَنَى وَيَرِثَهُ إِذَا مَاتَ. (4)
صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ أَنْ يَفْسَخَهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ. حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلاً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّل عَنْهُ بِوَلاَئِهِ إِلَى غَيْرِهِ. لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَ يُمْلَكُ بِهِ شَيْءٌ، فَلَمْ يَكُنْ لاَزِمًا، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ. وَلأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ
__________
(1) البدائع 4 171، والعناية وتكملة الفتح 8 162، وتكملة البحر 8 77.
(2) رد المحتار 5 79.
(3) حديث: " مولى القوم. . " تقدم تخريجه فـ 15.
(4) رد المحتار 5 79، وتكملة البحر الرائق 8 78، والكفاية وتكملة الفتح 8 162، 163، والدر المنتقى 2 428.(45/133)
الْمُوَالاَةِ، إِلاَّ إِذَا عَقَل عَنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ فَسْخُهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَحُصُول الْمَقْصُودِ مِنْهُ. حَيْثُ إِنَّ وِلاَيَةَ التَّحَوُّل قَبْل أَنْ يَعْقِل بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَإِذَا عَقَل عَنْهُ، صَارَ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ. وَلأَِنَّهُ إِذَا عَقَل عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْل بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي التَّحَوُّل بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْل أَنْ يَعْقِل عَنْهُ - بِأَنْ يَقُول لَهُ: فَسَخْتُ عَقْدَ الْمُوَالاَةِ مَعَكَ - لأَِنَّ كُل عَقْدٍ غَيْرُ لاَزِمٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الآْخَرِ، أَيْ بِعِلْمِهِ، لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الآْخَرِ، فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، كَعَزْل الْوَكِيل مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوَالِيَ الأَْسْفَل (أَيِ الْمَوْلَى الْمُوجِبُ) آخَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلاَلَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ، أَوِ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مُوَالاَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ الأَْوَّل فَيَنْفَسِخُ الأَْوَّل دَلاَلَةً وَضَرُورَةً. إِذْ كَثِيرًا مَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلاَلَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانَ لاَ يَثْبُتُ قَصْدًا. (1)
__________
(1) البدائع 4 171، وتكملة البحر 8 79، والدر المنتقى 2 427، 428، والهداية وشروحها 8 163.(45/133)
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى عَقْدِ الْمُوَالاَةِ:
21 - الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى عَقْدِ الْمُوَالاَةِ الْعَقْل (الدِّيَةُ) فِي حَال الْحَيَاةِ، وَالإِْرْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. أَيْ إِنَّ الْمَوْلَى الأَْعْلَى يَعْقِل عَنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ إِذَا جَنَى، وَيَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. (1)
كَذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْسْفَل يَرِثُ مِنَ الأَْعْلَى أَيْضًا إِذَا شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَةِ، خِلاَفًا لِوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ الَّذِي يَرِثُ فِيهِ الأَْعْلَى مِنَ الأَْسْفَلِ، وَلاَ يَرِثُ الأَْسْفَل مِنَ الأَْعْلَى، لأَِنَّ سَبَبَ الإِْرْثِ هُنَاكَ وُجِدَ مِنَ الأَْعْلَى لاَ مِنَ الأَْسْفَلِ، وَهُوَ الْعِتْقُ، وَالسَّبَبُ هَهُنَا الْعَقْدُ، وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ التَّوَارُثُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. (3)
انْتِقَال عَقْدِ الْمُوَالاَةِ:
22 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلاَءَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْعَقْدِ لاَ يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالنَّسَبِ وَوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ
__________
(1) تكملة البحر الرائق 8 77.
(2) بدائع الصنائع 4 172، ورد المحتار 5 78.
(3) حديث: " المسلمون على شروطهم " أخرجه الترمذي (3 626 ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.(45/134)
لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ. (1)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الأَْسْفَل وَلاَءَهُ مِنْ آخَرَ أَوْ وَهَبَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ بَيْعًا وَلاَ هِبَةً، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلاَءِ الأَْوَّل وَمُوَالاَةً لِهَذَا الثَّانِي، لأَِنَّ الْوَلاَءَ لاَ يُعْتَاضُ عَنْهُ، فَبَطَل الْعِوَضُ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ: (الْوَلاَءُ لَكَ) فَيَكُونُ مُوَالاَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ، صَحَّ التَّسْلِيمُ، لَكِنْ لاَ يَجِبُ الْمَال. (2)
مَا يَثْبُتُ بِهِ عَقْدُ الْمُّوَالاَةِ:
23 - قَال الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ وَلاَءَ الْمُوَالاَةِ يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ، أَوِ الإِْقْرَارُ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إِقْرَارِهِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ كَمَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُوٌم. (3)
__________
(1) حديث: " الولاء لحمة كلحمة. . " تقدم تخريجه فـ 9.
(2) البدائع 4 173.
(3) البدائع 4 173.(45/134)
وِلاَيَة
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوِلاَيَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ. يُقَال: وَلِيَهُ وَلْيًا، أَيْ دَنَا مِنْهُ. وَأَوْلَيْتُهُ إِيَّاهُ: أَدْنَيْتَهُ مِنْهُ. وَوَلِيَ الأَْمْرَ: إِذَا قَامَ بِهِ، وَتَوَلَّى الأَْمْرَ؛ أَيْ تَقَلَّدَهُ، وَتَوَلَّى فُلاَنًا: اتَّخَذَهُ وَلِيًّا.
وَالْوَلِيُّ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ - مِنْ وَلِيَهُ: إِذَا قَامَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} . (1)
وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَقِّ الْمُطِيعِ. وَمِنْهُ قِيل: الْمُؤْمِنُ وَلِيُّ اللَّهِ. وَالْمَصْدَرُ الْوِلاَيَةُ. وَكَذَلِكَ تَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْطَنَةِ، وَمِنْهُ قِيل: الْعِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلاَيَاتِ، يَأْتِي إِلَيْهِ الْوَرَى وَلاَ يَأْتِي، أَمَّا الْوَلاَيَةُ - بِالْفَتْحِ - فَتَعْنِي النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ.
وَقَال ابْنُ فَارِسٍ: وَكُلٌّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ آخَرَ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الْقَتِيل وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِهِمْ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ. وَوَالِي الْبَلَدِ: وَهُوَ نَاظِرُ أُمُورِ أَهْلِهِ الَّذِي يَلِي الْقَوْمَ
__________
(1) سورة البقرة 257.(45/135)
بِالتَّدْبِيرِ وَالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ. (1)
وَالْوِلاَيَةُ اصْطِلاَحًا: اسْتَعْمَل جُل الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْوِلاَيَةِ بِمَعْنَى تَنْفِيذِ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى (2) فَتَشْمَل الإِْمَامَةَ الْعُظْمَى وَالْخُطَّةَ كَالْقَضَاءِ، وَالْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ وَالشُّرَطَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا تَشْمَل قِيَامَ شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ عَلَى شَخْصٍ قَاصِرٍ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَيُقَال لِلْمَحْجُورِ فِيهَا مَوْلِيٌّ عَلَيْهِ (3) وَمُوَلًّى عَلَيْهِ (4) ، كَذَلِكَ وَرَدَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَ النَّفْسِ فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ، فَتَنَاوَلَتِ الْوَكَالَةَ وَنِظَارَةَ الْوَقْفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى أَحَقِّيَّةِ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6 141، أساس البلاغة ص 509، حلية الفقهاء لابن فارس ص 165، وأنيس الفقهاء للقرنوي ص 262، والمصباح المنير والمغرب والمفردات للراغب، بصائر ذوي التمييز، والكليات للكفوي 5 4،43، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 724، كشاف اصطلاحات الفنون 2 1528.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) بفتح الميم وإسكان الواو وكسر اللام وتشديد الياء.
(4) بضم الميم وفتح الواو وتشديد اللام المفتوحة، مثل المصلى عليه. تهذيب الأسماء واللغات 2 196، غرر المقالة في شرح غريب الرسالة للمغراوي ص 226.(45/135)
الْقَتِيل فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَسَمَّوْا صَاحِبَهَا " وَلِيَّ الدَّمِ ". كَمَا عَبَّرُوا عَنْ سُلْطَةِ الزَّوْجِ فِي تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَالْوَالِدِ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعَلِّمِ فِي تَأْدِيب تَلاَمِيذِهِ بِالْوِلاَيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا. (1)
وَاسْتَعْمَلَهَا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَعْنَى الآْصِرَةِ الْمُوجِبَةِ لِلإِْرْثِ. فَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: الْوِلاَيَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: وِلاَيَةُ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُورَثُ بِهَا إِلاَّ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهَا. وَوِلاَيَةُ الْحِلْفِ، وَوِلاَيَةُ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يُتَوَارَثُ بِهِمَا أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ نُسِخَ. وَوِلاَيَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلاَيَةُ الْعِتْقِ، وَالْمِيرَاثُ بِهِمَا ثَابِتٌ. (2)
2 - وَقَدْ أَوْضَحَ الْقَاضِي ابْنُ رُشْدٍ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ فَقَال:
فَأَمَّا وِلاَيَةُ الإِْسْلاَمِ وَالإِْيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَقَال: ( {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ) (3) وَهِيَ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ.
وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْحِلْفِ (وَلاَءُ الْمُوَالاَةِ، فَقِيل:
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات 2 196، والتوقيف للمناوي ص 734، وطلبة الطلبة للنسفي ص 98، وبدائع الصنائع 2 334.
(2) القوانين الفقهية ص 382.
(3) سورة التوبة 71.(45/136)
إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ بِدَلِيل قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (1) ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ( {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . (2)
وَقِيل: إِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِْسْلاَمُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْمَشُورَةِ، وَلاَ مِيرَاثَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الآْيَةَ مُحْكَمَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.
(ر: مَوْلَى الْمُوَالاَةِ) .
وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِهَا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ. قَال تَعَالَى: ( {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . (3) فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي آخَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا بَيْنَهُمْ دُونَ ذَوِي الأَْرْحَامِ حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ ( {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ
__________
(1) سورة النساء 33.
(2) سورة الانفال 75.
(3) سورة الانفال 72.(45/136)
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ) (1) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) عَلَى مَا قَال أَهْل التَّأْوِيل: أَيْ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَالْمُرَاد بِأُولِي الأَْرْحَامِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ دَخَل فِيهَا بِالْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ.
وَأَمَّا وِلاَيَةُ النَّسَبِ، فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا فِي الْقُرْآنِ. قَال تَعَالَى: ( {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ} . (2) وَقَال حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ( {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} . (3)
يَقُول: وَإِنِّي خِفْتُ بَنِي عَمِّي وَعَصَبَتِي مِنْ بَعْدِي أَنْ يَرِثُونِي ( {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ} . (4) أَيْ وَلَدًا وَارِثًا مُعِينًا يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ مَنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ يَحْيَى.
وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْعِتْقِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّسَبِ بِحَقِّ الإِْنْعَامِ بِالْعِتْقِ وَالْمَنِّ بِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ. (5)
(ر: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ)
__________
(1) سورة الانفال 75.
(2) سورة النساء 33.
(3) سورة مريم 5.
(4) سورة مريم 5 ـ6.
(5) المقدمات الممهدات 3 127 ـ 132 باختصار.(45/137)
3 - أَمَّا " وَلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى " لِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَدْلُولُهُ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ فَلَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لَحْظَةً، وَكَفَل مَصَالِحَهُمْ وَرَعَاهُمْ بِحِفْظِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَال الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الْوَلِيُّ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ - هُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّل عِصْيَانٍ. أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إِحْسَانُ اللَّهِ وَإِفْضَالُهُ. (1)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وِلاَيَةُ اللَّه تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَالْعَامَّةُ: وِلاَيَةُ كُل مُؤْمِنٍ. فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا، وَفِيهِ مِنَ الْوِلاَيَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.
وَالْخَاصَّةُ: وِلاَيَةُ الْقَائِمِ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، الْمُؤْثِرِ لَهُ عَلَى كُل مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ حَالاَتِهِ، الَّذِي صَارَتْ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابِّهِ هَمَّهُ وَمُتَعَلَّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ. (2)
__________
(1) تعريفات الجرجاني، والتوقيف للمناوي ص 734، وكشاف اف اصطلاحات الفنون 2 1529، وتفسير الطبري 3 21، وتفسير النيسابوري 2 22.
(2) بدائع الفوائد لابن القيم 3 106، 107.(45/137)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أـ النِّيَابَةُ:
4 ـ النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الأَْمْرِ، يُقَال: نَابَ عَنْهُ فِي الأَْمْرِ: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.
وَالنِّيَابَةُ فِي الاصْطِلاِحِ: قِيَامُ الإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْل أَمْرٍ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِلاَيَةُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ النِّيَابَةِ، وَالأَْخَصُّ يَسْتَلْزِمُ دَائِمًا مَعْنَى الأَْعَمِّ وَلاَ عَكْسَ، فَكُل نِيَابَةٍ وِلاَيَةٌ وَلاَ عَكْسَ. (2)
ب ـ الْعِمَالَةُ:
5 ـ يُقَال فِي اللُّغَةِ: عَمِلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ، أَيْ وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ. وَعَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: أَيْ سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا. وَاسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً. وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ. وَالْعُمَالَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ، وَأَصْل الْعُمَالَةِ أُجْرَةُ مَنْ يَلِي الصَّدَقَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى أُجْرِيَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 17، وانظر قواعد الفقه للبركتي.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، ومعجم متن اللغة، وقواعد الفقه للبركتي.(45/138)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلاَيَةِ وَالْعُمَالَةِ: أَنَّ الْوِلاَيَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعُمَالَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُل مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ عَمِل السُّلْطَانِ فَهُوَ وَالٍ، فَالْقَاضِي وَالٍ، وَالأَْمِيرُ وَالٍ وَالْعَامِل وَالٍ، وَلَيْسَ الْقَاضِي عَامِلاً وَلاَ الأَْمِيرُ، وَإِنَّمَا الْعَامِل مَنْ يَلِي جِبَايَةَ الْمَال فَقَطْ. فَكُل عَامِلٍ وَالٍ، وَلَيْسَ كُل وَالٍ عَامِلاً. . (1)
جـ ـ الْقِوَامَةُ:
6 ـ الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مَنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَيِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . (2) وَكُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقِيَامِ الْمَجَازِيِّ، لأَِنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالأَْمْرِ وَيَعْتَنِي بِهِ أَنْ يَقِفَ لِيُدَبِّرَ أَمْرَهُ وَيَرْعَاهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ " الْقَيِّمِ " بِمَعْنَى الْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرِ، فَيَقُولُونَ: الْقَيِّمُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ، وَالْقَيِّمُ عَلَى مَال الْوَقْفِ. وَيُرِيدُونَ بِهِ الأَْمِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِ
__________
(1) المصباح المنير، والفروق لهلال العسكري ص183.
(2) سورة النساء 34.(45/138)
قِيَامَ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ. (1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِوَامَةَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلاَيَةِ.
د ـ الْوِصَايَةُ:
7 ـ الْوِصَايَةُ لُغَةً مَصْدَرُ وَصَّى، تَعْنِي طَلَبَ شَخْصٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَال حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ فَهِيَ: إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيَنْظُرَ فِي شُؤُونِ تَرِكَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ دُيُونٍ وَوَصَايَا وَفِي شُؤُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ وَصِيًّا. أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ، فَلاَ يُقَال لَهُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ وِصَايَةٌ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى وِكَالَةً. (2)
وَالْوِصَايَةُ عَلَى ذَلِكَ أَخَصُّ مِنَ الْوِلاَيَةِ.
هـ الْوَكَالَةُ:
8 ـ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّفْوِيضُ إِلَى الْغَيْرِ وَرَدُّ الأَْمْرِ إِلَيْهِ.
__________
(1) الكليات 4 53،54، وبصائر ذوي التمييز 4 307، 309، 7، 309، والتسهيل لابن جزئ 1 140، والكشاف للزمخشري 1 266، والتعريفات الفقهية للمجددي ص 438، ورد المحتار 3 431.
(2) تهذيب الأسماء واللغات 2 192، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1511، وفتاوى قاضيخان 3 512.(45/139)
وَمَعْنَاهَا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: تَفْوِيضُ شَخْصٍ مَا لَهُ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَنَاوِيُّ بِأَنَّهَا: اسْتِنَابَةُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مِثْلَهُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ تَسَلُّطٌ أَوْ وِلاَيَةٌ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ. وَقَال التَّهَانَوِيُّ: هِيَ إِقَامَةُ أَحَدٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٍ مُوَرِّثٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ. كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ الْمُوَرِّثَيْنِ لِلْحِل وَالْحُرْمَةِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْوِكَالَةُ أَخَصُّ مِنَ الْوِلاَيَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلاَيَةِ
الْوِلاَيَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّة وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا:
أَوَّلاً: الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ:
9 ـ الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ: سُلْطَةٌ عَلَى إِلْزَامِ الْغَيْرِ وَإِنْفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ بِدُونِ تَفْوِيضٍ مِنْهُ، تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتُهَيْمِنُ عَلَى مَرَافِقِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ وَشُؤُونِهَا، مِنْ أَجْل جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلأُْمَّةِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا.
وَهِيَ مَنْصِبٌ دِينِيٌّ وَدُنْيَوِيٌّ، شُرِعَ لِتَحْقِيقِ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ،
__________
(1) المغرب، والتوقيف للمناوي ص 732، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1511، ومغني المحتاج 2 217، وبدائع الصنائع 6 19، تحفة المحتاج 5 16، وانظر المادة (915) من مرشد الحيران والمادة (1449) من المجلة العدلية.(45/139)
وَأَدَاءُ الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْل. (1) قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ: إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. (2)
10 - وَلِلْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ مَرَاتِبُ وَاخْتِصَاصَاتٌ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا وَتَتَدَرَّجُ مِنْ وِلاَيَةِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ إِلَى وِلاَيَةِ نُوَّابِهِ وَوُلاَتِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَبِهَا يُنَاطُ تَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَجِبَايَةُ الأَْمْوَال مِنْ حِلِّهَا، وَصَرْفُهَا فِي مَحِلِّهَا، وَتَعْيِينُ الْقُضَاةِ وَالْوُلاَةِ، وَإِقَامَةُ الْحَجِّ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، وَقَمْعُ الْبُغَاةِ وَالْمُفْسِدِينَ وَحِمَايَةُ بَيْضَةِ الدِّينِ، وَفَصْل الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَنَصْبُ الأَْوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ وَالْمُتَوَلِّينَ وَمُحَاسَبَتِهِمْ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَسْتَتِبُّ بِهَا الأَْمْنُ، وَيُحَكَّمُ شَرْعُ اللَّهِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَصْل ذَلِكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْوِلاَيَاتِ فِي الإِْسْلاَمِ مَقْصُودُهَا أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 28 68،81،246، والطرق الحكمية ص 199، والحسبة لابن تيمية ص 16،28.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 39، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28 262.(45/140)
تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِذَلِكَ، وَبِهِ أَنْزَل الْكُتُبَ، وَلَهُ أَرْسَل الرُّسُلَ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ الرَّسُول وَالْمُؤْمِنُونَ. (1)
11 - وَلِهَذَا اعْتَبَرَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ وِلاَيَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَل لاَ قِيَامَ لِلدِّينِ إِلاَّ بِهَا، لأَِنَّ بَنِي آدَمَ لاَ تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلاَّ بِالاِجْتِمَاعِ، لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الاِجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ. (2) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الاِجْتِمَاعِ الْقَلِيل الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الاِجْتِمَاعِ. . . كَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةٍ وَسُلْطَانٍ، وَكَذَا سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْل وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَهِيَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ وَالإِْمَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ. (3)
__________
(1) الحسبة ص 8، مجموع فتاوى ابن تيمية 28 61.
(2) حديث: " إذا خرج ثلاثة في سفر. . . " أخرجه أبو داود (3 81 ـ ط حمص) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 375 ـ ط المكتب الإسلامي) .
(3) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 217، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28 390.(45/140)
الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ:
يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:
أـ الإِْسْلاَمُ:
12 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . (1) حَيْثُ دَل عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَسْتَحِقُّ الْوِلاَيَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِوَجْهٍ. (2) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} . (3) قَال الشَّوْكَانِيُّ: أُولُو الأَْمْرِ هُمُ الأَْئِمَّةُ وَالسَّلاَطِينُ وَالْقُضَاةُ وَكُل مَنْ كَانَتْ لَهُ وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ. (4) فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّي الطَّاعَةِ أُولُو الأَْمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَلاَ طَاعَةَ. (5)
ب ـ الْبُلُوغُ:
13 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ
__________
(1) سورة النساء 144.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 291.
(3) سورة النساء 59.
(4) فتح القدير للشوكاني 1 481.
(5) البحر الرائق 6 299، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 20، ونهاية المحتاج 7 409، وتفسير القرطبي 1 270، وكشاف القناع 6 159.(45/141)
لِصِحَّةِ تَوَلِّي جَمِيعِ الْوِلاَيَاتِ، لأَِنَّ الصَّغِيرَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَلِيَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ. يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوَيُفِيقَ. (1) حَيْثُ أَفَادَ عَدَمَ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ لأَِنَّهُ لاَ يَعْقِل الأُْمُورَ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، (2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ. (3)
جـ ـ الْعَقْل:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَقْل لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لاَ يَعْقِل لاَ تَجُوزُ وِلاَيَتُهُ فِي قَوْل أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ شَرْعًا، وَالتَّكْلِيفُ مِلاَكُ الأَْمْرِ، وَلأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلاَ يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ. (4)
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاث. . . " أخرجه النسائي (6 156 ـ ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (2 59 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم على شرط مسلم.
(2) مغني المحتاج 4 130، وكشاف القناع 6 159.
(3) حديث: " تعوذوا بالله من رأس السبعين. . . " أخرجه أحمد في المسند (2 326 ـ ط الميمنية) .
(4) مراتب الإجماع ص 126، ومغني المحتاج 4 130، وكشاف القناع 6 159.(45/141)
د ـ الْحُرِّيَّةُ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّة تَوَلِّي الْعَبْدِ الْوِلاَيَةَ الْعَامَّةَ، لأَِنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ مَالِكِهِ، وَلأَِنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلاَيَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ. (1)
هـ ـ الذُّكُورَةُ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، (2) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ) (3) حَيْثُ دَل عَلَى أَنَّ الرَّجُل هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَقُومُ هِيَ عَلَى شُؤُونِ الأُْمَّةِ؟ وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً. (4) فَقَدْ قَرَنَ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَدَمَ الْفَلاَحِ لِلأُْمَّةِ بِتَوَلِّي الْمَرْأَةِ شُؤُونَهَا.
__________
(1) فتح الباري 13 122، ومغني المحتاج 4 130، والبحر الرائق 6 299، وروضة القضاة 1 63، وغياث الأمم ص 65، وشرح منتهى الإرادات 3 381.
(2) مراتب الإجماع ص 126، جواهر الإكليل 2 221، والبحر الرائق 6 299، وكشاف القناع 6 159، ومغني المحتاج 4 130.
(3) سورة النساء 34.
(4) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 53 ـ ط السلفية) من حديث أبي بكرة.(45/142)
وـ الْعَدَالَةُ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِصِحَّةِ تَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ. (1) وَالْعَدَالَةُ: هِيَ الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ، فَالصَّلاَحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَوَاطِنِ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ.
وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَهِيَ: اسْتِعْمَال مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ مِنَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال.
وَإِنَّمَا اشْتُرِطَتِ الْعَدَالَةُ هَهُنَا لأَِنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، وَلاَ يُوثَقُ بِتَصَرُّفَاتِهِ وَلاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنَ الْحَيْفِ فِي الأَْحْكَامِ، فَلاَ يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ. (2)
ز ـ الْعِلْمُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
18 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِتَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ الْعِلْمَ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 15 356، وتفسير القرطبي 1 271، وغياث الأمم ص 68، والأحكام السلطانية للماوردي ص 73، وكشاف القناع 6 413.
(2) روضة القضاة للسمناني 1 62، وتبيين الحقائق 4 175، 175، وشرح منتهى الإرادات 3 381، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 61.(45/142)
قَال السِّمْنَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأُصُول الدِّينِ وَمِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِي فُرُوعِهِ لِيُمْكِنَهُ حَل الشُّبَهِ وَإِرْشَادُ الضَّال وَفُتْيَا الْمُسْتَفْتِي وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهَذَا شَرْطٌ عَلَيْهِ سَائِرُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَسَائِرِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ، لاَ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ نَقَل السِّمْنَانِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ فِي عَصْرِهِ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ يَصِحَّ لإِِمَامٍ إِمَامَةٌ فِي الْعَصْرِ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَصَرٌ وَعَقْلٌ وَرَأْيٌ وَيُقَوِّي كُل فَرِيقٍ فِي الأُْصُول وَالْفُرُوعِ " وَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُ " كَمَا يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مَعَ ضِيقِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الأَْشْغَال لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى انْقِطَاعِ زَمَانِهِ وَفَوَاتِ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لأَِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ وَالْمَسَائِل صَعْبَةٌ، وَلاَ يَكَادُ يَجْتَمِعُ جَمِيعُ الْعُلُومِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ إِلاَّ نَادِرًا شَاذًّا، وَيَجْتَمِعُ مَجْمُوعُ الْعُلُومِ فِي الأَْشْخَاصِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ. (1)
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 1 62.(45/143)
ح ـ الْكِفَايَةُ الْجِسْمِيَّةُ
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّة تَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا، لأَِنَّ الاِخْتِلاَل الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْحَوَاسِّ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ عَنْ كَمَال التَّصَرُّفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَلَل فِي قِيَامِ ذِي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ بِمَا جُعِل وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ فَقْدَ الْحَوَاسِّ كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلاَمِ يَحُول دُون الاِنْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمُعْضِلاَتِ عِنْد مَسِيسِ الْحَاجَاتِ. وَالْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ تَسْتَدْعِي كَمَال الأَْوْصَافِ، وَالأَْعْمَى وَالأَْصَمُّ وَالأَْبْكَمُ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ. (2)
ط ـ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَوَلِّي
__________
(1) كشاف القناع 6 159، ومغني المحتاج 4 130، ونهاية المحتاج 7 409، والأحكام السلطانية للماوردي ص 6، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 21، وتفسير القرطبي 1 270، ومقدمة ابن خلدون ص 193.
(2) غياث الأمم ص 77ـ89.(45/143)
الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ الرَّأْيُ وَالْكِفَايَةُ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَخْتَلِفُ مُتَطَلَّبَاتُهَا بِحَسْبِ الْوِلاَيَةِ الَّتِي يُرَادُ إِسْنَادُهَا، فَمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُهُ فِي الْخَطِيرِ مِنْهَا كَالإِْمَامَةِ الْعُظْمَى مِنَ الْمَقْدِرَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ وَالصَّرَامَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمَضَاءِ وَالدَّهَاءِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْوِلاَيَاتِ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي كُل وِلاَيَةٍ بِحَسْبِهَا. (1)
وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَال: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَال: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا " (2) فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِسْنَادِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِهَا وَأَعْبَائِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ. (3) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ضُيِّعَتِ الأَْمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قِيل: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟
__________
(1) غياث الأمم ص 89، وتبيين الحقائق 6 299، والأحكام لأحكام السلطانية للماوردي ص 6، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 20، والسياسة الشرعية ص 15، وشرح صحيح مسلم للنووي 12 209.
(2) حديث: " يا أبا ذر إنك ضعيف. . . " أخرجه مسلم (3 1457 ـ ط الحلبي) .
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري 1 142، والمقدمة لابن خلدون ص 193.(45/144)
قَال: إِذَا وُسِّدَ الأَْمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. (1)
هَذِهِ هِيَ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ لِتَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى فَوْقَهَا تُضَافُ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهَا، مِثْل شَرْطِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْخِلاَفَةِ. ر: الإِْمَامَةُ الْعُظْمَى ف 11، وَقَضَاء ف 18.
تَقْدِيمُ الأَْمْثَل عِنْدَ الاِضْطِرَارِ:
21 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ كُل هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي النَّاسِ، وَفُقِدَ مُكْتَمِل هَذِهِ الأَْوْصَافِ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ، فَلاَ يُعَطَّل إِسْنَادُ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ فِي الدَّوْلَةِ، بَل يَجِبُ تَقْدِيمُ الأَْصْلَحِ وَالأَْمْثَل فِي كُل وِلاَيَةٍ بِحَسْبِهَا، إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَلأَِنَّ حِفْظَ بَعْضِ الْمَصَالِحِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كُلِّهَا، فَلاَ يَجُوزُ تَعْطِيل أَصْل الْمَصَالِحِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْفِسْقِ فِي وُلاَةِ الأَْمْرِ، وَلأَِنَّ الْبَعِيدَ مَعَ الأَْبْعَدِ قَرِيبٌ، وَأَهْوَنَ الشَّرَّيْنِ خَيْرٌ بِالإِْضَافَةِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: ( {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ) (2) فَعَلَّقَ تَحْصِيل التَّقْوَى عَلَى الاِسْتِطَاعَةِ، فَكَذَا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا.
وَقَال سُبْحَانَهُ: ( {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
__________
(1) حديث: " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 142 ـ السلفية) .
(2) سورة التغابن 16.(45/144)
وُسْعَهَا} ) (1) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الأَْمْرَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ. (2) وَفِي ذَلِكَ يَقُول الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لَوْ تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ لَمَا جَازَ تَعْطِيل الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُضَاةِ وَالْخُلَفَاءِ وَالْوُلاَةِ، بَل قَدَّمْنَا أَمْثَل الْفَسَقَةِ فَأَمْثَلَهُمْ، وَأَصْلَحَهُمْ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ فَأَصْلَحَهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا أُمِرْنَا بِأَمْرٍ أَتَيْنَا مِنْهُ بِمَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَّا مَا عَجَزْنَا عَنْهُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُل. (3)
22 - وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الأَْهْل لِلضَّرُورَةِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ، فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إِصْلاَحِ الأَْحْوَال حَتَّى يَكْمُل فِي النَّاسِ مَا لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلاَيَاتِ وَالإِْمَارَاتِ وَنَحْوِهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دِينِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَال لاَ يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الاِسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْل فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (4)
__________
(1) سورة البقرة 286.
(2) غياث الأمم ص 228، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 37، ومغني المحتاج 4 130، وكشاف القناع 6 291، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 25، 29.
(3) قواعد الأحكام 2 37.
(4) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 36.(45/145)
وَاجِبَاتُ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ:
23 - تَخْتَلِفُ وَاجِبَاتُ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ بِحَسْبِ الْوِلاَيَةِ الَّتِي يَتَقَلَّدُهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْوَظَائِفِ وَالأَْعْبَاءِ وَالاِخْتِصَاصَاتِ وَالْمَسْئُولِيَّاتِ الْمَنُوطَةِ بِكُل ذِي وِلاَيَةٍ، فَوَاجِبَاتُ الْخَلِيفَةِ مَثَلاً مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ وَالِي الشُّرَطَةِ، وَوَاجِبَاتُ الْوَزِيرِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْقَاضِي، وَوَاجِبَاتُ أَمِيرِ الْجَيْشِ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ وَاجِبَاتِ الْمُحْتَسِبِ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ هِيَ كَمَا يَلِي:
أـ الاِلْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ:
24 - الاِلْتِزَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ، وَذَلِكَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ، فَإِنَّهُ مِلاَكُ الأَْمْرِ وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ. فَمُتَقَلِّدُ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى قَبْل أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى امْتِثَالِهِمْ، وَأَقْوَى أَثَرًا فِي صَلاَحِهِمْ وَفَلاَحِهِمْ.
ب ـ أَدَاءُ الأَْمَانَةِ:
25 - وَمِنْ وَاجِبَاتِ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ أَدَاءُ الأَْمَانَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا(45/145)
الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، (1) حَيْثُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وُلاَةِ الأُْمُورِ. (2)
وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. (3)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ. (4)
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ. (5)
وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى كُل مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ
__________
(1) سورة النساء 58.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 13.
(3) حديث: " ما من عبد يسترعيه الله رعية. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 127 ـ ط السلفية) ، ومسلم (3 1460 ـ ط الحلبي) من حديث معقل بن يسار، واللفظ لمسلم.
(4) حديث: " من استعمل رجلاً من عصابة. . . " أخرجه الحاكم (4 92 ـ 93 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، وذكر المنذري في الترغيب والترهيب (3 118 ـ ط دار ابن كثير) أن في إسناده راوياً واهياً.
(5) حديث: " من ولى من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة. . . أخرجه الحاكم (4 93 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، وذكر الذهبي في تلخيصه أن في إسناده راوياً قال عنه الدارقطني: متروك.(45/146)
الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعْمِل فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُل مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَمْثَلَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ، أَدَاءً لِلأَْمَانَةِ وَبُعْدًا عَنِ الْخِيَانَةِ. (1) قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنْ عَدَل عَنِ الأَْحَقِّ الأَْصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لأَِجْل قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلاَءِ عَتَاقَةٍ، أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الأَْحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَل فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . (2)
وَأَدَاءُ أَوْلِيَاءِ الأُْمُورِ لِلأَْمَانَةِ - كَمَا قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ - مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلاَثِ شُعَبٍ: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلاَّ يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، وَتَرْكُ خَشْيَةِ النَّاسِ. (3)
(ر: أَمَانَةُ ف3)
جـ ـ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ:
26 - الْعَدْل مِيزَانُ اللَّهِ فِي الأَْرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلاَحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ
__________
(1) السياسة الشرعية ص 17، 18.
(2) سورة الأنفال 27.
(3) السياسة الشرعية ص 20، 27.(45/146)
السَّمَوَاتُ وَالأَْرْضُ. قَال تَعَالَى: ( {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . (1) وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْل كَانَتْ مِنْ أَفْضَل الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِل مِنَ الأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الأَْنَامِ. (3)
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلاَمٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ.
أَمَّا وُلاَةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى
__________
(1) سورة الحديد 25.
(2) حديث: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات. . . " أخرجه مسلم (4 1996 ـ ط الحلبي) .
(3) تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال للبلاطنسي ص 277، وقواعد الأحكام للعز 1 120.(45/147)
حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلاَيَةِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْل. (2) وَحَكَى: إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلاَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً. (3)
د ـ الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
27 - إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوِلاَيَاتِ فِي الإِْسْلاَمِ: إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. (4) وَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا. (5)
- 16 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَإِذَا كَانَ جِمَاعُ الدِّينِ وَجَمِيعِ الْوِلاَيَاتِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَالأَْمْرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ هُوَ الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) قواعد الأحكام 1 120.
(2) السياسة الشرعية ص 13.
(3) الحسبة ص 9، 10.
(4) السياسة الشرعية ص 39.
(5) الحسبة ص 8، 27.(45/147)
وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَال تَعَالَى: ( {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (1)
وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ قَادِرٍ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْقُدْرَةُ هِيَ السُّلْطَانُ وَالْوِلاَيَةُ، فَذَوُو السُّلْطَانِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْوُجُوبِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنَاطَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقُدْرَةُ، وَيَجِبُ عَلَى كُل إِنْسَانٍ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ.
وَجَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهَا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلاَيَةُ الْحَرْبِ الْكُبْرَى مِثْل نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالصُّغْرَى مِثْل وِلاَيَةِ الشُّرَطَةِ، وَوِلاَيَةِ الْحُكْمِ، وَوِلاَيَةِ الْمَال - وَهِيَ وِلاَيَةُ الدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ - وَوِلاَيَةِ الْحِسْبَةِ. لَكِنَّ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الصِّدْقُ، مِثْل الشُّهُودِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمِثْل صَاحِبِ الدِّيوَانِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَخْرَجَ وَالْمَصْرُوفَ، وَالنَّقِيبِ وَالْعَرِيفِ الَّذِي وَظِيفَتُهُ إِخْبَارُ ذِي الأَْمْرِ بِالأَْحْوَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
__________
(1) سورة التوبة 71.(45/148)
الأَْمِينِ الْمُطَاعِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَدْلُ، مِثْل الأَْمِيرِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسِبِ. وَبِالصِّدْقِ فِي كُل الأَْخْبَارِ، وَالْعَدْل فِي الإِْنْشَاءِ مِنَ الأَْقْوَال وَالأَْعْمَال تَصْلُحُ جَمِيعُ الأَْحْوَال. (1)
هـ ـ مَشُورَةُ أَهْل الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ:
28 - مَشُورَةُ أَهْل الْعِلْمِ وَذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ وَعُمُومِ الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} . (2)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُشَاوَرَةُ أَصْل الدِّينِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِينَ، وَهِيَ حَقٌّ عَلَى عَامَّةِ الْخَلِيقَةِ مِنَ الرَّسُول إِلَى أَقَل خَلْقٍ بَعْدَهُ فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَهِيَ اجْتِمَاعٌ عَلَى أَمْرٍ يُشِيرُ كُل وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الإِْشَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ ذَا الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ اسْتِشَارَةُ أَهْل الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ فِيمَا خَفِيَ عَنْهُ أَوْ أَشْكَل عَلَيْهِ مِنَ الأُْمُورِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوِلاَيَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَالشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ
__________
(1) الحسبة ص 12،13.
(2) سورة آل عمران 159.(45/148)
قَوْمٌ إِلاَّ هُدُوا. (1)
قَال ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّال وَالْوُزَرَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ وَعِمَارَتِهَا. (2)
وَقَدْ مَدَحَ اللَّه مَنْ عَمِل بِهَا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، فَقَال جَل وَعَلاَ: ( {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . (3) قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَيْ لاَ يَسْتَبِدُّونَ بِأَمْرٍ، وَيَتَّهِمُونَ رَأْيَهُمْ حَتَّى يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ مَدْرَكًا لِغَرَضِهِ. وَهَذِهِ سِيرَةٌ أَوَّلِيَّةٌ، وَسُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَخَصْلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الأُْمَمِ مَرَضِيَّةٌ. (4)
(ر: شُورَى ف 5ـ8)
وـ تَعَهُّدُ حَاجَاتِ الأُْمَّةِ وَرِعَايَةُ مَصَالِحِهَا:
29 - وَذَلِكَ فِي كُل وِلاَيَةٍ بِحَسْبِهَا، فَمَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَهُ
__________
(1) بدائع السلك في طبائع الملك 1 294 ط الدار العربية للكتاب، وأحكام القرآن لابن العربي 4 1656.
(2) مواهب الجليل 3 395.
(3) سورة الشورى 38.
(4) بدائع السلك 1 294.(45/149)
الْقِيَامُ فِيمَا جُعِل إِلَيْهِ النَّظَرُ فِيهِ وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْقِوَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ تَوَانٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ إِهْمَالٍ. فَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَْزْدِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ. (1)
وَقَال الْقَرَافِيُّ: كُل مَنْ وَلِيَ وِلاَيَةَ الْخِلاَفَةِ فَمَا دُونَهَا إِلَى الْوَصِيَّةِ، لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلاَّ بِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءِ مَفْسَدَةٍ. . . . فَالْوِلاَيَةُ إِنَّمَا تَتَنَاوَل جَلْبَ الْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ وَدَرْءَ الْمَفْسَدَةِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ. (2)
حُقُوقُ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ:
أـ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ بَذْل الطَّاعَةِ لأَِوْلِيَاءِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُل مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} . (3)
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَال
__________
(1) حديث: " من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين. . " أخرجه أبو داود (3 357 ـ ط حمص) ، والحاكم (4 94 ـ ط إدارة المعارف العثمانية) ، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 79) الفروق 4 39.
(2) الفروق 4 39.
(3) سورة النساء 59.(45/149)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ. (1)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَادِلاً، أَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ جَائِرًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12، 21، طَاعَة ف7، أُولُو الأَْمْرِ ف5.
ب ـ نَصِيحَتُهُ:
31 - وَذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالْحَقِّ، وَإِعْلاَمِهِ بِمَا غَفَل عَنْهُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ إِنَّ نُصْحَ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. (2)
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ. (4)
__________
(1) حديث: " السمع والطاعة على المرء المسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 121 ـ 122) .
(2) النووي على صحيح مسلم 2 38.
(3) حديث: " الدين النصيحة. . . " أخرجه مسلم (1 74 ـ ط الحلبي) من حديث تميم الداري.
(4) شرح النووي على مسلم 2 38.(45/150)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاَثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيل وَقَال وَإِضَاعَةَ الْمَال وَكَثْرَةَ السُّؤَال. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ النَّصِيحَةَ لَمَّا كَانَتْ إِحْسَانًا يَصْدُرُ عَنْ رَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ، وَيُقْصَدُ بِهِ صَلاَحُ الْمَنْصُوحِ، لَزِمَ أَنْ تَقَعَ بِالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَاللِّينِ وَالْحُسْنَى، لاَ بِالذَّمِّ وَالْهَتْكِ وَالْقَدْحِ وَالتَّعْيِيرِ، (2) وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلاَ يُبْدِ لَهُ عَلاَنِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُو بِهِ، فَإِنْ قَبِل مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ. (3)
ج ـ جَعْل رِزْقِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
32 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِمُتَقَلِّدِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ، بِحَيْثُ يُرَتَّبُ لَهُ رِزْقٌ مِنْهُ يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ مَكَانَتِهِ وَحَاجَتِهِ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى عَامِل الصَّدَقَةِ الَّذِي
__________
(1) حديث: " إن الله رضي لكم ثلاثا. . . " أخرجه أحمد (2 367 ـ ط الميمنية) .
(2) النووي على مسلم 2 38.
(3) حديث: " من أراد أن ينصح لسلطان بأمر. . . " أخرجه أحمد (3 404 ـ ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 229 ـ ط القدسي) رجاله ثقات.(45/150)
نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الرِّزْقَ - مَعَ غِنَاهُ - مِنْ مَال الزَّكَاةِ لِقِيَامِهِ عَلَى مَصَالِحِهَا، كَذَلِكَ أَهْل الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ يَسْتَحِقُّونَ رِزْقَهُمْ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ لِتَفَرُّغِهِمْ بِالْقِيَامِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَاحْتِبَاسِهِمْ بِحَقِّ الْعَامَّةِ.
فَلَوْ لَمْ يُفْرَضْ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال لَتَعَطَّلَتِ الْمَصَالِحُ وَضَاعَتِ الْحُقُوقُ لاِنْشِغَالِهِمْ عَنْهَا بِالسَّعْيِ فِي الاِكْتِسَابِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ لأَِخْذِهِمُ الرِّشْوَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْمَال الْحَرَامِ. فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى ذَلِكَ بِكِفَايَتِهِمْ وَمَنْ يَعُولُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَال. (1)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا. (2)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَال: لَقَدْ عَلِمَ
__________
(1) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 2 11، روضة القضاة 1 85، وروضة الطالبين 11 137، والمهذب 2 290، والمبسوط 16 102، وشرح منتهى الإرادات 3 462، وتحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال ص 149، والسياسة الشرعية ص 74، وأحكام القرآن للجصاص 2 363، وأحكام القرآن لابن العربي 1 326.
(2) حديث: " من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة. . . " أخرجه أبو داود (3 354 ـ ط حمص) والحاكم (1 406 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم.(45/151)
قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُل آل أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ. (1)
أَنْوَاعُ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ
33 - تَنَوَّعَتْ صُوَرُ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ وَأَشْكَالُهَا وَاخْتِصَاصَاتُهَا فِي الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ بِحَسْبَ اخْتِلاَفِ الأَْقَالِيمِ وَالأَْمْصَارِ وَالأَْعْصَارِ وَالأَْعْرَافِ السَّائِدَةِ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عُمُومُ الْوِلاَيَاتِ وَخُصُوصُهَا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلاَيَةِ يُتَلَقَّى مِنَ الأَْلْفَاظِ وَالأَْحْوَال وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ مَا يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ، وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ الْحِسْبَةُ وَوِلاَيَةُ الْمَال. . . . . (2)
وَعَلَى ذَلِكَ بَلَغَ تَعْدَادُ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ وَمَاصَدْقَاتُهَا فِي تَقْسِيمَاتِ الْفُقَهَاءِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَوْعًا نَعْرِضُهَا فِيمَا يَلِي:
أـ
__________
(1) أثر عائشة: لما استخلف أبو بكر. . أخرجه البخاري (الفتح 4 303 ـ ط السلفية) .
(2) الحسبة لابن تيمية ص 15 وما بعدها، وانظر الطرق الحكمية لابن القيم ص 201.(45/151)
الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى:
34 - وَهِيَ الرِّئَاسَةُ الْعُظْمَى فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا خِلاَفَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ " كُبْرَى " تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ الإِْمَامَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلاَةِ. وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَال ابْنُ خَلْدُونٍ: حَمْل الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِي مَصَالِحِهِمُ الأُْخْرَوِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، إِذْ أَحْوَال الدُّنْيَا تَرْجِعُ كُلُّهَا عِنْدَ الشَّارِعِ إِلَى اعْتِبَارِهَا بِمَصَالِحِ الآْخِرَةِ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلاَفَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ. (1)
(ر: الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا)
ب - وِلاَيَةُ الْوِزَارَةِ:
35 - وِلاَيَةُ الْوِزَارَةِ هِيَ وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ يُخَوِّلُهَا الإِْمَامُ لِشَخْصٍ مَوْثُوقٍ بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنُصْحِهِ، لِيَكُونَ عَوْنًا لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ الدَّوْلَةِ.
قَال ابْنُ خَلْدُونَ: وَاسْمُهَا يَدُل عَلَى مُطْلَقِ الإِْعَانَةِ، فَإِنَّ الْوِزَارَةَ مَأْخُوذَةٌ إِمَّا مِنَ الْمُؤَازَرَةِ، وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ، أَوْ مِنَ الْوِزْرِ وَهُوَ الثِّقْل.
وَقَدْ قَسَّمَهَا الْفُقَهَاءُ إِلَى قِسْمَيْنِ: وِزَارَةُ
__________
(1) مقدمة ابن خلدون 2 578، والأحكام السلطانية للماوردي ص 5.(45/152)
تَفْوِيضٍ، وَوِزَرَاةُ تَنْفِيذٍ.
فَالأُْولَى: هِيَ الَّتِي يُفَوِّضُ الإِْمَامُ إِلَى الْوَزِيرِ فِيهَا تَدْبِيرَ الأُْمُورِ بِرَأْيِهِ وَإِمْضَاءَهَا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْوَزِيرُ فِيهَا مُجَرَّدَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالرَّعِيَّةِ، فَيُبَلِّغُ وَيُنَفِّذُ مَا دَبَّرَهُ الإِْمَامُ وَحَكَمَ بِهِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا حَدَثَ مِنَ الأُْمُورِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ مُخَوَّلاً سُلْطَةَ التَّدْبِيرِ وَالْحُكْمِ. (1)
(ر: وِزَارَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا
ج - وِلاَيَةُ الْقَضَاءِ:
36 - حَقِيقَةُ الْقَضَاءِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الإِْلْزَامِ بِهِ، وَفَصْل الْخُصُومَاتِ. (2)
وَيَتَفَرَّعُ مِنْ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ وِلاَيَةٌ جُزْئِيَّةٌ كَمُتَوَلِّي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فِي الأَْنْكِحَةِ فَقَطْ، وَالْمُتَوَلِّي لِلنَّظَرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْيْتَامِ فَقَطْ، فَيُفَوَّضُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ النَّقْضُ وَالإِْبْرَامُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنَ الأَْوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ شُعْبَةٌ مِنْ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْفُذُ لَهُ حُكْمٌ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 29، 31، ومقدمة ابن خلدون 2 665، وغياث الأمم ص 113، والولايات للونشريسي ص 3، تبصرة الحكام 1 15.
(2) تبصرة الحكام 1 8، ومعين الحكام ص 7، وشرح منتهى الإرادات 3 456، 459.(45/152)
فِيمَا عَدَا ذَلِكَ. (1)
(ر: قَضَاء ف 7 وَمَا بَعْدَهَا
د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
37 - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ هِيَ قَوْدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ. وَمِنْ شَرْطِ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ، نَافِذَ الأَْمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ، وَتَثَبُّتِ الْقُضَاةُ، فَاحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الأُْمُورَ الْعَامَّةَ كَالْوُزَرَاءِ وَالأُْمَرَاءِ، لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدٍ، وَكَانَ لَهُ بِعُمُومِ وِلاَيَتِهِ النَّظَرُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِمْ عُمُومُ الأَْمْرِ احْتَاجَ إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ. (2)
(ر. مَظَالِم ف 5 وَمَا بَعْدَهَا
هـ - وِلاَيَةُ الإِْمَارَةِ:
38 - تَنْقَسِمُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 14، ومعين الحكام ص 12.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، ولأبي يعلى ص 73. انظر مظالم ف5 وما بعدها.(45/153)
قِسْمَيْنِ: إِمَارَةُ اسْتِكْفَاءٍ، وَإِمَارَةُ اسْتِيلاَءٍ.
فَأَمَّا إِمَارَةُ الاِسْتِكْفَاءِ: فَهِيَ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَنِ اخْتِيَارِ الإِْمَامِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ: أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ إِمَارَةَ بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ وِلاَيَةً عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَنَظَرًا فِي الْمَعْهُودِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ. وَالْخَاصَّةُ: هِيَ مَا كَانَ الأَْمِيرُ فِيهَا مَقْصُورَ الإِْمَارَةِ عَلَى تَدْبِيرِ الْجَيْشِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَرِيمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْقَضَاءِ وَالأَْحْكَامِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا إِمَارَةُ الاِسْتِيلاَءِ: فَهِيَ الَّتِي يَعْقِدُهَا الإِْمَامُ عَنِ اضْطِرَارٍ، كَأَنْ يَسْتَوْلِيَ الأَْمِيرُ بِالْقُوَّةِ عَلَى بِلاَدٍ، فَيُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ إِمَارَتَهَا وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرَهَا وَسِيَاسَتَهَا. (1)
(ر. إِمَارَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا
و وِلاَيَةُ الشُّرْطَةِ:
39 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ " الشُّرْطَةِ " فِي اللُّغَةِ عَلَى الْجُنْدِ، وَالْجَمْعُ شُرَطٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَعْوَانُ السُّلْطَانِ. سُمُّوا بِذَلِكَ لأَِنَّهُمْ جَعَلُوا لأَِنْفُسِهِمْ عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا لِلأَْعْدَاءِ. وَالْوَاحِدُ شُرْطَةٌ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 31 وما بعدها، ولأبي يعلى ص 34 وما بعدها، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة ص 79.(45/153)
مِثْل غُرَفٍ جَمْعِ غُرْفَةٍ. وَالشُّرْطِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى الشُّرْطَةِ. (1)
قَال ابْنُ خَلْدُونَ: وَيُسَمَّى صَاحِبُهَا لِهَذَا الْعَهْدِ بِإِفْرِيقِيَّةَ: الْحَاكِمُ. وَفِي دَوْلَةِ أَهْل الأَْنْدَلُسِ: صَاحِبُ الْمَدِينَةِ. وَفِي دَوْلَةِ التُّرْكِ: الْوَالِي. وَهِيَ وَظِيفَةٌ مَرْؤُوسَةٌ لِصَاحِبِ السَّيْفِ فِي الدَّوْلَةِ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ فِي صَاحِبِهَا فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الأَْمِينِ الْقُرْطُبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ وُضِعَ لأَِمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) مَعُونَةُ الْحُكَّامِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَظَالِمِ وَأَصْحَابِ الدَّوَاوِينِ فِي حَبْسِ مَنْ أَمَرُوهُ بِحَبْسِهِ، وَإِطْلاَقِ مَنْ أَمَرُوهُ بِإِطْلاَقِهِ، وَإِشْخَاصِ مَنْ كَاتَبُوهُ بِإِشْخَاصِهِ، وَإِخْرَاجِ الأَْيْدِي مِمَّا دَخَلَتْ فِيهِ وَإِقْرَارِهَا.
(وَالثَّانِي) النَّظَرُ فِي الْجِنَايَاتِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ إِقَامَتُهَا عَلَيْهِ. (3)
وَقَال الْقَاضِي ابْنُ رِضْوَانَ الْمَالِقِيُّ: وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ ذَلِكَ رَجُلاً ثِقَةً دَيِّنًا صَارِمًا فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، وانظر التعريفات الفقهية ص 336.
(2) مقدمة ابن خلدون 2 687، وانظر معيد النعم للتاج السبكي ص 43، وتخريج الدلالات السمعية للخزاعي ص 311.
(3) الولايات للونشريسي ص 3.
(4) الشهب اللامعة في السياسة النافعة لأبي القاسم ابن رضوان المالقي ص 328.(45/154)
وَذَكَرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِنْ حَقِّ وَالِي الشُّرْطَةِ الْفَحْصَ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَدَّ الذَّرِيعَةِ فِيهِ، وَالسِّتْرَ عَلَى مَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَرْبَابِ الْمَعَاصِي، وَإِقَالَةَ ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى النَّاسِ، وَيَبْحَثَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ مُنْكَرٍ، وَلاَ كَبْسَ بُيُوتِهِمْ بِمُجَرَّدِ الْقِيل وَالْقَال. . . بَل حُقَّ عَلَيْهِ إِذَا تَيَقَّنَ أَنْ يَبْعَثَ سِرًّا رَجُلاً مَأْمُونًا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ بِقَدْرِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَإِرْعَابِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ وَهَتْكِهِمْ، كُل ذَلِكَ مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالظُّلْمِ الْقَبِيحِ. (1)
40 - وَقَدْ سَمَّى ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذِهِ الْوِلاَيَةَ " وِلاَيَةَ الْحَرْبِ الصُّغْرَى "، تَمْيِيزًا لَهَا عَنْ " وِلاَيَةِ الْحَرْبِ الْكُبْرَى " الَّتِي تَعْنِي عِنْدَهُ مِثْل " نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ ". (2)
وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مُعْتَمِدَهَا الْمَنْعُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، وَقَمَعُ أَهْل الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ، وَذَكَرَ أَنَّهَا فِي عُرْفِ زَمَانِهِ فِي الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ تَخْتَصُّ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا إِتْلاَفٌ، مِثْل قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَعُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ
__________
(1) معيد النعم ومبيد النقم لابن السبكي ص 43،44.
(2) الحسبة ص 13، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28 66.(45/154)
يَدْخُل فِيهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا لَيْسَ فِيهِ إِتْلاَفٌ، كَجَلْدِ السَّارِقِ، وَيَدْخُل فِيهَا الْحُكْمُ فِي الْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَدَعَاوَى التُّهَمِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كِتَابٌ وَشُهُودٌ. . أَمَّا فِي بِلاَدٍ أُخْرَى كَبِلاَدِ الْمَغْرِبِ فَلَيْسَ لِوَالِيهَا حُكْمٌ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ مُتَوَلِّي الْقَضَاءِ. وَأَسَاسُ ذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ الْوِلاَيَاتِ وَخُصُوصَهَا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلاَيَةِ يُتَلَقَّى مِنَ الأَْلْفَاظِ وَالأَْحْوَال وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَلِهَذَا قَدْ يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْحَرْبِ فِي بَعْضِ الأَْمْكِنَةِ وَالأَْزْمِنَةِ مَا يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ.
وَقَدْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ. (1)
ز - وِلاَيَةُ الْحِسْبَةِ:
41 - الْحِسْبَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هِيَ الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ، وَهِيَ مِنَ الْخُطَطِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّلاَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْجِهَادِ. .
وَوِلاَيَةُ الْحِسْبَةِ نَوْعَانِ: وِلاَيَةٌ أَصْلِيَّةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَهِيَ الْوِلاَيَةُ الَّتِي اقْتَضَاهَا التَّكْلِيفُ بِهَا لِتَثْبُتَ لِكُل مَنْ طُلِبَتْ مِنْهُ. وَوِلاَيَةٌ مُسْتَمَدَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي يَسْتَمِدُّهَا مَنْ عُهِدَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَل
__________
(1) الحسبة لابن تيمية ص 15،16، ومجموع فتاوى ابن تيمية 28 68،69، وانظر الطرق الحكمية ص 201.(45/155)
الْخَلِيفَةِ أَوِ الأَْمِيرِ، وَهُوَ الْمُحْتَسِبُ. (1) (ر. حِسْبَة ف 6 وَمَا بَعْدَهَا
ح - وِلاَيَةُ الإِْمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ:
42 - وِلاَيَةُ الإِْمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ مُخْتَصَّةٌ بِقَتْل الْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الإِْمَارَةِ الْخَاصَّةِ.
(وَالضَّرْبُ الثَّانِي) أَنْ يُفَوَّضَ إِلَى الأَْمِيرِ فِيهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا مِنْ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الإِْمَارَةِ الْعَامَّةِ.
وَهَذِهِ الإِْمَارَةُ إِذَا عُقِدَتْ عَلَى غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ لأَِمِيرِهَا أَنْ يَغْزُوَ غَيْرَهَا، سَوَاءٌ غَنِمَ فِيهَا أَوْ لَمْ يَغْنَمْ. وَإِذَا عُقِدَتْ عُمُومًا عَامًا بَعْدَ عَامٍ لَزِمَهُ مُعَاوَدَةُ الْغَزْوِ فِي كُل وَقْتٍ يَقْدِرُ فِيهِ، وَلاَ يَفْتُرُ عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ إِلاَّ قَدْرَ الاِسْتِرَاحَةِ، وَأَقَل مَا يُجْزِئُهُ أَنْ لاَ يُعَطِّل عَامًا مِنْ جِهَادٍ.
وَلِهَذَا الأَْمِيرِ إِذَا فُوِّضَتْ إِلَيْهِ الإِْمَارَةُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَنْظُرَ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِمْ مَا كَانَ سَائِرًا إِلَى ثَغْرِهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 272، ولأبي يعلى ص 286، 86، والشهب اللامعة لابن رضوان ص 327، والطرق الحكمية لابن القيم ص 199.(45/155)
الثَّغْرِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْكَامِ جَمِيعِ أَهْلِهِ مِنْ مُقَاتِلَةٍ وَرَعِيَّةٍ. وَإِنْ كَانَتْ إِمَارَتُهُ خَاصَّةً أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْخُصُوصِ. (1)
(ر: جِهَاد ف 7 وَمَا بَعْدَهَا
ط - الْوِلاَيَةُ عَلَى حُرُوبِ الْمَصَالِحِ:
43 - وِلاَيَةُ الإِْمَارَةِ عَلَى حُرُوبِ الْمَصَالِحِ مُخْتَصَّةٌ بِقَتْل غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، فَتَشْمَل قِتَال أَهْل الرِّدَّةِ، وَقِتَال أَهْل الْبَغْيِ، وَقِتَال الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. (2)
(ر. رِدَّة ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، بَغْي ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، حِرَابَة ف 6 وَمَا بَعْدَهَا.
ي - وِلاَيَةُ السِّعَايَةِ وَجِبَايَةِ الصَّدَقَةِ
44 - يُعْهَدُ لِمُتَوَلِّيهَا إِنْشَاءُ الْحُكْمِ فِي الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ خَاصَّةً، فَإِنْ حَكَمَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ. (3) قَال الْقَاضِي ابْنُ رِضْوَانَ الْمَالِقِيُّ: وَلاَ يَكُونُ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ إِلاَّ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّدَقَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَنِصَابِهَا
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 15، ومعين الحكام للطرابلسي ص 13، والولايات ص 4، والأحكام السلطانية للماوردي ص 35،54،55، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 39، 51،54،57.
(2) المراجع السابقة.
(3) التبصرة 1 14، ومعين الحكام ص 12، والولايات ص 9، والأحكام السلطانية للماوردي ص 113، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 115، وتخريج الدلالات السمعية ص 538.(45/156)
وَصِفَاتِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا، وَمِمَّنْ تُؤْخَذُ، وَكَيْفَ تُؤْخَذُ، حَلِيمًا غَيْرَ عَانِفٍ، مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ. (1)
(ر: زَكَاة ف 141 وَمَا بَعْدَهَا، وَسِعَايَة ف 4، وَجِبَايَة ف 7 - 15.
ثَانِيًا: الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ
45 - تُطْلَقُ الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ فِي الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيِّ عَلَى ثَلاَثَةِ ضُرُوبٍ مِنَ السُّلْطَةِ، وَهِيَ:
أ - النِّيَابَةُ الْجَبْرِيَّةُ الَّتِي يُفَوِّضُ فِيهَا الشَّرْعُ أَوِ الْقَضَاءُ شَخَصًا كَبِيرًا رَاشِدًا بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَبِمُقْتَضَاهَا يُعْتَبَرُ الْوَلِيُّ هُوَ الْمُمَثِّل الشَّرْعِيُّ لِذَلِكَ الْقَاصِرِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَقْبَل النِّيَابَةَ مِنْ عُقُودٍ وَأَفْعَالٍ وَمُخَاصَمَاتٍ فِي الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةً عَلَيْهِ جَبْرًا إِذَا كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشَرَائِطِهَا الشَّرْعِيَّةِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ لِلْقَاصِرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَاشِدًا الْحَقُّ فِي نَقْضِ شَيْءٍ مِنْهَا. (2) َهَذِهِ الْوِلاَيَةُ تَتَضَمَّنُ سُلْطَةً ذَاتَ فَرْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: سُلْطَةٌ عَلَى شُؤُونِ الْقَاصِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ
__________
(1) الشهب اللامعة للسياسة النافعة ص332.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 154 والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 186.(45/156)
بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، كَالتَّزْوِيجِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّطْبِيبِ. وَتُسَمَّى: الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ.
وَالثَّانِي: سُلْطَةٌ عَلَى شُؤُونِهِ الْمَالِيَّةِ مِنْ عُقُودٍ وَتَصَرُّفَاتٍ وَحِفْظٍ وَإِنْفَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال.
ب - وِلاَيَةُ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ. وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ لَيْسَتْ نَاشِئَةً عَنْ نَقْصِ أَهْلِيَّةٍ وَلاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالنَّفْسِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هِيَ وِلاَيَةٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ، يُفَوَّضُ صَاحِبُهَا بِحِفْظِ الْمَال الْمَوْقُوفِ وَالْعَمَل عَلَى إِبْقَائِهِ صَالِحًا نَامِيًا بِحَسَبِ شَرْطِ الْوَاقِفِ.
جـ - السُّلْطَةُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّرْعُ بِيَدِ أَهْل الْقَتِيل فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ قَاتِلِهِ أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ أَوْ مُطْلَقًا، وِفْقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْل. (2) َيْرَ أَنَّ الضَّرْبَ الأَْوَّل هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فِي لُغَةِ الْفُقَهَاءِ.
انْتِقَال الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ لِلْوَلِيِّ الْعَامِّ:
46 - الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ لِلأَْهْل وَالأَْوْلِيَاءِ وَالأَْوْصِيَاءِ وَالنُّظَّارِ تَنْتَقِل إِلَى السُّلْطَانِ
__________
(1) سورة الإسراء 33.
(2) حديث: " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين. . . " أخرجه الترمذي (4 21 ـ ط الحلبي) من حديث أبي شريح الكعبي. وقال: حديث حسن صحيح.(45/157)
بِمُقْتَضَى وِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ عِنْدَ عَدَمِهِمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ. (1)
فَيُمَارِسُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَحَدِ نُوَّابِهِ مِنْ وُلاَةٍ وَقُضَاةٍ وَنَحْوِهِمْ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ. قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لأَِنَّهُ مَنُوطٌ بِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعَارَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ نُوَّابَهُ بِمَثَابَتِهِ. (2)
مَنْزِلَةُ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ:
47 - الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ عِنْدَ وُجُودِهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ، لأَِنَّهَا أَقْوَى مِنْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ أَقْوَى مِنَ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ. (3)
فَمَثَلاً: مُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَوَصِيُّ الْيَتِيمِ وَوَلِيُّ الصَّغِيرِ وِلاَيَتُهُمْ خَاصَّةٌ، وَوِلاَيَةُ الْقَاضِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ عَامَّةٌ، وَأَعَمُّ مِنْهَا وِلاَيَةُ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، فَوِلاَيَةُ الْمُتَوَلِّي وَالْوَصِيِّ أَقْوَى مِنْ وِلاَيَةِ الْقَاضِي، وَوِلاَيَةُ الْقَاضِي أَقْوَى مِنْ وِلاَيَةِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ كُل مَا كَانَ أَقَل
__________
(1) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له " أخرجه الترمذي (3 399 ـ ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: قال: حديث حسن.
(2) فتاوى العز بن عبد السلام ص 152.
(3) المادة 59 من المجلة العدلية، والقواعد للزركشي 3 345، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 186، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 154، وشرح الخرشي على خليل 3 181.(45/157)
اشْتِرَاكًا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا وَامْتِلاَكًا. فَكُلَّمَا كَانَتِ الْوِلاَيَةُ الْمُرْتَبِطَةُ بِشَيْءٍ أَخَصَّ مِمَّا فَوْقَهَا بِسَبَبِ ارْتِبَاطِهَا بِهِ وَحْدَهُ، كَانَتْ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ مِمَّا فَوْقَهَا فِي الْعُمُومِ، فَتَكُونُ الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ كَأَنَّهَا انْفَكَّتْ عَمَّا خُصِّصَتْ لَهُ الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا إِلاَّ الإِْشْرَافُ، إِذِ الْقُوَّةُ بِحَسَبِ الْخُصُوصِيَّةِ لاَ الرُّتْبَةِ. (1) وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلِهَذَا لاَ يَتَصَرَّفُ الْقَاضِي مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ الْخَاصِّ وَأَهْلِيَّتِهِ. (2)
48 - وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الأَْصْل الْمَسَائِل التَّالِيَةَ:
أ - أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْوَقْفِ مَعَ وُجُودِ مُتَوَلٍّ عَلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ قِبَلِهِ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إِيجَارٍ أَوِ اسْتِئْجَارٍ أَوْ جِبَايَةٍ لاَ يَنْفُذُ، إِذْ لاَ تَدْخُل وِلاَيَةُ السُّلْطَانِ عَلَى وِلاَيَةِ الْمُتَوَلِّي فِي الْوَقْفِ.
ب - لاَ يَمْلِكُ الْقَاضِي التَّصَرُّفَ فِي مَال الْيَتِيمِ مَعَ وُجُودِ وَصِيِّ الأَْبِ أَوْ وَصِيِّ الْجَدِّ أَوْ وَصِيِّ الْقَاضِي نَفْسِهِ.
ج - لاَ يَمْلِكُ الْقَاضِي تَزْوِيجَ الْيَتِيمِ أَوِ الْيَتِيمَةِ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1 147.
(2) القواعد للزركشي 3 345، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 154.(45/158)
إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ أَوْ عَضْلِهِ.
د - لِلْوَلِيِّ الْخَاصِّ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ وَمَجَّانًا، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ الْعَفْوُ مَجَّانًا.
هـ - لَوْ زَوَّجَ الإِْمَامُ الْمَرْأَةَ لِغَيْبَةِ الْوَلِيِّ، وَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الْغَائِبُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، قُدِّمَ الْوَلِيُّ.
و إِذَا أَجَّرَ الْقَاضِي حَانُوتَ الْوَقْفِ مِنْ زَيْدٍ، وَأَجَّرَهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ بَكْرٍ، فَإِنَّ إِجَارَةَ الْمُتَوَلِّي هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ.
وَالْحَاصِل: أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتِ الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ فِي شَيْءٍ، فَلاَ تَأْثِيرَ لِلْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ فِيهِ، وَأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ الْعَامِّ عِنْدَ وُجُودِ الْوَلِيِّ الْخَاصِّ غَيْرُ نَافِذٍ. (1)
49 - غَيْرَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْعَامِّ عِنْدَ الاِقْتِضَاءِ حَقَّ التَّدَخُّل فِي الشُّؤُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ، كَمَا إِذَا لَحَظَ خِيَانَةً أَوْ تَقْصِيرًا أَوْ تَضْيِيعًا، لأَِنَّهُ مَنُوطٌ بِهِ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ حَقٌّ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ومعه حاشية ابن عابدين عليه نزهة النواظر ص 186 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 154، وشرح المجلة للأتاسي 1 147 وما بعدها، ودرر الحكام 1 52،53، والحموي على الأشباه والنظائر 1 191، والخرشي 3 181، والقوانين الفقهية ص 204، والمغني 9 360.(45/158)
الإِْشْرَافِ الْعَامِّ عَلَى سَائِرِ الْوِلاَيَاتِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُحَاسِبَ الأَْوْصِيَاءَ وَالنُّظَّارَ وَالْمُتَوَلِّينَ، وَيَعْزِل الْخَائِنَ مِنْهُمْ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ الْمُوصِي أَوِ الْوَاقِفُ عَدَمَ مُدَاخَلَتِهِ. (1)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ مَا ذَكَرُوا:
- مِنْ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لاَ يَمْلِكُ الْعَزْل وَالنَّصْبَ لأَِرْبَابِ الْجِهَاتِ بِدُونِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَمْلِكُهُ الْقَاضِي بِدُونِ شَرْطٍ.
- وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ إِقْرَاضَ مَال الصَّغِيرِ دُونَ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ. (2)
وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا إِذَا زَوَّجَ السُّلْطَانُ الْبَالِغَةَ مَعَ وُجُودِ وَلِيِّهَا، وَقَال بِنَفَاذِ النِّكَاحِ وَعَدَمِ رَدِّهِ. (3)
الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ
50 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَوَلِّي الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ شُرُوطًا اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاح ف 6674، وَإِيصَاء ف 11، وَمُتَوَلِّي ف 6، وَقِصَاص ف 29 وَوَقَفَ
__________
(1) جامع أحكام الصغار للأستروشني 4 140.
(2) جامع أحكام الصغار 2 274، 4 111، 158.
(3) المقدمات الممهدات 1 473.(45/159)
أَنْوَاعُ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ
51 - الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ نَوْعَانِ: وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَال: وَهِيَ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَوِلاَيَةٌ عَلَى النَّفْسِ: وَهِيَ سُلْطَةُ التَّزْوِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ.
وَالْكَلاَمُ عَلَيْهِمَا فِي الْفَرْعَيْنِ التَّالِيَيْنِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال
52 - الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال نَوْعَانِ: قَاصِرَةٌ، وَمُتَعَدِّيَةٌ.
فَالْقَاصِرَةُ: هِيَ سُلْطَةُ الْمَرْءِ عَلَى مَال نَفْسِهِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِكُل مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةُ، وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِل الرَّشِيدُ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَال نَفْسِهِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا.
وَالْوِلاَيَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ: هِيَ سُلْطَةُ الْمَرْءِ عَلَى مَال غَيْرِهِ. وَهِيَ قِسْمَانِ:
أ - سُلْطَةٌ أَصْلِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُثْبِتٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُهَا عَزْل نَفْسِهِ مِنْهَا، لأَِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ بِإِرَادَتِهِ، وَتَنْحَصِرُ فِي وِلاَيَةِ الأَْبِ وَالْجَدِّ عَلَى مَال وَلَدِهِمَا الْقَاصِرِ.
ب - وَسُلْطَةٌ نِيَابِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَسْتَمِدُّهَا صَاحِبُهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ، كَالْوَصِيِّ الَّذِي يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنَ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ أَوِ(45/159)
الْقَاضِي، وَالْوَكِيل الَّذِي يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنْ مُوَكِّلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
مَنْ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلاَيَةُ؟
53 - تَثْبُتُ الْوِلاَيَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ شَرْعًا فِي غَيْرِ الْوَكَالَةِ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ وَالسَّفِيهُ وَذُو الْغَفْلَةِ، وَتَسْتَمِرُّ مَا دَامَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ لَهَا قَائِمًا، فَإِنْ زَال انْقَطَعَتْ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: حَجَرَ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا.
فَأَمَّا الصَّغِيرُ: فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَهُوَ يَتِيمٌ أَيْضًا، وَإِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ زَال عَنْهُ وَصْفُ الصِّغَرِ وَالْيُتْمِ مَعًا.
وَالصَّغِيرُ نَوْعَانِ: مُمَيِّزٌ، وَغَيْرُ مُمَيِّزٍ.
فَالْمُمَيِّزُ هُوَ الَّذِي يَعْقِل مَعْنَى الْعَقْدِ وَيَقْصِدُهُ، وَيَسْتَطِيعُ إِلَى حَدٍّ مَا أَنْ يَعْرِفَ الضَّارَّ مِنَ النَّافِعِ، وَالْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا فِي الأُْمُورِ الْعَامَّةِ.
وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَصِل إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ الَّذِي يُدْرِكُ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. (ر: تَمْيِيز ف 1، صِغَر ف 1، 6، 19، 22، حَجْر ف 6 وَمَا بَعْدَهَا
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ: فَهُوَ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا.(45/160)
فَإِنِ اسْتَوْعَبَ جُنُونُهُ جَمِيعَ أَوْقَاتِهِ فَهُوَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَتَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، لاِنْعِدَامِ صَلاَحِيَتِهِ لِلأَْدَاءِ، فَهُوَ كَالصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَهُوَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، وَتَصَرُّفَاتُهُ حَال جُنُونِهِ بَاطِلَةٌ، وَحَال إِفَاقَتِهِ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ.
(ر: جُنُون ف 1، و7، وَحَجْر ف 9
وَأَمَّا الْمَعْتُوهُ: فَهُوَ مَنْ كَانَ قَلِيل الْفَهْمِ، مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ، فَاسِدَ التَّدْبِيرِ، لَكِنَّهُ لاَ يَضْرِبُ وَلاَ يَشْتُمُ كَمَا يَفْعَل الْمَجْنُونُ. وَقَدْ يَكُونُ بِحَالَةٍ لاَ يَعْقِل فِيهَا أَلْفَاظَ التَّصَرُّفَاتِ وَآثَارَهَا، فَيَكُونُ كَالصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، أَوْ يَكُونُ بِحَالَةٍ يَعْقِل فِيهَا أَلْفَاظَ التَّصَرُّفَاتِ وَآثَارَهَا، فَيَكُونُ كَالصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ.
(ر: عَتَه ف 5، وَحَجْر ف 10
وَأَمَّا السَّفِيهُ: فَهُوَ مَنْ يُسْرِفُ فِي إِنْفَاقِ مَالِهِ، وَيُضَيِّعُهُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْل أَوِ الشَّرْعِ فِيمَا لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ، وَبَاعِثُهُ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإِْنْسَانَ مِنَ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَى الإِْنْفَاقِ مِنْ غَيْرِ مُلاَحَظَةِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ وَالدِّينِيِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
(ر: سَفَه ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، وَحَجْر ف 11، 14(45/160)
وَأَمَّا ذُو الْغَفْلَةِ: فَهُوَ مَنْ لاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الْمُوَفَّقَةِ أَوِ الرَّابِحَةِ، فَيَغِبْنُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ، فَهُوَ لاَ يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَلاَ يَقْصِدُ الْفَسَادَ كَالسَّفِيهِ. وَحُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ حُكْمُ السَّفِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ 946 مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: وَالَّذِينَ لاَ يَزَالُونَ يَغْفُلُونَ فِي أَخْذِهِمْ وَعَطَائِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ تِجَارَتِهِمْ وَتَمَتُّعِهِمْ بِحَسَبِ بَلاَهَتِهِمْ وَخُلُوِّ قُلُوبِهِمْ يُعَدُّونَ مِنَ السُّفَهَاءِ.
(ر. غَفْلَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، وَحَجْر ف 15.
مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ:
54 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى الأَْوْلِيَاءِ الأَْبُ، ثُمَّ وَصِيُّهُ، ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ وَصِيُّهُ، ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْقَاضِي، ثُمَّ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَهُوَ وَصِيُّ الْقَاضِي، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوِلاَيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَى الصِّغَارِ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لَهُمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالنَّظَرِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّفَقَةِ، وَشَفَقَةُ الأَْبِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْكُل، وَشَفَقَةُ وَصِيِّهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْجَدِّ، لأَِنَّهُ مَرْضِيُّ الأَْبِ وَمُخْتَارُهُ فَكَانَ خَلَفَ الأَْبِ فِي الشَّفَقَةِ، وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، كَأَنَّهُ هُوَ وَشَفَقَةُ(45/161)
الْجَدِّ فَوْقَ شَفَقَةِ الْقَاضِي، لأَِنَّ شَفَقَتَهُ تَنْشَأُ عَنِ الْقَرَابَةِ وَالْقَاضِي أَجْنَبِيٌّ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ الْقَرِيبِ عَلَى قَرِيبِهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الأَْجْنَبِيِّ، وَكَذَا شَفَقَةُ وَصِّيهِ لأَِنَّهُ مَرْضِيُّ الْجَدِّ وَخَلَفُهُ، فَكَانَ شَفَقَتُهُ مِثْل شَفَقَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مَا جُعِل لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَتِ الْوِلاَيَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ضَرُورَةً، لأَِنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الْعِلَّةِ.
وَلَيْسَ لِمَنْ سِوَى هَؤُلاَءِ مِنَ الأُْمِّ وَالأَْخِ وَالْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ، لأَِنَّ الأَْخَ وَالْعَمَّ قَاصِرَا الشَّفَقَةِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ تَجْرِي جِنَايَاتٌ لاَ يَهْتَمُّ لَهَا إِلاَّ ذُو الشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ، وَالأُْمُّ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا وُفُورُ الشَّفَقَةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا كَمَال الرَّأْيِ لِقُصُورِ عَقْل النِّسَاءِ عَادَةً فَلاَ تَثْبُتُ لَهُنَّ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، وَلاَ لِوَصِيِّهِنَّ لأَِنَّ الْوَصِيَّ خَلَفَ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ إِلاَّ قَدْرُ مَا كَانَ لِلْمُوصِي، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْحِفْظُ لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ هَؤُلاَءِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ لِلأَْبِ ثُمَّ وَصِيِّهِ ثُمَّ وَصِيِّ الْوَصِيِّ وَإِنْ بَعُدَ، ثُمَّ لِلْحَاكِمِ أَوْ وَصِيَّهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْجَدِّ وَلاَ لِلأَْخِ وَلاَ لِلْعَمِّ إِلاَّ بِإِيصَاءٍ مِنَ الأَْبِ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 155.
(2) المنتقى للباجي 6 106،107، والشرح الصغير 2 389 ـ 391.(45/161)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْوِلاَيَةُ لِلأَْبِ ثُمَّ لِلْجَدِّ، ثُمَّ لِمَنْ يُوصِي إِلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا، ثُمَّ لِلْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ لِخَبَرِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ، (1) وَلاَ تَلِي الأُْمُّ فِي الأَْصَحِّ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ تَلِي بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ وَتُقَدَّمُ عَلَى وَصِّيهِمَا لِكَمَال شَفَقَتِهَا، وَلاَ وِلاَيَةَ لِسَائِرِ الْعَصَبَاتِ كَالأَْخِ وَالْعَمِّ.
وَإِذَا فُقِدَ الأَْوْلِيَاءُ تَصَرَّفَ صُلَحَاءُ بَلَدِ الْمَحْجُورِ فِي مَالِهِ كَالْقَاضِي (2) وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَالْوِلاَيَةُ تَكُونُ لِلأَْبِ لِكَمَال شَفَقَتِهِ، ثُمَّ لُوَصِيِّهِ لأَِنَّهُ نَائِبُ الأَْبِ، أَشْبَهَ وَكِيلَهُ فِي الْحَيَاةِ، ثُمَّ بَعْدَ الأَْبِ وَوَصِيِّهِ فَالْوِلاَيَةُ لِلْحَاكِمِ لاِنْقِطَاعِ الْوِلاَيَةِ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، فَتَكُونُ لِلْحَاكِمِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ، فَإِنْ عُدِمَ حَاكِمٌ أَهْلٌ فَأَمِينٌ يَقُومُ مَقَامَ الْحَاكِمِ. وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْجَدِّ وَالأُْمِّ وَبَاقِي الْعَصَبَاتِ. (3)
مَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لاَ يَجُوزُ:
55 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له " تقدم تخريجه فقرة (44) .
(2) مغني المحتاج 2 173، وتحفة المحتاج 5 179، وكفاية الأخيار 1 166.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 291، وكشاف القناع 3 334.(45/162)
لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَال الْمَحْجُورِ إِلاَّ عَلَى النَّظَرِ وَالاِحْتِيَاطِ، وَبِمَا فِيهِ حَظٌّ لَهُ وَاغْتِبَاطٌ (1) لِحَدِيثِ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. (2)
وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ:
56 - إِنَّ مَا لاَ حَظَّ لِلْمَحْجُورِ فِيهِ كَالْهِبَةِ بِغَيْرِ الْعِوَضِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ لاَ يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ حَابَى بِهِ أَوْ مَا زَادَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ أَوْ دَفَعَهُ لِغَيْرِ أَمِينٍ، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا. (3)
أَمَّا الْهِبَةُ بِعِوَضٍ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ بِهَا، لأَِنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً، بِدَلِيل أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَهً فِي الاِنْتِهَاءِ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ هِبَتُهُ.
__________
(1) المهذب 1 335، وشرح منتهى الإرادات 2 292، والقوانين الفقهية ص 327، وانظر م (1479) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، والمبدع 4 337، والبدائع 5 153.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه مالك في الموطأ (2 745 ـ ط الحلبي) من حديث يحيى المازني مرسلاً، وذكر ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحلم (ص 286 ـ 287) شواهد يتقوى بها) وحسنه النووي.
(3) المهذب 1 335، وشرح المنتهى 2 292، والقوانين الفقهية ص 326، وانظر م (1479) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، وجامع أحكام الصغار 2 305، ومغني المحتاج 2 174.(45/162)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لَهُ أَنْ يَهَبَ بَعِوَضٍ، لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَال بِالْمَال فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ. (1)
57 - لِلْوَلِيِّ مُطْلَقًا الاِتِّجَارُ بِمَال الْمَحْجُورِ، وَلَهُ دَفْعُهُ لِغَيْرِهِ مُضَارَبَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ رِبْحِهِ، وَكَذَا بَيْعُهُ نَسِيئَةً لِمَصْلَحَتِهِ، وَإِيدَاعُهُ عِنْدَ أَمِينٍ ثِقَةٍ عِنْدَ قِيَامِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. وَلَهُ شِرَاءُ عَقَارٍ لَهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَل لاِسْتِغْلاَلِهِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا أَنَّ لَهُ بَيْعَ عَقَارِهِ وَمَنْقُولِهِ وَإِجَارَتَهُ لِلْغَيْرِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ بِمَا فِيهِ حَظٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّل الْغَيْرَ بِذَلِكَ. (2)
58 - أَمَّا إِقْرَاضُ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِقْرَاضُهُ لِلْغَيْرِ وَلاَ اقْتِرَاضُهُ لِنَفْسِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ، لأَِنَّ الْقَرْضَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَال، بِخِلاَفِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْرِضُ مَال الْيَتِيمِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الإِْقْرَاضَ مِنَ الْقَاضِي مِنْ بَابِ حِفْظِ الدَّيْنِ، لأَِنَّ تَوَى الدَّيْنِ بِالإِْفْلاَسِ أَوْ بِالإِْنْكَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَخْتَارُ أَمْلَى النَّاسِ وَأَوْثَقَهُمْ، وَلَهُ وِلاَيَةُ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ،
__________
(1) البدائع 5 153.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 292، والمهذب 1 335، والقوانين الفقهية ص 326، 327، وانظر م (1483) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، وجامع أحكام الصغار 2 307، والمنتقى للباجي 2 111.(45/163)
فَيَخْتَارُ مَنْ لاَ يَتَحَقَّقُ إِفْلاَسُهُ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، وَكَذَا الْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْتَوَى بِالإِْنْكَارِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْقَاضِي هَذِهِ الْوِلاَيَةُ، فَبَقِيَ الإِْقْرَاضُ مِنَ الْوَلِيِّ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ عِوَضٌ لِلْحَال فَكَانَ ضَرَرًا فَلاَ يَمْلِكُهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ إِقْرَاضُ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ خَافَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ، أَوْ أَرَادَ سَفَرًا وَخَافَ عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ إِقْرَاضُهُ مِنْ ثِقَةٍ مَلِيءٍ، لأَِنَّ غَيْرَ الثِّقَةِ يَجْحَدُ، وَغَيْرَ الْمَلِيءِ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ الْبَدَل مِنْهُ.
فَإِنْ أَقْرَضَ وَرَأَى أَخْذَ الرَّهْنِ عَلَيْهِ أَخَذَ، وَإِنْ رَأَى تَرْكَ الرَّهْنِ لَمْ يَأْخُذْ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الإِْيدَاعِ وَالإِْقْرَاضِ فَالإِْقْرَاضُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْبَدَل، وَالْوَدِيعَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَكَانَ الْقَرْضُ أَحْوَطَ.
وَقَالُوا: أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَخِلاَفًا لِلسُّبْكِيِّ بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلِمَ مِنْهَا مَال الْمَحْجُورِ، وَالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 153،154، وجامع أحكام الصغار 4 104، وم (801) من (801) من مرشد الحيران، ورد المحتار 4 340، والمنتقى للباجي 2 111.
(2) المهذب 1 336، ونهاية المحتاج، وحاشية الشبراملسي عليه 4 219، 219، وتحفة المحتاج، وحاشية الشرواني عليه 5 41.(45/163)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لَهُ قَرْضُهُ وَلَوْ بِلاَ رَهْنٍ لِمَصْلَحَةٍ، بِأَنْ أَقْرَضَهُ لِمَلِيءٍ يَأْمَنُ جُحُودَهُ، خَوْفًا عَلَى الْمَال لِسَفَرٍ وَنَحْوِهِ. وَالأَْوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ كَفِيلاً أَوْ رَهْنًا إِنْ أَمْكَنَهُ احْتِيَاطًا. (1)
59 - كَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطَالِبَ بِحُقُوقِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ، فَيَدَّعِي بِهَا وَيُقِيمُ الْبَيِّنَاتِ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ إِنْ أَنْكَرَهَا، وَيُصَالِحُ بِدَفْعِ بَعْضِ مَا عَلَى الْمَحْجُورِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ إِذَا كَانَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَيَقْبِضُ بَعْضَ مَا لِلْمَحْجُورِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ. (2)
60 - أَمَّا شِرَاءُ الْوَلِيِّ مَال الْمَحْجُورِ لِنَفْسِهِ أَوْ بَيْعُ مَالِهِ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ لاِبْنِهِ الصَّغِيرِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لِلْوَلَدِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلأَْبِ وَالْجَدِّ فَقَطْ بَيْعُ مَال الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ وَبَيْعُ مَالِهِ لِلصَّغِيرِ، لأَِنَّهُمَا لاَ يُتَّهَمَانِ فِي ذَلِكَ لِكَمَال شَفَقَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي طَلَبِ الْحَظِّ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ إِلَيْهِ. (4)
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 293، وانظر م (1483) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 293، 296، م (1480) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(3) القوانين الفقهية ص 326.
(4) المهذب 1 337، والأشباه والنظائر لابن السبكي 1 259، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، وقواعد الأحكام للعز 1 67.(45/164)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ وَلِيُّ الْمَحْجُورِ مِنْ مَال الْمَحْجُورِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ، إِلاَّ الأَْبُ فَإِنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَلِي طَرَفَيِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ يَلِي بِنَفْسِهِ، وَالتُّهْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، إِذْ مِنْ طَبْعِهِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَالْمَيْل إِلَيْهِ، وَتَرْكُ حَظِّ نَفْسِهِ لِحَظِّهِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلأَْبِ شِرَاءُ مَال وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ وَبَيْعُ مَالِهِ لِوَلَدِهِ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِنِ اشْتَرَى مَال وَلَدِهِ فَلاَ يَبْرَأُ عَنِ الثَّمَنِ حَتَّى يُنَصِّبَ الْقَاضِي لِوَلَدِهِ وَصِيًّا يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ لِلصَّغِيرِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنِ الأَْبِ. وَإِنْ بَاعَ مَال نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ، فَلاَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَلَمْ يَحْضُرْ لِتَسَلُّمِهِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى الأَْبِ لاَ عَلَى الْوَلَدِ. وَيَجُوزُ لِوَصِيِّ الأَْبِ أَنْ يَبِيعَ مَال نَفْسِهِ لِلْيَتِيمِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مَال الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَجُوزُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَهُ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ، فَلاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 292، وبدائع الصنائع 5 136.(45/164)
وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْعَقَارِ: فِي الشِّرَاءِ التَّضْعِيفُ، وَفِي الْبَيْعِ التَّنْصِيفُ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ مِنَ الصَّغِيرِ، وَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال الصَّغِيرِ.
وَلاَ يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْقَاضِي أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَال الْيَتِيمِ، وَلاَ أَنْ يَبِيعَ مَال نَفْسِهِ لِلْيَتِيمِ مُطْلَقًا. (1)
61 - أَمَّا أَكْل الْوَلِيِّ مِنْ مَال مُوَلِّيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ إِذَا عَمِل أُجْرَةَ مِثْل عَمَلِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا اسْتِحْسَانًا، وَإِلاَّ فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} ) (2) أَمَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ كِفَايَتِهِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ( {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} ) (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَسْتَحِقُّ الْوَلِيُّ فِي مَال مَحْجُورِهِ نَفَقَةً وَلاَ أُجْرَةً، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا وَشُغِل
__________
(1) جامع أحكام الصغار 2 261،262،267،311، والبدائع5 136.
(2) سورة النساء 6.
(3) سورة النساء 6.(45/165)
بِسَبَبِهِ عَنِ الاِكْتِسَابِ أَخَذَ أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنَ الأُْجْرَةِ وَالنَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} ) (1) .
وَلأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَال مَنْ لاَ تُمْكِنُ مُوَافَقَتُهُ، فَجَازَ لَهُ الأَْخْذُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَعَامِل الصَّدَقَاتِ. وَكَالأَْكْل غَيْرُهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمُؤَنِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَلِيِّ غَيْرِ الْحَاكِمِ، أَمَّا هُوَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ وِلاَيَتِهِ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْوَلِيِّ غَيْرِ الْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ الأَْكْل لِحَاجَةٍ مِنْ مَال مُوَلِّيهِ: الأَْقَل مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ كِفَايَتُهُ، أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إِذَا فَرَضَ الْحَاكِمُ لَهُ شَيْئًا. أَمَّا الْحَاكِمُ وَأَمِينُهُ فَلاَ يَأْكُلاَنِ شَيْئًا مِنْهُ لاِسْتِغْنَائِهِمَا بِمَا لَهُمَا فِي بَيْتِ الْمَال.
وَمَنَعَ الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْوَلِيَّ مِنَ الأَْكْل مِنْ مَال الْيَتِيمِ مَطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} ) (2) وَحَمَل الأَْكْل بِالْمَعْرُوفِ الْوَارِدَ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ مِنْ مَال نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلاَّ يَحْتَاجَ إِلَى مَال الْيَتِيمِ.
__________
(1) سورة النساء 6.
(2) سورة النساء 9.(45/165)
(1)
62 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْمُجِيزُونَ لِلْوَلِيِّ الْفَقِيرِ الأَْكْل مِنْ مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ هَل يَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَل مَا أَكَل عِنْدَ يَسَارِهِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ عَمَلِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ بَدَلِهِ مُطْلَقًا، كَالأَْجِيرِ وَالْمُضَارِبِ وَكَالرِّزْقِ الَّذِي يَأْكُلُهُ الإِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
وَقَال أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ: يَضْمَنُ عِوَضَهُ فِي ذِمَّتِهِ، لأَِنَّهُ مَالٌ لِغَيْرِهِ أُجِيزَ لَهُ أَكْلُهُ لِلْحَاجَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مَال غَيْرِهِ فِي مَخْمَصَةٍ. (2)
63 - وَهَل يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِمَال الْمَحْجُورِ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَضَى الْوَصِيُّ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَال الْيَتِيمِ لاَ يَجُوزُ، وَالأَْبُ لَوْ فَعَل ذَلِكَ جَازَ، لأََنَّ الأَْبَ لَوْ بَاعَ مَال الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْل الْقِيمَةِ جَازَ، وَالْوَصِيُّ لاَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ
__________
(1) المهذب 1 337، ومغني المحتاج 2 176، ونهاية المحتاج 4 78، وشرح منتهى الإرادات 2 295، وأحكام القرآن لابن العربي 1 325، 326، وأحكام القرآن للجصاص 2 361، وم (1486) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، والاختيار 5 69 ـ 70، ورد المحتار مع حاشية ابن عابدين 5 455 ـ 456.
(2) المراجع السابقة.(45/166)
يَكُونَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ. (1)
64 - وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَى الْوَلِيِّ الإِْنْفَاقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى مُوَلِّيهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ) (2) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ قَتَّرَ أَثِمَ، وَإِنْ أَسْرَفَ أَثِمَ وَضَمِنَ لِتَفْرِيطِهِ. (3)
تَنْمِيَةُ الْوَلِيِّ مَال الْيَتِيم
65 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ تَثْمِيرِ مَال الْيَتِيمِ وَتَنْمِيَتِهِ مِنْ قِبَل الْوَلِيِّ عَلَى مَالِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَال الْيَتِيمِ وَيُنَمِّيَهُ لَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ أَصْلُحُ لِلْيَتِيمِ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي إِبْقَاءِ أَمْوَالِهِ بِدُونِ اسْتِثْمَارٍ، أَمَّا أَنْ يَتَسَلَّفَهَا وَيَتَّجِرَ فِيهَا لِنَفْسِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ أَنَّهَا
__________
(1) جامع أحكام الصغار 2 274، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 3 521.
(2) سورة الفرقان 67.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 292، والمهذب 1 337، وجامع أحكام الصغار 4 147، وم (1484) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، وكشاف القناع 3 435، ومغني المحتاج 2 176، وأحكام القرآن لابن العربي 1 324، وتفسير القرطبي 5 40.(45/166)
مُقَيَّدَةٌ بِمَصْلَحَتِهِ، وَعَلَى مِحْوَرِ هَذَا الأَْصْل تَدُورُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ.
قَال مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَال الْيَتَامَى لَهُمْ، إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَأْذُونًا، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ ضَمَانًا. (1) وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ابْتَغَوْا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى، لاَ تَأْكُلْهَا الصَّدَقَةُ. (2)
قَال الْبَاجِيُّ: فَهَذَا إِذْنٌ مِنْهُ فِي إِدَارَتِهَا وَتَنْمِيَتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ لِلْيَتِيمِ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ لَهُ، فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يُنَمِّيَ مَالَهُ وَيُثْمِرَهُ لَهُ، وَلاَ يُثْمِرَهُ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَنْظُرُ لِلْيَتِيمِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَل فِيهِ لِلْيَتِيمِ، وَإِلاَّ فَلْيَدْفَعْهُ إِلَى ثِقَةٍ يَعْمَل فِيهِ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: كَمَا أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَال الْيَتِيمِ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ لِغَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَلَهُ أَنْ يَعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً أَيْضًا بِحِصَّةٍ شَائِعَةٍ مِنَ الرِّبْحِ. فَإِنْ جَعَل مَالَهُ مُضَارَبَةً عِنْدَ نَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الاِبْتِدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَحِل
__________
(1) الموطأ 1 251، والمنتقى للباجي 2 111، وجامع أحكام الصغار 2 305،3، 95ـ97، وشرح المنتهى 2 292.
(2) أثر عمر: " ابتغوا في. . . " رواه البيهقي، والسنن الكبرى (4 107 ـ ط ـ ط دائرة العثمانية) ، وصحح إسناده.
(3) المنتقى 2 110.(45/167)
لَهُ الرِّبْحُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا إِذَا شَارَكَهُ وَرَأْسُ مَالِهِ أَقَل مِنْ مَال الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَحُل لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يُصَدِّقُهُ، وَيَجْعَل الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْوَلِيِّ مُطْلَقًا الاِتِّجَارُ بِمَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال أَلاَ مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ (2) ، وَلأَِنَّهُ أَحَظُّ لَهُ، وَيَكُونُ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ رِبْحُهُ كُلُّهُ، لأَِنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ إِلاَّ بِعَقْدٍ. وَلاَ يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ. غَيْرَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ دَفْعَ مَالِهِ إِلَى أَمِينٍ يَتَّجِرُ بِهِ مُضَارَبَةً بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْ رِبْحِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا " كَانَتْ تُعْطِي أَمْوَال الْيَتَامَى الَّذِينَ فِي حِجْرِهَا مَنْ يَتَّجِرُ لَهُمْ فِيهَا "، (3) وَلِنِيَابَةِ الْوَلِيِّ عَنْ مَحْجُورِهِ فِي كُل مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، وَهَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِبْقَاءِ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 22 18، 186، 187، وأحكام القرآن للجصاص 2 13، 362، وجامع أحكام الصغار 3 96 ـ 98، وحاشية ابن عابدين 5 455.
(2) حديث: " ألا من ولي يتيما له مال. . . . " أخرجه الترمذي (3 24 ـ ط الحلبي) ثم قال: في إسناده مقال. ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(3) أثر عائشة في الاتجار بأموال اليتامى رواه مالك في الموطأ 1 251 بلاغاً.(45/167)
فَلِلْعَامِل مَا شُورِطَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّبْحِ. (1)
وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَنْمِيَةُ مَال الصَّبِيِّ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا إِنْ أَمْكَنَ، وَلاَ تَلْزَمُهُ الْمُبَالَغَةُ. (3)
الْقَوْل الثَّالِثُ لِلْجَصَّاصِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ: وَهُوَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاسْتَدَل الْجَصَّاصُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} . (4) قَال رَحِمَهُ اللَّهُ: فَدَل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، لأَِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُل عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّدْبُ وَالإِْرْشَادُ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيُسْتَحَبُّ التِّجَارَةُ بِمَال الْيَتِيمِ لِقَوْل عُمَرَ وَغَيْرِهِ " اتَّجِرُوا بِأَمْوَال الْيَتَامَى، كَيْلاَ تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ " (5)
__________
(1) كشاف القناع 3 437، والمبدع 4 338، وشرح منتهى الإرادات 2 292.
(2) المبدع 4 338.
(3) فتاوى العز بن عبد السلام ص 122.
(4) سورة البقرة 220.
(5) أحكام القرآن للجصاص 2 13، 14، وفتاوى السبكي 1 326، ومعيد النعم ومبيد النقم لابن السبكي ص 64، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 138.(45/168)
النَّوْعُ الثَّانِي: الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ
66 الولاية عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: سُلْطَةٌ عَلَى شُؤُونِ الْقَاصِرِ وَنَحْوِهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، كَالتَّزْوِيجِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّطْبِيبِ وَالتَّشْغِيل وَنَحْوِ ذَلِكَ، تَقْتَضِي تَنْفِيذَ الْقَوْل عَلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ أَسْبَابَ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ ثَلاَثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالْجُنُونُ وَيَلْحَقُ بِهِ الْعَتَهُ وَالأُْنُوثَةُ.
السَّبَبُ الأَْوَّل الصِّغَرُ:
مِحْوَرُ الْوِلاَيَةِ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ يَدُورُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقِيَامُ عَلَى شُؤُونِهِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّطْبِيبِ وَالتَّشْغِيل وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ثَانِيهُمَا: وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ.
الأَْمْرُ الأَْوَّل: وِلاَيَةُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ
67 - إِنَّ مَنْشَأَ الْوِلاَيَةِ عَلَى تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ وَتَأْدِيبِهِمْ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا مَسْؤُولِيَّةُ الأَْبَوَيْنِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهِمْ وَرِعَايَةِ حَالِهِمْ
__________
(1) التعريفات للجرجالي 132، والتوقيف للمناوي ص 734، وأنيس الفقهاء للقونوي 148.(45/168)
فِي شُؤُونِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} ، (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (2) . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: أَلاَّ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. . . وَالرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْل بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ عَلَى الأَْبِ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ وَتَعْلِيمَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الأَْبِ وَسَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ قَبْل بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ. (4)
فَالطِّفْل كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُل نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُل نَقْشٍ، وَقَابِلٌ لِكُل مَا يُمَال بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُل مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِل إِهْمَال الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ عَلَيْهِ وَالْوَالِي لَهُ. (5)
__________
(1) سورة التحريم 6.
(2) حديث: " إن لولدك عليك حقا " أخرجه مسلم (2 814 ـ ط الحلبي) .
(3) حديث: " ألا كلكم راع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 111 ـ ط السلفية) وسلم (3 1459 ـ ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 8 44.
(5) إحياء علوم الدين 3 62، وانظر المدخل لابن الحاج 4 295.(45/169)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا نَحَل وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَل مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ، (1) وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَدِّبِ ابْنَكَ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ: مَاذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ؟ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ. (2) بَل ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَل الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْل أَنْ يَسْأَل الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ. (3)
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ وَالاِعْتِبَارِ أَنَّهُ مَا أَفْسَدَ الأَْبْنَاءَ مِثْل إِهْمَال الآْبَاءِ فِي تَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتَهُمْ، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَزَجْرِهِمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى شَهَوَاتِهِمْ، يَحْسَبُ الْوَالِدُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ بِذَلِكَ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ وَحَرَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ، وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. (4)
وَقَدْ أَكَّدَ ثُبُوتَ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا
__________
(1) حديث: " ما نحل والد ولداً من نحل. . . " أخرجه الترمذي (4 338 ـ ط الحلبي) ، وقال: هذا حديث غريب، وهذا عندي حديث مرسل.
(2) تحفة المودود لابن القيم ص 137.
(3) تحفة المودود ص 139.
(4) تحفة المودود ص 147.(45/169)
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (1) قَال النَّوَوِيُّ: وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ وَاضِحٌ، لأَِنَّهُ يَتَنَاوَل الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ فِي الأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا. (2)
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَمْرُهُ بِهَا لِتَمَامِ سَبْعِ سِنِينَ، وَتَعْلِيمُهُ إِيَّاهَا، وَضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، لِيَتَخَلَّقَ بِفِعْلِهَا وَيَعْتَادَهَا - لاَ لاِفْتِرَاضِهَا عَلَيْهِ - كَمَا يَلْزَمُهُ كَفُّهُ عَنِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا، لِيَنْشَأَ عَلَى الْكَمَال وَكَرِيمِ الْخِلاَل. (3)
وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى ثُبُوتِ وِلاَيَةِ الأَْبِ وَالأُْمِّ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي عَلَى تَأْدِيبِ الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِهِ بِفِعْل الطَّاعَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهَا، وَنَهْيِهِ عَنِ اقْتِرَافِ الْمَحْظُورَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لِحَقِّ الْعِبَادِ، وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الإِْخْلاَل بِذَلِكَ تَعْوِيدًا لَهُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرِّ، ثُمَّ بِزَجْرِهِ عَنْ سَيِّءِ الأَْخْلاَقِ وَقَبِيحِ الْعَادَاتِ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْصِيَةٌ - اسْتِصْلاَحًا (4)
__________
(1) حديث: مروا أولادكم بالصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 334 ـ ط حمص) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه النووي في المجموع (3 10) .
(2) المجموع شرح المهذب 3 11.
(3) رد المحتار 1 235، والمغني 2 350، والمجموع 3 11، وشرح منتهى الإرادات 1 119.
(4) الفروق للقرافي 4 180، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 451، وروضة الطالبين 10 175، ورد المحتار 1 235، وتحفة المحتاج 9 180، وأسنى المطالب 4 162.(45/170)
قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: وَيَأْمُرُهُ الْوَلِيُّ بِحُضُورِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَبِالسِّوَاكِ وَسَائِرِ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا. قَال الرَّافِعِيُّ: قَال الأَْئِمَّةُ: يَجِبُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ، وَضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ. (1)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ - كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ - أَنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا، فَوَلِيُّهُ مُكَلَّفٌ، لاَ يَحِل لَهُ تَمْكِينُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ يَعْتَادُهُ، وَيَعْسُرُ فِطَامُهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. (2)
68 - عَلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الصَّغِيرِ إِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْقَوْل، ثُمَّ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ بِالتَّعْنِيفِ، ثُمَّ بِالضَّرْبِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ تَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ، فَلاَ يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالْغَرَضِ، وَهُوَ الإِْصْلاَحُ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُول الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَمَهْمَا حَصَل التَّأْدِيبُ بِالأَْخَفِّ مِنَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال، لَمْ يُعْدَل إِلَى الأَْغْلَظِ، إِذْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، لِحُصُول الْغَرَضِ بِمَا دُوْنَهُ. (3)
__________
(1) المجموع 3 11.
(2) تحفة المودود ص 147، والمدخل لابن الحاج 4 295.
(3) قواعد الأحكام 2 75.(45/170)
كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الضَّرْبِ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ تَحْقِيقُهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوَّةِ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلاَ شَاقٍّ، وَأَنْ يَتَوَقَّى فِيهِ الْوَجْهَ وَالْمَوَاضِعَ الْمُهْلِكَةَ. (1)
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الأَْفْعَال الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ قِيل: إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ، فَهَل يَجُوزُ ضَرْبُهُ تَحْصِيلاً لِمَصْلَحَةِ تَأْدِيبِهِ؟ قُلْنَا: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ. بَل لاَ يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، لأَِنَّ الضَّرْبَ الَّذِي لاَ يُبْرِّحُ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُل التَّأْدِيبُ بِهِ، سَقَطَ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ كَمَا يَسْقُطُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، لأَِنَّ الْوَسَائِل تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ. (2)
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا جَوَازَ ضَرْبِ الْوَلَدِ حَيْثُ لَزِمَ ضَرْبُهُ بِأَنْ يَكُونَ بِالْيَدِ فَقَطْ، فَلاَ يَضْرِبُهُ الْوَلِيُّ بِغَيْرِهَا مِنْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) جامع أحكام الصغار 1 138، وتحفة المحتاج 9 179، وروضة الطالبين 10 175.
(2) قواعد الأحكام 1 102، وانظر أيضاً روضة الطالبين 10 175.(45/171)
وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ بِضَرْبِهِ الثَّلاَثَ. (1)
69 - وَإِذَا ضَرَبَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ أَوِ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ تَأْدِيبًا، فَهَلَكَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ. (2)
وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيلِهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيب ف911.
70 - وَمِنْ مُوجِبَاتِ وِلاَيَةِ تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مُدَاوَاةُ الصَّغِيرِ وَرِعَايَتُهُ الصِّحِّيَّةُ، وَنَظْمُهُ فِي سِلْكِ تَعْلِيمِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوِ الْحَرْفِ وَالصَّنَائِعِ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ مِنْ مَالِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِ، فَأَشْبَهَ ثَمَنَ مَأْكُولِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَالِهِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، مِنْ أَجْل تَهْيِئَتِهِ وَتَأْهِيلِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي (إِجَارَة ف 24، وَصِغَر ف 39.
__________
(1) رد المحتار 1 235، وجامع أحكام الصغار 1 138، والمغني لابن قدامة 12 528.
(2) المغني 12 528، 1 615 ـ 616، وروضة الطالبين 10 175، ورد المحتار 5 363، وجامع أحكام الصغار 4 45.
(3) كشاف القناع 3 450، 451، وشرح منتهى الإرادات 2 296، والمهذب 1 337، وانظر م 1484، 1485، 1490 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد، والبدائع 5 153 ـ 154.(45/171)
الأَْمْرُ الثَّانِي وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ
71 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلأَْبِ وِلاَيَةَ تَزْوِيجِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ.
وَأَمَّا هَل يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ غَيْرُ الأَْبِ الصَّغِيرَ أَوِ الصَّغِيرَةَ؟ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِغَيْرِ الأَْبِ وَالْجَدِّ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ تَزْوِيجَهُمَا إِلاَّ أَنَّ لَهُمَا الْخِيَارَ إِذَا بَلَغَا، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُمَا لَوْ زَوَّجَهُمَا الأَْبُ وَالْجَدُّ.
وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ لِلْوَصِيِّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِغَيْرِ الأَْبِ وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ إِنْكَاحُهُمَا.
وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ: قِيَاسُ غَيْرِ الأَْبِ فِي ذَلِكَ عَلَى الأَْبِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الاِجْتِهَادَ الْمَوْجُودَ فِيهِ الَّذِي جَازَ لِلأَْبِ بِهِ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَ مِنْ وَلَدِهِ لاَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ الأَْبِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ أَجَازَ ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِغَيْرِ الأَْبِ وِلاَيَةَ تَزْوِيجِ(45/172)
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاح ف 81 85
السَّبَبُ الثَّانِي الْجُنُونُ
72 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ تَدْبِيرُ شُئُونِهِ وَرِعَايَةُ أُمُورِهِ بِمَا فِيهِ حَظُّ الْمَجْنُونِ، وَبِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَتَهُ، فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي كُل حَوَائِجِهِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُدَاوِيهِ وَيَرْعَى صِحَّتَهُ، وَيُقَيِّدُهُ وَيَحْجِزُهُ عَنْ أَنْ يَنَال النَّاسَ بِالأَْذَى أَوْ يَنَالُوهُ بِهِ إِنْ خِيفَ ذَلِكَ مِنْهُ، صَوْنًا لَهُ، وَحِفْظًا لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ ضَرَرِهِ. (2)
73 - وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ تَزْوِيجَهُ إِذَا اقْتَضَتْ مُصْلِحَتُهُ ذَلِكَ. (3)
قَال الشِّيرَازِيُّ: وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَال إِفَاقَةٍ لَمْ يَجُزْ تَزْوِيجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِئْذَانُهُ فَلاَ يَجُوزُ الاِفْتِيَاتُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَال إِفَاقَةٍ وَرَأَى الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهُ لِلْعِفَّةِ أَوِ الْخِدْمَةِ زَوَّجَهُ، لأَِنَّ لَهُ فِيهِ مَصْلَحَةً. (4)
__________
(1) بداية المجتهد 2 6، 7، والمهذب 2 41، والمبدع 7 22، وابن عابدين 2 304، ومغني المحتاج 3 168، والبدائع 2 240، والمغني 9 398.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 292، وانظر م 1479، 1484 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 14.
(4) المهذب 2 4، وانظر روضة الطالبين 7 94، والمبدع لبرهان ع لبرهان الدين ابن مفلح 7 22.(45/172)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، اُنْظُرْ مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 81 وَمَا بَعْدَهَا.
السَّبَبُ الثَّالِثُ الأُْنُوثَةُ
74 - مِنْ أَسْبَابِ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ: الأُْنُوثَةُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُرْتَبِطَةً بِصِغَرٍ أَوْ آفَةٍ مِنَ آفَاتِ الْعَقْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . (1)
وَتَنْحَصِرُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ فِي أَمْرَيْنِ: فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ النُّشُوزِ.
أولا: وِلاَيَةُ التَّزْوِيجُ
وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ: وِلاَيَةُ إِجْبَارٍ، وَوِلاَيَةُ اخْتِيَارٍ.
(أ) - وِلاَيَةُ الإِْجْبَارِ:
75 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ وِلاَيَةِ الاِخْتِيَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(الأَْوَّل) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ وِلاَيَةِ الإِْجْبَارِ هِيَ الْبَكَارَةُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَتَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَالصَّغِيرَةِ.
(الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ عِلَّةَ الإِْجْبَارِ هِيَ
__________
(1) سورة النساء 34.(45/174)
الصِّغَرُ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِقُصُورِ الْعَقْل، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ يَكْمُل الْعَقْل بِدَلِيل تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمَا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيَّمٍ الْجَوْزِيَّةِ. (1) (ر: نِكَاح ف 80 85
(ب) وِلاَيَةُ الاِخْتِيَارِ:
76 - وِلاَيَةُ الاِخْتِيَارِ هِيَ وِلاَيَةُ النَّدْبِ وَالاِسْتِحْبَابِ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاح ف 86 90
وِلاَيَةُ الْمَرْأَةِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ الْعَامِلَةِ فِي تَزْوِيجِ نَفْسِهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَلاَ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا، وَلاَ تَوْكِيل غَيْرِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا، فَإِنْ فَعَلَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ.
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ
__________
(1) المهذب 2 38، والقوانين الفقهية ص 203، والمبدع 7 23، 7 23، وبدائع الصنائع 2 241، وشرح منتهى الإرادات 3 14، والمغني 9 398، 402، وزاد المعاد 5 97،98، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (ط. الريان) 3 135، والأشراف للقاضي عبد الوهاب 2 90.(45/174)
شَرْطًا لِصِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا بِنَفْسِهَا، وَأَنَّ تُوَكِّل بِهِ مَنْ تَشَاءُ إِذَا كَانَ حُرًّا عَاقِلاً بَالِغًا، وَهُوَ صَحِيحٌ نَافِذٌ بِلاَ وَلِيٍّ.
الثَّالِثُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ. (1) (ر. نِكَاح ف 71
عَضْل الْوَلِيِّ:
78 - الْمُرَادُ بِالْعَضْل: مَنْعُ الْوَلِيِّ الْمَرْأَةَ مِنَ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ.
وَمُوجِبُهُ انْتِقَال الْوِلاَيَةِ مِنَ الْوَلِيِّ الْعَاضِل إِلَى غَيْرِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (عَضَل ف 25، وَنِكَاح ف 96
غَيْبَةُ الْوَلِيِّ:
79 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَال وِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَلِيِّ.
__________
(1) المغني 9 345، كفاية الأخيار 2 30، والمبسوط 5 12، والبدائع 2 247، وكفاية الطالب الرباني 2 35، والخرشي 3 172، والقوانين الفقهية ص 203، والمقدمات الممهدات 1 471، وشرح منتهى الإرادات 3 16، والمبدع 7 27، والمهذب 2 36، وأحكام القرآن للجصاص 2 100 وما بعدها.(45/174)
وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاح ف 97101.
تَرْتِيبُ الأَْوْلِيَاءِ:
80 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 9195.
ثَانِيًا: وِلاَيَةُ الزَّوْجِ التَّأْدِيبِيَّةِ:
81 - ذَهَبَ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ وِلاَيَةَ الزَّوْجِ عَلَى تَأْدِيبِ زَوْجَتِهِ إِذَا اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ وَتَرَفَّعَتْ عَنْ مُطَاوَعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} ) . (1)
فَيَعِظُهَا أَوَّلاً بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ، لَعَلَّهَا تَقْبَل الْمَوْعِظَةَ فَتَدَعُ النُّشُوزَ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ مَعَهَا ذَلِكَ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، فَإِنْ أَصَرَّتْ عَلَى الْبُغْضِ وَالْعِصْيَانِ ضَرَبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلُهَا عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نُشُوز ف 1219.
وِلاَيَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ:
82 - النِّظَارَةُ عَلَى الْوَقْفِ ضَرْبٌ مِنَ الْوِلاَيَةِ
__________
(1) سورة النساء 34.(45/174)
الْخَاصَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي تَنْفِيذَ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ، شَاءَ الْغَيْرُ أَمْ أَبَى، وَهِيَ حَقٌّ مُقَرَّرٌ شَرْعًا عَلَى كُل عَيْنٍ مَوْقُوفَةٍ، إِذْ لاَ بُدَّ لِلْمَوْقُوفِ مِنْ يَدٍ تَرْعَاهُ وَتَتَوَلاَّهُ، وَتَعْمَل عَلَى إِبْقَائِهِ صَالِحًا نَامِيًا مُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ، وَذَلِكَ بِعِمَارَتِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَإِجَارَتِهِ وَزِرَاعَةِ أَرْضِهِ، وَاسْتِغْلاَل مُسْتَغَلاَّتِهِ، وَصَرْفِ رِيعِهَا إِلَى الْجِهَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ، ثُمَّ أَدَاءِ دُيُونِهِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، كُل ذَلِكَ بِحَسَبِ شُرُوطِ الْوَاقِفِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا.
وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِوِلاَيَةٍ صَالِحَةٍ تَحْفَظُ الأَْعْيَانَ الْمَوْقُوفَةَ وَتَرْعَى شُؤُونَهَا بِأَمَانَةٍ، وَتُوَصِّل الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِلاَ تَوَانٍ أَوْ خِيَانَةٍ، وَلِهَذَا لاَ يُوَلَّى نِظَارَةَ الْوَقْفِ إِلاَّ الأَْمِينُ الْقَادِرُ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ تَوْلِيَةُ الْخَائِنِ أَوِ الْعَاجِزِ.
وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ عَلَى الْوَقْفِ تَنْقَسِمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
(أ - وِلاَيَةٌ أَصْلِيَّةٌ: وَتَثْبُتُ لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْقَاضِي.
(ب - وِلاَيَةٌ فَرْعِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِمُوجِبِ شَرْطٍ أَوْ تَفْوِيضٍ أَوْ تَوْكِيلٍ أَوْ إِيصَاءٍ أَوْ إِقْرَارٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَالتَّفْصِيل فِي (وَقْف.(45/175)
وِلاَيَةُ اللَّهِ تَعَالَى
مَفْهُومُ وِلاَيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
83 - ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ وِلاَيَةَ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ:
فَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ فَهِيَ وِلاَيَةُ كُل مُؤْمِنٍ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا. وَفِيهِ مِنَ الْوِلاَيَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ. (1)
يَدُل عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى ( {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ، (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ( {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . (3)
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ مَعَهُ مِنْ وِلاَيَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ، حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ، وَهَذَا قَوْل جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الإِْسْلاَمِ وَأَهْل السُّنَّةِ. (4)
__________
(1) بدائع الفوائد 3 106، وانظر حاشية المدابغي على فتح المعين لابن حجر المكي ص 269، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص 103.
(2) سورة آل عمران 68.
(3) سورة البقرة 257.
(4) مختصر الفتاوى المصرية ص 588، والتحفة العراقية في أعمال القلوب ص 15 وما بعدها.(45/175)
وَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، وَإِيثَارُهُ عَلَى كُل مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال، حَتَّى تَصِيرَ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابُّهُ هِيَ هَمَّهُ وَمُتَعَلِّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ. (1)
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلاَيَةِ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ: الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَرِيبُ. وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ: خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ، لأَِنَّهُمْ قَرُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ. (2)
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُ الْعُلَمَاءِ لِهَذِهِ الْوِلاَيَةِ، فَقَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ: الأَْوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ (بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، أَوْ (بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ بِمَعْنَى عَالَمٍ. قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَرْجَحَ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُمْدَحُ إِلاَّ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ، وَقَدْ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
- فَعَلَى الأَْوَّل يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَل رِعَايَتَهُ وَحِفْظَهُ، فَلاَ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ: ( {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} . (3)
__________
(1) بدائع الفوائد 3 107.
(2) فتح القدير 2 436.
(3) سورة الأعراف 196.(45/176)
- وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهِ، فَهُوَ يَأْتِي بِهَا عَلَى التَّوَالِي، آنَاءَ اللَّيْل وَأَطْرَافَ النَّهَارِ. وَيَجْنَحُ إِلَى هَذَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ السَّعْدُ فِي " شَرْحِ الْعَقَائِدِ " حَيْثُ قَال: هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ حَسَبَ مَا يُمْكِنُ، الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ، الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي، الْمُعْرِضُ عَنِ الاِنْهِمَاكِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ. (1) وَكَذَا تَعْرِيفُ الْهَيْتَمِيِّ لِلأَْوْلِيَاءِ بِأَنَّهُمُ: الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل. (2)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ سَلاَمَتَهُمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَل لاَ تَعْنِي الْعِصْمَةَ، إِذْ لاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْوَلِيَّ مِنْ تَمَادِيهِ فِي الزَّلَل وَالْخَطَأِ إِنْ وَقَعَ فِيهِمَا، بِأَنْ يُلْهِمَهُ التَّوْبَةَ فَيَتُوبَ مِنْهُمَا، وَإِلاَّ فَهُمَا لاَ يَقْدَحَانِ فِي وِلاَيَتِهِ. (3)
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 103، وانظر لوامع الأنوار ار البهية للسفاريني 2 392، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 481، وتعريفات الجرجاني ص 132، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1528، وفتح الباري 11 342، وبستان العارفين للنووي ص 171، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 277، وحاشية المدابغي على فتح المعين ص 269.
(2) الفتاوى الحديثة لابن حجر الهيثمي ص 301.
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 277.(45/176)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالنَّبِيِّ:
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِمَّا يَفْتَرِقُ الْوَلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ: (1) أ - الْعِصْمَةُ:
84 - فَالأَْنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ وُجُوبًا، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ. قَال الشَّوْكَانِيُّ: لَكِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى رُتْبَةٍ رَفِيعَةٍ وَمَنْزِلَةٍ عَلِيَّةٍ، فَقَل أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيُنَافِي الْحَقَّ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلاَ يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَحْفُوظًا، فَلاَ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ فِي أَوْقَاتٍ أَوْ زَلاَّتٌ، فَلاَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ. (3)
ب - الإِْيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ الاِتِّبَاعِ:
85 - الأَْنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجِبُ لَهُمُ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ، بِخِلاَفِ الأَْوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 208،221، 223، ولوامع الأنوار البهية 2 301، وقطر الولي للشوكاني ص 248، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 1529.
(2) قطر الولي ص 248.
(3) بستان العارفين ص 173.(45/177)
لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُل مَا يَأْمُرُونَ وَلاَ الإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: بَل يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا. ثُمَّ قَال: ذَلِكَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يُسَوَّغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ. (1)
ج - الْوَحْيُ:
86 - الأَْنْبِيَاءُ مُكَرَّمُونَ بِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَلَكِ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ. فَالْوَلِيُّ لاَ يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ، حَتَّى إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ، لاَ وَلِيًّا لَهُ.
د) وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ:
87 - الأَْنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ وَسَائِرِ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادِ الأَْنَامِ لِدِينِهِ، وَلَيْسَ الأَْوْلِيَاءُ كَذَلِكَ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الأَْنْبِيَاءَ.
هـ - الأَْمْنُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ:
88 - فَالأَْنْبِيَاءَ مَأْمُونُونَ عَنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلاَ يَعْلَمُ هُوَ وَلاَ غَيْرُهُ مَا دَامَ حَيًّا هَل سَيُخْتَمُ لَهُ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 208 ـ209.(45/177)
الإِْيمَانِ، أَمْ أَنَّهُ سَيَلْقَى اللَّهَ غَيْرَ ذَلِكَ.
و) خَتْمُ النُّبُوَّةِ:
89 - فَالنُّبُوَّةَ مَخْتُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الإِْنْبَاءُ وَالإِْخْبَارُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا الْوِلاَيَةُ فَدَائِمَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
ز) حُكْمُ السَّبِّ:
90 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَبُّهُ مُخَالِفًا لأَِصْلٍ مِنْ أَصُول الإِْيمَانِ، مِثْل أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ السَّبَّ دِينًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدِينٍ. (1)
فَضْل النَّبِيِّ عَلَى الْوَلِيِّ:
91 - اتَّفَقَ سَلَفُ الأُْمَّةِ وَخَلَفُهَا مِنْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ أَفْضَل مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَفْضِيل أَحَدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ. قَال الْقُشَيْرِيُّ: رُتْبَةُ الأَْوْلِيَاءِ لاَ تَبْلُغُ رُتْبَةَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلإِْجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ. (2)
أَمَّا مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغُلاَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْوَلِيِّ أَفْضَل مِنَ النَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ.
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 560، ومغني المحتاج 4 135.
(2) بستان العارفين ص 169.(45/178)
قَال الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ: هُوَ كُفْرٌ وَضَلاَلٌ. (1)
92 - أَمَا أَفْضَل الأَْوْلِيَاءِ وَالأَْنْبِيَاءِ، فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَفْضَل أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَفْضَل أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ، وَأَفْضَل الرُّسُل هُمْ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَفْضَل الرُّسُل: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. (2) ثُمَّ قَال: وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل هُمُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَبِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ أَكْمَل إِيمَانًا وَتَقْوَى، كَانَ أَكْمَل وِلاَيَةً لِلَّهِ، فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلاَيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الإِْيمَانِ وَالتَّقْوَى. (3)
مِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
93 - نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُمَيَّزُونَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ كَمَا تَقَعُ لأَِوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَقَدْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُونَ وَيُمَيَّزُونَ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الَّتِي دَل عَلَى خَبَرِهَا الْكِتَابُ
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية للميداني الحنفي ص 139.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 161، وانظر قطر الولي ص 238.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 175.(45/178)
وَالسُّنَّةُ. (1) وَفِي ذَلِكَ يَقُول الشَّوْكَانِيُّ: وَالْحَاصِل أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَعْدُودِينَ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللَّهِ، مُقِيمًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ عَنْهُ، مُسْتَكْثِرًا مِنْ طَاعَاتِهِ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ، فَهِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَهَا.
وَمَنْ كَانَ بِعَكْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَتْ وِلاَيَتُهُ رَحْمَانِيَّةً، بَل شَيْطَانِيَّةً، وَخَوَارِقُهُ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ. وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ وَلاَ مُسْتَنْكَرٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مَخْدُومًا بِخَادِمٍ مِنَ الْجِنِّ أَوْ بِأَكْثَرَ، فَيَخْدِمُونَهُ فِي تَحْصِيلٍ مَا يَشْتَهِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْمِعْيَارُ الَّذِي لاَ يَزِيغُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي لاَ يَجُورُ هُوَ مِيزَانُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا، فَكَرَامَاتُهُ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ رَحْمَانِيَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهِمَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِهِمَا فَأَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةٌ. (2)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10 431، 11 214،271،274.
(2) قطر الولي للشوكاني ص 272.(45/179)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ ضَابِطَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَحَالٍ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَفِي الأَْعْمَال الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْجَوَارِحِ، كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا فِي ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخَالِفًا لَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ قَال: فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ، فَاكْشِفْهُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ: فِي صَلاَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا أَوْ نَفْرَتِهُ عَنْهُمْ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْمُتَابَعَةِ وَتَحْكِيمِ السُّنَّةِ، فَزِنْهُ بِذَلِكَ، وَلاَ تَزِنْهُ بِحَالٍ وَلاَ كَشْفٍ وَلاَ خَارِقٍ، وَلَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ. (1)
كَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ
94 - الْكَرَامَاتُ جَمْعُ كَرَامَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الشَّرَفُ. مِنَ الْكَرَمِ: الَّذِي يَعْنِي شَرَفَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي خُلُقٍ مِنَ الأَْخْلاَقِ. أَوِ الإِْكْرَامُ: الَّذِي هُوَ إِيصَال نَفْعٍ إِلَى الإِْنْسَانِ، لاَ يَلْحَقُهُ فِيهِ غَضَاضَةٌ، أَوْ أَنْ يَجْعَل مَا يُوَصَل إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا، أَيْ شَرِيفًا. (2)
__________
(1) الروح لابن القيم ص 359.
(2) معجم مقاييس اللغة 5 172، ومفردات الراغب ص 707.(45/179)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الْكَرَامَةَ بِأَنَّهَا: ظُهُورُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، عَلَى يَدِ عَبْدٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ، مُلْتَزِمٍ لِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، مُقْتَرِنًا بِصَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ. (1)
فَامْتَازَتِ الْكَرَامَةُ بِعَدَمِ الاِقْتِرَانِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ، وَبِكَوْنِهَا عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ وَهُوَ الْوَلِيُّ عَمَّا يُسَمُّونَهُ مَعُونَةً وَهِيَ الْخَارِقُ الظَّاهِرُ عَلَى أَيْدِي عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، تَخَلُّصًا لَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ وَالْمَكَارِهِ، وَبِمُقَارَنَةِ صَحِيحِ الاِعْتِقَادِ وَالْعَمَل الصَّالِحِ عَنِ الاِسْتِدْرَاجِ، وَبِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ عَنْ خَوَارِقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِكَذِبِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالإِْهَانَةِ كَبَصْقِ مُسَيْلِمَةَ فِي بِئْرٍ عَذْبَةِ الْمَاءِ لِيَزْدَادَ مَاؤُهَا حَلاَوَةً، فَصَارَ مِلْحًا أُجَاجًا. (2)
95 - وَقَدْ ذَهَبَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ - خِلاَفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ - إِلَى أَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الأَْوْلِيَاءِ جَائِزٌ عَقْلاً، لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ نَقْلاً مُفِيدًا لِلْيَقِينِ مِنْ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 278.
(2) المحلي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2 481، وشرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 139، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 975، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2 392، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 278، وتعريفات الجرجاني ص 115.(45/180)
جِهَةٍ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَوُقُوعِ التَّوَاتُرِ عَلَيْهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلاً بَعْدَ جِيلٍ. وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْوُقُوعِ لاَ حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ الْجَوَازِ (1) قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَكَرَامَاتُ الأَْوْلِيَاءِ حَقٌّ بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ دَل عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالآْثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا أَهْل الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِيهَا أَوْ تُدَّعَى لَهُ يَكُونُ كَذَّابًا أَوْ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ. (2)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ:
96 - الْمُعْجِزَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَجْزِ الْمُقَابِل لِلْمَقْدِرَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْخَصْمِ عِنْدَ التَّحَدِّي، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: مَا خَرَقَ الْعَادَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، إِذَا وَافَقَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَقَارَنَهَا
__________
(1) قطر الولي للشوكاني ص 257 وما بعدها، وبستان العارفين للنووي ص 141 ـ 155، والمعتمد لأبي يعلى ص 161، والفتاوى الحديثية لابن حجر المكي ص 301، وشرح الطحاوية للغنيمي ص 139، ولوامع الأنوار البهية 2 394، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه 2 481.
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 600.(45/180)
وَطَابَقَهَا، عَلَى جِهَةِ التَّحَدِّي ابْتِدَاءً، بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَلاَ عَلَى مِثْلِهَا وَلاَ عَلَى مَا يُقَارِبُهَا. (1)
وَتَسْمِيَةُ دَلاَئِل النُّبُوَّةِ وَأَعْلاَمِهَا " مُعْجِزَاتٍ " إِنَّمَا هُوَ اصْطِلاَحُ النُّظَّارِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ، وَالَّذِي فِيهِ لَفْظُ الآْيَةِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ. (2)
97 - أَمَّا وُجُوهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ فَهِيَ:
أَوَّلاً: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِالتَّحَدِّي، وَهُوَ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ يُقَال تَحَدَّيْتُ فُلاَنًا: إِذَا بَارَيْتَهُ فِي فِعْلٍ وَنَازَعْتَهُ لِلْغَلَبَةِ أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ.
وَلاَ شَكَّ أَنَّ كُل مَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ كَنُطْقِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي، لأَِنَّ قَرَائِنَ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ نَاطِقَةٌ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ وَتَحَدِّيهِ
__________
(1) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 665،، والتعريفات للجرجاني ص 115، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 975، ولوامع الأنور البهية للسفاريني 2 290.
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 67.(45/181)
لِلْمُخَالِفِينَ وَإِظْهَارِهِ مَا يَقْمَعُهُمْ وَيَقْطَعُهُمْ، فَكَانَ كُل مَا ظَهَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمَّى آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ، وَلأَِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اقْتِرَانِهَا بِالتَّحَدِّي الاِقْتِرَانُ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْل. (1)
ثَانِيًا: أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِمْ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ، وَلاَ يُعْرَفُ النَّبِيُّ إِلاَّ بِمُعْجِزٍ. أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِظْهَارُهَا، بَل يَسْتُرُ كَرَامَتَهُ وَيُسِرُّهَا وَيَجْتَهِدُ عَلَى إِخْفَاءِ أَمْرِهِ. (2)
ثَالِثًا: أَنَّ دَلاَلَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَطْعِيَّةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، بَيْنَمَا دَلاَلَةُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوِلاَيَةِ ظَنِّيَّةٌ، وَلاَ يَعْلَمُ مُظْهِرُهَا أَوْ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ، وَلاَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَمْكُورًا بِهِ. (3) قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا وَلِيٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ إِلاَّ مُؤْمِنًا، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنَّا
__________
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 308.
(2) لوامع الأنوار البهية 2 396، وبستان العارفين للنووي ص 161، 165.
(3) الفتاوى الحديثية ص 305، وبستان العارفين ص 161.(45/181)
أَنْ نَقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لأَِنَّ الْوَلِيَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ، وَلَمَّا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْطَعَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُوَافِي إِلاَّ بِالإِْيمَانِ، عُلِمَ أَنَّ الْفِعْل الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لاَ يَدُل عَلَى وِلاَيَتِهِ. (1)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا وَعَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول، وَلاَ عَلَى وِلاَيَتِهِ، لِجَوَازِ سَلْبِهَا أَوْ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ. (2)
رابِعًا: أَنَّ الْكَرَامَةَ لاَ يَجُوزُ بُلُوغُهَا مَبْلَغَ الْمُعْجِزَةِ فِي جِنْسِهَا وَعِظَمِهَا، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَانْفِلاَقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الأَْصَابِعِ، وَبِذَلِكَ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْمَذْهَبَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالْكَرَامَةُ لاَ تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ، بَل إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ بَل اللَّعْنَةَ وَالإِْهَانَةَ. (3)
__________
(1) المعتمد لأبي يعلي ص 165.
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 600، ولوامع الأنوار البهية 2 393.
(3) قطر الولي للشوكاني ص 258، ورد المحتار 3 308، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 279، وبستان العارفين ص 156،162، والفتاوى الحديثية ص 301، 302، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار 2 481، ولوامع الأنوار البهية 2 396.(45/182)
خَوَارِقُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْل الْبَعْثَةِ:
98 - مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الْخَوَارِقُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلأَْنْبِيَاءِ قَبْل النُّبُوَّةِ، كَإِظْلاَل الْغَمَامِ وَشَقِّ الصَّدْرِ الْوَاقِعَيْنِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الْبَعْثَةِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُعْجِزَاتٍ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى التَّحَدِّي وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ، بَل كَرَامَاتٍ، وَتُسَمَّى " إِرْهَاصًا " أَيْ تَأْسِيسًا لِلنُّبُوَّةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الأُْصُول وَغَيْرُهُمْ. (1)
كَرَامَةُ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
99 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ كُل خَارِقٍ ظَهَرَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْعَارِفِينَ فَهُوَ ذُو جِهَتَيْنِ: جِهَةُ كَرَامَةٍ، مِنْ حَيْثُ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْعَارِفِ. وَجِهَةُ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُول مِنْ حَيْثُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَتْ هَذِهِ الْكَرَامَةُ عَلَى يَدِهِ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ الآْتِي بِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ وَهُوَ مُحِقٌّ فِي دِيَانَتِهِ، وَدِيَانَتُهُ هِيَ التَّصْدِيقُ وَالإِْقْرَارُ بِرِسَالَةِ ذَلِكَ الرَّسُول مَعَ الإِْطَاعَةِ لأَِوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى هَذَا الْوَلِيُّ الاِسْتِقْلاَل بِنَفْسِهِ وَعَدَمَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا. (2)
__________
(1) الفتاوى الحديثية ص 307، بستان العارفين ص 157، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 278، ولوامع الأنوار البهية 2 392.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 279، وانظر مجموعة فتاوى ابن ابن تيمية 11 275.(45/182)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ:
100 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْخَارِقَ غَيْرَ الْمُقْتَرِنِ بِتَحَدِّي النُّبُوَّةِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عَبْدٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ خَلْقِهِ فَهُوَ الْكَرَامَةُ. أَمَّا إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ مُطَابِقًا لِدَعْوَاهُ فَهُوَ " الاِسْتِدْرَاجُ " وَقَدْ يُسَمَّى " سِحْرًا وَشَعْوَذَةً ".
وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ مِنْ أَهْل الضَّلاَل فَهُوَ " الإِْهَانَةُ "، كَنُطْقِ الْجَمَادِ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى، بَل مُثْبِتًا لِكَذِبِهَا. (1)
وَأَسَاسُ ذَلِكَ أَنَّ كَرَامَاتِ الأَْوْلِيَاءِ لاَ يَكُونُ سَبَبُهَا إِلاَّ الإِْيمَانَ وَالتَّقْوَى، أَمَّا خَوَارِقُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَسَبَبُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ. (2) وَفِي ذَلِكَ يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لاَ تَدُل عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا، وَلاَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُل مَا يَقُول، لأَِنَّ بَعْضًا مِنْهَا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ بِمُؤَاخَاتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي
__________
(1) بستان العارفين ص 157، ولوامع الأنوار 2 290، وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص 139، والفتاوى الحديثية ص 304، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 975.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 302.(45/183)
حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّجَّال أَنَّهُ يَقُول لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ، وَلِلأَْرْضِ: أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ، وَأَنَّهُ يَقْتُل وَاحِدًا ثُمَّ يُحْيِيهِ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ خَلْفَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (1) وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلاَيَةٌ، بَل وَلاَ إِسْلاَمٌ حَتَّى يُنْظَرَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
وِلاَيَةُ الْعَهْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - " وِلاَيَةُ الْعَهْدِ " مُصْطَلَحٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: وِلاَيَةٍ، وَالْعَهْدِ. وَمِنْ مَعَانِي الْوِلاَيَةِ: الإِْمَارَةُ، وَالسُّلْطَانُ. وَمِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ: الْوَصِيَّةُ يُقَال: عَهِدَ إِلَيْهِ بِالأَْمْرِ: إِذَا أَوْصَاهُ بِهِ. (3)
__________
(1) حديث الدجال أخرجه مسلم (4 2252 ـ 2253 ـ ط الحلبي) .
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 600.
(3) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والمغرب.(45/183)
وَوِلاَيَةُ الْعَهْدِ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَهْدُ الإِْمَامِ فِي حَيَاتِهِ بِالْخِلاَفَةِ إِلَى وَاحِدٍ لِيَكُونَ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ. (1) (ر: الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 15)
مَا يَتَعَلَّقُ بِوِلاَيَةِ الْعَهْدِ مِنْ أَحْكَامٍ:
كَيْفِيَّةُ الْعَهْدِ بِالْوِلاَيَةِ:
2 - الْعَهْدُ بِالْوِلاَيَةِ: أَحَدُ الطُّرُقِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الإِْمَامَةُ. (2) وَصُورَتُهَا أَنْ يَسْتَخْلِفَ الإِْمَامُ شَخْصًا عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ. وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِـ " عَهِدْتُ إِلَيْهِ " كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالآْخِرَةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُؤْمِنُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيَتَّقِي فِيهَا الْفَاجِرُ: إِنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنْ بَرَّ وَعَدَل فَذَاكَ عِلْمِي بِهِ وَعِلْمِي فِيهِ، وَإِنْ جَارَ وَبَدَّل فَلاَ عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ، وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلِكُل امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 131، ونهاية المحتاج 7 391، وشرح روض الطالب 4 109، وتحفة المحتاج 9 77.
(2) المراجع السابقة، وابن عابدين 1 369، والشرح الصغير 4 426.
(3) أثر أبي بكر: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . أخرجه ابن سعد في الطبقات (3 199 ـ 200 ط بيروت) ، وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي وهو متروك الحديث كما قال البخاري ومسلم (تهذيب الكمال 26 185، 188) .(45/184)
وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ. (1)
شُرُوطُ صِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ:
3 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ مَا يَلِي: أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِاسْتِخْلاَفِ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِل.
وَأَنْ يُقْبَل الْخَلِيفَةُ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ، وَأَنْ يَتَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الاِسْتِخْلاَفِ. وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَحَرَّى الأَْصْلَحَ لِلإِْمَامَةِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ وَلاَّهُ. (2)
جَوَازُ الْخِلاَفَةِ لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِالتَّرْتِيبِ:
4 - لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل الْخِلاَفَةَ لِزَيْدٍ، ثُمَّ لِعَمْرٍ، ثُمَّ لِبَكْرٍ. وَتَنْتَقِل مِنْ أَحَدِهِمْ إِلَى الآْخَرِ عَلَى مَا رَتَّبَ، كَمَا رَتَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَ جَيْشِ مُؤْتَةَ. (3) فَإِنْ مَاتَ الأَْوَّل فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ فَالْخِلاَفَةُ لِلثَّانِي، وَإِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 369، وتحفة المحتاج 9 77، والشرح الصغير 4 426. 5م) مغني المحتاج 4 131 ط دار التراث.
(2) مغني المحتاج 4 131.
(3) حديث: " ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة، أخرجه البخاري (فتح الباري 7 510 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ " أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤته زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد فجعفر،(45/184)
مَاتَ الثَّانِي أَيْضًا فَهِيَ لِلثَّالِثِ، فَإِنْ مَاتَ الإِْمَامُ وَبَقِيَ الثَّلاَثَةُ أَحْيَاءً وَانْتَصَبَ الأَْوَّل لِلْخِلاَفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إِلَى غَيْرِ الأَْخِيرَيْنِ، لأَِنَّهَا لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا.
أَمَّا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَحَدٍ فَلَيْسَ لأَِهْل الْبَيْعَةِ أَنْ يُبَايِعُوا غَيْرَ الثَّانِي. وَيُقَدَّمُ عَهْدُ الإِْمَامِ الأَْوَّل عَلَى اخْتِيَارِهِمْ. (1) وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِخْلاَفِ مُوَافَقَةُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، بَل إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ بَيْعَتُهُ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ غَيْرِهِ، وَلاَ مُشَارِكَةِ أَحَدٍ. وَإِنْ جَعَل الإِْمَامُ الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمْعٍ حَكَّمَهُ فَكَاسْتِخْلاَفٍ، وَلاَ يَضُرُّ كَوْنُ الْمُسْتَخْلَفِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَيَرْتَضُونَ أَحَدَهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ فَيُعَيِّنُونَهُ لِلْخِلاَفَةِ. (2) كَمَا جَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ: عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَطَلْحَةَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا. (3) أَمَّا قَبْل مَوْتِ الإِْمَامِ فَلَيْسَ لأَِهْل الشُّورَى أَنْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 131، وشرح روض الطالب 4 109.
(2) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 391.
(3) أثر عمر: أخرجه البخاري في قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (فتح الباري 7 59 ـ 63) .(45/185)
يُعَيِّنُوا وَلِيًّا لِلْعَهْدِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ. فَإِنْ خَافُوا تَفَرُّقَ الأَْمْرِ وَانْتِشَارَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَسْتَأْذِنُونَهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ أَهْل الشُّورَى مِنَ الاِخْتِيَارِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ. (1)
الْوِصَايَةُ بِالْخِلاَفَةِ:
5 - لِلإِْمَامِ أَنْ يُوصِيَ بِالْخِلاَفَةِ لِمَنْ رَآهُ صَالِحًا لَهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الاِسْتِخْلاَفُ. لَكِنْ فِي حَالَةِ الْوِصَايَةِ يَكُونُ قَبُول الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَقِيل: لاَ تَجُوزُ الْوِصَايَةُ بِهَا لأَِنَّهُ يَخْرُجُ بِالْمَوْتِ عَنِ الْوِلاَيَةِ، وَيَتَعَيَّنُ مَنِ اخْتَارَهُ لِلْخِلاَفَةِ بِالاِسْتِخْلاَفِ أَوِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْقَبُول فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ. (2)
اسْتِعْفَاءُ الْخَلِيفَةِ أَوِ الْمُوصَى لَهُ:
6 - إِنِ اسْتَعْفَى الْمُسْتَخْلَفُ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُول لَمْ يَنْعَزِل حَتَّى يُعْفَى وَيُوجَدَ غَيْرُهُ. فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَإِعْفَاؤُهُ، وَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِلاَّ امْتَنَعَ وَبَقِيَ الْعَهْدُ لاَزِمًا. (3)
__________
(1) أسنى المطالب 4 109، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 7 391، ومغني المحتاج 4 131.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.(45/185)
اسْتِخْلاَفُ الْغَائِبِ:
7 - يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُ غَائِبٍ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِتَأَخُّرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ عَقَدَ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ الْخِلاَفَةَ لِنَائِبٍ عَنْهُ، فَيُبَايِعُونَهُ بِالنِّيَابَةِ لاَ الْخِلاَفَةِ، وَيَنْعَزِل بِقُدُومِهِ. وَلِلإِْمَامِ تَبْدِيل وَلِيِّ عَهْدٍ غَيْرِهِ لأَِنَّ الْخِلاَفَةَ لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهِ صَارَ أَمْلَكَ لَهَا، وَلَيْسَ لَهُ تَبْدِيل وَلِيِّ عَهْدِهِ إِذْ لَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ بِلاَ سَبَبٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ نَائِبًا لَهُ، بَل لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ نَقْل الْخِلاَفَةِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ لَهُ عَزْل نَفْسِهِ اسْتِقْلاَلاً، وَإِنَّمَا يَنْعَزِل بِالتَّرَاضِي مِنْهُ وَمِنَ الإِْمَامِ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَإِنْ تَعَيَّنَ فَلاَ يَنْعَزِل بِذَلِكَ. (1)
__________
(1) شرح روض الطالب 4 109 ـ 110.(45/186)
الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْوِلاَيَةِ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ، فِي مُصْطَلَحِ (الْوِلاَيَةِ) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَى الْمَال عِنْدَهُمْ هِيَ: قُدْرَةُ الشَّخْصِ شَرْعًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ أَوْ مَال الْغَيْرِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ:
2 - الْمُرَادُ بِالْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قُدْرَةُ الشَّخْصِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الشُّئُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشَخْصِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَنَفْسِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال وَالْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَشْتَرِكَانِ فِي تَنْفِيذِ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ.
سَبَبُ الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال:
3 - يَقُول الْكَاسَانِيُّ: سَبَبُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 321.(45/186)
الْوِلاَيَةِ فِي التَّحْقِيقِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الأُْبُوَّةُ، وَالثَّانِي: الْقَضَاءُ، لأَِنَّ الْجَدَّ مِنْ قِبَل الأَْبِ أَبٌ لَكِنْ بِوَاسِطَةٍ، وَوَصِيُّ الأَْبِ وَالْجَدِّ اسْتَفَادَ الْوِلاَيَةَ مِنْهُمَا فَكَانَ ذَلِكَ وِلاَيَةَ الأُْبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَوَصِيُّ الْقَاضِي يَسْتَفِيدُ الْوِلاَيَةَ مِنَ الْقَاضِي فَكَانَ ذَلِكَ وِلاَيَةَ الْقَضَاءِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْوِلاَيَةِ، وَتَرْتِيبِ الأَْوْلِيَاءِ، وَتَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ فِي مَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وِلاَيَة، وَوِصَايَة، وَإِيصَاء ف 9 16، وَنِيَابَة)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 152.(45/187)
وِلاَيَةٌ عَلَى النَّفْسِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْوِلاَيَةِ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ.
(ر: وِلاَيَة ف 1) أَمَّا الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ فَيُرَادُ بِهَا سُلْطَةُ الإِْشْرَافِ عَلَى الشُّئُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِشَخْصِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَنَفْسِهِ. (1)
أَنْوَاعُ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ:
2 - تَتَنَوَّعُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
أ - وِلاَيَةُ الْحَضَانَةِ.
ب - الْكَفَالَةُ.
ج - وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ.
وَنَتَنَاوَل هَذِهِ الأَْنْوَاعَ الثَّلاَثَةَ فِيمَا يَلِي.
أَوَّلاً: وِلاَيَةُ الْحَضَانَةِ:
3 - الْحَضَانَةُ فِي الشَّرْعِ: هِيَ حِفْظُ الْوَلَدِ فِي
__________
(1) التعريفات للجرجاني، القواعد للبركتي، مغني المحتاج 3 452.(45/187)
مَبِيتِهِ وَذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ مِنْ طَعَامِهِ وَلِبَاسِهِ وَتَنْظِيفِ جِسْمِهِ وَمَوْضِعِهِ. (1)
وَالْحَضَانَةُ وَاجِبَةٌ شَرْعًا، لأَِنَّ الْمَحْضُونَ قَدْ يَهْلِكُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ عَنِ الْهَلاَكِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل جَمِيعِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَضَانَةِ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: وِلاَيَةُ الْكَفَالَةِ:
4 - إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْحَضَانَةِ بِاسْتِغْنَاءِ الصَّغِيرِ أَوِ الصَّغِيرَةِ عَنِ الْحَاضِنَةِ، فَإِنَّ مَرْحَلَةً أُخْرَى تَلِي مَرْحَلَةَ الْحَضَانَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ سَمَّاهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " الْكَفَالَةَ ". قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْحَضَانَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحِضْنِ فَإِنَّ الْحَاضِنَةَ تَرُدُّ إِلَيْهِ الْمَحْضُونَ، وَتَنْتَهِي فِي الصَّغِيرِ بِالتَّمْيِيزِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ إِلَى الْبُلُوغِ فَتُسَمَّى كَفَالَةً. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَال غَيْرُهُ تُسَمَّى " حَضَانَةً " أَيْضًا، وَقَال بَعْضُهُمْ: " وِلاَيَةَ الرِّجَال ". (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 526، المهذب للشيرازي 2 170 ط دار المعرفة، المغني 7 612، مطالب أولي النهى 5 665.
(2) مغني المحتاج 3 452، وانظر نهاية المحتاج 7 214، حاشية العدوي على الخرشي 4 207، الحاوي الكبير للماوردي 15 101، مطالب أولي النهى 5 669، البدائع 4 43.(45/188)
5 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ الْمَحْضُونُ سَبْعَ سِنِينَ عَاقِلاً خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ مِنْ أَهْل الْحَضَانَةِ، فَيَكُونُ مَعَ مَنِ اخْتَارَهُ مِنْهُمَا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَبْعَ سِنِينَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ أُمِّهِ يَأْخُذُهُ الأَْبُ، عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ حَضَانَةَ النِّسَاءِ تَسْتَمِرُّ إِلَى بُلُوغِ الذَّكَرِ، أَمَّا الأُْنْثَى فَتَسْتَمِرُّ حَضَانَتُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُل عَلَيْهَا زَوْجُهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَة ف 9، 10، 14، 19) .
شُرُوطُ ثُبُوتِ وِلاَيَةِ الْكَفَالَةِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلرِّجَال مَا يَلِي:
أ - الْعُصُوبَةُ:
يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلرِّجَال الْعُصُوبَةُ، فَلاَ تَثْبُتُ إِلاَّ لِلْعُصْبَةِ مِنَ الرِّجَال، وَيَتَقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ: الأَْبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ، ثُمَّ الْعَمُّ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ الْعَمُّ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لأَِبٍ إِنْ كَانَ الصَّبِيُّ غُلاَمًا، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَلاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ مِنْهَا، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فَلاَ(45/188)
يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَإِنَّهُ عَصَبَةٌ وَأَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، ثُمَّ عَمُّ الأَْبِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ عَمُّ الأَْبِ لأَِبٍ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لأَِبٍ.
وَلَوْ كَانَ لَهَا ثَلاَثَةُ أُخُوَةٍ كُلُّهُمْ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأَِبٍ أَوْ ثَلاَثَةِ أَعْمَامٍ كُلُّهُمْ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَفْضَلُهُمْ صَلاَحًا وَوَرَعًا أَوْلَى، فَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ سَوَاءً فَأَكْبُرُهُمْ سِنًّا أَوْلَى بِالْحَضَانَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ مِنْ عَصَبَاتِهَا غَيْرَ ابْنِ الْعَمِّ اخْتَارَ لَهَا الْقَاضِيَ أَفْضَل الْمَوَاضِعِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَيْهِ فَيُرَاعَى الأَْصْلَحُ، فَإِنْ رَآهُ أَصْلَحَ ضَمَّهَا إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَيَضَعُهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَمِينَةٍ.
وَكُل ذَكَرٍ مِنْ قِبَل النِّسَاءِ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ مِثْل الأَْخِ لأُِمٍّ، وَالْخَال، وَأَبُو الأُْمِّ، لاِنْعِدَامِ الْعُصُوبَةِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ إِنْ كَانَ لِلْجَارِيَةِ ابْنُ عَمٍّ وَخَالٍ وَكِلاَهُمَا لاَ بَأْسَ بِهِ فِي دِينِهِ جَعَلَهَا الْقَاضِي عِنْدَ الْخَال، لأَِنَّهُ مَحْرَمٌ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَكَانَ الْمَحْرَمُ أَوْلَى، وَالأَْخُ مِنَ الأَْبِ أَحَقُّ مِنَ الْخَال لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ وَهُوَ أَيْضًا أَقْرَبُ لأَِنَّهُ مِنْ أَوْلاَدِ الأَْبِ وَالْخَال مِنْ أَوْلاَدِ الْجَدِّ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قُرَابَةٌ مِنْ قِبَل النِّسَاءِ فَالْعَمُّ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْخَال وَأَبِي(45/189)
الأُْمِّ، لأَِنَّهُ عَصَبَتُهُ، وَالأَْخُ لأَِبٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمِّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الأَْخِ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ أَشْفَقُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الأُْمَّ أَوْلَى مِنَ الْخَال وَالأَْخِ لأُِمٍّ، لأَِنَّ لَهَا أَوْلاَدًا وَهِيَ أَشْفَقُ مِمَّنْ لاَ وِلاَدَ لَهُ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
ب - الأَْمَانَةُ:
7 - إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ جَارِيَةً يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ عَصَبَتُهَا مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُؤْتَمَنُ لِفِسْقِهِ وَلِخِيَانَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، لأَِنَّ فِي كَفَالَتِهِ لَهَا ضَرَرًا عَلَيْهَا، وَهَذِهِ وِلاَيَةُ نَظَرٍ، فَلاَ تَثْبُتُ مَعَ الضَّرَرِ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الأُْخُوَّةُ وَالأَْعْمَامُ غَيْرَ مَأْمُونِينَ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً عَدْلَةً أَمِينَةً فَيُسَلِّمُهَا إِلَيْهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ فَتُتْرُكُ حَيْثُ شَاءَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا.
ج - اتِّحَادُ الدِّينِ:
8 - يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْحَاضِنِ وَالْمَحْضُونِ، فَلاَ حَقَّ لِلْعَصَبَةِ فِي الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَقَال: هَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُهُ، لأَِنَّ هَذَا الْحَقَّ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ لِلْعَصَبَةِ، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّعْصِيبَ، وَقَدْ قَالُوا فِي الأَْخَوَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالآْخَرُ يَهُودِيًّا وَالصَّبِيُّ يَهُودِيٌّ أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَوْلَى بِهِ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ لاَ الْمُسْلِمُ. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 4 43.(45/189)
كَفَالَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكَل:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكَل بَعْدَ الْبُلُوغِ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْبِنْتِ الْبِكْرِ، (1) حَسَبَ تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (حَضَانَة ف 19) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ بَيَّنُوا بِأَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكَل كَالأُْنْثَى فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ إِلاَّ فِي مَسَائِل، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَسْأَلَةَ كَفَالَةِ الْخُنْثَى الْمُشْكَل وَحَضَانَتِهِ ضِمْنَ هَذِهِ الْمَسَائِل الْمُسْتَثْنَاةِ. (2)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كَفَالَةَ الأُْمِّ عَنِ الْخُنْثَى الْمُشْكَل لاَ تَسْقُطُ مَا دَامَ مُشْكَلاً. (3)
انْتِهَاءُ وِلاَيَةِ الْكَفَالَةِ:
تَنْتَهِي وِلاَيَةُ الْكَفَالَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ لاِكْتِفَائِهِمَا بِأَنْفُسِهِمَا مِنْ كَمَال التَّمْيِيزِ وَالْقُوَّةِ (4) وَيَخْتَلِفُ وَقْتُ زَوَال الْكَفَالَةِ، إِذَا كَانَ مَنْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا، عَاقِلاً أَوْ غَيْرَ عَاقِلٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَة ف 19) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 460، مطالب أولي النهى 5 671.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 323 ط دار الكتب العلمية، وانظر بدائع الصنائع 7 329.
(3) حاشية الدسوقي 2 526.
(4) الحاوي للماوردي 15 103.(45/190)
10 - وَهُنَاكَ حَالاَتٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَجْعَلُونَ الْغُلاَمَ فِيهَا تَحْتَ الْكَفَالَةِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا، مِنْهَا:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْغُلاَمُ مَأْمُونًا عَلَى نَفْسِهِ فَلأَِبِيهِ ضَمُّهُ لِدَفْعِ فِتْنَةٍ أَوْ عَارٍ وَتَأْدِيبُهُ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: الْغُلاَمُ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا مَخُوفًا عَلَيْهِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى نَفْسِهِ ابْنَهُ الْبَالِغَ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ سَفَهًا. (2)
وَنَقَل صَاحِبُ الْعُدَّةِ الشَّافِعِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ أَنَّ الْغُلاَمَ الْبَالِغَ الرَّشِيدَ إِنْ كَانَ أَمَرَدَ أَوْ خِيفَ مِنَ انْفِرَادِهِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ مُفَارَقَةِ الأَْبَوَيْنِ. (3)
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مِثْل ذَلِكَ. (4)
ثَالِثًا: وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ
11 - الأَْصْل أَنَّ وِلاَيَةَ التَّزْوِيجِ هِيَ وِلاَيَةُ نَظَرٍ. (5) وَثُبُوتُ وِلاَيَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ النَّظَرِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَشْرُوعٌ، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الإِْعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ، وَمِنْ بَابِ الإِْحْسَانِ، وَمِنْ بَابِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 641.
(2) الذخيرة 4 222.
(3) مغني المحتاج 3 459.
(4) مطالب أولي النهى 5 671.
(5) بدائع الصنائع 2 237.(45/190)
إِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَكُل ذَلِكَ حَسَنٌ عَقْلاً وَشَرْعًا. (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي أَنْوَاعِ وِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ، وَسَبَبِ ثُبُوتِ كُل نَوْعٍ، وَشَرْطِ ثُبُوتِ كُل نَوْعٍ، يُنْظَرُ فِي (نِكَاح ف 66 وَمَا بَعْدَهَا وِلاَيَة) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 152.(45/191)
وَلَدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَلَدُ فِي اللُّغَةِ: بِفَتْحَتَيْنِ: الْمَوْلُودُ. يُقَال لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَوْلاَدٍ وَوِلْدَةٍ وَإِلْدَةٍ وَؤُلْدٍ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِبْنُ:
2 - عَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الاِبْنَ بِأَنَّهُ: حَيَوَانٌ ذَكَرٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ نُطْفَةِ شَخْصٍ آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ.
وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: وَسُمِّيَ ابْنًا لِكَوْنِهِ بِنَاءً لِلأَْبِ، فَإِنَّ الأَْبَ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ بَنَّاءَ فِي إِيجَادِهِ، وَيُقَال لِكُل مَا يَحْصُل مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ أَوْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ أَوْ بِتَفَقُّدِهِ أَوْ كَثْرَةِ خِدْمَتِهِ لَهُ أَوْ قِيَامِهِ بِأَمْرِهِ هُوَ ابْنُهُ، نَحْوَ فُلاَنِ ابْنِ حَرْبٍ، وَابْنِ السَّبِيل
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوجيز، وتاج العروس والمعجم الوسيط.(45/191)
وَابْنِ اللَّيْل وَابْنِ الْعِلْمِ. (1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الاِبْنِ وَالْوَلَدِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، لأَِنَّ الاِبْنَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ، أَمَّا الْوَلَدُ فَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
ب - الْبِنْتُ:
3 - الْبِنْتُ وَالاِبْنَةُ مُؤَنَّثُ ابْنٍ، (2) وَأُرِيدَ بِهِ الْفُرُوعُ مِنَ الأُْنْثَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} ) (3) بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْوَلَدِ: أَنَّ الْبِنْتَ تُطْلَقُ عَلَى الأُْنْثَى، أَمَّا الْوَلَدُ فَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
ج - الْحَفِيدُ:
4 - الْحَفِيدُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَعَلَى الأَْعْوَانِ وَالْخَدَمِ وَالأَْخْتَانِ وَالأَْصْهَارِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَفِيدُ هُوَ: وَلَدُ الْوَلَدِ. (5)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْحَفِيدِ هِيَ الْعُمُومُ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي، والكليات للكفوي.
(3) سورة النساء 23.
(4) لسان العرب، ومختار الصحاح.
(5) مطالب أولي النهى 4 362.(45/192)
وَالْخُصُوصُ، فَكُل حَفِيدٍ وَلَدٌ، وَلَيْسَ كُل وَلَدٍ حَفِيدًا.
د - السِّبْطُ:
5 - السِّبْطُ هُوَ: وَلَدُ الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ، قَال الْعَسْكَرِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل السِّبْطُ فِي وَلَدِ الْبِنْتِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ السِّبْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وَلَدِ الْبِنْتِ، وَأَمَّا وَلَدُ الاِبْنِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَفِيدِ عِنْدَهُمْ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْحَفِيدِ وَالسِّبْطِ عَلَى وَلَدِ الاِبْنِ وَوَلَدِ الْبِنْتِ. (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالسِّبْطِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
هـ - الذُّرِّيَّةُ:
6 - الذُّرِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ قِيل: نَسْل الثَّقَلَيْنِ، وَقِيل: هِيَ وَلَدُ الرَّجُل، وَقِيل: مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الأَْبْنَاءِ (4) قَال تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: ( {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ) (5) وَتَجِيءُ تَارَةً
__________
(1) المعجم الوسيط، والقاموس، والفروق في اللغة لأبي هلال ص 277.
(2) القليوبي 3 242.
(3) الإنصاف 7 83، ومطالب أولي النهى 4 362.
(4) الكليات 2 361، ومعجم متن اللغة.
(5) سورة الصافات 77.(45/192)
بِمَعْنَى الآْبَاءِ وَالأَْجْدَادِ (1) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . (2)
وَقِيل: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ النُّطَفُ، حَمَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بُطُونِ النِّسَاءِ تَشْبِيهًا بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، قَالَهُ سَيِّدُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (3)
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ: أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَبْنَاءِ الشَّخْصِ وَبَنَاتِهِ وَأَوْلاَدِهِمْ. وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي الذُّرِّيَّةِ. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْوَلَدِ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلَدِ.
و النَّسْل:
7 - النَّسْل: الْوَلَدُ، وَتَنَاسَلُوا: وَلَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ فِي الأَْصْل عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مُطْلَقًا، نَسَل الشَّيْءُ نُسُولاً: انْفَصَل عَنْ غَيْرِهِ وَسَقَطَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسْل وَالْوَلَدِ أَنَّ النَّسْل أَعَمُّ مِنَ
__________
(1) تفسير القرطبي 15 34.
(2) سورة يس 43.
(3) تفسير القرطبي 15 34.
(4) حاشية ابن عابدين 3 433، ومغني المحتاج 2 388، والإنصاف 7 79، والمغني 5 615، وحاشية الدسوقي 4 92.(45/193)
الْوَلَدِ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَدِ:
تَنْقَسِمُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِ الآْدَمِيِّ، وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِ الْحَيَوَانِ.
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَلَدِ الآْدَمِيِّ:
تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ فِي الدِّينِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ على أَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الأَْبَوَيْنِ دِينًا. (2)
فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا، فَالْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ صَارَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِهِ، لأَِنَّ فِي جَعْلِهِ تَبَعًا لَهُ نَظَرًا لَهُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا، وَالآْخَرُ مَجُوسِيًّا، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ، لأََنَّ فِيهِ نَوْعَ نَظَرٍ لَهُ، إِذِ الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ، (3) كَمَا اشْتَرَطُوا لِتَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لِخَيْرِ الأَْبَوَيْنِ دِينًا اتِّحَادَ الدَّارِ حَقِيقَةً أَوْ
__________
(1) المعجم الوجيز، والكليات للكفوي، ومختار الصحاح، وطلبة الطلبة للنسفي ص 231 " ط دار النفائس ".
(2) الهداية وفتح القدير 2 506، وابن عابدين 2 394، 395، والخرشي 8 66، ومسائل الإمام أحمد لابن هانئ 1 218، 219، 2 99،100، ومواهب الجليل 6 284،285، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 540،541.
(3) الهداية وفتح القدير 2 506.(45/193)
حُكْمًا، بِأَنْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِنَا وَالأَْبُ فِي دَارِ الْكُفْرِ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ بِأَنْ كَانَ الأَْبُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَالصَّغِيرُ فِي دَارِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّة ف 46، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ ف 7 - 8، وَتَبَعِيَّة ف 3) .
رِدَّةُ الصَّبِيِّ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ وَقَوْلٌ لأَِحْمَدَ إِلَى أَنَّ رِدَّةَ الصَّبِيِّ لاَ تَصِحُّ. لأَِنَّ أَقْوَال الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَكَمٌ كَالطَّلاَقِ وَالإِْقْرَارِ وَالْعُقُودِ، وَلأَِنَّ الإِْسْلاَمَ فِيهِ نَفْعُهُ، وَالْكُفْرَ فِيهِ ضَرَرُهُ، وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ النَّافِعُ دُونَ الضَّارِّ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَال الْعَقْل دُونَ الْبُلُوغِ بِدَلِيل أَنَّ مَنْ بَلَغَ غَيْرَ عَاقِلٍ لَمْ يَصِحَّ إِسْلاَمُهُ، وَالْعَقْل يُوجَدُ مِنَ الصَّغِيرِ كَمَا يُوجَدُ مِنَ الْكَبِيرِ، وَلأَِنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الإِْسْلاَمِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ مَعَ الإِْقْرَارِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ طَائِعًا دَلِيل الاِعْتِقَادِ، وَالْحَقَائِقَ لاَ تُرَدُّ، وَإِذَا صَارَ مُسْلِمًا، فَإِذَا ارْتَدَّ
__________
(1) ابن عابدين 2 394، 395.(45/194)
تَصِحُّ كَالْبَالِغِ، وَلأَِنَّ الإِْسْلاَمَ عَقْدٌ وَالرِّدَّةُ حَلُّهُ، وَكُل مَنْ مَلَكَ عَقْدًا مَلَكَ حَلَّهُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلأَِنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الاِعْتِقَادُ تُصُوِّرَ مِنْهُ تَبْدِيلُهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الاِعْتِرَافُ دَل عَلَى تَبْدِيل الاِعْتِقَادِ كَالْمُسْلِمِ. (1)
وَإِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الصَّبِيِّ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الرِّدَّةِ، فَلاَ يَرِثُ وَلاَ يُوَرَّثُ، وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ لَوْ مَاتَ مُرْتَدًا، وَيُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ لأَِنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِإِسْلاَمِهِ لاَ يُتْرَكُ عَلَى الْكُفْرِ كَالْبَالِغِ، وَلأَِنَّ بِالْجَبْرِ يَنْدَفِعُ عَنْهُ مَضَرَّةُ حِرْمَانِ الإِْرْثِ وَبَيْنُونَةِ الزَّوْجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا لاَ يُقْتَل لأَِنَّ كُل مَنْ لاَ يُبَاحُ قَتْلُهُ بِالْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ لاَ يُبَاحُ بِالرِّدَّةِ، لأَِنَّ إِبَاحَةَ الْقَتْل بِنَاءً عَلَى أَهْلِيَّةِ الْحِرَابِ، وَلأَِنَّ الْقَتْل عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلأَِنَّ الْقَتْل لاَ يَتَعَلَّقُ بِفِعْل الصَّبِيِّ كَالْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لاَ يَعْقِل لاَ يَصِحُّ إِسْلاَمُهُ وَلاَ ارْتِدَادُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ وَالْكُفْرَ يَتْبَعَانِ الْعَقْل.
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَبِيٍّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ كَبُرَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ الإِْقْرَارُ بِالإِْسْلاَمِ بَعْدَمَا بَلَغَ قَال: لاَ يُقْتَل وَيُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَإِنَّمَا يُقْتَل مَنْ
__________
(1) المبسوط 10 122، والاختيار 4 148، وابن عابدين 4 257، والمغني 8 551، والإنصاف 10 329، وجواهر الإكليل 1 21،116، ومغني المحتاج 4 137.(45/194)
أَقَرَّ بِالإِْسْلاَمِ بَعْدَمَا بَلَغَ ثُمَّ كَفَرَ، لأَِنَّ الأَْوَّل لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا بِالتَّبَعِيَّةِ، وَحُكْمُ أَكْسَابِهِ كَالْمُرْتَدِّ. (1)
وَلاَ يُقْتَل الصَّبِيُّ قَبْل بُلُوغِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، بَل لاَ يُقْتَل عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ. (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رِدَّة ف 3، 4)
الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ:
10 - يُسَنُّ الأَْذَانُ فِي يُمْنَى أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى حِينَ يُولَدُ، وَالإِْقَامَةُ بِيُسْرَاهُمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان ف 51)
تَقْدِيمُ الْوَلَدِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ:
11 - يُقَدَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَبُوهُ، ثُمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَل، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جَنَائِز ف 41)
إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَى:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَى.
__________
(1) الاختيار 4 148، 149، وبدائع الصنائع 7 135.
(2) المبسوط10 122، والبدائع 7 135، والمغني 8 551، والإنصاف 10 320، والهداية 2 126، والأم 6 649، ومواهب الجليل 6 284.(45/195)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة ف 24)
إِمَامَةُ وَلَدِ اللِّعَانِ:
13 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِمَامَةِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ إِذَا سَلِمَ دِينُهُ وَكَانَ صَالِحًا لِلإِْمَامَةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ (1) وَصَلَّى التَّابِعُونَ خَلْفَ ابْنِ زِيَادٍ وَهُوَ مِمَّنْ فِي نَسَبِهِ نَظَرٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ وَلَدِ الزِّنَا: " لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ " وَقَرَأَتْ: ( {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ) (2) وَلأَِنَّهُ حُرٌّ مَرْضِيٌّ فِي دِينِهِ يَصْلُحُ لِلإِْمَامَةِ كَغَيْرِهِ. (3)
دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى وَلَدِ الْمُزَكِّي:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى وَلَدِهِ، لأَِنَّ مَنَافِعَ الأَْمْلاَكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَال.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 177) .
زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ الْوَلَدِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يُخْرِجُهَا
__________
(1) حديث: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. . . " أخرجه مسلم (1 465 ـ ط الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(2) سورة الأنعام 164.
(3) مطالب أولي النهى 1 680.(45/195)
الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ كُل مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَمِنْهُمْ أَوْلاَدُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ أَوْ وُلِدَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي مَاتَ أَوْ وُلِدَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا عَنْهُ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8) .
حَجُّ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدَيْهِ:
17 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حَجُّ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ: " يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: نَعَمْ ". (1)
وَالتَّفْصِيل فِي (حَجّ ف 114، 117، أَدَاء ف 16، نِيَابَة ف 13 28)
__________
(1) حديث ابن عباس " أن امرأة من خثعم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 66 ـ ط السلفية) ، ومسلم (2 973 ـ ط الحلبي) ، والسياق لمسلم.(45/196)
نَسَبُ الْوَلَدِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ أُمِّهِ بِالْوِلاَدَةِ مِنْهَا، وَمِنْ أَبِيهِ بِالْفِرَاشِ وَالإِْقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ، وَلاَ يَنْتَفِي إِلاَّ بِاللِّعَانِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ، وَكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ مَبَاحِثَ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَب ف 10 وَمَا بَعْدَهَا، وَلِعَان ف 25 وَمَا بَعْدَهَا، وَاسْتِلْحَاق ف2)
التَّضْحِيَةُ عَنِ الْوَلَدِ:
19 - الْوَلَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَى وَالِدِهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ وَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَالِدِهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، لأَِنَّ وَلَدَ الرَّجُل جُزْؤُهُ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَعَنْهُ: لاَ تَجِبُ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ، لأَِنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْقُرْبَةُ لاَ تَجِبُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ) (1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ) (2) بِخِلاَفِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا مَؤُونَةٌ، وَسَبَبُهَا رَأَسُ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ،
__________
(1) سورة النجم 39.
(2) سورة البقرة 286.(45/196)
وَصَارُوا كَالْعَبِيدِ يُؤَدَّى عَنْهُمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلاَ يُضَحَّى عَنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ.
ثُمَّ عَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ الْوُجُوبِ يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مِنْ مَال نَفْسِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ، خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَهُوَ نَظِيرُ الاِخْتِلاَفِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقِيل: الأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ فِي مَال الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا قُرْبَةٌ فَلاَ يُخَاطَبُ بِهَا، بِخِلاَفِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ الإِْرَاقَةُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَال الصَّبِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْل جَمِيعِهَا عَادَةً وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَلاَ تَجِبُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا تَجِبُ وَلاَ يُتَصَدَّقُ بِهَا لأَِنَّهُ تَطَوُّعٌ، وَلَكِنْ يَأْكُل مِنْهَا الصَّغِيرُ وَعِيَالُهُ، وَيَدَّخِرُ لَهُ مَا يُمْكِنُهُ، وَيَبْتَاعُ لَهُ بِالْبَاقِي مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ فِي الْجَلَدِ، وَالْجَدُّ مَعَ الْحَفَدَةِ كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْنْسَانِ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ حَتَّى
__________
(1) الاختيار 5 16.(45/197)
يَبْلُغَ الذَّكَرُ، وَيَدْخُل بِالأُْنْثَى زَوْجُهَا، وَيُخَاطَبُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ بِفِعْلِهَا عَنْهُ مِنْ مَال الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيُقْبَل قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُقْبَل فِي زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُخَاطَبُ الأَْبُ بِهَا عَمَّنْ وُلِدَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لاَ عَمَّنْ فِي الْبَطْنِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْل وَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلأَْبِ وَالْجَدِّ التَّضْحِيَةُ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِمَا، كَمَا أَنَّ لَهُ إِخْرَاجَ فِطْرَتِهِ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، لأَِنَّ فِعْلَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ دُونَ غَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يُسْتَقَل بِتَمْلِيكِهِ فَتَضْعُفُ وِلاَيَتُهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ التَّضْحِيَةِ. (2)
الْعَقِيقَةُ عَنِ الْوَلَدِ
20 - الْعَقِيقَةُ: مَا يُذَكَّى عَنِ الْوَلَدِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ وَشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُبَاحَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقِيقَة ف4 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 118، والزرقاني 2 35، والتاج والإكليل 3 238، 239.
(2) نهاية المحتاج 8 136، ومغني المحتاج 4 292.(45/197)
خِتَانُ الْوَلَدِ:
21 - الْخِتَانُ: اسْمٌ مِنَ الْخَتْنِ: وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، وَالنَّوَاةِ مِنَ الأُْنْثَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى وُجُوبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى سُنِّيَتَهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِتَان ف2 وَمَا بَعْدَهَا)
تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ:
22 - بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الأَْسْمَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْمِيَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
حَضَانَةُ الْوَلَدِ:
23 - الْحَضَانَةُ هِيَ حِفْظُ مَنْ لاَ يَسْتَقِل بِأُمُورِهِ وَتَرْبِيَتُهُ بِمَا يُصْلِحُهُ.
وَبَيَّنَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَهَا وَالْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطَ اسْتِحْقَاقِهَا، وَحُكْمَ طَلَبِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، وَوَقْتَ انْتِهَائِهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
إِرْضَاعُ الْوَلَدِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ الْمَوْلُودِ إِذَا كَانَ فِي سِنِّ الرَّضَاعِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ.(45/198)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ رَضَاعٍ (ف 3 - 6، خُلْع ف 25)
نَفَقَةُ الْوَلَدِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ تَجِبُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ عَلَى أَبِيهِ بِشُرُوطٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة ف 54 58)
تَعْلِيمُ الْوَلَدِ:
26 - يَلْزَمُ الْوَالِدَيْنِ تَعْلِيمُ الْوَلَدِ فِي صِغَرِهِ كُل مَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَمَا تَصِحُّ بِهِ عِبَادَتُهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعَلُّم وَتَعْلِيم ف 11، وَوِلاَيَة)
تَأْدِيبُ الْوَلَدِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الْوَلَدِ لِتَرْكِهِ الصَّلاَةَ وَالطَّهَارَةَ، وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيب ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وِلاَيَة)
طَاعَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبِرُّهُمَا:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ(45/198)
يُطِيعَ وَالِدَيْهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَبَرَّهُمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بِرِّ الْوَالِدَيْنِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) وَطَاعَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ فِي تَرْكِ النَّوَافِل أَوْ قَطْعِهَا أَوْ تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 10 12)
دُعَاءُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ:
29 - دُعَاءُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا يَحْصُل ثَوَابُهُ لِلْوَالِدِ، لأَِنَّ عَمَل وَلَدِهِ مِنْ جُمْلَةِ عَمَلِهِ لِتَسَبُّبِهِ فِي وُجُودِهِ لِحَدِيثِ: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، (1) حَيْثُ جَعَل دُعَاءَ الْوَلَدِ مِنْ عَمَل الْوَالِدِ. قَال الشَّرْوَانِيُّ: أَوْ لأَِنَّ ثَوَابَ الدُّعَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ شَرْعًا لِلْوَلَدِ، وَالْوَالِدُ يَحْصُل لَهُ ثَوَابٌ فِي الْجُمْلَةِ لأَِنَّهُ سَبَبٌ لِصُدُورِ هَذَا الْعَمَل فِي الْجُمْلَةِ. (2)
كَرَاهَةُ أَنْ يَدْعُوَ الْوَلَدُ أَبَاهُ بِاسْمِهِ:
30 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل أَبَاهُ بِاسْمِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ كَيَا سَيِّدِي وَنَحْوِهِ لِمَزِيدِ حَقِّهِ عَلَى الْوَلَدِ، وَلَيْسَ
__________
(1) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله. . . " أخرجه مسلم (3 1255 ـ ط الحلبي، من حديث أبي هريرة.
(2) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 7 73، والقليوبي 3 175.(45/199)
هَذَا مِنَ التَّزْكِيَةِ، لأَِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَدْعُوِّ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا يُفِيدُهَا، لاَ إِلَى الدَّاعِي الْمَطْلُوبُ مِنْهُ التَّأَدُّبَ مَعَ مَنْ فَوْقَهُ. (1)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِوَلَدِ الشَّخْصِ وَتِلْمِيذِهِ وَغُلاَمِهِ أَنْ لاَ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِهِ وَلَوْ فِي الْمَكْتُوبِ. (2)
نَهْيُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دُعَائِهِ عَلَى وَلَدِهِ:
31 - نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الإِْنْسَانُ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَل فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ. (3)
وَقَال الشَّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الْوَالِدُ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْوَلَدِ تَأْدِيبَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِفَادَتُهُ جَازَ كَضَرْبِهِ، بَل أَوْلَى. (4)
تَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطِيَّةِ.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 269.
(2) مغني المحتاج 4 295، وتحف وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 9 374، وفتاوى الرملي بهامش الفتاوى الفقهية الكبرى 4 322،323.
(3) حديث: " لا تدعوا على أنفسكم. . . " أخرجه مسلم (4 2304 ـ ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2 88.(45/199)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِدِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُبَارَكِ وَطَاوُوسٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْعَطِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَة ف 11)
تَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ فِي الْمَحَبَّةِ:
33 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَفْضِيل بَعْضِ الأَْوْلاَدِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَحَبَّةِ، لأَِنَّهَا عَمَل الْقَلْبِ. (1)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُحِبَّة ف 8)
هِبَةُ الأَْبِ لِوَلَدِهِ شَيْئًا مَشْغُولاً:
34 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمَشْغُول لاَ تَجُوزُ، كَأَنْ وَهَبَ الأَْبُ لِطِفْلِهِ دَارًا وَالأَْبُ يَسْكُنُهَا أَوْ لَهُ فِيهَا مَتَاعٌ، لأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعِ الْقَابِضِ.
وَفِي الْخَانِيَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ تَجُوزُ، وَيَصِيرُ قَابِضًا لاِبْنِهِ.
وَتَصِحُّ كَذَلِكَ هِبَةُ الدَّارِ الْمُعَارَةِ، فَلَوْ وَهَبَ طِفْلَهُ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا قَوْمٌ بِغَيْرِ أَجْرٍ جَازَ، وَيَصِيرُ
__________
(1) الدر المختار 4 513.(45/200)
قَابِضًا لاِبْنِهِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِأَجْرٍ فَلاَ يَجُوزُ. (1)
الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الأَْبِ عَنْ هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (هِبَة ف 39 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ:
36 - إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى دُخُول أَوْلاَدِهِ الصُّلْبِيِّينَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُول أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 510، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 270، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 262.
(2) بدائع الصنائع 6 132 ـ133، ومواهب الجليل 6 64، وشرح المحلي 3 113، والمغني 5 682 ـ683.(45/200)
دُخُول الْوَلَدِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ:
37 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى رَجُلٌ لأَِقَارِبِهِ، أَوْ لأَِقَارِبَ فَلاَنٍ، دَخَل أَقَارِبُهُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنْ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلاَ يَدْخُل الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ، وَأَمَّا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ فَيَدْخُل فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَانَ لَهُ أَقَارِبُ لأَِبِيهِ لاَ يَرِثُونَ اخْتُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ يَرِثُونَ فَلاَ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ لأَِبٍ غَيْرُ وَارِثِينَ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَخْتَصُّ بِأَقَارِبِهِ لأُِمِّهِ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَدْخُل الأَْوْلاَدُ لأَِنَّهُمْ يَرِثُونَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ دُخُول الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدِ، أَمَّا الْجَدُّ وَالأَْحْفَادُ فَيَدْخُلُونَ لِشُمُول الاِسْمِ لَهُمْ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، يَدْخُل الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ؛ لأَِنَّهُمَا يَدْخُلاَنِ فِي الْوَصِيَّةِ لأَِقْرَبِ الأَْقَارِبِ فَكَيْفَ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الأَْقَارِبِ؟ قَال السُّبْكِيُّ: وَهَذَا أَظْهَرُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَدْخُل أَحَدٌ مِنَ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ.(45/201)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَصَّى لأََقْرَبِ أَقَارِبِهِ دَخَل الأَْصْل وَالْفَرْعُ أَيِ الأَْبَوَانِ وَالأَْوْلاَدُ. (1)
عَطِيَّةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ:
38 - يُسَنُّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَعْدِل فِي الْعَطِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْكَلاَمِ وَالتَّوَدُّدِ لِوَالِدَيْهِ، قَال الدَّارِمِيُّ: فَإِنْ فَضَّل، فَلْيُفَضِّل الأُْمَّ. (2)
(ر: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 4 5)
اسْتِئْذَانُ الْوَالِدَيْنِ لِلسَّفَرِ:
39 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُل سَفَرٍ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلاَكُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ، فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنْ وَالِدَيْهِ؛ لأَِنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ، وَكُل سَفَرٍ لاَ يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِل لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، إِذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا، لاِنْعِدَامِ الضَّرَرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 9، وَاسْتِئْذَان ف 29)
إِذْنُ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ فِي الْجِهَادِ:
40 - لاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَْبَوَيْنِ
__________
(1) ابن عابدين 5 439، والمحلي 3 170، ومغني المحتاج 3 63، والدسوقي 4 432، والإنصاف 7 244، وكشاف القناع 4 364.
(2) المحلي على المنهاج 3 113.(45/201)
الْمُسْلِمَيْنِ أَوْ بِإِذْنِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ الآْخَرُ كَافِرًا، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، كَأَنْ يَنْزِل الْعَدُوُّ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 11، جِهَاد ف 11 - 12)
أَخْذُ الأَْبَوَيْنِ مِنْ مَال وَلَدِهِمَا:
41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ. (1)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا احْتَاجَ الأَْبُ إِلَى مَال وَلَدِهِ، فَإِنْ كَانَا فِي الْمِصْرِ وَاحْتَاجَ الْوَالِدُ لِفَقْرِهِ أَكَل بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَا فِي الْمَفَازَةِ وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ لاِنْعِدَامِ الطَّعَامِ مَعَهُ فَلَهُ الأَْكْل بِالْقِيمَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكُهُ مَعَ حَاجَةِ الأَْبِ إِلَى مَا يَأْخُذُهُ وَمَعَ عَدَمِهَا، صَغِيرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ كَبِيرًا بِشَرْطَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يُجْحِفَ بِالاِبْنِ وَلاَ يَضُرَّ بِهِ، وَلاَ يَأْخُذَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ فَيُعْطِيهِ وَلَدَهُ الآْخَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 513، والدسوقي 2 522، ومغني المحتاج 3 446، وأحكام القرآن لابن العربي 3 1391.
(2) حاشية ابن عابدين 4 513.(45/202)
سَعِيدٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِالْعَطِيَّةِ مِنْ مَال نَفْسِهِ فَلأََنْ يُمْنَعَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ الآْخَرِ أَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِصَدَاقٍ عَشَرَةِ آلاَفٍ فَأَخَذَهَا وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، وَقَال لِلزَّوْجِ: جَهِّزِ امْرَأَتَكَ.
وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ. (1)
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَال: إِنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ لِي مَالاً وَعِيَالاً، وَإِنَّ لأَِبِي مَالاً وَعِيَالاً، وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ " (2) ، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل الْوَلَدَ مَوْهُوبًا لأَِبِيهِ فَقَال: ( {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ) (3) ، وَقَال: ( {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} ) (4) ، وَقَال زَكَرِيَّا:
__________
(1) حديث: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. . . " أخرجه الترمذي (3 630 ـ ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أنت ومالك لأبيك. . . " أخرجه ابن ماجه (2 769 ـ ط الحلبي) والطحاوي في مشكل الآثار (2 230 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، والسياق للطحاوي، وصحح البوصيري إسناده في مصباح الزجاجة (2 25 ـ ط دار الجنان) .
(3) سورة الأنعام 34.
(4) سورة الأنبياء 90.(45/202)
( {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} ) (1) ، وَقَال إِبْرَاهِيمُ: ( {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ} ) (2) ، وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ كَعَبْدِهِ. (3)
وَفِي مَسَائِل الإِْمَامِ أَحْمَدَ لاِبْنِ هَانِئٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: كُل شَيْءٍ يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ فَيَقْبِضُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُل وَيَعْتِقَ، وَسُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَسْرِقُ الْوَالِدُ مِنْ مَال وَلَدِهِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؟ قَال: لاَ يُقَال سَرَقَ، لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلاَ يُقْطَعُ.
وَقَال أَيْضًا: يَأْخُذُ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ لِحَدِيثِ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ. (4)
وَقَال أَيْضًا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال وَلَدِهِ مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِسَرَفٍ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْقُوتَ.
وَسُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ تَتَصَدَّقُ مِنْ مَال ابْنِهَا؟ قَال: لاَ تَتَصَدَّقُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (5)
الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ:
42 - الْوَلَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَضِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَطِيمًا.
__________
(1) سورة مريم 5.
(2) سورة إبراهيم 39.
(3) المغني 5 678 - 679، 236.
(4) حديث: " أنت ومالك لأبيك " تقدم تخريجه ف41.
(5) مسائل الإمام أحمد لابن هانئ 2 11،12.(45/203)
فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ فَطِيمًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَةِ هَذَا الْوَلَدِ إِذَا وَقَّتَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، لأَِنَّ نَفَقَتَهُ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، وَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، لأَِنَّهُ يَأْكُل مُدَّةَ عُمُرِهِ، فَلاَ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِدُونِ تَوْقِيتٍ لِلْجَهَالَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَكَذَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَنَفَقَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِرْضَاعُهُ أَيْضًا، سَوَاءٌ وَقَّتَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ لَمْ يُوَقِّتَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الاِتِّفَاقِ عَلَى وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، تُرْضِعُهُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، إِنْ كَانَ الْخُلْعُ عِنْدَ وِلاَدَتِهِ أَوْ إِلَى تَتِمَّةِ الْحَوْلَيْنِ إِنْ مَضَى مِنْهُمَا شَيْءٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ) (1) وَحَدِيثِ: لاَ رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ (2) أَيِ الْعَامَيْنِ، فَحُمِل الْمُطْلَقُ مِنْ كَلاَمِ الآْدَمِيِّ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ شَرْعًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ الْخُلْعُ إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ مَهْرُ الْمِثْل لِفَسَادِ الْعِوَضِ.
وَلَوْ عَادَ الزَّوْجُ وَتَزَوَّجَهَا، أَوْ هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ، أَوْ مَاتَتْ، أَوْ مَاتَ الْوَلَدُ خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ
__________
(1) سورة البقرة 233.
(2) حديث: " لا رضاع بعد فصال. . . " أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2 159 ـ ط المكتب الاسلامي) من حديث علي بن أبي طالب.(45/203)
عَلَيْهَا أَوْ خِلاَل مُدَّةِ الرَّضَاعِ رَجَعَ الزَّوْجُ بِبَقِيَّةِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ. لأَِنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْل قَبْضِهِ فَوَجَبَ بَدَلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى قَفِيزٍ فَتَلِفَ قَبْل قَبْضِهِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ رُجُوعَهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ أَوْ شَرْطٌ يَقْضِي بِعَدَمِ رُجُوعِهِ فَيَعْمَل بِهِمَا، وَيُقَدِّمُ الشَّرْطَ عَلَى الْعُرْفِ إِذَا تَعَارَضَا. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خُلْع ف 25)
الْخُلْعُ عَلَى حَضَانَةِ الْوَلَدِ:
43 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُمِّهِ مَا كَانَ إِلَيْهَا مُحْتَاجًا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْفُقَهَاءُ الثَّلاَثَةُ أَبُو اللَّيْثِ وَالْهِنْدُوَانِيُّ وَخَوَاهَرْ زَادَهْ قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَإِنْ لَمْ يُوجِدْ غَيْرَهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْوَلَدُ ثَدْيَ غَيْرِهَا أُجْبِرَتْ بِلاَ خِلاَفٍ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْخُلْعُ عَلَى إِسْقَاطِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 567، وشرح منتهى الارادات 3 111، والشرح الصغير 2 521، والخرشي 4 23، والدسوقي 2 357، وروضة الطالبين 7 399، والكافي 3 156، والمغني 7 64،65، وأسنى المطالب 3 252.
(2) البحر الرائق 4 180، ورد المحتار على الدر المختار 2 636، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 3 47، وفتح القدير 4 368.(45/204)
حَضَانَةِ الأُْمِّ لِوَلَدِهَا لأَِبِيهِ، وَيَنْتَقِل الْحَقُّ فِي الْحَضَانَةِ لِلأَْبِ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ قَبْلَهُ. وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِأَنْ لاَ يَخْشَى عَلَى الْمَحْضُونِ ضَرَرًا مَا بِعُلُوقِ قَلْبِهِ بِأُمِّهِ، أَوْ لِكَوْنِ مَكَانِ الأَْبِ غَيْرَ حَصِينٍ، وَإِلاَّ فَلاَ تَسْقُطُ الْحَضَانَةُ حِينَئِذٍ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَسْقُطُ حَضَانَةُ الأُْمِّ بِنِكَاحِ غَيْرِ أَبِي الطِّفْل لَوِ اخْتَلَعَتْ بِالْحَضَانَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَنُكِحَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ لاَزِمَةٌ. (2)
مِيرَاثُ الْوَلَدِ:
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْرِيثِ الْوَلَدِ مِنْ وَالِدَيْهِ، وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ وَلَدِهِمَا بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 26،39، 45)
مِيرَاثُ وَلَدِ الزِّنَى:
45 - وَلَدُ الزِّنَى هُوَ: الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ مِنْ سِفَاحٍ لاَ مِنْ نِكَاحٍ، وَهَذَا الْوَلَدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ وَيَرِثُ بِجِهَتِهَا فَقَطْ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف125)
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 2 349، والشرح الصغير 2 522.
(2) مغني المحتاج 3 455، ونهاية المحتاج 7 218.(45/204)
مِيرَاثُ وَلَدِ اللِّعَانِ:
46 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلَدَ اللِّعَانِ لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلاَعِنِ، لاِنْتِفَاءِ نَسَبِهِ مِنْهُ وَلُحُوقِهِ بِأُمِّهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 126)
النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ:
47 - مَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي فَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلاَدٌ لَزِمَهُ مَكَانَ كُل وَلَدٍ شَاةٌ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (1) وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ نَذَرَ ذَبْحَ الْوَلَدِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ ذَبْحُ وَلَدِي لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. (4)
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ نَحْرَ وَلَدِهَا وَلَهَا ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ: تَذْبَحُ عَنْ كُل وَاحِدٍ كَبْشًا وَتُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهَا. وَهَذَا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ كَفَّارَةَ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ كَبْشٌ، فَجُعِل عَنْ كُل وَاحِدٍ، لأَِنَّ لَفْظَ
__________
(1) فتح القدير 2 335.
(2) الشرح الكبير مع المغني 11 338.
(3) حاشية الدسوقي 2 171.
(4) مغني المحتاج 4 371.(45/205)
الْوَاحِدِ إِذَا أُضِيفَ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ فَكَانَ عَنْ كُل وَاحِدٍ كَبْشٌ، فَإِنْ عَيَّنَتْ بِنَذْرِهَا وَاحِدًا فَإِنَّمَا عَلَيْهَا كَبْشٌ وَاحِدٌ، بِدَلِيل أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ الْوَاحِدِ فَدَى بِكَبْشٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَفْدِ غَيْرَ مَنْ أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنْ أَوْلاَدِهِ، كَذَا هَهُنَا، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَمَّا نَذَرَ ذَبْحَ ابْنٍ مِنْ بَنِيهِ إِنْ يَبْلُغُوا عَشَرَةً لَمْ يَفْدِ مِنْهُمْ إِلاَّ وَاحِدًا.
وَسَوَاءٌ نَذَرْتَ مُعَيَّنًا أَوْ عَيَّنْتَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ. (1)
شَقُّ بَطْنِ الْمَيْتَةِ لإِِخْرَاجِ وَلَدِهَا:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَقِّ بَطْنِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لإِِخْرَاجِ وَلَدِهَا قَبْل مَوْتِهِ.
فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى شَقِّ بَطْنِهَا وَإِخْرَاجِ الْوَلَدِ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِز ف 9) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا مِنْ أَحْكَامٍ:
49 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ أَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِهِ حَيَاتُهُ أَخَذَ حُكْمَ الأَْحْيَاءِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا وُلِدَ مَيِّتًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَلَدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَتَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَالدَّمُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ، وَيَقَعُ
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 11 338.(45/205)
بِهِ الْمُعَلَّقُ عَلَى وِلاَدَتِهِ مِنْ طَلاَقٍ وَغَيْرِهِ. (1)
وَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ تَغْسِيلِهِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الإِْرْثَ وَالْوَصِيَّةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِرْث ف 112 113، وَتَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 25، وَجَنِين ف 10، 22، وَسَقْط ف 2، وَعِدَّة ف22 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِفَاس ف 7)
بَيْعُ الأَْبِ مَال وَلَدِهِ الْقَاصِرِ:
50 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يَبِيعَ مَال وَلَدِهِ الْقَاصِرِ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهِ، وَلأَِنَّهُ أَشْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ هَذَا لِلْجَدِّ (أَبُ الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ لَهُ الْوِلاَيَةَ عَلَى الْمَال عِنْدَهُمْ كَالأَْبِ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى مَال الْوَلَدِ، لأَِنَّهُ لاَ يُدْلِي بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُدْلِي بِالأَْبِ، فَهُوَ كَالأَْخِ وَالأُْمِّ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُمْ، لأَِنَّ الْمَال مَحَل الْخِيَانَةِ. (2) َالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة)
__________
(1) رد المحتار مع الدر المختار 3 110.
(2) البدائع 5 155، ومغني المحتاج 2 173،174، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 299،300، والإقناع 2 223، وكشاف القناع 3 447، والزرقاني على الموطأ 5 279، 298، وجامع أحكام الصغار بهامش جامع الفصولين 1 189 ـ 191، وجامع الفصولين 2 15.(45/206)
بَيْعُ الْوَكِيل مَال مُوَكِّلِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ شِرَاؤُهُ لَهُ:
51 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بِيعِ الْوَكِيل مَا وُكِّل عَلَى بَيْعِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ شِرَائِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ مَال مُوَكِّلِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لَهُ كَالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الْمَيْل إِلَيْهِ كَمَا يُتَّهَمُ فِي الْمَيْل إِلَى نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ الْوَاحِدَ فِي بَابِ الْبَيْعِ إِذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى تَضَادِّ الأَْحْكَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَرِدًا مُسْتَقْضِيًا، قَابِضًا مُسَلِّمًا، مُخَاصِمًا فِي الْعَيْبِ وَمُخَاصَمًا، بَل قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْوَكِيل مَال مُوَكِّلِهِ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ شِرَائِهِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لَهُ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لاِتِّصَال مَنْفَعَةِ مِلْكِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، ثُمَّ لاَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ، فَلاَ يَمْلِكُهُ لَهُ. وَلأَِنَّ الْوَكِيل مُتَّهَمٌ فِي الْمَيْل إِلَيْهِ كَمَا يُتَّهَمُ فِي الْمَيْل إِلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَتَهُ لَهُ كَمَا لاَ تُقْبَل شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ بِمِثْل الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ لَهُ(45/206)
وَمِنَ الأَْجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل فِيمَا يَشْتَرِي وَلَدُهُ مِلْكٌ وَلاَ حَقُّ مِلْكٍ، فَجَازَ بَيْعُهُ لَهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ يَجُوزُ الْبَيْعُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لَهُ مَالَهُ هُوَ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ مَال مُوَكِّلِهِ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالُوا بِالْجَوَازِ وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَزِيدَ الْوَكِيل عَلَى مِقْدَارِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي النِّدَاءِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ شَخْصٌ آخَرُ غَيْرُ الْوَكِيل، وَقِيل: أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ يَبِيعُ وَيَكُونُ هُوَ أَحَدُ الْمُشْتَرِينَ.
وَأَجَازُوا ذَلِكَ أَيْضًا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ.
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ إِذَا قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِعُمُومِ الْمَشِيئَةِ بِأَنْ قَال لِلْوَكِيل: اصْنَعْ مَا شِئْتَ جَازَ لَهُ الْبَيْعُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الأَْمْرَ إِلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ لَهُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَكُونُ نَصًّا فِي كُل مَا يَتَنَاوَلُهُ.
وَكَذَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّل(45/207)
بِالْبَيْعِ لَهُ أَوْ أَجَازَ لَهُ مَا صَنَعَ جَازَ. (1)
شِرَاءُ الرَّجُل لِنَفْسِهِ مِنْ مَال وَلَدِهِ الطِّفْل، وَشِرَاؤُهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ:
52 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال ابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ، وَأَنْ يَبِيعَ لَهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة)
قَبْضُ الأَْبِ الْمَال الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ وَالْعَكْسُ:
53 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْبُ إِذَا بَاعَ مَالَهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لاَ يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَال قَبْل أَنْ يَصِيرَ بِحَالٍ يَتَمَكَّنُّ مِنَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً هَلَكَ عَلَى الْوَالِدِ، وَالثَّمَنُ الَّذِي لَزِمَ بِشِرَاءِ مَال وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ لاَ يَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى يُنَصِّبَ الْقَاضِي وَكِيلاً عَنِ الصَّغِيرِ فَيَقْبِضُهُ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ وَدِيعَةً مِنَ ابْنِهِ فِي يَدِهِ. وَفِيمَا لَوْ بَاعَ دَارَهُ مِنَ ابْنِهِ
__________
(1) البدائع 7 3465، 3466، المبسوط 19 32، والكنز 4 270، والفتاوى الهندية 3 589، وتكملة فتح القدير 8 73،74، وشرح الخرشي 6 77، والشرح الكبير 3 387، والمهذب 1 359، ومغني المحتاج 2 225، والمغني 5 117، وكشاف القناع 2 448.
(2) المغني لابن قدامة 7 233، 234 ط هجر، والمجموع 10 1، 13 565، ومغني المحتاج 2 175، والبدائع 5 154، وحاشية ابن عابدين 4 18، والقوانين الفقهية ص 326.(45/207)
وَهُوَ فِيهَا سَاكِنٌ لاَ يَصِيرُ الاِبْنُ قَابِضًا حَتَّى يُفَرِّغَهَا الأَْبُ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُهَا إِلَى أَمِينِ الْقَاضِي. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَتْ يَدُ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَعَ الْقَبْضُ بِالنِّيَّةِ كَقَبْضِ الأَْبِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ مَال وَلَدِهِ إِذَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بَاعَ مَال وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ فِي عِقْدِ الصَّرْفِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَفَارَقَ مَجْلِسَهُ ذَاكَ وَلَمْ يَحْصُل الْقَبْضُ، بَطَل الْعَقْدُ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ إِذَا فَارَقَ الْمَجْلِسَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ. وَقِيل: لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِاخْتِيَارِ اللُّزُومِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ قَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ أَنْ يَقْبِضَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَبْطُل الْخِيَارُ بِاخْتِيَارِ اللُّزُومِ، قَالَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَفِي وَجْهٍ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ مَجْلِسٍ أَصْلاً، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ، فَإِذَا فَارَقَهُ بَطَل، قَالَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ. (3) َقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يُوجِبَ وَيَقْبَل وَيَقْبِضَ مَا يَبِيعُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال وَلَدِهِ لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 174.
(2) تنقيح الفصول وشرحه للقرافى ص 456.
(3) المجموع 10 16 ـ 17.(45/208)
أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ. (1)
وِلاَيَةُ الْوَلَدِ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
54 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِكُل وَرَثَةِ الْمَقْتُول صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي (قِصَاص ف 26، 29)
قَتْل الْوَلَدِ:
55 - يَحْرُمُ قَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( {قُل تَعَالَوْا أَتْل مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ) (2) ، وَقَال تَعَالَى: ( {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ) (3) ، وَقَال: ( {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْل أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ} ) (4) .
قَال الشَّافِعِيُّ (5) : كَانَ بَعْضُ الْعَرَبُ تَقْتُل الإِْنَاثَ مِنْ وَلَدِهَا صِغَارًا خَوْفَ الْعَيْلَةَ عَلَيْهِمْ وَالْعَارَ بِهِمْ، فَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ، دَل عَلَى
__________
(1) المغني 8 255 ط هجر.
(2) سورة الأنعام 151.
(3) سورة التكوير 8 ـ 9.
(4) سورة الأنعام 137.
(5) الأم 6 3.(45/208)
تَثْبِيتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْل أَطْفَال الْمُشْرِكِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مَعَ مَا دَل عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ قَال تَعَالَى: ( {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ) (1) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ فَقَال: " أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لِعَظِيمٌ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَال: " ثُمَّ أَنْ تَقْتُل وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يُطْعَمَ مَعَكَ " (2) .
56 - فَإِذَا قَتَل الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، فَالْوَالِدُ لاَ يُقَادُ بِوَلَدِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَالْجَدُّ لاَ يُقَادُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ. (3)
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يُقَادُ الأَْبُ بِالاِبْنِ إِلاَّ أَنْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ أَوْ يَبْقُرَ بَطْنَهُ، فَأَمَّا إِذَا حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْعَصَا فَقَتَلَهُ لَمْ يُقْتَل بِهِ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ مَعَ حَفِيدِهِ. (4)
__________
(1) سورة الأنعام 140.
(2) حديث: " أي الذنب أعظم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 491 ـ ط السلفية) ومسلم (1 90 ـ ط الحلبي) .
(3) البدائع 7 235، والمبسوط 26 91، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 6 105، وحاشية الدسوقي 4 242، ونهاية المحتاج 7 258، ومغني المحتاج 4 15، وحاشية البحيرمي 4 138، والمغني 7 666، ومنتهى الإرادات 2 403، وكشاف القناع 5 527، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 250.
(4) حاشية الدسوقي 4 238.(45/209)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص ف 17، 22) .
قَتْل الْوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ:
57 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل الْوَلَدُ بِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْوَالِدَيْنِ لِعُمُومِ الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، ثُمَّ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدُ بِالنَّصِّ الْخَاصِّ فَبَقِيَ الْوَلَدُ دَاخِلاً تَحْتَ الْعُمُومِ، وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لاَ فِي جَانِبِ الْوَالِدِ، لأَِنَّ الْوَالِدَ يُحِبُّ وَلَدَهُ لِوَلَدِهِ لاَ لِنَفْسِهِ بِوُصُول النَّفْعِ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ يُحِبُّهُ لِحَيَاةِ الذَّكَرِ لِمَا يَحْيَى بِهِ ذِكْرُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ شَفَقَةٍ تَمْنَعُ الْوَالِدَ عَنْ قَتْلِهِ، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّمَا يُحِبُّ وَالِدَهُ لاَ لِوَالِدِهِ بَل لِنَفَسِهِ، وَهُوَ وُصُول النَّفْعِ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ وَشَفَقَتُهُ مَانِعَةً مِنَ الْقَتْل، فَلَزِمَ الْمَنْعُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ كَمَا فِي الأَْجَانِبِ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَجْل مَنَافِعَ تَصِل إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لاَ لِعَيْنِهِ، فَرُبَّمَا يَقْتُل الْوَالِدَ لِيَتَعَجَّل الْوُصُول إِلَى أَمْلاَكِهِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ لاَ يَصِل النَّفْعُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لِعَوَارِضَ، وَلَكِنْ مِثْل هَذَا يَنْدُرُ فِي جَانِبِ الأَْبِ، وَأَنَّ الأَْبَ أَعْظَمُ حُرْمَةً وَحَقًّا مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، فَإِذَا قُتِل(45/209)
بِالأَْجْنَبِيِّ فَبِالأَْبِ أَوْلَى، وَأَنَّهُ يُحَدُّ بِقَذْفِهِ فَيُقْتَل بِهِ كَالأَْجْنَبِيِّ، كَمَا أَنَّهُ قَطَعَ الرَّحِمَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهَا وَوَضَعَ الإِْسَاءَةَ مَوْضِعَ الإِْحْسَانِ فَهُوَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الاِبْنَ لاَ يُقْتَل بِأَبِيهِ؛ لأَِنَّ الأَْبَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ بِحَقِّ النَّسَبِ، فَلاَ يُقْتَل بِهِ كَالأَْبِ مَعَ ابْنِهِ. (1)
قَتْل الْوَالِدِ الْوَلَدَ الْبَاغِيَ وَالْعَكْسُ:
58 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْعَدْل تَعَمُّدُ قَتْل أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، فَإِذَا قُتِل أَحَدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَال لِضَرُورَةِ الْقِتَال فَلاَ يُضْمَنُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَل الْبَاغِي أَحَدَ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدَهُ فَلاَ يَضْمَنُ.
أَمَّا لَوْ قَتَل الْعَادِل أَوِ الْبَاغِي أَحَدَ وَالِدَيْهِ أَوْ وَلَدَهُ فِي غَيْرِ الْقِتَال أَوْ فِي الْقِتَال وَلَكِنْ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ الْقِتَال فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْبَاغِيَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى الْعَادِل؛ لأَِنَّهُمَا فِرْقَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُحِقَّةٌ وَمُبْطِلَةٌ، فَلاَ يَسْتَوِيَانِ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ. (2)
__________
(1) تبين الحقائق 6 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 252، ومغني المحتاج 4 18، والإنصاف 9 474، والمغني 7 670 ـ 671.
(2) البدائع 7 141، وابن عابدين 3 311، وفتح القدير 4 414، وتبيين الحقائق 3 276، وحاشية الدسوقي 4 300، التاج والإكليل 6 279، الشرح الصغير 4 429، والمهذب 2 220، ونهاية المحتاج 7 387، وكشاف القناع 6 163، والمغني 8 118، ومغني المحتاج 4 125.(45/210)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بُغَاة ف 26)
شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ:
59 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلاَ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة ف 26)
دُخُول الْوَلَدِ فِي الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَتَحَمَّل الدِّيَةَ:
60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول الْوَلَدِ فِي الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَتَحَمَّل الدِّيَةَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل الأَْبْنَاءُ وَالآْبَاءُ فِي الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّل الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّ الأَْبْنَاءَ وَالآْبَاءَ لاَ يَدْخُلُونَ فِي الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّل الدِّيَةِ عَنِ الْجَانِي. (1)
__________
(1) المبسوط 27 127، وتكملة فتح القدير 10 399، منح الجليل 4 424، بداية المجتهد 2 449، والمغني 9 516، ومنتهى الارادات 3 327، ومغني المحتاج 4 95، 96، والأم 6 101، والمغني مع الشرح الكبير 9 514،515، والإنصاف 10 119.(45/210)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَاقِلَة ف 3)
سَرِقَةُ الْوَالِدِ مِنَ الْوَلَدِ وَالْعَكْسُ:
61 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَالِدِ مِنْ مَال وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ (2) وَفِي لَفْظٍ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ (3) وَلاَ يَجُوزُ قَطْعُ الإِْنْسَانِ بِأَخْذِ مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِهِ، وَلاَ أَخْذِ مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالاً لَهُ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَلأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَعْظَمُ الشُّبَهَاتِ أَخَذُ الرَّجُل مِنْ مَالٍ جَعَلَهُ الشَّرْعُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَأَكْلِهِ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ الأَْبُ بِسَرِقَةِ مَال ابْنِهِ (4) لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك. . . " تقدم تخريجه ف 41.
(2) حديث: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. . . " تقديم تخريجه ف41.
(3) حديث: " فكلوا من كسب أولادكم. . . " أخرجه أبو داود (3 802 ـ ط حمص) من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما.
(4) البدائع 7 70، وفتح القدير 5 381، والقليوبي وعميرة 4 188، وحاشية الدسوقي 4 337، وبداية المجتهد 2 490، ومغني المحتاج 4 162، وكشاف القناع 6 141، والمغني 12 459.(45/211)
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ) (1) .
62 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ يَدِ الْوَلَدِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال وَالِدِهِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَلَدِ مِنْ مَال وَالِدِهِ وَإِنْ عَلاَ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ، لأَِنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ تَمْنَعُ قَبُول شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَةِ مَالِهِ كَالأَْبِ، وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي مَال الأَْبِ لاِبْنِهِ حِفْظًا لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ حِفْظًا لِلْمَال، وَلأَِنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَلَهُ حَقُّ دُخُول بَيْتِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا شُبُهَاتٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ مَا قَطَعَ بِهِ الْخِرَقِيُّ وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَلأَِنَّهُ يُحَدُّ بِالزِّنَى مِنْ جَارِيَتِهِ، وَيُقَادُ بِقَتْلِهِ فَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ تُوجَدُ شُبْهَةٌ فِي عَلاَقَةِ الاِبْنِ بِأَبِيهِ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ. (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَرِقَة ف 15) .
__________
(1) سورة المائدة 38.
(2) فتح القدير 5 380، الفتاوى الهندية 2 181، والخرشي 8 96، والدسوقي 4 337، والزرقاني 8 98، والمدونة 6 276، ومغني المحتاج 4 162، المهذب 2 282، والمغني 12 460 (ط هجر) ، وكشاف القناع 6 141، وشرح منتهى الإرادات 3 371، والإنصاف 10 278.(45/211)
قَذْفُ الْوَالِدِ وَلَدَهُ:
63 - إِذَا قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ وَإِنْ سَفَل، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ الْوَالِدُ بِقَذْفِهِ لِوَلَدِهِ وَإِنْ نَزَل، وَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ قَتْلِهِ بِهِ، فَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ يُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى. (1)
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلإِْيذَاءِ، (2) وَكَذَلِكَ يُعَزَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَل بِشَتْمِ وَلَدِهِ يُعَزَّرُ عِنْدَهُمْ. (3)
64 - وَكَمَا لاَ يُحَدُّ بِقَذْفِ وَلَدِهِ لاَ يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ وَرِثَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ثُمَّ مَاتَتْ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ابْتِدَاءً لَمْ يَثْبُتْ لَهُ انْتِهَاءً كَالْقِصَاصِ، فَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَأَنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الاِسْتِيفَاءُ لأَِنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَسْتَوْفِيهِ، لِلُحُوقِ
__________
(1) فتح القدير 4 196،197، والدر المختار مع رد المحتار 3 172، وحاشية الدسوقي 4 331، ومغني المحتاج 4 156، وشرح منتهى الإرادات 3 350، 351.
(2) مغني المحتاج 4 156.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 172.(45/212)
الْعَارِ بِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ. (1)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلاِبْنِ أَنْ يُطَالِبَ بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ) (2) ، وَلأَِنَّهُ حَدٌّ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلاَدَةِ كَالزِّنَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حُدَّ الْوَالِدَانِ فَإِنَّ الاِبْنَ يُعْتَبَرُ فَاسِقًا وَلاَ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ.
(ر: قَذْف ف 48)
إِسْقَاطُ حَدِّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْوَلَدِ:
الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَلَدٌ لِلْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْحِرَابَةِ. لأَِنَّ بَيْنَ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ تَبَسُّطًا فِي الْمَال وَالْحِرْزِ، لِوُجُودِ الإِْذْنِ بِالتَّنَاوُل عَادَةً، فَإِذَا أَخَذَ الْقَاطِعُ الْمَال فَإِنَّهُ يَكُونُ آخِذًا لِمَالٍ لَمْ يَحْرِزْهُ عَنْهُ الْحِرْزُ الْمَبْنِيُّ فِي الْحَضَرِ، وَلاَ السُّلْطَانُ الْجَارِي فِي السَّفَرِ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَأُوا
__________
(1) مغني المحتاج 4 156، وشرح منتهى الإرادات 3 350، 351، والدر المختار، وابن عابدين 3 172، والمغني 8 219.
(2) سورة النور 4.(45/212)
الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإِْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ (1) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَخْذِ الْوَلَدِ مَال أَبِيهِ حِرَابَةً، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْقِصَاصَ عَلَى الْوَلَدِ إِذَا قَتَل وَالِدَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا كَمَا تَقَدَّمَ (ف 62) فَمِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا قَتَلَهُ حِرَابَةً فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ. (2)
وَانْظُرْ (حِرَابَة ف 10)
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَلَدِ الْحَيَوَانِ:
وَلَدُ الأُْضْحِيَةِ:
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَبْحِ وَلَدِ الأُْضْحِيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذَبْحُهُ مَعَهَا، وَقَال آخَرُونَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَة ف 47)
__________
(1) حديث: " ادرأوا الحدود عن المسلمين. . . " أخرجه الترمذي (4 33 ـ ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكر أن في إسناده راوياً ضعيفاً.
(2) البدائع 7 91، 92، حاشية ابن عابدين 3 214، والمغني 10 318، وشرح منتهى الإرادات 2 491، ومغني المحتاج 4 183، وكشاف القناع 6 150، والإنصاف 10 294، والدسوقي 4 350، وحاشية الباجوري 2 299، 363.(45/213)
وَلَدُ الشَّاةِ إِذَا كَانَ عَلَى صُورَةِ كَلْبٍ:
67 - شَاةٌ وَلَدَتْ وَلَدًا بِصُورَةِ الْكَلْبِ، فَأُشْكِل أَمْرُهُ، فَإِنْ صَاحَ مِثْل الْكَلْبِ لاَ يُؤْكَل، وَإِنْ صَاحَ مِثْل الشَّاةِ يُؤْكَل، وَإِنْ صَاحَ مِثْلَهُمَا يُوضَعُ الْمَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنْ شَرِبَ بِاللِّسَانِ لاَ يُؤْكَل لأَِنَّهُ كَلْبٌ، وَإِنْ شَرِبَ بِالْفَمِ يُؤْكَل، لأَِنَّهُ شَاةٌ، وَإِنْ شَرِبَ بِهِمَا جَمِيعًا يُوضَعُ التِّبْنُ وَاللَّحْمُ قِبَلَهُ، إِنْ أَكَل التِّبْنَ يُؤْكَل، لأَِنَّهُ شَاةٌ، وَإِنْ أَكَل اللَّحْمَ لاَ يُؤْكَل، وَإِنْ أَكْلَهُمَا جَمِيعًا يُذْبَحُ فَإِنْ خَرَجَ الأَْمْعَاءُ (أَيْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ أَمْعَاءً لاَ يُؤْكَل، وَإِنْ خَرَجَ الْكِرْشُ (أَيْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ كِرْشًا يُؤْكَل. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَلَدَتْ شَاةٌ كَلْبَةً وَلَمْ يَتَحَقَّقْ نَزْوُ كَلْبٍ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَحِل كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْصُل الْخَلْقُ عَلَى خِلاَفِ صُورَةِ الأَْصْل، لَكِنَّ الْوَرَعَ تَرْكُهَا. وَقَال آخَرُونَ: إِنْ كَانَ أَشْبَهَ بِالْحَلاَل خِلْقَةً حَل وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
خُرُوجُ الْوَلَدِ فِي حَال الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ:
68 - الْوَلَدُ الْخَارِجُ فِي حَال الْحَيَاةِ فِيهِ وَجْهَانِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 290، وتحفة المحتاج 9 383، ومغني المحتاج 4 303.(45/213)
لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ.
أَمَّا إِذَا انْفَصَل الْوَلَدُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهَا فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة)
لُحُوقُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ:
69 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَمْل يَتْبَعُ الأُْمَّ فِي الْبَيْعِ (2) فَوَلَدُ الإِْبِل أَوِ الْغَنَمِ إِذَا اشْتُرِيَتْ حَامِلاً، أَوْ حَمَلَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ بَعْدَ وِلاَدَتِهَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا يُرَدُّ وَلَدُهَا مَعَهَا وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي وِلاَدَتِهَا، إِلاَّ أَنْ تَنْقُصَهَا، فَيُرَدُّ مَعَهَا مَا نَقَصَهَا إِلاَّ أَنْ يُجْبَرَ بِالْوَلَدِ. (3)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَبَعِيَّة ف 2)
زَكَاةُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ.
__________
(1) المجموع 1 244.
(2) الحموي على ابن نجيم 1 154، والخرشي 5 71، والدسوقي 3 57، الأشباه والنظائر للسيوطي ص117، والمنثور 1 234، وكشاف القناع 3 166، والمحلي 2 295.
(3) شرح الزرقاني 5 152، والمحلي 2 295.(45/214)
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَحْشِيُّ هُوَ الْفَحْل أَمِ الأُْمَّ، لأَِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ مُتَوَلِّدٌ بَيْنَ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَبَيْنَ مَا لاَ تَجِبُ فِيهِ، فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوُجُوبِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالأَْهْلِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل تُضَمُّ إِلَى جِنْسِهَا مِنَ الأَْهْلِيِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَيُكَمَّل بِهَا نِصَابُهَا وَتَكُونُ كَأَحَدِ أَنْوَاعِهِ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الأُْمَّهَاتُ أَهْلِيَّةٌ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّ جَانِبَ الأُْمِّ فِي الْحَيَوَانِ هُوَ الرَّاجِحُ، لأَِنَّ وَلَدَ الْبَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّهُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ مِنْ قِبَل الْفَحْل أَمْ مِنْ قِبَل الأُْمِّ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْوُجُوبِ. (3)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف 42)
__________
(1) المغني 2 595، والدسوقي 1 432.
(2) البدائع 2 30، والدسوقي 1 432.
(3) مغني المحتاج 1 693، والجمل 2 219، والدسوقي 1 432.(45/214)
وَلَدُ الزِّنَى
التَّعْرِيفُ:
1 - يَتَرَكَّبُ الْمُصْطَلَحُ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ،هُمَا: وَلَدٌ، وَالزِّنَى.
فَالْوَلَدُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْلُودُ، يُقَال لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَوْلاَدٍ وَوِلْدَةٍ وَوَإِلْدَةٍ وَوُلْدٍ. (1) وَيُطْلَقُ الْوَلَدُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ نَزَل مَجَازًا، كَمَا يُطْلَقُ الْوَلَدُ مَجَازًا أَيْضًا عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الرَّضَاعِ.
(ر: ابْن ف 1، ابْنُ الاِبْنِ ف 1) وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْوَلَدِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
وَالزِّنَى فِي اللُّغَةِ: الْفُجُورُ. (3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: وَطْءُ
__________
(1) المصباح المنير، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 2 257، وقليوبي وعميرة 3 140 ـ 241.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.(45/215)
الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُل فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ. (1) (ر: إِرْث ف 125) وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَلَدِ الزِّنَى هُوَ: الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ مِنْ سِفَاحٍ لاَ مِنْ نِكَاحٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - وَلَدُ اللِّعَانِ:
2 - وَلَدُ اللِّعَانِ هُوَ: الْوَلَدُ الَّذِي نَفَى الزَّوْجُ نَسَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ مُلاَعَنَتِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ. (2) وَالصِّلَةُ بَيْنَ وَلَدِ اللِّعَانِ وَوَلَدِ الزِّنَى: انْقِطَاعُ نَسَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الأَْبِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل مُنْقَطِعٌ نَسَبُهُ عَنِ الأَْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْهُ بِخِلاَفِ الثَّانِي.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (لِعَان ف25 - 30.)
ب - اللَّقِيطُ:
3 - اللَّقِيطُ: اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ، أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ. (3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَوَلَدِ الزِّنَى: انْقِطَاعُ نَسَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الأَْبِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل مَجْهُول الأُْمِّ أَيْضًا بِخِلاَفِ الثَّانِي.
__________
(1) فتح القدير 5 31.
(2) المبسوط للسرخسي 1 209، وأنيس الفقهاء ص 188.
(3) المبسوط 10 209.(45/215)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَلَدِ الزِّنَى:
لِوَلَدِ الزِّنَى أَحْكَامٌ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِهَا مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلاَدِ، وَيَخْتَلِفُ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَنْهُمْ، كَمَا يَلِي:
أ - دِينُ وَلَدِ الزِّنَى:
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَتَّبِعُ خَيْرَ الأَْبَوَيْنِ دِينًا، وَيُشْعِرُ التَّعْبِيرُ بِالأَْبَوَيْنِ إِخْرَاجَ وَلَدِ الزِّنَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى الشِّهَابِ الشَّلَبِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَال: وَاقِعَةُ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا مُسْلِمٌ زَنَى بِنَصْرَانِيَّةٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فَهَل يَكُونُ مُسْلِمًا؟ أَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِإِسْلاَمِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ السُّبْكِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَطَعَ نَسَبَ وَلَدِ الزِّنَى، وَبِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى تَحِل لَهُ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْلِمًا؟ ، وَأَفْتَى قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنْبَلِيُّ بِإِسْلاَمِهِ أَيْضًا، ثُمَّ قَال: وَتَوَقَّفْتُ عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ النَّسَبِ عَنْ أَبِيهِ حَتَّى لاَ يَرِثَهُ، فَقَدْ صَرَّحُوا عِنْدَنَا بِأَنَّ بِنْتَهُ مِنَ الزِّنَى لاَ تَحِل لَهُ، وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لاِبْنِهِ مِنَ الزِّنَى، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، وَالَّذِي يَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا، وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا الأَْحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ احْتِيَاطًا نَظَرًا لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا.(45/216)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ: يَظْهَرُ لِيَ الْحُكْمُ بِالإِْسْلاَمِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ (1) ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ جَعَل اتِّفَاقَهُمَا نَاقِلاً لَهُ عَنِ الْفِطْرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا بَقِيَ عَلَى أَصْل الْفِطْرَةِ أَوْ عَلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيًا وَالآْخِرُ كِتَابِيًا فَهُوَ كِتَابِيٌّ، وَهُنَا لَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ مُتَّفِقَانِ فَيَبْقَى عَلَى الْفِطْرَةِ، وَلأَِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَوْ بِالْكِتَابِيِّ أَنْفَعُ لَهُ، وَلاَ شْكَ أَنَّ النَّظَرَ لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَيْضًا حَيْثُ نَظَرُوا لِلْجُزْئِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِل احْتِيَاطًا، فَلْيُنْظَرْ إِلَيْهَا هُنَا احْتِيَاطًا أَيْضًا، فَإِنَّ الاِحْتِيَاطَ بِالدِّينِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْكُفْرَ أَقْبَحُ الْقَبِيحِ، فَلاَ يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِهِ عَلَى شَخْصٍ بِدُونِ أَمْرٍ صَرِيحٍ، وَلأَِنَّهُمْ قَالُوا فِي حُرْمَةِ بِنْتِهِ مِنَ الزِّنَى: إِنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ النِّسْبَةَ إِلَى الزَّانِي لِمَا فِيهَا مِنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمْ تَثْبُتِ النَّفَقَةُ وَالإِْرْثُ لِذَلِكَ، وَهُنَا لاَ يَنْفِي النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لأَِنَّ الْحَقَائِقَ لاَ مَرَدَّ لَهَا، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لاَ بُدَ مِنَ النِّسْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. (2)
__________
(1) حديث: " كل مولود يولد على الفطرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 246 ط السلفية) ومسلم (4 2047 - 2048 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(2) ابن عابدين 2 394.(45/216)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: فَلَوْ وَطِئَ مُسْلِمٌ كَافِرَةً بِالزِّنَى، فَهَل يَلْحَقُ الْوَلَدُ الْمُسْلِمَ فِي الإِْسْلاَمِ، أَوْ يَلْحَقُ الْكَافِرَةَ؟ ذَهَبُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إِلَى الأَْوَّل، وَاعْتَمَدَ الرَّمْلِيُّ تَبَعًا لِوَالِدِهِ الثَّانِي لأَِنَّهُ مَقْطُوعُ النَّسَبِ عَنْهُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: فِي أَمَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ وَلَدُهَا مُسْلِمٌ، لأَِنَّ أَبَوَيْهِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَهَذَا لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ أُمَّهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَلَدِ حَالٌ يُحْتَمَل أَنْ يَقَرَّ فِيهَا عَلَى دِينٍ لاَ يَقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُرَدُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ. (2)
ب - أَذَانُ وَلَدِ الزِّنَى:
5 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلَدِ الزِّنَى مُؤَذِّنًا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَذَانُ وَلَدِ الزِّنَى، لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ الإِْعْلاَنُ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْجَهْل، وَلأَِنَّ الأَْذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَيُخْتَارُ لَهُ مَنْ يَكُونُ مُحْتَرَمًا فِي النَّاسِ مُتَبَرَّكًا بِهِ (3) لِحَدِيثِ: لِيُؤَذِّنَ لَكُمْ خِيَارُكُمْ وَلِيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج والشبراملسي عليه 6 272 ط دار الفكر 5 453 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 2 423.
(2) المغني لابن قدامة 5 749 - 750.
(3) المبسوط 1 137 - 138 والبدائع 1 150، ومواهب الجليل 1 451.
(4) حديث: " ليؤذن لكم خياركم. . . . " أخرجه أبو داود (1 396 ـ ط حمص) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر الزيلعي في نصب الراية (1 279 ط المجلس العلمي) أن فيه راوياً قال عنه أبوحاتم: منكر الحديث.(45/217)
ج - إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَى لِلْمُصَلِّين
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَى:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى كَرَاهَتِهَا وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَى إِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَحَقُّ بِالإِْمَامَةِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُعَلِّمُهُ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجَهْل، وَإِنْ تَقَدَّمَ جَازَ، (1) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُجْعَل إِمَامًا رَاتِبًا كُلٌّ مِنَ الْخَصِيِّ أَوِ الْمَأْبُونِ أَوِ الأَْقْلَفِ أَوْ وَلَدِ الزِّنَى أَوْ مَجْهُول الْحَال. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الأَْفْقَهُ أَوِ الأَْقْرَأُ أَوِ الأَْوْرَعُ صَبِيًّا أَوْ مُسَافِرًا قَاصِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ وَلَدَ الزِّنَى أَوْ مَجْهُول الأَْبِ فَضِدُّهُ أَوْلَى. . . وَأَطْلَقَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 134، واللباب 1 81، والدر المختار 1 377 - 378.
(2) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر " أخرجه الدارقطني من حديث مكحول عن أبي هريرة (2 57 ط الفنية المتحدة) وأعله الدارقطني بالانقطاع بين مكحول وأبي هريرة.
(3) جواهر الإكليل 1 78 - 79.(45/217)
جَمَاعَةٌ أَنَّ إِمَامَةَ وَلَدِ الزِّنَى وَمَنْ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ مَكْرُوهَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ إِمَامَةُ وَلَدِ الزِّنَى إِذَا سَلِمَ دِينُهُ قَال عَطَاءٌ: لَهُ أَنْ يَؤُمَّ إِذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَبِهِ قَال سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ (2) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ (3) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ وِزْرِ أَبَوَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى ( {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ) (4) وَقَال تَعَالَى: ( {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ) (5) .
(ر: إِمَامَة ف24) .
د - دَفْعُ الزَّكَاةِ لاِبْنِهِ مِنَ الزِّنَى:
7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لاِبْنِهِ مِنَ الزِّنَى نَظَرًا لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا. (6)
__________
(1) مغني المحتاج 1 243.
(2) المغني 2 230.
(3) حديث: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " أخرجه مسلم (1 465 ط الحلبي) . من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(4) سورة النجم 38.
(5) سورة الحجرات 13.
(6) ابن عابدين 2 394 و 63.(45/218)
هـ - زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ وَلَدِ الزِّنَى:
8 - جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشَّرْوَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الأَْقْرَبُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ وَلَدِ الزِّنَى عَلَى أُمِّهِ. (1)
و الْعَقِيقَةُ عَنْ وَلَدِ الزِّنَى:
9 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ فَرْعِهِ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ، وَمِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ فَرْعِهِ الأُْمُّ فِي وَلَدِ الزِّنَى فَهُوَ فِي نَفَقَتِهَا، فَيُنْدَبُ لَهَا الْعَقُّ عَنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارُهُ الْمُفْضِي لِظُهُورِ الْعَارِ. (2)
ز - دُخُول وَلَدِ الزِّنَى فِي الْوَقْفِ عَلَى الْيَتِيمِ:
10 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَشْمَل الْوَقْفَ عَلَى الْيَتَامَى وَلَدَ الزِّنَى، لأَِنَّ لِلْيَتِيمِ انْكِسَارًا يَدْخُل عَلَى الْقَلْبِ بِفَقْدِ الأَْبِ. (3)
ح - تَحْرِيمُ النِّكَاحِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ بَيْنَ وَلَدِ الزِّنَى وَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ تَبَعًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهَا. (4)
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 3 311.
(2) حاشية الجمل 5 263.
(3) مطالب أولي النهى 4 361، 362.
(4) القليوبي وعميرة 3 241، ومغني المحتاج 3 175، وتفسير القرطبي 5 106، والشرح الصغير 2 402، والمغني لابن قدامة 6 568، وبدائع الصنائع 2 256.(45/218)
وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بَيْنَ الزَّانِي وَبِنْتِهِ مِنَ الزِّنَى وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ بَيْنَهُمَا كَغَيْرِهَا مِنَ الأَْوْلاَدِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ، وَذَلِكَ لِلْجُزْئِيَّةِ. (1)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَتَحْرُمُ عَلَى الأَْبِ بَنَاتُهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( {وَبَنَاتُكُمْ} . . . .) (2) سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَهُ مِنَ النِّكَاحِ أَوْ مِنَ السِّفَاحِ لِعُمُومِ النَّصِّ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلأَِنَّ بِنْتَ الإِْنْسَانِ اسْمٌ لأُِنْثَى مَخْلُوقَةٍ مِنْ مَائِهِ حَقِيقَةً، وَالْكَلاَمُ فِيهِ، فَكَانَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الإِْضَافَةُ شَرْعًا إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَهَذَا لاَ يَنْفِي النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، لأَِنَّ الْحَقَائِقَ لاَ مَرَدَّ لَهَا، وَهَكَذَا نَقُول فِي الإِْرْثِ وَالنَّفَقَةِ، إِنَّ النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَابِتَةٌ إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هُنَاكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ شَرْعًا لِجَرَيَانِ الإِْرْثِ وَالنَّفَقَةِ لِمَعْنًى.
وَأَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ كَوْنَهَا مِنْ زِنًى بِقَوْلِهِ: كَأَنْ تَكُونَ بِكْرًا فَيَطَأُهَا ثُمَّ يَحْبِسُهَا حَتَّى تَلِدَ، أَوْ يَطَأُهَا
__________
(1) المغني 6 578 ـ579، والبدائع 2 257، وابن عابدين 2 277، والدسوقي 2 450، ومغني المحتاج 3 175.
(2) سورة النساء 23.(45/219)
فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَحْبِسُهَا حَتَّى تَلِدَ، وَإِلاَّ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْوَلَدُ، لِعَدَمِ ثُبُوتِ أَنَّهُ مِنْ مَائِهِ. (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أُصُولِهِ. (2) وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل نِكَاحُ بِنْتِهِ مِنَ الزِّنَى. . لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} ) (3) وَهَذِهِ بِنْتُهُ، فَإِنَّهَا أُنْثَى مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ هَذِهِ حَقِيقَةٌ لاَ تَخْتَلِفُ بِالْحَل وَالْحُرْمَةِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ هِلاَل بْنِ أُمَيَّةَ: " أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ - يَعْنِي وَلَدَهَا - عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ " (4) يَعْنِي الزَّانِي لأَِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لاَ تَخْتَلِفُ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ فَأَشْبَهَتِ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، وَلأَِنَّهَا بِضْعَةٌ مِنْهُ فَلَمْ تَحِل لَهُ كَبِنْتِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَتَخَلُّفُ بَعْضُ الأَْحْكَامِ لاَ يَنْفِي كَوْنَهَا بِنْتًا كَمَا لَوْ تَخَلَّفَ لِرِقٍّ أَوِ اخْتِلاَقِ دِينٍ.
__________
(1) البدائع 2 257، وابن عابدين 2 277.
(2) الشرح الكبير 2 250.
(3) سورة النساء 23.
(4) حديث ابن عباس: " ابصروها فإن جاءت به. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 449 ـ ط السلفية) ومسلم (2 1134 ـ ط الحلبي) .(45/219)
إِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهَا مِنْهُ مِثْل أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَحْفَظُهَا حَتَّى تَضَعَ، أَوْ مِثْل أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ لاَ يُعْلَمُ هَل هُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِنْتُ مَوْطُوءَتِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا بِنْتُ بَعْضِهِمْ، فَتَحْرُمُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيَّانِ وَلَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَتَحْرُمُ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ لأَِنَّهَا أُخْتُ بَعْضِهِمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنْ أَلْحَقَتْهَا الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمْ حَلَّتْ لأَِوْلاَدِ الْبَاقِينَ وَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ مِمَّنْ وَطِئَ أُمَّهَا لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى رَبِيبَتِهِ. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بَيْنَ الزَّانِي وَبِنْتِهِ مِنَ الزِّنَى وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ مَائِهِ، قَالُوا: وَالْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَاءِ زِنَاهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَزْنِيُّ بِهَا مُطَاوَعَةً أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ تَحَقَّقَ أَنَّهَا مِنْ مَائِهِ أَمْ لاَ، تَحِل لَهُ لأَِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ، إِذْ لاَ حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَى بِدَلِيل انْتِفَاءِ سَائِرِ أَحْكَامِ النِّسَبِ مِنْ إِرْثٍ وَغَيْرِهِ عَنْهَا فَلاَ تَتَبَعَّضُ الأَْحْكَامُ، فَإِنَّ مَنْعَ الإِْرْثِ بِإِجْمَاعٍ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ. (2) وَقِيل: تَحْرُمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الأَْوَّل يُكْرَهُ نِكَاحُهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ، فَقِيل:
__________
(1) المغني 6 578 ـ 579.
(2) قليوبي وعميرة 3 241.(45/220)
لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ، قَال السُّبْكِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيل لاِحْتِمَال كَوْنِهَا مِنْهُ، فَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهَا مِنْهُ حَرُمَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ الرُّويَانِيُّ. (1) هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الزَّانِي مَجْنُونًا عِنْدَ الزِّنَى، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ زِنًى فِي الْحُكْمِ. (2) 12 - كَمَا اخْتَلَفُوا فِي زَوَاجِ الزَّانِي مِنْ حَلِيلَةِ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَى عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل حَلِيلَةُ الأَْبِ وَالاِبْنِ مِنَ الزِّنَا لِدُخُولِهِنَّ فِي عُمُومِ الآْيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي التَّحْرِيمِ. (3)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل زَوْجَةُ ابْنِهِ مِنَ الزِّنَا. لأَِنَّهُ يُنْسَبُ لأُِمِّهِ فَزَوْجَتُهُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنَ الزَّانِي، وَكَذَلِكَ لاَ يَحْرُمُ عَلَى وَلَدِ الزِّنَى زَوْجَةُ أَبِيهِ الزَّانِي لأَِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 3 175، 178.
(2) القليوبي وعميرة 3 241.
(3) الفتاوى الهندية 1 274، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 251، وكشاف القناع 5 73.
(4) مطالب أولي النهى 5 91، وأسنى المطالب 3 150، وحاشية الدسوقي 2 251.(45/220)
ط - حُرْمَةُ وَلَدِ الزِّنَا عَلَى أُصُول وَفُرُوعِ الزَّانِي وَحَوَاشِيهِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِ وَلَدِ الزِّنَى مِنَ الزَّانِي بِأُمِّهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى وَلَدِ الزِّنَى أُصُول الزَّانِي وَفُرُوعُهُ، لِلْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمْ، أَمَّا غَيْرُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، كَأَعْمَامِ الزَّانِي وَأَخْوَالِهِ وَإِخْوَانِهِ وَأَخَوَاتِهِ، كَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَنْجَبَتْ بِنْتًا، فَهَل تَحْرُمُ هَذِهِ الْبِنْتُ عَلَى أَخِي الزَّانِي أَوْ عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ. .؟ .
قَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: حَرُمَ عَلَى الْمُتَزَوِّجِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى نِكَاحُ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ عَلاَ أَوْ نَزَل، وَبِنْتُ أَخِيهِ، وَأُخْتِهِ، وَبِنْتُهَا، وَلَوْ مِنْ زِنًى، وَعَمَّتُهُ وَخَالَتُهُ. .، قَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى قَوْل الْحَصْكَفِيِّ " وَلَوْ مِنْ زِنًى " تَعْمِيمٌ بِالنَّظَرِ إِلَى كُل مَا قَبْلَهُ، أَيْ لاَ فَرْقَ فِي أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزِّنَى أَوْ لاَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لَهُ أَخٌ مِنَ الزِّنَى لَهُ بِنْتٌ مِنَ النِّكَاحِ، أَوْ أَخٌ مِنَ النِّكَاحِ لَهُ بِنْتٌ مِنَ الزِّنَى، وَعَلَى قِيَاسِهِ قَوْلُهُ: وَبِنْتُهَا وَعَمَّتُهُ وَخَالَتُهُ، أَيْ أُخْتُهُ مِنَ النِّكَاحِ لَهَا بِنْتٌ مِنَ الزِّنَى، أَوْ أُخْتُهُ مِنَ الزِّنَى لَهَا بِنْتٌ مِنَ النِّكَاحِ، أَوْ أُخْتُهُ مِنَ الزِّنَى لَهَا بِنْتٌ مِنَ الزِّنَى، وَكَذَا أَبُوهُ مِنَ النِّكَاحِ لَهُ أُخْتٌ مِنَ الزِّنَى، أَوْ أَبُوهُ مِنَ الزِّنَى لَهُ أُخْتٌ مِنَ(45/221)
النِّكَاحِ، أَوْ أَبُوهُ مِنَ الزِّنَى لَهُ أُخْتٌ مِنَ الزِّنَى، وَكَذَا أَمُّهُ كَذَلِكَ وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ، أَنَّ الْبِنْتَ مِنَ الزِّنَى لاَ تَحْرُمُ عَلَى عَمِّ الزَّانِي وَخَالِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنَ الزَّانِي حَتَّى يَظْهَرَ فِيهَا حُكْمُ الْقَرَابَةِ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ عَلَى آبَاءِ الزَّانِي وَأَوْلاَدِهِ فَلاِعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلاَ جُزْئِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَمِّ وَالْخَال، وَمِثْلُهُ فِي الْفَتْحِ هُنَاكَ عَنِ التَّجْنِيسِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَحَرُمَ عَلَى الشَّخْصِ أُصُولُهُ، وَهُوَ كُل مَنْ عَلَيْهِ وِلاَدَةٌ وَإِنْ عَلاَ وَفُصُولُهُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَوْ خُلِقَتِ الْفُصُول مِنْ مَائِهِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْعَقْدِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ شُبْهَةٍ، فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِنْتًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَإِنْ حَمَلَتْ مِنْهُ بِذَكَرٍ حَرُمَ عَلَى صَاحِبِ الْمَاءِ تَزَوُّجِ بِنْتِهِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الذَّكَرِ تَزَوُّجَ فَرُوعِ أَبِيهِ مِنَ الزِّنَى وَأُصُولِهِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَتَحْرُمُ أُخْتُهُ مِنَ الزِّنَى وَبِنْتُ ابْنِهِ مِنَ الزِّنَى وَبِنْتُ بِنْتِهِ مِنَ الزِّنَى وَإِنْ نَزَلَتْ، وَبِنْتُ أَخِيهِ مِنَ الزِّنَى وَبِنْتُ أُخْتِهِ مِنَ الزِّنَى وَكَذَا عَمَّتُهُ وَخَالَتُهُ مِنَ الزِّنَى. (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 277.
(2) الشرح الكبير 2 250.
(3) كشاف القناع 5 73، والمغني 6 576.(45/221)
ي - كَفَاءَةُ وَلَدِ الزِّنَى:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ. .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَدُ الزِّنَى قَدْ قِيل: إِنَّهُ كُفُؤٌ لِذَاتِ نَسَبٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى يَنْكِحُ وَيُنْكَحُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَتَضَرَّرُ بِهِ هِيَ وَأَوْلِيَاؤُهَا، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهَا، وَلَيْسَ هُوَ كُفْؤًا لِلْعَرَبِيَّةِ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ (1) وَقَال الْمَحَلِّيُّ: وَيُسْتَحَبُّ دَيِّنَةٌ بِخِلاَفِ الْفَاسِقَةِ، نَسِيبَةٌ بِخِلاَفِ بِنْتِ الزِّنَى. (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (كَفَاءَة ف16) .
ك - النَّسَبُ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ أُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ.
أَمَّا نَسَبُهُ مِنَ الزَّانِي: فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) كشاف القناع 5 68.
(2) المحلي على المنهاج في هامش حاشيتي القليوبي وعميرة عليه 3 207.(45/222)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَرَوْنَ عَدَمَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ بِحَالٍ.
وَقَال الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يَلْحَقُ الْوَاطِئَ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَيَرِثُهُ، وَقَال إِبْرَاهِيمُ: يَلْحَقُهُ إِذَا جُلِدَ الْحَدَّ أَوْ مَلَكَ الْمَوْطُوءَةَ، وَقَال إِسْحَاقُ: يَلْحَقُهُ، وَذَكَرَ عَنْ عُرْوَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ نَحْوَهُ. (2) (ر: إِرْث ف 125)
ل - التَّحْرِيمُ بِالرِّضَاعِ بِلَبَنِ الزِّنَى
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ فَوَلَدَتْ فَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِهَا طِفْلاً أَوْ طِفْلَةً، كَانَ الرَّضِيعُ وَلَدًا لَهَا رَضَاعًا، لأَِنَّهُ رَضَعَ لَبَنَهَا حَقِيقَةً، وَالْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا، فَحَرُمَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ.
أَمَّا تَحْرِيمُ هَذَا الرَّضِيعِ عَلَى الزَّانِي بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى آرَاءٍ:
__________
(1) حديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 127 ط السلفية) ومسلم (2 1081 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) تبيين الحقائق 6 241، والمدونة 8 54 ط الساسي، والشرح الصغير 3 540، والقليوبي وعميرة 3 241، والمغني 6 266.(45/222)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى التَّحْرِيمِ بِهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَضَاع ف 24) .
م - إِرْثُ وَلَدِ الزِّنَى:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ وَلَدِ الزِّنَى الإِْرْثَ مِنْ أُمِّهِ وَأَقَارِبِهَا، وَعَلَى أَنَّهُمْ يَرِثُونَهُ أَيْضًا بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ، وَعَصَبَتُهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ.
أَمَّا إِرْثُهُ مِنَ الزَّانِي وَأَقَارِبِهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهِ، لاِنْقِطَاعِ نَسَبِهِ عَنْهُمْ، وَهُوَ سَبَبُ الإِْرْثِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَأَنْجَبَتْ طِفْلاً ثُمَّ تَزَوَّجَ الزَّانِي مِنَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَنْجَبَتْ طِفْلاً ثَانِيًا، كَانَ الطِّفْلاَنِ أَخَوَيْنِ لأُِمٍّ، وَتَوَارَثَا عَلَى ذَلِكَ. (2)
وَقَال الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يَلْحَقُ ابْنُ الزِّنَى الْوَاطِئَ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَيَرِثُهُ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 279، و411 - 412، والدسوقي 2 250، والمغني 7 245 و544، ومغني المحتاج 3 175.
(2) ابن عابدين 5 495، و 2 592، والجوهرة النيرة 2 393.
(3) المغني 6 266.(45/223)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرِث ف125) .
ن - اسْتِقْضَاءُ وَلَدِ الزِّنَى:
18 - اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَوْلِيَةِ وَلَدِ الزِّنَى الْقَضَاءَ، فَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: قَال سَحْنُونُ: لاَ بَأْسَ بِوِلاَيَةِ وَلَدِ الزِّنَى، وَلاَ يَحْكُمُ فِي حَدِّ الزِّنَى.
وَقَال الْبَاجِي: الأَْظْهَرُ مَنْعُهُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ مَوْضِعُ رِفْعَةٍ وَطَهَارَةِ أَحْوَالٍ فَلاَ يَلِيهَا وَلَدُ الزِّنَا، كَالإِْمَامَةِ فِي الصَّلاَةِ. (1)
س - شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَى:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ وَلَدِ الزِّنَى جَائِزَةٌ فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ، هَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ مَقْبُول الشَّهَادَةِ
__________
(1) مواهب الجليل 6 103، والمنتقى للباجي 5 184.(45/223)
فِي غَيْرِ الزِّنَى، كَالْقَتْل، وَمَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَتْل قُبِلَتْ فِي الزِّنَى، وَلأَِنَّ جِنَايَةَ أَبَوَيْهِ لاَ تُوجِبُ قَدْحًا فِي الْعَدَالَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ الزِّنَى وَأَمَّا فِي الزِّنَى فَإِنَّهَا لاَ تُقْبَل وَكَذَا فِي مُتَعَلِّقَاتِ الزِّنَى كَقَذْفٍ وَلِعَانٍ وَإِنْ كَانَ عَدْلاً لأَِنَّ ابْنَ الزِّنَى يُتَّهَمُ فِي الرَّغْبَةِ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي كَوْنِهِ ابْنَ زِنًى مِثْلَهُ. (2)
حُكْمُ شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَى لأَِبِيهِ مِنَ الزِّنَى:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَى عَلَى الزَّانِي بِأُمِّهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَذَلِكَ لِثُبُوتِ أَنَّهُ فَرْعُهُ حَقِيقَةً بِدَلِيل ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بَيْنَهُمَا. (3) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَلَدِ لأَِبِيهِ مِنْ زِنًى وَرَضَاعٍ وَعَكْسِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الإِْنْفَاقِ وَالصِّلَةِ وَعِتْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. (4)
- 13 -
ع - قَذْفُ وَلَدِ الزِّنَى:
21 - مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَى فِي نَفْسِهِ كَأَنْ يَقُول لَهُ يَا زَانٍ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إِذَا تَوَافَرَتْ فِي الْمَقْذُوفِ شُرُوطُ الإِْحْصَانِ.
(ر: إِحْصَان ف 15 19، وَقَذْف ف 14)
__________
(1) المغني 9 196، وتبيين الحقائق 4 226، وابن عابدين 2 394، وروضة الطالبين 11 245.
(2) الدسوقي 4 173. والمغني9 196.
(3) ابن عابدين 2 394.
(4) كشاف القناع 6 428، الفروع 6 584.(45/224)
ف - قَتْل الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ مِنَ الزِّنَى:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ يُقْتَل بِوَلَدِهِ مِنَ الزِّنَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَالِدَ لاَ يُقْتَل بِقَتْل وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَى. وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ نَظَرًا لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ صَرَّحُوا بِأَنَّ الزَّانِيَ لاَ تَحِل لَهُ بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا. وَلاَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لاِبْنِهِ مِنَ الزِّنَى وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ. (1)
__________
(1) الإنصاف 9 474، وحاشية ابن عابدين 2 394.(45/224)
وَلَدُ اللِّعَانِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مُصْطَلَحُ (وَلَدُ اللِّعَانِ) مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: الْوَلَدُ وَاللِّعَانُ
الْوَلَدُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْلُودُ، يُقَال لِلْوَاحِدِ وَالْجِمْعِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَوْلاَدٍ وَوِلْدَةٍ وَإِلْدَةٍ وَوُلِدٍ. (1) وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْوَلَدِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَاللِّعَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ. وَلاَعَنَهُ مُلاَعَنَةً وَلِعَانًا وَتَلاَعَنُوا: لَعَنَ كُل وَاحِدٍ الآْخَرَ.
وَلاَعَنَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ: قَذَفَهَا بِالْفُجُورِ. (2)
وَاللِّعَانُ فِي الاِصْطِلاَحِ: شَهَادَاتٌ أَرْبَعُ مُؤَكَّدَةٌ بِالأَْيْمَانِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَقْرُونَةٌ
__________
(1) المصباح المنير، ومفردات ألفاظ القران للأصفهاني، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) مختار الصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب.(45/225)
بِاللَّعْنِ مِنَ الزَّوْجِ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ. (1)
وَوَلَدُ اللِّعَانِ هُوَ: الْوَلَدُ الَّذِي نَفَى الزَّوْجُ نَسَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ مُلاَعَنَتِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - وَلَدُ الزِّنَى:
2 - وَلَدُ الزِّنَى: هُوَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ مِنَ الزِّنَى.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ وَلَدِ الزِّنَى وَوَلَدِ اللِّعَانِ انْقِطَاعُ نَسَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ.
ب - اللَّقِيطُ:
3 - اللَّقِيطُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُلْقَطُ أَيْ يُرْفَعُ مِنَ الأَْرْضِ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَنْبُوذِ.
وَالْمَنْبُوذُ: الصَّبِيُّ الَّذِي تُلْقِيهِ أُمُّهُ فِي الطَّرِيقِ. (3)
وَاللَّقِيطُ فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ، أَوْ فِرَارًا مِنَ التُّهْمَةِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 2 585.
(2) الاختيار 3 169 ـ 170، ومغني المحتاج 3 380.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وأنيس الفقهاء ص 188.
(4) المبسوط للسرخسي 1 209، وأنيس الفقهاء ص 188.(45/225)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَوَلَدِ اللِّعَانِ انْقِطَاعُ نَسَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الأَْبِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل مَجْهُول الأُْمِّ أَيْضًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَعْرُوفُ الأُْمِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَلَدِ اللِّعَانِ:
يَتَعَلَّقُ بِوَلَدِ اللِّعَانِ أَحْكَامٌ عِدَّةٌ مِنْهَا:
النَّسَبُ:
4 - إِذَا تَمَّتِ الْمُلاَعَنَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِضَوَابِطِهَا الشَّرْعِيَّةِ، وَنَفَى الزَّوْجُ الْوَلَدَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْفِي نَسَبَ الْوَلَدِ وَيُلْحِقُهُ بِأُمِّهِ. (1) (ر: لِعَان ف 25 28، نَسَب ف 54، 56)
عَوْدَةُ النَّسَبِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِاللِّعَانِ:
5 - إِذَا قُطِعَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ بِاللِّعَانِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ هِيَ:
أ - الإِْقْرَارُ بِهِ أَوِ اسْتِلْحَاقُهُ:
إِذَا عَادَ الْمُلاَعِنُ فَأَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدِ اللِّعَانِ بَعْدَ مَا قَطَعَ نَسَبَهُ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، صَحَّ الإِْقْرَارُ، وَثَبَتَ النَّسَبُ، وَلَمْ يُقْطَعْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، لِعَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 520، وبدائع الصنائع 3 239، والمغني لابن قدامة 7 416 ـ 418، ومغني المحتاج 3 373، 380، والشرح الصغير 2 668 ـ 669.
(2) الإنصاف 9 255، وحاشية ابن عابدين 2 592، ومغني المحتاج 3 383، وحاشية الدسوقي 2 462.(45/226)
وَإِذَا اسْتَلْحَقَ الْمُلاَعِنُ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ مِنْ بَعْدِ قَطْعِهِمَا، فَإِنَّهُمَا يَلْحَقَانِهِ مَعًا، لأَِنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ. (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْأَم ف 3 5) وَلاَ يَصِحُّ الإِْقْرَارُ بِنَسَبِ وَلَدِ اللِّعَانِ الْمَنْفِيُّ نَسَبُهُ لِغَيْرِ الْمُلاَعِنِ. (2) (ر: لِعَان ف 30)
ب - تَكْذِيبُ الزَّوْجِ نَفْسَهُ:
7 - إِذَا كَذَّبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ حَدَّهُ الْقَاضِي حَدَّ الْقَذْفِ وَأَعَادَ نَسَبَ وَلَدِ اللِّعَانِ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ الْمُلاَعِنُ وَكَذَّبَ نَفْسَهُ فِي إِقْرَارِهِ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، لأَِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ بَاطِلٌ. (3)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَثْبُتُ لِوَلَدِ اللِّعَانِ وَالَّتِي لاَ تَثْبُتُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ وَلَدَ اللِّعَانِ إِذَا قُطِعَ
__________
(1) ابن عابدين 2 592، وحاشية الدسوقي 2 462، والشرح الصغير 2 669، ومغني المحتاج 3 383، والإنصاف 9 248، 255.
(2) حاشية ابن عابدين 2 592، ومغني المحتاج 2 259، وكشاف القناع 5 402.
(3) حاشية ابن عابدين 2 590، وحاشية الدسوقي 2 461، وجواهر الإكليل 1 380، والإنصاف 9 257، ومعونة أولي النهى 7 754، ومغني المحتاج 3 383.(45/226)
نَسَبُهُ عَنْ أَبِيهِ بِاللِّعَانِ فَإِنَّ التَّوَارُثَ يَمْتَنِعُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا نَقَل الْحَصْكَفِيُّ بِبَقَاءِ نَسَبِ وَلَدِ اللِّعَانِ بَعْدَ قَطْعِ النَّسَبِ مِنَ الأَْبِ فِي كُل الأَْحْكَامِ لِقِيَامِ فِرَاشِهَا إِلاَّ حُكْمَيْنِ: الإِْرْثُ وَالنَّفَقَةُ فَقَطْ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فَيَبْقَى النَّسَبُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْمُلاَعِنِ فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالنِّكَاحِ، وَعَدَمِ اللُّحُوقِ بِالْغَيْرِ حَتَّى لاَ تَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ، وَلاَ صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الأَْبِ بِقَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ لاِبْنِ الْمُلاَعَنَةِ ابْنٌ وَلِلزَّوْجِ بَنَتٌ مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى لاَ يَجُوزُ لِلاِبْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ، وَلَوِ ادَّعَى إِنْسَانٌ هَذَا الْوَلَدَ لاَ يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ. (1) وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَمَعَ النَّفْيِ هَل يَثْبُتُ لَهَا أَيِ ابْنَةُ اللِّعَانِ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَبِ شَيْءٌ سِوَى تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا حَيْثُ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا، كَقَبُول شَهَادَتِهِ لَهَا، وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهَا، وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ لَهَا، وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، أَوَّلاً؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا ثَانِيهُمَا (أَيْ لاَ يَثْبُتُ) كَمَا اقْتَضَى كَلاَمُ الرَّوْضَةِ تَصْحِيحَهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 592، وانظر بدائع الصنائع 3 248.(45/227)
قَال الْبُلْقِينِيُّ: وَهَل يَأْتِي الْوَجْهَانِ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِهَا، وَجَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَالْخَلْوَةِ بِهَا، أَوْ لاَ؟ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمَحْرَمِيَّةُ كَمَا فِي الْمُلاَعَنَةِ وَأُمِّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَبِنْتِهَا، وَالأَْقْرَبُ عِنْدِي عَدَمُ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ، انْتَهَى، وَالأَْوْجَهُ حُرْمَةُ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا احْتِيَاطًا، وَعَدَمُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِهَا لِلشَّكِّ. (1)
(ر: لِعَان ف 9)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 266، وانظر مغني المحتاج 3 175.(45/227)
وُلُوغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوُلُوغُ فِي اللُّغَةِ: شُرْبُ السِّبَاعِ بِأَلْسِنَتِهَا يُقَال: وَلَغَ الْكَلْبُ يَلَغُ وَلْغًا مِنْ بَابِ نَفَعَ، وَوُلُوغًا: شَرِبَ مَا فِي الإِْنَاءِ بِأَطْرَافِ لِسَانِهِ أَوْ أَدْخَل فِيهِ لِسَانِهِ فَحَرَّكَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ (1) أَيْ شَرِبَ مِنْهُ بِلِسَانِهِ. وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ يُقَال: أَوْلَغْتُهُ إِذَا سَقَيْتَهُ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السُّؤْرُ:
2 - السُّؤْرُ فِي اللُّغَةِ: الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ مِنْ سَأَرَ
__________
(1) حديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم. . . " أخرجه مسلم (1 234 ـ ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه ص 47. والنهاية لابن الأثير 5 226، والهداية وشروحها 1 109، وأسنى المطالب 1 22.(45/228)
وَجَمْعُهُ أَسْآرٌ، وَأَسْأَرَ مِنْهُ شَيْئًا: أَبْقَى، وَفِي الْحَدِيثِ: إِذَا شَرِبْتُمْ فَأَسْئِرُوا (1) أَيْ أَبْقُوا شَيْئًا مِنَ الشَّرَابِ فِي قَعْرِ الإِْنَاءِ. (2)
وَالسُّؤْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ بَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الإِْنَاءِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ غَيْرُهُ " (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السُّؤْرِ وَالْوُلُوغُ أَنَّ السُّؤْرَ هُوَ الْبَاقِي مِنَ الشُّرْبِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وُلُوغٍ أَوْ غَيْرِهِ.
ب - الشُّرْبُ:
3 - الشُّرْبُ فِي اللُّغَةِ جَرْعُ كُل مَائِعٍ: مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
يُقَال: شَرِبَ الْمَاءَ وَنَحْوَهُ شُرْبًا: جَرَعَهُ فَهُوَ شَارِبٌ. (4)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (5)
__________
(1) حديث: " إذا شربتم فأسئروا " أورده ابن الاثيري النهاية في غريب الحديث (2 327 ـ ط الحلبي) ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والقاموس المحيط.
(3) حاشية ابن عابدين 1 148، وكشاف القناع 1 195، والمجموع 1 172.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(5) التعريفات للجرجاني.(45/228)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَالشُّرْبِ أَنَّ الشُّرْبَ أَعَمُّ مِنَ الْوُلُوغِ فَكُل وُلُوغٍ شُرْبٌ وَلاَ يَلْزَمُ الْعَكْسُ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوُلُوغِ
يَتَعَلَّقُ بِالْوُلُوغِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَوَّلاً: وُلُوغُ الْكَلْبِ
أـ نَجَاسَةُ إِنَاءٍ يَلْغُ فِيهِ الْكَلْبُ:
4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ فِي الإِْنَاءِ يُنَجِّسُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ وُلُوغَ الْكَلْبِ لاَ يُنَجِّسُ الإِْنَاءَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6، وَكَلْب ف 15، 18) .
وَأَمَّا وُلُوغُ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي الإِْنَاءِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سُؤْر ف 3 ـ 6) .
ب ـ عَدَدُ الْغَسَلاَتِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ:
5 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ غَسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَفِي عَدَدِ الْغَسَلاَتِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 18، وَتَتْرِيب ف 2) .
__________
(1) تحرير ألفاظ التنبيه ص47.(45/229)
6 ـ وَأَمَّا غَسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ سَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فِي عَدَدِ غَسَلاَتِهِ:
ـ فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي تَطْهِيرِ الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا وَعَدَدِ الْغَسَلاَتِ، إِذْ يُغْسَل ثَلاَثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْلُهَا ثَلاَثًا وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عِنْدَهُمْ: تُكَاثَرُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ.
ـ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ غَسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا قَالُوا بِنَدْبِ غَسْل الإِْنَاءِ، مِنْ وُلُوغِهِمَا سَبْعًا بِلاَ تَتْرِيبٍ.
- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ وَلَغَ فِي الإِْنَاءِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ عَدَا الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ. (1)
جـ ـ تَعَدُّدُ الْوُلُوغِ:
7 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْغَسْل بِسَبَبِ تَعَدُّدِ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ. فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ) عَدَمَ تَعَدُّدِ الْغَسْل بِسَبَبِ
__________
(1) مراقي الفلاح مع حاشية الطحطاوي ص 18، والشرح الصغير 1 85 ـ 86، والمغني المحتاج 1 77، والانصاف، 1 313، والمغني 1 52 ـ 55.(45/229)
وُلُوغِ كَلْبٍ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وُلُوغِ كِلاَبٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَبْل غَسْلِهِ لِتَدَاخُل مُسَبِّبَاتِ الأَْسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمُسَبِّبِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَعَدَّدُ الْغَسْل بِوُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ كِلاَبٍ.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ لِكُل وَلْغَةٍ سَبْعٌ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: يَكْفِي لِوَلْغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُل كَلْبٍ سَبْعٌ. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (كَلْب ف 19) .
د - شَهَادَةُ ثِقَةٍ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ ثِقَةٌ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَحَدِ الإِْنَائَيْنِ بِعَيْنِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ إِنَاءَانِ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِي أَحَدِهِمَا وَلاَ يَعْلَمُ عَيْنَهُ، فَيَجِبُ قَبُول خَبَرِهِ وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَطَهَارَةِ الآْخَرِ وَحِينَئِذٍ لاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا، وَثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي ذَاكَ فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِمَا مِنَ احْتِمَال الْوُلُوغِ فِي وَقْتَيْنِ، وَمَتَى أَمْكَنَ صِدْقُ
__________
(1) البحر الرائق 1 136، وروضة الطالبين 1 32، ومواهب الجليل 1 179، وجواهر الاكليل 1 13 ـ 14، والمغني 1 56، ومغني المحتاج 1 84.(45/230)
الْخَبَرَيْنِ الثِّقَتَيْنِ وَجَبَ الْعَمَل بِخَبَرِهِمَا. (1)
وَإِذَا أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِوُلُوغِهِ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ حِينَ بَدَأَ حَاجِبُ الشَّمْسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلاً، فَقَال الآْخَرُ: بَل وَلَغَ فِي ذَاكَ دُونَ ذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيهَا، فَقَطَعَ الصَّيْدَلاَنِيُّ وَالْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِمَا وَيَسْتَعْمِل مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ؛ لأَِنَّ الْمُخْبِرَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ إِلْغَاءُ قَوْلِهِمَا.
وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَصَحُّهَمَا تَسْقُطَانِ.
وَالثَّانِي يُسْتَعْمَلاَنِ. وَفِي الاِسْتِعْمَال ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: بِالْقُرْعَةِ، وَالثَّانِي: بِالْقِسْمَةِ، وَالثَّالِثُ: يُوقَفُ حَتَّى يَصْطَلِحَ الْمُتَنَازِعَانِ. (2)
وَقَال: إِنْ قُلْنَا يَسْقُطَانِ سَقَطَ خَبَرُ الثِّقَتَيْنِ وَبَقِيَ الْمَاءُ عَلَى أَصْل الطَّهَارَةِ فَيَتَوَضَّأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِمَا جَمِيعًا، قَالُوا: لأَِنَّ تَكَاذُبَهُمَا وَهَّنَ خَبَرَهُمَا، وَلاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِقَوْلِهِمَا لِلتَّعَارُضِ فَسَقَطَ، قَالُوا: وَإِنْ قُلْنَا تُسْتَعْمَلاَنِ لِمَ يَجِئْ قَوْل الْقِسْمَةِ بِلاَ خِلاَفٍ وَامْتِنَاعُهُ وَاضِحٌ،
__________
(1) المجموع 1 177 ـ 178.
(2) المجموع 1 177 ـ 178، ومغني المحتاج 1 28.(45/230)
وَأَمَّا الْقُرْعَةُ فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا لاَ تَجِيءُ أَيْضًا كَمَا قَطَعَ بِهِ الشِّيرَازِيُّ، وَحَكَىَ صَاحِبُ الْمُذْهَبِ وَجْهًا: أَنَّهُ يُقْرِعُ وَيَتَوَضَّأُ بِمَا اقْتَضَتِ الْقَرْعَةُ طَهَارَتَهُ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَقَدْ جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يَجِيءُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَجِيءُ الْوَقْفِ.
فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ لأَِنَّهُ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ، وَوَجْهُ جَرَيَانِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مَا يَمْنَعُهُ بِخِلاَفِ الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَوَجْهُ قَوْل الشِّيرَازِيِّ: لاَ يَجِيءُ الْوَقْفُ، الْقِيَاسُ عَلَى مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِنَاءَانِ وَاجْتَهَدَ وَتَحَيَّرَ فِيهِمَا فَإِنَّهُ يُرِيقُهُمَا وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ بِلاَ إِعَادَةٍ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي الإِْرَاقَةِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالْوَقْفِ، فَكَذَا هُنَا. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَبْرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الإِْنَاءِ لَزِمَ قَبُول خَبَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا أَوْ ضَرِيرًا؛ لأَِنَّ لِلضَّرِيرِ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالْحِسِّ. وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي هَذَا الإِْنَاءِ وَلَمْ يَلْغُ فِي هَذَا. وَقَال آخَرُ: لَمْ يَلْغُ فِي الأَْوَّل وَإِنَّمَا وَلَغَ فِي الثَّانِي، وَجَبَ اجْتِنَابُهُمَا، فَيُقْبَل قَوْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الإِْثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا خَفِيَ عَلَى الآْخَرِ، إِلاَّ أَنْ يُعِيِّنَا وَقْتًا مُعَيَّنًا وَكَلْبًا
__________
(1) المجموع 1 178.(45/231)
وَاحِدًا يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ شُرْبِهِ مِنْهُمَا فَيَتَعَارَضُ قَوْلاَهُمَا وَيَسْقُطَانِ. وَيُبَاحُ اسْتِعْمَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَإِنْ قَال أَحَدُهُمَا: شَرِبَ مِنْ هَذَا الإِْنَاءِ، وَقَال الآْخَرُ: نَزَل وَلَمْ يَشْرَبْ. قُدِّمَ قَوْل الْمُثْبِتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شُرْبُهُ مِثْل الضَّرِيرِ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ حِسِّهِ، فَيُقَدَّمُ قَوْل الْبَصِيرِ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُول خَبَرِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ ـ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ـ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمَسْتُورُ فَيَتَحَرَّى الْمُسْلِمُ فِي خَبَرِهِ.
وَلَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَعَدْلٌ بِنَجَاسَتِهِ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ. (2)
__________
(1) المغني 1 65.
(2) الدر المختار 5 2120 ـ 221، والفتاوى الهندية 5 309.(45/231)
وَلِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَلِيمَةُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَلْمِ وَهُوَ الْجَمْعُ، لأَِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَهِيَ اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ وَالإِْمْلاَكِ، وَقِيل: هِيَ كُل طَعَامٍ صُنِعَ لِعُرْسٍ وَغَيْرِهِ أَوْ كُل طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِجَمْعٍ. (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ تَقَعُ الْوَلِيمَةُ عَلَى كُل طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ مِنْ عُرْسٍ وَإِمْلاَكٍ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهَا مُطْلَقَةً فِي الْعُرْسِ أَشْهَرُ وَفِي غَيْرِهِ بِقَيْدٍ. (2)
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوَلاَئِمِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا النَّاسُ أَسْمَاءً خَاصَّةً. (3) تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَة ف 26) .
وَيَنْحَصِرُ الْكَلاَمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى بَيَانِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ، أَمَّا الأَْحْكَامُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 3 / 244، والمطلع على أبواب المقنع ص 327 - 328، وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والدسوقي 2 / 321.
(3) مغني المحتاج 3 / 245، والمبدع 7 / 179.(45/232)
الْمُتَعَلِّقَةُ بِسَائِرِ الْوَلاَئِمِ فَتُنْظَرُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَفِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَة) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ الدَّعْوَةُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَةِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيَافَةُ، وَهِيَ بِفَتْحِ الدَّال عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ تَكْسِرُهَا، وَذَكَرَهَا قُطْرُبٌ بِالضَّمِّ وَغَلَّطُوهُ. (1)
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الدَّعْوَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّعْوَةِ وَالْوَلِيمَةِ أَنَّ الدَّعْوَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلِيمَةِ. (2)
ب ـ الْمَأْدُبَةُ:
3 - الْمَأْدُبَةُ لُغَةً: الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ الرَّجُل وَيَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: كُل طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ مَأْدُبَةٌ. (4) ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَأْدُبَةِ وَالْوَلِيمَةِ أَنَّ الْوَلِيمَةَ أَخَصُّ مِنَ الْمَأْدُبَةِ.
__________
(1) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 216.
(2) فتح الباري 9 / 149 ط دار الريان للتراث - القاهرة.
(3) لسان العرب مادة (أدب) .
(4) البحر الرائق 7 / 302، وحاشية القليوبي 3 / 294، والمغني 7 / 1.(45/232)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَلِيمَةِ وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ وَلِيمَةَ الْعَرَبِ سُنَّةٌ، زَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَفِيهَا مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. (1) ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْوَلِيمَةَ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ (2) .
وَقَالُوا: سَبَبُ الْوَلِيمَةِ عَقْدُ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَفَرْعُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَتَقَدَّرَتْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلَكَانَ لَهَا بَدَلٌ عِنْدَ الإِْعْسَارِ، كَمَا يَعْدِل الْمُكَفِّرُ فِي إِعْسَارِهِ إِلَى الصِّيَامِ، فَدَل عَدَمُ تَقْدِيرِهَا وَبَدَلِهَا عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِهَا، وَلأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ مَأْخُوذًا
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 337، والزرقاني 4 / 52، ومغني المحتاج 3 / 244، وروضة الطالبين 7 / 232، والمغني 7 / 1 - 2، والإنصاف للمرداوي 8 / 216، والفتاوى الهندية 5 / 343، وبريقه محمودية 4 / 176.
(2) حديث " ليس في المال حق سوى الزكاة. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 570 ـ ط الحلبي) ، من حديث فاطمة بنت قيس، وذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 160 ـ ط شركة الطباعة الفنية) أن في إسناده راويا ضعيفا.(45/233)
بِفِعْلِهَا حَيًّا، وَمَأْخُوذَةً مِنْ تَرِكَتِهِ مَيِّتًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. (1)
الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالإِْمَامُ أَحْمَدَ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ وَاجِبَةٌ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال لَهُ: مَهْيَمْ - أَيْ مَا الْخَبَرُ؟ - قَال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ. فَقَال: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (2) .، وَهَذَا أَمْرٌ يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَكَحَ قَطُّ إِلاَّ أَوْلَمَ فِي ضِيقٍ أَوْ سَعَةٍ، وَلأَِنَّ فِي الْوَلِيمَةِ إِعْلاَنًا لِلنِّكَاحِ، فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلِنُوا النِّكَاحَ (3) ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِجَابَةُ الدَّاعِي إِلَيْهَا وَاجِبَةً، دَل عَلَى أَنَّ فِعْل الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ، لأَِنَّ وُجُوبَ الْمُسَبِّبِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّبَبِ. (4)
__________
(1) الحاوي للماوردي 12 / 192، وتحفة المحتاج 7 / 424 - 425.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. . أخرجه البخاري (الفتح 7 / 112 ـ 113 ـ ط السلفية) .
(3) حديث " أعلنوا النكاح. . . " أخرجه أحمد (4 / 5 ـ ط الميمنة) من حديث عبد الله بن الزبير، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 289 ـ ط القدسي) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات.
(4) الحاوي للماوردي 12 / 191 - 192.(45/233)
الْقَضَاءُ بِالْوَلِيمَةِ:
5 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْوَلِيمَةِ أَوْ عَدَمِ الْقَضَاءِ بِهَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي وُجُوبِ الْوَلِيمَةِ أَوْ نَدْبِهَا.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمَ الْقَضَاءِ بِالْوَلِيمَةِ، لأَِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَمَلُوا الأَْمْرَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَوْلِمْ. . . " عَلَى النَّدْبِ.
وَقَال خَلِيلٌ: وَصُحِّحَ الْقَضَاءُ بِالْوَلِيمَةِ: أَيْ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ طَالَبَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَبَى مِنْهَا، وَأَشَارَ خَلِيلٌ بِهَذَا إِلَى قَوْل أَبِي الأُْصْبُعِ بْنِ سَهْلٍ: الصَّوَابُ الْقَضَاءُ بِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " أَوْلِمْ. . . " وَالأَْصْل فِي الأَْمْرِ الْوُجُوبُ مَعَ الْعَمَل بِهِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَمَحَل الْخِلاَفِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - مَا لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ يَجْرِ بِهَا الْعُرْفُ، وَإِلاَّ قَضَى بِهَا اتِّفَاقًا. . . أَيْ عِنْدَهُمْ. (1)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 321، 337، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 4 / 32، 52، وشرح منح الجليل على مختصر خليل 2 / 140، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 522، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 318، 322.(45/234)
حِكْمَةُ الْوَلِيمَةِ:
6 - الْوَلِيمَةُ: عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لإِِشْهَارِ النِّكَاحِ، قَال مَالِكٌ: كَانَ رَبِيعَةُ يَقُول: إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الطَّعَامُ فِي الْوَلِيمَةِ لإِِثْبَاتِ النِّكَاحِ وَإِظْهَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لأَِنَّ الشُّهُودَ يَهْلَكُونَ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: يُرِيدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَلِيمَةِ وَحَضَّ عَلَيْهَا. (1) بِقَوْلِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (2) . وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ، وَقَوْلُهُ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِبَنِي زُرَيْقٍ فَسَمِعُوا غِنَاءً وَلَعِبًا، فَقَال: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نِكَاحُ فُلاَنٍ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: كَمُل دِينُهُ، هَذَا النِّكَاحُ لاَ السِّفَاحُ، وَلاَ نِكَاحُ السِّرِّ حَتَّى يُسْمَعُ دُفٌّ أَوْ يُرَى دُخَانٌ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ سِرَّهَا - أَيْ حِكْمَةُ الْوَلِيمَةِ - رَجَاءُ صَلاَحِ الزَّوْجَةِ بِبَرَكَتِهَا، فَكَانَتْ كَالْفِدَاءِ لَهَا. (4)
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل 3 / 522 (دار الفكر - بيروت) وحاشية الدسوقي 2 / 337، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4 / 2.
(2) حديث: " أولم ولو. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(3) حديث " ان النبي صلى الله عليه وسلم مر هو وأصحابه ببني زريق. . أخرجه البيهقي في السنن (7 / 290 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، ثم ذكر أن في إسناده راوياً ضعيفا.
(4) تحفة المحتاج مع حاشيتي الشرواني والعبادي 7 / 425 (دار صادر) .(45/234)
إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ:
أ - حُكْمُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ إِلَى ثَلاَثِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الإِْجَابَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ لِلْوَلِيمَةِ مُعَيَّنًا بِالشَّخْصِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا وَلَوْ بِكِتَابٍ أَوْ بِرَسُولٍ ثِقَةٍ يَقُول لَهُ رَبُّ الْوَلِيمَةِ: ادْعُ فُلاَنًا أَوْ أَهْل مَحَلَّةِ كَذَا، أَوْ أَهْل الْعِلْمِ أَوْ الْمُدَرِّسِينَ - وَهُمْ مَحْصُورُونَ - لأَِنَّهُمْ مُعَيَّنُونَ حُكْمًا، فَلاَ تَجِبُ الإِْجَابَةُ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، كَادْعُ مَنْ لَقِيتَ أَوِ الْعُلَمَاءَ أَوِ الْمُدَرِّسِينَ وَهُمْ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى -. (1) بِأَنْ يَقُول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا إِلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ يَقُول الرَّسُول: أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ كُل مَنْ لَقِيتُ أَوْ مَنْ شِئْتُ - لَمْ تَجِبِ الإِْجَابَةُ وَلَمْ تُسْتَحَبُّ، وَتَجُوزُ الإِْجَابَةُ بِهَذَا لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الدُّعَاءِ. (2)
__________
(1) الجفلى الدعوة العامة للوليمة.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 337، وشرح الزرقاني 4 / 52، وكشاف القناع 5 / 166، والمغني 7 / 2 - 3 وحاشية ابن عابدين 5 / 211، والفتاوى الهندية 5 / 343، ونهاية المحتاج 6 / 364، وروضة الطالبين 7 / 333، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 295، ومغني المحتاج 3 / 246.(45/235)
قَال الزُّرْقَانِيُّ: قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَّاحِ: وَالتَّعْيِينُ بِأَنْ يَقُول صَاحِبُ الْعُرْسِ أَوْ وَكِيلُهُ لِمُعَيَّنٍ: تَأْتِي وَقْتَ كَذَا، أَوْ أَسْأَلُكَ الْحُضُورَ، أَوْ أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ، أَوْ تُجَمِّلَنِي بِالْحُضُورِ، لاَ إِنْ قَال: احْضُرْ إِنْ شِئْتَ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ أَوْ اسْتِعْطَافٍ مَعَ رَغْبَتِهِ فِي حُضُورِهِ. (1)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا (2) ، وَفِي لَفْظٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَيْهَا (3) ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأَْغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (4) .
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 52.
(2) حديث " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة. . " أخرجه مسلم (2 / 1052) .
(3) حديث " أجيبوا هذه الدعوة. . " أخرجه مسلم (2 / 1053) .
(4) حديث " شر الطعام طعام الوليمة. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 244 ـ ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(45/235)
قَالُوا: إِنَّ فِي الإِْجَابَةِ تَآلُفًا، وَفِي تَرْكِهَا ضَرَرًا وَتَقَاطُعًا. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي: َذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ - اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - إِلَى أَنَّ الإِْجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لأَِنَّهَا تَقْتَضِي أَكْل طَعَامٍ وَتَمَلُّكُ مَالٍ، وَلاَ يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالاً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلأَِنَّ الزَّكَوَاتِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَى الأَْعْيَانِ لاَ يُلْزَمُ الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَ غَيْرُهَا أَوْلَى. (2)
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: َيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الإِْجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا أَجَابَ مِمَّنْ دُعِيَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ حُرِّجُوا أَجْمَعِينَ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيمَةِ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا لِيَقَعَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَقْصُودُ بِمَنْ حَضَرَ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَمَّنْ تَأَخَّرَ. (3)
ب - مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الإِْجَابَةُ:
الْمَدْعُوُّ إِلَى الْوَلِيمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا وَإِمَّا
__________
(1) الحاوي للماوردي 12 / 193، والمغني 7 / 2.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 221، والفتاوى الهندية 5 / 343، وروضة الطالبين 7 / 333، والحاوي 12 / 192، ومغني المحتاج 3 / 245، والإنصاف 8 / 318.
(3) الإنصاف 8 / 318، والحاوي للماوردي 12 / 193.(45/236)
أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا:
8 ـ أَمَّا الصَّائِمُ فَتَتَحَقَّقُ الإِْجَابَةُ إِلَى الْوَلِيمَةِ فِي حَقِّهِ بِحُضُورِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا لَمْ يُفْطِرْ وَدَعَا لِلْقَوْمِ بِالْبَرَكَةِ وَقَال: إِنِّي صَائِمٌ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمَقَامِ أَوْ الاِنْصِرَافِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (1) ، قَوْلُهُ " فَلْيُصَل " أَيْ يَدْعُو، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَال: " دَعَا أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَأَتَاهُ، فَجَلَسَ وَوَضَعَ الطَّعَامَ، فَمَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَدَهُ وَقَال: خُذُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَقَبَضَ عَبْدَ اللَّهِ يَدَهُ وَقَال: إِنِّي صَائِمٌ " (2) .
وَإِنْ كَانَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا فَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْمَامُ الصِّيَامِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُل وَيُفْطِرَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَنَّهُ إِنْ شَقَّ عَلَى الدَّاعِي صَوْمُ نَفْلٍ مِنَ الْمَدْعُوِّ فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَل مِنْ إِتْمَامِ الصَّوْمِ وَلَوْ آخِرَ النَّهَارِ لِجَبْرِ خَاطِرِ الدَّاعِي، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي دَعْوَةٍ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَال
__________
(1) حديث " إذا دعي أحدكم فليجب. . أخرجه مسلم (2 / 1054 ـ ط الحلبي من حديث أبي هريرة.
(2) أثر عبد الله بن ابي يزيد قال: دعا أبي عبد الله بن عمر. . . أخرجه البيهقي السنن (7 / 263 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) .(45/236)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، ثُمَّ قَال لَهُ: افْطَرْ وَصُمْ مَكَانَهُ صُمْ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالإِْمْسَاكُ أَفْضَلُ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَابَ عَبْدَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَال: إِنِّي صَائِمٌ وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُجِيبَ الدَّاعِيَ، فَأَدْعُو بِالْبَرَكَةِ (2) .، وَعَنْ عَبْدِ اللِّهِ قَال: إِذَا عُرِضَ عَلَى أَحَدِكُمْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائِمٌ (3) .
قَال الرَّحِيبَانِيُّ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الْمَدْعُوِّ الأَْكْل كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِي كَانَ تَمَامُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ فِطْرِهِ.
قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهُوَ أَعْدَل الأَْقْوَالِ، وَقَال: لاَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الإِْلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ أَيْ الأَْكْل لِلْمَدْعُوِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفِطْرِ فِي التَّطَوُّعِ، أَوْ الأَْكْل إِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَإِنَّ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ جَائِزٌ، وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لاَ يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. (4)
__________
(1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعوة. . أخرجه البيهقي (4 / 279 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) ، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (4 / 210) .
(2) أثر عثمان أنه أجاب عبد المغيرة، عزاه ابن قدامة في المغني (10 / 197 ـ ط دار هجر) .
(3) أثر عبد الله إذا عرض على أحدكم طعام أو شراب. . أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4 / 200 ـ ط المجلس العلي) .
(4) الفتاوى الهندية 5 / 343، ومواهب الجليل 4 / 5، وحاشية الدسوقي 2 / 338، والحاوي للماوردي 12 / 196، وإعانة الطالبين 3 / 365، والمغني 7 / 4، ومطالب أولي النهى 5 / 235، ومغني المحتاج 3 / 248.(45/237)
9 ـ أَمَّا الْمَدْعُوُّ الْمُفْطِرُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِهِ فِي الْوَلِيمَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
َذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الظَّاهِرِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْطِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الأَْكْل وَلاَ يَلْزَمُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعُمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ الأَْكْل عَلَى الْمُفْطِرِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَل وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (2) ، وَلأَِنَّ الأَْكْل هُوَ مَقْصُودُ الْحُضُورِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ: إِنَّ الأَْكْل فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنْ أَكَل غَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الأَْكْل. (3)
__________
(1) حديث " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب. . أخرجه مسلم (2 / 1504 ـ ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث " إذا دعي أحدكم فليجب أخرجه مسلم (2 / 1504 ـ ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 343، ومواهب الجليل 4 / 5، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 338، والحاوي 12 / 197، وحاشية القليوبي 3 / 298، ومطالب أولي النهى 5 / 235، ومغني المحتاج 3 / 248، وحاشية ابن عابدين 5 / 221، والبناية 9 / 207، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175.(45/237)
ج ـ شُرُوطُ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ شُرُوطًا مِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّاعِي، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَدْعُوِّ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَلِيمَةِ نَفْسِهَا.
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَةِ:
أَوَّلاً: أَنْ لاَ يَكُونُ فِي الدَّعْوَةِ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ أَوْ عَدُوٌّ لَهُ:
10 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَةِ مَنْ يَتَأَذَّى الْمَدْعُوُّ بِهِ أَوْ لاَ يَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ. . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ التَّأَذِّي لأَِمْرٍ دِينِيٍّ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَاوَةِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ كُلِّهِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَحْضُرَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ لأَِمْرٍ دِينِيٍّ، كَمَنْ شَأْنُهُمْ الْوُقُوعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، فَإِنْ حَضَرَ مَنْ ذُكِرَ لَمْ تَجِبِ الإِْجَابَةُ، أَمَّا لَوْ حَضَرَ مَنْ يَتَأَذَّى مِنْ رُؤْيَتِهِ أَوْ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لأَِجْل حَظِّ نَفْسٍ لاَ لِضَرَرٍ يَحْصُل لَهُ مِنْهُ(45/238)
فَإِنَّهُ لاَ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ لِذَلِكَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ بِالْمَحَل الَّذِي يَحْضُرُ فِيهِ الْمَدْعُوِّ إِلَى الْوَلِيمَةِ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ، أَوْ لاَ يَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأَذِّي فِي الأَْوَّل وَالْغَضَاضَةِ فِي الثَّانِي.
وَمَثَّلُوا لِلْغَضَاضَةِ بِمَنْ لاَ يَلِيقُ بِالْمَدْعُوِّ مُجَالَسَتُهُ كَالأَْرْذَال لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَمَثَّلُوا لِلتَّأَذِّي بِحُضُورِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْعُوِّ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، كَمَا نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَقَال - الرَّمْلِيُّ وَوَافَقَهُ الْخَطِيبُ -: أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالدَّاعِي، لَكِنَّ الرَّمْلِيَّ نَقَل عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَدْعُوِّ عَدُوٌّ أَوْ دَعَاهُ عَدْوُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ، وَحَمَل ذَلِكَ كَمَا نَقَل عَنِ الأَْذْرُعِيِّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لاَ يَتَأَذَّى بِهِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَفِي التَّرْغِيبِ وَالْبُلْغَةِ: أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ حُضُورَ الأَْرْذَال وَمَنْ مُجَالَسَتُهُمْ تُزْرِي بِمِثْلِهِ لَمْ تَجِبْ إِجَابَتُهُ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ هَذَا الْقَوْل: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 337.
(2) نهاية المحتاج 6 / 367، ومغني المحتاج 3 / 246.(45/238)
قَال: وَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْوُجُوبَ، وَاشْتَرَطَ الْحِل وَعَدَمَ الْمُنْكَرِ، فَأَمَّا هَذَا الشَّرْطُ فَلاَ أَصْل لَهُ، كَمَا أَنَّ مُخَالَطَةَ هَؤُلاَءِ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ لاَ تُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ، وَفِي الْجِنَازَةِ لاَ تُسْقِطُ الْحُضُورَ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. (1)
ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مُنْكَرٌ:
11 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْل الْحُضُورِ بِوُجُودِ الْخُمُورِ أَوِ الْمَلاَهِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي فِيهَا، وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ الإِْجَابَةِ فِي حَقِّهِ. (2)
12 - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ حُضُورِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ ـ وَهُوَ الصَّحِيحُ ـ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ (3) ، وَلأَِنَّهُ يَكُونُ قَاصِدًا لِرُؤْيَةِ
__________
(1) الإنصاف 8 / 319، وكشاف القناع 5 / 167.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 377، وشرح الزرقاني 4 / 53، والحاوي للماوردي 12 / 199، وروضة الطالبين 7 / 334، ومطالب أولي النهى 5 / 237، وانظر الفتاوى الهندية 5 / 343.
(3) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. . . أخرجه الترمذي (5 / 113 ـ ط الحلبي) وقال: حديث حسن غريب.(45/239)
الْمُنْكَرِ أَوْ سَمَاعِهِ بِلاَ حَاجَةٍ. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ عَلَيْهَا لَهْوٌ إِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْل الْحُضُورِ لاَ يُجِيبُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الإِْجَابَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ جَرَى عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ: الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَحْضُرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ وَلاَ يَسْتَمِعَ وَيُنْكِرَ بِقَلْبِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ يُضْرَبُ الْمُنْكَرُ فِي جِوَارِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّحَوُّل وَإِنْ بَلَغَهُ الصَّوْتُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْحُضُورِ بِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحَشَمَهُمْ حُضُورُهُ فَكَفُّوا وَأَقْصَرُوا، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ دُعِيَا إِلَى وَلِيمَةٍ فَسَمِعَا مُنْكَرًا فَقَامَ مُحَمَّدُ لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَهُ الْحَسَنُ وَقَال: اجْلِسْ وَلاَ يَمْنَعُكَ مَعْصِيَتُهُمْ مِنْ طَاعَتِكَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ وُجُودَ الْمُنْكَرِ قَبْل حُضُورِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ يَزُول بِحُضُورِهِ لِنَحْوِ عِلْمٍ أَوْ جَاهٍ فَلْيَحْضُرْ وُجُوبًا، إِجَابَةً لِلدَّعْوَةِ وَإِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وَلاَ يَمْنَعُ الْوُجُوبُ وُجُودَ مَنْ يُزِيلُهُ غَيْرُهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلإِْزَالَةِ فَقَطْ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمُنْكَرِ يَمْنَعُ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 334 ـ 335، والحاوي 12 / 199.
(2) الاختيار 4 / 176، وانظر الفتاوى الهندية 5 / 343، وحاشية ابن عابدين 5 / 222.(45/239)
الإِْجَابَةَ مُطْلَقًا. (1)
13 - وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِي الْوَلِيمَةِ مِنَ الْمَعَاصِي فَعَلَيْهِ الإِْجَابَةُ وَلاَ يَكُونُ خَوْفُهُ مِنْهَا عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَكُونَ.
وَإِنْ حَضَرَ وَكَانَتِ الْمَعَاصِي بِحَيْثُ لاَ يُشَاهِدُهَا وَلاَ يَسْمَعُهَا، قَال الْجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَقَامَ عَلَى حُضُورِهِ وَلَمْ يَنْصَرِفْ.
وَإِنْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشَاهِدْهَا قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يَتَعَمَّدِ السَّمَاعَ وَأَقَامَ عَلَى الْحُضُورِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لَوْ سَمِعَ فِي مَنْزِلِهِ مَعَاصٍ مِنْ دَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الاِنْتِقَال عَنْ مَنْزِلِهِ، كَذَلِكَ هَذَا. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ فَشَاهَدَهُ نَهَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا وَجَبَ الْخُرُوجُ إِلاَّ إِنْ خَافَ كَأَنْ كَانَ فِي لَيْلٍ وَخَافَ مِنَ الْخُرُوجِ فَقَعَدَ كَارِهًا بِقَلْبِهِ وَلاَ يَسْمَعُ لِمَا يَحْرُمُ اسْتِمَاعُهُ.
وَإِنْ اشْتَغَل بِالْحَدِيثِ أَوْ الأَْكْل جَازَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي جِوَارِ بَيْتِهِ، لاَ يَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الصَّوْتُ.
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 334 ـ 335، ومطالب أولي النهى 5 / 237، والحاوي للماوردي 12 / 200، ونهاية المحتاج 6 / 367 ـ 368، والزرقاني 4 / 52، والخرشي 3 / 302.
(2) الحاوي 12 / 200، وشرح الزرقاني 4 / 53، ومطالب أولي النهى 5 / 237.(45/240)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ وَجَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ إِجَابَةً لِلدَّعْوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ انْصَرَفَ لِئَلاَّ يَكُونَ قَاصِدًا لِرُؤْيَتِهِ أَوْ سَمَاعِهِ (1) ، وَرَوَى نَافِعٌ قَال: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَقَال لِي: يَا نَافِعُ هَل تَسْمَعُ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لاَ، قَال: فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ مِثْل هَذَا فَصَنَعَ مِثْل هَذَا (2) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُنْكَرُ فِي الْمَنْزِل فَإِنْ قَدِرَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الْمَنْعِ فَعَل وَإِلاَّ صَبَرَ مَعَ الإِْنْكَارِ بِقَلْبِهِ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى بِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلاَ يَقْعُدُ لأَِنَّ فِيهِ شَيْنُ الدِّينِ. (3)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ عَلَى الْمَائِدَةِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، بَل يَخْرُجُ مُعْرِضًا. (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (5) } .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 247، ومطالب أولي النهى 5 / 237.
(2) حديث نافع قال: سمع ابن عمر مزماراً أخرجه أبو داود (5 / 222 ـ ط حمص) وقال أبو داود: هذا حديث منكر.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 221.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 243، وحاشية ابن عابدين 5 / 221.
(5) سورة الأنعام / 68.(45/240)
ثَالِثًا: أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ صُورَةً مُحَرَّمَةً: 14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ تَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ صُوَرٌ مُجَسِّدَةٌ لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَامِل الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَلَهَا ظِلٌّ يَدُومُ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ، إِذْ تَصْوِيرُ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ إِذَا كَانَ كَامِل الأَْعْضَاءِ مُحَرَّمٌ فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ (1) ، وَقَال: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ مِنْهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ (2) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ، فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرَ فَرَجَعَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا رَجَعَكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَال: إِنَّ فِي الْبَيْتِ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ (3) .
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المصور. . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 393 ـ ط السلفية) من حديث أبي جحيفة.
(2) حديث: " من صور صورة في الدنيا. . . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 393 ـ ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث " علي أنه صنع طعام. . . " أخرجه أبو يعلى في المسند (1 / 343 ـ ط المأمون للتراث) .(45/241)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَال هَذِهِ الصُّوَرِ فِي مَكَانٍ مُهَانٍ مُسْتَبْذَلٍ، وَفِيمَا إِذَا كَانَتِ الصُّورَةُ لِحَيَوَانٍ لَمْ يُشَاهِدْ مَثَلَهُ، أَوْ كَانَ نَاقِصَ الأَْعْضَاءِ أَوْ لاَ يَدُومُ ظِلُّهُ، وَفِي تَصْوِيرِ مَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ تَنْظُرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير، ف 2، 10، 17)
رَابِعًا: أَنْ لاَ يُوجَدَ كَلْبٌ:
15 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يُوجَدَ كَلْبٌ لاَ يَحِل اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ عَقُورٌ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الدَّاخِل أَعْمًى. (1)
خَامِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ كَثْرَةَ زِحَامٍ:
16 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ كَثْرَةَ زِحَامٍ، فَإِنْ وُجِدَتْ جَازَ التَّخَلُّفُ عَنْ حُضُورِ الدَّعْوَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَكُونُ كَثْرَةُ الزَّحْمَةِ عُذْرًا إِنْ وَجَدَ سِعَةً لِمَدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَأَمِنَ عَلَى نَحْوِ عِرْضِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِعَةً وَلَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَحْوِ عِرْضِهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الزَّحْمَةِ تَكُونُ عُذْرًا. (2)
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 338، وحاشية الصاوي 2 / 502، ونهاية المحتاج 6 / 368.
(2) الزرقاني 4 / 53، وحاشية الدسوقي 2 / 338، وتحفة المحتاج 7 / 430، ونهاية المحتاج 6 / 367.(45/241)
سَادِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ بَابُ مَكَانِ الْوَلِيمَةِ مُغْلَقًا:
17 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ ضِمْنَ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَدَمَ إِغْلاَقِ الْبَابِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَدْعُوِّ، فَلَوْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ عِنْدَ حُضُورِهِ وَلَوْ لِمُشَاوَرَةٍ جَازَ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْحُضُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِطَّةِ.
أَمَّا إِغْلاَقُ مَكَانِ الْوَلِيمَةِ لِخَوْفِ الطُّفَيْلِيَّةِ فَلاَ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ؛ لأَِنَّ الإِْغْلاَقَ لِلضَّرُورَةِ. (1)
سَابِعًا: أَنْ لاَ يَكُونَ مَكَانُ الْوَلِيمَةِ بَعِيدًا:
18 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَلاَّ يَبْعُدَ مَكَانُهَا بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَى الْمُجِيبِ الإِْتْيَانُ. (2)
ثَامِنًا: أَنْ لاَ تُوجَدَ نِسَاءٌ يُشْرِفْنَ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ:
19 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُسْقِطُ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ لِلْوَلِيمَةِ أَنْ تُوجَدَ نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ إِلَى الْمَدْعُوِّينَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْقِطُ الإِْجَابَةَ كَوْنُ الطَّرِيقِ أَوْ الْبَيْتِ فِيهِ نِسَاءٌ وَاقِفَاتٌ يَتَفَرَّجْنَ عَلَى الدَّاخِل.
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 53، وحاشية الدسوقي 2 / 338.
(2) الزرقاني على خليل 4 / 54.(45/242)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يُوجَدَ مُحْرَمٌ: كَنَظَرِ رَجُلٍ لاِمْرَأَةٍ أَوْ عَكْسِهِ، فَإِشْرَافُ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَال عُذْرٌ فِي عَدَمِ الإِْجَابَةِ وَلَوْ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزَ عَنْ رُؤْيَتِهِنَّ لَهُ كَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِحَيْثُ لاَ يُرَى شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ. (1)
تَاسِعًا: أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ اخْتِلاَطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال:
20 - مِنْ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَكَانِ الْوَلِيمَةِ اخْتِلاَطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال. (2)
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي:
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي لِوُجُوبِ الإِْجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ هِيَ:
أَوَّلاً: كَوْنُ الدَّاعِي مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ:
21 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، فَلاَ تُطْلَبُ إِجَابَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِصِبًا، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَفَهٍ وَإِنْ أَذِنَ وَلَيُّهُ، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِهِ لاَ بِإِتْلاَفِهِ، نَعَمْ إِنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 338، وحاشية الصاوي 2 / 502، وشرح الزرقاني 4 / 54، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملي 6 / 367، وحاشية الشرقاوي 2 / 276.
(2) شرح الزرقاني 4 / 54، والطرق الحكمية لابن قيم الجوزية 328 ـ 329 نشر المؤسسة العربية للطباعة والنشر 1961، ونهاية المحتاج 6 / 367.(45/242)
اتَّخَذَ الْوَلِيُّ الْوَلِيمَةَ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ وُجُوبُ الْحُضُورِ (1) ، وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الآْخَرِينَ. وَانْظُرْ (أَهْلِيَّة ف 22، وَبُلُوغ ف 26، وَجُنُون ف 9) .
ثَانِيًا: كَوْنُ الدَّاعِي مُسْلِمًا:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا مُسْلِمًا.
فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي كَافِرًا فَلاَ تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الإِْجَابَةَ لِلْمُسْلِمِ لِلإِْكْرَامِ وَالْمُوَالاَةِ وَتَأْكِيدِ الْمَوَدَّةِ وَالإِْخَاءِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ اخْتِلاَطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَلَكِنْ تَجُوزُ إِجَابَةُ الْكَافِرِ. (2) لِمَا رَوَى أَنَسٌ أَنْ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ (3) .
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالذَّهَابِ إِلَى ضِيَافَةِ أَهْل الذِّمَّةِ.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 246.
(2) شرح الزرقاني 4 / 53 ـ 54، والحاوي 12 / 194، والمغني 7 / 3.
(3) حديث " أنس أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أحمد (3 / 270 ـ ط الميمنية) ، وأصله في البخاري (الفتح 4 / 302 ـ ط السلفية) .(45/243)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ: الْمَجُوسِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ إِذَا دَعَا رَجُلاً إِلَى طَعَامِهِ تُكْرَهُ الإِْجَابَةُ، وَإِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ اللَّحْمَ مِنَ السُّوقِ فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي نَصْرَانِيًّا فَلاَ بَأْسَ بِهِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ تَجِبُ إِجَابَةُ دَعْوَةِ الذِّمِّيِّ. (2)
ثَالِثًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي فَاسِقًا:
23 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي فَاسِقًا، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي فَاسِقًا فَلاَ تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ، قَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: كُل مَنْ جَازَ هَجْرُهُ لاَ تَجِبْ إِجَابَتُهُ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْفَاسِقِ مُعْلِنًا فِسْقَهُ (3) ، وَفِي الْخُلاَصَةِ: يَجُوزُ لِلْوَرِعِ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ، وَالأَْوْرَعُ أَنْ لاَ يُجِيبَ. (4)
رَابِعًا: أَنْ لاَ يَكُونَ غَالِبَ مَال الدَّاعِي مِنْ حَرَامٍ:
24 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبْ إِجَابَةُ دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبَ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 347.
(2) الحاوي للماوردي 12 / 194.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 343، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، وشرح الزرقاني 4 / 54، ونهاية المحتاج 6 / 366، ومطالب أولي النهى 5 / 232، وانظر شرح المغني 3 / 33.
(4) بريقة محمودية 4 / 103.(45/243)
حَلاَلٌ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِجَابَتُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إِجَابَةِ وَلِيمَةُ مَنْ كَانَ فِي مَالِهِ حَرَامٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِجَابَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ. (1) لِحَدِيثِ مَنْ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (2) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تَقْوَى الْكَرَاهَةُ وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ. (3)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ كَانَ غَالِبَ مَالِهِ حَلاَلٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَرَامٌ. (4)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةٌ لاَ يَجُوزُ الْحُضُورُ وَلاَ الأَْكْل. (5)
وَيَرَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ الشِّيرَازِيُّ وَالأَْزَجِيُّ حَيْثُ قَالُوا بِتَحْرِيمِ الأَْكْل مُطْلَقًا وَلَوْ قَل الْحَرَامُ كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 343، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، وشرح الزرقاني 4 / 54، ونهاية المحتاج 6 / 366، ومطالب أولي النهى 5 / 232، وانظر شرح المغني 3 / 23.
(2) حديث " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه. . أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 ـ ط السلفية) ومسلم (3 / 1220 ـ ط الحلبي) .
(3) الفروع لابن مفلح 2 / 658.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 343، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175.
(5) القوانين الفقهية ص 428، ومواهب الجليل 4 / 4.(45/244)
كَمَا اخْتَارَ جَمْعٌ مِنْهُمْ، الْخِرَقِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَرَامُ أَكْثَرَ حَرُمَ الأَْكْل وَإِلاَّ فَلاَ يَحْرُمُ، إِقَامَةً لِلأَْكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَاخْتَارَ جَمْعٌ آخَرُ - مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ - أَنَّهُ إِنْ زَادَ الْحَرَامُ عَلَى الثُّلْثِ حَرُمَ الأَْكْل وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
خَامِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي طَالِبًا لِلْمُبَاهَاةِ:
25 - يُشْتَرَطُ لإِِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا طَالِبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ.
وَبِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (2)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا قَصْدًا مَذْمُومًا مِنَ التَّطَاوُل وَإِنْشَاءِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلاَ يَنْبَغِي إِجَابَتُهَا لاَ سِيَّمَا أَهْل الْعِلْمِ؛ لأَِنَّ فِي الإِْجَابَةِ إِذْلاَل أَنْفُسِهِمْ.
كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْل طَعَامٍ اتُّخِذَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَدْعُوِّ بِالْقَرَائِنِ وَالأَْمَارَاتِ. (3)
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 233، وشرح الزرقاني 4 / 54.
(2) الزرقاني 4 / 54، ونهاية المحتاج 6 / 366، ومغني المحتاج 3 / 246.
(3) البناية 9 / 202، وحاشية الطحطاوي 4 / 175، وبريقة محمودية 4 / 103.(45/244)
سَادِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي امْرَأَةً غَيْرَ مَحْرَمٍ:
26 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا امْرَأَةً غَيْرَ مَحْرَمٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الدَّاعِيَةِ مَحْرَمٌ لِلْمَدْعُوِّ أُنْثَى يَحْتَشِمُهَا، أَوْ يَكُونَ لِلْدَّاعِيَةِ مَحْرَمٌ.
وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ دَعَتِ امْرَأَةٌ رَجُلاً عَيَّنَتْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ إِلاَّ مَعَ خَلْوَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَتَحْرُمُ الإِْجَابَةُ لاِشْتِمَالِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ. (2)
سَابِعًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي قَدْ خَصَّ بِالدَّعْوَةِ الأَْغْنِيَاءَ:
27 - يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَظْهَرَ مِنَ الدَّاعِي قَصْدُ تَخْصِيصِ الأَْغْنِيَاءِ لأَِجْل غِنَاهُمْ، فَلَوْ خَصَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ لأَِجْل غِنَاهُمْ لَمْ تَجِبْ الإِْجَابَةُ عَلَيْهِمْ فَضْلاً عَنْ غَيْرِهِمْ (3) ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى
__________
(1) الزرقاني 4 / 54، ونهاية المحتاج 6 / 365، ومغني المحتاج 3 / 246، وفتح الباري 1 / 490 ط السلفية، وشرح سنن أبي داود لبدر الدين العيني 3 / 128 ـ 130.
(2) مطالب أولي النهى 5 / 234، وانظر عمدة القاري 4 / 110 ـ 112 ط المنيرية.
(3) شرح الزرقاني 4 / 54، وإعانة الطالبين 3 / 358 ـ 358، ومطالب أولي النهى 5 / 236، ومغني المحتاج 3 / 246، ومواهب الجليل 4 / 4.(45/245)
إِلَيْهَا الأَْغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي اخْتِصَاصِ الأَْغْنِيَاءِ بِالدَّعْوَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَعَل ذَلِكَ هَل تُجَابُ دَعْوَتُهُ أَمْ لاَ؟ فَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ لاَ تُجَابُ، وَنَحَا نَحْوَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ وُجُوبُ الإِْجَابَةِ وَقَال فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي تَرْجَمَةِ حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إِتْيَانِ الْوَلِيمَةِ " قَال مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ دُونٌ، فَأَتَى لِيَدْخُل فَمُنِعَ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ: فَذَهَبَ فَلَبِسَ ثِيَابًا جِيَادًا ثُمَّ جَاءَ فَأُدْخِل، فَلَمَّا وُضِعَ الثَّرِيدُ وَضَعَ كُمَّيْهِ عَلَيْهِ فَقِيل لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ ! فَقَال: إِنَّمَا هِيَ الَّتِي أُدْخِلَتْ، وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ أَدْخُل قَدْ رَدَدْتُ إِذْ لَمْ تَكُنْ عَلَيَّ. ثُمَّ بَكَى وَقَال: ذَهَبَ حِبِّي وَلَمْ يَنَل مِنْ هَذَا شَيْئًا وَبَقِيتُمْ تُهَانُونَ بَعْدَهُ " (2) قَال ابْنُ رُشْدٍ: هَذِهِ الْوَلِيمَةُ الَّتِي رَدَّ فِيهَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْهُ مِنْ حُجَّابِ بَابِ الْوَلِيمَةِ إِذْ ظَنَّهُ فَقِيرًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ الدُّونِ وَأَدْخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ رَآهُ مِنْ حُجَّابِهَا فِي
__________
(1) حديث " شر الطعام طعام الوليمة. . " تقدم فقرة (7) .
(2) أثر أبي هريرة أنه دعي إلى وليمة، ذكره الخطاب في مواهب الجليل (4 / 4) ولم نهتد من أخرجه.(45/245)
صِفَةِ الأَْغْنِيَاءِ بِالثِّيَابِ الْحِسَانِ هِيَ الَّتِي قَال فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الأَْغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُرْوَى بِئْسَ الطَّعَامُ يُرِيدُ أَنَّهُ بِئْسَ الطَّعَامُ لِمُطْعِمِهِ إِذْ رَغِبَ عُمَّالُهُ فِي الْحَظِّ مِنْ أَنْ لاَ يَخُصَّ بِطَعَامِهِ الأَْغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ فَالْبَأْسُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ لاَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَبَكَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَفَقًا مِنْ تَغْيِيرِ الأَْحْوَال عَلَى قُرْبِ الْعَهْدِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَةِ النَّاسِ عَمَّا نُدِبُوا إِلَيْهِ فِي وَلاَئِمِهِمْ مِنْ عَمِلَهَا وَتَرْكِ الرِّيَاءِ فِيهَا وَالسُّمْعَةِ. (1)
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَدْعُوِّ:
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ فِي الْمَدْعُوِّ مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: الْعَقْل وَالْبُلُوغُ:
28 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ عَلَى الْمَدْعُوِّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً وَبَالِغًا لِيَكُونَ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْل مِمَّنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ حُكْمُ الاِلْتِزَامِ. (2)
__________
(1) مواهب الجليل4 / 4.
(2) الحاوي للماوردي 12 / 195.(45/246)
ثَانِيًا: الْحُرِّيَّةُ:
29 - يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ عَلَى الْمَدْعُوِّ أَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ بِحَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ لَزِمَتْهُ الإِْجَابَةُ حِينَئِذٍ. (1)
ثَالِثًا: الإِْسْلاَمُ:
30 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِلْوَلِيمَةِ عَلَى الْمَدْعُوِّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلاَ يَلْزَمُ ذِمِّيًّا إِجَابَةُ دَعْوَةِ مُسْلِمٍ لأَِنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ شَرْعِنَا إِلاَّ عَنْ تَرَاضٍ. (2)
رَابِعًا: أَنْ لاَ يُوجَدَ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَلاَّ يَقُومَ بِالْمَدْعُوِّ إِلَيْهَا عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا يَمْنَعُهُ مِنْ حُضُورِهَا، كَتِلْكَ الأَْعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْقِطُ الإِْجَابَةَ عِلْمُ الْمَدْعُوِّ بِفَوَاتِ الْجُمْعَةِ إِذَا ذَهَبَ، وَبُعْدُ الْمَكَانِ جِدًّا، بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَى الْمَدْعُوِّ الذَّهَابُ إِلَيْهَا عَادَةً، وَمَرَضُ وَتَمْرِيضُ قَرِيبٍ، وَشِدَّةُ وَحْلٍّ أَوْ مَطَرٍ أَوْ خَوْفٍ عَلَى مَالٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) الحاوي للماوردي 12 / 195، وكشاف القناع 5 / 167.
(2) نهاية المحتاج 6 / 365، والحاوي 12 / 195.(45/246)
أَعْذَارِ الْجُمْعَةِ. (1)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلإِْجَابَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْعُوِّ مَعْذُورًا بِمُرَخَّصٍ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَتَوَقَّفَ الأَْذْرَعِيُّ فِي إِطْلاَقِهِ، وَأَنْ لاَ يَتَعَيَّنَ عَلَى الْمَدْعُوِّ حَقٌّ كَأَدَاءِ شَهَادَةٍ وَصَلاَةِ جِنَازَةٍ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ إِلَى الْوَلِيمَةِ مَرِيضًا، أَوْ مُمَرِّضًا لِغَيْرِهِ، أَوْ مَشْغُولاً بِحِفْظِ مَالٍ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ فِي مَطَرٍ يَبُل الثِّيَابَ، أَوْ وَحْلٍ. . . لَمْ تَجِبْ الإِْجَابَةُ لأَِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ فَأَبَاحَ تَرْكَ الإِْجَابَةِ.
وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ أَجِيرًا خَاصًّا وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ؛ لأَِنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، أَشْبَهَ الْعَبْدَ غَيْرَ الْمَأْذُونِ. (3)
خَامِسًا: أَنْ لاَ يَسْبِقَ الدَّاعِي غَيْرَهُ:
32 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لاَ يَسْبِقَ الدَّاعِي غَيْرَهُ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الدَّاعِي كَأَنْ دَعَاهُ رَجُلاَنِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَسَبَقَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 338، والزرقاني 4 / 54.
(2) مغني المحتاج 3 / 246، ونهاية المحتاج 6 / 366.
(3) كشاف القناع 5 / 167.(45/247)
أَجَابَ السَّابِقَ؛ لأَِنَّ إِجَابَتَهُ وَجَبَتْ حِينَ دَعَاهُ، فَلَمْ يَزُل الْوُجُوبُ بِدُعَاءِ الثَّانِي، وَلَمْ تَجِبْ إِجَابَةُ الثَّانِي؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ مَعَ إِجَابَةِ الأَْوَّل.
33 - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ إِنْ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ الآْخَرَ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الدَّاعِيَيْنِ إِنِ اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَةِ فَذُو الرَّحِمِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَأَقْرَبُهُمَا رَحِمًا، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَأَقْرَبُهُمَا دَارًا، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَجَابَهُ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ: فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ إِنْ وُجِّهَتِ الدَّعْوَةُ مِنْ رَجُلَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَةِ أَجَابَ الْمَدْعُوُّ أَقْرَبُهُمَا بَابًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا اجْتَمَعَ الدَّاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا جِوَارًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبْ الَّذِي سَبَقَ (2) ، وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ فَقُدِّمَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَقْرَبُهُمَا رَحِمًا لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَدْيَنَهُمَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا لأَِنَّ الْقُرْعَةَ تُعَيِّنُ الْمُسْتَحِقَّ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ. (3)
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 54، وحاشية الشرقاوي على تحفة المحتاج 2 / 278، ومغني المحتاج 3 / 246.
(2) حديث " إذا اجتمع داعيان. . أخرجه أبو داود (3 / 134 ـ ط حمص) وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 415 ـ ط العلمية) .
(3) المغني 7 / 4.(45/247)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ اسْتَوَى الدَّاعِيَانِ فِي الدَّعْوَةِ أَجَابَ أَدْيَنَهُمَا؛ لأَِنَّ كَثْرَةَ الدِّينِ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّقْدِيمِ كَالإِْمَامَةِ، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا رَحِمًا لِمَا فِي تَقْدِيمِهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا جِوَارًا ثُمَّ إِنِ اسْتَوَيَا يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ لإِِجَابَتِهِمَا فَتَجِبُ الإِْجَابَةُ. (1)
سَادِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ قَاضِيًا:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الْقَاضِي الدَّعْوَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى جَوَازِ حُضُورِ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ إِجَابَةٌ لِلسُّنَّةِ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهِ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ مَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا خُصُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ فَلاَ يَحْضُرُهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيذَاءِ الْخَصْمِ الآْخَرِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا كَثُرَتِ الْوَلاَئِمُ وَقَطَعَتْهُ عَنِ الْحُكْمِ تَرَكَهَا فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَرَأْيٌ عِنْدَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 169، والإنصاف 8 / 334 ـ 335.(45/248)
كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْضُرُهَا وَيَأْمُرُ بِحُضُورِهَا وَقَال: مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَثُرَتْ وَازْدَحَمَتْ تَرَكَهَا كُلَّهَا وَلَمْ يُجِبْ أَحَدًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُشْغِلُهُ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِلَيْهَا. (2)
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَلِيمَةِ نَفْسِهَا:
أَوَّلاً: كَوْنُ الْوَلِيمَةِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل:
35 - يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الأَْوَّلِ، فَإِنْ أَوْلَمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لَمْ تَجِبْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَتُكْرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، بِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْوَلِيمَةُ أَوَّل يَوْمٍ حَقٌّ، وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ (3) .
__________
(1) حديث (من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله. . " أخرجه ابن حجر في التلخيص (3 / 413 ـ ط العلمية) إلى أبي يعلى وقال: بإسناد صحيح.
(2) البدائع 7 / 10، وفتح القدير 7 / 273، والزرقاني 7 / 133، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 140، ومواهب الجليل 6 / 119 ـ 120، وروضة الطالبين 11 / 165 ـ 166، وتحفة المحتاج 7 / 482، والمغني 9 / 79 - 80، وكشاف القناع 5 / 169، ومطالب أولي النهى 6 / 481.
(3) حديث " الوليمة أول يوم حق. . . " أخرجه أبو داود (4 / 126 ـ 127 ـ ط حمص) من حديث زهير بن عثمان الثقفي، وقال البخاري في التاريخ الكبير (3 / 425 ـ ط دائرة المعارف العثمانية) : لم يصح إسناده، ولا يعرف له صحبة. يعني راويه زهير بن عثمان الثقفي.(45/248)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ حُكْمِ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلِيمَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِضِيقِ مَنْزِلٍ أَوْ قَصْدِ جَمْعِ الْمُتَنَاسِبِينَ فِي وَقْتٍ كَالْعُلَمَاءِ وَالتُّجَّارِ وَنَحْوِهِمْ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا بَنَى الرَّجُل بِامْرَأَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الْجِيرَانَ وَالأَْقْرِبَاءَ وَالأَْصْدِقَاءَ وَيَذْبَحَ لَهُمْ وَيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، وَإِذَا اتَّخَذَ وَلِيمَةً يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَدْعُوَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعُرْسُ وَالْوَلِيمَةُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ تَكْرَارُالْوَلِيمَةِ، لأَِنَّهُ سَرَفٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ ثَانِيًا غَيْرَ الْمَدْعُوِّ قَبْل ذَلِكَ. (2)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - اعْتَمَدَهُ الأَْذْرَعِيُّ - أَنَّهُ تَجِبُ الإِْجَابَةُ إِنْ لَمْ يُدْعَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل أَوْ دُعِيَ وَامْتَنَعَ لِعُذْرٍ وَدُعِيَ فِي الثَّانِيَةِ. (3)
__________
(1) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 3 / 296، ونهاية المحتاج 6 / 367، ومطالب أولي النهى 5 / 233 ـ 235، والفتاوى الهندية 5 / 343.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه 2 / 337.
(3) نهاية المحتاج 6 / 367، وتحفة المحتاج 7 / 426.(45/249)
ثَانِيًا: وَقْتُ الْوَلِيمَةِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الْوَلِيمَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ تَكُونُ بَعْدَ الدُّخُول. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ وَقْتَ الْوَلِيمَةِ الأَْفْضَل بَعْدَ الدُّخُولِ، وَأَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ فَيَدْخُل وَقْتُهَا بِهِ. (2)
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الاِتِّجَاهِ مَا قَالَهُ الْمِرْدَاوِيُّ: الأَْوْلَى أَنْ يُقَال وَقْتُ الاِسْتِحْبَابِ مُوَسَّعٌ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ إِلَى انْتِهَاءِ أَيَّامِ الْعُرْسِ لِصِحَّةِ الأَْخْبَارِ فِي هَذَا وَهَذَا، وَكَمَال السُّرُورِ بَعْدَ الدُّخُول. وَلَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِفِعْلِهَا قَبْل الدُّخُول بِيَسِيرٍ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ تُسَنُّ الْوَلِيمَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ. (4)
وَيَرَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ تَكُونُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 337، والإنصاف 8 / 317.
(2) إعانة الطالبين 3 / 357، ونهاية المحتاج 6 / 363 ـ 364.
(3) مطالب أولي النهى 5 / 232.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 232، والإنصاف 8 / 317، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، وحاشية الدسوقي 2 / 337.(45/249)
عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الدُّخُول. (1)
ثَالِثًا: تَعَدُّدُ الْوَلِيمَةِ:
37 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فِي عَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ تُجْزِيِهِ وَلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ قَصَدَ بِهَا الْجَمِيعَ لَتَدَاخُل أَسْبَابِهَا، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا بَقِيَ طَلَبُ غَيْرِهَا. (2)
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَلِيمَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَلَوْ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ دُخُولٍ وَاحِدٍ. (3)
رَابِعًا: أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الْوَلِيمَةِ:
38 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ " الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِقَل الْوَلِيمَةِ وَتَحْصُل السُّنَّةُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَطَعَمَهُ، وَلَوْ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ لِمَا فِي الصَّحِيحِ أَوْلَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ (4) .
وَنَقَل عِيَاضٌ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِقَل
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، وبريقة محمودية 4 / 176.
(2) القليوبي 3 / 294، ومطالب أولي النهى 5 / 232.
(3) القليوبي 3 / 294.
(4) حديث " أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير. . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 238 ـ ط السلفية) من حديث صفية بنت شبية.(45/250)
الْوَلِيمَةِ وَأَنَّهُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَوْلَمَ حَصَلَتِ السُّنَّةُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَل الْوَلِيمَةِ لِلْمُتَمَكِّنِ شَاةٌ، وَلِغَيْرِهِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَمَّا تَزَوَّجَ: " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (2) .
قَال النَّسَائِيُّ: وَالْمُرَادُ أَقَل الْكَمَال شَاةٌ، لِقَوْل التَّنْبِيهِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَوْلَمَ مِنَ الطَّعَامِ جَازَ، وَهُوَ يَشْمَل الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبَ الَّذِي يُعْمَل فِي حَال الْعَقْدِ مِنْ سُكَّرٍ وَغَيْرِهِ وَلَوْ مُوسِرًا. (3)
وَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ تَنْقُصَ الْوَلِيمَةُ عَنْ شَاةٍ. (4)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: وَلَوْ بِشَاةٍ الشَّاةُ هُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ كَشَاةٍ.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَلِيمَةُ بِدُونِ شَاةٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ
__________
(1) الزرقاني 4 / 52، وإعانة الطالبين 3 / 357، والوسيلة الأحمدية والذريعة السرمدية بهامش بريقة محمودية 4 / 176، ومطالب أولي النهى 5 / 232، والإنصاف 8 / 316.
(2) حديث " أولم ولو بشاة. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 231 ـ ط السلفية) ومسلم (2 / 1042 ـ ط الحلبي) .
(3) نهاية المحتاج 6 / 363، وتحفة المحتاج 7 / 425.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 232، والإنصاف 8 / 317.(45/250)
الأَْوْلَى الزِّيَادَةُ عَلَى الشَّاةِ لأَِنَّهُ جَعَل ذَلِكَ قَلِيلاً. (1)
خَامِسًا: فَوَاتُ الْوَلِيمَةِ:
39 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لاَ آخِرَ لِوَقْتِهَا فَلاَ تَفُوتُ بِطَلاَقٍ وَلاَ مَوْتٍ وَلاَ بِطُول الزَّمَنِ. (2)
وَظَاهِرُ عِبَارَاتِ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ تُفِيدُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ تَقَعُ أَدَاءً أَبَدًا وَفِي الْبُجَيْرِمِيِّ مَا نَصَّهُ: قَال الدَّمِيرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ تَنْتَهِي بِمُدَّةِ الزِّفَافِ لِلْبِكْرِ سَبْعًا وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثًا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ قَضَاءً. (3)
وَلِيٌّ
انْظُرْ: وِلاَيَة)
__________
(1) الإنصاف 8 / 317.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 337، ونهاية المحتاج 6 / 364.
(3) إعانة الطالبين 3 / 357.(45/251)
يَأْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْيَأْسُ وِزَانُ فَلْسٍ، لُغَةً: مَصْدَرُ يَئِسَ يَيْأَسُ مِنْ بَابِ تَعِبَ، فَهُوَ يَائِسٌ بِمَعْنَى الْقُنُوطِ ضِدَّ الرَّجَاءِ، أَوْ قَطْعِ الأَْمَل.
وَالْيَأْسُ يُطْلَقُ عَلَى سِنِّ الْيَأْسِ وَهُوَ السِّنُّ الَّتِي يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَيْضُ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا عَقِمَتْ فَهِيَ يَائِسَةٌ وَيَئِسَةٌ. (1)
وَيَأْتِي يَئِسَ بِمَعْنَى عَلِمَ فِي لُغَةِ النَّخَعِ. (2) وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا (3) } .
وَالْيَأْسُ اصْطِلاَحًا هُوَ انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ. (4)
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) النخع ـ بفتحتين ـ قبيلة من مذْحِج، ومنهم إبراهيم النخعي، (المصباح المنير) .
(3) سورة الرعد / 31.
(4) قواعد الفقه للبركتي، والمغرب للمطرزي، وحاشية ابن عابدين 1 / 201، 3 / 289.(45/251)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَأْسِ
أـ حُكْمُ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى:
2 ـ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ فَرْجِهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (1) } .
وَلِلتَّفْصِيل يَنْظُرُ (إِيَاس ف 13) .
ب ـ الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ 3 ـ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيَمُّمِ.
وَانْظُرْ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّم ف 14 - 20) .
ج ـ تَوْبَةُ الْيَائِسِ:
4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْيَائِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ دَلاَئِل الْمَوْتِ وَقَطَعَ الأَْمَل مِنْ الْحَيَاةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ) فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُقْبَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلاَ الَّذِينَ
__________
(1) سورة يوسف / 87.(45/252)
يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (1) } .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُقْبَل مَا لَمْ يُغَرْغِرْ - أَيْ تَبْلُغُ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ - لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (2) .
قَال ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِ اللَّطَائِفِ: فَمَنْ تَابَ قَبْل أَنْ يُغَرْغِرَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّ الرُّوحَ تُفَارِقُ الْقَلْبَ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ فَلاَ يَبْقَى لَهُ نِيَّةٌ وَلاَ قَصْدٌ.
وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَانٍ: تُقْبَل التَّوْبَةُ مَا لَمْ يُعَايِنْ الْمَلَكَ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى قَال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى تَنْقَطِعُ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ مِنَ النَّاسِ؟ قَال: إِذَا عَايَنَ (3) يَعْنِي الْمَلَكَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَال: " لاَ يَزَال الْعَبْدُ فِي مُهْلَةٍ مِنَ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يَأْتِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَهُ، فَإِذَا نَزَل مَلَكُ الْمَوْتِ فَلاَ
__________
(1) سورة النساء / 18.
(2) حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي (5 / 547) وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: أبي موسى: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم: متى تنقطع معرفة العبد من الناس. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 467) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 260) : هذا إسناد ضعيف، نصر بن حماد كذبه ابن معين وغيره، واتهم بالوضع.(45/252)
تَوْبَةَ حِينَئِذٍ "، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: " التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ مَا لَمْ يَنْزِل سُلْطَانُ الْمَوْتِ "، وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَال: " إِذَا عَايَنَ الْمَيِّتُ الْمَلَكَ ذَهَبَتِ الْمَعْرِفَةُ " (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ وَلَوْ فِي حَال الْغَرْغَرَةِ بِخِلاَفِ إِيمَانِ الْيَائِسِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (2) } .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: تُقْبَل تَوْبَتُهُ مَا دَامَ مُكَلَّفًا، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَالصَّوَابُ قَبُولُهَا مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا وَإِلاَّ فَلاَ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 11) .
د ـ سِنُّ الْيَأْسِ:
5 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ سِنِّ الْيَأْسِ الَّتِي تُصْبِحُ فِيهِ الْمَرْأَةُ يَائِسَةً مِنَ الْحَيْضِ:
__________
(1) ذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف (ص 573 ـ ط دار ابن كثير) أثر علي وابن عمر وأبي موسى، وعزاها إلى كتاب الموت لابن أبي الدنيا ولم يحكم عليها.
(2) سورة الشورى / 25.
(3) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 571، والفواكه الدواني 1 / 90، والدسوقي 1 / 407، وأسنى المطالب 4 / 356، والمغني لابن قدامة 9 / 200، والآداب الشرعية 1 / 128، وتصحيح الفروع 4 / 657 ـ 658، وكشاف القناع 4 / 336.(45/253)
فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَحْدِيدَ لِهَذَا السِّنِّ الَّتِي لاَ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ.
وَقَال بَعْضُهُمْ لِلْمَرْأَةِ سِنٌّ مُحَدَّدَةٌ لاَ تَحِيضُ بَعْدَهُ إِذَا بَلَغَتْهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيَاس ف 6) .
هـ - عِدَّةُ الْيَائِسَةِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْيَائِسَةِ مِنَ الْحَيْضِ لِكِبَرِهَا فِي السِّنِّ، وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ الْحَيْضَ وَهِيَ مُطِيقَةٌ لِلْوَطْءِ، ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة ف 17) .
يَاقُوتٌ
انْظُرْ: حُلِيّ)(45/253)
يَتِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْيَتِيمُ فِي اللُّغَةِ: الْفَرْدُ وَكُل شَيْءٍ يَعِزُّ نَظِيرُهُ وَالْيَتِيمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا: الاِنْفِرَادُ أَوْ فِقْدَانُ الأَْبِ، وَالأُْنْثَى يَتِيمَةٌ وَالْجَمْعُ أَيْتَامٌ وَيَتَامَى.
قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: الْيَتِيمُ فِي النَّاسِ مِنْ قِبَل الأَْبِ، وَفِي الْبَهَائِمِ مِنْ قِبَل الأُْمِّ، وَلاَ يُقَال لِمَنْ فَقَدَ الأُْمَّ مِنَ النَّاسِ يَتِيمٌ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْيَتِيمَ بِأَنَّهُ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ. (2) لِحَدِيثِ: " لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ " (3) .
__________
(1) لسان العرب، والصحاح والقاموس المحيط.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 440، كافية الطالب الرياني 2 / 206، ومطالب أولي النهى 4 / 361، وأسنى المطالب 3 / 88.
(3) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه الطبراني في الكبير (4 / 14) من حديث حنظلة بن حذيم، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 266) : رجاله ثقات.(45/254)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - وَلَدُ الزِّنَا:
2 - وَلَدُ الزِّنَا هُوَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ مِنَ الزِّنَا (ر: وَلَدُ الزِّنَا ف1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ وَلَدِ الزِّنَا وَالْيَتِيمِ أَنَّ كِلَيْهِمَا لاَ أَبَ لَهُمَا إِلاَّ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ شَرْعًا بِخِلاَفِ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَبٌ. (1)
ب - وَلَدُ اللِّعَانِ:
3 - وَلَدُ اللِّعَانِ هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي نَفَى الزَّوْجُ نَسَبَهُ مِنْهُ بَعْدَ مُلاَعَنَتِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ. (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ وَلَدِ اللِّعَانِ وَالْيَتِيمِ أَنَّ كِلَيْهِمَا لاَ أَبَ لَهُ إِلاَّ أَنَّ وَلَدَ اللِّعَانِ يَخْتَلِفُ عَنِ الْيَتِيمِ فِي أَنَّ الْيَتِيمَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ، وَوَلَدُ اللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ شَرْعِيٌّ وَيُحْتَمَل أَنْ يَسْتَلْحِقْهُ أَبُوهُ. (3)
ج - اللَّقِيطُ:
4 - اللَّقِيطُ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلَهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنَ التُّهْمَةِ. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَتِيمِ وَاللَّقِيطِ أَنَّ كِلَيْهِمَا لاَ أَبَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّ الْيَتِيمَ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّهُ فَقَدْ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ
__________
(1) الإقناع للشربيني 2 / 566، وكشاف القناع 4 / 364.
(2) الاختيار 3 / 169 - 170.
(3) الإقناع للشربيني 2 / 566، وكشاف القناع 4 / 364.
(4) أنيس الفقهاء ص 188.(45/254)
كَانَ، أَمَّا اللَّقِيطُ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ إِلاَّ أَنَّهُ يُحتَمَل أَنْ يَظْهَرَ فِي وَقْتٍ مَا. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَتِيمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْيَتِيمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
الإِْحْسَانُ إِلَى الْيَتِيمِ:
5 - يَجِبُ الاِعْتِنَاءُ بِالْيَتِيمِ وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ وَالرَّأْفَةُ بِهِ وَبِرُّهُ وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَكَافِل الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (2) .
كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ إِذْلاَل الْيَتِيمِ وَظُلْمِهِ وَنَهَرِهِ وَشَتْمِهِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤْذِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (3) } .
وَلِلْوَصِيِّ تَعْلِيمُ الْيَتِيمِ وَتَسْلِيمُهُ لِلْمَكْتَبِ، لأَِنَّ الْمَكْتَبَ مِنْ مَصَالِحِهِ، فَجَرَى مَجْرَى نَفَقَتِهِ كَمَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَمَلْبُوسِهِ، وَيَجُوزُ إِسْلاَمُهُ فِي صِنَاعَةٍ إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ فِي ذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: قُلْتُ: " يَا رَسُول اللِّهِ، مِمَّا أَضَرَبُ عَلَيْهِ يَتِيمِي؟ فَقَال: مِمَّا كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ غَيْرَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ، وَلاَ مُتَأَثِّلٍ مِنْ مَالِهِ مَالاً (4) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 364.
(2) حديث: " أنا وكافل اليتيم كهاتين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 436) من حديث سهل بن سعد.
(3) سورة الضحى / 9.
(4) حديث جابر: " مما أضرب عليه يتيمي؟ . . " أخرجه الطبراني في الصغير (1 / 157 - 158 - ط المكتب الإسلامي) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 163) : فيه معلى بن مهدي، وثقه ابن حيان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. ورجح البيهقي في السنن الكبرى (4 / 6) إرساله من حديث الحسن العرني.(45/255)
وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُطْعِمَ الْيَتِيمَ الْحَلاَل وَلاَ يُطْعِمَهُ الْحَرَامَ. (1)
تَصَرُّفَاتُ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ:
6 - تَصَرُّفَاتُ الْوَصِيِّ فِي أَمْوَال الْيَتَامَى مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ.
وَلِمَعْرِفَةِ التَّفْصِيل فِي ضَوَابِطِ تَصَرُّفَاتِ الْوَصِيِّ فِي مَال الأَْيْتَامِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ وَشُرُوطُ إِنْفَاذِهَا يُنْظَرُ (إِيصَاء ف 13 - 14) .
الْمُضَارَبَةُ وَالاِتْجَارُ بِمَال الْيَتِيمِ:
7 - الاِتِّجَارُ بِمَال الْيَتِيمِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَتَّجِرَ الْوَصِيُّ بِمَال الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّجِرَ بِمَال الْيَتِيمِ لِلْيَتِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْوَصِيُّ مَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِمَنْ يَعْمَل فِيهِ مُضَارَبَةً.
وَلِلتَّفْصِيل فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تُنْظَرُ مُصْطَلَحَاتُ (إِيصَاء ف14، وِصَايَة ف 41 - 44، وِلاَيَة ف 53 - 55) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي 20 / 100 - 101، والمغني 4 / 468.(45/255)
الإِْنْفَاقُ عَلَى الْيَتِيمِ:
8 - إِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَعَلَى الْوَصِيِّ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ لاَ عَلَى وَجْهِ الإِْسْرَافِ وَلاَ عَلَى وَجْهِ التَّضْيِيقِ (ر: وِصَايَة 36، 74، وِلاَيَة ف 62) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ (ر: نَفَقَة ف 78) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلاَ أَقَارِبَ لَهُ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال (ر: بَيْتُ الْمَال ف 12)
رُجُوعُ الْوَصِيِّ فِيمَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى الْيَتِيمِ الْغَنِيِّ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَلَبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا أَنْفَقَهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَال نَفْسِهِ عَلَى الْيَتِيمِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْوَصِيُّ كَالأَْبِ مُتَطَوِّعٌ، إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ عَلَى الْيَتِيمِ قَرْضٌ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ: أَنَّ قَوْل الْوَصِيِّ وَإِنْ اعْتُبِرَ فِي الإِْنْفَاقِ لَكِنْ لاَ يُقْبَل فِي الرُّجُوعِ فِي مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ.
وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنْفَقَتِ الأُْمُّ عَلَى طِفْلِهَا الْمُوسِرِ مِنْ مَالِهَا لِتَرْجِعَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَبِيهِ إِنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ رَجَعَتْ إِنْ أَشْهَدَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهَا عَنِ الْقَاضِي وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْيَتِيمِ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، أَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ(45/256)
يُشْهِدْ إِذَا قَال: إِنَّمَا كُنْتُ أُنْفِقُ عَلَيْهِ بِهِ عَلَى أَنْ أَرْجِعَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُقْبَل قَوْل الْوَلِيِّ فِي إِنْفَاقِهِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ عَلَى الْمُولَى عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُ الْوَلِيِّ بِأَنْ كَذَّبَ الْحِسُّ دَعْوَاهُ، أَوْ تَخَالُفُهُ عَادَةٌ وَعُرْفٌ، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ حِينَئِذٍ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ. (2)
وَقَال تَقِيُّ الدِّينَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا أَنْفَقَهُ وَصِيٌّ مُتَبَرِّعٌ بِالْمَعْرُوفِ فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ فَمِنْ مَال الْيَتِيمِ. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَعَلَى قِيَاسِهِ كُل مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ. (3)
خَلْطُ الْوَصِيِّ مَالَهُ بِمَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ:
10 - تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُقَيِّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ وَلِمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي خَلْطِ مَال الْوَصِيِّ بِمَال الْيَتِيمِ يُنْظَرُ (وِصَايَة ف 74) .
أَخْذُ الْوَصِيِّ الأُْجْرَةَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا فُرِضَ لَهُ الأُْجْرَةَ مُقَابِل الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ كَانَ لَهُ أَخْذُهَا،
__________
(1) الفتاوى المهدية 7 / 28، 30، والمدونة 4 / 396، وأسنى المطالب 3 / 445.
(2) كشاف القناع 3 / 456.
(3) كشاف القناع 4 / 398.(45/256)
سَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ أَخْذِ الْوَصِيِّ الأُْجْرَةَ إِذَا لَمْ يُفْرَضُ لَهُ شَيْءٌ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وِصَايَة ف 63 - 64، وِلاَيَة ف 59 - 60، وَإِيصَاء ف 14) .
إِجَارَةُ الْيَتِيمِ:
12 - إِجَارَةُ نَفْسِ الْيَتِيمِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَصِيُّ نَفْسَ الْيَتِيمِ لِلْغَيْرِ وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَ الْيَتِيمَ نَفْسَهُ. كَمَا أَنَّ إِجَارَةَ مَال الْيَتِيمِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغَيْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ نَفْسَهُ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (وِصَايَة ف 44 - 47، إِجَارَة ف 24 - 25) .
رَهْنُ مَال الْيَتِيمِ:
13 - رَهْنُ مَال الْيَتِيمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَيْنٍ عَلَى الْوَصِيِّ.
وَلِمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (وِصَايَة ف59 - 60) .
هِبَةُ مَال الْيَتِيمِ:
14 - هِبَةُ مَال الْيَتِيمِ لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِعِوَضٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ عِوَضٍ.(45/257)
فَإِذَا كَانَتْ هِبَةُ مَال الْيَتِيمِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِعِوَضٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وِصَايَة ف 49 - 50) .
زَكَاةُ مَال الْيَتِيمِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَال الْيَتِيمِ.
وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ (زَكَاة ف 11) .
إِنْكَاحُ الْيَتِيمِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِنْكَاحِ الْيَتِيمِ.
يُنْظَرُ فِي (نِكَاح ف64، 80 - 85، 112) .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَخْيِيرِ الْيَتِيمِ أَوِ الْيَتِيمَةِ بَعْدَ بُلُوغِهِمَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. يُنْظَرُ فِي (بُلُوغ ف 39 - 42) .
سَهْمُ الْيَتِيمِ فِي خُمْسِ الْغَنَائِمِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْيَتَامَى سَهْمًا مِنْ خُمْسِ الْغَنَائِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل (1) } .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.(45/257)
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُمُس ف 8 - 12) .
سَهْمُ الْيَتَامَى فِي الْفَيْءِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَخْمِيسِ الْفَيْءِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ وَيُصْرَفُ خُمُسَهُ إِلَى مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ خُمُسُ الْغَنِيمَةَ وَمِنْهُمْ الْيَتَامَى.
وَالتَّفْصِيل فِي (خُمُس ف 13، فَيْء 11، وَتَخْمِيس ف 3) .
فَكُّ الْحَجْرِ عَنِ الْيَتِيمِ وَطَرِيقَتُهُ:
19 - يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنِ الْيَتِيمِ وَيُسَلَّمُ مَالَهُ إِلَيْهِ إِذَا بَلَغَ رَشِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } .
وَالتَّفْصِيل فِي (حَجْر ف 6، 8 وَمَا بَعْدَهَا، رُشْد ف 7 - 10، بُلُوغ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، تَجْرِبَة ف7) .
الْوَصِيَّةُ لِلْيَتِيمِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى
__________
(1) سورة النساء 6.(45/258)
أَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلاَنٍ، فَإِنْ كَانَ يَتَامَاهُمْ يُحْصَوْنَ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ؛ لأَِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ وَقَعَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ فَأَمْكَنَ إِيقَاعُهَا تَمْلِيكًا لَهُمْ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى هَذِهِ السِّكَّةِ أَوْ هَذِهِ الدَّارِ.
وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلْيَتَامَى الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لأَِنَّ الْيَتِيمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَهَذَا لاَ يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا (1) } ، وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " ابْتَغُوا بِأَمْوَال الْيَتَامَى، لاَ تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ " (2) . فَقَدْ سُمُّوا يَتَامَى وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَكُل صَغِيرٍ مَاتَ أَبُوهُ يَدْخُل تَحْتَ الْوَصِيَّةِ وَمَنْ لاَ فَلاَ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَهَذَا الأَْشْبَهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانُوا لاَ يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَتُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهَا لَوْ صُرِفَتْ إِلَى الأَْغْنِيَاءِ
__________
(1) سورة النساء 10.
(2) أثر عمر رضي الله عنه: " ابتغوا بأموال اليتامى. . " أخرجه الدارقطني (2 / 110) والبيهقي (4 / 106) ، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح.(45/258)
لَبَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ صُرِفَتْ إِلَى الْفُقَرَاءِ لَجَازَتْ لأَِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ وَإِخْرَاجٌ لِلْمَال إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ. وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَل الْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ لُغَةً لَكِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ سَبَبِ الْحَاجَةِ وَعَمَّا يُوجِبُ الْحَاجَةَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّ الصِّغَرَ وَالاِنْفِرَادَ عَنِ الأَْبِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ، إِذِ الصَّغِيرُ عَاجِزٌ عَنْ الاِنْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِإِيصَال مَنَافِعَ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عَازِمٌ عَنِ الْقِيَامِ بِحِفْظِ مَالِهِ لَهُ وَاسْتِئْمَانِهِ وَلاَ بَقَاءَ لِلْمَال عَادَةً إِلاَّ بِالْحِفْظِ وَالاِسْتِثْمَارِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَيَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَمَنْ انْقَطَعَتْ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مَالِهِ بِسَبَبِ بُعْدِهِ عَنْ مَالِهِ وَهُوَ ابْنُ السَّبِيل فَصَارَ الاِسْمُ بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ مُنْبِئًا عَنِ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَل اللَّهُ لِلْيَتَامَى سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى (1) } وَأَرَادَ بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ دُونَ الأَْغْنِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ بِجَعْلِهِ إِيصَاءً بِالصَّدَقَةِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحِيحَةٌ وَتُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالأَْغْنِيَاءِ مِنْهُمْ
__________
(1) سورة الأنفال 41.(45/259)
عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلأَْغْنِيَاءِ قُرْبَةٌ وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْهَدِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لِغَنِيٍّ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْيَتِيمِ لاَ تَشْمَل وَلَدَ الزِّنَا وَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ كَمَا أَنَّهَا لاَ تَشْمَل اللَّقِيطَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلِمُعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعْمِيمِ الْمُوصَى بِهِ عَلَى الْمُوصَى لَهُمْ الْمَحْصُورِينَ وَغَيْرِ الْمَحْصُورِينَ يُنْظُرُ مُصْطَلَحُ (وَصِيَّة ف 27) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 344، مغني المحتاج 3 / 61، وروض الطالب 3 / 54، 55، وروضة الطالبين 6 / 181، ونهاية المحتاج 6 / 78، والمغني لابن قدامة 6 / 56، عقد الجواهر الثمينة 3 / 416.(45/259)
يَدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْيَدُ فِي اللُّغَةِ مُؤَنَّثَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ، وَلاَمُهَا مَحْذُوفَةٌ وَهِيَ يَاءٌ، وَالأَْصْل: يَدْيٌ، قِيل بِفَتْحِ الدَّالِ، وَقِيل بِسُكُونِهَا، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ أَيْدٍ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ: الأَْيَادِي وَيُدِيٌّ مِثَال فُعُولٌ.
وَالْيَدُ: النِّعْمَةُ وَالإِْحْسَانُ، وَتُطْلَقُ الْيَدُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَيَدُهُ عَلَيْهِ: أَيْ سُلْطَانَهُ، وَالأَْمْرُ بِيَدِ فُلاَنٍ: أَيْ فِي تَصَرُّفِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ (1) } أَيْ عَنْ قُدْرَةٍ عَلَيْهِمْ وَغَلَبٍ. وَأَعْطَى بِيَدِهِ: إِذَا انْقَادَ وَاسْتَسْلَمَ، وَالدَّارُ فِي يَدٍ فُلاَنٍ: أَيْ فِي مِلْكِهِ، وَأَوْلَيْتُهُ يَدًا: أَيْ نِعْمَةً، وَالْقَوْمُ يَدٌ عَلَى غَيْرِهِمْ: أَيْ مُجْتَمِعُونَ مُتَّفِقُونَ، وَبِعْتُهُ يَدًا بِيَدٍ: أَيْ حَاضِرًا بِحَاضِرٍ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (3)
__________
(1) سورة التوبة / 9.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي ص 555.
(3) ابن عابدين 3 / 256، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 406، وقليوبي على المحلي 3 / 180، والمغني 1 / 99، ومغني المحتاج 1 / 52، وطلبة الطلبة. . 197، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 4 / 199، وتفسير القرطبي 8 / 115.(45/260)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَدِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْيَدِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً: الْيَدُ بِمَعْنَى الْعُضْوِ وَالْجَارِحَةُ:
الاِسْتِنْجَاءُ بِالْيَدِ:
2 - يَسُنُّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْمَاءِ، وَيُكْرَهُ بِيَمِينِهِ بِلاَ عُذْرٍ (1) ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَسْتَنْجِيَ بِيَمِينِهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء ف 30) .
إِدْخَال الْيَدَيْنِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ غَسْل الْيَدَيْنِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ قَبْل إِدْخَالِهِمَا الإِْنَاءَ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مُرِيدُ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 66، حاشية ابن عابدين 1 / 255، البحر الرائق 1 / 255، الاختيار 1 / 37، حاشية الدسوقي 1 / 105، المجموع 1 / 108، حاشية الشرقاوي 1 / 125، نهاية المحتاج 1 / 137، كشاف القناع 1 / 51، مطالب أولي النهى 1 / 69 وما بعدها.
(2) حديث: " إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 254) ومسلم (1 / 225) واللفظ للبخاري.(45/260)
الطِّهَارَةِ وَغَيْرِهِ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْتَيْقِظُ مِنَ النَّوْمِ وَغَيْرِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (كَف ف 3، نَوْم ف 10، وُضُوء ف 90) .
غَسْل الْيَدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَسُنُّ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلاَثًا قَبْل إِدْخَالِهِمَا فِي الإِْنَاءِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (1) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَضَوْء، وَمُصْطَلَحِ غَسْل فِقْرَة 30) .
السُّنَّةُ فِي غَسْل الْيَدَيْنِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي غَسْل الْيَدَيْنِ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْيَمِينِ وَمِثْلَهُ فِي الرَّجُلَيْنِ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ (2) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " كان يعجبه التيمن في تنعله. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 269) .(45/261)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ (1) .
(ر: تُيَامُن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
رَفْعُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْيَدِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِدْخَال الْجُنُبِ يَدَهُ فِي الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَنْوِ بِغَمْسِ يَدِهِ فِي الْمَاءِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ لاَ يُؤَثِّرُ عَلَى طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ إِدْخَال الْجُنُبِ يَدَهُ إِذَا نَوَى بِالْغَمْسِ رَفْعَ الْحَدَثِ مِنَ الْجَنَابَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمِهْرَاسَ. (2) كَانَ يُوضَعُ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا مَاءٌ فَكَانَ أَصْحَابُ الصِّفَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ بِأَيْدِيهِمْ (3) ، وَلأَِنَّ فِيهِ بَلْوًى وَضَرُورَةً فَقَدْ
__________
(1) حديث: " كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 523) ، ومسلم (1 / 226) .
(2) المهراس: بكسر الميم حجر مستطيل ينقل ويدق فيه ويتوضأ منه (المصباح المنير) .
(3) حديث: " أن المهراس كان يوضع على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أورده السرخسي في المبسوط (1 / 52) ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي. ولم نهتد لمن أسنده.(45/261)
لاَ يَجِدُ شَيْئًا يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الإِْنَاءِ الْعَظِيمِ فَيَجْعَل يَدَهُ لأَِجْل الْحَاجَةِ كَالْمِغْرَفَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْمُحْدِثِ فَكَذَلِكَ فِي الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَغْتَسِل أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُول: دَعْ لِي، دَعْ لِي (1) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الأَْمَالِي قَال: إِذَا أَدْخَل الْجُنُبُ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَإِنْ أَدْخَل رِجْلَهُ فِي الإِْنَاءِ أَفْسَدَهُ وَهَذَا لِمَعْنَى الْحَاجَةِ، فَفِي الْبِئْرِ الْحَاجَةُ إِلَى إِدْخَال الرِّجْل لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِل عَفْوًا، وَفِي الإِْنَاءِ الْحَاجَةُ إِلَى إِدْخَال الْيَدِ فَلاَ تُجْعَل الرِّجْل عَفْوًا فِيهِ، وَإِنْ أَدْخَل فِي الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ وَالرَّجُل أَفْسَدَهُ لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً.
وَقِيل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ الْمُنْفَصِل عَنِ الْعُضْوِ لَوْ غُسِل ذَلِكَ الْعُضْوُ بِمَائِعٍ ثُمَّ صُبَّ فِيهِ أَثَّرَ: أَثَّرَ هُنَا. (2)
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 363) ومسلم (1 / 255) دون قولها: " فيبادرني. . " فقد أخرجه مسلم في رواية أخرى (1 / 257) .
(2) المبسوط 1 / 52، والمنتقي شرح الموطأ 1 / 107، وشرح الزرقاني 1 / 14، وفتاوى الرملي 1 / 16، والمغني 1 / 212 - 213، والمجموع 1 / 164، ومغني المحتاج 1 / 21، والإنصاف 1 / 43.(45/262)
مَسْحُ الْيَدِ بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ:
7 - صِفَةُ التَّيَمُّمِ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ فَيَنْفُضُهُمَا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ يَضْرِبُهُمَا كَذَلِكَ وَيَمْسَحُ بِكُل كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِ الأُْخْرَى وَبَاطِنَهَا مَعَ الْمِرْفَقِ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيل آيَةِ التَّيَمُّمِ.
وَلِمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ (ر: تَيَمُّم ف 11) .
الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِالْيَدِ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ ف 10) .
هَيْئَةُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ:
9 - اتُّفِقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَوْ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ رَفْعِهِمَا، كَمَا ذَكَرُوا أَحْكَامَ
__________
(1) حديث: " كان إذا فتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 219) ومسلم (1 / 292) .(45/262)
وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى أَثْنَاءَ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَكَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ، وَوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَوَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة ف 57 وَمَا بَعْدَهَا) .
عَدُّ الْمُصَلِّي الآْيَ بِأَصَابِعِ الْيَدِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَدِّ الْمُصَلِّي الآْيِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِعَدِّ الْمُصَلِّي الآْيِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ فَرْضًا كَانَتِ الصَّلاَةُ أَوْ تَطَوُّعًا، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُدَّ الآْيَ فِي الصَّلاَةِ (1) . وَلأَِنَّ الْعَدَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَنِ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي قَصَدَ بِعَدِّ الآْيِ إِصْلاَحَ صَلاَتِهِ، أَمَّا لَوْ فَعَلَهُ سَاهِيًا مِثْل مِنْ نَسِيَ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ تَخَرَّجَ إِيجَابُ السُّجُودِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد الآي في الصلاة " قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 114) : رواه الطبراني وفيه نصر بن طريف وهو متروك.(45/263)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ عَدُّ الآْيِ فِي الصَّلاَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَرَخَّصَ فِي التَّطَوُّعِ.
وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْل مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ كَرَاهَةِ عَدِّ الآْيِ بِالْيَدِ فِي الصَّلاَةِ بِأَنَّ الْعَدَّ بِالْيَدِ تَرْكٌ لِسُنَّةِ الْيَدِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الصَّلاَةِ، فَالْقَلِيل مِنْهُ إِنْ لَمْ يُفْسِدِ الصَّلاَةَ فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ، وَلاَحَاجَةَ إِلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ خَارِجَ الصَّلاَةِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي الصَّلاَةِ وَيُعَيِّنَ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ الْمُعَيَّنَ، أَوْ يَعُدَّ بِقَلْبِهِ (1) .
عَدُّ التَّسْبِيحِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَانِ " أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي عَدُّ التَّسْبِيحِ فِي الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الْعَدَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَّةِ فِي عَدَدِ التَّسْبِيحِ خُصُوصًا فِي صَلاَةِ التَّسْبِيحِ الَّتِي تَوَارَثَتْهَا الأُْمَّةُ.
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِلْمُصَلِّي عَدُّ التَّسْبِيحِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 16، وحاشية ابن عابدين 2 / 165، والإنصاف 2 / 95.(45/263)
وَنَصَّ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِعَدِّ التَّسْبِيحِ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةَ بِالْحَرَكَاتِ الْخَفِيفَةِ الْمُتَوَالِيَةِ كَتَحْرِيكِ أَصَابِعِهِ فِي سُبَحَةٍ بِلاَ حَرَكَةِ كَفِّهِ، قَال الشِّرْوَانِيُّ: لَكِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ عَدُّ التَّسْبِيحِ فِي الصَّلاَةِ، وَاسْتُدِل لأَِبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ الْعَدَّ بِالْيَدِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الصَّلاَةِ، فَالْقَلِيل مِنْهُ إِنْ لَمْ يُفْسِدِ الصَّلاَةَ فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَوَقُّفَ فِي عَدِّ التَّسْبِيحِ فِي الصَّلاَةِ، يَتَوَالَى لِقِصَرِهِ فَيَتَوَالَى حِسَابُهُ فَيَكْثُرُ الْعَمَل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تُبْطَل بِعَدِّ التَّسْبِيحِ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا أَفْعَالٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْخُطُوَاتِ. (1)
وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ كَالتَّثَاؤُبِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ
__________
(1) الإنصاف 2 / 96، وكشاف القناع 1 / 376، والمغني 2 / 12، وبدائع الصنائع 1 / 216، وحاشية ابن عابدين 2 / 165، ومواهب الجليل 1 / 552، وتحفة المحتاج 2 / 154، ومغني المحتاج 1 / 199.(45/264)
كَظْمَهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ وَضْعُ يَدِهِ لِدَفْعِ التَّثَاؤُبِ (1) ، لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا َثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل (2) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل (3) ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ (4) .
13 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ تَفْصِيلٌ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُغَطِّي فَاهُ بِظَهْرِ الْيُسْرَى، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ أَنَّهُ يُغَطِّي فَاهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى لَوْ كَانَ قَائِمًا، وَإِلاَّ فَبِيَدِهِ الْيُسْرَى، لأََنَّ التَّغْطِيَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِالْيُسْرَى كَالاِمْتِخَاطِ فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا يَسْهُل ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حَرَكَةُ الْيَدَيْنِ، بِخِلاَفِ إِذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 433، والمجموع 4 / 100، والفتاوى الهندية 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 201، والمغني 2 / 12، وكشاف القناع 1 / 373، ومطالب أولي النهى 1 / 481، والخرشي 1 / 319.
(2) حديث: " إذا تثاوب أحدكم في صلاته. . " أخرجه مسلم (4 / 2293) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) حديث: " إذا تثاوب أحدكم فليمسك يده على فيه. . " أخرجه مسلم (4 / 2293) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) رواية: " فليضع يده على فمه. . " أخرجه سعيد بن منصور كما في المغني لابن قدامة (2 / 12) .(45/264)
مِنْ التَّغْطِيَةُ بِالْيُسْرَى حَرَكَةَ الْيَمِينِ أَيْضًا لأَِنَّهَا تَحْتَهَا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضَعُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَمِهِ لأَِنَّهَا لِتَنْحِيَةِ الأَْذَى، وَالأَْوْلَى أَنْ يَكُونَ بِظَهْرِهَا لأَِنَّهُ أَقْوَى فِي الدَّفْعِ عَادَةً، إِلاَّ أَنَّ أِصْل السُّنَّةِ يَحْصُل بِبَاطِنِ الْيُسْرَى أَوْ بِوَضْعِ الْيُمْنَى. (2)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَغْطِيَةَ الْفَمِ تَكُونُ إِمَّا بِيُمْنَى مُطْلَقًا أَوْ بِظَاهِرِ الْيُسْرَى لاَ بِبَاطِنِهَا لِمُلاَقَاةِ الأَْنْجَاسِ. (3)
رَفْعُ الْيَدَيْنِ لِلدُّعَاءِ:
أ - رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلاِسْتِسْقَاءِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلاِسْتِسْقَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَصَابَ أَهْل الْمَدِينَةِ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَتِ الْكُرَاعُ هَلَكَتِ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا، قَال أَنَسٌ: وَإِنَّ َالسَّمَاءَ كَمِثْل الزُّجَاجَةِ فَهَاجِتْ رِيحٌ أَنَشَأَتْ سَحَابًا، ثُمَّ اجْتَمَعَ، ثُمَّ أَرْسَلَتِ السَّمَاءُ عَزَالِيهَا، فَخَرَجْنَا نَخُوضُ الْمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 312، 433.
(2) مغني المحتاج 1 / 201، وتحفة المحتاج 2 / 162.
(3) حاشية العدوى على الخرشي 1 / 320.(45/265)
مَنَازِلَنَا، فَلَمْ نَزَل نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُْخْرَى (1) .
كَمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ (2) ، قَال الْعُلَمَاءُ: وَهَكَذَا السُّنَّةُ؛ مَنْ دَعَا لِرَفْعِ الْبَلاَءِ جَعَل ظَهْرَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا سَأَل اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا جَعَل بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ.
(ر: اسْتِسْقَاء ف 19) .
ب ـ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوَتِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي َمُقَابِل الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ، لأَِنَّهُ دُعَاءٌ فِي صَلاَةٍ فَلاَ يُسَنُّ فِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ قِيَاسًا عَلَى دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ وَالتَّشَهُّدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ مُسْتَحَبٌّ لِلاِتِّبَاعِ، وَلأَِنَّ عَدَدًا، مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الْقُنُوتِ فَعَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ صَلَّى
__________
(1) حديث: " أصاب أهل المدينة قحط. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 588) ومسلم (6 / 612 - 613) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار. . . " أخرجه مسلم (2 / 612) .(45/265)
خَلْفَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَهَرَ بِالدُّعَاءِ (1) .
وَكَيْفِيَّةُ رَفْعِهِمَا: أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ حَال قُنُوتِهِ وَيَبْسُطُهَا وَبُطُونِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ.
وَقَال ابْنُ الْجَلاَّبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِرَفْعِ يَدَيْهِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ. (2)
ج - مَسْحُ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ دُعَاءِ الْقُنُوتِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دُعَاءِ الْقُنُوتِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خَبَرٌ، وَلأَِنَّهُ دُعَاءٌ فِي صَلاَةٍ فَلَمْ يُسْتَحَبْ مَسْحُ وَجْهِهِ فِيهِ كَسَائِرِ الأَْدْعِيَةِ فِي الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْمَسْحُ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفْعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ
__________
(1) حديث: " أبي رافع أنه صلى خلف عمر. . " أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7 / 212) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 447، والطحطاوي 1 / 280، ومواهب الجليل 1 / 540، وحاشية العدوي 1 / 239، ومغني المحتاج 1 / 16، والمجموع 3 / 500، والإنصاف 2 / 172.(45/266)
بِيَدَيْهِ (1) ، وَلأَِنَّهُ دُعَاءٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِ فَاسْتُحِبَّ مَسْحُ وَجْهِهِ بِهِمَا. (2)
(ر: قُنُوت ف 4) .
د - رَفَعُ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
17 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلاَةِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ بِحِذَاءِ صَدْرِهِ. (3)
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي هَيْئَةِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الأَْفْضَل أَنْ يَبْسُطَ كَفَّيْهِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ. وَقَالُوا: لاَ يَضَعُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ عُذْرٍ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ فَأَشَارَ بِالْمِسْبَحَةِ قَامَ مَقَامَ بَسْطِ كَفَّيْهِ. (4)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لِلاِتِّبَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل ظَهْرَ كَفَّيْهِ إِلَى
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه " أخرجه أبو داود (2 / 166) وفي إسناده راو مجهول كما في الميزان للذهبي (1 / 569) .
(2) مغني المحتاج 1 / 167، الإنصاف 2 / 172، والمغني 2 / 154، وحاشية الطحطاوي 1 / 280.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 318، ومغني المحتاج 1 / 167، وكشاف القناع 1 / 367، والفواكه الدواني 2 / 430، والمنتقى 1 / 289.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 318.(45/266)
اَلسَّمَاءِ إِنْ دَعَا لِرَفْعِ بَلاَءٍ، وَعَكْسَهُ إِنْ دَعَا لِتَحْصِيل شَيْءٍ. (1)
وَنَصَّ اَلْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ اَلدُّعَاءِ بَسْطَ يَدَيْهِ وَرَفْعَهُمَا إِلَى صَدْرِهِ لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ يَسارٍ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَأَلْتُمُ اَللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلاَ تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا (2) ، وَتَكُونُ يَدَاهُ مَضْمُومَتَيْنِ. (3)
وَيَرَى اَلْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ اَلدَّاعِيَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ اَلدُّعَاءِ خَارِجَ اَلصَّلاَةِ. (4)
هـ ـ مَسْحُ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنَ الدُّعَاءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ مَنْ يَدْعُو خَارِجَ الصَّلاَةِ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَرَدَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 167، وتحفة المحتاج 1 / 486.
(2) حديث: " إذا سألتم الله فسألوه ببطون أكفكم. . " أخرجه أبو داود (2 / 165) .
(3) كشاف القناع 1 / 367.
(4) الفواكه الدواني 2 / 430، والمدونة 1 / 68.(45/267)
بِلَفْظِ " قِيل ": إِنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. (1)
مَسُّ الْغَاسِل عَوْرَةَ الْمَيِّتِ بِيَدِهِ:
19 - يَرَى الْفُقَهَاءُ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْغَاسِل إِذَا أَرَادَ تَغْسِيل الْمَيِّتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدَيْهِ خِرْقَةً، وَأَنْ يَضَعَ عَلَى عَوْرَةِ الْمَيِّتِ خِرْقَةً حَتَّى لاَ يُفْضِيَ بِيَدِهِ إِلَى الْعَوْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لأَِنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَاللَّمْسُ أَوْلَى.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا اضْطُرَّ الْغَاسِل إِلَى الإِْفْضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ مَسُّ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ بِيَدِهِ مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ خِرْقَةٍ (2) .
وَأَمَّا تَغْسِيل الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لِلأَْطْفَال الصِّغَارِ وَمَسُّ عَوْرَتِهِمْ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 16 ـ 17) .
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ صَلاَةَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 318، والإنصاف 2 / 173 والمغني لابن قدامة 2 / 154، ومغني المحتاج 1 / 167، وتحفة المحتاج 1 / 486، والفواكه الدواني 2 / 430.
(2) بدائع الصنائع 1 / 300، وحاشية الدسوقي 1 / 416، والمجموع 5 / 165، ومغني المحتاج 1 / 333، والمغني 2 / 456 - 457، والإنصاف 2 / 486 - 487.(45/267)
الْجِنَازَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ - وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُل تَكْبِيرَةٍ.
وَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلاَ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - وَهِيَ الرَّاجِحَةُ عِنْدَهُمْ - رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ.
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: لاَ تُرْفَعُ الأَْيْدِي إِلاَّ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ، وَحِينَ يَدْخُل الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، وَحِينَ يَقُومُ عَلَى الصَّفَا، وَحِينَ يَقُومَ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَحِينَ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ،(45/268)
وَبِجَمْعٍ، وَالْمَقَامَيْنِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ (1) .
وَبِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَقَدْ أُمِرَ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، قَال الْقَارِّيُّ فِي شَرْحِهِ: لاَ يَرْفَعُ وَلَوْ حَال دُعَائِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَشَاهِيرِ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا، قَال السُّرُوجِيُّ: الْمَذْهَبُ تَرْكُهُ، وَصَرَّحَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلاَثَةِ. (2)
اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِالْيَدَيْنِ أَوِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الطَّائِفَ بِالْبَيْتِ يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ وَيَسْتَلِمُهُ بِأَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ، لَكِنْ إِذَا وَجَدَ الطَّائِفُ زِحَامًا فَيَتَجَنَّبُ الإِْيذَاءَ وَيَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ بِيَدَيْهِ؛ لأَِنَّ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ وَإِيذَاءَ النَّاسِ حَرَامٌ يَجِبُ تَرْكُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ ف 2، رُكْنٌ ف 17، 18، طَوَافٌ ف 53) .
__________
(1) حديث: " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن. . " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 385) ونقل الزيلعي في نصب الراية (1 / 390) عن شعبة أنه أعله بالانقطاع في إسناده.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 165، وروضة الطالبين 3 / 76، والمغني لابن قدامة 3 / 369، وكشاف القناع 2 / 476، حاشية الفدوي على شرح الرسالة 1 / 464.(45/268)
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الاِرْتِقَاءِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ يَسْعَى أَنْ يَصْعَدَ عَلَى الصَّفَا، وَيَسْتَقْبِل الْبَيْتَ، وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ، وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوَ بِمَا شَاءَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلاَ عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَل يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ رَفْعِ الأَْيْدِي عِنْدَ الصَّفَا أَحَبُّ إِلَى الإِْمَامِ مَالِكٍ، قَال الْقَرَافِيُّ: تَرْكُ رَفْعِ الأَْيْدِي أَحَبُّ إِلَى مَالِكٍ فِي كُل شَيْءٍ إِلاَّ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ. (2)
تَقْلِيمُ أَظْفَارِ الْيَدِ:
24 - تَقْلِيمُ أَظْفَارِ الْيَدِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجُل
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه. . " أخرجه مسلم (3 / 1407) .
(2) هداية السالك لابن جماعة 2 / 875 - 879، والفتاوى الهندية 1 / 266، والذخيرة 3 / 251، وكشاف القناع 2 / 486، والفروع 3 / 504، ومطالب أولي النهى 2 / 404 - 405.(45/269)
وَالْمَرْأَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ - أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ -: الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِْبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (1) .
(ر: أَظْفَارٌ ف 2 ـ 3) .
خِضَابُ الْيَدَيْنِ بِالْحِنَّاءِ:
25 - يُسْتَحَبُّ خِضَابُ الْيَدَيْنِ بِالْحِنَّاءِ لِلْمُتَزَوِّجَةِ مِنَ النِّسَاءِ لِلأَْحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي وَنَحْوِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ إِلَى كَرَاهَةِ اخْتِضَابِ الْيَدَيْنِ لِلرَّجُل (3) .
__________
(1) حديث: " الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 334) ومسلم (1 / 221) .
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 332) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 271، وحاشية العدوي 2 / 411، والقوانين الفقهية ص 442، ومغني المحتاج 4 / 296، وكشاف القناع 1 / 283، 2 / 239 والآداب الشرعية 3 / 537، والإنصاف 3 / 152.(45/269)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَابٌ ف 12، تَشَبُّهٌ ف 17) .
غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ:
4 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْل الْيَدَيْنِ بَعْدَ الأَْكْل، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ وَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ (2) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ نَدْبَ غَسْل الْيَدَيْنِ مِنْ أَكْل مَا لَهُ دَسَمٌ، وَمَا لاَ دَسَمَ لَهُ فَلاَ يُنْدَبُ غَسْل الْيَدَيْنِ مِنْ أَكْلِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْل الأَْكْل، كَمَا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالنَّفْرَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْل الطَّعَامِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ.
__________
(1) حديث: " من أحب أن يكثر الله خير بيته. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1085) وضعف البوصيري في مصباح الزجاجة لضعف الروايتين في إسناده (2 / 174 - ط الجنان) .
(2) حديث: " من بات وفي يده ريح غمر. . " أخرجه الترمذي (4 / 289) من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب.(45/270)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ غَسْل الْيَدِ قَبْل الطَّعَامِ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَذًى، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الأَْذَى نَجِسًا يَجِبُ الْغَسْل، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا يُنْدَبُ الْغَسْل. (1)
27 - أَمَّا غَسْل الْجُنُبِ يَدَيْهِ قَبْل الأَْكْل، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُل أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ (2) .
28 - ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ وُضُوءُ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ أَيْ غَسْل الْيَدَيْنِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُل وَهُوَ جُنُبٌ غَسَل يَدَيْهِ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 208 - 209، والفواكه الدواني 2 / 419 - 420، والعدوى على الخرشي 1 / 159. والمغني 7 / 14، وكشاف القناع 5 / 172، ومغني المحتاج 3 / 450.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا. . " أخرجه مسلم (1 / 248) .
(3) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه. . " أخرجه النسائي (1 / 139) والدارقطني (1 / 126) وقال الدارقطني: صحيح.(45/270)
قَال فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ - رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً - أَنْ يَأْكُل طَعَامًا أَوْ شَرَابًا قَبْل غَسْل الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بِلاَ وُضُوءٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْل يَدَيْهِ مِنَ الأَْذَى إِذَا أَرَادَ الأَْكْل. (1)
(ر: وُضُوءٌ ف 22) .
غَسْل الْيَدِ بِالنُّخَالَةِ أَوِ الدَّقِيقِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِغَسْل الْيَدَيْنِ بِالنُّخَالَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُوتًا.
أَمَّا غَسْل الْيَدَيْنِ بِالدَّقِيقِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ لِتَوَارُثِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَسْل الْيَدَيْنِ بِالطَّعَامِ ـ وَهُوَ الْقُوتُ ـ وَلَوْ بِدَقِيقِ حِمَّصٍ وَعَدَسٍ وَبَاقِلاَءَ، وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهَانَةِ الطَّعَامِ.
__________
(1) تكملة البحر الرائق 8 / 209، والمدونة 1 / 37، والمغني 1 / 229، ومغني المحتاج 1 / 63.(45/271)
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالطَّعَامِ النُّخَالَةَ الْمُسْتَخْرَجَةَ مِنَ الْقَمْحِ، بِخِلاَفِ نُخَالَةِ الشَّعِيرِ حَيْثُ قَالُوا بِعَدَمِ كَرَاهَةِ الْغَسْل بِهَا.
وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ جَاءَ فِي الآْدَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ الْغَسْل بِمَطْعُومٍ. (1)
مَسْحُ الأَْيْدِي بِالْوَرَقِ:
30 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِعْمَال الْكَاغَدِ (الْوَرَقِ) غَيْرِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، إِذَا كَانَ هَذَا الْوَرَقُ يَصْلُحُ لِلْكِتَابَةِ لِكَوْنِهِ لِلْكِتَابَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ يَصْلُحُ لِلْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ. (2)
الأَْكْل بِأَصَابِعِ الْيَدِ:
31 - يُسَنُّ الأَْكْل بِثَلاَثَةِ أَصَابِعَ، هَذَا إِنْ أَكَل بِيَدِهِ، وَلاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال الْمِلْعَقَةِ وَنَحْوِهَا. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي (أَكْلٌ ف 17) .
لَعْقُ الأَْصَابِعِ بَعْدَ الأَْكْل:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) تكملة البحر الرائق 8 / 209، والفتاوى الهندية 5 / 337، والفواكه الدواني 2 / 322، وإحياء علوم الدين 2 / 7، والإنصاف 8 / 325، وكشاف القناع 5 / 172 - 173، وتحفة المحتاج 1 / 178، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 1 / 43.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 227، والفتاوى الهندية 5 / 322.
(3) الإنصاف 8 / 121.(45/271)
لَعْقَ الأَْصَابِعِ بَعْدَ الأَْكْل وَقَبْل الْمَسْحِ بِالْمَنْدِيل سُنَّةٌ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ " (1) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ طَعَامَهُ فَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا (2) .
وَلِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الأَْكْل بِالأَْصَابِعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَكْلٌ ف 17) .
الاِتِّكَاءُ بِالْيَدِ أَثْنَاءَ الأَْكْل:
33 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالأَْكْل مُتَّكِئًا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالتَّكَبُّرِ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ: هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْعَتَّابِيِّةِ: يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ مُتَّكِئًا أَوْ وَاضِعًا شِمَالَهُ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ مُسْتَنِدًا. (3)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الأَْكْل مُتَّكِئًا، وَفَسَّرُوا الاِتِّكَاءَ بِأَنْ يَأْكُل مَائِلاً عَلَى مِرْفَقِهِ
__________
(1) حديث: " إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه. . " أخرجه مسلم (3 / 1607) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إذا أكل أحدكم طعاما. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 577) ومسلم (3 / 1605) من حديث ابن عباس وتفرد مسلم بزيادة قوله: " طعاما ".
(3) الفتاوى الهندية 5 / 337.(45/272)
الأَْيْسَرِ، وَقِيل: مُتَرَبِّعًا. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُكْرَهُ الأَْكْل مُتَّكِئًا، قَال الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ الْجَالِسُ مُعْتَمِدًا عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ، كَقُعُودِ مَنْ يُرِيدُ الإِْكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ، وَأَشَارَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ الْمَائِل إِلَى جَنْبِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُضْطَجِعُ بِالأَْوْلَى. (2)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ على أَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل مُضْطَجِعًا. (3)
الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ:
لاِسْتِمْنَاءِ الرَّجُل بِيَدِهِ حَالاَتٌ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: الاِسْتِمْنَاءُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِمْنَاءِ الرَّجُل بِيَدِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الاِسْتِمْنَاءَ مُحَرَّمٌ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (4) } .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْكَرَاهَةَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 418، والشرح الصغير 4 / 755.
(2) مغني المحتاج 3 / 250 وأسنى المطالب 3 / 228.
(3) الإنصاف 8 / 328، والفروع 5 / 301.
(4) سورة المؤمنون / 5 والمعارج / 29.(45/272)
بِالتَّحْرِيمِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا.
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ: لاَ يُعْجِبُنِي بِلاَ ضَرُورَةٍ. (1)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الاِسْتِمْنَاءُ لِخَوْفِ الزِّنَا:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِسْتِمْنَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَمْنَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ بِقَوْلِهِمُ: الرَّجَاءُ أَلاَّ يُعَاقَبَ.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: لَوْ قِيل بِوُجُوبِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَكَانَ وَجْهٌ كَالْمُضْطَرِّ، بَل أَوْلَى لأَِنَّهُ أَخَفُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يُكْرَهُ.
قَال مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَأْمُرُونَ فِتْيَانَهُمْ أَنْ يَسْتَغْنُوا بِالاِسْتِمْنَاءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ وَلَوْ خَافَ الزِّنَا؛ لأَِنَّ الْفَرْجَ مَعَ إِبَاحَتِهِ بِالْعَقْدِ لَمْ يُبَحْ بِالضَّرُورَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَقَدْ جَعَل الشَّارِعُ الصَّوْمَ بَدَلاً مِنَ النِّكَاحِ، وَالاِحْتِلاَمُ مُزِيلٌ لِشِدَّةِ الشَّبَقِ، مُفَتِّرٌ لِلشَّهْوَةِ.
__________
(1) تحفة المحتاج 1 / 389، ونهاية المحتاج 1 / 312، وحاشية ابن عابدين 2 / 100 ـ 101، وتبيين الحقائق 1 / 323، وفتح القدير 2 / 330، والمغني 3 / 113، والإنصاف 10 / 251، وكشاف القناع 6 / 125، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 359.(45/273)
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ يُحَرِّمُونَ الاِسْتِمْنَاءَ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الزِّنَا. (1)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الاِسْتِمْنَاءُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الزِّنَا:
36 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِمْنَاءِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْخَلاَصِ بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ اسْتِمْنَاءَ الشَّخْصِ بِيَدِهِ حَرَامٌ، خَشِيَ الزِّنَا أَمْ لاَ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ عَنْهُ الزِّنَا إِلاَّ بِالاِسْتِمْنَاءِ قَدَّمَهُ عَلَى الزِّنَا ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ. (2)
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الاِسْتِمْنَاءُ عَنْ طَرِيقِ يَدِ الزَّوْجَةِ:
37 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَدَا الْقَاضِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 100 ـ 101، وتبيين الحقائق 1 / 323، وفتح القدير 2 / 320، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 359، والإنصاف 10 / 251 ـ 252، وكشاف القناع 6 / 125، وتحفة المحتاج 1 / 389، ونهاية المحتاج 1 / 312.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 100 ـ 101، وتبيين الحقائق 1 / 323، وفتح القدير 2 / 320، والإنصاف 10 / 251 ـ 252، وكشاف القناع 6 / 125، وتحفة المحتاج 1 / 389، ونهاية المحتاج 1 / 312، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 359.(45/273)
حُسَيْنٍ - جَوَازَ الاِسْتِمْنَاءِ بِيَدِ الزَّوْجَةِ؛ لأَِنَّهَا مَحَل اسْتِمْتَاعِهِ كَمَا لَوْ أَنْزَل بِتَفْخِيذٍ أَوْ تَبْطِينٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الآْخَرِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِسْتِمْنَاءُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَاهَةٌ تَنْزِيهِيَّةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْزَل بِتَفْخِيذٍ أَوْ تَبْطِينٍ.
وَقَال الْقَاضِي: لَوْ غَمَزَتِ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ زَوْجِهَا بِيَدِهَا كُرِهَ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ إِذَا أَمْنَى؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْعَزْل وَالْعَزْل مَكْرُوهٌ.
وَمُقَابِل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الاِسْتِمْنَاءَ بِيَدِ الزَّوْجَةِ لاَ يَجُوزُ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَثَرِ الاِسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ عَلَى الصَّوْمِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يُنْظَرُ (اسْتِمْنَاءٌ ف 8 ـ 13) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى يَدِ الْمَرْأَةِ:
38 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى كَفَّيِ الْمَرْأَةِ إِنْ لَمْ يَخَفِ الشَّهْوَةَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَظَرٌ ف 3 ـ 7) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 100، والخرشي 1 / 208، والدسوقي 1 / 173، ونهاية المحتاج 3 / 169، ونهاية الزين في إرشاد المبتدئين ص 349، والقليوبي 4 / 40، وروضة الطالبين 10 / 91، ومطالب أولي النهى 6 / 225.(45/274)
الْمُصَافَحَةُ بِالْيَدِ:
39 - مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ مُسْتَحَبَّةٌ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، مِنْهَا قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا (1) .
أَمَّا مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (مُصَافَحَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَقْبِيل الْيَدِ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْبِيل الْيَدِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَقْبِيلٌ ف 7، 8، 11) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ فِي الْعَمْدِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 3 - 16) .
__________
(1) حديث: " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان. . " أخرجه أبو داود (5 / 388) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 422) إسناد هذا الحديث فيه اضطراب.(45/274)
دِيَةُ الْيَدِ:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا فِي قَطْعِ إِحَدَاهُمَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 43) .
دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الْعَشَرَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قَطْعِ كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 53) .
قَطْعُ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ:
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 62 - 70) .
قَطْعُ الْيَدِ فِي الْحِرَابَةِ:
45 - مِنْ عُقُوبَاتِ جَرِيمَةِ الْحِرَابَةِ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْل مِنْ خِلاَفٍ.
__________
(1) سورة المائدة / 38.(45/275)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حِرَابَةٌ ف 17 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْقَذْفُ بِزِنَا الْيَدِ:
46 - الْقَذْفُ بِزِنَا الْيَدِ كَأَنْ قَال لِغَيْرِهِ: زَنَتْ يَدُكَ، اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ هَذَا اللَّفْظِ لَفْظًا صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ أَوْ تَعْرِيضًا بِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ، وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَائِل إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ قَاذِفًا، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَوْل شَخْصٍ لِغَيْرِهِ: " زَنَتْ يَدُكَ " صَرِيحٌ فِي الْقَذْفِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْفَرْجِ، وَلأَِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ قَوْل شَخْصٍ لِغَيْرِهِ: " زَنَتْ يَدُكَ " مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَدَّ عَلَى قَائِلِهِ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّعْرِيضِ، أَوْ أُشْكِل الأَْمْرُ.
أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى الاِعْتِذَارِ فَلاَ حَدَّ.
وَهَذَا الْقَوْل إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ إِذَا أَرَادَ بِالْيَدِ حَقِيقَةَ الْيَدِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ بِالْيَدِ ذَاتَ(45/275)
الشَّخْصِ الْمَقْذُوفِ فَإِنَّهُ مِنَ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ. (1)
التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا فِي الْيَدِ:
47 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ فِي الْيَدِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِجَمِيعِ أَشْكَالِهِ، وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى اتِّخَاذِهِ كَاتِّخَاذِ يَدٍ أَوْ عُضْوٍ آخَرَ مِنَ الذَّهَبِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ فِي يَدِهِ بَأَنْ يَتَّخِذَهَا خَاتَمًا لَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحَلِّي الرَّجُل بِالْفِضَّةِ فِيمَا عَدَا الْخَاتَمَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (ذَهَبٌ فِي 4 ـ 6، وَحُلِيٌّ ف 6، وَتَخَتُّمٌ ف 8، 9) .
أَمَّا التَّحَلِّي بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْيَدِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 20 / 162، والمبسوط 9 / 121، ومنح الجليل 9 / 278، والخرشي وحاشية العدوي 8 / 88، والدسوقي 4 / 328، وطرح التثريب 8 / 21، وشرح البهجة 4 / 230، ومغني المحتاج 3 / 370، والإنصاف 10 / 212، 213، وكشاف القناع 6 / 111.(45/276)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُلِيٌّ ف 8، تَخَتُّمٌ ف 10) .
ثَانِيًا: الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ
الْيَدُ فِي الْحِيَازَةِ:
48 - الْيَدُ مِمَّا يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ، فَإِذَا ادَّعَى وَاضِعُ الْيَدِ الَّذِي تَلَقَّى الأَْرْضَ شِرَاءً أَوْ إِرْثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّهُ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا فَالْقَوْل لَهُ، وَعَلَى مَنْ يُخَاصِمُهُ فِي الْمِلْكِ الْبُرْهَانُ إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَاسْتُوْفِيَتْ شُرُوطُ الدَّعْوَى.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حِيَازَةٌ ف 6، وَتَنَازُعٌ بِالأَْيْدِي ف 2) .
كَمَا وَيُنْظَرُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْيَدِ ـ سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، أَوْ يَدِ غَيْرِهِمَا، أَوْ يَدِهِمَا مَعًا - مُصْطَلَحُ (شَهَادَةٌ ف 55 ـ 58، تَنَازُعٌ بِالأَْيْدِي ف 2) .
تَقْدِيمُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي إِثْبَاتِ نَسَبِ اللَّقِيطِ:
49 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ اثْنَانِ، وَكَانَ لأَِحَدِهِمَا عَلَيْهِ يَدٌ قُدِّمَ، كَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْقَفَّال، وَالأَْشْبَهُ إِنْ كَانَتْ يَدَ الْتِقَاطٍ لَمْ يُؤَثِّرْ، وَإِلاَّ فَيُقَدَّمُ إِنْ سَبَقَ دَعْوَاهُ، وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ:(45/276)
أَصَحُّهُمَا: يَسْتَوِيَانِ، فَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (لَقِيطٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
جَعْل الزَّوْجِ الأَْمْرَ بِيَدِ زَوْجَتِهِ:
50 - إِذَا قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " كَانَ تَفْوِيضًا فِي الطَّلاَقِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيضٌ ف 9 ـ 12) .
يَدُ الأَْمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:
51 - الْمُرَادُ بِيَدِ الأَْمَانَةِ يَدٌ مُؤْتَمَنَةٌ قَبَضَتِ الْمَال بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْوَثِيقَةِ.
وَالْمُرَادُ بِيَدِ الضَّمَانِ هِيَ يَدٌ قَبَضَتِ الْمَال بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ عَلَى سَبِيل الْمُبَادَلَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيل التَّوْثِيقِ.
وَلِمَعْرِفَةِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِيَدِ الأَْمَانَةِ وَيَدِ الضَّمَانِ وَخِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقَاتِهَا (ر: ضَمَانٌ ف 17، 26 وَمَا بَعْدَهَا) .
يَرْبُوعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ(45/277)
يَسَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ يُطْلَقُ الْيَسَارُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْغِنَى وَالسَّعَةِ، يُقَال: أَيْسَرَ الرَّجُل إِيسَارًا: صَارَ ذَا مَالٍ، وَجَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْيَسَارُ وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسَرَةُ كُل هَذَا بِمَعْنَى: الْغِنَى وَالسَّعَةُ. وَفِي التَّنْزِيل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (1) } ، وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (2) } .
كَمَا يُطْلَقُ الْيَسَارُ عَلَى الْجَارِحَةِ أُخْتِ الْيَمِينِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) سورة الشرح / 6.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وتفسير القرطبي 3 / 373، 20 / 107.
(4) القليوبي 4 / 70.(45/277)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ الْغِنَى:
2 ـ الْغِنَى فِي اللُّغَةِ: السَّعَةُ فِي الْمَال، يُقَال: أَغْنَى اللَّهُ الرَّجُل حَتَّى غَنِيَ: صَارَ ذَا مَالٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْيَسَارِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْيَسَارِ وَالْغِنَى: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب ـ الإِْعْسَارُ:
3 ـ الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ.
وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الإِْعْسَارُ (2) .
والإِْعْسَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ أَوْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبٍ.
وَقِيل: هُوَ زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ (3) .
وَالْيَسَارُ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ ضِدُّ الإِْعْسَارِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَسَارِ:
أَوَّلاً: الْيَسَارُ بِمَعْنَى الْغِنَى وَالسَّعَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْيَسَارِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير
(2) لسان العرب.
(3) المهذب 2 / 1662، والقليوبي وعميرة 4 / 70.(45/278)
الأَْوَّل: طَلَبُ الْيَسَارِ وَالسَّعْيُ لِتَحْصِيلِهِ:
4 ـ طَلَبُ الْيَسَارِ وَالسَّعْيُ لِتَحْصِيلِهِ مَشْرُوعٌ، وَفِي التَّنْزِيل آيَاتٌ تَحُثُّ الْمُسْلِمَ عَلَى السَّعْيِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَكَسْبِ الْمَال بِالْوَسَائِل الْمَشْرُوعَةِ، قَال تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ (1) } .
وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ (2) } .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى كُل مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قِيل: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَال: يَعْتَمِل بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ، قَال: قِيل: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَال: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَال: قِيل لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَال: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ، قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَل؟ قَال: يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ (3) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَطْيَبِ الْكَسْبِ، قَال: عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَكُل بَيْعٍ مَبْرُورٍ. (4)
__________
(1) سورة الجمعة / 10.
(2) سورة الملك / 15.
(3) حديث: " على كل مسلم صدقة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 447) ومسلم (2 / 699) واللفظ لمسلم.
(4) حديث: " سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أطيب الكسب. . " أخرجه الطبراني في الأوسط (3 / 82 ـ ط المعارف) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 61) قوال رواه الطبراني في الأوسط الكبير، ورجاله ثقات.(45/278)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ (1) .
وَالأَْصْل فِي طَلَبِ الْيَسَارِ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اكْتِسَابٌ ف 4 ـ 6، وَغِنًى ف 6 ـ 8، كَسْبٌ 7 - 8) .
الثَّانِي: اعْتِبَارُ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
5 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ ـ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ـ إِلَى اعْتِبَارِ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ (3) .
__________
(1) حديث: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. . " أخرجه الترمذي (3 / 630) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) انظر الاختيار 4 / 172.
(3) تبيين الحقائق 2 / 130، وحاشية الدسوقي 2 / 249، والخرشي 3 / 250، ومغني المحتاج 3 / 167، والإنصاف 8 / 108، والمغني لابن قدامة 6 / 484 ـ 485.(45/279)
(ر: كَفَاءَةٌ ف 11، وَغِنًى ف 23) .
الثَّالِثُ: أَثَرُ الْيَسَارِ فِي النَّفَقَةِ:
أ - أَثَرُ الْيَسَارِ فِي النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ:
6 ـ يُعْتَبَرُ الْيَسَارُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَنَوْعِهَا، فَيَخْتَلِفُ قَدْرُهَا وَنَوْعُهَا بِيُسْرِ الزَّوْجِ وَعُسْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (1) } .
وَقَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (2) } .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ ف 1، غِنًى ف 16) .
ب - أَثَرُ الْيَسَارِ فِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ:
7 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ عَلَى الْقَرِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِفَاضِلٍ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ ف 50 - 55، 60) .
الرَّابِعُ: أَثَرُ الْيَسَارِ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمُرَتَّبَةِ:
8 ـ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَاتِ
__________
(1) سورة الطلاق / 11.
(2) سورة البقرة / 236.(45/279)
الظِّهَارِ، وَقَتْل النَّفْسِ، وَالإِْفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَفِّرُ مُوسِرًا، بِأَنْ يَمْلِكَ رَقَبَةً تُجْزِئُهُ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ ثَمَنَهَا فَاضِلاً عَنْ كِفَايَةِ نَفْسِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ: نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَسُكْنَى وَأَثَاثًا لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا ذُكِرَ تَنْتَقِل إِلَى الْخِصَال الأُْخْرَى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْعِتْقِ وَقْتَ الأَْدَاءِ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
أَمَّا الْقَادِرُ وَقْتَ الأَْدَاءِ عَلَى عِتْقِ الرَّقَبَةِ، بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَمَنُهَا أَوْ مَا يُسَاوِي ثَمَنَ رَقَبَةٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ لأَِجْل مَرَضٍ أَوْ لِمَنْصِبٍ، كَمَا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَخْدِمُ نَفْسَهُ، أَوْ سُكْنَى مَسْكَنٍ، فَلاَ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ، وَلاَ يُتْرَكُ لَهُ قُوتُهُ وَلاَ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُعْذَرُ بِالاِحْتِيَاجِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ، حَيْثُ ارْتَكَبَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَارَّاتٌ ف 68، غِنًى ف 15) .
حَدُّ الْيَسَارِ:
أـ حَدُّ الْيَسَارِ فِي الزَّكَاةِ:
9 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ " الْغِنَى)
__________
(1) البدائع 5 / 97 ـ 98، ومغني المحتاج 3 / 364، وكشاف القناع 5 / 376، والقرطبي 17 / 282.
(2) الخرشي 4 / 116، والشرح الصغير 3 / 486.(45/280)
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُكَلَّفُ نِصَابًا مِنَ الْمَال الْفَاضِل عَنْ حَاجَتِهِ الأَْصْلِيَّةِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 28، 31، غِنًى ف 14، زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 6) .
ب ـ حَدُّ الْيَسَارِ فِي تَحْرِيمِ السُّؤَال:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْغِنَى الَّذِي لاَ يُشْرَعُ مَعَهُ السُّؤَال.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (غِنًى ف 12، سُؤَالٌ ف 9) .
ج - حَدُّ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِاعْتِبَارِ الْيَسَارِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي حَدِّهِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَاءَةٌ ف 11، غِنًى ف 23) .
د ـ حَدُّ الْيَسَارِ فِي النَّفَقَاتِ:
حَدُّ يَسَارِ الزَّوْجِ فِي فَرْضِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ لِزَوْجَتِهِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ يَسَارِ الزَّوْجِ الَّذِي تُقَدَّرُ مَعَهُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ لِلزَّوْجَةِ مَوْكُولٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْحَال مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الإِْنْفَاقِ وَعَدَمِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: صَرَّحُوا بِبَيَانِ الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ(45/280)
عَرَّفَهُمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَلَعَلَّهُمْ وَكَلُوا ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْحَال مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الإِْنْفَاقِ وَعَدَمِهِ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَحْدِيدِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ الَّذَيْنِ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ مِنَ النَّفَقَةِ بِاخْتِلاَفِهِمَا أَوْجُهٌ (2) :
أَحَدُهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ: أَنَّ الْمُعْسِرَ هُوَ مِسْكِينُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ فَقِيرَهَا كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُحَرَّرِ، وَمنْ فَوْقِ الْمِسْكِينِ إِنْ كَانَ لَوْ كُلِّفَ إِنْفَاقَ مَدِينٍ رَجَعَ مِسْكِينًا فَمُتَوَسِّطٌ، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِسْكِينًا فَمُوسِرٌ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالرُّخْصِ وَالرَّخَاءِ وَقِلَّةِ الْعِيَال وَكَثْرَتِهِمْ (3) .
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُوسِرَ مَنْ يَزِيدُ دَخْلُهُ عَلَى خَرْجِهِ، وَالْمُعْسِرُ عَكْسُهُ، وَالْمُتَوَسِّطُ مَنْ تَسَاوَى خَرْجُهُ وَدَخْلُهُ.
وَبِهِ قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 645، وروضة الطالبين 9 / 40 ـ 41، وتفسير القرطبي 18 / 170، والقوانين الفقهية ص 226، والدسوقي 20 / 509.
(2) روضة الطالبين 9 / 40 ـ 41، وانظر حاشية الرملي بهامش أسنى المطالب 2 / 192، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 8 / 303.
(3) مغني المحتاج 3 / 426.(45/281)
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَهُمْ أَيْضًا: أَنَّ الاِعْتِبَارَ بِالْكَسْبِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ لاَ مِنْ أَصْل مَالِهِ فَهُوَ مُوسِرٌ، وَمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ فَمُعْسِرٌ، وَمَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ كَسْبِهِ نَفَقَةَ الْمُتَوَسِّطِينَ فَمُتَوَسِّطٌ، وَبِهِ قَال الْمَاوَرْدِيُّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمُوسِرُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ بِمَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ، وَالْمُعْسِرُ: مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لاَ بِمَالِهِ وَلاَ بِكَسْبِهِ، وَقِيل: الْمُعْسِرُ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَالْمُتَوَسِّطُ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى بَعْضِ النَّفَقَةِ بِمَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ.
وَقَال صَاحِبُ الرِّعَايَةِ: مِسْكِينُ الزَّكَاةِ مُعْسِرٌ، وَمَنْ فَوْقَهُ مُتَوَسِّطٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُوسِرٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِيمَا يُرَاعَى فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ مِنْ حَال الزَّوْجَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْيَسَارُ وَالإِْعْسَارُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (غِنًى ف 16، وَنَفَقَةٌ ف 9) .
حَدُّ الْيَسَارِ فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْيَسَارِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ ف 52، 55، 66) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 41.
(2) الإنصاف 9 / 355، والمبدع 8 / 189.(45/281)
هـ ـ حَدُّ الْيَسَارِ فِي الأُْضْحِيَّةِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْغِنَى فِيمَنْ تُسَنُّ لَهُ الأُْضْحِيَّةُ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِّ الْغِنَى عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غِنًى ف 21، أُضْحِيَّةٌ ف 7، 16) .
وـ حَدُّ يَسَارِ مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنَ الْعَاقِلَةِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْيَسَارِ الْمُشْتَرَطِ فِيمَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنَ الْعَاقِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (غِنًى ف 18) .
ثَانِيًا: الْيَسَارُ بِمَعْنَى الْعُضْوِ الأَْيْسَرِ لِلإِْنْسَانِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْيَسَارِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أـ مَا يُنْدَبُ تَقْدِيمُ الْيَسَارِ فِيهِ:
16 - الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي تَقْدِيمِ الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَامُنُ، وَمَا كَانَ بِضِدِّهِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَاسُرُ.
16 - فَمِمَّا يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَاسُرُ دُخُول الْخَلاَءِ: فَيُنْدَبُ لِدَاخِل الْخَلاَءِ " الْمِرْحَاضِ) أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الدُّخُول فِيهِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهَا فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَبِمَعْنَى الرِّجْل بَدَلُهَا مِنْ فَاقِدِهَا.(45/282)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْخَلاَءِ وَبِالدُّخُول جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} . (1)
فَالَّذِي يَرْغَبُ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الصَّحْرَاءِ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهَا عِنْد الاِنْصِرَافِ مِنْهُ، وَقَالُوا: فَدَنَاءَةُ الْمَوْضِعِ قَبْل قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِيهِ تَحْصُل بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ قَبْل قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَالْخَلاَءِ الْجَدِيدِ قَبْل أَنْ يَقْضِيَ أَحَدٌ فِيهِ حَاجَةً، وَمِثْل مَا ذُكِرَ: كُل مَكَانٍ مُتَقَذِّرٍ وَدَنِيءٍ (2) .
(ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ ف 8، 32) .
18 - وَيُسَنُّ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْيَسَارِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلاِتِّبَاعِ (3) ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَانَا ـ يَعْنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ. (4)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اسْتِنْجَاءٌ ف 30) .
__________
(1) سورة النساء / 22.
(2) مغني المحتاج 1 / 39، وتحفة المحتاج 1 / 157 ـ 158، والشرح الصغير 1 / 93، وكشاف القناع 1 / 95، والمغني 1 / 167.
(3) مغني المحتاج 1 / 40 ـ 46، وكشاف القناع 1 / 60ـ61، والشرح الصغير 1 / 96.
(4) حديث سلمان: " نهانا أي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستنجي أحدنا بيمينه. " أخرجه مسلم (1 / 224) .(45/282)
ب ـ مَا يُنْدَبُ تَأْخِيرُ الْيَسَارِ فِيهِ:
19 - الأَْصْل اسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ الْيَسَارِ عَنِ الْيَمِينِ فِي كُل مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل اسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ الْيَسَارِ عَنِ الْيَمِينِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْوُضُوءِ وَاللِّبَاسِ وَخِصَال الْفِطْرَةِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ.
(ر: تَيَامُنٌ ف 4 ـ 13) .
يُسْرٌ
انْظُرْ: تَيْسِيرٌ(45/283)
يَسِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْيَسِيرُ فِي اللُّغَةِ: السَّهْل، يُقَال: يَسُرَ الشَّيْءُ مِثْل قَرُبَ فَهُوَ يَسِيرٌ أَيْ سَهْلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (1) } ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ (2) } .
وَمِنْ مَعَانِي الْيُسْرِ: " الشَّيْءُ الْقَلِيل، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا (3) } .
وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (4) } ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا (5) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (6) .
__________
(1) سورة الأحزاب / 30.
(2) سورة القمر / 17.
(3) سورة الأحزاب / 14.
(4) سورة الانشراح / 6.
(5) حديث: " يسروا ولا تعسروا. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 163) ومسلم (3 / 1359) من حديث أنس بن مالك.
(6) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني، والمصباح المنير.(45/283)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَسِيرِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْيَسِيرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - يَسِيرُ النَّجَاسَاتِ:
2 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْيَسِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ هَذِهِ النَّجَاسَاتِ، وَمَا لاَ يُعْفَى عَنْهُ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الْيَسِيرُ مِنْ غَيْرِهِ: هَل بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَمْ يُقَدَّرُ بِالدِّرْهَمِ؟ وَهَل يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْمُصَابِ وَاجْتِهَادِهِ أَمْ يَرْجِعُ إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ؟ وَهَل يُعْفَى عَمَّا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ يَسِيرِ النَّجَاسَاتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَطْ، أَوْ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ، أَوْ فِي الْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، أَمْ فِي كُل ذَلِكَ؟ تَفَاصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ وَغَيْرِهَا فِي مُصْطَلَحِ (عَفْوٌ ف 7 ـ 11، مَعْفُوَّاتٌ ف 2 ـ 19، نَجَاسَةٌ ف 23) .
ب - الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ فِي الصَّلاَةِ:
3 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَرَكَةَ أَوِ الْعَمَل الْيَسِيرَ لاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (1) ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت بنته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 590) ومسلم (1 / 386) واللفظ للبخاري.(45/284)
" أَمَرَ بِقَتْل الأَْسْوَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ (1) ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ (2) ، وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ (3) .
وَعَدَّ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الأَْعْمَال مِنَ الْحَرَكَاتِ الْيَسِيرَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْيَسِيرِ، وَبِمَ يُقَدَّرُ بِهِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: يُقَدَّرُ بِالْعُرْفِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَوْقِيفَ فِيهِ فَيُرْجَعُ لِلْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْرَفُ بِتَقْدِيرِ النَّاظِرِ، فَمَا يَشُكُّ فِيهِ النَّاظِرُ أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ أَمْ لاَ فَهُوَ يَسِيرٌ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 114) .
ج - الْكَلاَمُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلاَةِ:
4 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِالْكَلاَمِ الْمُتَعَمَّدِ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا، مَا لَمْ يَكُنْ لإِِصْلاَحِ الصَّلاَةِ؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا
__________
(1) حديث: " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين في الصلاة. . . " أخرجه الترمذي (2 / 234) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة. . . أخرجه أبو داود (1 / 426) من حديث أبي سعيد الخدري، وصحح إسناده النووي في المجموعة (3 / 132) .
(3) حديث: " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحف بثوبه في الصلاة. . . " أخرجه مسلم (1 / 301) من حديث وائل بن حجر. رضي الله عنه
(4) مغني المحتاج 1 / 199، وكشاف القناع 1 / 377.(45/284)
نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُل صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (1) } فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ لإِِصْلاَحِ الصَّلاَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 107 ـ 112) .
د - السَّكْتَةُ الْيَسِيرَةُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 ـ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ الطَّوِيل الْعَمْدَ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ لإِِشْعَارِهِ بِالإِْعْرَاضِ مُخْتَارًا كَانَ أَوْ لِعَائِقٍ؛ لإِِخْلاَل ذَلِكَ بِالْمُوَالاَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَخَصَّ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِالإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ السُّكُوتُ يَسِيرًا وَلَمْ يَتَعَمَّدْ فِيهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا؛ لِعَدَمِ اخْتِلاَل نَظْمِ الْفَاتِحَةِ بِذَلِكَ.
__________
(1) سورة البقرة / 238
(2) حديث: " كنا نتكلم في الصلاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 72) ومسلم (1 / 383) واللفظ لمسلم.
(3) مغني المحتاج 1 / 194، وكشاف القناع 1 / 378، وما بعدها.(45/285)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ السُّكُوتُ يَسِيرًا، وَقَصَدَ بِهِ قَطْعَ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا لِتَأْثِيرِ الْفِعْل مَعَ النِّيَّةِ، كَنَقْل الْوَدِيعَةِ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا.
وَقَالُوا: الْيَسِيرُ ـ هُنَا ـ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَتَنَفُّسٍ وَاسْتِرَاحَةٍ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَقْطَعُ الْقِرَاءَةَ لأَِنَّ قَصْدَ الْقَطْعِ وَحْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ، وَالسُّكُوتُ الْيَسِيرُ وَحْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ أَيْضًا، فَكَذَا إِذَا اجْتَمَعَا (1) .
هـ - الْفَاصِل الْيَسِيرُ بَيْنَ السَّلاَمِ وَسُجُودِ السَّهْوِ:
6 ـ نَصَّ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ مَحَل سُجُودِ السَّهْوِ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلاَمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُصَلِّي إِذَا تَرَكَ سُجُودَ السَّهْوِ نِسْيَانًا وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ فَاصِلٍ يَسِيرٍ، أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ إِنْ رَغِبَ فِي ذَلِكَ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ وَالْكَلاَمِ (2) .
أَمَّا إِذَا تَرَكَ السُّجُودَ عَمْدًا وَسَلَّمَ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ فَاتَ لِفَوَاتِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 159، والمجموع للنووي 3 / 356 ـ 359، وكشاف القناع 1 / 338.
(2) حديث: أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 94) ، ومسلم (1 / 402) ، واللفظ لمسلم.(45/285)
مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّهُ قَطَعَ الصَّلاَةَ بِالسَّلاَمِ وَإِنْ كَانَ الْفَاصِل يَسِيرًا.
وَكَذَا إِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا وَطَال الْفَصْل؛ لِفَوَاتِ الْمَحَل بِالسَّلاَمِ وَتَعَذُّرِ الْبِنَاءِ بِالطُّول (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ السَّهْوِ ف 9) .
و الْفَاصِل الْيَسِيرُ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْعُقُودِ:
7 ـ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي يَلْزَمُ لِصُحْبَتِهَا الإِْيجَابُ وَالْقَبُول يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَطُول الْفَصْل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَإِنْ طَال الْفَصْل لَمْ تَصِحَّ؛ لأَِنَّ طُول الْفَصْل يُخْرِجُ الثَّانِيَ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلأَْوَّل.
أَمَّا الْفَصْل الْيَسِيرُ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَلاَ يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ لِعَدَمِ إِشْعَارِهِ بِالإِْعْرَاضِ عَنِ الْقَبُول، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَضُرُّ تَخَلُّل كَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ وَلَوْ يَسِيرًا بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِعْرَاضًا عَنِ الْقَبُول.
وَالْمُرَادُ بِالأَْجْنَبِيِّ هُوَ: أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلاَ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلاَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهِ، وَالْفَاصِل الطَّوِيل هُوَ مَا أَشْعَرَ بِالإِْعْرَاضِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 213، وكشاف القناع 1 / 409.(45/286)
عَنِ الْقَبُول، وَالْيَسِيرُ مَا لَمْ يُشْعِرْ بِالإِْعْرَاضِ عَنِ الْقَبُول (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (عَقْدٌ ف 18 - 24) .
ز - الْفَاصِل الْيَسِيرُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ:
8 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ الاِتِّصَال بَيْنَ لَفْظَيِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِحَيْثُ يُعَدَّانِ كَلاَمًا وَاحِدًا عُرْفًا، وَلاَ يَضُرُّ فِي هَذَا الاِتِّصَال فَاصِلٌ يَسِيرٌ كَسَكْتَةِ تَنَفُّسٍ أَوْ عِيٍّ أَوْ تَذَكُّرٍ أَوِ انْقِطَاعِ صَوْتٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُعَدُّ فَاصِلاً عُرْفًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِثْنَاءٌ ف 15) .
ح - الْفَاصْل الْيَسِيرُ بَيْنَ الرَّضَعَاتِ:
9 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَضَعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَنَّ الطِّفْل إِذَا أَعْرَضَ عَنِ الثَّدْيِ إِعْرَاضًا يَسِيرًا لِلَهْوٍ أَوْ لِتَنَفُّسٍ أَوْ لِنَوْمَةٍ خَفِيفَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ، اعْتُبِرَ الْكُل رَضْعَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ طَال لَهْوُهُ أَوْ نَوْمُهُ وَكَانَ الثَّدْيُ فِي فَمِهِ فَرَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْضًا، وَكَذَا إِذَا تَحَوَّل الطِّفْل مِنْ ثَدْيٍ إِلَى ثَدْيٍ، أَوْ حَوَّلَتْهُ الْمُرْضِعَةُ، وَكَانَ الْفَصْل يَسِيرًا، أَوْ فَصَلَتْهُ الْمُرْضِعَةُ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 5، 121.
(2) مغني المحتاج 3 / 300.(45/286)
الثَّدْيِ فَصْلاً يَسِيرًا لِشُغْلٍ خَفِيفٍ، ثُمَّ عَادَتْ؛ لأَِنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إِلَى الْعُرْفِ، لأَِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَا مُطْلَقًا، وَلَمْ يُحَدِّدْهُ بِزَمَنٍ وَلاَ بِمِقْدَارٍ (1) .
(ر: رَضَاعٌ ف 14) .
ط - الْفَاصِل الْيَسِيرُ بَيْنَ وِلاَدَةِ الْوَلَدِ وَبَيْنَ نَفْيِهِ:
10 - يُشْتَرَطُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي اللِّعَانِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ عَقِبَ الْعِلْمِ بِوِلاَدَتِهِ، وَلاَ يَضُرُّ الْفَاصِل الْيَسِيرُ إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ، كَأَنْ يَبْلُغَهُ خَبَرُ الْوِلاَدَةِ لَيْلاً فَأَخَّرَ النَّفْيَ حَتَّى يُصْبِحَ، أَوْ كَانَ جَائِعًا فَأَكَل، أَوْ عَارِيًا فَلَبِسَ، وَذَلِكَ بَعْدَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا النَّافِي لِنَسَبِ الْوَلَدِ عَنْهُ مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّفْيِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ بَعْدَهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نَسَبٌ ف 54 - 55، لِعَانٌ ف 26) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 417، وكشاف القناع 5 / 446.
(2) مغني المحتاج 3 / 381.(45/287)
يَقِينٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ، وَتَحْقِيقُ الأَْمْرِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ، وَهُوَ ثُلاَثِيٌّ مِنْ بَابِ تَعِبَ، يُقَال: يَقِنَ الأَْمْرُ يَيْقَنُ يَقَنًا: إِذَا ثَبَتَ وَوَضَحَ، فَهُوَ يَقِينٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَيُسْتَعْمَل مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، فَيُقَال: يَقِنْتُهُ وَيَقِنْتُ بِهِ وَأَيْقَنْتُ بِهِ (1) .
وَالْيَقِينُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ، أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ الشَّكُّ:
2 ـ الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الاِرْتِيَابُ، وَخِلاَفُ الْيَقِينِ وَنَقِيضُهُ.
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط ومختار الصحاح، ولسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة 6 / 157 ط الحلبي.
(2) درر الحكام لعلي حيدر 1 / 18، وشرح المجلة لمحمد خالد الأتاسي 1 / 18 (المادة 4 من المجلة)(45/287)
وَالشَّكُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ، وَقِيل: مَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لاَ يَمِيل الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ أَنَّ الشَّكَّ نَقِيضُ الْيَقِينِ (2) .
ب ـ الْوَهْمُ:
3 ـ الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعَانِيهِ: خَطَرَاتُ الْقَلْبِ، أَوْ مَرْجُوحُ طَرَفَيِ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الاِعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَهْمِ وَالْيَقِينِ هِيَ التَّضَادُّ.
جـ ـ الظَّنُّ:
4 ـ الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعَانِيهِ: التَّرَدُّدُ الرَّاجِحُ بَيْن طَرَفَيْ الاِعْتِقَاد غَيْرِ الْجَازِمِ، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْعِلْمِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الاِعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَال النَّقِيضِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ هِيَ التَّضَادُّ.
__________
(1) القواعد الفقهية للبركتي ص 341.
(2) درر الحكام 1 / 20.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وقواعد الفقه للبركتي.
(4) القاموس المحيط، وقواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.(45/288)
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَقِينِ:
5 ـ أُصُول الدِّينِ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ الْيَقِينِ، وَلاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) } ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا (2) } ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (3) } ، وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ (4) } ، وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ (5) } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (6) } ، فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ فِيهِ الْيَقِينُ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّنُّ هُنَا فِي قَوْل الْجُمْهُورِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ (7) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ (8) } ، وَقَوْلُهُ: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
__________
(1) سورة محمد / 19.
(2) سورة الحجرات / 15.
(3) سورة البقرة / 26.
(4) سورة الأنعام / 82.
(5) سورة الرعد / 28.
(6) سورة البقرة / 46.
(7) الجامع لأحكام القرآن 1 / 375، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 40 ـ 41، والفواكه الدواني 1 / 43.
(8) سورة الحاقة / 20.(45/288)
مُوَاقِعُوهَا (1) } .
وَالتَّفْصِيل فِي كُتُبِ الْعَقِيدَةِ.
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْيَقِينِ:
قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ لِلْيَقِينِ وَأَحْوَال تَقْدِيمِهِ عَلَى الشَّكِّ وَالظَّنِّ وَالَوَهْمِ قَوَاعِدَ فِقْهِيَّةً كُلِّيَّةً كَثِيرَةً، ضَبَطَتْ وَبَيَّنَتِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ يَقِينٌ أَوْ ظَنٌّ أَوْ وَهْمٌ.
مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ:
الْقَاعِدَةُ الأَْوْلَى: الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ:
6 - مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لاَ يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ، وَمَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَدَلِيلُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَل عَلَيْهِ، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا. (2) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ (3) .
__________
(1) سورة الكهف / 53.
(2) حديث: " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا. . . " أخرجه مسلم (1 / 276) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث أبي سعيد الخدري: " إذا شك أحدكم في صلاته. . . " أخرجه مسلم (1 / 400) .(45/289)
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ صَلَّى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟ فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثْلاَثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاَثٍ، وَلِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ. (1)
هَذَا، وَنَظَرًا لأَِنَّ الْيَقِينَ يَرِدُ فِي جُل أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَإِنَّنَا نَسُوقُ هُنَا جُمْلَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل بِالْيَقِينِ إِذَا وُجِدَ، وَتَرْكِ الظَّنِّ وَالشَّكِّ وَالْوَهْمِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَاعِدَةُ: " الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ "، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ، أَوْ تَيَقَّنَ فِي الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ مُحْدِثٌ.
وَمِنْهَا: " الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَل فِي شَغْل الذِّمَّةِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، مَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَمِنْهَا قَاعِدَةُ: " مَنْ شَكَّ هَل فَعَل شَيْئًا أَوْ لاَ؟ فَالأَْصْل أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ "،
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن عوف: " إذا سهى أحدكم في صلاته. . . " أخرجه الترمذي (2 / 245) ، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 11 ـ علمية) : معلول ثم أفاض في ذكر علله.(45/289)
وَيَدْخُل فِيهَا قَاعِدَةٌ أُخْرَى: " مَنْ تَيَقَّنَ الْفِعْل وَشَكَّ فِي الْقَلِيل أَوِ الْكَثِيرِ حَمَل عَلَى الْقَلِيل؛ لأَِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ تَشْتَغِل الذِّمَّةُ بِالأَْصْل فَلاَ تَبْرَأُ إِلاَّ بِيَقِينٍ ". (1)
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: الأَْصْل فِي الأَْبْضَاعِ التَّحْرِيمُ:
7 ـ إِذَا تَقَابَل فِي الْمَرْأَةِ حِلٌّ وَحُرْمَةٌ غَلَبَتِ الْحُرْمَةُ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْفُرُوجِ (2) .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الْعَدَمُ:
8 ـ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الْقَوْل قَوْل عَامِل الْقِرَاضِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَرْبَحْ.
وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحَاتُ (ظَنٌّ ف 1، شَكٌّ ف 1، وَهْمٌ) .
__________
(1) الاشباه والنظائر للسيوطي ص 50 ـ 55.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي 50،61 ـ 63، والأشباه والنظائر لابن نجيم 22،30، وغمز عيون البصائر للحموي 1 / 84 ـ 105.(45/290)
يَلَمْلَمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - يَلَمْلَمُ وَأَلَمْلَمُ أَوْ يَرَمْرَمُ فِي اللَّغُةِ: جَبَلٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، مِيقَاتُ الْيَمَنِ (1) .
وَمَدْلُول هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: يَلَمْلَمُ مِيقَاتُ أَهْل الْيَمَنِ، وَهُوَ مَكَانٌ جَنُوبِيَّ مَكَّةَ، وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَال تِهَامَةَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (2) .
وَقَال الشِّرْوَانِيُّ نَقْلاً عَنْ كُرْدِيٍّ: يَلَمْلَمُ - بِالتَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ - وَيُقَال: أَلَمْلَمُ وَيَرَمْرَمُ: جَبَلٌ مِنْ جَبَال تِهَامَةَ جَنُوبِيَّ مَكَّةَ، مَشْهُورٌ فِي زَمَانِنَا بِالسَّعْدِيَّةِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس
(2) البحر المحيط 2 / 341.
(3) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 39 - 40، وانظر: كشاف القناع 2 / 400، والخرشي 2 / 302 والإيضاح للنووي ص117. وتقدر المسافة اليوم بين مكة المكرمة ويلملم بـ94 كيلو مترا، ويتم الإحرام اليوم من قرية السعدية، وهي مكان معروف في جبل يلملم (اللجنة) .(45/290)