قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوِ اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي حِفْظِ الْمَال، فَإِنِ احْتَمَل الْقِسْمَةَ يَكُونُ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَإِلاَّ فَيَتَهَايَآنِ زَمَانًا أَوْ يَسْتَوْدِعَانِهِ، لأَِنَّ لَهُمَا الإِْيدَاعَ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنِ اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي حِفْظِ الْمَال وَالْمَقْسُومِ، قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي النِّصْفِ الْمَقْسُومِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَيَتَصَرَّفَانِ مَعًا فِي الْكُل، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ فِيمَا بِيَدِهِ وَيَدِ صَاحِبِهِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَال بِيَدِهِمَا كَانَ النِّصْفُ بِيَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَجَازَ أَنْ يُعَيَّنَ ذَلِكَ النِّصْفُ.
هَذَا إِذَا انْقَسَمَ الْمُوصَى فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ جَعَلَهُ الْحَاكِمُ تَحْتَ يَدِهِمَا، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِنَائِبٍ لَهُمَا فِي الْحِفْظِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِنَائِبٍ لَهُمَا حَفِظَهُ الْقَاضِي.
وَهَذَا التَّفْصِيل فِي وَصِيَّيِ التَّصَرُّفِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْحِفْظِ إِلَى وَقْتِ التَّصَرُّفِ.
أَمَّا وَصِيَّا الْحِفْظِ فَلاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِحَالٍ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ لاِبْنِ عَابِدِينَ 6 / 706، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 142.
(2) أَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 71، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 319.(43/181)
مَرْتَبَةُ الْوَصِيِّ فِيمَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى الْقُصَّرِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَرْتَبَةِ الْوَصِيِّ بَيْنَ مَنْ يَتَوَلُّونَ أَمْرَ الصَّغِيرِ:
- فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْوِلاَيَةَ فِي مَال الصَّغِيرِ لِلأَْبِ ثُمَّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ وَصِيِّ وَصِيِّهِ وَلَوْ بَعْدُ.
فَلَوْ مَاتَ الأَْبُ وَلَمْ يُوصِ فَالْوِلاَيَةُ لأَِبِي الأَْبِ ثُمَّ وَصِيِّهِ ثُمَّ وَصِيِّ وَصِيِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْقَاضِي وَمَنْصُوبِهِ.
وَوَصِيُّ الأَْبِ عِنْدَهُمْ أَحَقُّ بِمَال الطِّفْل مِنَ الْجَدِّ، وَذَلِكَ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الأَْبِ تَنْتَقِل إِلَى وَصِيِّهِ بِالإِْيصَاءِ. فَتَكُونُ وِلاَيَةُ الْوَصِيِّ قَائِمَةً مَعْنًى وَتَتَقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ كَالأَْبِ نَفْسِهِ.
وَلأَِنَّ اخْتِيَارَ الأَْبِ لِلْوَصِيِّ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ الْجَدِّ يَدُل عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ أَنْظَرُ وَأَحْسَنُ لأَِوْلاَدِهِ مِنْ تَصَرُّفِ الْجَدِّ (1) .
- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَى مَال الصَّغِيرِ تَكُونُ لِلأَْبِ ثُمَّ وَصِيِّهِ ثُمَّ لِلْقَاضِي، دُونَ الأَْجْدَادِ وَالأَْعْمَامِ وَالإِْخْوَةِ، لأَِنَّهُمْ يُدَلُّونَ لِلْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ، بِخِلاَفِ الأَْبِ فَإِنَّهُ يُدَلِّي بِنَفْسِهِ.
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 714، 715، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 213.(43/181)
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ لِلأُْمِّ أَنْ تُوصِيَ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: الأَْوَّل: أَنْ يَقِل الْمَال الَّذِي أَوْصَتْ بِسَبَبِهِ، وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ هُوَ الْعُرْفُ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ لِلصَّغِيرِ وَلِيٌّ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيِّ الأَْبِ أَوْ وَصِيِّ قَاضٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَرِثَ الصَّغِيرُ ذَلِكَ الْمَال عَنْهَا بِأَنْ كَانَ الْمَال لَهَا وَمَاتَتْ (1) .
- وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلأَْبِ عَلَى الصَّحِيحِ نَصْبُ وَصِيٍّ عَلَى الأَْطْفَال وَنَحْوِهِمْ كَالْمَجَانِينِ وَمَنْ بَلَغَ سَفِيهًا وَالْجَدُّ حَيٌّ حَاضِرٌ بِصِفَةِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ ثَابِتَةٌ شَرْعًا فَلَيْسَ لَهُ نَقْل الْوِلاَيَةِ عَنْهُ كَوِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْجَدُّ غَائِبًا فَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلَوْ أَرَادَ الأَْبُ الإِْيصَاءَ بِالتَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ إِلَى حُضُورِهِ، فَقِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي تَعْلِيقِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْبُلُوغِ: الْجَوَازُ، وَيُحْتَمَل الْمَنْعُ، لأَِنَّ الْغَيْبَةَ لاَ تَمْنَعُ حَقَّ الْوِلاَيَةِ (2) .
وَأَمَّا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا فَلِلأَْبِ نَصْبُ
__________
(1) شَرْح مَنَحَ الْجَلِيل 4 / 688، وَالشَّرْح الْكَبِير لِلدُّسُوقِيِّ 4 / 452، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 518.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 3 / 75.(43/182)
الْوَصِيِّ فِي حَيَاةِ الْجَدِّ وَيَكُونُ الْوَصِيُّ أَوْلَى مِنَ الْجَدِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْصِبْ وَصِيًّا فَأَبُوهُ أَوْلَى بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَمْرِ الأَْطْفَال، وَالْحَاكِمُ أَوْلَى بِتَنْفِيذِ الْوَصَايَا. كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُوصِي:
الْمُوصِي هُوَ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ أَمْرٌ لِغَيْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي أُمُورِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (2) ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ وِصَايَتِهِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّكْلِيفُ (وَهُوَ الْعَقْل وَالْبُلُوغُ) :
22 - أَمَّا الْعَقْل: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ مِنْ مَجْنُونٍ مُبَرْسَمٍ وَمُغْمًى عَلَيْهِ قَبْل إِفَاقَتِهِ إِذْ لاَ عِبَارَةَ لِهَؤُلاَءِ وَلاَ حُكْمَ لِكَلاَمِهِمْ (3) .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ وِصَايَةُ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ إِذْ لاَ عِبَارَةَ لَهُ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 315، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 76.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 73، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 311.
(3) الْبَدَائِع 7 / 334، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص398، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى الرِّسَالَةِ 2 / 204 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 97، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَالإِْنْصَاف 7 / 185 ـ 187.(43/182)
وَلأَِنَّهُ يُوَلَّى عَلَيْهِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ لاَ يَلِيَ أَمْرَ غَيْرِهِ.
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِصَايَتِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ وِصَايَةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَتِ الْوِصَايَةُ فِي تَجْهِيزِهِ وَأَمْرِ دَفْنِهِ فَتَصِحُّ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى صِحَّةِ وِصَايَةِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، لأَِنَّهَا تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لَهُ فَصَحَّ مِنْهُ كَالإِْسْلاَمِ وَالصَّلاَةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الْوِصَايَةِ مِنَ الْمُمَيِّزِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْقِل الْقُرْبَةَ كَمَا قَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ صِحَّةَ الْوِصَايَةِ مِنَ الْمُمَيِّزِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ الْعَشْرَ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي حُرًّا فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 334، وَجَامِع أَحْكَام الصِّغَار ص340، وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 520 - 521، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى الرِّسَالَةِ 2 / 204 ـ 205، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص398، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 88، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 75، 39، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَالإِْنْصَاف 7 / 185 ـ 186.(43/183)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُوصِي فَلاَ تَصِحُّ وِصَايَةُ الْعَبْدِ وَلَوْ بِشَائِبَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ غَيْرَهُمْ، لأَِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْوِلاَيَاتِ الْمُتَعَدِّيَةَ كَوِلاَيَةِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَغَيْرِهَا لأَِنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ الْقُدْرَةِ الْحُكْمِيَّةِ، إِذِ الْوِلاَيَةُ تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَالرِّقُّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ.
كَمَا أَنَّ الأَْصْل فِي الْوِلاَيَاتِ وِلاَيَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ التَّعَدِّي مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ التَّعَدِّي وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ وِصَايَةِ الْعَبْدِ فِي غَيْرِ الْمَال لأَِنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً وَأَهْلِيَّةً تَامَّةً (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الرُّشْدُ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصِي رَشِيدًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَيَصِحُّ إِيصَاءُ السَّفِيهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ، لأَِنَّ السَّفَهَ
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 334، وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 4، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى الرِّسَالَةِ 2 / 205، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص398، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج مَعَ الْحَوَاشِي 7 / 88، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 75، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 68 وَالْحَاوِي للماوردي 10 / 190، وَالتَّقْرِير وَالتَّحْبِير عَلَى التَّحْرِيرِ 2 / 185، وَكَشَفَ الأَْسْرَار عَنْ أُصُول البزدوي 4 / 491.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَالإِْنْصَاف 7 / 183.(43/183)
لاَ يُنَافِي الأَْهْلِيَّةَ، وَلاَ شَيْئًا مِنَ الأَْحْكَامِ سِوَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصِي رَشِيدًا، فَلَيْسَ لِلأَْبِ السَّفِيهِ أَنْ يُوصِيَ عَلَى وَلَدِهِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ لَهُ الْحَاكِمُ لأَِنَّ الأَْبَ السَّفِيهَ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى وَلَدِهِ بِنَفْسِهِ فَوَصِيُّهُ أَوْلَى.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: ظَاهِرُ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ فِي بَابِ الْمُوصَى إِلَيْهِ صِحَّةُ وَصِيَّةِ السَّفِيهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَال (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُوصِي عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُوصِي، فَتَصِحُّ وِصَايَةُ الْفَاسِقِ (2) .
__________
(1) التَّلْوِيح عَلَى التَّوْضِيحِ 2 / 191، وَالتَّقْرِيرِ وَالتَّجْبِيرِ 2 / 201، وَالْحَاوِي للماوردي 10 / 190، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 452، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 68، وَالإِْنْصَاف 7 / 185، شَرْح الْمُنْتَهَى 2 / 454، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336 ـ 337.
(2) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر ص386 وَتَكْمِلَة الْبَحْرِ الرَّائِقِ 8 / 459 وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 454، وَالإِْنْصَافِ 7 / 183.(43/184)
وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ إِطْلاَقِ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُوصِي فَلاَ تَصِحُّ وِصَايَةُ الْفَاسِقِ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةٌ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لاَ تَصِحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ (2) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْوِلاَيَةُ:
26 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُوصِي أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى مَنْ يُوصَى عَلَيْهِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِيمَنْ لَهُ تَوْلِيَةُ الْوَصِيِّ (ر: ف 6، وَإِيصَاء ف 9) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ ضِمْنَ شُرُوطِ الْمُوصِي أَنْ لاَ يَكُونَ لِلطِّفْل مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوِلاَيَةَ، لأَِنَّ مُسْتَحِقَّ الْوِلاَيَةِ بِنَفْسِهِ أَقْوَى مِمَّنِ اسْتَحَقَّهَا بِغَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى الأَْبُ بِالْوِلاَيَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَهُنَاكَ جَدٌّ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً (3) .
وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ.
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 452، وَالْخَرَشِيّ 8 / 192.
(2) الْحَاوِي للماوردي 10 / 190، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 76، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 79.
(3) الْحَاوِي 10 / 191، مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 75 ـ 76، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 89.(43/184)
الشَّرْطُ السَّادِسُ: الإِْسْلاَمُ: 27 - الأَْصْل أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ فَلاَ يَصِحُّ إِيصَاءُ الْكَافِرِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا إِيصَاءُ الذِّمِّيِّ إِلَى ذَمِّيٍّ عَلَى أَوْلاَدِهِ الذِّمِّيِّينَ فَصَحِيحٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ إِلَى الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الذِّمِّيَّ مِنَ الْحَرْبِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمُ لَوْ أَوْصَى إِلَى الذِّمِّيِّ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً (1) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُوصَى بِهِ:
28 - الْمُوصَى بِهِ هُوَ التَّصَرُّفُ الَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَى الْوَصِيِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى بِهِ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفًا مَعْلُومًا يَمْلِكُ الْمُوصِي فِعْلَهُ، لأَِنَّ الإِْيصَاءَ كَالْوَكَالَةِ، وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالإِْذْنِ، فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ فِي مَعْلُومٍ يَمْلِكُهُ الْمُوصِي، مِثْل الإِْيصَاءِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَوْزِيعِ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِ طِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ، وَرَدِّ وَدَائِعَ إِلَى أَهْلِهَا، وَاسْتِرْدَادِهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ وَرَدِّ مَغْصُوبٍ. . . . (2)
__________
(1) الْحَاوِي 10 / 190، وَشَرْح الْمُنْتَهَى 2 / 494، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 138.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 398، وَشَرْح الْمُنْتَهَى 2 / 575، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 169، وَالدُّسُوقِيّ 4 / 422 ـ 423.(43/185)
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَزْوِيجِ الْوَصِيِّ بِنْتِ أَوِ ابْنِ الْمُوصِي فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يَجُوزُ الإِْيصَاءُ بِتَزْوِيجِ الْبِنْتِ أَوِ الاِبْنِ، وَلِوَصِيِّ الأَْبِ إِجْبَارُ الْبِنْتِ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا كَالأَْبِ، لأَِنَّ نَائِبَهُ كَوَكِيلِهِ، وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
الثَّانِي: لاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ بِتَزْوِيجِ طِفْلٍ وَبِنْتٍ مَعَ وُجُودِ الْجَدِّ أَوْ عَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ الأَْوْلِيَاءِ وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ " (3) ، وَلأَِنَّ الْبَالِغِينَ لاَ وِصَايَةَ فِي حَقِّهِمْ، وَالصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ لاَ يُزَوِّجُهُمَا غَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ (4) .
__________
(1) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 575، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 58، وَالإِْنْصَاف 8 / 85، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 451 ـ 452، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 199.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 311 - 312، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 90، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 76، وَالإِْنْصَاف 8 / 86.
(3) حَدِيث: " السُّلْطَان وَلِي مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 399 ـ ط الْحَلَبِيّ) ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ. وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(4) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 315، 322، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 76، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 90.(43/185)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 111)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
29 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوِصَايَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الإِْيجَابَ يَصِحُّ بِكُل صِيغَةٍ تَدُل عَلَى تَفْوِيضِ الْمُوصِي بِهِ إِلَى الْوَصِيِّ، مِثْل: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ أَمْرَ أَمْوَالِي وَأَوْلاَدِي بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ أَسْنَدْتُ أَمْرَهُمْ إِلَيْكَ بَعْدَ مَوْتِي، وَأَقَمْتُكَ فِيهِمْ مَقَامِي بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُل عَلَى تَفْوِيضِ الأَْمْرِ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْوَصِيِّ.
30 - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ عَقْدِ الْوِصَايَةِ بِلَفْظَيِ الْوَكَالَةِ، وَالْوِلاَيَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْيجَابُ فِي الْوِصَايَةِ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ وَالْوِلاَيَةِ، كَأَنْ يَقُول الْمُوصِي لِغَيْرِهِ: أَنْتَ وَكِيلِي بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ وَلَّيْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي انْقِضَاءِ الْوِصَايَةِ بِلَفْظَيِ الْوَكَالَةِ وَالْوِلاَيَةِ وَجْهَانِ (1) .
__________
(1) الْفَتَاوَى الْخَانِيَة 3 / 512، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 429، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77، وَأَسْنَى الْمَطَالِب مَعَ حَاشِيَة الرَّمْلِيّ 3 / 70، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 90.(43/186)
أَمَّا الأَْخْرَسُ فَتَكْفِي إِشَارَتُهُ الْمُفْهَمَةُ وَكِتَابَتُهُ، وَكَذَا مُعْتَقَل اللِّسَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ وَالْحَنَابِلَةُ قَبُول إِشَارَةِ مُعْتَقَل اللِّسَانِ إِذَا كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ نُطْقِهِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَبُول مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ، لأَِنَّ الإِْيصَاءَ عَقْدٌ فَأَشْبَهَ الْوَكَالَةَ، وَلِذَا تَبْطُل بِالرَّدِّ كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: لاَ أَقْبَل، وَيَقُومُ التَّصَرُّفُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول لَفْظًا (1) .
(ر: عَقْد ف 6 ـ 8، إِشَارَة ف 11) .
وَقْتُ اعْتِبَارِ قَبُول الْوِصَايَةِ وَرَدِّهَا:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ قَبُول الْوِصَايَةِ أَوْ رَدِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَصِحُّ قَبُول الْوِصَايَةِ وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ) (2) وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 334، الأَْشْبَاه لاِبْنِ نَجِيمِ ص344، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 422، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 317، وَالْمُغْنِي 6 / 574، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336.
(2) الْبَدَائِع 7 / 333، وَحَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 6 / 700 وَمَا بَعْدَهَا، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 206، وَالْفَتَاوَى البزازية بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 442، وَالْمُغْنِي 6 / 574، وَالْكَافِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 2 / 520، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77.(43/186)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: قَبُول الْوِصَايَةِ أَوْ رَدُّهَا عِنْدَ الْمُوصِي صَحِيحٌ لأَِنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ إِلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ وَلاَ غُرُورَ فِيهِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عِنْدَ الْمُوصِي بَل رَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لاَ يَرْتَدُّ، لأَِنَّ الْمُوصِيَ مَاتَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لَصَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَيُرَدُّ رَدُّهُ فَيَبْقَى وَصِيًّا عَلَى مَا كَانَ، كَالْوَكِيل إِذَا عَزَل نَفْسَهُ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّل، وَلَوْ لَمْ يَقْبَل وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِل وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، لأَِنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ الإِْلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ مِنَ الإِْيصَاءِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لأَِنَّ عَقْدَ الْوِصَايَةِ غَيْرُ لاَزِمٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلِلْمُوصِي عَزْل الْوَصِيِّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَوْ قَبِل، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ رَدُّ الْوِصَايَةِ بَعْدَ الْقَبُول وَمَوْتِ الْمُوصِي بِمَعْنَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا قَبِل الْوِصَايَةَ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، أَوْ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ قَبِل فَلَيْسَ لَهُ عَزْل نَفْسِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَصِيُّ بِالإِْيصَاءِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَهُ عَدَمُ الْقَبُول ثُمَّ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبُولٌ (2) .
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 206.
(2) شَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 202، وَالشَّرْح الْكَبِير بِحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 4 / 455.(43/187)
قَال ابْنُ شَاسٍ: وَظَاهِرُ إِطْلاَقِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ وَشَيْخِهِ أَبِي الْقَاسِمِ مَنْعُ الْوَصِيِّ مِنَ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْقَبُول مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَعْجِزَ أَوْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِهَا.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إِذَا قَبِل الْوَصِيُّ الْوِصَايَةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَبُول الْوَصِيَّةِ وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، لأَِنَّهَا إِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فَصَحَّ قَبُولُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْوَكِيل بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي وَقْتٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَبُول قَبْل الْوَقْتِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَبُول إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لأَِنَّهَا نَوْعُ وَصِيَّةٍ فَصَحَّ قَبُولُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ لَهُ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ قَبُول الإِْيصَاءِ وَلاَ رَدِّهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل وَقْتُ التَّصَرُّفِ، كَالْوَصِيَّةِ لَهُ بِالْمَال، فَلَوْ قَبِلَهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَغَا، أَمَّا لَوْ رَدَّهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ قَبِلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَحَّ (3) .
__________
(1) عَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 431.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 6 / 574، وَالْكَافِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 2 / 522 ـ 523، وَانْظُرِ الإِْنْصَاف 7 / 293.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 3 / 77.(43/187)
تَعْلِيقُ صِيغَةِ الْوِصَايَةِ وَتَوْقِيتِهَا:
32 - التَّعْلِيقُ وَالتَّأْقِيتُ فِي صِيغَةِ الْوِصَايَةِ جَائِزٌ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّ الْوِصَايَةَ تَحْتَمِل الْجَهَالاَتِ وَالأَْخْطَارَ فَكَذَا التَّوْقِيتُ وَالتَّعْلِيقُ، وَلأَِنَّ الإِْيصَاءَ كَالإِْمَارَةِ، وَقَدْ أَمَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قُتِل زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِل جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ " (1) .
وَمِثَال التَّعْلِيقِ: أَنْ يَقُول: إِذَا مُتُّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ أَوْ يُوصِي إِلَى شَخْصٍ وَيَقُول: إِنْ مَاتَ الْوَصِيُّ فَزَيْدٌ وَصِيٌّ بَدَلَهُ. وَمِثَال التَّأْقِيتِ: أَنْ يَقُول: أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ سَنَةً أَوْ إِلَى بُلُوغِ ابْنِي أَوْ إِلَى قُدُومِ زَيْدٍ (2) .
وَاجِبَاتُ الْوَصِيِّ:
33 - الْوَصِيُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا. فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا الْتَزَمَ بِمَا قُيِّدَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا وُصِّيَ عَلَيْهِ مِنْ
__________
(1) حَدِيث: " أَمْر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْد بْن حَارِثَة ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 7 / 510) .
(2) حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 6 / 701، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 148، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 199، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 451، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 314، وَالْمُغْنِي 6 / 572، وَشَرْح الْمُنْتَهَى 2 / 574، وَالْكَافِي لاِبْنٍ قُدَّامِهِ 2 / 522.(43/188)
صِغَارٍ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَيَشْمَل ذَلِكَ الْقِيَامَ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَتَثْمِيرِهَا وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِخْرَاجِ مَا تَعَلَّقَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنْ حُقُوقٍ لِلَّهِ أَوْ لِلنَّاسِ، عَمَلاً بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1) } .
" وَبِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْتَغُوا بِأَمْوَال الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلُهَا الصَّدَقَةُ " (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل أَنَّ وِلاَيَةَ الْوَصِيِّ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ وِلاَيَةِ الْمُوصِي، وَأَنَّ وِلاَيَةَ الْحِفْظِ تَبَعٌ لِوِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ لِلْوَصِيِّ وِلاَيَةُ الْحِفْظِ ثَبَتَتْ لَهُ وِلاَيَةُ كُل تَصَرُّفٍ هُوَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، نَحْوَ بَيْعِ الْمَنْقُول، وَبَيْعِ مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ (3) .
وَقَالُوا: يَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي النَّفَقَةِ لاَ عَلَى وَجْهِ الإِْسْرَافِ وَلاَ عَلَى وَجْهِ التَّضْيِيقِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ مَال الصَّبِيِّ وَكَثْرَتِهِ وَاخْتِلاَفِ حَالِهِ فَيَنْظُرُ فِي مَالِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ قَدْرَ مَا يَلِيقُ (4) .
__________
(1) سُورَة الإِْسْرَاء: 34.
(2) أَثَر عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْتَغَوْا بِأَمْوَال الْيَتَامَى. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (2 / 110 ـ ط دَارَ الْمَحَاسِن) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (4 / 107 ـ ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيّ إِسْنَاده.
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 145، وَالْبَحْر الرَّائِق 8 / 526.
(4) الْفَتَاوَى الْخَانِيَة 3 / 522 ـ 523، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 45.(43/188)
وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوَصِيِّ مَا يَلِي:
أ) تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَشِرَاءُ الْكَفَنِ لَهُ، لأَِنَّ فِي التَّأْخِيرِ فَسَادَ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْجِيرَانُ أَيْضًا فِي الْحَضَرِ، وَالرُّفْقَةُ فِي السَّفَرِ.
ب) قَضَاءُ حَاجَةِ الصِّغَارِ وَالاِتِّهَابُ لَهُمْ لأَِنَّهُ يَخَافُ هَلاَكَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ.
ج) رَدُّ وَدِيعَةِ عَيْنٍ وَقَضَاءُ دَيْنٍ.
د) رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَرَدُّ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَكَذَا حِفْظُ الْمَال.
هـ) بَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفُ وَجَمْعُ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ.
و) تَنْفِيذُ وَصِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَعِتْقُ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ.
ز) الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْوَصِيِّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرُهُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَقَدْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ هُوَ الصَّوَابَ، وَلَهُ النَّفَقَةُ عَلَى الطِّفْل أَوِ السَّفِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، بِحَسَبِ قِلَّةِ الْمَال أَوْ كَثْرَتِهِ، وَبِحَسَبِ حَال الطِّفْل مِنْ أَكْلٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَنْظُرُ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا ذَكَرَ، وَفِي خَتْنِهِ وَعُرْسِهِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ دَخَل فَأَكَل لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 8 / 526.(43/189)
شَرْعًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَسْرَفَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ فَلاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهُ، وَعِيدِهِ فَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال.
وَأَمَّا مَا يَصْرِفُ لِلَّعَّابِينَ فِي عُرْسِهِ وَخَتْنِهِ فَلاَ يَلْزَمُ الْيَتِيمَ وَيَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ. وَلِلْوَصِيِّ دَفْعُ نَفَقَةٍ لَهُ قَلَّتْ كَنَفَقَةِ شَهْرٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُتْلِفُهُ، فَإِنْ خَافَ إِتْلاَفَهُ فَنَفَقَةُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ، وَلَهُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ فِطْرِهِ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَزَكَاتُهُ الْمَالِيَّةُ مِنْ عَيْنٍ وَحَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ.
وَيَرْفَعُ الْوَصِيُّ لِلْحَاكِمِ الَّذِي يَرَى زَكَاةَ الْمَال فِي مَال الصَّبِيِّ لِيَحْكُمَ بِإِخْرَاجِهَا، فَيَرْتَفِعَ الْخِلاَفُ خَوْفًا مِنْ رَفْعِ الصَّبِيِّ بَعْدَ رُشْدِهِ لِقَاضٍ حَنَفِيٍّ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِي مَال الصَّبِيِّ فَيَضْمَنُ الْوَصِيُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ يَرَى سُقُوطَهَا عَنِ الصَّبِيِّ.
وَلِلْوَصِيِّ دَفْعُ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ لِمَنْ يَعْمَل فِيهِ قِرَاضًا وَبِضَاعَةً، وَلَهُ عَدَمُ دَفْعِهِ إِذْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْمِيَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الَّذِي يَلْزَمُ الْوَصِيَّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير للدردير بِهَامِش الدُّسُوقِيّ 4 / 454 ـ 455. /(43/189)
أَحَدُهَا: حِفْظُ أُصُول أَمْوَالِهِ.
وَالثَّانِي: تَثْمِيرُ فُرُوعِهَا.
وَالثَّالِثُ: الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ.
وَالرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ.
ـ فَأَمَّا حِفْظُ الأُْصُول فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حِفْظُ الرِّقَابِ عَنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا يَدٌ، فَإِنْ فَرَّطَ كَانَ لِمَا تَلِفَ مِنْهَا ضَامِنًا.
وَالثَّانِي: اسْتِبْقَاءُ الْعِمَارَةِ لِئَلاَّ يُسْرِعَ إِلَيْهَا خَرَابٌ فَإِنْ أَهْمَل عِمَارَتَهَا حَتَّى عُطِّل ضَيَاعُهُ وَتَهَدَّمَ عَقَارُهُ: نُظِرَ فَإِنْ كَانَ لإِِعْوَازِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ فَقَدْ أَثِمَ، وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَيَصِيرُ بِهَذَا كَالْغَاصِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ خَرَابَهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ فَيَضْمَنُ بِهِ وَلاَ يَدُهُ غَاصِبَةٌ، فَيَجِبُ بِهَا عَلَيْهِ ضَمَانٌ.
وَأَمَّا تَثْمِيرُ فُرُوعِهِ: فَلأَِنَّ النَّمَاءَ مَقْصُودٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ كَالأُْصُول.
وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَمَاؤُهَا أَعْيَانًا مِنْ ذَاتِهِ كَالثِّمَارِ وَالنِّعَاجِ: فَعَلَيْهِ بِذَلِكَ مَا عَادَ بِحِفْظِهِ وَزِيَادَتِهِ كَتَلْقِيحِ النَّخْل وَعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ،(43/190)
فَإِنْ أَخَل بِعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ ضَمِنَهَا وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَخَل بِتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لأَِنَّهَا إِنْ لَمْ تُثْمِرْ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ مَا لَمْ يُخْلَقْ، وَإِنْ خُلِقَتْ نَاقِصَةً فَالنُّقْصَانُ - أَيْضًا - مِمَّا لَمْ يُخْلَقْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ بِالْعَمَل.
وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تِجَارَةٌ بِمَالٍ، وَالثَّانِي: اسْتِغْلاَلٌ لِعَقَارٍ.
فَأَمَّا التِّجَارَةُ بِالْمَال فَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَالُهُ نَاضًّا، فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ عَادِلاً فَإِنْ كَانَ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْمُتَاجَرَةُ مُرْبِحَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخَسِّرَةً لَمْ يَجُزْ.
فَإِذَا اكْتَمَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى التِّجَارَةِ لَهُ بِالْمَال، فَلَوْ لَمْ يَتَّجِرْ بِهَا لَمْ يَضْمَنْ لأَِمْرَيْنِ:(43/190)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ وَالْمَال تَبَعٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رِبْحَ الْغَاصِبِ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ لَهُ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
فَإِنِ اتَّجَرَ الْوَلِيُّ لَهُ بِالْمَال مَعَ إِخْلاَلِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ، كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْ أَصْل الْمَال.
وَأَمَّا اسْتِغْلاَل الْعَقَارِ: فَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِجَارَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَاطِلاً لَمْ يُؤَجِّرْهُ فَقَدْ أَثِمَ.
وَفِي ضَمَانِهِ لأُِجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي تَعْطِيلِهِ وَجْهَانِ، لأَِنَّ مَنَافِعَهُ تُمْلَكُ كَالأَْعْيَانِ.
- وَأَمَّا النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْهِ؛ فَلأَِنَّ فِي الزِّيَادَةِ سَرَفًا، وَفِي التَّقْصِيرِ ضَرَرًا، فَلَزِمَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَى كُل مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ مِنْ وَالِدَيْنِ وَمَمْلُوكَيْنِ، ثُمَّ يَكْسُوهُ وَإِيَّاهُمْ فِي فَصْلَيِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ كِسْوَةً مِثْلَهُمْ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ.
وَقَال بَعْضُ الأَْصْحَابِ: يَعْتَبِرُ بِكِسْوَةِ أَبِيهِ، فَيَكْسُوهُ مِثْلَهَا، فَإِنْ أَسْرَفَ الْوَلِيُّ فِي الإِْنْفَاقِ(43/191)
عَلَيْهِ ضَمِنَ زِيَادَةَ السَّرَفِ، وَإِنْ قَصَّرَ بِهِ أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ.
- وَأَمَّا إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَكَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَأَمَّا الزَّكَوَاتُ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَأَعْشَارُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ: فَوَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا زَكَاةُ الأَْمْوَال فَقَدْ أَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَمْ يُوجِبْهَا إِلاَّ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: حَقٌّ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَالدُّيُونِ فَعَلَى الْوَلِيِّ قَضَاؤُهَا إِذَا ثَبَتَتْ وَطَالَبَ بِهَا أَرْبَابُهَا، فَإِنْ أَبْرَأُوا سَقَطَتْ، وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ إِبْرَاءٍ نُظِرَ فِي مَال الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا: أَلْزَمَهُمُ الْوَلِيُّ قَبْضَ دُيُونِهِمْ، أَوِ الإِْبْرَاءَ مِنْهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتْلَفَ الْمَال وَيَبْقَى الدَّيْنُ، وَإِنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا تَرَكَهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُيُونِهِمْ إِذَا شَاءَ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ كَالْجِنَايَاتِ وَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَالٍ فَيَكُونُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ كَالدُّيُونِ.(43/191)
الثَّانِي: عَلَى نَفْسٍ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لاَ فِي مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ قَوْلاَنِ، مِنَ اخْتِلاَفِ الْقَوْلَيْنِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَل يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ أَوْ مَجْرَى الْخَطَأِ؟ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْعَمْدِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَأِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَفِي مَالِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوَصِيِّ قَضَاءَ دُيُونِ الْمَيِّتِ وَتَفْرِيقَ وَصِيَّتِهِ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِ غَيْرِ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ مِنْ طِفْلٍ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ، وَرَدَّ الْوَدَائِعِ إِلَى أَهْلِهَا وَاسْتِرْدَادَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ، وَرَدَّ الْغَصْبِ، وَحَدَّ قَذْفٍ (2) .
إِخْرَاجُ الْوَصِيِّ الزَّكَاةَ عَنِ الصَّغِيرِ أَوْ عَنْ مَالِهِ:
أَوَّلاً: إِخْرَاجُ الْوَصِيِّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ
__________
(1) الْحَاوِي الْكَبِير: الْمَاوَرْدِيّ 10 / 203 وَمَا بَعْدَهَا.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 398، وَالإِْنْصَاف 7 / 295.(43/192)
الْوَصِيِّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَال الصَّغِيرِ وَإِلْزَامِ الْوَصِيِّ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ " (1) .
فَعُمُومُ وُجُوبِهَا عَلَى الصَّغِيرِ يَشْمَل الْيَتِيمَ وَغَيْرَهُ، فَتَكُونُ وَاجِبَةً فِي مَال الْيَتِيمِ وَلِلْوَصِيِّ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ، وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ عِبَادَةً مَحْضَةً بَل فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتِ الْعُشْرَ (2) .
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُخَاطَبُونَ بِهَا ذُكْرَانًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا، عَبِيدًا كَانُوا أَوْ أَحْرَارًا
__________
(1) حَدِيث: ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِا " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 3 / 367) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 677) دُونَ قَوْله: " وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ ".
(2) الْبَدَائِع 2 / 69 ـ 70، بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 286، الْمَجْمُوع 6 / 120، الْمُغْنِي 2 / 646، وَفَتْح الْبَارِي 3 / 367، وَشَرْح النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 57.(43/192)
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلاَّ مَا شَذَّ فِيهِ اللَّيْثُ مِنْ قَوْل مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى الْيَتِيمِ (1) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالأُْنُوثِيَّةِ فِي قَوْل أَهْل الْعِلْمِ عَامَّةً، وَتَجِبُ عَلَى الْيَتِيمِ وَيُخَرِّجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ مَالِهِ. (2)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ إِخْرَاجُهَا لِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الصَّغِيرِ، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ لاَ تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ (3) .
ثَانِيًا: إِخْرَاجُ الْوَصِيِّ زَكَاةَ مَال الصَّغِيرِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْوَصِيِّ زَكَاةَ مَال الصَّغِيرِ وَإِلْزَامِهِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْهُ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف11) .
تَضْحِيَةُ الْوَصِيِّ عَنِ الصَّغِيرِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَضْحِيَةِ الْوَصِيِّ عَنِ الصَّبِيِّ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ التَّضْحِيَةُ عَنِ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا لأَِنَّ الأُْضْحِيَّةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً مَحْضَةً بَل فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتِ
__________
(1) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 286.
(2) الْمُغْنِي 2 / 646.
(3) الْبَدَائِع 2 / 70.(43/193)
الْعُشْرَ: وَقَال: لاَ يَتَصَدَّقُ الْوَصِيُّ بِاللَّحْمِ لَكِنْ يَأْكُل مِنْهَا الصَّغِيرُ وَيَدَّخِرُ لَهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ وَيَبْتَاعُ بِالْبَاقِي مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْوَصِيِّ التَّضْحِيَةُ عَنِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ الْيَتِيمِ الَّذِي لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ مَالِهِ لأَِنَّهُ يَوْمُ سُرُورٍ وَفَرَحٍ وَلِيَحْصُل بِذَلِكَ جَبْرُ قَلْبِهِ، وَإِلْحَاقًا بِمَنْ لَهُ أَبٌ وَقَالُوا: يَحْرُمُ عَلَى الْوَصِيِّ التَّصَدُّقُ وَالإِْهْدَاءُ بِشَيْءٍ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ، وَيُوَفِّرُهَا لِلْيَتِيمِ لأَِنَّ الْوَصِيَّ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبَرُّعِ مِنْ مَال الْيَتِيمِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ الصَّغِيرِ مِنْ مَال الصَّغِيرِ، وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ التَّضْحِيَةَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لاَ تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ. وَإِنْ ضَحَّى الْوَصِيُّ عَنِ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ يَضْمَنُ فِي قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ (4) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 64، 2 / 70.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 118.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 450، 23.
(4) الْمَجْمُوع 8 / 425، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 344، 367، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 70، 5 / 64، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ وَحَاشِيَة الشلبي عَلَيْهِ 6 / 3.(43/193)
تَصَرُّفَاتُ الْوَصِيِّ:
أَوَّلاً: بَيْعُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ وَشِرَاؤُهُ:
37 - مَال الصَّغِيرِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً فَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُهُ إِلاَّ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ كَنَفَقَةِ الصَّغِيرِ وَكِسْوَتِهِ، وَأَدَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، أَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ كَأَنْ يَرْغَبَ الْمُشْتَرِي فِي الْعَقَارِ بِضِعْفِ الثَّمَنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف14، وَعَقَار ف15) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَنْقُولاً فَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ لأَِجْنَبِيٍّ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ. أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَلاَ يَجُوزُ.
(ر: إِيصَاء ف14، مَنْقُول ف4، وِلاَيَة ف53 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَمَّا بَيْعُ الْوَصِيِّ وَشِرَاؤُهُ مَال الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ وَلِنَفْسِهِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ وَصِيِّ الْقَاضِي وَوَصِيِّ الأَْبِ؛ أَمَّا وَصِيُّ الْقَاضِي فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بِكُل حَالٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مَال الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يَبِيعَ مَال نَفْسِهِ مِنَ الصَّغِيرِ.(43/194)
وَأَمَّا وَصِيُّ الأَْبِ فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُ مَال الصَّغِيرِ وَشِرَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلِنَفْسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ لاَ يَجُوزُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ لِلْوَصِيِّ شِرَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَال الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ تَعَقَّبَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فَيَمْضِي مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْيَتِيمِ وَيَرُدُّ غَيْرَهُ إِلاَّ مَا اشْتَرَاهُ مِنَ التَّرِكَةِ مِمَّا قَل ثَمَنُهُ وَانْتَهَتِ الرَّغَبَاتُ فِيهِ. (1)
ثَانِيًا: الْمُضَارَبَةُ وَالاِتِّجَارُ بِمَال الْمُوصَى عَلَيْهِ:
38 - الاِتِّجَارُ بِمَال الْمُوصَى عَلَيْهِ يَكُونُ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الثَّلاَثَةِ: اتِّجَارُ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ بِمَال الْيَتِيمِ، وَاتِّجَارُ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ لِلْيَتِيمِ، وَدَفْعُ الْوَصِيِّ مَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِمَنْ يَقْبَل فِيهِ مُضَارَبَةً لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمِ.
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 211 - 212، وَأَحْكَام الصِّغَارِ ص355 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 455 وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 610 ـ 611، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 402 ـ 403، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 175 وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 322، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 6 / 597.(43/194)
أـ اتِّجَارُ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ بِمَال الْيَتِيمِ:
39 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ لِنَفْسِهِ بِمَال الْيَتِيمِ أَوِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَصِيرِ الرِّبْحِ إِذَا اتَّجَرَ الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ بِمَال الْيَتِيمِ وَرَبِحَ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَنْ وَافَقَهُمَا إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّ يَضْمَنُ رَأْسَ الْمَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ لَهُ الرِّبْحَ وَلاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. (1)
ب ـ اتِّجَارُ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ لِلْيَتِيمِ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اتِّجَارِ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ لِلْيَتِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَال الْيَتِيمِ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 147، وَالْفَتَاوَى الْخَانِيَة بِهَامِش الْهِنْدِيَّة 3 / 524، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 455، وَالْمُنْتَقَى 2 / 111، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 174 - 175، وَالْمُهَذَّب 1 / 335، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449.(43/195)
لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمِ. (1)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ اتَّجَرَ الْوَصِيُّ بِمَال الْيَتِيمِ فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ فِي نَظِيرِ اتِّجَارِهِ بِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَال الْيَتِيمِ لِلْيَتِيمِ (3) ، لِئَلاَّ يُحَابِيَ نَفْسَهُ بِزِيَادَةٍ مِنَ الرِّبْحِ. (4)
وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الْجَوَازِ هُنَا بِالْكَرَاهَةِ. وَزَادُوا: أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا عَمِل بِمَال الْيَتِيمِ مَجَّانًا فَلاَ نَهْيَ بَل هُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. (5)
ج ـ دَفْعُ الْوَصِيِّ مَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِمَنْ يَعْمَل فِيهِ مُضَارَبَةً:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ دَفْعِ الْوَصِيِّ مَال الْيَتِيمِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُضَارَبَةً أَوْ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 455، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 399، كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449، وَالْمُغْنِي 4 / 265.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 455، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 399، وَالْمُبْدِع 4 / 338 وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 455.
(4) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 4 / 455.
(5) الْمَرْجِع نَفْسه.(43/195)
بِضَاعَةً لِمَصْلَحَةِ الْيَتِيمِ. (1)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِيصَاء ف14، وِلاَيَة ف63) .
ثَالِثًا: تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:
42 - تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْغَيْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ.
أَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ لأَِنَّ الْوَصِيَّ لَهُ اسْتِعْمَال الصَّبِيِّ بِلاَ عِوَضٍ لِلتَّهْذِيبِ وَالرِّيَاضَةِ فَبِالْعِوَضِ أَوْلَى.
أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْوَصِيِّ الصَّبِيَّ لِنَفْسِهِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى جَوَازِهِ. (2)
43 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسْخِ الإِْجَارَةِ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ رَشِيدًا أَثْنَاءَ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ وَقَدْ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 147 وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 399، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 455، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 174 ـ 175، وَالْمُبْدِع 4 / 338 ـ 339، كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449.
(2) الْفَتَاوَى البزازية بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 444، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 567، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 4 / 32، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 250.(43/196)
أَجَّرَهُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الصَّبِيَّ لَهُ فَسْخُ الإِْجَارَةِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصُّوَرُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ سِتٌّ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَظُنَّ الْوَلِيُّ بُلُوغَهُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ يَظُنَّ عَدَمَ بُلُوغِهِ أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا، وَفِي كُلٍّ مِنَ الثَّلاَثَةِ إِمَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا كَثِيرٌ أَوْ يَسِيرٌ كَالشَّهْرِ وَيَسِيرِ الأَْيَّامِ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي صُورَةٍ وَهِيَ مَا إِذَا ظَنَّ عَدَمَ الْبُلُوغِ فِيهَا وَبَلَغَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ يَسِيرٌ، وَيُخَيَّرُ فِي الْبَاقِي وَهِيَ مَا إِذَا بَقِيَ كَثِيرٌ مُطْلَقًا ظَنَّ بُلُوغَهُ فِي مُدَّةِ الإِْجَارَةِ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهُ أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا وَكَذَا إِنْ بَقِيَ يَسِيرٌ وَالْحَال أَنَّهُ ظَنَّ بُلُوغَهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَظُنَّ شَيْئًا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْوَلِيَّ إِنْ أَجَّرَ صَبِيًّا مُدَّةً لاَ يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ فَبَلَغَ بِالاِحْتِلاَمِ وَهُوَ رَشِيدٌ فَالأَْصَحُّ أَنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ وَفِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ: تَنْفَسِخُ لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْوِلاَيَةِ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ يَبْلُغُ فِيهَا بِالسِّنِّ بَطَلَتِ الإِْجَارَةُ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. (3)
__________
(1) الْفَتَاوَى البزازية 6 / 444.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 32.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 356.(43/196)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَجَّرَ الْوَصِيُّ الْيَتِيمَ مُدَّةً ثُمَّ بَلَغَ وَرَشَدَ قَبْل انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ يَعْلَمُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ أَجَّرَهُ سَنَتَيْنِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ وَقْتَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَصِيُّ بُلُوغَ الْيَتِيمِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ تَنْفَسِخِ الإِْجَارَةُ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ لاَزِمٌ يَمْلِكُهُ الْمُتَصَرِّفُ (1) .
رَابِعًا: تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَال الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:
44 - تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَال الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيِّ نَفْسِهِ.
أـ أَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَال الصَّبِيِّ لِلْغَيْرِ فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2)) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ تَأْجِيرَ أَرْضِ الصَّبِيِّ إِجَارَةً طَوِيلَةً حَيْثُ قَالُوا: وَالْوَصِيُّ إِذَا أَجَّرَ أَرْضَ الْيَتِيمِ إِجَارَةً طَوِيلَةً رَسْمِيَّةً ثَلاَثَ سِنِينَ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الرَّسْمَ فِي الإِْجَارَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يُجْعَل شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَال الإِْجَارَةِ بِمُقَابَلَةِ السِّنِينَ الأُْولَى وَمُعْظَمُ الْمَال
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 567 ـ 568.
(2) الْفَتَاوَى البزازية بِهَامِش الْهِنْدِيَّة 6 / 444، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 567، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 254.(43/197)
بِمُقَابَلَةِ السَّنَةِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ لأَِرْضِ الْيَتِيمِ لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ فِي السِّنِينَ الأُْوَل لأَِنَّهَا تَكُونُ بِأَقَل مِنْ أَجْرِ الْمِثْل فَلاَ تَصِحُّ.
وَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْيَتِيمِ بِمَال الْيَتِيمِ فَفِي السَّنَةِ الأَْخِيرَةِ يَكُونُ الاِسْتِئْجَارُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْل فَلاَ يَصِحُّ. (1)
ب ـ وَأَمَّا تَأْجِيرُ الْوَصِيِّ مَال الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. (2)
45 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ رَشِيدًا أَثْنَاءَ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ وَكَانَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى مَال الصَّبِيِّ: فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. (3)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ عَقَدَ الْوَصِيُّ عَلَى سِلَعِ الصَّبِيِّ كَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ وَغَيْرِهِمَا فَيَلْزَمُ فِيمَا إِذَا ظَنَّ عَدَمَ بُلُوغِهِ مُطْلَقًا وَلَوْ بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ سِنُونَ عَلَى الأَْرْجَحِ.
وَمُقَابِل الأَْرْجَحِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْهَبُ مِنْ
__________
(1) جَامِع أَحْكَام الصِّغَار ص 212.
(2) الْفَتَاوَى البزازية 6 / 444.
(3) الْمَرْجِع السَّابِق.(43/197)
أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سِلَعِ الصَّبِيِّ كَالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ إِذَا ظَنَّ الْوَصِيُّ عَدَمَ بُلُوغِهِ وَبَقِيَ كَالشَّهْرِ. (1)
وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي فَسْخِ الصَّبِيِّ الإِْجَارَةَ عَلَى الْمَال بَعْدَ بُلُوغِهِ مِثْل قَوْلِهِمْ فِي فَسْخِ الصَّبِيِّ الإِْجَارَةَ عَلَى نَفْسِهِ خِلاَفًا وَتَفْصِيلاً. (2)
خَامِسًا: إِجَارَةُ الْوَصِيِّ نَفْسَهُ لِلصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ:
46 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَجَّرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ فِي عَمَل يَتِيمٍ فِي حِجْرِهِ فَيَتَعَقَّبُهُ الإِْمَامُ، فَمَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ أَمْضَاهُ وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ رَدَّهُ. (4)
سَادِسًا: تَبَرُّعُ الْوَصِيِّ وَهِبَتُهُ:
47 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَال الصَّغِيرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالصَّدَقَةِ أَمْ بِالْهِبَةِ بِغَيْرِ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 53.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 356، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 567 ـ 568.
(3) الْفَتَاوَى البزازية 6 / 444.
(4) مَوَاهِب الْجَلِيل 5 / 71.(43/198)
عِوَضٍ أَمْ بِالْمُحَابَاةِ (1) ، لأَِنَّ التَّبَرُّعَ بِمَال الصَّغِيرِ لاَ حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي مَقْصُودَ الْوِصَايَةِ مِنَ الْحِفَاظِ عَلَى الْمَال وَتَنْمِيَتِهِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا فِيهِ نَفْعٌ يَعُودُ عَلَى الصَّغِيرِ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ) (2) .
فَقَدْ نَهَى عَنْ قُرْبَانِ مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، وَالتَّبَرُّعُ بِالْمَال لاَ مَصْلَحَةَ لِلْيَتِيمِ فِيهِ، بَل هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِل كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ (4) .
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 5 / 72، وَشَرْح الْخَرَشِيّ 5 / 297، وَالشَّرْح الْكَبِير 4 / 519، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 153، وَالْمُهَذَّب 1 / 328، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 447.
(2) سُورَة الأَْنْعَام 152.
(3) حَدِيث: " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. . . . " أَخْرَجَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأِ (2 / 745 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى الْمَازِنِيّ مرسلا، لَكِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ مَوْصُولَةً يَتَقَوَّى بِهَا ذَكَرُهَا ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ فِي جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَم (ص286 - 287 ط الْحَلَبِيّ) ، وَحُسْنه النَّوَوِيّ.
(4) حَدِيث: " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِل كَبِيرَنَا. . . . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (5 / 323 - ط الميمنية) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ. وَحُسْن إِسْنَاده الْمُنْذِرِي فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1 / 149 - دَار ابْن كَثِير) .(43/198)
وَالإِْضْرَارُ بِالصَّغِيرِ لَيْسَ مِنَ الْمَرْحَمَةِ فِي شَيْءٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ مَال الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَلاَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، لأَِنَّ التَّصَدُّقَ وَالْوَصِيَّةَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ فَكَانَ ضَرَرًا فَلاَ يَمْلِكُهُ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (وِلاَيَة ف 53 ـ 54) .
سَابِعًا: الْهِبَةُ بِعِوَضٍ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَهَبَ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ بِعِوَضٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لأَِنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَهَذِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيُّ لاَ يَمْلِكُهَا، فَلاَ تَصِيرُ عِوَضًا انْتِهَاءً.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَعْلُومًا فِي الْهِبَةِ بِغِبْطَةٍ جَازَتْ لأَِنَّهَا إِذْ قُيِّدَتْ بِثَوَابٍ مَعْلُومٍ كَانَتْ بَيْعًا. (2)
__________
(1) الْبَدَائِع 5 / 153.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 5 / 72، وَشَرْح الْخَرَشِيّ 5 / 297، الْبَدَائِع 5 / 153، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 189، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 213.(43/199)
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْمُوصِي أَنْ يَهَبَ مَال الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ، لأَِنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ مُعَاوَضَةُ الْمَال بِالْمَال، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلْوَصِيِّ هِبَةُ مَال الصَّغِيرِ بِعِوَضٍ إِذَا كَانَ الْعِوَضُ قَدْرَ قِيمَتِهِ فَأَكْثَرَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ. (2)
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ الشَّرْطَ وَلَمْ يُجِيزُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ أَقَل مِنْ قِيمَةِ الْمَال الْمَوْهُوبِ، لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْمُحَابَاةِ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهَا.
ثَامِنًا: طَلَبُ الْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كَوْنِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي صَالِحِ الصَّبِيِّ، وَبَيْنَ كَوْنِ تَرْكِهَا فِي مَصْلَحَتِهِ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
الْحَالَةُ الأُْولَى: طَلَبُ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ فِيهِ حَظٌّ لِلصَّغِيرِ:
49 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ حَقَّ الشُّفْعَةِ وَالأَْخْذَ بِهَا إِذَا كَانَ فِي الطَّلَبِ مَصْلَحَةٌ لِلصَّغِيرِ وَحَظٌّ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 153.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 450، وَالْمُبْدِع 4 / 338.(43/199)
لَهُ (1) ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الطَّلَبِ فِي حَقِّ الْوَصِيِّ بِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الصَّبِيِّ فَلاَ يَصِحُّ، كَالْعَفْوِ عَنْ قَوَدِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ وَإِبْرَاءِ غَرِيمِهِ، وَبِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ فِي الأَْخْذِ مُتَعَيَّنٌ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ فِي إِبْطَالِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الطَّلَبِ بِأَنَّ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، بَل عَيْنِهَا، لأَِنَّ طَلَبَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال، وَتَرْكُ الأَْخْذِ بِهَا تَرْكُ التِّجَارَةِ، فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَمَا يَمْلِكُ تَرْكَ التِّجَارَةِ بِرَدِّ الْبَيْعِ، وَقَالُوا: الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، فَيُحْمَل عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ أَنْفَعَ بِإِبْقَاءِ الثَّمَنِ عَلَى مِلْكِ الصَّغِيرِ فَيَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَالأَْخْذِ، بِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَوَدِ وَأَشْبَاهِهِ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ، إِذْ هُوَ إِبْطَالٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُنَا بِعِوَضٍ يُعَدُّ لَهُ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَلاَ يُعَدُّ ضَرَرًا. (2)
__________
(1) الْبَدَائِع 5 / 16، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 100، وَشَرْح الْخَرَشِيّ 5 / 298، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 176، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 5 / 183، وَالْمُهَذَّب 1 / 329، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 145.
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 263.(43/200)
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْهَا فَلاَ يَمْلِكُ الأَْخْذَ بِهَا كَالأَْجْنَبِيِّ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهَا الصَّبِيُّ إِذَا كَبُرَ. (1)
50 - وَإِذَا لَمْ يَطْلُبِ الْوَصِيُّ الشُّفْعَةَ مَعَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الصَّبِيِّ فِي طَلَبِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فِي طَلَبِهَا إِذَا بَلَغَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ) إِلَى أَنَّ لِلصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ طَلَبَهَا.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ وَكَانَ يُفْتِي بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّبِيِّ طَلَبُهَا (2) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: تَرْكُ الْوَصِيِّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ التَّرْكُ فِي مَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ:
51 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ تَرْكَ الشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ إِذَا كَانَ تَرْكُ الطَّلَبِ فِي مَصْلَحَتِهِ مِثْل أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَدْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، أَوْ لأَِنَّ الثَّمَنَ
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 340.
(2) الْخَرَشِيّ 5 / 298، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 192، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 263، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 176، تُحْفَة الْمُحْتَاج 5 / 183 ـ 184، وَالإِْنْصَاف 6 / 272، وَالْمُغْنِي 5 / 339.(43/200)
يَحْتَاجُ إِلَى إِنْفَاقِهِ أَوْ صَرْفِهِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ، أَوْ لأَِنَّ مَوْضِعَهُ لاَ يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ أَوْ لأَِنَّ أَخْذَهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ مَا إِبْقَاؤُهُ أَوْلَى، أَوْ إِلَى اسْتِقْرَاضِ ثَمَنِهِ وَرَهْنِ مَالِهِ، أَوْ إِلَى ضَرَرٍ وَفِتْنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال، لاِنْعِدَامِ حَظِّ الصَّغِيرِ وَلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ. (1)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا مِثْل أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَبَنَ أَوْ كَانَ فِي الأَْخْذِ بِهَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيَرْهَنَ مَال الصَّبِيِّ فَلَيْسَ لَهُ الأَْخْذُ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ فِعْل مَا لاَ حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ. (2)
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ فِي مَصْلَحَتِهِ وَلَهُ فِيهِ حَظٌّ مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّ يَشْتَرِي لِلصَّغِيرِ مَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ مَعِيبًا لاَ يَعْلَمُ عَيْبَهُ، وَلأَِنَّ الْحَظَّ قَدْ يَخْتَلِفُ وَيَخْفَى، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي الأَْخْذِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل لِزِيَادَةِ قِيمَةِ
__________
(1) الْبَدَائِع 5 / 16، وَالْخَرَشِيّ 5 / 298، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 100، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 189، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 5 / 183، وَالْمُغْنِي 5 / 497، وَالإِْنْصَاف 6 / 273.
(2) الْمُغْنِي 5 / 497.(43/201)
مِلْكِهِ، وَلأَِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِأَخْذِ الْوَصِيِّ بِالشُّفْعَةِ كَثِيرٌ، فَلاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْحَظِّ بِنَفْسِهِ لِخَفَائِهِ. (1)
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ الأَْخْذُ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ فِعْل مَا لاَ حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ، فَإِنْ أَخَذَ فَهَل يَصِحُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَصِحُّ وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لاَ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الأَْخْذُ لِلصَّبِيِّ، لأَِنَّهُ يَشْتَرِي لَهُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ فَصَحَّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا لاَ يَعْلَمُ عَيْبَهُ. (2)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِوَاءُ الْمَصْلَحَةِ فِي الأَْخْذِ وَالتَّرْكِ:
52 - لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يَحْرُمُ الأَْخْذُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} " (3) .
فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَنْعِ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ،
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير 3 / 468، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 5 / 497.
(2) الْمُغْنِي 5 / 340.
(3) سُورَة الأَْنْعَام / 152.(43/201)
لِوُرُودِهَا بِصِيغَةِ التَّفْضِيل.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ الأَْخْذُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُتَخَيَّرُ. (1)
تَاسِعًا: إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ:
إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَسْتَقْرِضَ الْوَصِيُّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال الصَّغِيرِ وَإِمَّا أَنْ يُقْرِضَهُ لِلْغَيْرِ.
أ - اقْتِرَاضُ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مَال الصَّغِيرِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اقْتِرَاضِ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال الصَّغِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَرِضَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَال الصَّغِيرِ لِلتُّهْمَةِ (2) . وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِجَوَازِ اقْتِرَاضِ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِيهِ وَفَاءٌ. (3)
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 176، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 5 / 183.
(2) فَتَاوَى قاضيخان 3 / 521، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 455، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 5 / 111، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 450.
(3) فَتَاوَى قاضيخان 3 / 521، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 455.(43/202)
ب ـ إِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ لِلْغَيْرِ:
54 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِلْكِيَّةِ الْوَصِيِّ إِقْرَاضَ مَال الصَّغِيرِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ إِقْرَاضُ مَال الصَّغِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ عِنْدِ الْحَنَفِيَّةِ وَلِحَاجَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1) فَإِنْ خَافَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ، أَوْ أَرَادَ سَفَرًا وَخَافَ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الإِْقْرَاضُ، وَلاَ يُقْرِضُهُ إِلاَّ ثِقَةً مَلِيئًا، لأَِنَّ غَيْرَ الثِّقَةِ يَجْحَدُ وَغَيْرَ الْمَلِيءِ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ الْبَدَل مِنْهُ، وَعَلَّل هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ جَوَازِ إِقْرَاضِ الْوَصِيِّ مَال الْيَتِيمِ بِأَنَّ الإِْقْرَاضَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ يُعَدُّ تَبَرُّعًا فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ كَالْهِبَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 4 / 341، وَفَتَاوَى قاضيخان بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 3 / 520 ـ 521، وَالْمُهَذَّب 1 / 336، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 122، وَالْمُنْتَقَى 5 / 149، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 214، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 191، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449، وَالْمُغْنِي 4 / 269 ـ 270.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 4 / 341، وَفَتَاوَى قاضيخان بِهَامِش الْهِنْدِيَّة 3 / 520 - 521، وَالْمُهَذَّب 1 / 336، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 122، وَالْمُنْتَقَى 5 / 149، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 214، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 191 وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449، وَالْمُغْنِي 4 / 269 ـ 270.(43/202)
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَسْلِيفُ مَال الْيَتِيمِ لأَِحَدٍ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ وَلَوْ أَخَذَ رَهْنًا، إِذْ لاَ مَصْلَحَةَ لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ. (1)
ج ـ اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالاً لِلصَّغِيرِ:
55 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ مَالاً لِلصَّغِيرِ إِذَا دَعَتْ لِذَلِكَ حَاجَةٌ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ، لأََنَّ الاِسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ فَيَجُوزُ. (2)
عَاشِرًا: رَهْنُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ:
وَسَبَبُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَيْنِ الصَّغِيرِ، أَوْ بِدَيْنٍ لِلْوَصِيِّ.
أَوَّلاً: الرَّهْنُ بِسَبَبِ دَيْنِ الصَّغِيرِ.
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَهْنِ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ: أ) ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ رَهْنُ مَال الْيَتِيمِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْيَتِيمِ، وَيَكُونَ عِنْدَ ثِقَةٍ. (3)
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 455، وَالإِْنْصَاف 5 / 328.
(2) أَحْكَام الصِّغَار ص348 مَسْأَلَة 1193.
(3) مَوَاهِب الْجَلِيل 5 / 419، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 232، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 63، وَالْمُهَذَّب 1 / 330، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 122، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 322، وَالْمُغْنِي 4 / 397.(43/203)
ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَال الصَّغِيرِ عِنْدَ الأَْجْنَبِيِّ بِتِجَارَةٍ بَاشَرَهَا أَوْ رَهْنٍ لِلْيَتِيمِ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ بِالتِّجَارَةِ، لأَِنَّ لِلْوَصِيِّ التِّجَارَةَ بِمَال الصَّغِيرِ تَثْمِيرًا لَهُ، وَالرَّهْنُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ إِيفَاءً وَاسْتِيفَاءً، وَزَادُوا: لَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ مَال الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ. (1)
ثَانِيًا: الرَّهْنُ بِسَبَبِ دَيْنٍ لِلْوَصِيِّ:
57 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رَهْنِ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِلْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ:
أ) فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَال الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ لأَِنَّ الرَّهْنَ إِيفَاءٌ حُكْمًا، فَلاَ يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ كَالإِْيفَاءِ حَقِيقَةً، وَلأَِنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ كَمَا لاَ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّ مُتَّهَمٌ فِي رَهْنِهِ مَال الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِنَفْسِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. (2)
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 73، وَتَكْمِلَة الْبَحْرِ الرَّائِقِ 8 / 281، وَالْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 9 / 90.
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 72، وَالْهِدَايَة وَشُرُوحهَا وَمَوَاهِب الْجَلِيل 5 / 3، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 232، أَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 155، كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 448.(43/203)
ب) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ. (1)
اخْتِلاَفُ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ:
قَدْ يَقَعُ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ غَالِبًا مَا يَكُونُ حَوْل قَدْرِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَيَقُول الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَل خَمْسِينَ فَقَطْ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِخْتِلاَفُ فِي مُدَّةِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ، وَيَقُول الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَل خَمْسًا فَقَطْ.
وَقَدْ يَكُونُ الاِخْتِلاَفُ حَوْل تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي، كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: مَاتَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَيَقُول الْمُوصَى عَلَيْهِ: بَل مُنْذُ سَنَةٍ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّنَازُعُ حَوْل رَدِّ الْمَال إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي كُل حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ عَلَى حِدَةٍ.
__________
(1) الْمُغْنِي 4 / 397، وَالإِْنْصَاف 5 / 33، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 450.(43/204)
أَوَّلاً: الاِخْتِلاَفُ فِي أَصْل النَّفَقَةِ أَوْ فِي قَدْرِهَا:
59 - إِذَا اخْتَلَفَ الْوَصِيُّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي أَصْلِهَا فَالْقَوْل قَوْل الْوَصِيِّ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ ـ وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الإِْسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ ـ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي الْفَضْل، لأَِنَّهُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ الْمِثْل مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَالْفَضْل عَلَى ذَلِكَ إِسْرَافٌ فَلاَ يَكُونُ مُسَلَّطًا عَلَيْهِ شَرْعًا، وَقَال الإِْسْتَرُوشَنِيُّ: إِنَّ الْوَصِيَّ مَتَى أَقَرَّ بِتَصَرُّفٍ فِي مَال الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَكَذَّبَهُ الصَّغِيرُ، إِنْ كَانَ تَصَرُّفًا هُوَ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِتَصْدِيقِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَل قَوْل الْوَصِيِّ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الإِْنْفَاقِ بِلاَ بَيِّنَةٍ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: ادَّعَى قَضَاءَ دَيْنِ الْمَيِّتِ، أَوِ ادَّعَى قَضَاءَهُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ بَيْعِ التَّرِكَةِ قَبْل قَبْضِ ثَمَنِهَا، أَوْ أَنَّ الْيَتِيمَ اسْتَهْلَكَ مَالاً آخَرَ فَدَفَعَ ضَمَانَهُ، أَوْ أَذِنَ لَهُ بِتِجَارَةٍ فَرَكِبَهُ دُيُونٌ فَقَضَاهَا عَنْهُ، أَوْ أَدَّى خَرَاجَ أَرْضِهِ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، أَوْ جُعْل عَبْدِهِ الآْبِقِ، أَوْ فِدَاءَ عَبْدِهِ الْجَانِي، أَوِ الإِْنْفَاقَ عَلَى مَحْرَمِهِ، أَوْ عَلَى رَقِيقِهِ الَّذِينَ مَاتُوا، أَوِ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ وَكَذَا مِنْ(43/204)
مَال نَفْسِهِ حَال غَيْبَةِ مَالِهِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ، أَوْ أَنَّهُ زَوَّجَ الْيَتِيمَ امْرَأَةً وَدَفَعَ مَهْرَهَا مِنْ مَالِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، أَوِ اتَّجَرَ وَرَبِحَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُضَارِبًا.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ، لِقَبُول قَوْل الْوَصِيِّ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الإِْنْفَاقِ دُونَ بَيِّنَةٍ شُرُوطًا ثَلاَثَةً وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى عَلَيْهِ فِي حَضَانَتِهِ، وَأَنْ يُشَبِّهَ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَأَنْ يَحْلِفَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُوصَى عَلَيْهِ فِي حَضَانَتِهِ بِأَنْ كَانَ فِي حَضَانَةِ غَيْرِهِ وَتَنَازَعَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْل لَهُ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يُشَبِّهْ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى النَّفَقَةِ اللاَّئِقَةِ صُدِّقَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَضَمِنَ الْوَصِيُّ الزِّيَادَةَ لِتَفْرِيطِهِ. (2)
ثَانِيًا: الاِخْتِلاَفُ فِي مُدَّةِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي تَوْقِيتِ مَوْتِ الْمُوصِي:
59 - إِذَا تَنَازَعَ الْوَصِيُّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي
__________
(1) حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 6 / 719، وَأَحْكَام الصِّغَارِ ص362، وَمَجْمَع الضَّمَانَات 399 ـ 400 وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 155، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 8 / 202، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 320، وَالْكَافِي فِي فِقْهِ الإِْمَامِ أَحْمَد 2 / 523، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 456، 447.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَالْكَافِي 2 / 523.(43/205)
مُدَّةِ النَّفَقَةِ، كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ (مِنْ تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي) ، فَيَقُول الصَّبِيُّ: بَل مُنْذُ خَمْسِ سِنِينَ، أَوْ كَانَ التَّنَازُعُ فِي تَارِيخِ مَوْتِ الْمُوصِي، كَأَنْ يَقُول الْوَصِيُّ: مَاتَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَقَال الصَّبِيُّ: بَل مُنْذُ سَنَةٍ.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الصَّبِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ اخْتِلاَفٌ فِي مُدَّةٍ، الأَْصْل عَدَمُهَا، وَيَسْهُل عَلَى الْوَصِيِّ الْقِيَامُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَصِيِّ (1) .
ثَالِثًا: الاِخْتِلاَفُ فِي دَفْعِ الْمَال إِلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ:
60 - إِذَا وَقَعَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْمُوصَى عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْمَال إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير للدردير بِهَامِش حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 456، شَرْح مَنَحَ الْجَلِيل لِلشَّيْخِ عِلِيش 4 / 695، وَالْمَجْمُوع لِلنَّوَوِيِّ 6 / 437، 438، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 321، وَالْكَافِي فِي فِقْهِ الإِْمَامِ أَحْمَد بْن حَنْبَل 2 / 523، وَحَاشِيَة رَدَّ الْمُحْتَارِ لاِبْنِ عَابِدِينَ 6 / 719، 720، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 155.(43/205)
الْقَوْل الأَْوَّل: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} " (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْيَمِينِ لِقَبُول قَوْل الصَّبِيِّ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: صَدَقَ الْوَلَدُ بِيَمِينِهِ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ قَبُول قَوْل الصَّبِيِّ بِهَذَا الشَّرْطِ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل الْمَشْهُورِ ـ وَهُوَ قَوْل عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ وَهْبٍ ـ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل فِي دَفْعِ الْمَال إِلَى الصَّبِيِّ قَوْل الْوَصِيِّ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ كَالْقَوْل فِي النَّفَقَةِ وَكَالْمُوَدَعِ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَصِيِّ بِجُعْلٍ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ الْمُتَبَرِّعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: يُقْبَل قَوْل الْوَصِيِّ إِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا لأَِنَّهُ أَمِينٌ أَشْبَهَ الْمُودِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصِيُّ مُتَبَرِّعًا بَل بِأُجْرَةٍ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ الْمَال إِلَيْهِ، بَل قَوْل الْيَتِيمِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّ
__________
(1) سُورَة النِّسَاء: 6.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 456، وَشَرْح مَنَحَ الْجَلِيل 4 / 695، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 456، وَمَنْح الْجَلِيل 4 / 695، وَرَوْضَة الْقُضَاة 2 / 707، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 68.(43/206)
قَبَضَ الْمَال لِحَظِّهِ فَلَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَعِيرِ (1) .
أُجْرَةُ الْوَصِيِّ وَانْتِفَاعُهُ بِمَال الْمُوصَى عَلَيْهِ:
61 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا فَرَضَ لَهُ الأَْبُ أَوِ الْقَاضِي أُجْرَةً فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ مُقَابِل الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ كَانَ لَهُ أَخْذُهَا سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ فَقِيرًا. (2)
كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّ الْغَنِيَّ إِذَا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ شَيْءٌ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} " (4) . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ إِنْ كَانَ لِلْوَصِيِّ الْغَنِيِّ فِي الْوِصَايَةِ عَلَى الْيَتِيمِ خِدْمَةٌ وَعَمَلٌ، فَقِيل: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُل بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَخِدْمَتِهِ لَهُ، وَقِيل: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (5) .
62 - وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ أَخْذِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ أُجْرَةً مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهُ الأَْبُ أَوِ الْقَاضِي شَيْئًا.
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 456، وَشَرْح الْمُنْتَهَى 2 / 180.
(2) حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 6 / 713، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص318، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَالْمُقْنِع ص126، وَالْحَاوِي 10 / 212 ـ 213.
(3) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(4) سُورَة النِّسَاء: 6.
(5) مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 399.(43/206)
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ - فِي الاِسْتِحْسَانِ - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الأَْجْرَ مِنْ مَال مُوَلِّيهِ لِحَاجَةِ فَقْرٍ حَسَبَ ضَوَابِطَ تُحَدِّدُ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَخْذُهُ، وَالْحَالاَتُ الَّتِي يَجُوزُ الأَْخْذُ فِيهَا يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي (وِلاَيَة ف 59 - 60، إِيصَاء ف17) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ - أَنَّ الْوَصِيَّ الْفَقِيرَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ مُقَابِل قِيَامِهِ بِمَهَامِّ الْوِصَايَةِ إِذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهُ الأَْبُ أَوِ الْقَاضِي شَيْئًا. (1)
إِيصَاءُ الْوَصِيِّ:
63 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ إِيصَاءِ الْوَصِيِّ إِذَا عَيَّنَ الْمُوصَى لَهُ مَنْ يُوصِيهِ (2) وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُوصِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
جَوَازُ إِيصَاءِ الْوَصِيِّ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ وَصِيَّ الْوَصِيِّ وَصِيٌّ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ لأَِنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلاَيَةٍ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ، فَيَمْلِكُ الإِْيصَاءَ إِلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِل
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 713 ط الْحَلَبِيّ.
(2) الدَّرّ الْمُحْتَار 6 / 6 - 7، وَشَرْح مَنَحَ الْجَلِيل 4 / 691، وَالْحَاوِي للماوردي 10 / 198، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 575.(43/207)
إِلَى الْوَصِيِّ، وَبِهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي:
عَدَمُ جَوَازِ الإِْيصَاءِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِالإِْذْنِ مِنَ الْمُوصَى فَلاَ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ كَالْوَكِيل، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَإِسْحَاقَ لأَِنَّ الْوَلِيَّ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ الثَّانِي، وَقِيَاسًا عَلَى الْوَكِيل (2) .
إِقْرَارُ الْوَصِيِّ وَشَهَادَتُهُ:
أ) إِقْرَارُ الْوَصِيِّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ:
64 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُ الْوَصِيِّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَتِهِ لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَالإِْقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ بَاطِلٌ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُقِرِّ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يُقِيمَ بُرْهَانًا وَيَحْلِفَ يَمِينًا، وَيَضْمَنُ الْوَصِيُّ لَوْ دَفَعَ لِلْمُقِرِّ لَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ وَارِثًا فَيَصِحُّ فِي حِصَّتِهِ. (3)
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ للزيلعي 6 / 209 - 210، وَالدَّرّ الْمُخْتَار 6 / 706 ـ 723، وَمَعَهُ حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ 6 / 701، 706، 723، وَشَرْح مَنَحَ الْجَلِيل، لِلشَّيْخِ عِلِيش 4 / 688، 691.
(2) الْحَاوِي للماوردي 10 / 198 - 202، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 314، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 6 / 574 - 575، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 575، وَالْكَافِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 2 / 522، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 532، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 76.
(3) الدَّرّ الْمُخْتَار مَعَ حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 714، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 3 / 535، وَالْمُغْنِي 6 / 146، وَالْمَنْثُور فِي الْقَوَاعِدِ 1 / 187.(43/207)
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لآِخَرَ وَلَمْ تَكُنْ مِنَ التَّرِكَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا لِلصَّغِيرِ لاَ يُسْمَعُ إِقْرَارُهُ لِتَنَاقُضِهِ لأَِنَّ إِقْرَارَهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَمْضِي عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ يَمْضِي عَلَيْهِ هُوَ حَتَّى لَوْ مَلَكَهَا يَوْمًا أُمِرَ بِدَفْعِهَا لَهُ (1) .
ب) شَهَادَةُ الْوَصِيَّيْنِ لآِخَرَ بِالْوِصَايَةِ مَعَهُمَا:
65 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِزَيْدٍ مَعَهُمَا لَغَتْ لإِِثْبَاتِهِمَا لأَِنْفُسِهِمَا مُعَيَّنًا، وَحِينَئِذٍ فَيَضُمُّ الْقَاضِي لَهُمَا ثَالِثًا وُجُوبًا، لإِِقْرَارِهِمَا بِآخَرَ فَيَمْتَنِعُ تَصَرُّفُهُمَا بِدُونِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنَ امْتِنَاعِ تَصَرُّفِ أَحَدِ الأَْوْصِيَاءِ وَحْدَهُ إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ زَيْدٌ أَنَّهُ وَصِيٌّ مَعَهُمَا، فَحِينَئِذٍ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّهُمَا أَسْقَطَا مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ عَنِ الْقَاضِي إِذْ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَضُمَّ ثَالِثًا إِلَيْهِمَا، وَهَذَا الثَّالِثُ لَهُ حُكْمُ وَصِيِّ الْقَاضِي لاَ حُكْمُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُؤَثِّرْ سِوَى التَّعْيِينِ، وَكَذَا ابْنَا الْمَيِّتِ إِذَا شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِجَرِّهِمَا نَفْعًا لِنَصْبِ حَافِظٍ لِلتَّرِكَةِ لِقَوْل شُرَيْحٍ: لاَ أَقْبَل شَهَادَةَ خَصْمٍ وَلاَ قَرِيبٍ وَلَوْ يَدَّعِي زَيْدٌ هَذَا يُقْبَل اسْتِحْسَانًا (2) .
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار مَعَ حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 714.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار 6 / 716، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 213.(43/208)
ج) شَهَادَةُ الْوَصِيَّيْنِ لِوَارِثٍ:
66 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِمَالٍ سَوَاءٌ انْتَقَل إِلَيْهِ مِنَ الْمَيِّتِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، لأَِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ وِلاَيَةَ التَّصَرُّفِ لأَِنْفُسِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَال، فَصَارَا مُتَّهَمَيْنِ أَوْ خَصْمَيْنِ.
وَإِنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ بِمَال الْمَيِّتِ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا أَيْضًا، لأَِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ وِلاَيَةَ الْحِفْظِ وَوِلاَيَةَ بَيْعِ الْمَنْقُول لأَِنْفُسِهِمَا عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَارِثِ.
أَمَّا إِنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ أَوْ فِي غَيْرِ مَال الْمَيِّتِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، لاِنْقِطَاعِ وِلاَيَتِهِمَا عَنْهُ فَلاَ تُهْمَةَ حِينَئِذٍ، وَلأَِنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لاَ فِي غَيْرِهَا.
وَقَال الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) : إِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ لِوَارِثٍ كَبِيرٍ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ فِيمَا تَرَكَهُ الْمُوصِي وَغَيْرُهُ، لأَِنَّ وِلاَيَةَ التَّصَرُّفِ لاَ تَثْبُتُ لَهُمَا فِي مَال الْمَيِّتِ إِذَا كَانَتِ الْوَرَثَةُ كِبَارًا فَعَرِيَتْ عَنِ التُّهْمَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا. (1)
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 214، الدَّرّ الْمُخْتَار 6 / 715 ـ 716.(43/208)
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ. (1)
د) شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِمُوَلِّيهِ وَعَلَيْهِ:
67 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِمَنْ فِي حِجْرِهِ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ وَصِيٌّ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَصِيِّ لِمُوَلِّيهِ تُرَدُّ إِنْ كَانَ خَاصَمَ فِيهِ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى مَنْ فِي حِجْرِهِ فَتُقْبَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ. (2)
تَوْكِيل الْوَصِيِّ غَيْرَهُ:
68 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَوْكِيل الْوَصِيِّ غَيْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 6 / 626.
(2) رَوْضَة الْقُضَاة للسمناني 1 / 252، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 226، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 11 / 224، 6 / 322، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 73، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 430، والانصاف 12 / 72.(43/209)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - قَال عَنْهُ الأَْذْرُعِيُّ: هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْغَزَالِيِّ ـ وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ رَجَّحَهَا الْقَاضِي، وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يُوَكَّل الْوَصِيُّ بِكُل مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ أَمْرِ الْيَتِيمِ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلاَيَةِ. (1)
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوْ كَانَ لِلْيَتِيمِ وَصِيَّانِ فَوَكَّل كُل وَاحِدٍ رَجُلاً عَلَى حِدَةٍ بِشَيْءٍ قَامَ وَكِيل كُل وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلَيْنِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي مَال الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ. لأَِنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيل عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْوَصِيَّةُ الإِْذْنَ لَهُ بِالتَّوْكِيل، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ، كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ لَوْ نَهَاهُ عَنْهُ، أَمَّا مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمُبَاشَرَتِهِ لِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ. (3)
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 3 / 562، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 73، وَالإِْنْصَاف لِلْمَرْدَاوَيَّ 5 / 362.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 3 / 562.
(3) الْفُرُوق 4 / 39، وَالْمُهَذَّب 1 / 464، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 73، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 466، وَالإِْنْصَاف 5 / 362.(43/209)
إِقْرَارُ الْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ:
69 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَارِ الْوَصِيِّ عَلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ لأَِنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِكَوْنِ الإِْقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً عَلَى الْمُقِرِّ لاَ تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ. (1)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُوَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ بِالْمُوَلَّى عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِل كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ عَالِمَنَا (3) ، وَالإِْضْرَارُ بِالصَّغِيرِ لَيْسَ مِنَ الْمَرْحَمَةِ فِي شَيْءٍ. (4)
وَيَقُول الْمَوَّاقُ: الْوَصِيُّ لاَ يَلْزَمُ إِقْرَارُهُ عَلَى الْمَحْجُورِ، وَلَكِنْ يَكُونُ شَاهِدًا لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْمَحْجُورِ
__________
(1) الْبَدَائِع 5 / 153، وَالْفُرُوق 4 / 39، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 5 / 188، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 187، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 448.
(2) حَدِيث: " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (50) .
(3) حَدِيث: " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِل كَبِيرَنَا. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (50)
(4) الْبَدَائِع 5 / 153.(43/210)
بِحَالٍ. (1)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا بِمَالٍ وَلاَ إِتْلاَفٍ وَنَحْوِهِ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَمْ يَجُزْ، وَأَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ النَّافِذَةُ مِنْهُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهَا كَالْوَكِيل (2) .
دَفْعُ الْوَصِيِّ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ وَدِيعَةً:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِيدَاعِ الْوَصِيِّ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ لَدَى غَيْرِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ، لأَِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِيمَا لَهُ مِنْ وِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، فَكَانَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ بِالإِْيدَاعِ، وَلأَِنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنِ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهُ بِغَيْرِهِ خَاصَّةً إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُوصَى عَلَيْهِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُودِعُ مَالَهُ وَلاَ يُقْرِضُهُ مِنْ
__________
(1) التَّاج وَالإِْكْلِيل 5 / 188.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 448.
(3) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 72، وَالْبَدَائِع 5 / 154، وَفَتْح الْقَدِير 5 / 450، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 400، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 249، وَالْمُهَذَّب 1 / 336، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 175، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 4 / 191، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 3 / 410.(43/210)
غَيْرِ حَاجَّةٍ، لأَِنَّهُ يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ فَلَمْ يَجُزْ، فَإِنْ خَافَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا وَخَافَ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ الإِْيدَاعُ وَالإِْقْرَاضُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الإِْيدَاعِ دُونَ الإِْقْرَاضِ أَوْدَعَ، وَلاَ يُودِعُ إِلاَّ ثِقَةً، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الإِْقْرَاضِ دُونَ الإِْيدَاعِ أَقْرَضَهُ، وَلاَ يُقْرِضُهُ إِلاَّ ثِقَةً مَلِيئًا، لأَِنَّ غَيْرَ الثِّقَةِ يَجْحَدُ، وَغَيْرَ الْمَلِيءِ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ الْبَدَل مِنْهُ، فَإِنْ أَقْرَضَ وَرَأَى أَخْذَ الرَّهْنِ عَلَيْهِ أَخَذَ، وَإِنْ رَأَى تَرْكَ الرَّهْنِ لَمْ يَأْخُذْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الإِْيدَاعِ وَالإِْقْرَاضِ فَالإِْقْرَاضُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْبَدَل، وَالْوَدِيعَةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَكَانَ الْقَرْضُ أَحْوَطَ، فَإِنْ تَرَكَ الإِْقْرَاضَ وَأَوْدَعَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1) } ، وَالإِْقْرَاضُ هَاهُنَا أَحْسَنُ، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَيَرْهَنُ مَالَهُ عَلَيْهِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُ فَجَازَ. (2)
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: قَرْضُ الْوَلِيِّ مَال مَحْجُورِهِ لِثِقَةٍ أَوْلَى مِنْ إِيدَاعِهِ، لأَِنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ، فَإِنْ أَوْدَعَهُ الْوَلِيُّ مَعَ إِمْكَانِ قَرْضِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ،
__________
(1) سُورَة الأَْنْعَام: 152.
(2) الْمُهَذَّب 1 / 336.(43/211)
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ. (1)
دَفْعُ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ إِعَارَةً:
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِعَارَةِ الْوَصِيِّ مَال الصَّغِيرِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ إِعَارَةُ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ، لأَِنَّ الإِْعَارَةَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِبَاحَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّبَرُّعِ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْحِفْظُ، وَلأَِنَّهُ لاَ حَظَّ فِيهَا لِلْمُوصَى عَلَيْهِ، فَتَكُونُ ضَرَرًا مَحْضًا بِالنِّسْبَةِ لَهُ، فَلاَ يَمْلِكُهَا الْوَصِيُّ. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الاِسْتِحْسَانِ إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ إِعَارَةَ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ لأَِنَّ الإِْعَارَةَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَضَرُورَاتِهَا، فَتُمَلَّكُ بِمِلْكِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا مَلَّكَهَا الْمَأْذُونُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ. (3)
خَلْطُ الْوَصِيِّ مَالَهُ بِمَال الْمُوصَى عَلَيْهِ:
72 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ التَّصَرُّفُ فِي مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ لَهُ (4)
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 449.
(2) الْبَدَائِع 5 / 154، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص378، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 264، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 3 / 724، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 63.
(3) الْبَدَائِع 5 / 154، وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 463.
(4) الذَّخِيرَة 8 / 240، وَالإِْنْصَاف 5 / 325.(43/211)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي خَلْطِ مَال الْوَصِيِّ بِمَال الْيَتِيمِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِوَصِيِّ الأَْيْتَامِ أَنْ يَخْلِطَ نَفَقَتَهُمْ فَيُنْفِقُهَا عَلَيْهِمْ جُمْلَةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُمُ، اتَّحَدَ مُورِّثُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَ. (1)
دَلَّل الْجَصَّاصُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل ( {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأََعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ) (2) ، قَائِلاً: فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى جَوَازِ خَلْطِ مَال الْيَتِيمِ بِمَال الْوَلِيِّ، وَهَذِهِ الْمُخَالَطَةُ مَقْصُودَةٌ بِشَرِيطَةِ الإِْصْلاَحِ لِلْيَتِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَقْدِيمُهُ ذِكْرَ الإِْصْلاَحِ فِيمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى ( {قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} ) (3) .
وَالثَّانِي (4) : قَوْلُهُ ( {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ) (5) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِخَلْطِ الْوَصِيِّ نَفَقَةَ يَتِيمِهِ بِمَالِهِ إِذَا كَانَ رِفْقًا لِلْيَتِيمِ،
__________
(1) مَجْمَع الضَّمَانَات لاِبْن غَانِم ص411.
(2) سُورَة الْبَقَرَة: 220.
(3) سُورَة الْبَقَرَة: 220.
(4) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 1 / 332.
(5) سُورَة الْبَقَرَة: 220.(43/212)
وَيَمْتَنِعُ رِفْقًا لِلْوَلِيِّ، وَلأَِنَّ الإِْفْرَادَ قَدْ يَشُقُّ وَخَاصَّةً فِي بَيْتٍ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ خَلْطُ مَالِهِ بِمَال الْيَتِيمِ إِلاَّ فِي الْمَأْكُول كَالدَّقِيقِ وَاللَّحْمِ لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ لِلإِْرْفَاقِ (2) ، وَعَلَيْهِ حُمِل قَوْلُهُ تَعَالَى ( {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} ) (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ خَلْطُ نَفَقَةِ مُوَلِّيهِ بِمَالِهِ إِذَا كَانَ خَلْطُهَا أَرْفَقَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ) (4) ، وَإِنْ كَانَ إِفْرَادُهُ أَرْفَقَ بِهِ أَفْرَدَهُ مُرَاعَاةً لِلْمَصْلَحَةِ. (5)
قِسْمَةُ الْوَصِيِّ نِيَابَةً عَنِ الْمُوصَى لَهُ أَوْ عَنِ الْوَرَثَةِ:
73 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ نِيَابَةً عَنِ الْوَرَثَةِ الْكِبَارِ الْغُيَّبِ أَوِ الصِّغَارِ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلْوَرَثَةِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ إِنْ ضَاعَ قِسْطُهُمْ مَعَهُ لِصِحَّةِ قِسْمَةِ الْوَصِيِّ حِينَئِذٍ.
وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يُوصِيَ الرَّجُل إِلَى رَجُلٍ، وَأَنْ يُوصِيَ لآِخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ
__________
(1) الذَّخِيرَة 8 / 241 - 242.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 322.
(3) سُورَة الْبَقَرَة: 220.
(4) سُورَة الْبَقَرَة: 220.
(5) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 3 / 413، وَالْمُغْنِي 4 / 268.(43/212)
أَوْ كِبَارٌ غُيَّبٌ، فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ مَعَ الْمُوصَى لَهُ نَائِبًا عَنِ الْوَرَثَةِ، وَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَالْقِسْمَةُ نَافِذَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ، لأَِنَّ الْوَرَثَةَ وَالْوَصِيَّ كِلاَهُمَا خَلَفٌ عَنِ الْمَيِّتِ وَيَصِحُّ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الآْخَرِ.
أَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ: وَهُوَ مُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ مَعَ الْوَارِثِ نَائِبًا عَنِ الْمُوصَى لَهُ، فَلاَ تَصِحُّ هَذِهِ الْقِسْمَةُ، لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ لِلْمَيِّتِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَلاَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ مُنَاسَبَةٌ حَتَّى يَقُومَ الْوَصِيُّ مَقَامَهُ فِي نُفُوذِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ.
وَحَيْثُ لاَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ نِيَابَةً عَنِ الْمُوصَى لَهُ مَعَ الْوَرَثَةِ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الرُّجُوعُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَال إِذَا ضَاعَ قِسْطُهُ، لأَِنَّهُ كَالشَّرِيكِ مَعَهُ أَيْ مَعَ الْوَصِيِّ، وَلاَ يَضْمَنُ الْوَصِيُّ لأَِنَّهُ أَمِينٌ. (1)
وَتَصِحُّ قِسْمَةُ الْقَاضِي وَأَخْذُهُ قِسْطَ الْمُوصَى لَهُ إِنْ غَابَ الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّهُ نَاظِرٌ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ، وَإِفْرَازُ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَقَبْضُهُ مِنَ النَّظَرِ، فَنَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَصَحَّ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ إِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ، وَهَذَا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ، لأَِنَّهُ إِفْرَازٌ، وَفِي غَيْرِهِمَا لاَ تَجُوزُ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ شُرِحَ كَنْز الدَّقَائِق للزيلعي 6 / 210، وَالدَّرّ الْمُخْتَار مَعَ حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 707.(43/213)
لأَِنَّهُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ مَال الْغَيْرِ لاَ يَجُوزُ فَكَذَا الْقِسْمَةُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَقْسِمُ الْوَصِيُّ عَلَى غَائِبٍ بِلاَ حَاكِمٍ، فَإِنْ قَسَمَ بِلاَ حَاكِمٍ: فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ وَتُرَدُّ، وَالْمُشْتَرُونَ الْعَالِمُونَ غُصَّابٌ لاَ غَلَّةَ لَهُمْ وَيَضْمَنُونَ حَتَّى السَّمَاوِيَّ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَقِل بِقِسْمَةِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوصَى عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ كَانَتْ بَيْعًا فَلَيْسَ لَهُ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ إِقْرَارًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ بَل يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ الْقِسْمَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (3) .
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَلاَ يَسْتَقِل بِقِسْمَةِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لأَِنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ كَانَتْ بَيْعًا فَلَيْسَ لَهُ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ، أَوْ إِقْرَارًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. (4)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزَ لِلْوَصِيِّ قَسْمُ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ مَعَ شَرِيكِهِ، وَقَالُوا: وَلِيُّ الْمُوَلَّى
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار، وَمَعَ حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ 6 / 707.
(2) شَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 8 / 210.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 322 وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 73، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 4 / 74.
(4) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 78.(43/213)
عَلَيْهِ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ بِمَنْزِلَتِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ. وَلَهُ أَنْ يُقَاسِمَ قِسْمَةَ التَّرَاضِي إِذَا رَآهَا مَصْلَحَةً كَالْبَيْعِ وَأَوْلَى (1) .
ضَمَانُ الْوَصِيِّ:
74 - مِمَّا تَقَدَّمَ يَتَّضِحُ لَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِيمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالٍ مَقْرُونٌ لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرِ فَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي أَمْوَال الْمُوصَى عَلَيْهِ مُحَقِّقًا الْمَصْلَحَةَ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ يَكُونُ صَحِيحًا، أَمَّا إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ غَيْرَ مُحَقِّقٍ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَإِنَّ الْوَصِيَّ يَكُونُ ضَامِنًا وَتُعْتَبَرُ يَدُهُ عَلَى أَمْوَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَيَدُ الأَْمَانَةِ لاَ تَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ. (2)
عَزْل الْوَصِيِّ وَانْعِزَالُهُ:
75 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصَى، كَمَا أَنَّ لِلْمُوصِي أَنْ يَعْزِلَهُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْل. (3)
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 368، كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 384.
(2) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 275، وَجَامِع أَحْكَام الصِّغَار ص366، وَالْقَوَاعِد لاِبْن رَجَب ص 59، وَالدُّسُوقِيّ 4 / 456.
(3) الدَّرّ الْمُخْتَار وَمَعَهُ حَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ لاِبْنِ عَابِدِينَ 6 / 701، 706، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ للزيلعي 6 / 207، وَالْفَتَاوَى البزازية بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 440، 441، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 8 / 200، 202، وَشَرْح مَنَحَ الْجَلِيل لِلشَّيْخِ عِلِيش 4 / 690، 694، وَالشَّرْح الْكَبِير للدردير وَمَعَهُ حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيّ 4 / 453، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 785، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ لِلنَّوَوِيِّ 6 / 312، 313، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 6 / 572، 574، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ لِلْبَهُوتِي 2 / 575.(43/214)
وَأَمَّا انْعِزَالُهُ فَإِنَّهُ يَنْعَزِل بِفَقْدِ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَلْزَمُ تَوَافُرُهَا فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْوِصَايَةَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ الْوَصِيِّ وَبَيَانُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ فَقْدِ كُل شَرْطٍ وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (إِيصَاء ف8، 18) .(43/214)
وَصْفٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - الْوَصْفُ فِي اللُّغَةِ: النَّعْتُ: يُقَال: وَصَفَ الشَّيْءَ وَصْفًا وَصِفَةً: نَعَتَهُ. وَوَصَفَ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ: عَيَّنَهُ بِاسْمِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَوَصَفَ الْخَبَرَ: حَكَاهُ. (1)
وَالْوَصْفُ اصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَمَّا دَل عَلَى الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَوْهَرِ حُرُوفِهِ، أَوْ مَا دَل عَلَى ذَاتٍ بِصِفَةٍ كَأَحْمَرَ. (2)
وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرِكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلاَ غَايَةٍ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصْفِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أـ الْبَيْعُ بِالْوَصْفِ:
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) الْبَحْر الْمُحِيط 4 / 30.(43/215)
2 ـ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ) إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالْوَصْفِ كَمَا يَصِحُّ بِالرُّؤْيَةِ، لأَِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ. (1)
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَهُوَ: مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَالَغَ فِي وَصْفِهِ، وَذَلِكَ لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَلأَِنَّ الرُّؤْيَةَ تُفِيدُ مَا لاَ تُفِيدُهُ الْعِبَارَةُ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي (بَيْع ف 33، 34، 43، 44، وَخِيَار فَوَاتِ الْوَصْفِ ف3 وَمَا بَعْدَهَا)
ب ـ الْوَصْفُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ: 3 ـ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ. فَيُشْتَرَطُ وَصْفُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِمَا يَنْضَبِطُ بِهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ الأَْوْصَافِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ لِيَتَمَيَّزَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ ذِكْرُ الأَْوْصَافِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَوْ فِي
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 3 / 42 ـ 43، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 163، وَالْبَحْر الرَّائِق 6 / 28، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 18.
(2) تُحْفَة الْمُحْتَاج 4 / 262 ـ 263، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 18.(43/215)
مَجْلِسِ الْعَقْدِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم ف 20 ـ 22)
الْوَصْفُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: أَوَّلاً: فَهْمُ التَّعْلِيل مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ: 4 ـ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ يُفْهِمُ عِلِّيَّةَ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ) (2) . فَكَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَنْطُوقِ وُجُوبُ الْقَطْعِ يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَاهُ: كَوْنُ السَّرِقَةِ عِلَّةً لِلْقَطْعِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْهِمُ عَلِّيَّةَ الْوَصْفِ، وَيُسَمَّى إِيمَاءً وَإِشَارَةً كَمَا يُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ. (3)
ثَانِيًا: مَفْهُومُ الصِّفَةِ: 5 ـ عَرَّفَ الزَّرْكَشِيُّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ بِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الأَْوْصَافِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دَلاَلَةِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيِ الشَّيْءِ، مِثْل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ (4) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 108.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 38.
(3) الْمُسْتَصْفَى لِلْغَزَالِيِّ 2 / 189 ـ 190.
(4) حَدِيث: " فِي سَائِمَة الْغَنَم إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاة " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 221 ـ ط حِمْص) ، وَأَصْله فِي الْبُخَارِيِّ (الْفَتْح 3 / 317) .(43/216)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَالأَْكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا إِلَى أَنَّهُ يَدُل عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْشْعَرِيُّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ـ مِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ ـ إِلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ صِفَةٌ لاَ يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَصْفُ الطَّلاَقِ
انْظُرْ: طَلاَق.
وَصْلٌ
انْظُرْ: اتِّصَال.
__________
(1) الْمُسْتَصْفَى 2 / 191 ـ 192، وَالْبَحْر الْمُحِيط 4 / 30 ـ 31، شُرِحَ الْكَوْكَب الْمُنِير 3 / 498، وَمَا بَعْدَهَا.(43/216)
وَصِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوَصِيُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ: مَنْ عُهِدَ إِلَيْهِ الأَْمْرُ، يُقَال: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ: إِذَا جَعَلْتَهُ وَصِيَّكَ، وَالْوَصِيُّ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى: الْمُوصِي، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ. (1)
وَالْوَصِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ عَهِدَ إِلَيْهِ الرَّجُل أُمُورَهُ لِيَقُومَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِهِ كَقَضَاءِ دُيُونِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أـ الْقَيِّمُ:
2 ـ الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: السَّيِّدُ، وَسَائِسُ الأُْمُورِ، وَمَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْفَتَاوَى الْخَانِيَة 3 / 513، وَتَكْمِلَة فَتْحِ الْقَدِير 10 / 411، وَالاِخْتِيَارِ 5 / 62، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 414، وَالْمَحَلِّيّ شَرْح الْمِنْهَاج 3 / 177، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 393، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 74.(43/217)
وَقَيِّمُ الْقَوْمِ: الَّذِي يَقُومُ بِشَأْنِهِمْ وَيَسُوسُ أُمُورَهُمْ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَيِّمِ وَالْوَصِيِّ هِيَ: أَنَّ الْقَيِّمَ أَعَمُّ مِنَ الْوَصِيِّ.
ب ـ الْوَكِيل:
3 ـ الْوَكِيل فِي اللُّغَةِ: الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْحَافِظِ (3) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} ) (4) .
وَالْوَكِيل فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِ غَيْرِهِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ، وَيَتَوَلَّى أَمْرَهُ، إِلاَّ أَنَّ الْوَصِيَّ يَقُومُ بِعَمَلِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَكِيل يَقُومُ بِعَمَلِهِ فِي حَال الْحَيَاةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَصِيِّ: يَتَعَلَّقُ بِالْوَصِيِّ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 169.
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(4) سُورَة آل عِمْرَانَ: 173.
(5) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 217، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.(43/217)
أـ قَبُول الإِْيصَاءِ: 4 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قَبُول الْوَصِيِّ لِلإِْيصَاءِ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَقْبَل الإِْيصَاءَ إِلَيْهِ لأَِنَّهَا عَلَى خَطَرٍ. وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ـ قَال عَنْهُ الْمَرْدَاوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ ـ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَال يَتِيمٍ (2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: الدُّخُول فِي الْوَصِيَّةِ أَوَّل مَرَّةٍ: غَلَطٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ: خِيَانَةٌ، وَفِي الثَّالِثَةِ سَرِقَةٌ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الأَْمَانَةَ: الْقَبُول، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ لاَ يَقْبَل. وَنَقَل الرَّبِيعُ عَنِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَال: لاَ يَدْخُل فِي الْوَصِيَّةِ إِلاَّ أَحْمَقُ أَوْ لِصٌّ، فَإِنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ الضَّعْفَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، لِحَدِيثِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 447، وَالإِْنْصَاف 7 / 285، وَالْمُغْنِي 6 / 144.
(2) حَدِيث: " يَا أَبَا ذَرّ، إِنِّي أَرَاك ضعيفا. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1458) .
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 447.(43/218)
أَبِي ذَرٍّ الْمُتَقَدِّمِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: الدُّخُول فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَوِيِّ عَلَيْهَا قُرْبَةٌ مَنْدُوبَةٌ. (2)
ب ـ شُرُوطُ الْوَصِيِّ:
5 ـ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيِّ شُرُوطًا: اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا ـ كَالْعَقْل وَالإِْسْلاَمِ إِذَا كَانَ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِأُمُورِ الْوَصِيَّةِ ـ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 11، وَوِصَايَة) .
جـ - الْوَقْتُ الْمُعْتَبَرُ لِتَوَافُرِ الشُّرُوطِ فِي الْوَصِيِّ: 6 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَبَرِ لِتَوَافُرِ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْوَصِيِّ، أَهُوَ وَقْتُ الإِْيصَاءِ أَوْ وَقْتُ وَفَاةِ الْمُوصِي، أَوْ هُوَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، عَلَى أَقْوَالٍ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 12، وَوِصَايَة) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77.
(2) الإِْنْصَاف 7 / 285، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 393.(43/218)
د ـ وَقْتُ قَبُول الْوَصِيِّ لِلإِْيصَاءِ: 7 ـ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ قَبُول الْوَصِيِّ بَعْدَ إِيجَابِ الْمُوصِي، لأَِنَّهُ عَقْدٌ وَهُوَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ مِنَ الْمُوصِي وَقَبُولٍ مِنَ الْوَصِيِّ.
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْقَبُول: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي وَبَعْدَ مَوْتِهِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لاَ يُعْتَدُّ بِقَبُول الْوَصِيِّ لِلإِْيصَاءِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 5، وَوِصَايَة) .
هـ - تَخْصِيصُ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ بِمُعَيَّنٍ: 8 ـ تَتَحَدَّدُ سُلْطَةُ الْوَصِيِّ حَسَبَ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِيصَاء ف 13، وَوِصَايَة) .
وـ تَعَدُّدُ الأَْوْصِيَاءِ: 9 ـ يَجُوزُ تَعَدُّدُ الأَْوْصِيَاءِ بِتَعَدُّدِ أَغْرَاضِ الْمُوصَى بِهَا إِلَيْهِمْ.
كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى رَجُلَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) الْمُغْنِي 6 / 141، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 477.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 77، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 92.(43/219)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 16، وِصَايَة) .
وَإِذَا تَنَازَعَ الْوَصِيَّانِ فِي اقْتِسَامِ الْمَال الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالتَّفْصِيل فِي (وِصَايَة) .
وَإِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ مُطْلَقًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ جُنَّ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ عَزْلَهُ: أَقَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ أَمِينًا، وَلَمْ يَجُزْ لِلآْخَرِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 16) .
ز ـ فَقْدُ الْوَصِيِّ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ تَوْلِيَتِهِ: 10 - إِذَا فَقَدَ الْوَصِيُّ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ تَوْلِيَتِهِ انْعَزَل مِنَ الْوِصَايَةِ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (إِيصَاء ف 18، وَوِصَايَة) .
ح ـ ـ عَزْل الْوَصِيِّ نَفْسَهُ: 11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ وَرَدَّ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَأَمَّا عَزْل الْوَصِيِّ نَفْسَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِيصَاء ف 8، وَوِصَايَة) .(43/219)
ط ـ أُجْرَةُ الْوَصِيِّ: 12 - يَجُوزُ جَعْل أُجْرَةٍ لِلْوَصِيِّ فِي الْجُمْلَةِ لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوِكَالَةِ، وَالْوِكَالَةُ تَجُوزُ بِجُعْلٍ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِيصَاء ف 17) .
ي ـ إِيصَاءُ الْوَصِيِّ: 13 - إِنْ أَوْصَى وَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِلَى رَجُلٍ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ: فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِيصَاء ف 9) .
ك ـ عَجْزُ الْوَصِيِّ عَنِ الْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ: 14 - إِنْ عَجَزَ الْوَصِيُّ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ضُمَّ إِلَيْهِ آخَرُ رِعَايَةً لِحُقُوقِ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ. (1)
(ر: وِصَايَة) .
ل ـ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي مَال الْيَتِيمِ: 15 - يَتَصَرَّفُ الْوَصِيُّ فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2) } ، وَقَوْلِهِ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 448، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 75، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 88.
(2) سُورَة الإِْسْرَاء: 33(43/220)
عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ (1) } .
وَيَقْتَضِي تَقْيِيدُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالْمَصْلَحَةِ: أَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَلاَ خَيْرٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، إِذْ لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ وَمَا يَجُوزُ لَهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِيصَاء ف 14، وَوِصَايَة) .
م ـ تَزْوِيجُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ: 16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ سُلْطَةِ التَّزْوِيجِ لِلْوَصِيِّ بِالْوَصِيَّةِ فِي النِّكَاحِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 79 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة: 220(43/220)
وَصِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَصَيْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أُصِيهِ - مِنْ بَابِ وَعَدَ - وَصَلْتُهُ وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ جَعَلْتُهُ لَهُ.
وَالْوَصِيَّةُ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمُوصَى بِهِ. (1)
وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَال فِي الاِصْطِلاَحِ: تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الأَْعْيَانِ أَوْ فِي الْمَنَافِعِ. (2)
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الإِْيصَاءُ يَعُمُّ الْوَصِيَّةَ وَالْوِصَايَةَ لُغَةً، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا مِنَ اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَخْصِيصُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَرُّعِ الْمُضَافِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوِصَايَةِ بِالْعَهْدِ إِلَى مَنْ يَقُومُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ (3) .
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط وَالْمِصْبَاح الْمُنِير وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 8 / 416 طَبْعَة بُولاَق، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 457، وَحَاشِيَة الصَّاوِي عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 4 / 579، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 38ـ39، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39.(43/221)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْيصَاءُ:
2 - الإِْيصَاءُ مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَال: أَوْصَى إِلَيْهِ: جَعَلَهُ وَصِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ وَمَالِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَوْصَى فُلاَنًا بِالشَّيْءِ، أَمَرَهُ بِهِ وَفَرَضَهُ عَلَيْهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالإِْيصَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ بِالتَّصَرُّفِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَالإِْيصَاءُ الْعَهْدُ إِلَى مَنْ يَقُومُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ. (2)
ب - الْهِبَةُ:
3 - الْهِبَةُ لُغَةً: إِعْطَاءُ شَيْءٍ غَيْرَهُ بِلاَ عِوَضٍ. يُقَال: وَهَبَ لَهُ الشَّيْءَ يَهَبُهُ وَهْبًا وَوَهَبًا، وَهِبَةً: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ بِلاَ عِوَضٍ. (3)
وَالْهِبَةُ شَرْعًا: تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلاَ عِوَضٍ فِي حَال الْحَيَاةِ تَطَوُّعًا (4) .
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) الْفَتَاوَى الْخَانِيَة 3 / 513، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39.
(3) الْمُعْجَم الْوَسِيط.
(4) فَتْح الْقَدِير 7 / 113، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 4 / 530 ط الْحَلَبِيّ، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 139، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 396، وَالْمُغْنِي 5 / 591، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 329، وَغَايَة الْمُنْتَهَى 2 / 328.(43/221)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ تَمْلِيكٌ لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْهِبَةَ حَال الْحَيَاةِ.
ج - الصَّدَقَةُ:
4 - الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّال - مَا أَعْطَيْتَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَمْلِيكُ شَيْءٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْحَيَاةِ لِمُحْتَاجٍ لأَِجْل ثَوَابِ الآْخِرَةِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ إِلاَّ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ وَالْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَصِيَّةِ:
5 - الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول. (2)
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ وَالتَّرِكَةِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 397.
(2) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 414، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 371.(43/222)
تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (1) } ، فَهَذَانَ النَّصَّانِ جَعَلاَ الْمِيرَاثَ حَقًّا مُؤَخَّرًا عَنْ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ، لَكِنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآْيَةَ:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْل الْوَصِيَّةِ (2) .
وَحِكْمَةُ تَقْدِيمِهَا فِي الآْيَةِ: أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتِ الْمِيرَاثَ فِي كَوْنِهَا بِلاَ عِوَضٍ، فَكَانَ فِي إِخْرَاجِهَا مَشَقَّةٌ عَلَى الْوَارِثِ، فَقُدِّمَتْ حَثًّا عَلَى إِخْرَاجِهَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَال: لاَ، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (3) .
__________
(1) سُورَة النِّسَاء: 12.
(2) حَدِيث عَلَيَّ: " إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآْيَةَ. . . . ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 416 - ط الْحَلَبِيّ) ، وَضَعْف إِسْنَادِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (5 / 377) .
(3) حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص: قُلْت: " يَا رَسُول اللَّهِ أَنَا ذُو مَال. " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 3 / 164) وَمُسْلِم (3 / 1250 - 1251 ط الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.(43/222)
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ، زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ (1) .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ (2) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الْوَصِيَّةِ زِيَادَةً فِي الْقُرُبَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَتَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ بِهِ الإِْنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ أَعْمَال الْخَيْرِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى حَال زَوَال مَالِكِيَّتِهِ، وَلَوْ أُضِيفَ إِلَى حَال قِيَامِهَا بِأَنْ قِيل: مَلَّكْتُكَ غَدًا، كَانَ بَاطِلاً، فَهَذَا أَوْلَى، إِلاَّ أَنَّا
__________
(1) حَدِيث مُعَاذ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَصْدُقُ عَلَيْكُمْ " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (3 / 150 ط دَارَ الْمَحَاسِن) ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغ الْمَرَام (ص 322 ط دَار ابْن كَثِير) وَذَكَرَ أَنَّ طُرُقَهُ كُلّهَا ضَعِيفَة وَلَكِنْ قَدْ يُقَوِّي بَعْضهَا بعضا.
(2) حَدِيث ابْن عُمَر: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 5 / 355 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1249) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.(43/223)
اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا.
فَإِنَّ الإِْنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ، مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ، وَخَافَ الْبَيَانَ، يَحْتَاجُ إِلَى تَلاَفِي بَعْضِ مَا فُرِّطَ مِنْهُ، مِنَ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَوْ مَضَى فِيهِ يَتَحَقَّقُ مَقْصِدُهُ الْمُآلِي، وَلَوْ أَنْهَضَهُ الْبُرْءُ يَصْرِفُهُ إِلَى مَطْلَبِهِ الْحَالِيِّ، وَفِي شَرْعِ الْوَصِيَّةِ ذَلِكَ، فَشُرِعَتْ (1) ..
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْوَصِيَّةِ: 6 - حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْوَصِيَّةِ: تَحْصِيل ذِكْرِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَنَوَال الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الآْخِرَةِ (2) ، لِذَا شَرَعَهَا الشَّارِعُ تَمْكِينًا مِنَ الْعَمَل الصَّالِحِ، وَمُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى لِلْمَرْءِ مَعْرُوفًا، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالأَْقَارِبِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، وَسَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَتَخْفِيفِ الْكَرْبِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْبُؤَسَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذَلِكَ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ أَوِ الْعَدْل، وَتَجَنُّبِ الإِْضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ (3) } .
وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الإِْضْرَارُ فِي
__________
(1) الْهِدَايَة مَعَ شُرُوحِهَا 10 / 413.
(2) الْهِدَايَة مَعَ شُرُوحِهَا 10 / 411.
(3) سُورَة النِّسَاء: 12.(43/223)
الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (1) . وَالْعَدْل الْمَطْلُوبُ: قَصْرُهَا عَلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ الْمُحَدَّدِ شَرْعًا. أَمَّا عَدَمُ نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ الآْخَرِينَ، فَهُوَ لِمَنْعِ التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَال.
أ - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَال لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى أَحَدٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ وَصِيَّةٌ، وَلَمْ يُنْقَل لِذَلِكَ نَكِيرٌ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخِلُّوا بِذَلِكَ وَلَنُقِل عَنْهُمْ نَقْلاً ظَاهِرًا، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ لاَ تَجِبُ فِي الْحَيَاةِ فَلاَ تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَعَطِيَّةِ الأَْجَانِبِ.
ثُمَّ قَال هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ: تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَال لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
__________
(1) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " الإِْضْرَار فِي الْوَصِيَّةِ فِي الْكَبَائِرِ " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (3 / 151 ط دَارَ الْمَحَاسِن) ، وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (6 / 271 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَقَفَهُ عَلَى ابْن عَبَّاسٍ.(43/224)
قَال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ (1) } ، فَنُسِخَ الْوُجُوبُ وَبَقِيَ الاِسْتِحْبَابُ فِي حَقِّ مَنْ لاَ يَرْثُ لِحَدِيثِ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (2) وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ آدَمَ اثْنَتَانِ لَمْ تَكُنْ لَكَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا: جَعَلْتُ لَكَ نَصِيبًا مِنْ مَالِكَ حِينَ أَخَذْتُ بِكَظَمِكَ لأُِطَهِّرَكَ بِهِ وَأُزَكِّيَكَ وَصَلاَةُ عِبَادِي عَلَيْكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِكَ (3) .
وَعَنْ مُعَاذٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة: 180.
(2) حَدِيث: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِث ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 433 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن أمامة الْبَاهِلِيّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّخْلِيصِ (3 / 92 ط شَرِكَة الطِّبَاعَةِ الْفَنِّيَّةِ)
(3) حَدِيث ابْن عُمَر: يَا ابْن آدَمَ، اثْنَتَانِ لَمْ تَكُنْ لَك وَاحِدَة مِنْهُمَا أَخْرِجْهُ ابْن مَاجَهْ (2 / 904 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (2 / 98 ط دَار الْجِنَان) : هَذَا إِسْنَاد فِيهِ مَقَال. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى جَهَالَة أَحَد رُوَاته وَإِلَى ضَعْفٍ آخَرَ. وَالْكَظْمُ هُوَ مُخْرِجُ النَّفْسِ.
(4) حَدِيث مُعَاذ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَصْدُقُ عَلَيْكُمْ. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (5) .(43/224)
الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَسْتَوْعِبَ الْمُوصِي الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (1) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالأَْفْضَل لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ.
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - ظَاهِرُ قَوْل السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ أَهْل الْبَصْرَةِ، وَأُثِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: " الْخُمُسُ فِي الْوَصِيَّةِ أَحَبُّ إِلَيَّ، لأَِنَّ اللَّهَ رَضِيَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَهْمًا ". وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ يَسْتَحِبُّونَ الرُّبُعَ فِي الْوَصِيَّةِ.
قَال إِسْحَاقُ: السُّنَّةُ الرُّبُعُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً يَعْرِفُ فِي مَالِهِ حُرْمَةَ شُبُهَاتٍ أَوْ غَيْرَهَا فَلَهُ اسْتِيعَابُ الثُّلُثِ.
وَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ الْمُوصِي غَنِيًّا اسْتُحِبَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ. (2)
__________
(1) حَدِيث: " الثُّلْث وَالثُّلْث كَثِير " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 5 / 363) وَمُسْلِم (3 / 1253) .
(2) الاِخْتِيَار 5 / 64، وَالْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ 2 / 1023، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 47، وَحَاشِيَة الْجَمَل 4 / 49، وَالْمُغْنِي 6 / 4.(43/225)
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ وَالْمَال كَثِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَال قَلِيلاً وَالْوَرَثَةُ مُحْتَاجُونَ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ لاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ.
وَقَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ: إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ طَائِلاً إِنَّمَا تَرَكْتَ شَيْئًا يَسِيرًا فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ.
وَقَال الشَّعْبِيُّ: مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُل لِوَلَدِهِ يُغْنِيهِمْ عَنِ النَّاسِ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِنْ كَانَ مَالُهُ قَلِيلاً وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالأَْفْضَل أَنْ لاَ يُوصِيَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (1) وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالأَْجَانِبِ وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالأَْقَارِبِ فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالأَْفْضَل أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَال لِوَرَثَتِهِ لأَِنَّ غُنْيَةَ الْوَرَثَةِ تَحْصُل بِمَا
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّك إِنْ تَرَكْت وَرَثَتَك أَغْنِيَاء خَيْر لَك. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ الْفَتْح (12 / 14) وَمُسْلِم (3 / 1253) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.(43/225)
زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِذَا كَانَ الْمَال كَثِيرًا وَلاَ تَحْصُل عِنْدَ قِلَّتِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُكْرَهُ الْوَصِيَّةُ فِي مَالٍ قَلِيلٍ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ الثُّلُثِ. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَاجِبَةٌ.
رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: جَعَل اللَّهُ الْوَصِيَّةَ حَقًّا عَمَّا قَل أَوْ كَثُرَ. وَقِيل لأَِبِي مِجْلَزٍ: عَلَى كُل مَيِّتٍ وَصِيَّةٌ؟ قَال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا.
ب - وَقَال أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لِلأَْقْرَبِينَ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ.
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَطَاوُسٍ وَإِيَاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ:
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى ( {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 331، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 579، وَالْخَرَشِيّ 8 / 168، وَالْمُغْنِي 6 / 3.
(2) شَرْح مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ 11 / 86 ط دَار الْقَلَم، وَانْظُرِ الأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ 4 / 30.(43/226)
الْمُتَّقِينَ} ) (1) ، وَبِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ قَال ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي " (2) .
وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَ يُشَدِّدَانِ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَكَانَ مِمَّنْ قَال بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَطَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَقَالُوا: نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ وَبَقِيَتْ فِيمَنْ لاَ يَرِثُ مِنَ الأَْقْرَبِينَ. (3)
أَرْكَانُ الْوَصِيَّةِ وَكَيْفِيَّةُ انْعِقَادِهَا:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ لِلْوَصِيَّةِ أَرْكَانًا أَرْبَعَةً: صِيغَةٌ، وَمُوصٍ، وَمُوصًى لَهُ، وَمُوصًى بِهِ. (4)
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة: 180.
(2) حَدِيث ابْن عُمَر: " مَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1250) .
(3) الْمُغْنِي 6 / 1ـ3، حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 415، وَالْقُرْطُبِيّ 2 / 359، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 579، وَغَايَة الْمُنْتَهَى 2 / 328، وَالْمُحَلَّى 9 / 312.
(4) كِفَايَة الأَْخْيَار 2 / 56 وَمَا بَعْدَهَا، وَالْمُهَذَّب 1 / 586 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، 52 وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 4، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 345 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 46، وَالشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي عَلَيْهِ 4 / 585 وَمَا بَعْدَهَا.(43/226)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي رُكْنِ الْوَصِيَّةِ:
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: الرُّكْنُ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَالْقَبُول مِنَ الْمُوصَى لَهُ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لاَ يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَقَالُوا: إِنْ شِئْتَ قُلْتَ رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي وَعَدَمُ الرَّدِّ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّهِ.
وَقَال زُفَرُ: رُكْنُ الْوَصِيَّةِ هُوَ الإِْيجَابُ مِنَ الْمُوصِي فَقَطْ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولِهِ، فَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَالصَّاحِبَانِ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول مَعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ) (1) فَظَاهِرُهُ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلإِْنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ وَهَذَا مَنْفِيٌّ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلأَِنَّ الْقَوْل بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ
__________
(1) سُورَة النَّجْمِ: 39.(43/227)
يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ بِهِ قَدْ يَكُونُ شَيْئًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ فَلَوْ لَزِمَهُ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَإِلْزَامِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ الإِْلْزَامِ إِذْ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلاَيَةُ إِلْزَامِ الضَّرَرِ فَلاَ يَلْزَمُهُ. (1)
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
9 - الصِّيغَةُ تَتَكَوَّنُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَيَتِمُّ الإِْيجَابُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى التَّمْلِيكِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَقَوْل الْمُوصِي: وَصَّيْتُ لَكَ بِكَذَا، أَوْ وَصَّيْتُ لِزَيْدٍ بِكَذَا، أَوْ أَعْطُوهُ مِنْ مَالِي بَعْدَ مَوْتِي كَذَا، أَوِ ادْفَعُوهُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ هُوَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ هُوَ لَهُ مِنْ مَالِي بَعْدَ مَوْتِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ. (2)
وَتَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ بِالْكِتَابَةِ كَاللَّفْظِ بِاتِّفَاقِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 416 ط بُولاَق، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 331ـ332، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 184.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 90، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 52.(43/227)
الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ (1) وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَدَل عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِهَا، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ وَغَيْرِهِمْ مُلْزِمًا لِلْعَمَل بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلأَِنَّ الْكِتَابَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْمَقْصُودِ فَهِيَ كَاللَّفْظِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اعْتَبَرُوا الْكِتَابَةَ كِنَايَةً فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَا إِلاَّ مَعَ النِّيَّةِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِعْتِرَافِ بِهَا نُطْقًا مِنَ الْوَصِيِّ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْكِتَابَةِ وَالْعَمَل بِهَا أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الْمَكْتُوبَةُ بِخَطِّ الْمُوصِي الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ وَرَثَتِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُعَرِّفُ خَطَّهُ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ.
__________
(1) حَدِيث: (مَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. .) تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف 5.
(2) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 339، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 601، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 36، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 337.(43/228)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ. (1)
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْوَصِيَّةِ بِالإِْشَارَةِ مِنْ مُعْتَقَل اللِّسَانِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِنْ كَانَ الْمُوصِي مُعْتَقَلاً لِسَانُهُ بِإِشَارَةٍ وَلَوْ فُهِمَ، إِلاَّ إِنْ أَيِسَ مِنْ نُطْقِهِ بِأَنْ دَامَتِ الْعُقْلَةُ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ لَوَصِيَّتُهُ تَصِحُّ بِالإِْشَارَةِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (إِشَارَة ف11، صِيغَة ف12) .
أَمَّا الْقَبُول فَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمُرَادِ بِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَبُول الْمَطْلُوبَ: هُوَ عَدَمُ الرَّدِّ، فَيَكْفِي إِمَّا الْقَبُول الصَّرِيحُ، مِثْل: قَبِلْتُ الْوَصِيَّةَ أَوْ رَضِيتُ بِهَا،
__________
(1) الأَْشْبَاه لاِبْنِ نَجِيم ص 343، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 584، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 444، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 52 - 53.
(2) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 344، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 36، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 584 وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336.(43/228)
أَوِ الْقَبُول دَلاَلَةً، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمُوصَى بِهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإِْجَارَةِ.
وَيَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْمُوصَى بِهِ بِالْقَبُول إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي، ثُمَّ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْل الْقَبُول، فَيَدْخُل الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَمَّتْ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ تَمَامًا لاَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا تُوقَفُ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا مَاتَ دَخَل الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فِي أَثْنَاءِ الْخِيَارِ الْمَمْنُوحِ لَهُ قَبْل إِجَازَةِ الْبَيْعِ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْقَبُول بِالْقَوْل أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّضَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِمُعَيَّنٍ، وَلاَ يُكْتَفَى بِعَدَمِ الرَّدِّ، لأَِنَّهُ غَيْرُ الْقَبُول الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّهَا عَطِيَّةٌ صَادَفَتِ الْمُعْطَى مَيِّتًا، فَلَمْ تَصِحَّ. كَمَا لَوْ وَهَبْتَ مَيِّتًا (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ أَنَّ
__________
(1) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 8 / 432 طَبْعَة بُولاَق.
(2) شَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 176ـ177، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 583، وَحَاشِيَة الْجُمَل 4 / 48، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344.(43/229)
الْمُرَادَ بِالْقَبُول الْقَبُول اللَّفْظِيُّ فَلاَ يُكْتَفَى بِالْفِعْل وَهُوَ الأَْخْذُ. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل إِذَا رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي حَالٍ يَمْلِكُ قَبُولَهُ وَأَخْذَهُ، كَتَنَازُل الشَّفِيعِ عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ (2) .
الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول وَالرَّدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ لاَ عِبْرَةَ بِقَبُول الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي، كَمَا لاَ عِبْرَةَ بِرَدِّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُ حَقٌّ. وَلأَِنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لِتَعَلُّقِهَا بِهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْقَبُول قَبْل الْمَوْتِ. (3)
وَقَال زُفَرُ: إِذَا رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ فِي وَجْهِ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْل وُجُوبِهِ كَالشَّفِيعِ قَبْل الْبَيْعِ (4) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَحَاشِيَة الْجُمَل 4 / 48.
(2) شَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 176ـ177، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 583، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344، وَرَوْضَة الْقُضَاة 4 / 682.
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 421، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 427، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 367، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 583، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 142ـ143.
(4) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 681.(43/229)
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ فَوْرًا بَعْدَ الْمَوْتِ بَل هُمَا عَلَى التَّرَاخِي، فَيَجُوزُ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَلَوْ إِلَى مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، لأَِنَّ الْفَوْرَ عُرْفًا إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْعُقُودِ الْمُنْجَزَةِ الَّتِي يَرْتَبِطُ الْقَبُول فِيهَا بِالإِْيجَابِ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْهَا.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْبَل الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلاَ رَدَّ الْوَصِيَّةَ فَلِلْوَارِثِ مُطَالَبَةُ الْمُوصَى لَهُ بِالْقَبُول أَوِ الرَّدِّ فَإِنِ امْتَنَعَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَبَطَل حَقُّهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّهَا إِنَّمَا تَنْتَقِل إِلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْقَبُول وَلَمْ يُوجَدْ. (1)
الرُّجُوعُ عَنِ الْقَبُول:
11 - لِلْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَنِ الْقَبُول ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَوْ قَبِل الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ رَدُّ الْقَبُول قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لَزِمَتْ وَصَحَّتْ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344ـ345، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 90، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 427.(43/230)
وَلَوْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ رَدٌّ وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبَل بَعْدَ هَذَا لأَِنَّ الإِْيجَابَ بَطَل بِالرَّدِّ كَإِيجَابِ الْبَيْعِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الرَّدُّ بَعْدَ الْقَبُول وَقَبْل الْقَبْضِ.
وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْقَوْل وَقَال الأَْذْرُعِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ وَجَرَى عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَاخْتَارَهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ لأَِنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ لِلْمُوصَى بِهِ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَتِمَّ (2) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ رَدُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ بَعْدَ قَبُولِهِ وَقَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (3)
تَجَزُّؤُ الْقَبُول:
12 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَبِل
__________
(1) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 681ـ682، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 583، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 424، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344ـ345، وَالإِْنْصَاف 7 / 205، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 66، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 142.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 66، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 43، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 142، وَالإِْنْصَاف 7 / 105.
(3) الإِْنْصَاف 7 / 105.(43/230)
الْمُوصَى لَهُ بَعْضَ الْمُوصَى بِهِ فِيهِ احْتِمَالاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصِحُّ وَرَجَّحَهُ بَعْضُ الْيَمَانِيِّينَ. وَقَالُوا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ فِيمَا إِذَا قَبِل بَعْضَهُ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ الْمُعَاوَضَةُ فَلَمْ يُغْتَفَرْ فِيهِ مَا اغْتُفِرَ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: أَرْجَحُ الاِحْتِمَالَيْنِ: الْبُطْلاَنُ. (1)
مَنْ يَمْلِكُ الْقَبُول وَالرَّدَّ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ الْقَبُول أَوِ الرَّدَّ إِذَا كَانَ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ رَشِيدًا، لأَِنَّهُ صَاحِبُ الْوِلاَيَةِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ أَوِ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ الْمَحْصُورِينَ كَالْفُقَهَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَوُجُوهِ الْقُرْبِ كَالْمَسَاجِدِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ وَلاَ رَدٍّ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْوَصِيَّةُ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُوصِي، لأَِنَّ اعْتِبَارَ الْقَبُول مِنْهُمْ مُتَعَذِّرٌ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ كَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَاحِدًا كَزَيْدٍ، أَوْ جَمْعًا مَحْصُورًا كَأَوْلاَدِ عَمْرٍو، فَلاَ بُدَّ مِنَ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 43.(43/231)
الْقَبُول أَوْ عَدَمِ الرَّدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكُ مَالٍ فَاعْتُبِرَ قَبُولُهُ كَالْهِبَةِ (1) .
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَيَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ فَيَفْعَل مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَإِنْ فَعَل الْوَلِيُّ غَيْرَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي قَبُول الْوَصِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ وَكَانَ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنِ امْتَنَعَ وَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ قَبُول الْوَصِيَّةِ وَكَانَ الْحَظُّ لَهُ فِيهِ فَالْمُتَّجِهُ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْبَل وَلاَ يَحْكُمُ بِالرَّدِّ. (2)
(ر: إِيصَاء ف14، صِغَر ف 41) .
مَوْتُ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ:
14 - لِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ أَحْوَالٌ:
إِمَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ مَعَ مَوْتِهِ، فَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِلاَ قَبُولٍ وَلاَ رَدٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ
__________
(1) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 68، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 416، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 585، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 53، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344.
(2) رَوْضَة الْقُضَاة 1 / 180، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 459ـ460، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53ـ54، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 66.(43/231)
الْوَصِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ غَيْرَ زُفَرَ: أَنَّ مَوْتَ الْمُوصَى لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَبُولٌ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْل زُفَرَ وَأَبِي حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَال عَنْهُ الْقَاضِي هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ: يَكُونُ الْمُوصَى بِهِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لأَِنَّ تَمَامَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبُول وَقَدْ فَاتَ الْقَبُول. (1)
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ وَرَثَةَ الْمُوصَى لَهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي رَدِّ الْوَصِيَّةِ وَقَبُولِهَا، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْمُوَرَّثِ فَيُنْقَل إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (2) ، وَكَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَا عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَمْ تَبْطُل بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ. (3)
__________
(1) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 682، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 421، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 6 / 23 - 24.
(2) حَدِيث: " مَنْ تَرَكَ مَالاَ فَلِوَرَثَتِهِ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 9 / 7) وَمُسْلِم (3 / 1237) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(3) الدُّسُوقِيّ 4 / 424، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 583، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 54، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 6 / 23ـ24، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 344، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 459.(43/232)
تَعْلِيقُ الْوَصِيَّةِ عَلَى شَرْطٍ وَإِضَافَتُهَا لِلْمُسْتَقْبَل:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَصِيَّةِ عَلَى شَرْطٍ وَإِضَافَتِهَا لِلْمُسْتَقْبَل.
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِثْبَاتُ الْخِلاَفَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ (1) ، فَإِذَا قَال الْعَبْدُ أَوِ الْمَكَاتَبُ إِذَا أُعْتِقْتُ فَثُلُثُ مَالِي وَصِيَّةٌ يَصِحُّ. (2)
وَإِنْ قَال الدَّائِنُ لِمَدْيُونِهِ إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ دَيْنِيَ الَّذِي عَلَيْكَ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَلَوْ قَال: إِنْ مِتُّ لاَ يَبْرَأُ لِلْمُخَاطَرَةِ. (3)
وَقَالُوا: الإِْيصَاءُ وَالْوَصِيَّةُ لاَ يَكُونَانِ إِلاَّ مُضَافَيْنِ. (4)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ قَال الْمُوصِي فِي صِيغَةِ وَصِيَّتِهِ إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا، أَوْ إِنْ مِتُّ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَلِفُلاَنٍ كَذَا وَلَمْ يَمُتْ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ فَتَبْطُل، لأَِنَّهُ عَلَّقَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الْمَوْتِ فِيهِمَا وَلَمْ يَحْصُل.
وَمَحَل بُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكْتُبْهَا فِي كِتَابٍ
__________
(1) الْفَتَاوَى البزازية بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 437.
(2) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 432.
(3) الدَّرّ الْمُخْتَار 5 / 427.
(4) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 148.(43/232)
وَأَخْرَجَهُ وَلَمْ يَسْتَرِدَّهُ، فَإِنْ كَتَبَهَا وَأَخْرَجَهُ وَلَمْ يَسْتَرِدَّهُ وَلَمْ يَمُتْ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَبْطُل. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْوَصِيَّةِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ، لأَِنَّهَا تَجُوزُ فِي الْمَجْهُول فَجَازَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، لأَِنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْوَصِيَّةِ كَحَال الْحَيَاةِ. فَإِذَا جَازَ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ جَازَ بَعْدَ الْمَوْتِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَلَّقَ الْوَصِيَّةَ عَلَى صِفَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ يَرْتَقِبُ وُقُوعَهَا كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِكَذَا إِذَا مَرَّ شَهْرٌ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ، أَوْ قَال: وَصَّيْتُ لِفُلاَنَةَ بِكَذَا إِذَا وَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ التَّعْلِيقُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (3) وَثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ تَعْلِيقُهَا، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَتَأَثَّرُ بِالْفَوْرِ فَأَوْلَى أَنْ لاَ تَتَأَثَّرَ بِالتَّعْلِيقِ لِوُضُوحِ الأَْمْرِ وَقِلَّةِ الْغَرَرِ.
فَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ لاَ يُرْتَقَبُ وُقُوعُهَا بَعْدَ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 587ـ588.
(2) الْمُهَذَّب مَعَ تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ 14 / 339.
(3) حَدِيث: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 626 ط الْحَلَبِيّ) فِي حَدِيثِ عَمْرو بْن عَوْف الْمُزَنِيّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(43/233)
الْمَوْتِ فَقَدْ قَال الْبُهُوتِيُّ: فِي التَّعْلِيقِ عَلَيْهَا نَظَرٌ، وَالأَْوْلَى عَدَمُ جَوَازِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارِ الْوَرَثَةِ بِطُول الاِنْتِظَارِ لاَ إِلَى أَمَدٍ يُعْلَمُ. (1)
صِفَةُ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهَا:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُوصِي فِي حَال حَيَاتِهِ الرُّجُوعُ عَنْهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، سَوَاءٌ وَقَعَتْ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ فِي حَال صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، " لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُغَيِّرُ الرَّجُل مَا شَاءَ فِي وَصِيَّتِهِ " (2) ، وَلأَِنَّهَا عَطِيَّةٌ أَوْ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ، يُنْجَزُ بِالْمَوْتِ، فَجَازَ الرُّجُوعُ عَنْهَا قَبْل تَنْجِيزِهَا كَالْهِبَةِ، وَلأَِنَّ الْقَبُول يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالإِْيجَابُ يَصِحُّ إِبْطَالُهُ قَبْل الْقَبُول، كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ إِمَّا بِالْقَوْل أَوْ بِالدَّلاَلَةِ.
وَالرُّجُوعُ بِالْقَوْل مِثْل أَنْ يَقُول الْمُوصِي: نَقَضْتُ الْوَصِيَّةَ أَوْ أَبْطَلْتُهَا أَوْ رَجَعْتُ فِيهَا، أَوْ فَسَخْتُهَا أَوْ أَزَلْتُهَا، أَوْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، أَوْ هَذَا لِوَارِثِي وَنَحْوَ ذَلِكَ.
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 351.
(2) أَثَر عُمَر: يُغَيِّرُ الرَّجُل مَا شَاءَ فِي وَصِيَّتِهِ أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي الْمُصَنَّفِ (9 / 71 ط الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ) .(43/233)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا قَال الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ لاَ رُجُوعَ لَهُ فِيهَا فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل بِالرُّجُوعِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَيْهَا.
وَالرُّجُوعُ بِالدَّلاَلَةِ يَكُونُ بِالْفِعْل كَأَنْ يَقُومَ الْمُوصِي بِتَصَرُّفٍ فِي الْمُوصَى بِهِ يَدُل عَلَى رُجُوعِهِ كَالْبَيْعِ، وَالإِْصْدَاقِ، وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ مَعَ قَبْضٍ أَمْ لاَ، وَاسْتِهْلاَكِ الشَّيْءِ كَذَبْحِ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا، وَخَلْطِ الْمُوصَى بِهِ بِغَيْرِهِ خَلْطًا يَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ، وَطَحْنِ حِنْطَةٍ وَعَجْنِ دَقِيقٍ وَغَزْل قُطْنٍ وَنَسْجِ غَزْلٍ، وَقَطْعِ ثَوْبٍ قَمِيصًا، وَصَوْغِ مَعْدِنٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَبِنَاءٍ وَغِرَاسٍ فِي سَاحَةٍ. (1)
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِهِ يُفْتَى - وَعَلَيْهِ الْمُتُونُ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ لأَِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَبْقَ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ مَعَ حَاشِيَة الشلبي 6 / 186 وَمَا بَعْدَهَا، وَتَكْمِلَة فَتْحِ الْقَدِير 8 / 438ـ441، وَالدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 465 وَمَا بَعْدَهَا، وَاللُّبَاب مَعَ الْكِتَابِ 4 / 178 وَمَا بَعْدَهَا، وَرَوْضَة الْقُضَاة 2 / 708 - 710، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 9 / 369، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 587، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 71ـ72، وَالْمُهَذَّب 1 / 468 وَمَا بَعْدَهَا، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 348 وَمَا بَعْدَهَا، وَالْمُغْنِي 6 / 67 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْنْصَاف 6 / 211 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 460 وَمَا بَعْدَهَا.(43/234)
وُجُودِهِ وَجُحُودَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَبْقَ عَدَمِهِ إِذِ الْجُحُودُ نَفْيٌ لأَِصْل الْعَقْدِ فَلَوْ كَانَ الْجُحُودُ رُجُوعًا انْتَفَى وُجُودُ الْوَصِيَّةِ وَعَدَمُهَا فِيمَا سَبَقَ وَهُوَ مُحَالٌ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ قَال عَنْهُ فِي الْعُيُونِ إِنَّ عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ قَدَّمَهُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ صَحَّحَهُ فِي النَّظْمِ أَنَّ جُحُودَ الْوَصِيَّةِ رُجُوعٌ.
وَقَال الرَّافِعِيُّ: يُقَاسُ جُحُودُ الْوَصِيَّةِ عَلَى جَحْدِ الْوَكَالَةِ فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِغَرَضٍ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، فَإِنْ كَانَ الْجُحُودُ لِغَرَضٍ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ فَيَكُونُ رُجُوعًا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. (2)
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُوصِي: 17 - الْمُوصِي مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوصِي مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ: وَيَكُونُ أَهْلاً
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 436 ط الْبَابِيّ الْحَلَبِيّ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 71، وَالْمُغْنِي 6 / 68، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 64، وَالإِْنْصَاف 6 / 213، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 463.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.(43/234)
لِلتَّبَرُّعِ عِنْدَ تَوَافُرِ مَا يَلِي: أ - الْعَقْل وَالْبُلُوغُ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْل، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ عِبَارَتَهُمْ مُلْغَاةٌ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، إِذْ هِيَ تَبَرُّعٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَال التِّجَارَةِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ، لأَِنَّ " عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ صَبِيٍّ مِنْ غَسَّانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْصَى لأَِخْوَالِهِ " (1) ، وَلأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ، لأَِنَّ الْمَال سَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ، كَكُل مُوصٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُمَيِّزَ الَّذِي تَصِحُّ
__________
(1) أَثَر عُمَر " أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّة صَبِيّ فِي غَسَّان " أَخْرَجَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأِ (2 / 762 ط الْحَلَبِيّ) وَالْبَيْهَقِيّ (6 / 282 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَأَعُلْهُ بِالاِنْقِطَاعِ بَيْنَ عُمَر وَالرَّاوِي عَنْهُ.(43/235)
وَصِيَّتُهُ هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَأَقَل مِمَّا يُقَارِبُهَا إِذَا أَصَابَ وَجْهَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِلاَطٌ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ مُمَيِّزٍ عَاقِلٍ لِلْوَصِيَّةِ.
وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: إِذَا جَاوَزَ الصَّبِيُّ الْعَشْرَ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَلاَ تَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ، وَفِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ رِوَايَتَانِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَصِحُّ. (2)
وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَتْ بِالْقُرْبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ، مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَاعْتَبَرُوا جَوَازَ الْوَصِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ الاِسْتِحْسَانِ قَالُوا: وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ كَيْلاَ يُتْلِفَ مَالَهُ وَيَبْقَى كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لاَ فِيمَا يَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَال اسْتِغْنَائِهِ وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَتْ وَصِيَّتُهُ وَصَايَا أَهْل الْخَيْرِ وَالصَّلاَحِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ أَوْ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي عَلَيْهِ 4 / 580.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336، وَالإِْنْصَاف 7 / 185، وَالْمُغْنِي 6 / 101.(43/235)
لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَتَبَرُّعَاتِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْقَوْل الْمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُبَاحٍ لاَ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَصِيَّةِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وُوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةَ وَصِيَّةِ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لأَِنَّ سُكْرَهُ بِمُحَرَّمٍ لاَ يُبْطِل تَكْلِيفَهُ فَتَلْزَمُهُ الأَْحْكَامُ.
الثَّانِي: يَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ عَاقِلٍ أَشْبَهَ الْمَجْنُونَ.
الثَّالِثُ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّةَ السَّكْرَانِ الْمُمَيِّزِ صَحِيحَةٌ أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ حَال الإِْيصَاءِ
__________
(1) اللُّبَاب 2 / 71، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 94، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 580، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 443، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 4، وَالإِْنْصَاف 6 / 185.(43/236)
فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ. (1)
ب - الْحُرِّيَّةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ، لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ (2) .
ج - الرِّضَا وَالاِخْتِيَارُ ج - أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي رَاضِيًا مُخْتَارًا لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ إِيجَابُ مِلْكٍ، فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الرِّضَا، كَإِيجَابِ الْمِلْكِ بِسَائِرِ الأَْشْيَاءِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِل وَالْمُخْطِئِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُفَوِّتُ الرِّضَا. (3)
وَصَايَا غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ 21 - لاَ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الْمُوصِي لِصِحَّةِ
__________
(1) الْحَموِي مَعَ الأَْشْبَاهِ 2 / 151، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 580، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، 279، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 444، وَالإِْنْصَاف 7 / 187، وَالْمُغْنِي 6 / 302، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 336.
(2) الاِخْتِيَار 5 / 64، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 580، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 4 / 443 - 444.
(3) الْبَدَائِع 7 / 335، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 7، 3 / 39، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 548ـ550.(43/236)
الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا وَلَوْ كَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ صِحَّةَ وَصِيَّةِ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ لاَ يَمُوتَ أَوْ يُقْتَل كَافِرًا لأَِنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُرْتَدِّ فِي حَال رِدَّتِهِ بَاطِلَةٌ. (1)
وَيَتَوَقَّفُ مِنْ وَصَايَا الْمُرْتَدِّ مَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَيَبْطُل مَا لاَ يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ لِلْحَال فَيَصِحُّ مِنْهُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ انْتَقَل إِلَيْهِمْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ، مَعْصِيَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا.
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ وَصَايَاهَا مَا يَصِحُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمْ. (2)
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 131، وَالْخَرَشِيّ 8 / 168 وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 39، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 352 - 353، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 6 / 185.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 131 - 132.(43/237)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَأَمَّا إِسْلاَمُ الْمُوصِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِالْمَال لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْجُمْلَةِ لأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إِذَا أَوْصَى لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَخَل وَارِثُهُ مَعَهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وُقِفَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ وَارِثِهِ لأَِنَّهُ بِالدُّخُول مُسْتَأْمَنًا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ أَوْ أَلْزَمَهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ لإِِمْكَانِ إِجْرَاءِ الأَْحْكَامِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَمِنْ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِمَّنْ لَهُ وَارِثٌ تَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ وَارِثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَال كَمَا فِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَكِنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لأَِنَّ امْتِنَاعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ لأَِنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلأَِنْ لاَ يَكُونَ لِحَقِّهِمُ الَّذِي فِي مَال مُورِّثِهِمْ عِصْمَةٌ أَوْلَى.
وَذَكَرَ فِي الأَْصْل: لَوْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْل الدَّارِ أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ثُمَّ اخْتَصَمَا إِلَيْنَا فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدِ اسْتُهْلِكَتْ مِنْ(43/237)
قَبْل الإِْسْلاَمِ أَبْطَلْتُهَا لأَِنَّ الْحَرْبِيَّ مِنْ أَهْل التَّمْلِيكِ، أَلاَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ أَهْل سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا وِلاَيَةُ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ وَتَنْفِيذِهَا فِي دَارِهِمْ فَإِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً قَدَرْنَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَنُنَفِّذُهَا مَا دَامَ الْمُوصَى بِهِ قَائِمًا، فَأَمَّا إِذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْعَدَمِ لأَِنَّ أَهْل الْحَرْبِ إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً لاَ يُؤْخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَل يَبْطُل ذَلِكَ، كَذَا هَذَا. (1)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُوصَى لَهُ 22 - الْمُوصَى لَهُ مَنْ تَبَرَّعَ لَهُ الْمُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى لَهُ مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا (حِينَ الْوَصِيَّةِ) عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَى هَذَا إِذَا قَال:
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 335.(43/238)
أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلاَنَةَ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَال الْوَصِيَّةِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَبَكْرٍ، وَبَكْرٌ مَيِّتٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لاَ يَعْلَمُ، أَوْ لِزَيْدٍ وَبَكْرٍ إِنْ كَانَ حَيًّا وَهُوَ مَيِّتٌ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، أَوْ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، أَوْ لَهُ وَلِوَلَدِ بَكْرٍ فَمَاتَ وَلَدُهُ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ لَهُ وَلِفُقَرَاءِ وَلَدِهِ، أَوْ لِمَنِ افْتَقَرَ مِنْ وَلَدِهِ وَفَاتَ شَرْطُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَلِزَيْدٍ كُلُّهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، لأَِنَّ الْمَعْدُومَ أَوِ الْمَيِّتَ لاَ يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا فَلَمْ تَثْبُتِ الْمُزَاحَمَةُ لِزَيْدٍ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَزِيدٍ وَجِدَارٍ، وَكَذَا الْعَقِبُ لأَِنَّ الْعَقِبَ مَنْ يَعْقُبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ مَعْدُومًا فِي الْحَال. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا حَال الْوَصِيَّةِ وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ سَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ مَوْجُودٍ أَوْ سَيُوجَدُ فَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَل صَارِخًا.
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 335، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 105، الإِْنْصَاف 7 / 231، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 30، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 100.(43/238)
وَجَزَمَ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْمَعْدُومِ. (1)
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ أَهْلاً لِلتَّمَلُّكِ:
24 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنُ حَال الْوَصِيَّةِ أَهْلاً لِلتَّمَلُّكِ.
وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسَائِل مِنْهَا:
أ - الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ 25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى لِمَيِّتٍ وَلاَ يَعْلَمُ الْمُوصِي حِينَ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّمَلُّكِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي حَال الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَيِّتٌ فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْوَصِيَّةَ وَيُصْرَفُ الشَّيْءُ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَهُمْ لِلْمَيِّتِ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلاَّ فَلِوَارِثِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلاَ وَارِثَ لَهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ وَلاَ يَأْخُذُهَا بَيْتُ الْمَال. (2)
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 581 - 582، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 100، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40، وَالإِْنْصَاف 7 / 231.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 105، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 116، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 365، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 581 - 582.(43/239)
ب - الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْل:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَمْل إِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَال الْوَصِيَّةِ لأَِنَّ الْحَمْل يَرِثُ وَالْوَصِيَّةُ كَالْمِيرَاثِ وَيُعْلَمُ كَوْنُ الْحَمْل مَوْجُودًا بِأَنْ يُولَدَ حَيًّا لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ، لأَِنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ حَيًّا لأَِقَل مِنْهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حِينَهَا. أَوْ تَضَعُهُ لأَِقَل مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الأُْمُّ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ وَلِسَنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمُوصِي بِأَنَّهَا حَامِلٌ فَتَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ لَهُ إِنْ وَضَعَتْهُ مَا بَيْنَ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ أَوْصَى، لأَِنَّ وُجُودَهُ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُوصِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لأَِنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الإِْقْرَارِ وَهُوَ الثُّلُثُ فَيَلْحَقُ بِمَا لَوْ صَارَ مَعْلُومًا يَقِينًا بِأَنْ وَضَعَتْهُ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنِ انْفَصَل الْحَمْل مَيِّتًا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ (1) .
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 418، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ الدُّسُوقِيّ 4 / 423، مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 99 - 100، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 30 - 31، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 356.(43/239)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ لِلْمُوصَى لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْوَصِيَّةِ، أَمْ مُنْتَظَرَ الْوُجُودِ كَالْحَمْل، وَتَصِحُّ لِمَنْ سَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ مَوْجُودٍ أَوْ سَيُوجَدُ إِنِ اسْتَهَل صَارِخًا وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَدُل عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، لَكِنْ فِي قَوْلٍ: لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ غَلَّةِ الْمُوصَى بِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا، فَتَكُونُ الْغَلَّةُ لِوَارِثِ الْمُوصِي.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ: تُوقَفُ وَتُدْفَعُ لِلْمُوصَى لَهُ إِذَا اسْتَهَل كَالْمُوصَى بِهِ، وَيُوَزَّعُ الشَّيْءُ الْمُوصَى بِهِ لِمَنْ سَيَكُونُ إِنْ وَلَدَتْ لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، بِحَسَبِ الْعَدَدِ، أَيْ إِنَّ الذَّكَرَ كَالأُْنْثَى عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، فَإِنْ نَصَّ الْمُوصِي عَلَى تَفْضِيلٍ عُمِل بِهِ. (1)
ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا غَيْرَ مَجْهُولٍ أَيْ مُعَيَّنًا بِشَخْصِهِ كَزَيْدٍ أَوْ بِنَوْعِهِ كَالْمَسَاكِينِ.
وَفَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسَائِل مِنْهَا:
أ - الْوَصِيَّةُ لِمُبْهَمٍ:
28 - لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لأَِحَدِ هَذَيْنِ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير 4 / 423، وَالشَّرْح الصَّغِير 4 / 581 - 582.(43/240)
الرَّجُلَيْنِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنِ اصْطَلَحَا فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا.
وَقَال مُحَمَّدٌ: الْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهُمَا شَاءُوا. (1)
ب - الْوَصِيَّةُ لِجَمَاعَةٍ:
29 - لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِجَمَاعَةٍ لاَ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ كَالْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ التَّعْمِيمِ مِنْ عَدَمِهِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ وَلاَ التَّسْوِيَةُ، وَيُعْطَوْنَ بِالاِجْتِهَادِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الأَْظْهَرِ يُجْزِئُ دَفْعُ الْوَصِيَّةِ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْهُمْ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُجْزِئُ الدَّفْعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 416، وَرَوْضَة الْقُضَاة 2 / 698 - 699، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 416، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 357، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40.(43/240)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِقَبِيلَةٍ لاَ تُحْصَى كَتَمِيمٍ وَعَقِيلٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إِذْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا أَمَّا إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ صَحَّتِ التَّوْصِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ إِلَى مُجَاوِرِي مَكَّةَ إِنْ لاَ يُحْصَوْنَ يُصْرَفُ إِلَى مُحْتَاجِهِمْ وَإِنْ يُحْصَوْنَ يُقَسَّمُ عَلَى رُءُوسِهِمْ. (1)
قَال الْكَاسَانِيُّ: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الإِْحْصَاءِ.
فَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا لاَ يُحْصَوْنَ إِلاَّ بِكِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ فَهُمْ لاَ يُحْصَوْنَ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ فَهُمْ لاَ يُحْصَوْنَ.
وَقِيل: إِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لاَ يُحْصِيهِمْ مُحْصٍ حَتَّى يُولَدَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ وَيَمُوتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَهُمْ لاَ يُحْصَوْنَ.
وَقِيل: يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (2)
__________
(1) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 699، وَالْفَتَاوِي البزازية بِهَامِش الْهِنْدِيَّة 6 / 438، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 416، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 434. وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40، 62 - 63، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 43، وَالْمُغْنِي 6 / 56.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 342.(43/241)
ج - الْوَصِيَّةُ لِدَابَّةٍ: 30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِذَاتِ الدَّابَّةِ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ، سَوَاءٌ قَصَدَ تَمْلِيكَهَا أَوْ أَطْلَقَ.
أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِمَالٍ لِعَلَفِ دَابَّةِ فُلاَنٍ جَازَ وَتَكُونُ وَصِيَّةً لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَيَصْرِفُهَا فِي عَلَفِهَا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِدَابَّةٍ وَقَال: يُصْرَفُ فِي عَلَفِهَا فَالْمَنْقُول صِحَّتُهَا وَيُشْتَرَطُ قَبُول مَالِكِ الدَّابَّةِ.
وَإِذَا أَوْصَى بِمَالٍ لِفَرَسِ فُلاَنٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا صَاحِبُ الْفَرَسِ وَيُصْرَفُ فِي عَلَفِهِ رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي، فَإِنْ مَاتَ الْفَرَسُ قَبْل إِنْفَاقِ الْكُل عَلَيْهِ فَالْبَاقِي لِوَرَثَةِ الْمُوصِي لاَ لِمَالِكِ الْفَرَسِ لأَِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَهِيَ الصَّرْفُ فِي مَصْلَحَةِ دَابَّتِهِ رِعَايَةً لِقَصْدِ الْمُوصِي.
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَبُول صَاحِبِ الدَّابَّةِ لِلْوَصِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مِمَّنْ تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةُ الْمُوصِي.(43/241)
وَقَالُوا: تُرَدُّ الْوَصِيَّةُ بِرَدِّ الْمُوصَى لَهُ وَبِمَوْتِهِ قَبْل الْمُوصِي (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِفَرَسٍ حَبِيسٍ مَا لَمْ يُرِدِ الْمُوصِي تَمْلِيكَهُ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ تَمْلِيكَهُ فَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ حِينَئِذٍ لاِسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِهِ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: يُنْفَقُ الْمُوصَى بِهِ لِلْفَرَسِ الْحَبِيسِ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ، فَإِنْ مَاتَ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ رُدَّ الْمُوصَى بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أُنْفِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ رُدَّ بَاقِيهِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لأَِنَّهُ لاَ مَصْرِفَ لَهُ.
وَإِنْ شَرَدَ الْفَرَسُ الْمُوصَى لَهُ أَوْ سُرِقَ أَوْ غُصِبَ انْتُظِرَ عَوْدُهُ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْعَوْدِ رُدَّ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ إِذْ لاَ مَصْرِفَ لَهُ (2) .
د - الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ:
31 - وَصِيَّةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعِتْقِهِ أَوْ بِمَالٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَال لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمُشَاعٍ أَوْ بِمُعَيَّنٍ كَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ لِعَبْدِهِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 425، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 426، وجواهر الإِْكْلِيل 2 / 317، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 42، وكشاف الْقِنَاع 4 / 365، والإنصاف 6 / 246
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 42، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 32، وكشاف الْقِنَاع 4 / 365(43/242)
الْمَمْلُوكِ وَقَدْ تَكُونُ لِعَبْدِ غَيْرِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِقّ ف 106) .
هـ - الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مُسْلِمٍ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَعِمَارَةِ مَسْجِدٍ إِنْشَاءً وَتَرْمِيمًا لأَِنَّهَا قُرْبَةٌ.
وَفِي مَعْنَى الْمَسْجِدِ الْمَدْرَسَةُ وَالرِّبَاطُ الْمُسْبَل وَالْخَانِقَاهُ وَالْقَنْطَرَةُ وَالسِّقَايَةُ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ الْقُرْبَةُ، فَيَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ مُبَاحَةٍ كَالْوَصِيَّةِ لِلأَْغْنِيَاءِ مَثَلاً (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ لِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ أَوْ بِيعَةٍ لاَ تَجُوزُ لأَِنَّهَا مَعْصِيَةٌ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 40 - 42، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 30، وكشاف الْقِنَاع 4 / 359، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 422 والبدائع 7 / 341، وروضة الْقُضَاة 2 / 680
(2) أَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 30، والدسوقي 4 / 422، والإنصاف 7 / 237، وكشاف الْقِنَاع 4 / 360، ومواهب الْجَلِيل 6 / 365(43/242)
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْكَنِيسَةِ أَوْ لِلْبِيعَةِ وَقَالُوا:
لَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلاَحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةٌ جَازَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لاَ يَجُوزُ.
وَجُمْلَةُ الْكَلاَمِ فِي وَصَايَا أَهْل الذِّمَّةِ أَنَّهَا لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَوْ يَكُونَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا لاَ عِنْدَهُمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لاَ عِنْدَنَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ أَوْ بِعِتْقِ الرِّقَابِ أَوْ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْل الذِّمَّةِ.(43/243)
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَوْ أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لاَ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَكَانَ مُسْتَهْزِئًا فِي وَصِيَّتِهِ وَالْوَصِيَّةُ يُبْطِلُهَا الْهَزْل.
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لاَ عِنْدَنَا بِأَنْ أَوْصَى بِأَرْضٍ لَهُ تُبْنَى بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بِعِمَارَةِ الْبِيعَةِ أَوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ النَّارِ أَوْ بِالذَّبْحِ لِعِيدِهِمْ أَوْ لِلْبِيعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً فَهُوَ عَلَى الاِخْتِلاَفِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا لاَ يَجُوزُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لاَ تَصِحُّ، وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وَصِيَّتِهِمْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لاَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ كَالْحَجِّ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَل أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لاَ نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِيمَا يَدِينُونَ كَمَا لاَ نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ (1) .
و الْوَصِيَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى 32 م - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَتُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَبِقَوْل مُحَمَّدٍ يُفْتَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 341(43/243)
ز - الْوَصِيَّةُ فِي سَبِيل اللَّهِ: 22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى. يُصْرَفُ فِي الْغَزْوِ؛ لأَِنَّهُ الْمَفْهُومُ شَرْعًا وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْحَجِّ أَيْضًا قَال مُحَمَّدٌ: لَوْ أَعْطَى حَاجًّا مُنْقَطِعًا جَازَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْغَزْوِ.
ح - الْوَصِيَّةُ لأَِعْمَال الْبِرِّ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ. 33 م - لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لأَِعْمَال الْبِرِّ قَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: يُصْرَفُ فِي الْقُرَبِ كُلِّهَا وَيُبْدَأُ بِالْغَزْوِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ أَنَّ كُل مَا لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ فَهُوَ مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ، حَتَّى يَجُوزَ صَرْفُهُ إِلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَسِرَاجِهِ، دُونَ تَزْيِينِهِ، وَلاَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى بِنَاءِ السُّجُونِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى أَقَارِبِ الْمُوصِي، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَإِلَى أَهْل الزَّكَاةِ، وَقَال فِي التَّهْذِيبِ: يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مَا(43/244)
فِيهِ صَلاَحُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، وَإِصْلاَحِ الْقَنَاطِرِ وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهَا.
وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ وَيُصْرَفُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ، أَوْ بِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ.
وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى إِلَى جِهَةِ الْخَيْرِ، تُصْرَفُ عَلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَلاَ يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلاَ رِبَاطٌ، وَإِنْ أَوْصَى إِلَى جِهَةِ الثَّوَابِ صُرِفَ إِلَى أَقَارِبِهِ.
وَلَوْ قَال: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَال الْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ، وَالأَْفْضَل صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ رَأَيْتَ أَوْ فِيمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَالأَْوْلَى صَرْفُهُ إِلَى أَقَارِبِ الْمُوصِي الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَهُ ثُمَّ إِلَى مَحَارِمِهِ مِنَ الرِّضَاعِ ثُمَّ إِلَى جِيرَانِهِ وَلَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ (1) .
رَابِعًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلاً لِلْمُوصِي. 34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ قَاتِلٍ لِلْمُوصِي:
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 97، وروضة الْقُضَاة 2 / 680، والمبسوط 27 / 189، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 61 - 62، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 172، 5 / 320 - 321، وكشاف الْقِنَاع 4 / 359، والإنصاف 7 / 236(43/244)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوصَى لَهُ أَنْ لاَ يَكُونَ قَاتِلاً لِلْمُوصِي، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِقَاتِلٍ وَصِيَّةٌ " (1) .
وَلأَِنَّ الْقَتْل يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَمُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، لِقَاعِدَةِ مَنِ اسْتَعْجَل شَيْئًا قَبْل أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.
وَالْقَتْل الْمَانِعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْقَتْل الْمَضْمُونُ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَلَوْ كَانَ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْل مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ فِي الْقَتْل الْمَانِعِ مِنَ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيل الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمُبَاشَرَةِ فَلاَ يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ وَالإِْرْثَ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُوصِي وَارِثٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
كَمَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْقَاتِل أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ
__________
(1) حَدِيث: " لَيْسَ لِقَاتِل وَصِيَّةٍ " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (4 / 237 ط دَارَ الْمَحَاسِن) مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، ثُمَّ قَال الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَحَدِ رُوَاته: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، يَضَعُ الْحَدِيث(43/245)
صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.
وَلاَ يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ قَبْل الْجُرْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ الْمُوصِي بَعْدَ الْجُرْحِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوِ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ فِي قَتْل رَجُلٍ فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَصِحَّ؛ لأََنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَال حِينَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَتْ وَصِيَّةً لِقَاتِلِهِ فَلَمْ تَصِحَّ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ فَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ لَمْ تَبْطُل وَصِيَّتُهُ، لأَِنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا مَا يُبْطِلُهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَقَدَّمَتْ فَإِنَّ الْقَتْل طَرَأَ عَلَيْهَا فَأَبْطَلَهَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ قَاتِلٍ لِلْمُوصِي سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ خَطَأً لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 339، وروضة الْقُضَاة 2 / 685، حاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 416، والإنصاف 7 / 232 - 233، وكشاف الْقِنَاع 4 / 358، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 358(43/245)
فَأَشْبَهَتِ الْهِبَةَ وَخَالَفَتِ الإِْرْثَ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: صَحَّ الإِْيصَاءُ مِنْ مَقْتُولٍ إِلَى قَاتِلِهِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً إِذَا عَلِمَ الْمُوصِي بِسَبَبِ الْقَتْل، بِأَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي بِالسَّبَبِ بِحَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ ضَارِبَهُ فَأَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ فَتَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الضَّرْبِ فَلاَ يُتَّهَمُ الْمُوصَى لَهُ بِالاِسْتِعْجَال.
وَالآْخَرُ: عَدَمُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّ الْمُوصِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَاتِل لَهُ لَمْ يُوصِ لَهُ؛ لأََنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُحْسِنُ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: الظَّاهِرُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ.
وَلاَ يَدْخُل فِي التَّأْوِيلَيْنِ: أَعْطُوا مَنْ قَتَلَنِي لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ اتِّفَاقًا.
وَقَالُوا: تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي الْخَطَأِ فِي الْمَال وَالدِّيَةِ وَفِي الْعَمْدِ تَكُونُ فِي الْمَال فَقَطْ إِلاَّ أَنْ يَنْفُذَ مَقْتَلُهُ وَيَقْبَل وَارِثُهُ الدِّيَةَ وَيَعْلَمَ الْمَقْتُول فِيهَا فَتَكُونُ فِي الدِّيَةِ أَيْضًا (1) .
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 4 / 426، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 32، والإنصاف 7 / 232 ـ 233(43/246)
خَامِسًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثًا لِلْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ آخَرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " (1) .
وَقَوْلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ " (2) وَلأَِنَّ فِي إِيثَارِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الآْخَرِينَ ضَرَرًا يُؤَدِّي إِلَى الشِّقَاقِ وَالنِّزَاعِ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَإِثَارَةِ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ.
وَمَعْنَى الأَْحَادِيثِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لاَ تَنْفُذُ مَهْمَا كَانَ مِقْدَارُ الْمُوصَى بِهِ، إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
36 - فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُل ذِي حَقِّ حَقِّهِ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 433 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وحسنه ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (3 / 92 ط شَرِكَة الطِّبَاعَةِ الْفَنِّيَّةِ)
(2) حَدِيث: " لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِث. . . . " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (4 / 98 ط دَارَ الْمَحَاسِن) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، ورجح ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (3 / 92 ط شَرِكَة الطِّبَاعَةِ الْفَنِّيَّةِ) إِرْسَاله(43/246)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ لِحَدِيثِ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ " (1) .
وَلأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَصَحَّ كَمَا لَوْ أَوْصَى لأَِجْنَبِيٍّ. .
وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، جَازَتْ فِي حِصَّةِ الْمُجِيزِ، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ؛ لِوِلاَيَةِ الْمُجِيزِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِحَدِيثِ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " (3) فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْوَارِثِ، فَعَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْهُمْ، لاَ تَنْفِيذٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي فَلاَ بُدَّ مِنْ قَبُول الْمُوصَى لَهُ ثَانِيًا بَعْدَ الإِْجَازَةِ، وَأَمَّا الْقَبُول الأَْوَّل فَهُوَ كَالْعَدَمِ (4) .
__________
(1) حَدِيث: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (4 / 98 ط الْمَحَاسِن) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، وقال ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (3 / 92) : إِسْنَادُهُ وَاهٍ
(2) الْبَدَائِع 7 / 337، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 182 - 183، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 427 والقوانين الْفِقْهِيَّة ص411، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 6 / 6
(3) حَدِيث: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف (7)
(4) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 427 والقوانين الْفِقْهِيَّة ص411، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 6 / 6(43/247)
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْجَازَةِ شَرْطَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ: بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ عَتَهٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ فَلاَ تَصِحُّ الإِْجَازَةُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ وَلاَ مِنْ وَلِيِّهِمْ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِالْمُوصَى بِهِ، فَلاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ إِجَازَةُ وَارِثٍ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي (1) .
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الإِْجَازَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: فَلاَ عِبْرَةَ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ حَال حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَوْ أَجَازُوهَا حَال حَيَاتِهِ، ثُمَّ رَدُّوهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، صَحَّ الرَّدُّ وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَوْصَى شَخْصٌ لِوَارِثٍ، أَوْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، فَلِبَقِيَّةِ
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير: 10 / 422 وَمَا بَعْدَهَا، فتح الْعَلِيّ الْمَالِك 1 / 322 وَمَا بَعْدَهَا، القوانين الْفِقْهِيَّة ص406، كفاية الأَْخْيَار 2 / 60، المهذب 1 / 589، ط ثَالِثَة، ونيل الْمَآرِب 3 / 246 وَمَا بَعْدَهَا، كشاف الْقِنَاع 4 / 376، مطالب أُولِي النُّهَى 4 / 448 - 449، 451، المغني 6 / 6، مغني الْمُحْتَاج 3 / 43، الشرح الصَّغِير 4 / 585 - 586(43/247)
الْوَرَثَةِ أَوِ الْوَارِثِ الإِْجَازَةُ وَالرَّدُّ. فَإِنْ أَجَازَ حَال مَرَضِ الْمُوصِي لَزِمَتْهُ الإِْجَازَةُ، فَلاَ رَدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ الإِْجَازَةُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ: أَوَّلُهَا: كَوْنُ الإِْجَازَةِ بِمَرَضِ الْمُوصِي الْمَخُوفِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِيهِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ.
ثَانِيهَا: أَنْ لاَ يَصِحَّ الْمُوصِي بَعْدَ ذَلِكَ.
ثَالِثُهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْذُورًا بِكَوْنِهِ فِي نَفَقَةِ الْمُوصَى أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ أَوْ خَائِفٌ مِنْ سَطْوَتِهِ.
رَابِعُهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُجِيزُ مِمَّنْ يَجْهَل أَنَّ لَهُ الرَّدَّ وَالإِْجَازَةَ.
خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ رَشِيدًا، قَال الصَّاوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَارِثَ أَنْ يُجِيزَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا أَجَازَ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ قَبْل مَوْتِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ الرَّدُّ بَعْدَهُ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الإِْجَازَةُ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ سَوَاءٌ تَبَرَّعَ بِالإِْجَازَةِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ طَلَبَهَا مِنْهُ الْمُوصِي كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِ عَبْدِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ الرَّدُّ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّهُ مِنْ إِسْقَاطِ الشَّيْءِ قَبْل وُجُوبِهِ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمَرَضُ (1) .
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي 4 / 595 - 596(43/248)
وَالْعِبْرَةُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا بِالاِتِّفَاقِ هُوَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوصِي، لاَ وَقْتُ إِنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحُكْمُهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، كَأَخٍ مَعَ وُجُودِ ابْنٍ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا بِأَمْرٍ حَادِثٍ عِنْدَ الْمَوْتِ كَأَنْ مَاتَ الاِبْنُ، صَارَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً، وَلَوْ كَانَ وَارِثًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، بِسَبَبِ حَجْبِهِ مَثَلاً، كَأَنْ أَوْصَى لأَِخٍ وَلاَ وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ فِي الإِْرْثِ وَعَدِمِهِ هُوَ وَقْتُ وَفَاةِ الْمُوصِي، وَلأَِنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ أَوَانُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمُوصَى بِهِ (1) .
الْوَصِيَّةُ لِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْشْيَاءِ:
تَرِدُ فِي بَعْضِ الْوَصَايَا عِبَارَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوصَى لَهُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبَيَانُ الْمُرَادِ بِهَا عِنْدَهُمْ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 422، فتح الْعَلِيّ الْمَالِك 1 / 322، القوانين الْفِقْهِيَّة 406، كفاية الأَْخْيَار 2 / 60، المهذب 1 / 589، نيل الْمَآرِب 3 / 246، كشاف الْقِنَاع 4 / 344، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 452، والمغني 6 / 14، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، والشرح الصَّغِير 4 / 585(43/248)
أ - الْوَصِيَّةُ لِلْجِيرَانِ:
37 - مَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ، فَهُمُ الْمُلاَصِقُونَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْجِوَارَ هُوَ الْقُرْبُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِي الْمُلاَصِقِ، وَمَا بَعْدَهُ بَعِيدٌ. وَقَال الصَّاحِبَانِ اسْتِحْسَانًا. هُمُ الْمُلاَصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ مَحَلَّةَ الْمُوصِي، وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ لأَِنَّ هَؤُلاَءِ كُلَّهُمْ يُسَمَّوْنَ جِيرَانًا عُرْفًا وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ " (1) وَفُسِّرَ بِكُل مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَلأَِنَّ الْمَقْصِدَ بِرُّ الْجِيرَانِ وَاسْتِحْبَابُهُ يَنْتَظِمُ الْمُلاَصِقَ وَغَيْرَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ الاِخْتِلاَطِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَشْمَل الْوَصِيَّةُ جِيرَانَهُ الْمُلاَصِقِينَ لَهُ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ (الأَْرْبَعِ، وَالْعُلُوِّ وَالسُّفْل) وَالْجِيرَانَ الْمُقَابِلِينَ لَهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا زُقَاقٌ أَوْ شَارِعٌ صَغِيرٌ لاَ سُوقٌ أَوْ نَهَرٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ: هُمْ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُل جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الدَّارِ الأَْرْبَعَةِ، لِحَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (3 / 57 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَضِعْفه(43/249)
شِهَابٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّاكِنُ مِنْ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ. قَال يُونُسُ: فَقُلْتُ لاِبْنِ شِهَابٍ: وَكَيْفَ أَرْبَعُونَ دَارًا؟ قَال: أَرْبَعُونَ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ وَخَلْفَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ " (1) .
وَجِيرَانُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ كَجِيرَانِ الدَّارِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ يَسْمَعُ النِّدَاءَ (2) ، لِحَدِيثِ لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ ".
ب - الْوَصِيَّةُ لِلأَْقَارِبِ:
38 - مَنْ أَوْصَى لأَِقْرِبَائِهِ، فَالْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ مِنْ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَلاَ يَدْخُل فِيهِمُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يُسَمَّوْنَ أَقَارِبَ وَيَكُونُ ذَلِكَ لاِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أَخَفُّ مِنَ الْمِيرَاثِ،
__________
(1) حَدِيث: " السَّاكِن مِنْ أَرْبَعِينَ دَار جَار. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل (ص 257 ط الرِّسَالَة) مِنْ حَدِيثِ ابْن شِهَاب الزُّهْرِيّ مُرْسَلاً
(2) الْهِدَايَة مَعَ شُرُوحِهَا 10 / 474 وَمَا بَعْدَهَا، والكتاب مَعَ اللُّبَابِ 4 / 179 - 180، والشرح الصَّغِير 4 / 591 - 592، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 58 - 63، والمهذب 1 / 455 وَمَا بَعْدَهَا، وكشاف الْقِنَاع 4 / 363، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 433(43/249)
وَفِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ تَلاَفِي مَا فُرِّطَ فِي إِقَامَةِ وَاجِبِ الصِّلَةِ وَهُوَ يَخْتَصُّ بِذِي رَحِمٍ مَحْرِمٍ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْوَصِيَّةُ لِكُل مَنْ يُنْسَبُ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ وَهُوَ أَوَّل أَبٍ أَسْلَمَ أَوْ أَوَّل أَبٍ أَدْرَكَ الإِْسْلاَمَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ، لأَِنَّ الْقَرِيبَ مُنْشَقٌّ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَيَكُونُ اسْمًا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ قِرَابَاتِهِ أَوْ لأَِنْسِبَائِهِ أَوْ لأَِرْحَامِهِ أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ فَلَهَا نَفْسُ الْحُكْمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَقَارِبِ أَبِيهِ غَيْرِ الْوَرَثَةِ، إِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَل فِي الْوَصِيَّةِ أَقَارِبُ أُمِّهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَدْخُل فِي ذَلِكَ كُل قُرَابَةٍ لَهُ، وَإِنْ بَعُدَتْ، عَمَلاً بِعُمُومِ اللَّفْظِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، إِلاَّ الأَْصْل (الأَْبَ وَالأُْمَّ فَقَطْ) وَالْفَرْعَ (أَوْلاَدَ الصُّلْبِ فَقَطْ) فَلاَ يَدْخُلاَنِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَلاَ يُسَمَّوْنَ أَقَارِبَ عُرْفًا (3) .
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 477، والبدائع 7 / 348، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 201
(2) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 591 592
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 63(43/250)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَدْخُل فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَبِيهِ وَأَوْلاَدِ جَدِّهِ وَأَوْلاَدِ جَدِّ أَبِيهِ، أَرْبَعَةُ آبَاءٍ فَقَطْ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِهِمْ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَمْ يُعْطِ مِنْهُ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا (1) وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، لِعُمُومِ الْقَرَابَةِ لَهُمْ وَلاَ يَدْخُل فِي الْقَرَابَةِ كَافِرُهُمْ أَوْ مَنْ يُخَالِفُ دِينُهُ دِينَهُمْ وَلاَ تَدْخُل فِي الْقَرَابَةِ أُمُّهُ وَلاَ قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِهَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَتَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ أَهْل بَيْتِهِ وَقَوْمَهُ وَنُسَبَاءَهُ وَأَهْلَهُ، وَآلَهُ كَقَرَابَتِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ: قَرَابَتُهُ مِنْ جِهَةِ أَبَوَيْهِ وَلَوْ جَاوَزُوا أَرْبَعَةَ آبَاءٍ، فَيُصْرَفُ إِلَى كُل مَنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ عُصْبَةٍ أَوْ بِالرَّحِمِ (2) .
ج - الْوَصِيَّةُ لأَِقْرَبِ الأَْقَارِبِ:
39 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى لأَِقْرَبِ أَقَارِبِهِ يَدْخُل فِيهِ الأَْصْل وَالْفَرْعُ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِم. . . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 6 / 244) مِنْ حَدِيثِ جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 364، 287(43/250)
الشَّافِعِيَّةِ تَقْدِيمُ ابْنٍ وَإِنْ سَفَل عَلَى أَبٍ لأَِنَّهُ أَقْوَى إِرْثًا وَتَعْصِيبًا، وَتَقْدِيمُ أَخٍ سَوَاءٌ كَانَ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ عَلَى جَدٍّ لأَِبٍ وَأُمٍّ لِقُوَّةِ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ عَلَى جِهَةِ الأُْبُوَّةِ وَلاَ يُرَجَّحُ بِذُكُورَةٍ وَوِرَاثَةٍ بَل يَسْتَوِي الأَْبُ وَالأُْمُّ وَالاِبْنُ وَالْبِنْتُ وَالأَْخُ وَالأُْخْتُ كَمَا يَسْتَوِي الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى لأَِقْرَبِ قَرَابَتِهِ فَالأَْبُ وَالاِبْنُ سَوَاءٌ، وَأَخٌ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ وَجَدٌّ سَوَاءٌ، وَالأَْخُ مِنَ الأَْبِ وَالأَْخُ مِنَ الأُْمِّ سَوَاءٌ، وَأَخٌ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَخٍ لأَِبٍ وَأَخٍ لأُِمٍّ - وَكُل مَنْ قُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ قُدِّمَ وَلَدُهُ فَيُقَدَّمُ ابْنُ أَخِ الأَْبَوَيْنِ عَلَى ابْنِ أَخٍ لأَِبٍ إِلاَّ الْجَدَّ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى بَنِي أُخْوَتِهِ وَإِلاَّ أَخَاهُ لأَِبِيهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ لأَِبَوَيْهِ: وَيُقَدَّمُ الاِبْنُ عَلَى الْجَدِّ، وَالأَْبُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ (2) .
د - الْوَصِيَّةُ لِلأَْصْهَارِ وَالأَْخْتَانِ وَالآْل:
40 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لأَِصْهَارِهِ، فَالْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ امْرَأَتِهِ (الْعَصَبَاتُ وَالأَْرْحَامُ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَمَّا تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَ كُل مَنْ مَلَكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إِكْرَامًا لَهَا، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَصْهَارَ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 64
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 363، والإنصاف 7 / 244(43/251)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَكَذَا يَدْخُل فِيهِ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ أَبِيهِ، وَزَوْجَةِ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، لأَِنَّ الْكُل أَصْهَارٌ بِشَرْطِ مَوْتِهِ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ، أَوْ مُعْتَدَّتُهُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، وَلَوْ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ لاَ يَسْتَحِقُّهَا.
وَمَنْ أَوْصَى لأَِخْتَانِهِ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجِ كُل ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، كَزَوْجِ الْبِنْتِ وَالأُْخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ لأَِنَّ الْكُل يُسَمَّى خَتَنًا وَكَذَا مَحَارِمُ الأَْزْوَاجِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قِيل هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، وَفِي عُرْفِنَا الصِّهْرُ أَبُو الْمَرْأَةِ وَأُمُّهَا وَالْخَتَنُ زَوْجُ الْمَحْرَمِ فَقَطْ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِكَذَا لآِلِهِ فَهِيَ لآِل بَنِيهِ وَقَبِيلَتِهِ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَل آبَائِهِ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ، الأَْقْرَبُ وَالأَْبْعَدُ وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيَدْخُل فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَابْنُهُ وَزَوْجَتُهُ إِذَا كَانَتْ مِنْ قَوْمِ أَبِيهِ إِذَا كَانُوا لاَ يَرِثُونَهُ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِجِنْسِهِ أَوْ أَهْل بَيْتِهِ
__________
(1) حَدِيث: " تَزَوَّجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَّة. . . " أَخْرَجَهُ ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَةِ كَمَا فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لاِبْن هِشَام (3 / 240 241 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ)
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 437، وتكملة فَتْح الْقَدِير 10 / 476، وتبيين الحقائق6 / 200(43/251)
أَوْ أَهْل نَسَبِهِ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا لَوْ أَوْصَى لآِلِهِ (1) .
(ر: آل ف3) .
هـ - الْوَصِيَّةُ لِلْعُلَمَاءِ:
41 - لَوْ أَوْصَى لِلْعُلَمَاءِ أَوْ لأَِهْل الْعِلْمِ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا لأَِصْحَابِ عُلُومِ الشَّرْعِ وَهُمْ أَهْل الْفِقْهِ وَأَهْل الْحَدِيثِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَهْل التَّفْسِيرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ تَشْمَل مَنِ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ (2) .
الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ 42 - لاَ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الْمُوصَى لَهُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَغَيْرُ الْمُسْلِمِ يَشْمَل الذِّمِّيَّ، وَالْمُسْتَأْمَنَ، وَالْحَرْبِيَّ، وَالْمُرْتَدَّ، وَنُفَصِّل أَحْكَامَ كُلٍّ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 438، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 200
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 121، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 59 ـ 60، والفروع 4 / 617، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 481(43/252)
أ - الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا (1) } قَال مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لِلْيَهُودِيِّ.
وَرُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْصَتْ لاِبْنِ أَخِيهَا بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكَانَ يَهُودِيًّا (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ فَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ (3) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ نَقَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ هَذَا الشَّرْطَ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِعَامَّةِ النَّصَارَى أَوْ لِعَامَّةِ أَهْل الذِّمَّةِ أَوْ نَحْوِهِمْ (4) .
__________
(1) سُورَة الأَْحْزَابِ: 6
(2) حَدِيث: " أَنَّ صَفِيَّة أَوْصَتْ لاِبْنِ أَخِيهَا. . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (6 / 281 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 132، وروضة الْقُضَاة 2 / 684، وبدائع الصَّنَائِع 7 / 341، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 185 ـ 186، والإنصاف 7 / 2212، وكشاف الْقِنَاع 4 / 352 ـ 353، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 42 ـ 43، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 426، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 368
(4) الْمَرَاجِع السَّابِقَة(43/252)
وَقَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِكَوْنِهَا ذَاتَ سَبَبٍ مِنْ جِوَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ يَدٍ سَبَقَتْ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ سَبَبٍ فَالْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ مَحْظُورَةٌ (1) .
ب - الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ الْمُعَيَّنِ، وَلَوْ كَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِقِيَاسِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْهِبَةِ، وَبِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عُمَرَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُول اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَال: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ (2) ، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: " أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً - تَعْنِي الإِْسْلاَمَ - فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آصِلُهَا؟ قَال: نَعَمْ (3) ، وَهَذَانِ فِيهِمَا صِلَةُ أَهْل
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 426
(2) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عُمَر حُلَّة مِنْ حَرِير. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1638) مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر
(3) حَدِيث أَسْمَاءٍ: أَتَتْنِي أُمَّيْ رَاغِبَة. . أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 10 / 413) ومسلم (2 / 696)(43/253)
الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالإِْمَامُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَرْبِيِّ مُطْلَقًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ) . (1) فَيَدُل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَنَا لاَ يَحِل بِرُّهُ (2) .
ج - الْوَصِيَّةُ لِلْمُسْتَأْمَنِ: 45 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) سُورَة الْمُمْتَحِنَةِ 8 9
(2) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 684، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 138، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 426، والتاج وَالإِْكْلِيل عَلَى هَامِشِ مَوَاهِبَ الْجَلِيل 6 / 368، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 400، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، وتحفة الْمُحْتَاج 7 / 13، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 185ـ186، وكشاف الْقِنَاع 4 / 352، 353، والإنصاف 7 / 221، والمغني 6 / 4(43/253)
وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ) إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُسْتَأْمَنِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ لِلْكَافِرِ بِمَا إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا (1) .
د - الْوَصِيَّةُ لِلْمُرْتَدِّ:
46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُرْتَدِّ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْمُرْتَدِّ.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُرْتَدِّ لِلأَْمْرِ بِقَتْلِهِ فَلاَ مَعْنَى لِلْوَصِيَّةِ لَهُ.
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ زَائِلٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْمُرْتَدِّ الْمُعَيَّنِ، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُرْتَدِّ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 419، 420، والتاج وَالإِْكْلِيل 6 / 368، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 400، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، وكشاف الْقِنَاع 4 / 353، والإنصاف 7 / 221، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 185 ـ 186(43/254)
مَا إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ قَالُوا: لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ قَطْعًا (1) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمُوصَى بِهِ:
الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ وَيُشْتَرَطُ لِلْمُوصَى بِهِ شُرُوطٌ هِيَ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَالاً.
47 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَالاً لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، وَلاَ يُمَلَّكُ غَيْرُ الْمَال. وَالْمَال الْمُوصَى بِهِ: يَشْمَل الأَْمْوَال النَّقْدِيَّةَ وَالْعَيْنِيَّةَ وَالدُّيُونَ الَّتِي فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ وَالْحُقُوقَ الْمُقَدَّرَةَ بِمَالٍ وَهِيَ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ مِنْ مَالٍ وَشُرْبٍ وَمَسِيلٍ، وَالْمَنَافِعَ كَسُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الأَْرْضِ وَغَلَّةِ الْبُسْتَانِ الَّتِي سَتَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَل وَنَحْوِهَا مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ (2) .
لأَِنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا مَلَكَ تَمْلِيكَهَا حَال
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 186، والإنصاف 7 / 221، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 43، وتحفة الْمُحْتَاج 7 / 13، وشرح الْخَرَشِيّ 8 / 171، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 92
(2) الْبَدَائِع: 7 / 352 ـ 356، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 183، وتكملة فَتْح الْقَدِير 10 / 485 وَمَا بَعْدَهَا، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 459، / 402 255 / 402 والشرح الْكَبِير للدردير 4 / 423، والشرح الصَّغِير 4 / 580 وَمَا بَعْدَهَا، وبداية الْمُجْتَهِد 2 / 329 وَمَا بَعْدَهَا، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 405، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 44 ـ 46، والمهذب 1 / 452، وكفاية الأَْخْيَار 2 / 56 وَمَا بَعْدَهَا، وكشاف الْقِنَاع 4 / 407، 418، وغاية الْمُنْتَهَى 2 / 313، ونيل الْمَآرِب 3 / 252 وَمَا بَعْدَهَا، والمغني 6 / 151 وَمَا بَعْدَهَا(43/254)
حَيَاتِهِ بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ فَلأََنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى لأَِنَّهُ أَوْسَعُ الْعُقُودِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهَا تَحْتَمِل مَا لاَ يَحْتَمِلُهُ سَائِرُ الْعُقُودِ مِنْ عَدَمِ الْمَحَل وَالْخَطَرِ وَالْجَهَالَةِ، ثُمَّ لَمَّا جَازَ تَمْلِيكُهَا بِبَعْضِ الْعُقُودِ فَلأََنْ يَجُوزَ بِهَذَا الْعَقْدِ أَوْلَى (1) .
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةٌ بِمَال الْوَارِثِ، لأَِنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ تَحْصُل الْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ لأَِنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ، وَمِلْكُ الْمَنَافِعِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَكَانَتِ الْمَنَافِعُ مِلْكَهُمْ لأَِنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةً مِنْ مَال الْوَارِثِ فَلاَ تَصِحُّ، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ فِي مَعْنَى الإِْعَارَةِ إِذِ الإِْعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ كَذَلِكَ وَالْعَارِيَةُ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُعِيرِ، فَالْمَوْتُ لَمَّا أَثَّرَ فِي بُطْلاَنِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَلأََنْ يَمْنَعَ مِنَ الصِّحَّةِ أَوْلَى
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 352(43/255)
؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ أَسْهَل مِنَ الرَّفْعِ (1) .
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُوصَى بِهِ مَالاً كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَجِلْدِهَا قَبْل الدِّبَاغِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ بِجِلْدِ مَيْتَةٍ قَابِلٍ لِلدِّبَاغِ، وَمَيْتَةٍ تَصْلُحُ طُعْمًا لِلْجَوَارِحِ (2) .
(ر: ف58)
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مُتَقَوِّمًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ:
48 - لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ مُسْلِمٍ وَلاَ لِمُسْلِمٍ بِمَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ، أَيْ لاَ يَجُوزُ شَرْعًا الاِنْتِفَاعُ بِهِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالسِّبَاعِ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، لِعَدَمِ نَفْعِهَا وَتَقَوُّمِهَا، وَلأَِنَّهَا لاَ تُمْلَكُ أَصْلاً بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ لِمِثْلِهِ لِتَقَوُّمِهَا فِي اعْتِقَادِهِ. وَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ يَقْبَل النَّقْل كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَحَقِّ الشُّفْعَةِ.
وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالسِّبَاعِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، لِتَقَوُّمِهَا وَلأَِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالإِْتْلاَفِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَبِهَذَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 352، وبداية الْمُجْتَهِد 2 / 362
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 44 ـ 46(43/255)
وَلأَِنَّ فِيهَا نَفْعًا مُبَاحًا، وَتُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهَا، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ، فَصَحَّتْ فِي غَيْرِ الْمَال كَالْمَال.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِزَيْتٍ مُتَنَجِّسٍ لِغَيْرِ مَسْجِدٍ، لأَِنَّ فِيهِ نَفْعًا مُبَاحًا، وَهُوَ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِمَسْجِدٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ فِيهِ.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِنَحْوِ زِبْلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ كَسَمَادٍ.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِإِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ حَال الاِسْتِعْمَال، بِجَعْلِهِ حُلِيًّا لِلنِّسَاءِ أَوْ بَيْعِهِ وَنَحْوِهِمَا (1) .
ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ قَابِلاً لِلتَّمْلِيكِ:
49 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل بِالأَْصَحِّ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ قَابِلاً لِلتَّمْلِيكِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى بِعَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ مَالاً أَوْ نَفْعًا مَوْجُودًا لِلْحَال أَوْ مَعْدُومًا، فَالْوَصِيَّةُ بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ أَوْ أَبَدًا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَعْدُومًا؛ لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّمْلِيكَ
__________
(1) البدائع7 / 352، وكشاف الْقِنَاع 4 / 368، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45، وحاشية الْجُمَل 3 / 481، والشرح الصَّغِير 4 / 581(43/256)
حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِمَا تَلِدُهُ أَغْنَامُهُ فَإِنَّهَا لاَ تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّمْلِيكَ فِي حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ فِي الْحَال، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ أَجِيرِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ (1) .
وَقَال الْجُمْهُورُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ مُطْلَقًا، كَالْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةٍ أَوْ حَمْلٍ سَيَحْدُثَانِ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ احْتُمِل فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الْغَرَرِ رِفْقًا بِالنَّاسِ وَتَوْسِعَةً فَتَصِحُّ بِالْمَعْدُومِ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَجْهُول، وَلأَِنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالإِْجَارَةِ فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَجْهُول كَشَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ وَثَوْبٍ مِنْ أَثْوَابِهِ؛ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ شَبِيهٌ بِالْوَارِثِ مِنْ جِهَةِ انْتِقَال شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ مَجَّانًا، وَالْجَهَالَةُ لاَ تَمْنَعُ الإِْرْثَ فَلاَ تَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَطَيْرِهِ الطَّائِرِ أَوْ بَعِيرِهِ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار مَعَ رَدِّ الْمُحْتَارِ 5 / 416، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45
(2) مَطَالِب أُولِي النهى4 / 490 ـ 491، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 403(43/256)
الشَّارِدِ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ فِي ثُلُثِهِ، كَمَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي ثُلُثِهِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَخْلُفَ الْوَارِثُ الْمَيِّتَ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، جَازَ أَنْ يَخْلُفَهُ الْمُوصَى لَهُ.
وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا صَحَّتْ بِالْمَعْدُومِ فَمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الإِْيصَاءَ تَمْلِيكُ جُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَجَازَ فِي الْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ كَالْبَيْعِ (1) .
وَالَّذِي أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِمَا يَقْبَل التَّمْلِيكَ، يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل لَكِنَّ وَقْتَ وُجُودِهِ يَخْتَلِفُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ نَوْعِ الْمَال:
فَإِنْ كَانَ الْمَال مُعَيَّنًا بِالذَّاتِ، كَدَارٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَزْرَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ شَائِعًا فِي كُل الْمَال، كَالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ، فَالشَّرْطُ وُجُودُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لأَِنَّهُ وَقْتُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ شَائِعًا فِي بَعْضِ الْمَال، كَالْوَصِيَّةِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 416، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 403، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 44، وكشاف الْقِنَاع 4 / 369، والمغني 6 / 64(43/257)
بِثُلُثِ غَنَمِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، اشْتُرِطَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، كَالنَّوْعِ الأَْوَّل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ أَصْلاً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَهُوَ كَالشَّائِعِ فِي كُل الْمَال، يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا مُعَيَّنًا حَتَّى تَتَقَيَّدَ بِهِ الْوَصِيَّةُ (1) .
رَابِعًا: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي:
50 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - قَطَعَ بِهِ الْغَزَالِيُّ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ الْمُعَيَّنُ مِلْكًا لِلْمُوصِي حِين الْوَصِيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَال الْغَيْرِ وَلَوْ مَلَكَهُ الْمُوصِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِفَسَادِ الصِّيغَةِ بِإِضَافَةِ الْحَال إِلَى غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ - وَقَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ: هُوَ أَفْقَهُ وَأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْبَابِ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِلْمُوصِي حِينَ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فُضُولِيًّا، وَوَصِيَّةُ الْفُضُولِيِّ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ؛ فَإِنْ أَجَازَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 8 / 435، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 416(43/257)
سَلَّمَهَا وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَلِّمْ كَالْهِبَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ بِمَا لاَ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لَهُ كَالْمُصْحَفِ وَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَسَائِرِ السِّلاَحِ (2) .
خَامِسًا: أَلاَّ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَعْصِيَةً أَوْ مُحَرَّمًا شَرْعًا:
51 - الْقَصْدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ تَدَارُكُ مَا فَاتَ فِي حَال الْحَيَاةِ مِنَ الإِْحْسَانِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَعْصِيَةً (3) .
مَا يُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ فِي الْمُوصَى بِهِ:
52 - يُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ فِي الْمُوصَى بِهِ شَرْطَانِ:
أَوَّلاً: أَلاَّ يَكُونَ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ: لأَِنَّ الدُّيُونَ مُقَدَّمَةٌ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا عَلَى
__________
(1) الْخَرَشِيّ 8 / 160، وشرح الزُّرْقَانِيّ 8 / 175، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 119، وكشاف الْقِنَاع 4 / 367، والفروع4 / 36، ومطالب أُولِي النهى4 / 489، والبحر الرَّائِق 6 / 164، وابن عَابِدِينَ 4 / 154
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 34، وتحفة الْمُحْتَاج 7 / 73، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 187
(3) الْبَدَائِع 7 / 341، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 445، حاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 427، مغني الْمُحْتَاج 3 / 40، أسنى الْمَطَالِب 3 / 43، مطالب أُولِي النُّهَى 4 / 496، وكشاف الْقِنَاع 4 / 371(43/258)
الْوَصِيَّةِ، بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ. إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنَ الدَّيْنِ فَيَنْفُذُ، بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مُسْتَغْرَقُ الذِّمَّةِ لاَ تَنْعَقِدُ وَصِيَّتُهُ، لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوَصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي مَالِكًا (2) .
ثَانِيًا: أَلاَّ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ زَائِدًا عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي وَارِثٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " (3) .
وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَنِ الثُّلُثِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ) ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ عَنِ الثُّلُثِ لأَِجْنَبِيٍّ، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ رَدُّوا الزِّيَادَةَ بَطَلَتْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 315، والبدائع 7 / 335، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 47
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 422، الزرقاني 8 / 175، والخرشي 8 / 168
(3) حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص: " الثُّلْث وَالثُّلْث كَثِير ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف5)(43/258)
فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ إِلَى بُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ (1) .
وَإِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ الْمُجِيزِ فَقَطْ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، تَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ صَحِيحَةً نَافِذَةً، وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ جَمِيعَ الْمَال؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْ نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ فِي الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلاَ تَنْفُذُ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَرَثَةٌ، لَمْ يَبْقَ حَقٌّ لأَِحَدٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّ مَالَهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ مُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ فَبَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ، فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ أَجَازَهَا
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 415 - 420، مواهب الْجَلِيل 6 / 369، والزرقاني 8 / 169، والكافي لاِبْن عَبْد الْبَرّ 2 / 1024، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 47، والإنصاف 7 / 193 - 196
(2) الشَّرْح الصَّغِير مَعَ الصَّاوِي 4 / 585 - 586، والإنصاف 7 / 192، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 448، تكملة فَتْح الْقَدِير 10 / 454(43/259)
صَحَّتْ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِالزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ بَاطِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَيُعْتَبَرُ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَوْمَ التَّنْفِيذِ لاَ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ النَّذْرِ (2) .
تَكْيِيفُ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْيِيفِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا تَنْفِيذًا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي، أَوْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً مِنْ قِبَل الْمُجِيزِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ كُل مَا جَازَ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ يَتَمَلَّكُهُ الْمُجَازُ لَهُ مِنْ قِبَل الْمُوصِي، لأَِنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنَ الْمُوصِي وَالإِْجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 586، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 47، والمهذب 1 / 450، والمغني 6 / 4 - 7، 12 - 15، والإنصاف 7 / 113 - 114
(2) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 415 - 419، والزرقاني 8 / 169، ومواهب الْجَلِيل 6 / 369، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 47، وكشاف الْقِنَاع 4 / 377(43/259)
فَصَارَ كَالْمُرْتَهِنِ إِذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّهْنِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ قِبَل الْوَارِثِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ (1) .
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوصَى بِهِ:
هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوصَى بِهِ:
أ - الْوَصِيَّةُ بِسَهْمٍ مِنَ الْمَال:
54 - مَنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ إِنْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْمُوصَى لَهُ كَأَقَل سِهَامِ الْوَرَثَةِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ زَادَ أُعْطِيَ الثُّلُثَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ الثَّلاَثِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الْقَوْل الرَّابِعُ: لِلْمُوصَى لَهُ مِثْل نَصِيبِ أَقَل
__________
(1) الاِخْتِيَار 5 / 63 - 64، والإنصاف 7 / 195 - 196، والزرقاني 8 / 169 ومغني الْمُحْتَاج 3 / 47(43/260)
الْوَرَثَةِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْخَلاَّل وَصَاحِبُهُ (1) .
الْقَوْل الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:
قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِي أَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي فَبِسَهْمٍ يُحَاسَبُ بِهِ وَيَأْخُذُهُ مِنْ فَرِيضَتِهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً، كَقَوْل امْرَأَةٍ: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِي، وَمَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ، فَيَأْخُذُ وَاحِدًا مِنْ سِتَّةٍ ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. أَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً فَيَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَيْثُ عَالَتِ الأَْرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ؛ لأَِنَّ الْعَوْل مِنْ جُمْلَةِ التَّأْصِيل. فَالْوَصِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الإِْرْثِ ثُمَّ يُقَسَّمُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْبَاقِي، فَالضَّرَرُ يَدْخُل عَنِ الْجَمِيعِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَرِيضَةٌ - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرَاثٌ - فَهَل لَهُ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ (2) ؟
الْقَوْل السَّادِسُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالسَّهْمِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءِ مَا شَابَهَهُ
__________
(1) رَوْضَة الْقُضَاة 2 / 686، والإنصاف 7 / 278 - 279
(2) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 599(43/260)
مِنْ أَلْفَاظٍ (1) .
ب - الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ مِنَ الْمَال:
55 - إِذَا أَوْصَى الْمُوصِي رَجُلاً بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضٍ أَوْ بِشِقْصٍ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ فِي حَيَاتِهِ شَيْئًا وَإِلاَّ أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا شَاءُوا، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ تَحْتَمِل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ فَيَصِحُّ الْبَيَانُ فِيهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَمِنْ وَرَثَتِهِ إِذَا مَاتَ لأَِنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ.
وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) وَأَمَّا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِسَهْمٍ مِنَ الْمَال (3) .
ج - الْوَصِيَّةُ بِشَاةٍ أَوْ بِدَابَّةٍ أَوْ بِكَلْبٍ وَنَحْوِهِ:
56 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى لَهُ بِشَاةٍ وَأَطْلَقَ جَازَ أَنْ يُدْفَعَ لِلْمُوصَى لَهُ الصَّغِيرَةُ الْجِسْمِ وَكَبِيرَتُهَا وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ، لأَِنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَكَذَا الذَّكَرُ فِي الأَْصَحِّ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الشَّاةِ إِنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ، لأَِنَّ الشَّاةَ اسْمُ جِنْسٍ كَإِنْسَانٍ وَلَيْسَتِ التَّاءُ فِيهِ
__________
(1) الْمُهَذَّب 1 / 464، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 356، والمهذب 1 / 464، وحاشية الْجُمَل 4 / 63، والمغني لاِبْنٍ قُدَّامِهِ 6 / 31 ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 498 - 499
(3) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 599(43/261)
لِلتَّأْنِيثِ بَل لِلْوَحْدَةِ كَحَمَامٍ وَحَمَامَةٍ وَلِهَذَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ كَأَنْ يَقُول: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ تَنْزُو عَلَى غَنَمِهِ أَوْ تَيْسًا أَوْ كَبْشًا فَتَعَيَّنَ الذَّكَرُ، أَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لَهُ شَاةً يَحْلِبُهَا أَوْ يَنْتَفِعُ بَدَرِّهَا وَنَسْلِهَا أَوْ نَعْجَةً تَعَيَّنَ الأُْنْثَى، أَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ يَنْتَفِعُ بِصُوفِهَا تَعَيَّنَ الضَّأْنُ أَوْ بِشَعَرِهَا تَعَيَّنَ الْمَعْزُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْرْجَحِ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَجْهُولٍ وَيُعْطَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ لأَِنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الاِسْمُ بِالْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَالْعُرْفِ كَالشَّاةِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ وَفِي الْعُرْفِ هِيَ لِلأُْنْثَى الْكَبِيرَةِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ غُلِّبَ الْعُرْفُ كَالأَْيْمَانِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ إِرَادَتُهُ، وَلأَِنَّهُ لَوْ خُوطِبَ قَوْمٌ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ عُرْفٌ وَحَمَلُوهُ عَلَى عُرْفِهِمْ لَمْ يُعَدُّوا مُخَالِفِينَ.
وَإِنْ أَوْصَى بِدَابَّةٍ أُعْطِيَ الْمُوصَى لَهُ فَرَسًا أَوْ بَغْلاً أَوْ حِمَارًا، عَمَلاً بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَإِنْ أَوْصَى بِكَلْبٍ وَنَحْوِهِ وَلاَ كَلْبَ لَهُ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ كَلْبٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى، فَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُمْ.
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ، مِنْ كَلْبِ(43/261)
صَيْدٍ وَحَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ، وَلاَ تَجُوزُ بِمَا لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (1) . (انْظُرْ مُصْطَلَحَ كَلْب ف 6)
د ـ الْوَصِيَّةُ بِطَبْلٍ:
57 - إِنْ وَصَّى لِشَخْصٍ بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ طُبُول الْحَرْبِ، أُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهَا.
أَمَّا طُبُول اللَّهْوِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِطَبْلٍ مِنْهَا إِنْ صَلَحَ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي مُبَاحٍ، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَهَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً؛ لأَِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمُحَرَّمٍ (2) .
هـ - الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ:
58 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ لأَِنَّهَا كَالأَْعْيَانِ فِي تَمَلُّكِهَا بِعِقْدِ الْمُعَاوَضَةُ وَالإِْرْثِ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا كَالأَْعْيَانِ.
وَتُخْرَجُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال فَإِنْ لَمْ تُخْرَجْ مِنَ الثُّلُثِ، أُجِيزَ مِنْهَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ.
وَالْمَنْفَعَةُ الْمُوصَى بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُطْلَقَةً
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 55، 56 ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 492 - 493، 495، وكشاف الْقِنَاع 4 / 369
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 46 ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 495(43/262)
أَمْ مُقَيَّدَةً فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا خُرُوجُ الْعَيْنِ الَّتِي أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا مِنْ ثُلُثِ الْمَال، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْمَنَافِعِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مَا عَاشَ وَإِذَا لَمْ يُوفِ الثُّلُثُ إِلاَّ بِنِصْفِ الْمَنْفَعَةِ مَثَلاً صَارَ نِصْفُ الْمَنْفَعَةِ لِلْوَارِثِ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً عَنِ الْوَقْتِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالإِْعَارَةِ فَتَبْطُل بِمَوْتِ الْمَالِكِ إِيَّاهُ، كَمَا تَبْطُل الإِْعَارَةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ بِانْفِرَادِهَا لاَ تَحْتَمِل الإِْرْثَ وَإِنْ كَانَ تَمَلَّكَهَا بِعِوَضٍ كَإِجَارَةٍ، فَلأََنْ لاَ يُحْتَمَل فِيمَا هُوَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ تُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَى الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْوَرَثَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلاَثًا، يَخْدِمُ الْعَبْدُ - إِذَا كَانَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ عَبْدًا - يَوْمًا(43/262)
لِلْمُوصَى لَهُ وَيَوْمَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَيَسْتَوْفِي الْمُوصَى لَهُ خِدْمَةَ السَّنَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا دَارًا يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا وَالْوَرَثَةُ ثُلْثَيْهَا يَتَهَايَآنِ مَكَانًا، لأَِنَّ التَّهَايُؤَ بِالْمَكَانِ فِي الدَّارِ مُمْكِنٌ وَفِي الْعَبْدِ لاَ يُمْكِنُ، لاِسْتِحَالَةِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ بِثُلُثِهِ لأَِحَدِهِمَا وَبِثُلُثَيْهِ لِلآْخَرِ فَمَسَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْمُهَايِئَاتِ زَمَانًا.
وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْوَقْتِ سَنَةً بِعَيْنِهَا بِأَنْ قَال: سَنَةَ كَذَا أَوْ شَهْرَ كَذَا فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ خِدْمَةَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ أَوِ الشَّهْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ، وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَفِي الدَّارِ يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، فَإِذَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ أَوْ ذَلِكَ الشَّهْرُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ يَحْصُل لِلْمُوصَى لَهُ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ أَوِ الشَّهْرِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْمِل ذَلِكَ مِنْ سَنَةٍ أُخْرَى أَوْ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُضِيفَتْ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ أَوْ ذَلِكَ الشَّهْرِ لاَ إِلَى غَيْرِهِمَا.
وَلَوْ عَيَّنَ الشَّهْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوِ السَّنَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، بِأَنْ قَال: هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذِهِ السَّنَةَ،(43/263)
يُنْظَرُ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الشَّهْرِ أَوْ تِلْكَ السَّنَةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ نَفَاذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ الشَّهْرُ أَوْ تِلْكَ السَّنَةُ قَبْل مَوْتِهِ فَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ الشَّهْرُ أَوِ السَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بِهَا فِيمَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَخْرُجُ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ الشَّهْرُ أَوِ السَّنَةُ، وَفِي الدَّارِ يَسْكُنَاهَا أَثْلاَثًا عَلَى طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لإِِنْسَانٍ وَبِرَقَبَتِهِ لآِخَرَ، أَوْ بِسُكْنَى دَارِهِ لإِِنْسَانٍ وَبِرَقَبَتِهَا لآِخَرَ، وَالرَّقَبَةُ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَالْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمَّا احْتَمَلَتِ الإِْفْرَادَ مِنَ الرَّقَبَةِ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى لاَ تَمْلِكَ الْوَرَثَةُ الرَّقَبَةَ وَالْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ، فَيَسْتَوِي فِيهَا الإِْفْرَادُ بِاسْتِيفَاءِ الرَّقَبَةِ لِنَفْسِهِ وَتَمْلِيكِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوصًى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالآْخَرُ بِالْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي مَلَكَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ الرَّقَبَةَ وَصَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ الْمَنْفَعَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِرَقَبَةِ شَجَرَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ لإِِنْسَانٍ وَبِثَمَرَتِهِ لآِخَرَ، أَوْ بِرَقَبَةِ أَرْضٍ لِرَجُل وَبِغَلَّتِهَا لآِخَرَ، لأَِنَّ الثَّمَرَ(43/263)
وَالْغَلَّةَ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْتَمِل الإِْفْرَادَ بِالْوَصِيَّةِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَبْقِيَ الأَْصْل لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا وَقْتَ كَلاَمِ الْوَصِيَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَهُ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي كَلاَمِ الْمُوصِي مَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ لِلْحَال فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلاَ مَال لَهُ عِنْدَ كَلاَمِ الْوَصِيَّةِ (1) .
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنْفَعَةٍ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ حُسِبَ مِنَ الثُّلُثِ مَا نَقَصَ مِنْهَا فِي تَقْوِيمِهِ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَمَنْ أَوْصَى مَثَلاً بِمَنْفَعَةِ حَيَوَانٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً قُوِّمَ الْحَيَوَانُ بِمَنْفَعَتِهِ ثُمَّ قُوِّمَ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ وَيُحْسَبُ النَّاقِصُ مِنَ الثُّلُثِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ خُرُوجُهَا مِنْ ثُلُثِ الْمَال، فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ أُجِيزَ مِنْهَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَقَالُوا: إِذَا أُرِيدَ تَقْوِيمُهَا فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةِ قُوِّمَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ ثُمَّ تُقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَتُهَا؟
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 353 ـ 354
(2) حَاشِيَة الْجُمَل 4 / 63 ـ 64، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45 ـ 66(43/264)
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ فَقَدْ قِيل: تُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ بِمَنْفَعَتِهَا جَمِيعًا وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّ شَجَرًا لاَ ثَمَرَ لَهُ لاَ قِيمَةَ لَهُ غَالِبًا.
وَقِيل: تُقَوَّمُ الرَّقَبَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ الْحَيَوَانُ مَثَلاً بِمَنْفَعَتِهِ فَإِذَا قِيل: قِيمَتُهُ مِائَةٌ، قِيل: كَمْ قِيمَتُهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ؟ فَإِذَا قِيل: عَشَرَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ تِسْعُونَ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَوْصَى بِمَنْفَعَةِ مُعَيَّنٍ وَالْمُوصَى لَهُ مُعَيَّنٌ كَأَنْ يُوصِيَ لَهُ بِمَنْفَعَةِ دَارِهِ سِنِينَ أَوْ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سِنِينَ وَالْحَال أَنَّ ثُلُثَ التَّرِكَةِ لاَ يَحْمِل ذَلِكَ كُلَّهُ أَيْ لاَ يَحْمِل قِيمَةَ رَقَبَةِ الدَّارِ مَثَلاً وَلاَ قِيمَةَ رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ حِينَئِذٍ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُجِيزُوا وَصِيَّةَ الْمَيِّتِ أَوْ يَدْفَعُوا لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنَ الْمَال الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ عَيْنًا كَانَ أَوْ عَرَضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَبَيْنَ الْقَطْعِ لَهُمْ بِالثُّلُثِ قَطْعًا لَكِنْ فِي ذَلِكَ
__________
(1) وَالْمُغْنِي 6 / 59 ـ 60، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 498 ـ 499(43/264)
الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ لاَ فِي كُل مَتْرُوكِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ لاَ يُرْجَى رُجُوعُهُ بِخِلاَفِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ إِذَا هَلَكَ فَيُرْجَى رُجُوعُ الْمُوصَى بِهِ لِلْوَارِثِ (1) (ر: ف 47) .
طَرِيقُ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ:
59 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِنَفْسِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِكْسَابِهَا لِغَيْرِهِ بِالإِْجَارَةِ أَوِ الإِْعَارَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ إِجَارَتَهَا وَإِعَارَتَهَا، لأَِنَّهُ إِذَا مَلَكَ النَّفْعَ جَازَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ، وَبِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ لاَ يَمْلِكُ إِجَارَتَهَا، وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَيَنْبَغِي أَنَّ لَهُ الإِْعَارَةَ (2) .
__________
(1) شَرْح الزُّرْقَانِيّ 8 / 195، والخرشي مَعَ حَاشِيَةِ الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 8 / 186
(2) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 352ـ353، ومطالب أُولِي النُّهَى 41، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 6 / 60، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45 و 65 وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 416، والمدونة 6 / 31(43/265)
كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ:
60 - إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُوصِي، كَالْوَصِيَّةِ بِنِصْفِ مَنْفَعَةِ دَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ عَدَدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُمْ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَنْفَعَةِ دَارٍ لِثَلاَثَةِ أَشْخَاصٍ، فَتُسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةُ عَنْ طَرِيقِ الْقِسْمَةِ بِإِحْدَى وَسَائِل ثَلاَثٍ:
الأُْولَى: أَنْ تُقَسَّمَ غَلَّةُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِكِينَ: فَتُؤَجَّرَ الدَّارُ أَوْ تُزْرَعَ الأَْرْضُ مَثَلاً، وَتُقَسَّمُ الْغَلَّةُ بِنِسْبَةِ حِصَّةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تُقَسَّمَ الْعَيْنُ نَفْسُهَا بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ، بِشَرْطِ كَوْنِ تِلْكَ الْعَيْنِ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ، وَأَنْ لاَ يَتَرَتَّبَ عَلَى قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ لِلْوَرَثَةِ، وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْفَعَةِ الأَْصْلِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ تُقَسَّمَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِهَا قِسْمَةً مُهَايَأَةً زَمَانِيَّةً أَوْ مَكَانِيَّةً. فَالزَّمَانِيَّةُ: أَنْ تُعْطَى لأَِحَدِ الشُّرَكَاءِ كُل الْعَيْنِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، يَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا الشَّرِيكُ الآْخَرُ بِقَدْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا.
وَالْمَكَانِيَّةُ: أَنْ يَأْخُذَ كُل شَرِيكٍ جُزْءًا مِنَ الْعَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ يَتَبَادَل(43/265)
الشَّرِيكَانِ كُل جُزْءٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَيَحِل كُل وَاحِدٍ مَحَل الآْخَرِ فِيمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَقٍّ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَلاَ الْمُهَايَأَةُ فِيهِ، أَوْ حَدَثَ اخْتِلاَفٌ اجْتَهَدَ الْقَاضِي فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَنْفَعَةِ بِحَسَبِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ (1) .
(ر: قِسْمَة ف 60 وَمَا بَعْدَهَا)
انْتِهَاءُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ:
61 - تَنْتَهِي الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
أـ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلاِنْتِفَاعِ قَبْل وَفَاةِ الْمُوصِي.
كَمَا تَنْتَهِي الْوَصِيَّةُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الاِنْتِفَاعِ الْمُحَدَّدَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ دُونَ أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ كَمَنْ وَصَّى لِلْمُوصَى لَهُ بِثَمَرَةِ شَجَرَةٍ سَنَةً بِعَيْنِهَا فَلَمْ تَحْمِل تِلْكَ السَّنَةَ فَلاَ شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ (2) .
ب ـ بِإِسْقَاطِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ حَقَّهُ فِي
__________
(1) حَاشِيَة الْجُمَل 4 / 63، وبدائع الصَّنَائِع 7 / 353 ـ 354، وكشاف الْقِنَاع 6 / 371، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 426، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 498
(2) الْمُغْنِي 8 / 460 ط هَجَرَ، وبدائع الصَّنَائِع 7 / 353 ـ 354، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 58(43/266)
الْمَنْفَعَةِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي أَوْ تَنَازُلِهِ عَنْ حَقِّهِ فِيهَا.
ج ـ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِلْمُوصِي.
د ـ بِتَمَلُّكِ الْمُوصَى لَهُ الْعَيْنَ الَّتِي أَوْصَى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا.
هـ - بِوَفَاةِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُوصَى بِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْوَصِيَّةِ لاَ تُورَثُ وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ قَوْل الْمُوصِي أَنَّهُ أَرَادَ حَيَاةَ الْمُوصَى لَهُ فَلاَ تُورَثُ (1) .
زَمَنُ اسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ الْمُوصَى بِهَا:
62 - إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنْفَعَةٍ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَسَنَةٍ دُونَ تَحْدِيدِ بَدْءِ الاِنْتِفَاعِ، اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ مُنْذُ وَفَاةِ الْمُوصِي (2) .
__________
(1) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص 352، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 417، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 64 ـ 65، والإنصاف 7 / 268، وكشاف الْقِنَاع 4 / 499
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 121 ـ 122، وحاشية لِدُسُوقِيّ 4 / 424، والمدونة 6 / 32، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 45، 64 ـ 66، وكشاف الْقِنَاع 4 / 373 ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 498، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 65(43/266)
مَنْعُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الاِنْتِفَاعِ:
63 - هُنَاكَ حَالاَتٌ قَدْ يَحْدُثُ فِيهَا مَنْعُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِ الْوَرَثَةِ، ضَمِنَ لِلْمُوصَى لَهُ بَدَل الْمَنْفَعَةِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَضْمَنُ نَتِيجَةَ تَعَدِّيهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، ضَمِنُوا لَهُ بَدَل الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا، لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُمْ جَمِيعًا. وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ أَنْ يُطَالِبَ بِمُدَّةٍ أُخْرَى لِلاِنْتِفَاعِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ فَوَّتَ الْمَنْفَعَةَ يَضْمَنُهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِل وَلَمْ يَسْتَغِل (2) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ كُل حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ تَعَلَّقَ بِبَدَلِهَا إِذَا لَمْ يَبْطُل سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهَا، فَإِنْ قُتِل الْحَيَوَانُ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ يَشْتَرِي بِهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصَى بِهِ.
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 353 ـ 354
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 3 / 455(43/267)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ تَجِبَ الْقِيمَةُ لِلْوَارِثِ أَوْ مَالِكِ الرَّقَبَةِ وَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّ الْقِيمَةَ بَدَل الرَّقَبَةِ فَتَكُونُ لِصَاحِبِهَا وَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ كَمَا تَبْطُل الإِْجَارَةُ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الأَْمَةَ الْمُوصَى بِنَفْعِهَا إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهَا أَجْنَبِيٌّ فَقِيمَتُهَا غَيْرُ مَسْلُوبَةِ الْمَنَافِعِ لِلْوَرَثَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَهَا الْوَارِثُ فَقِيمَةُ مَنْفَعَتِهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِهَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الأَْجْنَبِيِّ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا غَيْرَ مَسْلُوبَةِ الْمَنْفَعَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِمَنْفَعَةِ دَارٍ سَنَةً مَثَلاً ثُمَّ أَجَّرَهُ سَنَةً وَمَاتَ عَقِبَ الإِْجَارَةِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا لِلْمُوصَى لَهُ السَّنَةُ الأُْولَى الَّتِي تَلِي الْمَوْتَ وَقَدْ صَرَفَ الْمُوصِي مَنْفَعَةَ تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي النِّصْفِ الأَْوَّل وَاسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي.
وَلَوْ حَبَسَ الْوَارِثُ أَوْ غَيْرُهُ الْمَنْفَعَةَ السَّنَةَ بِلاَ عُذْرٍ غَرِمَ لِلْمُوصَى لَهُ أُجْرَةَ مِثْل الدَّارِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَيَشْمَل ذَلِكَ مَا لَوْ غُصِبَ الْمُوصَى
__________
(1) الْمُغْنِي 8 / 463 ـ 464 ط هَجَرَ، ومطالب أُولِي النُّهَى 40 ـ 501، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 58، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 66(43/267)
بِمَنْفَعَتِهِ فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ أُجْرَةَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لأَِنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ (1) .
نَفَقَةُ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا:
64 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا مِنْ نَفَقَاتٍ، تَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ لأَِنَّهُ صَاحِبُ الْفَائِدَةِ مِنْهَا، وَالْغُرْمُ بِالْغُنْمِ أَوِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، فَلَهُ نَفْعُهُ، فَكَانَ عَلَيْهِ ضُرُّهُ وَغُرْمُهُ.
وَإِذَا أَهْمَل صَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ الْقِيَامَ بِمَا يَلْزَمُ لِبَقَاءِ الْعَيْنِ صَالِحَةً لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا، فَأَدَّاهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ، كَانَ مَا دَفَعَهُ حَقًّا لَهُ فِي غَلَّةِ الْعَيْنِ، يَسْتَوْفِيهِ مِنْهَا قَبْل الْمُوصَى لَهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا كَأَرْضٍ بُورٍ، فَإِنَّ نَفَقَةَ إِصْلاَحِهَا وَنَوَائِبِهَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْعَيْنِ الْمُوصَى
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 79، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 73، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 309، وأسنى الْمَطَالِب مَعَ حَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ 3 / 56، 66
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 444، ومطالب أُولِي النُّهَى 42، والتاج وَالإِْكْلِيل 6 / 386، وشرح الْمِنْهَاج مَعَ حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيّ 3 / 172، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 66، والفروع 4 / 695، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 57(43/268)
بِمَنْفَعَتِهَا لِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ تَكُونُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ كَالْمَأْجُورِ تَكُونُ نَفَقَاتُهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَكَذَا الْعَيْنُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا مُؤَبَّدًا تَكُونُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ فِي الأَْصَحِّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: نَفَقَةُ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ مَذْهَبًا لأَِحْمَدَ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رُؤُوسِ الْمَسَائِل (2) .
و الْوَصِيَّةُ بِالْحُقُوقِ:
65 - تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ الَّتِي تَنْتَقِل بِالإِْرْثِ، كَحَقِّ الشُّرْبِ وَالْمَسِيل وَالْمَجْرَى، وَالتَّعَلِّي، وَحَقِّ الْخُلُوِّ وَنَحْوِهَا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ارْتِفَاق ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
ز - الْوَصِيَّةُ بِمَا يَتَضَمَّنُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ:
66 - إِذَا أَوْصَى شَخْصٌ بِوَصِيَّةٍ تَتَضَمَّنُ قِسْمَةَ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
__________
(1) أَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 57، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 66، والقليوبي 3 / 172
(2) الْفُرُوع لاِبْن مُفْلِح وَتَصْحِيح الْفُرُوع لِلْمَرْدَاوَيَّ 4 / 695
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 189 ـ 190، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 41 ـ 43، والقواعد لاِبْن رَجَب ص 183، 188(43/268)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِكُل وَارِثٍ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ شَائِعًا مِنْ نِصْفٍ أَوْ غَيْرِهِ كَأَنْ أَوْصَى لِكُلٍّ مِنْ بَنِيهِ الثَّلاَثَةِ بِثُلُثِ مَالِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لَغْوًا، لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِكُل وَارِثٍ بِعَيْنٍ هِيَ قَدْرُ حِصَّتِهِ كَأَنْ أَوْصَى لأَِحَدِ ابْنَيْهِ بِدَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ وَلِلآْخَرِ بِبُسْتَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَهُمَا كُل مَا يَمْلِكُهُ فَصَحِيحَةٌ وَلَكِنْ تَفْتَقِرُ إِلَى الإِْجَازَةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ بِالأَْعْيَانِ وَمَنَافِعِهَا، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّ حُقُوقَهُمْ فِي قِيمَةِ التَّرِكَةِ لاَ فِي عَيْنِهَا (1) .
ثُبُوتُ مِلْكِيَّةِ الْمُوصَى بِهِ وَوَقْتُ الثُّبُوتِ:
67 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ لاَ يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ إِلاَّ بِالْقَبُول بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِذَا قَبِل بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ الْقَبُول.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 44، والمغني 6 / 7، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 449(43/269)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّمَاءَ الْمُنْفَصِل بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى وَقَبْل الْقَبُول كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالْكَسْبِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِذَا قَبِل الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّمَاءَ الْمُنْفَصِل الْحَاصِل بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُول الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ أَوْ رَدِّهَا.
فَإِنْ قَبِل الْمُوصَى لَهُ بَانَ أَنَّهُ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَانَ أَنَّهَا لِلْوَارِثِ.
وَلَوْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَعَلَى الْقَوْل الأَْظْهَرِ لَهُ الثَّمَرَةُ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الآْخَرَيْنِ لاَ ثَمَرَةَ لَهُ وَلاَ نَفَقَةَ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 332، وحاشية الشلبي عَلَى الزيلعي 6 / 184، وحاشية الدُّسُوقِيّ وَالشَّرْح الْكَبِير 4 / 424، والمغني 6 / 25، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 564، والإنصاف 7 / 202 ـ 206، والشرح الصَّغِير 4 / 586، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 54(43/269)
مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ التَّبَرُّعَاتِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا الشَّخْصُ قَبْل مَوْتِهِ، وَمِنْهَا الْوَصَايَا، تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ الْمَال الْبَاقِي بَعْدَ أَدَاءِ نَفَقَاتِ التَّكْفِينِ وَالتَّجْهِيزِ، وَوَفَاءِ دُيُونِ الْعِبَادِ كَالدِّيَةِ وَالْقَرْضِ، لاَ مِنْ ثُلُثِ أَصْل الْمَال.
أَمَّا دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى كَنَفَقَةِ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ وَزَكَاةٍ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ، فَتُخْرَجُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال فَقَطْ، وَتُؤَدَّى عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ رَأْسِ مَال التَّرِكَةِ، لاَ مِنَ الثُّلُثِ فَقَطْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)
مُبْطِلاَتُ الْوَصِيَّةِ:
تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِمَا يَأْتِي:
أـ زَوَال أَهْلِيَّةِ الْمُوصِي بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَنَحْوِهِ:
69 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَنَحْوِهِ كَالْعَتَهِ الطَّارِئِ عَلَى الْمُوصِي،
__________
(1) شَرْح السراجية 3 / 7، والشرح الصَّغِير 4 / 589، 617، 618، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 3 ـ 4، وكشاف الْقِنَاع 4 / 351 وَمَا بَعْدَهَا، ونيل الْمَآرِب 3 / 253، وابن عَابِدِينَ 5 / 423 ـ 424، واللباب 4 / 177(43/270)
سَوَاءٌ اتَّصَل بِالْمَوْتِ أَوْ لَمْ يَتَّصِل بِأَنْ أَفَاقَ قَبْل الْمَوْتِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ كَالْوَكَالَةِ، فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الإِْنْشَاءِ كَالْوَكَالَةِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، كَمَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الآْمِرِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجْنُونُ غَيْرَ أَهْلٍ لإِِنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ فِي الاِبْتِدَاءِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، كَانَ طُرُوءُ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ مُبْطِلاً لَهُ.
وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ: مَا دَامَ شَهْرًا فَأَكْثَرَ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: هُوَ مَا امْتَدَّ سَنَةً.
فَإِنْ لَمْ يُطْبِقِ الْجُنُونُ لاَ تَبْطُل الْوَصِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُشْبِهُ الإِْغْمَاءَ، وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لاَ تَبْطُل الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّ الإِْغْمَاءَ لاَ يُزِيل الْعَقْل.
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ طُرُوءَ الْجُنُونِ الطَّارِئِ غَيْرِ الْمُمْتَدِّ عَلَى الْمُوصِي لاَ يُبْطِل الْوَصِيَّةَ.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَجْنُونِ إِلاَّ حَال إِفَاقَتِهِ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي إِفَاقَةِ مَنْ يُخْنَقُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ، لأَِنَّهُ فِي إِفَاقَتِهِ عَاقِلٌ (1) .
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 394، والدر الْمُخْتَار 5 / 469 ـ 471، وكشاف الْقِنَاع 4 / 336 ـ 337، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 401 ومواهب الْجَلِيل 6 / 460 والشرح الصَّغِير 4 / 580(43/270)
وَقَال ابْنُ النَّجَّارِ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَ أَنَّ الْمُبَرْسَمَ لاَ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَأَوْصَى حَال إِفَاقَتِهِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْعُقَلاَءِ فِي شَهَادَتِهِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ طُرُوءَ الْجُنُونِ عَلَى الْمُوصِي لاَ يُبْطِل الْوَصِيَّةَ، لأَِنَّهَا إِذَا لَمْ تَبْطُل بِالْمَوْتِ فَأَوْلَى أَنْ لاَ تَبْطُل بِمَا دُونَهُ (2) .
ب ـ رِدَّةُ الْمُوصِي:
70 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل بِرِدَّةِ الْمُوصِي.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا رَجَعَ لِلإِْسْلاَمِ بَعْدَ رِدَّتِهِ إِنْ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً جَازَتْ وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
ج ـ رِدَّةُ الْمُوصَى لَهُ:
71 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 130
(2) قَوَاعِد الأَْحْكَامِ فِي مَصَالِحَ الأَْنَام 2 / 353 ط دَار الْقَلَم
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 3 / 300، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 426، والشرح الصَّغِير 4 / 584، والخرشي 8 / 170(43/271)
الْوَصِيَّةَ لاَ تَبْطُل بِرِدَّةِ الْمُوصَى لَهُ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل بِرِدَّةِ الْمُوصَى لَهُ (1) .
د ـ الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ:
72 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَيَجُوزُ لِلْمُوصِي الرُّجُوعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ؛ لأَِنَّ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ الإِْيجَابُ فَقَطْ، وَلأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْيجَابِ أَيُّ حَقٍّ لِلْمُوصَى لَهُ قَبْل ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالرُّجُوعِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " يُغَيِّرُ الرَّجُل مَا شَاءَ مِنْ وَصِيَّتِهِ ". وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالنَّخَعِيُّ: يُغَيِّرُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلاَّ الْعِتْقَ لأَِنَّهُ إِعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَمْلِكْ تَغْيِيرَهُ كَالتَّدْبِيرِ (2) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 43، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 427، ومواهب الْجَلِيل 2 / 368
(2) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 171، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 39، ومواهب الْجَلِيل 6 / 369، الفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 92(43/271)
وَالرُّجُوعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً.
فَالرُّجُوعُ الصَّرِيحُ: مَا كَانَ بِلَفْظٍ هُوَ نَصٌّ فِي الرُّجُوعِ، مِثْل قَوْل الْمُوصِي: رَجَعْتُ عَنْ وَصِيَّتِي لِفُلاَنٍ، أَوْ تَرَكْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ نَقَضْتُهَا، أَوْ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلاَنٍ هُوَ لِوَرَثَتِي وَنَحْوُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عُدُول الْمُوصِي عَنْ وَصِيَّتِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْعُدُول مَتَى شَاءَ (1) .
وَالرُّجُوعُ دَلاَلَةً: كُل تَصَرُّفٍ أَوْ فِعْلٍ فِي الْمُوصَى بِهِ يُفِيدُ رُجُوعَهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ يَشْمَل مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: كُل تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ يُخْرِجُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي يُعَدُّ رُجُوعًا، كَأَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ الْمُوصَى بِهِ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ يَجْعَلَهُ مَهْرًا أَوْ وَقْفًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: كُل فِعْلٍ فِي الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا يَدُل عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ، كَذَبْحِ الشَّاةِ الْمُوصَى بِهَا، وَغَزْل الْقُطْنِ الْمُوصَى بِهِ،
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 171، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 460، والخرشي 8 / 172، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 92، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 71، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 63 وَمَا بَعْدَهَا(43/272)
وَنَسْجِ الْغَزْل (1) .
أَمَّا لَوْ تَصَرَّفَ الْمُوصِي فِي الْمُوصَى بِهِ تَصَرُّفًا يُزِيل اسْمَهُ فَيُعَدُّ رُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
كَمَا لَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِهَذِهِ الْغِرَارَةِ الْحِنْطَةِ فَطَحَنَهَا فَصَارَ اسْمُهَا دَقِيقًا، أَوْ وَصَّى لإِِنْسَانٍ بِشَيْءٍ مِنْ غَزْلٍ فَنَسَجَ الْغَزَل فَصَارَ يُسَمَّى ثَوْبًا، أَوْ بَنَى الْحَجَرَ أَوِ الآْجُرَّ الْمُوصَى بِهِ فَصَارَ حَائِطًا أَوْ دَارًا، أَوْ غَرَسَ نَوًى مُوصًى بِهِ فَصَارَ شَجَرًا، أَوْ نَجَرَ الْخَشَبَةَ الْمُوصَى بِهَا فَصَارَتْ بَابًا، أَوْ أَعَادَ دَارًا انْهَدَمَتْ، أَوْ جَعَلَهَا حَمَّامًا، أَوْ كَانَ سَفِينَةً فَتَكَسَّرَتْ وَصَارَ اسْمُهَا خَشَبًا فَرُجُوعٌ فِي الْجَمِيعِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنِ الرُّجُوعِ دَلاَلَةً: كُل فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ الإِْنْسَانُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُوصِي كَانَ رُجُوعًا، وَكَذَا كُل فِعْلٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي
__________
(1) غَايَة الْمُنْتَهَى 2 / 353 ـ 354، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 92 ـ 93، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 428، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 71ـ 72
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 92ـ93، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 72، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 307، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 63، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 173 ـ 174، وغاية الْمُنْتَهَى 2 / 254(43/272)
الْمُوصَى بِهِ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ بِهَا فَهُوَ رُجُوعٌ إِذَا فَعَلَهُ، وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَال مِلْكِ الْمُوصِي فَهُوَ رُجُوعٌ (1) .
هـ - رَدُّ الْوَصِيَّةِ:
73 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ إِذَا رَدَّهَا الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ صِيغَةِ الْوَصِيَّةِ (ر: ف 9 ـ 11) .
وـ مَوْتُ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي:
74 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِوَفَاةِ الْمُوصِي وَقَبُول الْمُوصَى لَهُ.
وَكَذَلِكَ تَبْطُل الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْل الْقَبُول. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَبْطُل؛ لأَِنَّ الْقَبُول مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الرَّدِّ.
(ر: ف 9)
ز ـ قَتْل الْمُوصَى لَهُ الْمُوصِيَ:
75 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 92(43/273)
بِقَتْل الْمُوصَى لَهُ الْمُوصِيَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بُطْلاَنِهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ الْبُطْلاَنِ وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي شُرُوطِ الْمُوصَى لَهُ.
(ر: ف 37)
ح ـ هَلاَكُ الْمُوصَى بِهِ الْمُعَيَّنِ أَوِ اسْتِحْقَاقُهُ:
76 - تَبْطُل الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ مُعَيَّنًا بِالذَّاتِ، وَهَلَكَ قَبْل قَبُول الْمُوصَى لَهُ؛ لِفَوَاتِ مَحَل حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَيَسْتَحِيل ثُبُوتُ حُكْمِ التَّصَرُّفِ أَوْ بَقَاؤُهُ بِدُونِ وُجُودِ مَحَلِّهِ أَوْ بَقَائِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَهَلَكَتْ، تَبْطُل الْوَصِيَّةُ؛ لأََنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ وَقْتَ الإِْيصَاءِ، وَقَدْ فَاتَتْ بَعْدَئِذٍ، فَفَاتَ مَحَل الْوَصِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ تَبْطُل الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِي شَيْءٍ بِذَاتِهِ أَوْ مِنْ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَمْوَالِهِ، كَأَنْ يُوصِيَ بِنِصْفِ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ يُوصِيَ بِفَرَسٍ مِنْ أَفْرَاسِهِ الْعَشَرَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَهَلَكَتْ، أَوْ بِنِصْفِ دُورِهِ فَهُدِمَتْ، فَلاَ شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ، لِفَوَاتِ مَحَل الْوَصِيَّةِ.
وَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ أَيْضًا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِحْقَاقُ قَبْل مَوْتِ الْمُوصِي أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ بِالاِسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ(43/273)
الْوَصِيَّةَ كَانَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَتَبْطُل (1) .
(ر: اسْتِحْقَاق ف 32)
ط ـ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوصَى لَهُ.
(ر: ف 35 - 36)
الْمُحَاصَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ:
78 - الأَْصْل فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ بِأَزْيَدَ مِنْ ثُلُثِ الْمَال إِنْ كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَزْيَدَ مِنْ ثُلُثِ الْمَال فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا بَطَلَتْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا تَزِيدُ عَلَى
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 394، وابن عَابِدِينَ 5 / 431، وتكملة فَتْح الْقَدِير 10 / 456 وَمَا بَعْدَهَا، ومطالب أُولِي النُّهَى 46، والمغني 6 / 154 ـ 155، وغاية الْمُنْتَهَى 2 / 368، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 440، والخرشي 8 / 182، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 72
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 369، والفواكه الدَّوَانِي 2 / 189، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 46 ـ 47، والمغني 6 / 13(43/274)
ثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ وَكَانَ الثُّلُثُ يَضِيقُ بِالْوَصَايَا فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُمْ يَتَحَاصُّونَ فِي مِقْدَارِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ فَيَدْخُل النَّقْصُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، فَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِالسُّدُسِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ الَّذِينَ يَتَحَاصُّونَ مَال الْمُفْلِسِ، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلاً بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
79 - قَال الْحَنَفِيَّةُ إِذَا اجْتَمَعَ الْوَصَايَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعِبَادِ أَوْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ اعْتِبَارَ التَّقْدِيمِ مُخْتَصٌّ بِحُقُوقِهِ تَعَالَى لِكَوْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاحِدًا، وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ فَلاَ يُعْتَبَرُ.
فَمَا لِلْعِبَادِ خَاصَّةً لاَ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّقْدِيمُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لإِِنْسَانٍ ثُمَّ بِهِ لآِخَرَ إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى التَّقْدِيمِ، أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ عِتْقًا أَوْ مُحَابَاةً.
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 374 وتكملة فَتْح الْقَدِير 9 / 368 نَشْر دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ العربي والدر الْمُخْتَار مَعَ حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 427، والفواكه الدَّوَانِي 2 / 191، والمدونة 6 / 51، 54، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 48، وكشاف الْقِنَاع 4 / 340، والمغني 6 / 159(43/274)
وَمَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ فَرَائِضَ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ أَوْ وَاجِبَاتٍ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوْ تَطَوُّعَاتٍ كَالْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ لِلْفُقَرَاءِ يَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ.
وَإِنِ اخْتَلَطَتْ يَبْدَأْ بِالْفَرَائِضِ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا، ثُمَّ بِالْوَاجِبَاتِ وَمَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ حَقِّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الثُّلُثَ عَلَى جَمِيعِهَا وَيَجْعَل كُل جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ وَلاَ يَجْعَل كُلَّهَا جِهَةً وَاحِدَةً، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ فَتَنْفَرِدُ كَوَصَايَا الآْدَمِيِّينَ ثُمَّ تُجْمَعُ فَيُقَدَّمُ فِيهَا الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ. فَلَوْ قَال: ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَلِزَيْدٍ وَالْكَفَّارَاتِ قُسِّمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَلاَ يُقَدَّمُ الْفَرْضُ عَلَى حَقِّ الآْدَمِيِّ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الآْدَمِيُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِأَنْ أَوْصَى بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَلاَ يُقَسَّمُ بَل يُقَدَّمُ الأَْقْوَى فَالأَْقْوَى لأَِنَّ الْكُل يَبْقَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَصِيَّةِ عِتْقٌ مُنْفَذٌ فِي الْمَرَضِ، أَوْ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ كَالتَّدْبِيرِ وَلاَ مُحَابَاةٌ مُنْجَزَةٌ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَ بُدِئَ بِهِمَا ثُمَّ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ(43/275)
قُوَّةً قُدِّمَ مَا قَدَّمَ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا (1) .
وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْوَصَايَا أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُمْ يَتَحَاصُّونَ فِي ثُلُثِ التَّرِكَةِ فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ بِنِسْبَةِ وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُمْ لاَ تَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا لَمْ تَزِدْ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْوَصَايَا عَلَى الثُّلُثِ كَثُلُثٍ لِوَاحِدٍ وَسُدُسٍ لآِخَرَ وَرُبُعٍ لآِخَرَ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ فِي الثُّلُثِ وَلاَ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ سَوِيَّةً بَيْنَهُمُ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يَسْتَوِيَا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَلآِخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اتِّفَاقًا (2) .
قَال فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: لأَِنَّهُ يَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَقِّهِمَا إِذْ لاَ يُزَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجَازَةِ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، وَالْمَحَل يَقْبَل الشَّرِكَةَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا (3) .
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لأَِحَدِ الْمُوصَى لَهُمْ أَزْيَدَ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 423 ـ 424
(2) الدُّرّ المختار وحاشية ابْن عَابِدِينَ عَلَيْهِ 5 / 427
(3) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 9 / 368 نَشْر دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ(43/275)
مِنَ الثُّلُثِ كَمَنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِلآْخَرِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لاَ يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل الْمُسْتَثْنَاةِ، فَفِي هَذَا الْمِثَال ـ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَال لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِهِ لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَ عَدَمِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ ـ يَكُونُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لأَِنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ شَيْئَيْنِ: الاِسْتِحْقَاقَ عَلَى الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَتَفْضِيل بَعْضِ أَهْل الْوَصَايَا عَلَى بَعْضٍ، وَالثَّانِي ـ وَهُوَ التَّفْضِيل ـ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الأَْوَّل، وَلَمَّا بَطَل الأَْوَّل وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَعَدَمِ إِجَازَتِهِمْ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ التَّفْضِيل، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ فَيُنَصَّفُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَتَحَاصُّ الْمُوصَى لَهُمْ فِي الثُّلُثِ بِنِسْبَةِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْكُل ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ، لأَِنَّ الْبَاطِل هُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ قَصَدَهُمَا الْمُوصِي وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ، وَهَذَا قَدْ بَطَل لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الشَّيْءُ الآْخَرُ وَهُوَ قَصْدُ الْمُوصِي تَفْضِيل(43/276)
أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ فَقَدْ جُعِل الْمُوصَى لِصَاحِبِ الْكُل ـ وَهُوَ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ ـ ثَلاَثَةَ أَمْثَال مَا جَعَلَهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَأْخُذُ مِنْ ثُلُثِ الْمَال بِحِصَّةِ ذَلِكَ الزَّائِدِ بِأَنْ يُقَسَّمَ أَرْبَاعًا، ثَلاَثَةٌ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْكُل وَوَاحِدٌ لِلآْخَرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالصَّحِيحُ قَوْل الإِْمَامِ كَمَا فِي تَصْحِيحِ الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ وَالدُّرِّ الْمُنْتَقَى عَنِ الْمُضْمَرَاتِ وَغَيْرِهِ (1) .
80 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْوَصَايَا مَا يُقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا كَفَكِّ الأَْسِيرِ، ثُمَّ الْمُدَبَّرِ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ زَكَاةِ مَالٍ أَوْصَى بِهَا، ثُمَّ زَكَاةِ فِطْرٍ، ثُمَّ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ، ثُمَّ كَفَّارَةِ يَمِينٍ ثُمَّ النَّذْرِ الَّذِي لَزِمَهُ. . ثُمَّ ذَكَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُعْتَبَرُ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ثُمَّ أَوْصَى بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي الثُّلُثِ وَلاَ يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ (2) .
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ عَلَيْهِ 5 / 427، 428، والهداية وَشُرُوحهَا 9 / 368، 369، والبدائع 7 / 374
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 444، والخرشي 8 / 851، والفواكه الدَّوَانِي 2 / 191(43/276)
جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَأَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ رَقَبَةٌ قَال: قَال لِي مَالِكٌ: الرَّقَبَةُ مُبْدَأَةٌ عَلَى الْحَجِّ لأَِنَّ الْحَجَّ لَيْسَ عِنْدَنَا أَمْرًا مَعْمُولاً بِهِ، وَقَدْ قَال أَيْضًا: أَنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ، وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَالٍ، وَأَوْصَى بِعِتْقِ رَقَبَةٍ تَحَاصَّا، وَإِذَا أَوْصَى بِمَالٍ وَأَوْصَى بِالْحَجِّ تَحَاصَّا (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي لاَ تَبْدِئَةَ فِيهَا وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا فَإِنَّ أَهْل الْوَصَايَا يَتَحَاصُّونَ فِيهَا، جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ أَيْ لَمْ يَسَعْ جَمِيعَ مَا أَوْصَى بِهِ تَحَاصَّ أَهْل الْوَصَايَا الَّتِي لاَ تَبْدِئَةَ فِيهَا كَمَا يَتَحَاصُّ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ فِي الْمَال الَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ أَثْمَانِ مَا بِيعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، وَالْوَصَايَا الَّتِي لاَ تَبْدِئَةَ فِيهَا هِيَ الَّتِي لَمْ يُرَتِّبْهَا الْمُوصِي وَلاَ الشَّارِعُ كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ بِنِصْفِ مَالِهِ مَثَلاً، وَلآِخَرَ بِثُلُثِهِ فَإِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ اقْتَسَمَا الثُّلُثَ عَلَى النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَمَقَامُهُمَا مِنْ سِتَّةٍ: لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلاَثَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَهِيَ الْمُحَاصَّةُ فَاجْعَلْهَا ثُلُثَ الْمَال يَكُونُ الْمَال خَمْسَةَ عَشَرَ: خَمْسَةٌ لِلْمُوصَى لَهُمْ، الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ لَهُ
__________
(1) الْمُدَوَّنَة 6 / 42(43/277)
ثَلاَثَةٌ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ اثْنَانِ، وَتَبْقَى عَشَرَةٌ لأَِهْل الْفَرِيضَةِ.
وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ فَإِنَّكَ تَأْخُذُ مَقَامَ النِّصْفِ وَمَقَامَ الرُّبُعِ وَتَنْظُرُ بَيْنَهُمَا فَتَجِدُهُمَا مُتَدَاخِلَيْنِ فَتَكْتَفِي بِالأَْرْبَعَةِ فَتَأْخُذُ نِصْفَهَا وَرُبُعَهَا، يَكُونُ الْمَجْمُوعُ ثَلاَثَةً تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ، لِصَاحِبِ الرُّبُعِ: سَهْمٌ، وَلِلآْخَرِ سَهْمَانِ.
وَإِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلاَثَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَحِسَابُ هَذَا عَلَى حِسَابِ عَوْل الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّحَاصُصُ الْوَصِيَّةَ لِمَجْهُولٍ وَاحِدٍ أَوْ مُتَعَدِّدٍ مَعَ وَصِيَّةٍ لِمَعْلُومٍ كَمَنْ أَوْصَى بِوَقِيدِ مِصْبَاحٍ عَلَى الدَّوَامِ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ مَثَلاً بِدِرْهَمٍ كُل لَيْلَةٍ وَشِرَاءِ خُبْزٍ يُفَرَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ كُل يَوْمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَتَسْبِيل مَاءٍ عَلَى الدَّوَامِ بِدِرْهَمَيْنِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ كَالْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ بِكَذَا وَلِعَمْرٍو بِكَذَا فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُضْرَبُ لِلْمَجْهُول بِالثُّلُثِ أَيْ ثُلُثِ الْمَال أَيْ يُجْعَل الثُّلُثُ فَرِيضَةً ثُمَّ يُضَمُّ إِلَيْهَا مَا أَوْصَى
__________
(1) الْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 191، والمدونة 6 / 54، 55(43/277)
بِهِ لِلْمَعْلُومِ وَهُوَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَيُجْعَل بِمَنْزِلَةِ فَرِيضَةٍ عَالَتْ، فَإِذَا كَانَ ثُلُثُ الْمَال ثَلاَثَمِائَةٍ جُعِل كُلُّهُ لِلْمَجْهُول ثُمَّ يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَعْلُومُ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مَثَلاً ثَلاَثَمِائَةٍ فَكَأَنَّهَا عَالَتْ بِمِثْلِهَا فَيُعْطَى الْمَعْلُومُ فَأَكْثَرُ نِصْفَ الثَّلاَثِمِائَةِ وَيَبْقَى نِصْفُهَا لِلْمَجْهُول، وَلَوْ كَانَ الْمَعْلُومُ مِائَةً زِيدَتْ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ فَكَأَنَّمَا عَالَتْ بِمِثْل رُبُعِهَا فَيُعْطَى الْمَعْلُومُ رُبُعَ الثَّلاَثِمِائَةِ وَيَبْقَى الْبَاقِي لِلْمَجْهُول.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَقْسِيمِ مَا حَصَل لِلْمَجْهُول هَل يُقَسَّمُ بِالْحِصَصِ أَوْ بِالتَّسَاوِي؟ قَوْلاَنِ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَال مَالِكٌ: إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ فَقَال: أَوْقِدُوا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مِصْبَاحًا أَقِيمُوهُ لَهُ، وَأَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِوَصَايَا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ كَمْ قِيمَةُ ثُلُثِ الْمَيِّتِ وَإِلَى مَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الْوَصَايَا ثُمَّ يَتَحَاصُّونَ فِي ثُلُثِ الْمَيِّتِ، يُحَاصُّ لِلْمَسْجِدِ بِقِيمَةِ الثُّلُثِ، وَلِلْوَصَايَا بِمَا سَمَّى لَهُمْ فِي الثُّلُثِ، فَمَا صَارَ لِلْمَسْجِدِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُحَاصَّةِ أُوقِفَ لَهُ فَيُسْتَصْبَحُ بِهِ فِيهِ حَتَّى يُنْجَزَ.
وَقَال سَحْنُونٌ: إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِشَيْءٍ لَهُ غَايَةٌ وَلاَ أَمَدَ مِثْل أَنْ يَقُول: أَعْطُوا الْمَسَاكِينَ كُل يَوْمٍ خُبْزَةً، أَوْ قَال: اسْقُوا كُل يَوْمٍ رَاوِيَةَ مَاءٍ فِي السَّبِيل، فَهَذَا كَأَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّمَا
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 435، والخرشي 8 / 178(43/278)
يُحَاصُّ لِهَذَا بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى مَعَ هَذَا بِوَصَايَا، قَال سَحْنُونٌ: وَكَذَلِكَ كُل مَا كَانَ لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَجَلٍ مِثْل أَنْ يَقُول: أَعْطُوا الْمَسَاكِينَ دِرْهَمًا كُل يَوْمٍ أَوْ كُل شَهْرٍ وَلَمْ يُؤَجِّل فَإِنَّهُمْ يُضْرَبُ لَهُمْ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى مَعَهُمْ بِوَصَايَا (1) .
وَمِمَّا يَقَعُ فِيهِ التَّحَاصُصُ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النَّذْرُ وَمُبْتَل الْمَرِيضِ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ حَمْلِهَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل. فَإِنَّهُمَا لاَ تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لاَ يَتَحَاصَّانِ وَإِنَّمَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لاَ تَتَبَعَّضُ (2) .
81 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْوَصِيَّةِ تَبَرُّعَاتٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَعَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِتَبَرُّعَاتٍ غَيْرِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّطُ عَلَى جَمِيعِ التَّبَرُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ أَوِ الْمِقْدَارِ كَمَا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ، فَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ وَلِبَكْرٍ بِخَمْسِينَ، وَلِعَمْرٍو بِخَمْسِينَ، وَثُلُثُ مَالِهِ مِائَةٌ، أَعْطَى الأَْوَّل خَمْسِينَ، وَكُلًّا مِنَ الآْخَرَيْنِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَلاَ يُقَدَّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالسَّبْقِ لأَِنَّ الْوَصَايَا إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ
__________
(1) الْمُدَوَّنَة 6 / 51
(2) الْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 191(43/278)
الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ.
وَقَاسَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْعَوْل فِي الْفَرَائِضِ، وَهَذَا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، فَلَوْ رَتَّبَ كَأَنْ قَال: أَعْطُوا زَيْدًا مِائَةً ثُمَّ عَمْرًا مِائَةً جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ تَرْتِيبِهِ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ عِتْقٌ مَعَ تَبَرُّعَاتٍ أُخْرَى فِي الْوَصِيَّةِ، كَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِائَةٍ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّطُ عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ لِلْعَتِيقِ لاِتِّحَادِ وَقْتِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً وَالثُّلُثُ مِائَةً عُتِقَ نِصْفُهُ، وَأُعْطِيَ لِزَيْدٍ خَمْسُونَ، وَفِي قَوْلٍ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ لِقُوَّتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الآْدَمِيِّ (1) .
وَإِنْ وَكَّل الْمُوصِي وَكِيلاً فِي هِبَةٍ وَوَكَّل آخَرَ فِي بَيْعٍ بِمُحَابَاةٍ وَوَكَّل آخَرَ فِي صَدَقَةٍ، وَتَصَرَّفَ الْوُكَلاَءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، قُسِّطَ الثُّلُثُ عَلَى الْكُل بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا يُفْعَل فِي الدُّيُونِ.
وَإِنْ كَانَ فِي تَصَرُّفِ الْوُكَلاَءِ عِتْقٌ قُسِّطَ الثُّلُثُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَفِي قَوْلٍ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ (2) .
وَقَالُوا: إِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ فِي الْمَرَضِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ التَّبَرُّعَاتُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانَتْ فِي هِبَاتٍ أَوْ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 48، والمهذب 1 / 461، وتحفة الْمُحْتَاج 7 / 25
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 49(43/279)
مُحَابَاةٍ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اللُّزُومِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةَ الْمِقْدَارِ قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَيْهَا عَلَى التَّفَاضُل، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً قُسِّمَ بَيْنَهَا عَلَى التَّسَاوِي كَمَا يُفْعَل فِي الدُّيُونِ، وَإِنْ كَانَ عِتْقًا فِي عَبِيدٍ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ.
وَإِنْ وَقَعَتِ التَّبَرُّعَاتُ مُتَفَرِّقَةً قُدِّمَ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، عِتْقًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لأَِنَّ الأَْوَّل سَبَقَ فَاسْتُحِقَّ بِهِ الثُّلُثُ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بِمَا بَعْدَهُ.
وَإِنْ كَانَتِ التَّبَرُّعَاتُ وَصَايَا وَعَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا لَمْ يُقَدَّمْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالسَّبْقِ لأَِنَّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ يَلْزَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ (1) .
82 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ: مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا وَتَجَاوَزَتِ الْوَصَايَا الثُّلُثَ وَرَدَّ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَيَدْخُل النَّقْصُ عَلَى كُل وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةُ بَعْضِهِمْ عِتْقًا، لأَِنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الأَْصْل وَتَفَاوَتُوا فِي الْمِقْدَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِمِائَةٍ وَلآِخَرَ بِمُعَيَّنٍ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ وَوَصَّى بِفِدَاءِ أَسِيرٍ بِثَلاَثِينَ
__________
(1) الْمُهَذَّب 1 / 461(43/279)
وَلِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ بِعِشْرِينَ وَثُلُثُ مَالِهِ مِائَةٌ، جَمَعْتَ الْوَصَايَا كُلَّهَا فَوَجَدْتَهَا ثَلاَثَمِائَةٍ وَنَسَبْتَ مِنْهَا الثُّلُثَ فَتَجِدُهُ ثُلُثَهَا فَتُعْطِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ وَصِيَّتِهِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ الْمِائَةُ وَكَذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمِائَةِ وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْخَمْسِينَ إِلَى ثُلُثِهَا، وَلِفِدَاءِ الأَْسِيرِ عَشَرَةٌ وَلِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا اشْتَمَلَتِ الْوَصَايَا عَلَى عِتْقٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْعِتْقُ، يُبْدَأُ بِهِ وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَبِهِ يَقُول شُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، لأَِنَّ فِيهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقًّا لآِدَمِيٍّ فَكَانَ آكَدَ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ فَسْخٌ وَيَلْحَقُ غَيْرَهُ ذَلِكَ (2) .
كِتَابَةُ الْوَصِيَّةِ وَالإِْشْهَادُ عَلَيْهَا:
83 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " (3) وَفِي لَفْظٍ:
__________
(1) الْمُغْنِي 6 / 159، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 450
(2) الْمُغْنِي 6 / 159، والإنصاف 7 / 195
(3) حَدِيث: " مَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . . ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (7)(43/280)
" يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ". (1) وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُوصِي أَنْ يَبْدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَمْدِ وَنَحْوِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الشَّهَادَتَيْنِ كِتَابَةً أَوْ نُطْقًا، ثُمَّ الإِْشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لأَِجْل صِحَّتِهَا وَنَفَاذِهَا، وَمَنْعًا مِنَ احْتِمَال جُحُودِهَا وَإِنْكَارِهَا (2) .
رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلاَنٌ أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، أَوْصَاهُمْ بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ (3) : ( {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ) (4) .
__________
(1) رِوَايَة حَدِيث: " يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1249)
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 347، والشرح الصَّغِير 4 / 601، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 39، وكفاية الأَْخْيَار 1 / 55، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 6 / 70
(3) أَثَر أَنَس: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ. . أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي الْمُصَنَّفِ (9 / 53 ط الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ)
(4) سُورَة الْبَقَرَة: 132(43/280)
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ:
86 - تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ بِطُرُقِ الإِْثْبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالشَّهَادَةِ وَالْكِتَابَةِ:
أَمَّا الْكِتَابَةُ: فَمُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً، أَيْ مُسْطَرَةً عَلَى وَرَقٍ وَنَحْوِهِ، وَمُعَنْوَنَةً أَيْ مُصَدَّرَةً بِالْعُنْوَانِ: وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ: مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَبِينَةً، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالرَّقْمِ عَلَى الْمَاءِ فَلاَ تُعْتَبَرُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَبِينَةً غَيْرَ مَرْسُومَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْجُدْرَانِ وَأَوْرَاقِ الشَّجَرِ، فَهِيَ كِنَايَةٌ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ لاَ يُقْضَى بِالْخَطِّ الْمُجَرَّدِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي مَسَائِل: كِتَابِ أَهْل الْحَرْبِ بِطَلَبِ الأَْمَانِ إِلَى الإِْمَامِ، وَدَفْتَرِ السِّمْسَارِ وَالصَّرَّافِ وَالْبَيَّاعِ (1) .
وَتَنْعَقِدُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكِتَابَةِ، بِأَنْ نَوَى بِالْمَكْتُوبِ الْوَصِيَّةَ، وَأَعْرَبَ بِالنِّيَّةِ نُطْقًا، أَوْ أَقَرَّ بِهَا وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلاَ تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَطِّ الْمُجَرَّدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لإِِمْكَانِ التَّزْوِيرِ
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْحِ الْقَدِير وَالْعِنَايَةِ 8 / 511 وَمَا بَعْدَهَا، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 2 / 347، ورد الْمُحْتَار 3 / 443(43/281)
وَتَشَابُهِ الْخُطُوطِ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْوَصِيَّةِ: فَتَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ عَلَى الشُّهُودِ، فَيَسْمَعُ الشُّهُودُ مِنَ الْمُوصِي مَضْمُونَهُ، أَوْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِمَا فِيهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَجُوزُ بِرُؤْيَةِ خَطِّ الشَّاهِدِ بِالشَّهَادَةِ بِالإِْجْمَاعِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ إِنْ كَانَتْ بِخَطِّ الْمُوصِي مَعَ الإِْشْهَادِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا عَلَى الشُّهُودِ وَلَمْ يَفْتَحْ كِتَابَ الْوَصِيَّةِ، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ حَيْثُ أَشْهَدَ بِقَوْلِهِ لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا بِمَا فِي هَذِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَحْوٌ، حَتَّى وَلَوْ بَقِيَ كِتَابُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمُوصِي، وَلَمْ يُخْرِجْهُ حَتَّى مَاتَ.
فَإِنْ ثَبَتَ لَدَى الْقَاضِي أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْوَرَقَةُ بِخَطِّ الْمُوصِي، أَوْ قَرَأَهَا عَلَى الشُّهُودِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُشْهَدِ الْمُوصِي عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي الصُّورَتَيْنِ، بِأَنْ لَمْ يَقُل: اشْهَدُوا عَلَى وَصِيَّتِي، أَوْ لَمْ يَقِل: نَفِّذُوهَا، لَمْ تُنَفَّذْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لاِحْتِمَال رُجُوعِهِ عَنْهَا، فَإِنْ قَال الْمُوصِي لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا، أَوْ قَال: أَنْفِذُوهَا، نُفِّذَتْ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 53، 4 / 399، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 416، ط بُولاَق(43/281)
وَقَال عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ التَّسَوُّلِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَصِيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَالإِْشْهَادُ إِمَّا كِتَابِيٌّ أَوْ شَفَوِيٌّ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ: مَنْ كَتَبَ وَصِيَّةً، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا، حُكِمَ بِهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ رُجُوعُهُ عَنْهَا، فَتَثْبُتُ الْوَصِيَّةُ، وَيُقْبَل مَا فِيهَا بِالْخَطِّ الثَّابِتِ أَنَّهُ خَطُّ الْمُوصِي بِإِقْرَارِ وَرَثَتِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُعَرِّفُ خَطَّهُ تَشْهَدُ أَنَّهُ خَطُّهُ وَإِنْ طَال الزَّمَنُ، أَوْ تَغَيَّرَ حَال الْمُوصِي، أَوْ بِأَنْ عُرِفَ خَطُّهُ وَكَانَ مَشْهُورَ الْخَطِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " (2) ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْكِتَابَةِ، فَدَل عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِهَا، وَ " لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ وَغَيْرِهِمْ " مُلْزِمًا الْعَمَل بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَل الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلأَِنَّ الْكِتَابَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْمَقْصُودِ، فَهِيَ كَاللَّفْظِ.
وَإِنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَقَال: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ، أَوْ قَال: هَذِهِ وَصِيَّتِي فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَا، لاَ تَثْبُتُ حَتَّى يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا فِيهِ، أَوْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ فَيُقِرَّ بِمَا فِيهِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْل
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 601
(2) حَدِيث: " مَا حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ فِقْرَة (7)(43/282)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَإِذَا أَرَدْتَ كِتَابَةَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَجْهُ فِيهِ كِتَابَةُ كِتَابٍ كَتَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتُكْتِبَ فَأَمْلاَهُ عَلَى السَّائِل عَلَى الْبَدِيهَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنَ الذُّل وَهُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ فِي الْقُبُورِ مُبْتَهِلاً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مُتَضَرِّعًا أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نِعْمَتَهُ وَأَنْ لاَ يَسْلُبَهُ مَا وَهَبَ لَهُ فِيهِ وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ الْمُلْكَ وَبِيَدِهِ الْخَيْرَ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَوْصَى فُلاَنٌ وَلَدَهُ وَأَهْلَهُ وَقَرَابَتَهُ وَإِخْوَتَهُ وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُ بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَأَوْصَاهُمْ جَمِيعًا أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ
__________
(1) الْمُغْنِي 6 / 69 وَمَا بَعْدَهَا، وكشاف الْقِنَاع 4 / 373، وغاية الْمُنْتَهَى 2 / 348(43/282)
وَفِعْلِهِمْ وَأَنْ يَلْزَمُوا طَاعَتَهُ وَيَنْتَهُوا عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَجَمِيعُ مَا أَوْصَاهُمْ لاَ غِنَى بِهِمْ عَنْهُ وَلاَ غِنَى بِأَحَدٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنِ التَّمَسُّكِ بِأَمْرِهِ، وَأَقَرَّ فُلاَنٌ أَنَّ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا فَتَنْسُبُهُ وَتُسَمِّيهِ إِلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَأَوْصَى إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ أَنْ يُقْضَى جَمِيعُ دُيُونِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِمَّا يَخْلُفُ، وَيُنْفَذُ مِنْ ثُلُثِهِ فِي كَذَا وَفِي كَذَا ثُمَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِي وَإِنْفَاذِ وَصَايَايَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِي وَهُمْ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ، وَلِي أَنْ أُغَيِّرَ وَصِيَّتِي الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا فِي ثُلُثِي وَأَرْجِعَ عَمَّا شِئْتُ وَأَنْقُصَ مَا رَأَيْتُ وَأُبَدِّل مِنَ الْمُوصَى لَهُمْ مَنْ شِئْتُ، فَإِنْ مِتُّ فَوَصِيَّتِي مُنَفَّذَةٌ عَلَى مَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنْهَا.
وَقَدْ جَعَل فُلاَنٌ فُلاَنًا وَصِيَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَبِل فُلاَنٌ الْوَصِيَّةَ مِنْهُ مُوَاجَهَةً، شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (1) .
تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ:
85 - إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَاتُ التَّرِكَةِ كُلُّهَا مَالاً حَاضِرًا، لاَ غَائِبَ مِنْهَا، وَلاَ دَيْنَ لِلْمُوصِي عَلَى أَحَدٍ، تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَال،
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 347 ـ 348(43/283)
سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوصَى بِهِ نُقُودًا مُرْسَلَةً أَيْ مَبْلَغًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً، أَمْ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَدَارٍ مُعَيَّنَةٍ، أَمْ سَهْمًا شَائِعًا كَرُبُعِ التَّرِكَةِ أَوْ ثُلُثِهَا، فَتُقَدَّرُ التَّرِكَةُ جَمِيعُهَا، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ سَهْمَهُ مِنْ كُل الْمَال.
أَمَّا إِنْ كَانَ بَعْضُ مَال التَّرِكَةِ حَاضِرًا، وَبَعْضُهَا دُيُونًا أَوْ مَالاً غَائِبًا، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الأَْحْوَال.
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ مَالاً مُرْسَلاً، كَأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَال الْحَاضِرِ مِنَ التَّرِكَةِ أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ، إِذْ لاَ ضَرَرَ فِي أَخْذِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ، حَيْثُ يَبْقَى لَهُمْ ثُلُثَا الْمَال الْحَاضِرِ.
وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ اسْتَوْفَى الْمُوصَى لَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْمَوْجُودِ، وَكَانَ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَكُلَّمَا حَضَرَ شَيْءٌ، اسْتَوْفَى الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهُ، حَتَّى يَكْمُل حَقُّهُ. وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، كَدَارٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ نُقُودٍ مُعَيَّنَةٍ كَهَذِهِ النُّقُودِ، أَوِ النُّقُودِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ فُلاَنٍ.
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 430 ـ 432، والإنصاف 7 / 270، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 244 ـ 258(43/283)
فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ حَيْثُ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُعَيَّنَةِ بِمِقْدَارِ ثُلُثِ الْمَال الْحَاضِرِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَضَرَ شَيْءٌ مِنَ الْمَال الْغَائِبِ كَانَ بَاقِي الْعَيْنِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْعَيْنِ، فَتَنْفُذُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ مَا دَامَ التَّنْفِيذُ مُمْكِنًا، تَنْفِيذًا لإِِرَادَةِ الْمُوصِي، وَيَظَل بَاقِي الْعَيْنِ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُ الْمَال الْغَائِبِ، فَإِذَا حَضَرَ نَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْعَيْنِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ كَانَ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ (1) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ لَوْ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ غَيْرُهُ بِعَيْنٍ هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ فَأَكْثَرُ وَهِيَ حَاضِرَةٌ وَبَاقِي الْمَال غَائِبٌ مُلِّكَ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْمَال الْحَاضِرِ فَقَطْ لِجَوَازِ تَلَفِ الْغَائِبِ وَعَدَمِ إِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَمُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهِ وَكَذَا فِي بَاقِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَحْضُرَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْحَاضِرُ مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّ تَسَلُّطَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَسَلُّطِ الْوَرَثَةِ عَلَى مِثْل مَا تَسَلَّطَ هُوَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَتْلَفُ الْغَائِبُ فَلاَ يَصِل إِلَى حَقِّهِ وَلاَ يَتَسَلَّطُ
__________
(1) الاِخْتِيَار 5 / 75، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 430 ـ 432، والإنصاف 7 / 270، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 42، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 49(43/284)
الْوَرَثَةُ عَلَى ثُلُثَيِ الْحَاضِرِ (1) .
الْوَصَايَا وَطُرُقُ حِسَابِهَا:
الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالأَْنْصِبَاءِ أَوْ بِالأَْجْزَاءِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الأَْجْزَاءِ وَالأَْنْصِبَاءِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْوَصِيَّةُ بِالأَْنْصِبَاءِ:
الْوَصِيَّةُ بِالأَْنْصِبَاءِ لَهَا صُوَرٌ:
أ - الْوَصِيَّةُ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِ:
86 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لأَِحَدٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ " (2) وَلأَِنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ الْوَصِيَّةِ فَلاَ أَثَرَ لِذِكْرِ الْوَارِثِ. إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَ ذَلِكَ الْوَارِثِ الْمُعَيَّنِ مَضْمُومًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ. فَإِذَا قَال مَثَلاً: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِي وَلاَ وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ التَّرِكَةِ إِذَا أَجَازَ الاِبْنُ الْوَصِيَّةَ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ أَوْ بَنُونَ فَأَوْصَى
__________
(1) أَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 42
(2) أَثَر أَنَس أَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبٍ أَحَدَّ وَلَده أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة (10 / 170 ط السَّلَفِيَّة)(43/284)
بِمِثْل نَصِيبِهِمَا أَوْ بِمِثْل نَصِيبِهِمْ فَالْمُوصَى لَهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ بِأَنْ قَال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِي أَوْ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ ابْنٌ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إِنْ أَجَازَ الاِبْنُ الْوَصِيَّةَ، وَإِلاَّ فَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ فَقَطْ، فَإِنْ قَال ذَلِكَ وَمَعَهُ ابْنَانِ فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ نِصْفَ التَّرِكَةِ إِنْ أَجَازَا الْوَصِيَّةَ وَإِلاَّ فَالثُّلُثُ وَلاَ كَلاَمَ لَهُمَا، وَإِنْ زَادُوا فَلَهُ قَدْرُ نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلاَ كَلاَمَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الاِبْنِ ذُو فَرْضٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَوِي الْفَرْضِ إِنْ أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ (2) .
وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْفَائِقِ: إِذَا وَصَّى بِمِثْل نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ فَالْمُخْتَارُ لَهُ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ غَيْرَ مُزَادٍ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي.
فَإِذَا وَصَّى بِمِثْل نَصِيبِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ عَلَى الْمَذْهَبِ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 429، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 188، والحاوي للماوردي 10 / 19، وَمَا بَعْدَهَا، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 208، وكشاف الْقِنَاع 4 / 381، والإنصاف 7 / 275
(2) الشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي عَلَيْهِ 4 / 597، وَمَا بَعْدَهَا، والحاوي 10 / 19 20، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 446(43/285)
الْفُقَهَاءِ - وَلَهُ النِّصْفُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَائِقِ وَيُقَسَّمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الاِبْنَيْنِ (1) .
ب - الْوَصِيَّةُ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ:
87 - إِذَا أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْمِيرَاثِ كَالْبَنِينَ مَثَلاً فَلَهُ مِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ وَيُجْعَل كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ زَادَ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي الْمِيرَاثِ فَلَهُ مِثْل نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا يُزَادُ عَلَى فَرِيضَتِهِمْ، وَإِنَّمَا جُعِل لَهُ هَذَا لأَِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ فَلاَ يَثْبُتُ.
فَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْل نَصِيبِ وَلَدِهِ وَلَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ فَلَهُ مِثْل نَصِيبِ الْبِنْتِ، لأَِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَتَرَكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، أَوْ تَرَكَ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ. أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ فِي الْمِيرَاثِ أَوْ مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ
__________
(1) الإِْنْصَاف لِلْمَرْدَاوَيَّ 7 / 275
(2) الْحَاوِي للماوردي 10 / 22، وَمَا بَعْدَهَا، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 6 / 32، وكشاف الْقِنَاع 4 / 381 382، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 63(43/285)
فَيُحَاسِبُهُمُ الْمُوصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ أَيْ يُقَسَّمُ الْمَال عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْمُوصَى لَهُ الذَّكَرِ كَالأُْنْثَى، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ رُؤُوسِ وَرَثَتِهِ ثَلاَثَةً فَلَهُ الثُّلُثُ، أَوْ أَرْبَعَةً فَلَهُ الرُّبُعُ، أَوْ خَمْسَةً فَلَهُ الْخُمُسُ، وَهَكَذَا، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُل وَارِثٍ، بَل يُجْعَل الذَّكَرُ رَأْسًا وَالأُْنْثَى رَأْسًا كَذَلِكَ، ثُمَّ يُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ (1) .
ج - الْوَصِيَّةُ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ:
88 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ كَانَ لَهُ ابْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَمَنْ وَصَّى بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ غَيْرُ الاِبْنِ يَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِنِصْفِ الْمَال، لأَِنَّ الْمِثْل يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَإِنْ أَجَازَ الاِبْنُ أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ النِّصْفَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ الاِبْنُ أَخَذَ الثُّلُثَ (2) .
وَيُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَارِثٌ وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ الاِبْنُ مِمَّنْ يَرِثُ، لِكَوْنِهِ رَقِيقًا أَوْ مُخَالِفًا لِدِينِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ أَصْلاً.
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 598، وحاشية الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 447
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار 5 / 429، وروضة الْقُضَاة 2 / 686، وحاشية الشلبي بِهَامِش تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 188، وتكملة الْبَحْر الرَّائِق 8 / 470(43/286)
فَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَارِثٌ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.
أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ وَابْنُهُ مِمَّنْ لاَ نَصِيبَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلاَ شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّ الاِبْنَ لاَ نَصِيبَ لَهُ فَمِثْلُهُ لاَ شَيْءَ لَهُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا قَال الْمُوصِي: " لَوْ كَانَ يَرِثُ " فَيُعْطَى نَصِيبَهُ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ وَلاَ ابْنَ لَهُ فَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمُوصِي: لَوْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيُعْطَى نَصِيبَهُ حِينَئِذٍ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (1) .
د - الْوَصِيَّةُ بِنَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ:
89 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَوْصَى لِشَخْصٍ بِنَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالرُّويَانِيِّ إِلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْل
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 446، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 62، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 513، والمغني 6 / 35(43/286)
نَصِيبِ ابْنِهِ صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنِ الإِْلْغَاءِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْحَمْل عَلَى الْمَجَازِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الاِسْتِعْمَال كَثِيرٌ، وَالْوَصِيَّةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَال الْمُوصِي إِذْ لَيْسَ لِلاِبْنِ نَصِيبٌ قَبْل مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ التَّقْدِيرُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بَعْدُ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَرَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجْعَلُونَهَا وَصِيَّةً بِنِصْفِ الْمَال، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ.
وَفِي الرَّأْيِ الآْخَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُجْعَل الْوَصِيَّةُ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَال.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي - وَهُوَ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالإِْمَامِ الْبَغَوِيِّ - - وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى بُطْلاَنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لاَ يَمْلِكُ، لأَِنَّ نَصِيبَ الاِبْنِ مِلْكُهُ لاَ مِلْكُ أَبِيهِ، حَيْثُ إِنَّ نَصِيبَ الاِبْنِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَصِحُّ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَقَعْ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِلْكِ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ، فَأَجَازَهُ زَيْدٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.(43/287)
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنٌ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَصِيَّةُ بِالأَْجْزَاءِ:
91 - الْوَصِيَّةُ بِالْجُزْءِ لاَ تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُزْءٍ مُبْهَمٍ، أَوْ تَكُونَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ.
أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مُبْهَمٍ كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَوْ شَيْءٍ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ قِسْطٍ، فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُمَا (2) .
(ر: ف54، 55) .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فَلَهَا احْتِمَالاَنِ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (3) .
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 597، والدسوقي 4 / 446، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 62، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 208، والحاوي الْكَبِير 10 / 20، والمغني 6 / 33، وكشاف الْقِنَاع 4 / 381، والإنصاف 7 / 275، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 188، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 5 / 429، وتكملة فَتْح الْقَدِير 8 / 443
(2) الْمُبْدِع 6 / 78، وغاية الْمُنْتَهَى 2 / 372، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 315، وأسنى الْمَطَالِب 3 / 63، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 98، وتكملة فَتْح الْقَدِير 8 / 446، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 399، وعقد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 3 / 421
(3) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 214، والمبدع شَرْح الْمُقْنِع 6 / 81، والممتع فِي شَرْح الْمُقْنِع 4 / 266(43/287)
الاِحْتِمَال الأَْوَّل: الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ:
الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ لاَ تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَكُونَ بِجُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا.
أ - الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ:
91 - إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ: كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي وَرَثَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ طُرُقِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ.
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْمِيرَاثِ عَائِلَةً أَوْ غَيْرَ عَائِلَةٍ، وَيُنْظَرُ فِي مَخْرَجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ. ثُمَّ إِنِ انْقَسَمَ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ وَتَرَكَ ثَلاَثَةَ بَنِينَ، فَمَخْرَجُ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ الرُّبُعِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْبَنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمْ فَلَكَ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الأَْوَّل: أَنْ تَنْظُرَ فِي الْبَاقِي وَفِي مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ تَبَايَنَا ضَرَبْتَ مَسْأَلَةَ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ تَوَافَقَا ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْقِسْمَةُ. ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي مَخْرَجِ(43/288)
الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ، أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مَعَ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مُتَبَايِنَيْنِ. وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ فَفِي وَفْقِ الْبَاقِي. وَبِهَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ.
مِثَالُهُ: ثَلاَثَةُ بَنِينَ، أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلاَثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا ثَلاَثَةٌ، وَالْبَاقِي بَعْدَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ لاَ يَنْقَسِمَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ.
فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: يُضْرَبُ ثَلاَثَةٌ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ تَبْلُغْ تِسْعَةٌ مِنْهَا الْقِسْمَةَ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي الثَّلاَثَةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَلِكُل ابْنٍ سَهْمٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ مَضْرُوبٌ فِي الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ (1) .
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ: تَأْخُذُ مَخْرَجَ جُزْءِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ سِهَامًا قَبْل مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ زِدْتَ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 214 - 216، والوسيط لِلْغَزَالِيِّ 4 / 474 475 ط دَار السَّلاَمِ، والذخيرة للقرافي 13 / 110 - 112، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 483، والمبدع شَرْح الْمُقْنِع 6 / 81، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 518(43/288)
نِصْفَهَا، أَوْ بِالرُّبُعِ زِدْتَ ثُلُثَهَا أَوْ بِالْخُمُسِ زِدْتَ رُبُعَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الْعُشْرِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، يُطَّرَدُ ذَلِكَ فِي الْمَفْتُوحِ وَالأَْصَمِّ. فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ زِدْتَ الْعُشْرَ أَوْ بِجُزْءٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ زِدْتَ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ بِالنِّصْفِ زِدْتَ مِثْلَهَا؛ لأَِنَّ الَّذِي قَبْل مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ وَاحِدٌ، فَالْقِسْمَةُ عَلَى كُل وَاحِدٍ، وَلأَِنَّ النِّصْفَ هُوَ أَكْثَرُ الأَْجْزَاءِ وَأَوَّلُهَا، وَمَا قَبْلَهُ هُوَ الْوَاحِدُ، فَجَعَلْنَا سِهَامَ الْفَرِيضَةِ كَالْوَاحِدِ وَزِدْنَا عَلَيْهَا مِثْلَهَا.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّا إِذَا صَحَّحْنَا الْفَرِيضَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَأَخْرَجْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا، وَوَجَدْنَا الْبَقِيَّةَ غَيْرَ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى الْفَرِيضَةِ نَظَرْنَا نِسْبَةَ الْجُزْءِ الَّذِي أَخْرَجْنَاهُ مِنَ الْفَرِيضَةِ إِلَى بَقِيَّتِهَا، فَمَا كَانَ رَدَدْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ مَا نُسِبَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ النِّسْبَةُ، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ.
مِثَالُهُ: أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى الْعِبَارَةِ الأُْولَى تَحْمِل عَلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ جُزْءًا مَا قَبْل مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ هَاهُنَا النِّصْفُ فَتَصِيرُ سِتَّةً، يَخْرُجُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ اثْنَيْنِ، تَبْقَى أَرْبَعَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا اعْتَبَرْنَا الْجُزْءَ الَّذِي أَخْرَجْنَاهُ مِنْ فَرِيضَةِ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّتِهَا وَجَدْنَاهُ نِصْفَ الْبَاقِي فَزِدْنَا(43/289)
عَلَى الْفَرِيضَةِ نِصْفَهَا.
وَقَدْ يَقَعُ فِي الْفَرِيضَةِ كَسْرٌ؛ بِسَبَبِ حَمْل الْجُزْءِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَتُضْرَبُ الْمَسْأَلَةُ وَالْكَسْرُ فِي مَخْرَجِ ذَلِكَ الْكَسْرِ وَمِنْهَا تَصِحُّ.
مِثَال ذَلِكَ: أَوْصَى بِالسُّدُسِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِذَا أَخْرَجْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ مَخْرَجِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ تَبْقَى خَمْسَةٌ، فَلاَ تَنْقَسِمُ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَلاَ تُوَافِقُ، فَعَلَى الطَّرِيقِ الأَْوَّل: نَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي السِّتَّةِ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَكَذَا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي أَيْضًا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْبَعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ الْكَسْرِ فِيهَا وَضَرْبِهَا وَضَرْبِهِ فِي مَخْرَجِهِ.
فَنَقُول عَلَى الْعِبَارَةِ الأُْولَى: إِذَا أَوْصَى بِالسُّدُسِ حَمَلْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ مِثْل خُمُسِهَا - وَخُمُسُ الأَْرْبَعَةِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ - فَتَنْكَسِرُ السِّهَامُ، فَنَضْرِبُ الأَْرْبَعَةَ وَالأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسِ فِي خَمْسَةٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ. وَكَذَلِكَ إِذَا نَسَبْنَا جُزْءَ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِهَا وَجَدْنَاهُ خُمُسَ الْبَقِيَّةِ فَحَمَلْنَا عَلَى الْفَرِيضَةِ خُمُسَهَا، انْكَسَرَتِ السِّهَامُ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْخَمْسَةِ (1) .
__________
(1) الذَّخِيرَة 13 / 110 - 112، وحاشية الدُّسُوقِيّ 4 / 483، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 214 - 216 والمبدع 6 / 81، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 518(43/289)
ب - الْوَصِيَّةُ بِجُزْأَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ:
92 - مَنْ أَوْصَى بِجُزْأَيْنِ ضَرَبْتَ مَخْرَجَ أَحَدِهِمَا فِي مَخْرَجِ الآْخَرِ أَوْ فِي وَفْقِهِ إِنْ كَانَ، وَمَا اجْتَمَعَ فَهُوَ مَخْرَجُ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا، فَإِذَا أَخْرَجْتَ جُزْءَ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ ثُمَّ قَسَمْتَ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَرِيضَةِ فَإِنِ انْقَسَمَ وَإِلاَّ ضَرَبْتَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الضَّرْبُ فِي عَدَدِ سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فِي وَفْقٍ إِنْ كَانَ، وَمِنْهُ يَصِحُّ حِسَابُ الْوَصِيَّتَيْنِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْأَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: ثَلاَثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى بِالسُّدُسِ وَلآِخَرَ بِالسُّبُعِ، فَمَخْرَجُ السُّدُسِ مِنْ سِتَّةٍ، وَالسُّبُعِ مِنْ سَبْعَةٍ، وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، تَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الآْخَرِ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، يَخْرُجُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، تَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَلاَ تُوَافِقُهَا، تَضْرِبُ الثَّلاَثَةَ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ تَبْلُغْ مِائَةً وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ، جُزْءُ الْوَصِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلاَثُونَ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ، لِكُل سَهْمٍ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ (2) .
__________
(1) الذَّخِيرَة 13 / 112، وانظر رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 216، ومطالب أُولِي النُّهَى 4 / 518 - 519، والممتع 4 / 267، والمبدع 6 / 81
(2) الذَّخِيرَة 13 / 112(43/290)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْأَيْنِ فَصَاعِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَبَوَانِ وَأَوْصَى بِثُمُنِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِخُمُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلاَثَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْأَيْنِ أَرْبَعُونَ، لِزَيْدٍ خَمْسَةٌ وَلِعَمْرٍو ثَمَانِيَةٌ، وَيَبْقَى سَبْعٌ وَعِشْرُونَ تَصِحُّ عَلَى ثَلاَثَةِ بَنِينَ.
وَأَوْصَى بِرُبُعِ مَالِهِ لِزَيْدٍ، وَبِنِصْفِ سُدُسِهِ لِعَمْرٍو، مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ ثَلاَثَةٌ، وَمَخْرَجُ الْوَصِيَّتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ وَمَجْمُوعُ الْجُزْأَيْنِ أَرْبَعَةٌ، إِذَا أَخْرَجْنَاهَا يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لاَ تَصِحُّ عَلَى ثَلاَثَةٍ:
فَعَلَى الطَّرِيقِ الأَْوَّل - الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ -: لاَ مُوَافَقَةَ، فَتَضْرِبُ ثَلاَثَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَتَبْلُغُ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ مِنْهَا تَصِحُّ.
وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي: الْخَارِجُ بِالْوَصِيَّتَيْنِ نِصْفُ الْبَاقِي مِنْ مَخْرَجِهِمَا، فَتَزِيدُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ نِصْفَهَا تَبْلُغْ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، تَبْسُطُهَا أَنْصَافًا تَكُونُ تِسْعَةً، لَكِنَّ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُمَا مِنْ مَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَحِصَّتَهُمَا مِنَ التِّسْعَةِ ثَلاَثَةٌ، لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعَةٍ تَبْلُغْ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ.
وَلَوْ كَانَ الْبَنُونَ سِتَّةً وَالْوَصِيَّتَانِ بِحَالِهِمَا: فَعَلَى الطَّرِيقِ الأَْوَّل: تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ لاَ تَصِحُّ(43/290)
عَلَى سِتَّةٍ، لَكِنْ تَوَافِقُ بِالنِّصْفِ فَتَضْرِبُ نِصْفَ نِصْفِ السِّتَّةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ تَبْلُغْ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي كَمَا سَبَقَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِجُزْأَيْنِ كَثُمُنٍ وَتُسُعٍ أَخَذْتَهُمَا مِنْ مَخْرَجِهِمَا سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ لاَ تَنْقَسِمُ فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي تِسْعَةٍ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، فَأَعْطَى لِصَاحِبِ الثُّمُنِ تِسْعَةً، وَلِصَاحِبِ التُّسْعِ ثَمَانِيَةً، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ تُدْفَعُ لِلْوَرَثَةِ.
وَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرَ مِنْ جُزْأَيْنِ كَثُمُنٍ وَتُسُعٍ وَعُشُرٍ تَأْخُذُ الْكُسُورَ مِنْ مَخْرَجِهَا الْجَامِعِ لَهَا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهِيَ لاَ تَنْقَسِمُ فَاضْرِبِ الثَّمَانِيَةَ فِي التِّسْعَةِ تَبْلُغُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ. ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي عَشْرٍ تَبْلُغْ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّمُنِ تِسْعِينَ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّبْعِ ثَمَانِينَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْعُشْرِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَتَقْسِمُ الْبَاقِي - وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ - عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ.
هَذَا إِذَا انْقَسَمَ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَسِمِ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ ضَرَبْتَ مَسْأَلَةَ الْوَرَثَةِ إِنْ بَايَنَهَا الْبَاقِي، أَوْ ضَرَبْتَ وَفْقَهَا إِنْ وَافَقَهَا
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 216، والذخيرة 13 / 110 - 112(43/291)
الْبَاقِي فِي مَخْرَجِ الْوَصِيَّةِ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ (1) .
الاِحْتِمَال الثَّانِي - الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِمَّا أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْمَال وَإِمَّا أَلاَّ تَسْتَغْرِقَهُ.
أَوَّلاً: الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِذَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْمَال:
93 - إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِشَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ إِمَّا بِجُزْءٍ كَالنِّصْفِ، وَإِمَّا بِجُزْأَيْنِ كَالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَمَدَارُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ:
فَمَنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلآِخَرَ بِثُلُثِهِ، وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ قُسِّمَ الْمَال بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي هَذَا الْمِثَال لاِجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَتَعُول بِسَهْمٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْل دَاخِلاً عَلَى جَمِيعِهِمْ كَالْمَوَارِيثِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
__________
(1) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 4 / 518 - 519
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 216 - 217، والحاوي للماوردي 10 / 31 - 32، والذخيرة 13 / 112، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 97، والممتع 4 / 267(43/291)
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا الزَّائِدَةَ عَلَى الثُّلُثِ فَقْدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ بِتَقْدِيرِ الإِْجَازَةِ، وَيُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُمْ مِنْ تَجَاوُزِ وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ أَوْ لاَ. وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا قَصَدَ التَّفْضِيل بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ فِي كُل الْمَال قَصَدَ التَّفْضِيل بَيْنَهُمْ فِي كُل جُزْءٍ مِنْهُ فَلَمْ تَجُزِ التَّسْوِيَةُ، وَلأَِنَّ كُل شَخْصَيْنِ جُعِل الْمَال بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُل، لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَال أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُل كَالْعَوْل فِي الْفَرَائِضِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى
__________
(1) الْمُغْنِي 6 / 47، والبناية 10 / 439، والحاوي للماوردي 10 / 32، والذخيرة 13 / 112 - 113، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 400(43/292)
أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لاَ يَضْرِبُ إِلاَّ بِالثُّلُثِ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ مُلْغَاةٌ (1) .
قَال الزَّيْلَعِيُّ فِي مَعْرِضِ الاِسْتِدْلاَل لأَِبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَقَعَتْ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجَازَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ نَفَاذُهَا بِحَالٍ فَتَبْطُل أَصْلاً؛ وَلاَ يُعْتَبَرُ الْبَاطِل، وَالتَّفْضِيل ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الاِسْتِحْقَاقِ فَيَبْطُل بِبُطْلاَنِ الاِسْتِحْقَاقِ، كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ تَبْطُل بِبُطْلاَنِ الْبَيْعِ (2) .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْخِلاَفُ فِي مَسَائِل عِدَّةٍ مِنْهَا:
أ - إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى ثَلاَثَةٍ: لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ سَهْمٌ؛ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ يَضْرِبُ بِالرُّبُعِ، وَالرُّبُعُ مِثْل نِصْفِ النِّصْفِ، فَيُجْعَل كُل رُبُعٍ بَيْنَهُمَا، فَالنِّصْفُ يَكُونُ سَهْمَيْنِ.
__________
(1) الْجَوْهَرَة النَّيِّرَة 2 / 395، والبناية 10 / 439
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 187 188(43/292)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَجُوزُ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ ثَلاَثَةٌ (1) .
ب - لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلآِخَرَ بِنِصْفِهِ وَلآِخَرَ بِرُبُعِهِ وَرَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَصَايَا تَرْجِعُ إِلَى الثُّلُثِ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يُرَدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلاَثَةٌ (2) .
ثَانِيًا: الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ جَاوَزَتِ الْمَال:
94 - إِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْوَصَايَا الْمَال وَأُجِيزَتْ،
__________
(1) الْجَوْهَرَة النَّيِّرَة 2 / 395، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 6 / 97
(2) الْحَاوِي للماوردي 10 / 31 32(43/293)
قُسِمَ الْمَال بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، مِثْل الْعَوْل، وَتُجْعَل وَصَايَاهُمْ كَالْفُرُوضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قُسِمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ بِتَقْدِيرِ الإِْجَازَةِ، هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لاَ يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجَازَةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجَازَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِذْ لاَ نَفَاذَ لَهَا فَيَبْطُل أَصْلاً (2) .
فَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَلِعَمْرٍو بِثُلُثِهِ فَإِنْ أَجَازُوا فَقَدْ عَالَتْ إِلَى أَرْبَعَةٍ: لِزَيْدٍ ثَلاَثَةٌ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ.
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا، قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ وَتَكُونُ قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: الثُّلُثُ بَيْنَ
__________
(1) الْمُغْنِي 6 / 49، روضة الطَّالِبِينَ 6 / 218
(2) الْبِنَايَة 10 / 439 440، وتكملة فَتْح الْقَدِير 8 / 442(43/293)
الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالأَْجْزَاءِ وَالأَْنْصِبَاءِ:
لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِالأَْجْزَاءِ وَالأَْنْصِبَاءِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
أ - الْوَصِيَّةُ بِمِثْل نَصِيبِ وَارِثٍ وَبِجُزْءٍ مُضَافٍ إِلَى جَمِيعِ الْمَال:
95 - مِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا هَلَكَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَأَوْصَى لآِخَرَ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَوْ نَصِيبِ ابْنٍ ثَالِثٍ - لَوْ كَانَ - فَأَجَازَا الْوَصِيَّتَيْنِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الْمَال، وَالْبَاقِي بَيْنَ الاِبْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلاَثًا، وَالْحِسَابُ مِنْ تِسْعَةٍ: فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثَلاَثَةٌ، وَيَبْقَى سِتَّةٌ بَيْنَ الاِبْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلاَثًا، لِكُل ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ أَيْضًا سَهْمَانِ مِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزَا يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمَا نِصْفَانِ.
وَلَوْ أَجَازَ الاِبْنَانِ الْوَصِيَّةَ لِصَاحِبِ الْمِثْل
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 218، والحاوي 10 / 33 34، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 6 / 49، وتكملة فَتْح الْقَدِير 8 / 441 - 442(43/294)
دُونَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ - وَهُوَ السُّدُسُ - كَمَا لَوْ لَمْ تُوجَدِ الإِْجَازَةُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِصِحَّةِ الإِْجَازَةِ فِي حَقِّهِ، وَاحْتَجْنَا إِلَى حِسَابٍ إِذَا رَفَعْنَا السُّدُسَ يَنْقَسِمُ الْبَاقِي مِنْهُ أَثْلاَثًا، وَأَقَل ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ السُّدُسُ ثَلاَثَةً، وَيَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ تُقْسَمُ بَيْنَ الاِبْنَيْنِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ أَثْلاَثًا لِكُل وَاحِدٍ خَمْسَةٌ.
وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُ الاِبْنَيْنِ الْوَصِيَّةَ لِصَاحِبِ الْمِثْل دُونَ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزِ الاِبْنُ الآْخَرُ الْوَصِيَّتَيْنِ أَصْلاً، فَنَقُول: لَوْ لَمْ يُجِيزَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمِثْل ثَلاَثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلَوْ أَجَازَا كَانَ لِصَاحِبِ الْمِثْل خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا سَهْمَانِ، مِنْ نَصِيبِ كَل وَاحِدٍ مِنَ الاِبْنَيْنِ سَهْمٌ، فَإِذَا أَجَازَ أَحَدُهُمَا صَحَّتِ الإِْجَازَةُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِ الْمِثْل أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْمُجِيزِ خَمْسَةٌ، وَلِلَّذِي لَمْ يُجِزْ سِتَّةٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَزِدْ جُمْلَةُ الْمَال الْمُوصَى بِهِ عَلَى الثُّلُثِ اجْعَل الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ، فَتُصَحَّحُ مَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 100(43/294)
ثُمَّ يُؤْخَذُ مَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ جُزْءُ الْوَصِيَّةِ، وَيُنْظَرُ هَل يَنْقَسِمُ الْبَاقِي عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ: إِنِ انْقَسَمَ فَذَاكَ وَإِلاَّ فَلِلتَّصْحِيحِ طَرِيقَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ وَالْحِسَابُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا قُسِمَ الثُّلُثُ عَلَى نِسْبَةِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ الإِْجَازَةِ.
مِثَالُهُ: ثَلاَثَةُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِعُشْرِ الْمَال، فَمَسْأَلَةُ الْوَرَثَةِ وَزَيْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَخْرَجُ الْجُزْءِ عَشَرَةٌ، يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْجُزْءِ تِسْعَةٌ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَلاَ تُوَافِقُ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي عَشَرَةٍ تَبْلُغْ أَرْبَعِينَ، لِعَمْرٍو أَرْبَعَةٌ، وَلِزَيْدٍ وَكُل ابْنٍ تِسْعَةٌ، وَجُمْلَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثُلُثُ الْمَال عِنْدَ الإِْجَازَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَصِيٌّ آخَرُ، وَلِلآْخَرِ الثُّلُثُ.
وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 221(43/295)
نِصْفَيْنِ؛ لأَِنَّهُ مُوصَى لَهُمَا بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَقَدْ رَجَعَتْ وَصِيَّتُهُمَا بِالرَّدِّ إِلَى نِصْفِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ.
وَالثَّانِي: لِصَاحِبِ النَّصِيبِ مِثْل مَا يَحْصُل لاِبْنٍ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لأََخَذَ أَكْثَرَ مِنَ الاِبْنِ؛ وَالْمُوصِي قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا: وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ التُّسُعَانِ عِنْدَ الإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثَ الْمَال، يَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ وَبَيْنَ الاِبْنَيْنِ عَلَى ثَلاَثَةٍ، فَتَضْرِبُهَا فِي ثَلاَثَةٍ تَكُنْ تِسْعَةً، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلاَثَةٌ، وَلِكُل ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَانِ وَهِيَ تُسُعَانِ.
وَعِنْدَ الرَّدِّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ الَّتِي كَانَتْ فِي حَال الإِْجَازَةِ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلاَثَةٌ، وَلِصَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ، وَلِكُل ابْنٍ خَمْسَةٌ.
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُوصَى بِهِ النِّصْفَ صَحَّتْ عَلَى الأَْوَّل مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي حَال الإِْجَازَةِ، وَفِي الرَّدِّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَعَلَى الثَّانِي تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ فِي حَال الإِْجَازَةِ، وَفِي الرَّدِّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ (1) .
__________
(1) الْمُبْدِع 6 / 87 - 88، والممتع 4 / 276 - 277، والإنصاف 7 / 281 - 282(43/295)
ب - الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنَ الْمَال يَبْقَى بَعْدَ النَّصِيبِ:
96 - مِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ:
إِذَا كَانَ لِلرَّجُل خَمْسَةُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ لآِخَرَ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا، لِصَاحِبِ النِّسَبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثَلاَثَةٌ، وَلِكُل ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ. فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ عَدَدِ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ سَهْمًا؛ لأَِنَّهُ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ؛ وَمِثْل الشَّيْءِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلاَثَةٍ لأَِجْل وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحَ السَّهْمَ الَّذِي زِدْتَهُ بَقِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَال أَحَدًا وَخَمْسِينَ. وَإِنَّمَا طَرَحْنَا هَذَا السَّهْمَ الزَّائِدَ لِتَبَيُّنِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَلاَ وَصِيَّةَ فِي الثُّلُثَيْنِ فَلاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ السَّهْمِ الزَّائِدِ فِيهِ، وَبِهَذَا طَرَحْنَاهُ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ثُلُثَ الْمَال سَبْعَةَ عَشَرَ فَوَجْهُ مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ - وَهُوَ وَاحِدٌ - وَتَضْرِبَهُ فِي ثَلاَثَةٍ ثُمَّ فِي ثَلاَثَةٍ، فَيَكُونَ تِسْعَةً، ثُمَّ تَطْرَحَ مِنْ ذَلِكَ سَهْمًا كَمَا طَرَحْتَ فِي الاِبْتِدَاءِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا رَفَعْتَ(43/296)
ذَلِكَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ تَبْقَى تِسْعَةٌ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثُ ذَلِكَ ثَلاَثَةٌ، تَبْقَى سِتَّةٌ تُضِيفُهَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَال وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلاَثُونَ فَيَكُونُ أَرْبَعِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ لِكُل ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْل النَّصِيبِ فَاسْتَقَامَ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
تَرَكَ ثَلاَثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلآِخَرَ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، اجْعَل ثُلُثَ الْمَال نَصِيبًا مَجْهُولاً وَثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ، اعْزِل نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْهَا دِرْهَمًا، يَبْقَى دِرْهَمَانِ تُضِيفُهُمَا لِثُلُثَيِ الْمَال وَذَلِكَ نَصِيبَانِ وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ فَيَصِيرُ نَصِيبَيْنِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَنِينَ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ثَلاَثَةُ أَنْصِبَاءَ، فَيَصِيرُ النَّصِيبَانِ لاِبْنَيْنِ وَثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ لِنَصِيبِ الثَّالِثِ، فَقَدْ بَانَ النَّصِيبُ الْمَجْهُول ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ جَعَلْتَ ثُلُثَ الْمَال نَصِيبًا وَثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَجَمِيعُهُ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ، يَخْرُجُ الثُّلُثُ أَحَدَ عَشَرَ وَيَخْرُجُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ثَمَانِيَةٌ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَاحِدٌ، وَيَبْقَى اثْنَانِ لِثُلُثَيِ الْمَال وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ بَيْنَ الْبَنِينَ،
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 100 101(43/296)
لِكُل ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ كَمَا أَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ.
فَإِنْ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ إِحْدَى الأُْخْتَيْنِ وَلآِخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ، وَتَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتَيْنِ اجْعَل الثُّلُثَ نَصِيبًا وَثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ، فَالنَّصِيبُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي دِرْهَمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْبَاقِي، وَيَبْقَى دِرْهَمَانِ تُضِيفُهُمَا لِثُلُثَيِ الْمَال فَيَكُونُ نَصِيبَيْنِ وَثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَعْدِل أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ؛ لأَِنَّ الأُْخْتَ الْمُوصَى بِمِثْل نَصِيبِهَا لَهَا رُبُعُ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْوَصَايَا وَذَلِكَ نَصِيبَانِ فَثَمَانِيَةٌ لِنَصِيبَيْنِ؛ لِكُل نَصِيبٍ أَرْبَعَةٌ وَثَلاَثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَهَذَا ثُلُثُ الْمَال فَجَمِيعُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْل النَّصِيبِ مِنَ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى وَاحِدٌ، وَيَبْقَى اثْنَانِ يُضَافَانِ لِثُلُثَيِ الْمَال وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالأُْخْتَيْنِ، لِلْبِنْتِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِكُل أُخْتٍ أَرْبَعَةٌ مِثْل الْمُوصَى لَهُ بِمِثْل نَصِيبِهَا (1) .
وَمِثَال هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلاَثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِعَمْرٍو بِمِثْل مَا تَبَقَّى مِنْ ثُلُثِ الْمَال بَعْدَ النَّصِيبِ، تُقَدِّرُ ثُلُثَ الْمَال عَدَدًا لَهُ ثُلُثٌ لِقَوْلِهِ: بِثُلُثِ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ. وَلْيَكُنْ ثَلاَثَةً، تَزِيدُ عَلَيْهِ وَاحِدًا لِلنَّصِيبِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً، وَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ
__________
(1) الذَّخِيرَة للقرافي 13 / 119(43/297)
أَرْبَعَةً، فَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَالْجُمْلَةُ اثْنَا عَشَرَ، تُعْطِي زَيْدًا سَهْمًا، وَعَمْرًا سَهْمًا، وَهُوَ ثُلُثُ الثَّلاَثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال الْبَاقِي، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَضُمُّهُمَا إِلَى ثُلُثَيِ الْمَال تَكُونُ عَشْرَةً، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلاَثَةً، فَيَكُونُ لِكُل ابْنٍ مِثْل النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ، فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سَبْعَةٌ، وَهُوَ الْخَطَأُ الأَْوَّل، ثُمَّ تُقَدِّرُ الثُّلُثَ خَمْسَةً، وَتَجْعَل النَّصِيبَ اثْنَيْنِ، وَتُعْطِي عَمْرًا وَاحِدًا، يَبْقَى سَهْمَانِ، تَزِيدُهُمَا عَلَى ثُلُثَيِ الْمَال، وَهُوَ عَشَرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِتَّةً لِيَكُونَ لِكُل ابْنٍ سَهْمَانِ، فَزَادَ عَلَى مَا يَنْبَغِي سِتَّةً، وَهُوَ الْخَطَأُ الثَّانِي، ثُمَّ نَقُول: لَمَّا أَخَذْنَا أَرْبَعَةً زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ سَبْعَةً، وَلَمَّا زِدْنَا سَهْمًا نَقَصَ عَنِ الْخَطَأِ سَهْمٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُل سَهْمٍ يَزِيدُ يَنْقُصُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ سَهْمٌ.
وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْخَطَأِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، فَتَزِيدُ لَهَا سِتَّةَ أَسْهُمٍ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، فَهُوَ ثُلُثُ الْمَال، النَّصِيبُ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَجَمِيعُ الْمَال ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا خَلَّفَ ثَلاَثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 224 - 225(43/297)
أَحَدِهِمْ، وَلآِخَرَ بِنِصْفِ بَاقِي الْمَال، فَفِيهِ أَوْجُهٌ.
الأَْوَّل: يُعْطَى صَاحِبُ النَّصِيبِ مِثْل نَصِيبِ ابْنٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَصِيَّةٌ أُخْرَى.
وَالثَّانِي: يُعْطَى نَصِيبَهُ مِنْ ثُلُثَيِ الْمَال.
وَالثَّالِثُ: يُعْطَى مِثْل نَصِيبِ ابْنٍ بَعْدَ أَخْذِ صَاحِبِ النِّصْفِ وَصِيَّتَهُ فَيَدْخُلُهَا الدَّوْرُ وَلَهَا طُرُقٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ النِّصْفِ، فَتُسْقِطَ مِنْهُ سَهْمًا يَبْقَى سَهْمٌ، فَهُوَ النَّصِيبُ، فَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا، تَكُنْ أَرْبَعَةً، فَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً تُنْقِصُهَا سَهْمًا يَبْقَى سَبْعَةٌ، فَهِيَ الْمَال، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمٌ، وَلِلآْخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي ثَلاَثَةٌ وَلِكُل ابْنٍ سَهْمٌ.
الثَّانِي: أَنْ تُزِيدَ سِهَامَ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ، وَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ تَكُنْ سَبْعَةً.
الثَّالِثُ: طَرِيقُ الْمَنْكُوسِ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الْبَنِينَ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ، فَتَقُول: هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ نِصْفُهُ، فَإِذَا أَرَدْتَ تَكْمِيلَهُ، زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْل نَصِيبِ ابْنٍ تَكُنْ سَبْعَةً.
الرَّابِعُ: أَنْ تَجْعَل الْمَال سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِهِ يَبْقَى سَهْمٌ(43/298)
لِلْبَنِينَ يَعْدِل ثَلاَثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَالْمَال كُلُّهُ سَبْعَةٌ، وَبِالْجَبْرِ تَأْخُذُ مَالاً، وَتَلْقَى مِنْهُ نَصِيبًا يَبْقَى مَال الأَْنْصِبَاءِ، تَدْفَعُ نَصِيبَ الْبَاقِي إِلَى الْوَصِيِّ الآْخَرِ يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إِلاَّ نِصْفَ نَصِيبٍ يَعْدِل ثَلاَثَةَ أَنْصِبَاءَ، اجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ، وَزِدْهُ عَلَيْهِ يَبْقَى نَصِيبًا كَامِلاً يَعْدِل ثَلاَثَةً وَنِصْفًا، فَالْمَال سَبْعَةٌ (1) .
ج - الْوَصِيَّةُ بِالنَّصِيبِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ جُزْءٍ مِنَ الْمَال عَنْهُ:
97 - مِثَال هَذِهِ الصُّورَةِ: أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ ابْنِهِ إِلاَّ نِصْفَ مَالِهِ وَتَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا صَحَّا وَلِلْمُوصَى لَهُ رُبُعُ الْمَال؛ لأَِنَّ الْمَال سَهْمٌ إِذِ الاِبْنُ وَاحِدٌ فَزِدْ عَلَيْهِ سَهْمًا لأَِجْل الْوَصِيَّةِ بِالْمِثْل؛ وَاجْعَل كُل سَهْمٍ سَهْمَيْنِ لِحَاجَتِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ نِصْفِ الْمَال فَصَارَ كُل الْمَال أَرْبَعَةً، فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ ثَلاَثَةً؛ لأَِنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى مِنَ النَّصِيبِ نِصْفَ الْمَال كَانَ النَّصِيبُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمَال وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ نِصْفَ الْمَال وَهُوَ اثْنَانِ فَيَصِيرَ فِي يَدِ الاِبْنِ ثَلاَثَةٌ، وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ وَهُوَ رُبُعُ الْمَال (2) .
__________
(1) الْمُبْدِع 6 / 91 - 92
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 103 - 104، وانظر رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 228، والمبدع 6 / 96، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 343، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 6 / 43(43/298)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا:
أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ جُزْءًا مُعَيَّنًا، نَحْوَ ثَلاَثَةِ بَنِينَ أَوْصَى بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلاَّ سُبْعَ مَالِهِ، فَيُدْفَعُ لَهُ مَا كَانَ يُصِيبُ أَحَدُ الْبَنِينَ قَبْل الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الثُّلُثُ، يَبْقَى ثُلُثُ الْمَال سَهْمَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ مُبَايِنًا، فَتَضْرِبُ ثَلاَثَةً فِي ثَلاَثَةٍ تَبْلُغْ تِسْعَةً، فِي سَبْعَةٍ - مَخْرَجُ الْجُزْءِ الْمُسْتَثْنَى - تَبْلُغْ ثَلاَثَةً وَسِتِّينَ، لِصَاحِبِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَالنَّصِيبُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثٍ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْبَنُونَ أَرْبَعَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنَ النِّصْفِ لَصَحَّتْ. ثُمَّ الْعَمَل أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ الرُّبُعِ إِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً تَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ ثُلُثِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ، يَكُونُ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ، النَّصِيبُ مِنْهَا تِسْعَةٌ، وَالثُّلُثُ اثْنَا عَشَرَ يَبْقَى مِنْهُ ثَلاَثَةٌ، ثُلُثُهَا وَاحِدٌ فَيُضَافُ عَلَى النَّصِيبِ فَيَصِيرُ عَشَرَةً، وَتَرُدُّ مِنْهُ سُبُعَ الْمَال وَهُوَ تِسْعَةٌ تَبْقَى بِيَدِهِ اثْنَا عَشَرَ وَذَلِكَ جُمْلَةُ مَا يَصِحُّ لَهُ وَيَبْقَى أَحَدٌ وَخَمْسُونَ لِكُل ابْنٍ سَبْعَةَ عَشَرَ (1) .
د - الاِسْتِثْنَاءُ مَعَ ذِكْرِ الأَْنْصِبَاءِ وَالْكُسُورِ:
الاِسْتِثْنَاءُ مَعَ ذِكْرِ الأَْنْصِبَاءِ وَالْكُسُورِ فِي مَسَائِل الْوَصَايَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ (2) .
__________
(1) الذَّخِيرَة 13 / 116
(2) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 349(43/299)
الضَّرْبُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَال بَعْدَ النَّصِيبِ:
98 - مِثَالُهُ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُل خَمْسَةُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إِلاَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ، النَّصِيبُ عَشَرَةٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ ثَلاَثَةٌ وَلِكُل ابْنٍ عَشَرَةٌ. وَتَخْرِيجُهُ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً فَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبِ ثُمَّ تَضْرِبَ ذَلِكَ فِي ثَلاَثَةٍ فَيَكُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا فَيَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَال، وَالثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُونَ فَالْجُمْلَةُ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ، وَمَعْرِفَةُ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَهُوَ وَاحِدٌ وَتَضْرِبَهُ فِي ثَلاَثَةٍ ثُمَّ فِي ثَلاَثَةٍ، فَيَكُونَ تِسْعَةً ثُمَّ تَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا فِي أَصْل الْمَال فَيَكُونَ عَشَرَةً، وَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِل إِذَا رَفَعْتَهُ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ بَقِيَ تِسْعَةٌ فَاسْتَرْجِعْ بِالاِسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّصِيبِ مِثْل ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ وَضُمَّ ذَلِكَ إِلَى تِسْعَةٍ فَيَكُونَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَضُمَّ ذَلِكَ إِلَى ثُلُثَيِ الْمَال ثَمَانِيَةٍ وَثَلاَثِينَ فَيَكُونَ خَمْسِينَ بَيْنَ خَمْسَةِ بَنِينَ، لِكُل ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْل نَصِيبٍ كَامِلٍ (1) .
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 6 / 100، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 346 348، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 6 / 43، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 129(43/299)
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنَ الْمَال بَعْدَ الْوَصِيَّةِ:
99 - مِثَالُهُ: أَنْ يَقُول الْمُوصِي: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ بِمِثْل نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ الثَّلاَثَةِ إِلاَّ رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَلَكَ فِيهَا طُرُقٌ مِنْهَا: اجْعَل الْمَخْرَجَ ثَلاَثَةً وَزِدْ عَلَى الْمَخْرَجِ وَاحِدًا يَبْلُغْ أَرْبَعَةً، فَهُوَ النَّصِيبُ، وَرُدَّ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ الثَّلاَثَةِ سَهْمًا لِيَكُونَ النَّصِيبُ أَرْبَعَةً، وَزِدْ أَيْضًا ثُلُثًا لأَِجْل الْوَصِيَّةِ وَاضْرِبِ الَّذِي صَارَ أَرْبَعَةً وَثُلُثًا فِي ثَلاَثَةٍ الَّتِي هِيَ الْمَخْرَجُ يَكُنْ بِالضَّرْبِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ وَلِكُل ابْنٍ أَرْبَعَةٌ (1) .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا بَقِيَ مِنْ جُزْءٍ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ:
100 - مِثَالُهُ: خَلَّفَ ثَلاَثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنَصِيبِ ابْنٍ إِلاَّ نِصْفَ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَقُل: ثُلُثُ الْمَال وَصِيَّةٌ وَقِسْمَانِ، وَنَصِيبُ كُل ابْنٍ وَصِيَّةٌ وَقِسْمٌ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ نَصِيبٌ إِلاَّ وَاحِدًا - أَيْ نِصْفُ الْبَاقِي - يَكُونُ النَّصِيبُ وَصِيَّةً وَوَاحِدًا؛ وَجَمِيعُ الأَْنْصِبَاءِ ثَلاَثُ وَصَايَا وَثَلاَثَةٌ أَقْسَامٍ وَهِيَ تَعْدِل مَا يَبْقَى مِنَ الْمَال بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ وَصِيَّتَانِ وَسِتَّةُ
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 348 349، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 6 / 43، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 229 - 231(43/300)
أَقْسَامٍ؛ لأَِنَّ ثُلُثَ الْمَال وَصِيَّةٌ وَقِسْمَانِ فَجَمِيعُهُ ثَلاَثُ وَصَايَا وَسِتَّةُ أَقْسَامٍ فَإِذَا أَخْرَجْتَ الْوَصِيَّةَ يَبْقَى مَا ذُكِرَ ثُمَّ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمُشْتَرَكِ يَبْقَى وَصِيَّةٌ تَعْدِل ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ الْمَال خَمْسَةً وَالْكُل خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْوَصِيَّةُ ثَلاَثَةً وَكُل نَصِيبٍ أَرْبَعَةً (1) .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا مِمَّا يَبْقَى مِنْ جُزْءِ الْمَال بَعْدَ النَّصِيبِ:
101 - مِثَالُهُ: خَلَّفَ ثَلاَثَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِزَيْدٍ بِنَصِيبِ ابْنٍ إِلاَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِ الْمَال بَعْدَ النَّصِيبِ، فَنَقُول: يَفْرِضُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ نَصِيبًا وَثَلاَثَةً لِيَكُونَ لَهَا ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَيَكُونُ كُل التَّرِكَةِ ثَلاَثَةَ أَنْصِبَاءَ وَتِسْعَةً فَالْوَصِيَّةُ مِنْهَا نَصِيبٌ إِلاَّ ثُلُثَ الثَّلاَثَةِ إِذِ الثُّلُثُ نَصِيبٌ وَثَلاَثَةٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَصِيبُ ابْنٍ إِلاَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِ الْمَال بَعْدَ النَّصِيبِ، ثُمَّ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ نَصِيبَانِ وَعَشَرَةٌ، وَذَلِكَ يَعْدِل ثَلاَثَةَ أَنْصِبَاءَ، فَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ، وَالثُّلُثُ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَالْجَمِيعُ تِسْعَةٌ وَثَلاَثُونَ، وَالْوَصِيَّةُ تِسْعَةٌ وَلِكُل ابْنٍ عَشَرَةٌ (2) .
هـ - إِطْلاَقُ الاِسْتِثْنَاءِ:
102 - مَتَى أَطْلَقَ الْمُوصِي الاِسْتِثْنَاءَ كَأَنْ
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 349 - 350
(2) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 6 / 350(43/300)
يَقُول: أَوْصَيْتُ لَهُ بِمِثْل نَصِيبِ فُلاَنٍ إِلاَّ رُبُعَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْمَال، وَلَمْ يَقُل: بَعْدَ النَّصِيبِ وَلاَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يُحْمَل عَلَى مَا بَعْدَ النَّصِيبِ؛ لأَِنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ النَّصِيبُ فَانْصَرَفَ الاِسْتِثْنَاءُ إِلَيْهِ.
وَعَزَا ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا الرَّأْيَ إِلَى جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: يُحْمَل عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ؛ فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ، وَيَقِل نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنْزِيل الْوَصَايَا عَلَى الأَْقَل الْمُتَيَقَّنِ.
وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَالْبَصْرِيِّينَ (1) .
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 44، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 351، وروضة الطَّالِبِينَ 6 / 230 - 231(43/301)
وَضْعُ الْيَدِ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ مِنْ مَعَانِي الْوَضْعِ فِي اللُّغَةِ: التَّرْكُ، يُقَال: وَضَعْتُ الشَّيْءَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَضْعًا تَرَكْتُهُ هُنَاكَ.
وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْسْقَاطِ، يُقَال: وَضَعْتُ عَنْهُ دَيْنَهُ أَسْقَطْتُهُ (1) .
وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ، وَالْجَمْعُ الأَْيْدِ، وَالأَْيَادِي جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَالْيَدُ: النِّعْمَةُ وَالإِْحْسَانُ، وَتُطْلَقُ الْيَدُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَيَدُهُ عَلَيْهِ: أَيْ سُلْطَانُهُ، وَالأَْمْرُ بِيَدِ فُلاَنٍ: أَيْ فِي تَصَرُّفِهِ (2) .
وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: اسْتُعِيرَ الْيَدُ لِلْحَوْزِ وَالْمِلْكِ مَرَّةً، يُقَال: هَذَا فِي يَدِ فُلاَنٍ أَيْ فِي حَوْزِهِ وَمِلْكِهِ، وَلِلْقُوَّةِ مَرَّةً، يُقَال: لِفُلاَنٍ يَدٌ عَلَى كَذَا، وَمَالِي بِكَذَا يَدٌ (3) .
__________
(1) الْمُفْرِدَات لِلرَّاغِبِ الأَْصْفَهَانِيّ
(2) الْمُفْرَدَات، والمغرب، والمصباح الْمُنِير
(3) الْمُفْرَدَات(43/301)
وَوَضْعُ الْيَدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَصَرُّفُ ذِي الْيَدِ فِي عَيْنٍ بِالْفِعْل، أَوْ ثُبُوتُ تَصَرُّفِهِ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ (1) .
قَال عَلِي حَيْدَر: ذُو الْيَدِ هُوَ وَاضِعُ الْيَدِ عَلَى عَيْنٍ بِالْفِعْل، أَوِ الَّذِي يَثْبُتُ تَصَرُّفُهُ فِي عَيْنٍ وَانْتِفَاعُهُ مِنْهَا تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ وَضْعَ الْيَدِ كَذَلِكَ وَيُرِيدُونَ بِهِ وَضْعَ الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ - وَهِيَ الْجَارِحَةُ - عَلَى شَيْءٍ مَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ الْحِيَازَةُ:
2 ـ الْحِيَازَةُ فِي اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ وَجَمْعُهُ يُقَال: حُزْتُ الشَّيْءَ وَأَحُوزُهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً: ضَمَمْتُهُ وَجَمَعْتُهُ، وَكُل مَنْ ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدَ حَازَهُ (3) .
وَالْحِيَازَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ وَضْعُ الْيَ ـ دِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ (4) .
وَوَضْعُ الْيَدِ أَعَمُّ مِنَ الْحِيَازَةِ.
__________
(1) مَجَلَّة الأَْحْكَامِ العدلية الْمَادَّة 1679، وشرح مَجْمَع الأَْحْكَام لِعَلِيّ حَيْدَر 4 / 292
(2) الْمَنْثُور فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيّ 3 / 369
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير
(4) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 4 / 233(43/302)
ب - الْغَصْبُ:
3 ـ الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: الأَْخْذُ قَهْرًا وَظُلْمًا. يُقَال: غَصَبَ الشَّيْءَ غَصْبًا أَخَذَهُ قَهْرًا وَظُلْمًا، وَالاِغْتِصَابُ مِثْلُهُ (1) .
وَالْغَصْبُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ فِي الْمَال (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ وَضْعِ الْيَدِ وَالْغَصْبِ أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ أَعَمُّ مِنَ الْغَصْبِ.
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَضْعِ الْيَدِ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ فِي عَيْنٍ
أ - دَلاَلَةُ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ:
4 ـ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ دَلِيل الْمِلْكِ (3) ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَضْعُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفُ مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلِذَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ.
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 7 / 143
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 3 / 256، والإنصاف 11 / 372، وفتاوى السُّبْكِيّ 2 / 488، ومواهب الْجَلِيل 6 / 221، وتبصرة الْحُكَّام 2 / 82(43/302)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا ادَّعَى وَاضِعُ الْيَدِ عَلَى الأَْرْضِ الَّذِي تَلَقَّاهَا شِرَاءً أَوْ إِرْثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ أَنَّهَا مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا، فَالْقَوْل لَهُ، وَعَلَى مَنْ يُخَاصِمُهُ فِي الْمِلْكِ الْبُرْهَانُ إِنْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ شَرْعًا وَاسْتُوفِيَتْ شُرُوطُ الدَّعْوَى.
ثُمَّ يَقُول: وَقَدْ قَالُوا إِنَّ وَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلِذَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ.
وَفِي رِسَالَةِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ: وَأَيُّمَا قَوْمٍ مِنْ أَهْل الْخَرَاجِ أَوِ الْحَرْبِ بَادُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَبَقِيَتْ أَرْضُهُمْ مُعَطَّلَةً وَلاَ يُعْرَفُ أَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدٍ، وَلاَ أَنَّ أَحَدًا يَدَّعِي فِيهَا دَعْوَى، وَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَحَرَثَهَا وَغَرَسَ فِيهَا وَأَدَّى عَنْهَا الْخَرَاجَ أَوِ الْعُشْرَ فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ يَدِ أَحَدٍ إِلاَّ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ - أَيِ الْحِيَازَةَ - إِذَا طَال وَلَمْ يُوجَدْ مُنَازِعٌ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَل عَلَى الْمِلْكِ، وَإِنْ لَمْ تَطُل الْحِيَازَةُ لَمْ يَثْبُتِ الْمِلْكُ.
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 3 / 256 - 257، ورسالة الْخَرَاج لأَِبِي يُوسُف ص 65(43/303)
قَال سَحْنُونٌ: الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ أَنْ تَطُول الْحِيَازَةُ وَهُوَ يَفْعَل مَا يَفْعَل الْمُلاَّكُ لاَ مُنَازِعَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَطُل الْحِيَازَةُ لَمْ يَثْبُتِ الْمِلْكُ (1) .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي سُؤَال الْحَائِزِ الأَْجْنَبِيِّ مِنْ أَيْنَ صَارَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ؟ قَال ابْنُ رُشْدٍ: يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْوُجُوهِ:
فَوَجْهٌ: لاَ يُسْأَل الْحَائِزُ عَمَّا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَيْنَ صَارَ إِلَيْهِ، وَتَبْطُل دَعْوَى الْمُدَّعَى فِيهِ بِكُل حَالٍ، فَلاَ يُوجِبُ يَمِينًا عَلَى الْحَائِزِ الْمُدَّعَى فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَعَارَهُ إِيَّاهُ فَتَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الأَْصْل لِلْمُدَّعِي وَلاَ أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْحَائِزُ الَّذِي حَازَهُ فِي وَجْهِهِ الْعَشَرَةَ الأَْعْوَامِ وَنَحْوَهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
وَوَجْهٌ: يُسْأَل الْحَائِزُ عَمَّا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَيْنَ صَارَ إِلَيْهِ؟ وَلاَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ وَيُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ إِذَا ثَبَتَ الأَْصْل لِلْمُدَّعِي، أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْحَائِزُ قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسْأَل مِنْ أَيْنَ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 2 / 221، وتبصرة الْحُكَّام 2 / 82، وَمَا بَعْدَهَا(43/303)
صَارَ إِلَيْهِ؟ وَيُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ: يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوقَفَ عَلَى الإِْقْرَارِ أَوِ الإِْنْكَارِ، وَقِيل إِنَّهُ يُوقَفُ وَيُسْأَل مِنْ أَيْنَ صَارَ إِلَيْهِ؟ وَهُوَ إِذَا ثَبَتَتِ الْمَوَارِيثُ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا لأَِبِيهِ أَوْ جَدِّهِ (1) . (ر: حِيَازَة ف 6)
ب - كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدِ:
5 ـ وَضْعُ الْيَدِ يَكُونُ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبهِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَا تُوضَعُ الْيَدُ عَلَيْهِ.
6 ـ فَفِي الْعَقَارِ يَحْصُل وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهِ بِأَحَدِ أُمُورٍ:
ـ أَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ، وَأَنْ يُحْدِثَ أَبْنِيَةً فِيهَا.
ـ وَفِي الْعَرْصَةِ حَفْرُ بِئْرٍ أَوْ نَهَرٍ أَوْ قَنَاةٍ، أَوْ غَرْسُ أَشْجَارٍ، أَوْ زَرْعُ مَزْرُوعَاتٍ، أَوْ إِنْشَاءُ أَبْنِيَةٍ أَوْ صُنْعُ لَبِنٍ.
ـ وَفِي الْحَرَجِ (2) وَالْغَابِ قَطْعُ الأَْشْجَارِ مِنْهَا وَبَيْعُهَا، وَبِالاِنْتِفَاعِ مِنْهَا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) تَبْصِرَة الْحُكَّامِ 2 / 85، وانظر مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 221، والبهجة عَلَى التُّحْفَةِ 1 / 118، وحاشية الْبُنَانِيّ عَلَى الزُّرْقَانِيّ 7 / 225
(2) الْحَرَجُ فِيمَا فَسَّرَ ابْن عَبَّاسٍ هُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِير الْمُشَجَّر الَّذِي لاَ يَصِل إِلَيْهِ الرَّاعِيَةَ (لِسَان الْعَرَبِ) .(43/304)
- وَفِي الْمَرْعَى قَطْعُ الْحَشَائِشِ وَحِفْظُهَا وَبَيْعُهَا، أَوْ رَعْيُ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
أَمَّا وُجُودُ مِفْتَاحِ بَابِ الدَّارِ فِي يَدِ أَحَدٍ فَلاَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ فِي يَدِهِ ذَا يَدٍ، فَلِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدٌ سَاكِنًا فِي دَارٍ وَأَشْيَاؤُهُ مَوْضُوعَةٌ فِيهَا، وَكَانَ مِفْتَاحُ تِلْكَ الدَّارِ فِي يَدِ آخَرَ، فَالْوَاضِعُ الْيَدِ عَلَى الدَّارِ هُوَ السَّاكِنُ فِيهَا وَلَيْسَ حَامِل مِفْتَاحِ بَابِهَا (1) .
قَال أَصْبَغُ: مَا حَازَهُ الأَْجْنَبِيُّ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ بِحَضْرَتِهِ وَعِلْمِهِ أَيَّ الْحِيَازَاتِ كَانَتْ مِنْ سُكْنَى فَقَطْ أَوِ ازْدِرَاعٍ أَوْ هَدْمٍ أَوْ بُنْيَانٍ صَغُرَ شَأْنُهُ أَوْ عَظُمَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَازَاتِ كُلِّهَا فَذَلِكَ يُوجِبُهُ لِحَائِزِهِ (2) .
7 ـ أَمَّا وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْمَنْقُول فَيَكُونُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى حِيَازَةِ الشَّخْصِ لَهُ، قَال مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ: مَا حَازَهُ الأَْجْنَبِيُّ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ مِنَ الْعَبِيدِ وَالإِْمَاءِ وَالدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانِ كُلِّهِ وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا فَأَقَامَ ذَلِكَ فِي يَدَيْهِ يَخْتَدِمُ الرَّقِيقَ وَيَرْكَبُ الدَّوَابَّ وَيَحْلِبُ الْمَاشِيَةَ
__________
(1) دُرَر الْحُكَّام شَرْح مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ 4 / 460، وحاشية الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 233
(2) تَبْصِرَة الْحُكَّامِ 2 / 83(43/304)
وَيَمْتَهِنُ الْعُرُوضَ فَذَلِكَ كُلُّهُ كَالْحَائِزِ (1) .
ج - وَسَائِل إِثْبَاتِ وَضْعِ الْيَدِ:
8 ـ يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي إِثْبَاتِ وَضْعِ الْيَدِ بَيْنَ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ إِثْبَاتُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْعَقَارِ الْمُنَازَعِ فِيهِ، وَلاَ يُحْكَمُ بِهَا بِتَصَادُقِ الْخَصْمَيْنِ.
وَمَعْنَى هَذَا كَمَا فِي دُرَرِ الْحُكَّامِ: أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذُو يَدٍ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْعَقَارِ الْمُنَازَعِ فِيهِ، فَلأَِجْل صِحَّةِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَلْزَمُ إِثْبَاتُ وَضْعِ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ هِيَ دَعْوَى إِزَالَةِ الْيَدِ وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ؛ وَطَلَبُ إِزَالَةِ الْيَدِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى ذِي الْيَدِ.
وَلاَ يَثْبُتُ وَضْعُ الْيَدِ بِعِلْمِ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ عِلْمَ الْقَاضِي لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْحُكْمِ.
كَمَا لاَ يَثْبُتُ وَضْعُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِتَصَادُقِ الْخَصْمَيْنِ؛ لأَِنَّ الْيَدَ فِيهِ غَيْرُ مُشَاهَدَةٍ، فَلَعَلَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا تَوَاضُعًا فِيهِ لِيَكُونَ لَهُمَا ذَرِيعَةً إِلَى أَخْذِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.
فَإِذَا ثَبَتَ وَضْعُ الْيَدِ بِمُجَرَّدِ الإِْقْرَارِ وَثَبَتَتِ
__________
(1) تَبْصِرَة الْحُكَّامِ 2 / 84، وانظر دُرَر الْحُكَّام شَرْح مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ 4 / 461(43/305)
الْمِلْكِيَّةُ بِالشُّهُودِ وَحُكِمَ بِهَا لاَ يَنْفُذُ الْحُكْمُ (1) .
9 ـ وَيُسْتَثْنَى مِنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ وَضَاعَةِ الْيَدِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ مَسَائِل الشِّرَاءِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ. وَهِيَ أَنَّهُ:
إِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي قَائِلاً: إِنَّنِي كُنْتُ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ذَلِكَ الْعَقَارَ، أَوْ كُنْتَ غَصَبْتَهُ مِنِّي فَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الْفِعْل كَمَا تَصِحُّ عَلَى ذِي الْيَدِ تَصِحُّ عَلَى غَيْرِهِ، فَعَدَمُ ثُبُوتِ الْيَدِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى.
وَإِنَّ الَّذِي يُحْدِثُ يَدَهُ تَغَلُّبًا عَلَى مَالٍ لاَ يُعَدُّ وَاضِعًا الْيَدَ عَلَى ذَلِكَ الْمَال فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، فَعَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَ لِلْقَاضِي إِحْدَاثُ يَدِهِ تَغَلُّبًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ يُؤْمَرُ بِرَدِّ الْمَال الْمَذْكُورِ إِلَى الشَّخْصِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، وَيُعَدُّ ذَلِكَ الشَّخْصُ ذَا الْيَدِ.
10 - أَمَّا الْمَنْقُول فَذُو الْيَدِ عَلَيْهِ هُوَ مَنْ وُجِدَ فِي يَدِهِ فَلاَ حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِثْبَاتِ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا وُجِدَ الْمَنْقُول فِي يَدِ أَيِّ شَخْصٍ كَانَ فَهُوَ ذُو الْيَدِ؛ لأَِنَّ وَضْعَ الْيَدِ فِي الْمَنْقُول كَمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ يَثْبُتُ بِالْمُشَاهَدَةِ
__________
(1) دُرَر الْحُكَّام لِعَلِي حَيْدَر 4 / 458 - 459(43/305)
وَالْعِيَانِ وَبِالإِْقْرَارِ.
وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وُجُودَ الْمَال الْمَنْقُول فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْمَال الْمَنْقُول كَانَ تَحْتَ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي ذَلِكَ فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ وَيُعْتَبَرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا الْيَدِ (1) .
د - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَال الْغَيْرِ:
11 - وَمَنْ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُدْوَانًا فَهُوَ غَاصِبٌ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَصْب ف 1 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَإِنْ أَخَذَ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ خَطَأً كَأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلاَ يُتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) . (3)
__________
(1) دُرَر الْحُكَّام 4 / 461
(2) حَدِيثُ: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 659) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، ونقل ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 672 - عِلْمِيَّة) عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ قَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ
(3) الْبَدَائِع 7 / 148، وفتح الْقَدِير 9 / 318، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 5 / 119، ومغني الْمُحْتَاج 2 / 279، وكشاف الْقِنَاع 4 / 99 - 100، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 456، والخرشي 6 / 146(43/306)
هـ - التَّنَازُعُ فِي وَضْعِ الْيَدِ:
12 - إِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ فِي عَقَارٍ وَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا كَوْنَهُ ذَا الْيَدِ فِي ذَلِكَ الْعَقَارِ تُطْلَبُ أَوَّلاً الْبَيِّنَةُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى كَوْنِهِ ذَا الْيَدِ، فَإِذَا أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تَثْبُتُ يَدُهُمَا مَعًا عَلَى الْعَقَارِ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الْوَاضِعِ الْيَدِ عَلَيْهِ وَمُدَّعِيًا فِي الْقِسْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ خَارِجًا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي أَسْبَابِ الثُّبُوتِ إِلاَّ أَنَّهُمَا مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْعَقَارِ الْمَذْكُورِ مِلْكَهُمَا الْمُشْتَرَكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالإِْقْرَارِ فَلاَ يُقَسَّمُ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا أَظْهَرَ أَحَدُهُمَا الْعَجْزَ عَنْ إِثْبَاتِ وَضْعِ يَدِهِ وَأَقَامَ الآْخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى كَوْنِهِ وَاضِعَ الْيَدِ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ذَا الْيَدِ مُسْتَقِلًّا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، وَيُعَدُّ الآْخَرُ خَارِجًا وَمُدَّعِيًا (1) .
و مَرَاتِبُ وَضْعِ الْيَدِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي وَضْعِ الْيَدِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لأَِحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلأَْقْوَى مِنْهُمَا، أَوْ يَشْتَرِكَانِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ.
__________
(1) دُرَر الْحُكَّام 4 / 464(43/306)
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَدْ نَصُّ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يَلِي:
اللاَّبِسُ لِلثَّوْبِ أَحَقُّ مِنْ آخِذِ الْكُمِّ، قَال الشَّيْخُ قَاسِمٌ: فَيُقْضَى لَهُ قَضَاءُ تَرْكٍ لاَ اسْتِحْقَاقٍ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الآْخَرُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْضَى لَهُ.
وَالرَّاكِبُ أَحَقُّ مِنْ آخِذِ اللِّجَامِ.
وَمَنْ فِي السَّرْجِ أَحَقُّ مِنْ رَدِيفِهِ (وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَقُول لَكِنَّ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُلْتَقَى مِثْل الرَّأْيِ الأَْوَّل) بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَا رَاكِبَيْنِ فِي السَّرْجِ فَإِنَّهُمَا بَيْنَهُمَا قَوْلاً وَاحِدًا، كَمَا فِي الْغَايَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اشْتِرَاكُهُمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْرَجَةً.
وَذُو حِمْل الدَّابَّةِ أَوْلَى مِمَّنْ عَلَّقَ كُوزَهُ بِهَا؛ لأَِنَّهُ أَكْثَرُ تَصَرُّفًا، أَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ بَعْضُ حِمْلِهَا؛ كَمَا إِذَا كَانَ لأَِحَدِهِمَا مَنٌّ وَالآْخَرِ مِائَةُ مَنٍّ، كَانَتْ بَيْنَهُمَا.
وَالْجَالِسُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ سَوَاءٌ كَجَالِسِيهِ، وَكَرَاكِبِي سَرْجٍ - وَكَذَا مَنْ مَعَهُ ثَوْبٌ وَطَرَفُهُ مَعَ الآْخَرِ - لاَ هُدْبَتُهُ، أَيْ طُرَّتُهُ غَيْرُ الْمَنْسُوجَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِثَوْبٍ.
أَمَّا جَالِسَا دَارٍ تَنَازَعَا فِيهَا فَإِنَّهُ لاَ يُقْضَى لَهُمَا(43/307)
لاِحْتِمَال أَنَّهَا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا.
وَنَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَائِطَ يَكُونُ لِمَنْ جُذُوعُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا جِذْعٌ أَوْ جِذْعَانِ دُونَ الثَّلاَثَةِ وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَجْذَاعٍ أَوْ أَكْثَرُ.
ذُكِرَ فِي النَّوَازِل أَنَّ الْحَائِطَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الثَّلاَثَةِ، وَلِصَاحِبِ مَا دُونَ الثَّلاَثَةِ مَوْضِعُ جِذْعِهِ، قَال: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول أَوَّلاً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الاِسْتِحْسَانِ.
وَكَذَا يَكُونُ الْحَائِطُ لِمَنْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ اتِّصَال تَرْبِيعٍ - بِأَنْ تَتَدَاخَل أَنْصَافُ لَبِنَاتِهِ فِي لَبِنَاتِ الآْخَرِ - وَلَوْ مِنْ خَشَبٍ فَبِأَنْ تَكُونَ الْخَشَبَةُ مُرَكَّبَةً فِي الأُْخْرَى لِدَلاَلَتِهِ عَلَى أَنَّهُمَا بُنِيَا مَعًا، وَلِذَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبْنَى مُرَبَّعًا؛ وَلاَ يَكُونُ لِمَنْ لَهُ اتِّصَال مُلاَزَقَةٍ أَوْ نَقْبٌ وَإِدْخَالٌ (بِأَنْ نَقَبَ وَأَدْخَل الْخَشَبَةَ) ، أَوْ هَرَادِي (1)
__________
(1) الهرادى جُمَع هردية، وَهِيَ قَصَبَاتٌ تُضَمُّ مَلْوِيَّة بِطَاقَات مِنْ أَقْلاَمٍ يُرْسِل عَلَيْهَا قُضْبَان الْكَرَم (والهردية بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُون الرَّاءِ الْمُهْمَلَة، وَكَسْرِ الدَّال الْمُهْمَلَة وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، والهرادي بِفَت(43/307)
(كَقَصَبٍ وَطَبَقٍ يُوضَعُ عَلَى الْجُذُوعِ) وَلاَ يُخَصُّ بِهِ صَاحِبُ الْهَرَادِي، بَل صَاحِبُ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ أَحَقُّ مِنْهُ.
وَلَوْ لأَِحَدِهِمَا جُذُوعٌ وَلِلآْخَرِ اتِّصَالٌ، فَلِذِي الاِتِّصَال وَلِلآْخَرِ حَقُّ الْوَضْعِ، وَقِيل لِذِي الْجُذُوعِ.
وَذُو بَيْتٍ مِنْ دَارٍ فِيهَا بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ كَذِي بُيُوتٍ مِنْهَا فِي حَقِّ سَاحَتِهَا، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَالطَّرِيقِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْيَدِ مَرَاتِبَ مُرَتَّبَةً، فَأَعْظَمُهَا ثِيَابُ الإِْنْسَانِ الَّتِي عَلَيْهِ وَمِنْطَقَتُهُ، وَيَلِيهِ الْبِسَاطُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَالدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ رَاكِبُهَا، وَيَلِيهِ الدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا، وَيَلِيهِ الدَّارُ الَّتِي هُوَ سَاكِنُهَا فَهِيَ دُونَ الدَّابَّةِ، لِعَدَمِ اسْتِيلاَئِهِ عَلَى جَمِيعِهَا. قَال فِي تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ: قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تُقَدَّمُ أَقْوَى الْيَدَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا، فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يُقَدَّمُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى السَّائِقِ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا، وَإِذَا تَنَازَعَ السَّاكِنَانِ الدَّارَ سَوَّى بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَدَاعَيَا دَابَّةً وَلأَِحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ فَالْقَوْل قَوْل صَاحِبِ الْحِمْل مَعَ
__________
(1) تَهْذِيب الْفُرُوق 4 / 130، والفروق 4 / 78(43/308)
يَمِينِهِ لاِنْفِرَادِهِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالدَّابَّةِ، وَلَوْ تَدَاعى ثَلاَثَةٌ دَابَّةً: وَاحِدٌ سَائِقُهَا، وَالآْخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَالثَّالِثُ رَاكِبُهَا، فَالْقَوْل قَوْل الرَّاكِبِ لِوُجُودِ الاِنْتِفَاعِ فِي حَقِّهِ.
وَلَوْ تَنَازَعَا عَلَى حَيَوَانٍ، وَيَدُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْحَيَوَانِ، وَيَدُ الآْخَرِ عَلَى حِمْلِهِ فَإِنَّهُ لِمَنْ يَدُهُ عَلَى الْحَيَوَانِ، لاَ لِمَنْ يَدُهُ عَلَى حِمْلِهِ.
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ، أَحَدُهُمَا لاَبِسُهُ وَالآْخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ يُجَاذِبُهُ، فَالْقَوْل قَوْل اللاَّبِسِ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالاِنْتِفَاعِ.
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي سَفِينَةٍ، أَحَدُهُمَا رَاكِبٌ وَالآْخَرُ مُمْسِكُهَا، فَالْقَوْل قَوْل الرَّاكِبِ؛ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا. وَكَذَا فِي مُمْسِكِ جَنْبِهَا وَمُمْسِكِ رِبَاطِهَا، يُصَدَّقُ مُمْسِكُ الْجَنْبِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ تَنَازَعَا دَابَّةً، أَحَدُهُمَا رَكِبَهَا أَوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ، وَالآْخَرُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا أَوْ سَائِقُهَا، فَهِيَ لِلأَْوَّل بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ أَقْوَى، وَيَدُهُ آكَدُ.
وَإِنْ تَنَازَعَا ثِيَابَ عَبْدٍ عَلَيْهِ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ.
__________
(1) حَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِب 4 / 424، وكفاية الأَْخْيَار 2 / 273، وتحفة الْمُحْتَاج مَعَ الشرواني 10 / 329 - 330، ونهاية الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الشبراملسي عَلَيْهِ 8 / 341(43/308)
وَإِنْ تَنَازَعَا قَمِيصًا أَحَدُهُمَا لاَبِسُهُ وَالآْخَرُ آخِذٌ بِكُمِّهِ فَهُوَ لِلأَْوَّل.
وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ بُيُوتٍ، فِي أَحَدِهَا سَاكِنٌ وَفِي الثَّلاَثَةِ الأُْخْرَى سَاكِنٌ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ سَاكِنٌ فِيهِ.
وَإِنْ تَنَازَعَا سَاحَةَ الدَّارِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ مَسْلُوخَةٌ بِيَدِ أَحَدِهِمَا جِلْدُهَا وَرَأْسُهَا وَسَوَاقِطُهَا، وَبِيَدِ الآْخَرِ بَقِيَّتُهَا، وَادَّعَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّهَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ بِدَعْوَاهُمَا، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مِنَ الشَّاةِ لأَِنَّ بَيِّنَةَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَارِجَةٌ.
وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ وَخَيَّاطٌ فِيهَا فِي إِبْرَةٍ وَمِقَصٍّ فَهُمَا لِلْخَيَّاطِ عَمَلاً بِالظَّاهِرِ (1) .
(ر: تَعَارُض ف 4 - 11، تَنَازُع بِالأَْيْدِي)
ز - اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى اللُّقَطَةِ أَوِ اللَّقِيطِ:
14 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُتَلَقِّطِ أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ لِنَفْسِهِ لاَ لِصَاحِبِهَا؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ آوَى
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 385(43/309)
ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا (1) وَالْمُرَادُ أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى نَفْسِهِ لأَِجْل نَفْسِهِ لاَ لأَِجْل صَاحِبِهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الضَّمَّ إِلَى نَفْسِهِ لأَِجْل صَاحِبِهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلأَِنَّهُ أَخَذَ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَصْبِ (2) .
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَمَاشَى اثْنَانِ فَأَرَى أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لُقَطَةً وَأَمَرَهُ بِالْتِقَاطِهَا بِصِيغَةِ هَاتِهَا، أَوْ نَحْوِهَا، فَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ أَيْ لِلآْخِذِ، وَكَذَا إِذَا أَخَذَهَا وَلَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ وَلاَ غَيْرَهُ، وَإِنْ أَخَذَهَا وَقَصَدَ بِهَا الأَْمْرَ وَحْدَهُ فَهِيَ لِلآْمِرِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الاِصْطِيَادِ؛ لأَِنَّ أَخْذَهَا حِينَئِذٍ اسْتِعَانَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَلَى تَنَاوُل شَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
وَإِنْ أَخَذَهَا وَقَصَدَ بِهَا الأَْمْرَ مَعَ نَفْسِهِ فَتَكُونُ لَهُمَا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل بِالاِصْطِيَادِ أَيْضًا (3) .
(انْظُرْ ف 4)
__________
(1) حَدِيثُ: مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1351) مِنْ حَدِيثِ زَيْد بْن خَالِد الْجُهَنِيّ
(2) الْبَدَائِع 6 / 200
(3) أَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 495، وحاشية الشرواني عَلَى تُحْفَة الْمُحْتَاج 6 / 341، ونهاية الْمُحْتَاج 5 / 443، وحاشية الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 602(43/309)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَأَيَا اللَّقِيطَ جَمِيعًا، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهُ، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (1) وَإِنْ رَآهُ أَحَدُهُمَا قَبْل صَاحِبِهِ، فَسَبَقَ إِلَى أَخْذِهِ الآْخَرُ، فَالسَّابِقُ إِلَى أَخْذِهِ أَحَقُّ؛ لأَِنَّ الاِلْتِقَاطَ هُوَ الأَْخْذُ لاَ الرُّؤْيَةُ. وَلَوْ قَال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: نَاوِلْنِيهِ فَأَخَذَهُ الآْخَرُ، نَظَرْنَا إِلَى نِيَّتِهِ، فَإِنْ نَوَى أَخْذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَحَقُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ الآْخَرُ بِمُنَاوَلَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِنْ نَوَى مُنَاوَلَتَهُ فَهُوَ لِلآْمِرِ؛ لأَِنَّهُ فَعَل ذَلِكَ بِنِيَّةِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَكَّل لَهُ فِي تَحْصِيلٍ مُبَاحٍ (2) .
(انْظُرْ مُصْطَلَح: لُقَطَة، لَقِيط ف 6) .
ح - وَضْعُ الْمُحْرِمِ يَدَهُ عَلَى الصَّيْدِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى الصَّيْدِ بِشِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَ الْحَرَمِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ) . (3)
__________
(1) حَدِيث: " مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 453) مِنْ حَدِيثِ أَسْمَر بْن مُضَرَّس، وقال الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (4 / 264) : غَرِيب
(2) الْمُغْنِي 6 / 122
(3) سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 96(43/310)
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَأْنَسِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ وَغَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَهُ.
كَمَا يَحْرُمُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْحَلاَل، (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِحْرَام ف 83 - 92، حَرَم ف 13 - 15، صَيْد 6 - 10، ضَمَان ف 133) .
ط - مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ:
16 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً: " الْحُرُّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ "، وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا مَسَائِل مُتَعَدِّدَةً يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (حُر ف 6، يَد) .
ي - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى مَال الْغَيْرِ بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى
__________
(1) الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ 7 / 305 وَمَا بَعْدَهَا، والقليوبي وَعَمِيرَة 1 / 137 وَمَا بَعْدَهَا، وفتح الْقَدِير 3 / 70، وحاشية الدُّسُوقِيّ 2 / 72، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 3 / 525 - 526
(2) حَدِيث: " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّهِ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 4 / 46 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (2 / 986 - 987 ط الْحَلَبِيّ) وَالسِّيَاق لِمُسْلِم(43/310)
مَال الْغَيْرِ بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ مَفْسَدَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ حَاكِمًا أَوْ مَحْكُومًا (1) .
(ر: ضَمَان ف 79، وَقَضَاء ف 61)
ثَانِيًا - الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوَضْعِ الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ:
أـ وَضْعُ الْيَدِ فِي الصَّلاَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ عَلَى أَقْوَالٍ (2) :
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَال ف 4، صَلاَة ف 62 - 64، يَد)
ب - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ فِي الصَّلاَةِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي - ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى - أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُخْتَصِرًا (3) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تُنَافِي
__________
(1) قَوَاعِد الأَْحْكَامِ فِي إِصْلاَح الأَْنَام 1 / 144 ط دَار الْقَلَم، ومجلة الأَْحْكَام العدلية الْمَادَّة (97)
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 320، 327، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 181، وكشاف الْقِنَاع 1 / 391، وسبل السَّلاَم شَرْح بُلُوغ الْمَرَام 1 / 322
(3) حَدِيث: " نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُخْتَصَرًا " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 3 / 88 - ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (1 / 387 - ط الْحَلَبِيّ)(43/311)
هَيْئَةَ الصَّلاَةِ (1) .
ج - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الطَّائِفَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ بِفِيهِ إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فِيهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ (ر: اسْتِلاَم، الْحَجَر الأَْسْوَد ف 2، طَوَاف ف 30 - 33) .
د - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ كَذَلِكَ - إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ بِدْعَةٌ (3) .
جَاءَ فِي الْمَدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ: تَرَى مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَهُ يَطُوفُ بِالْقَبْرِ الشَّرِيفِ كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ وَيُقَبِّلُهُ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 432، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 62، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 254، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 202، وكشاف الْقِنَاع 1 / 372
(2) الْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 / 415
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 351، والمدخل لاِبْنِ الْحَاجِّ 1 / 263، والشفا 2 / 670، وَالْمَجْمُوع 5 / 311، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 364(43/311)
وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ مَنَادِيلَهُمْ وَثِيَابَهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْبِدَعِ لأَِنَّ التَّبَرُّكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالاِتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَمَا كَانَ سَبَبُ عِبَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِلأَْصْنَامِ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ (1) .
وَفِي الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى لِلْقَاضِي عِيَاضٍ: قَال مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: إِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقَبْرِ الشَّرِيفِ لاَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلاَ يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْمَكِّيُّ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْمَقَابِرِ بِدْعَةٌ (3) .
وَجَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ نَقْلاً عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الزَّعْفَرَانِيِّ: لاَ يَسْتَلِمُ الْقَبْرَ بِيَدِهِ وَلاَ يُقَبِّلُهُ، وَعَلَى هَذَا مَضَتِ السُّنَّةُ، وَاسْتِلاَمُ الْقُبُورِ وَتَقْبِيلُهَا الَّذِي يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ الآْنَ مِنَ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُنْكَرَةِ شَرْعًا يَنْبَغِي تَجَنُّبُ فِعْلِهِ وَيُنْهَى فَاعِلُهُ.
__________
(1) الْمُدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ 1 / 263
(2) الشَّفَا 2 / 671
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 351، وحاشية الطحطاوي عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 383، الاختيار لِتَعْلِيل الْمُخْتَارِ 1 / 473، البحر الرَّائِق 1 / 210، وشرح الشَّفَا لَمَلاَّ عَلَيَّ الْقَارِّيّ 2 / 152، وهداية السَّالِك لاِبْنِ جَمَاعَة ص 1389(43/312)
قَال الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الأَْصْفَهَانِيُّ: قَال الْفُقَهَاءُ الْمُتَبَحِّرُونَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: وَلاَ يَمْسَحُ الْقَبْرَ بِيَدِهِ، وَلاَ يُقَبِّلُهُ، وَلاَ يَمَسُّهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةُ النَّصَارَى، قَال: وَمَا ذَكَرُوهُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُسْتَحَبَّ اسْتِلاَمُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُسَنَّ مَعَ اسْتِحْبَابِ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ، فَلأََنْ لاَ يُسْتَحَبَّ مَسُّ الْقُبُورِ أَوْلَى.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَمَسَّ الْجِدَارَ، وَلاَ أَنْ يُقَبِّلَهُ فَإِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيل لِلْمَشَاهِدِ عَادَةُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ (1) .
وَقَال الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالأَْئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لاَ يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ وَلاَ يُقَبِّلُهُ، بَل اتَّفَقُوا أَنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ وَلاَ يُقَبَّل إِلاَّ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ، وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ وَلاَ يُقَبَّل عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِلاَمُ الْقَبْرِ بِالْيَدِ، وَاسْتَثْنَى الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ الْجَمَل مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا إِذَا
__________
(1) إِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 1 / 259، 271، المجموع لِلنَّوَوِيِّ 5 / 311
(2) الاِخْتِيَارَات الْفِقْهِيَّة لِشَيْخِ الإِْسْلاَمِ ابْن تَيْمِيَّةَ ص 92، وكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 151(43/312)
قُصِدَ بِهِ التَّبَرُّكُ حَيْثُ قَال: إِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ حِينَئِذٍ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُكْرَهُ تَقْبِيل التَّابُوتِ الَّذِي يُجْعَل عَلَى الْقَبْرِ كَمَا يُكْرَهُ تَقْبِيل الْقَبْرِ وَاسْتِلاَمُهُ وَتَقْبِيل الأَْعْتَابِ عِنْدَ الدُّخُول لِزِيَارَةِ الأَْوْلِيَاءِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا النَّاسُ.
وَقَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: يُكْرَهُ تَقْبِيل التَّابُوتِ الَّذِي يُحْمَل فَوْقَ الْقَبْرِ كَمَا يُكْرَهُ تَقْبِيل الْقَبْرِ وَاسْتِلاَمُهُ وَتَقْبِيل الأَْعْتَابِ عِنْدَ الدُّخُول لِزِيَارَةِ الأَْوْلِيَاءِ، نَعَمْ إِنْ قُصِدَ بِتَقْبِيل أَضْرِحَتِهِمُ التَّبَرُّكُ لَمْ يُكْرَهْ، كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَال الْمَرْدَاوَيُّ: وَعَنْ أَحْمَدَ يُكْرَهُ لَمْسُ الْقَبْرِ بِالْيَدِ. قَال أَحْمَدُ: أَهْل الْعِلْمِ كَانُوا لاَ يَمَسُّونَهُ. وَقَال الأَْثْرَمُ: رَأَيْتُ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لاَ يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُومُونَ مِنْ نَاحِيَةٍ فَيُسَلِّمُونَ. قَال أَحْمَدُ: وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ لاَ بَأْسَ بِهِ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 364، وحاشية الْجُمَل 2 / 206، وتحفة الْمُحْتَاج مَعَ حَاشِيَة الشرواني 3 / 175، والمغني 3 / 559، والإنصاف 2 / 562، 4 / 53، وحاشية البجيرمي عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 495، 496(43/313)
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلاً عَنْ بُرْهَانٍ التُّرْجُمَانِيِّ: لاَ نَعْرِفُ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْمَقَابِرِ سُنَّةً وَلاَ مُسْتَحْسَنًا وَلاَ نَرَى بِهِ بَأْسًا (1) .
وَقَال عَيْنُ الأَْئِمَّةِ الْكَرَابِيسِيُّ: هَكَذَا وَجَدْنَاهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ السَّلَفِ (2) .
وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى: لاَ بَأْسَ بِلَمْسِ قَبْرٍ بِيَدٍ لاَ سِيَّمَا مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، (3) وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: لاَ بَأْسَ بِلَمْسِهِ، أَيِ الْقَبْرِ بِالْيَدِ، (4) وَفِي الإِْنْصَافِ: يَجُوزُ لَمْسُ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَالْفُرُوعِ (5) .
وَيَرَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَمْسُ الْقَبْرِ، وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ فِي تَمَامِهِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: هِيَ أَصَحُّ (6) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 6)
هـ - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ:
22 - يُنْدَبُ كَظْمُ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلاَةِ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 351، وكشاف الْقِنَاع 2 / 150، والإنصاف 2 / 562، ومطالب أُولِي النُّهَى 1 / 934، وحاشية الجمل2 / 206
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 351
(3) غَايَة الْمُنْتَهَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الإِْقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى 1 / 259
(4) كَشَافٍ الْقِنَاع 2 / 150
(5) الإِْنْصَاف 2 / 562
(6) الإِْنْصَاف 2 / 562 - 563(43/313)
وَخَارِجَهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَثَاؤُب ف 2 - 3)
و وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ الْعُطَاسِ:
23 - السُّنَّةُ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَضْعُ الْيَدِ أَوِ الثَّوْبِ عَلَى الْفَمِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ - أَوْ ثَوْبَهُ - عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ - أَوْ غَضَّ - بِهَا صَوْتَهُ (1) . (2)
(ر: تَشْمِيت ف4) .
ز - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لَهُ:
24 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لاَ يَكْرَهُ وَضْعَ الْيَدِ عَلَيْهِ، نُدِبَ وَضْعُهَا عِنْدَ الدُّعَاءِ لَهُ، وَمِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ وَيُعَافِيَكَ، سَبْعًا (3) لِلْوَارِدِ بِذَلِكَ (4) .
__________
(1) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ. . كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَطَسَ وَضْع يَدِهِ. . . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 288 - ط حِمْص) ، وجوّده ابْن حَجَر (فَتْح الْبَارِي 10 / 602)
(2) بِرِيقَة مَحْمُودِيَّة 4 / 42
(3) حَدِيث: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ. . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 410 - ط الْحَلَبِيّ) وأعله ابْن حَجَرٍ بِالاِضْطِرَابِ فِي سَنَدِهِ كَمَا فِي الْفُتُوحَاتِ لاِبْنِ عِلاَن (4 / 62 ط المنيرية)
(4) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 763(43/314)
(ر: عِيَادَة ف 7) .
ح - كَيْفِيَّةُ وَضْعِ يَدَيِ الْمَيِّتِ:
25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ تُوضَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ وَالْيُسْرَى فِي الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ، وَلاَ يَجُوزُ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى صَدْرِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْعَلُوا أَمْوَاتَكُمْ بِخِلاَفِ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ يَدَ الْمَيِّتِ عَلَى صَدْرِهِ (1) ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ جَعْل يَدَيِ الْمَيِّتِ عَلَى صَدْرِهِ؛ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، أَوْ إِرْسَالَهُمَا فِي جَنْبَيِ الْمَيِّتِ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ حَسَنٌ مُحَصِّلٌ لِلْفَرْضِ (2) .
__________
(1) حَدِيث: " اجْعَلُوا أَمْوَاتَكُمْ بِخِلاَفِ الْكَافِرِينَ " وَرَدَ فِي دُرَر الْحُكَّام (1 / 160) وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَيِّ مَصْدَرِ حَدِيثِي، وَلَمْ نَهْتَدِ إِلَى مَنْ أَسْنَدَهُ
(2) دُرَر الْحُكَّام 1 / 160، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 339(43/314)
وُضُوءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوَضَاءَةِ: أَيِ الْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ، وَقَدْ وَضُؤَ - مِنْ بَابِ كَرُمَ - وَضَاءَةً، مِثْل ضَخُمَ ضَخَامَةً: حَسُنَ وَنَظُفَ، وَوَضَّأَهُ: جَعَلَهُ يَتَوَضَّأُ، وَتَوَضَّأَ: غَسَل بَعْضَ أَعْضَائِهِ وَنَظَّفَهَا، وَتَوَضَّأَ الْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ: أَدْرَكَا حَدَّ الْبُلُوغِ.
وَالْمِيضَأَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَمِنْهُ، وَالْمِطْهَرَةُ: يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.
وَالْوُضُوءُ - بِالضَّمِّ - الْفِعْل، وَبِالْفَتْحِ: الْمَاءُ يُتَوَضَّأُ بِهِ.
وَقِيل: الْوُضُوءُ بِالْفَتْحِ - مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَوْ هُمَا لُغَتَانِ قَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَاءُ (1) .
وَالْوُضُوءُ شَرْعًا: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتِ مِنْهَا:
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، والمصباح الْمُنِير، ولسان الْعَرَب، والمعجم الْوَسِيط(43/315)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ هُوَ الْغَسْل وَالْمَسْحُ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ طِهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ - وَهِيَ الأَْعْضَاءُ الأَْرْبَعَةُ - عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ، أَوْ هُوَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ مُفْتَتَحًا بِالنِّيَّةِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ اسْتِعْمَال مَاءٍ طَهُورٍ فِي الأَْعْضَاءِ الأَْرْبَعَةِ، (وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَالرَّأْسُ، وَالرِّجْلاَنِ) ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الشَّرْعِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً مَعَ بَاقِي الْفُرُوضِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أـ الْغَسْل:
2 ـ الْغَسْل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَسَل، يُقَال: غَسَل يَغْسِلُهُ غَسْلاً: أَزَال عَنْهُ الْوَسَخَ وَنَظَّفَهُ بِالْمَاءِ، وَيُضَمُّ - أَيْ تُضَمُّ الْغَيْنُ - أَوْ: بِالْفَتْحِ
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 7
(2) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 104، وحاشية الْعَدَوِيّ عَلَى شَرْح الْخَرَشِيّ 1 / 120
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 47، وأسنى الْمَطَالِب 1 / 28
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 82(43/315)
مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَل الْمَضْمُومَ وَالْمَفْتُوحَ بِمَعْنًى، وَعَزَاهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ.
وَمِنْ مَعَانِي الْغُسْل - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الطِّهَارَةِ. . كَمَا قَال ابْنُ الْقُوطِيَّةِ (1) .
وَالْغُسْل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَال مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الأَْصْغَرَ، وَالْغُسْل يَرْفَعُ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ.
ب - الطَّهَارَةُ:
3 ـ الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ النَّقَاءُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّنَسِ. يُقَال: طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ: غَسَلُهُ بِهِ، وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ، وَالْكَفُّ عَنِ الإِْثْمِ (3) .
وَالطَّهَارَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ - أَكْبَرَ كَانَ أَوْ أَصْغَرَ، أَيْ زَوَال الْوَصْفِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا - وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَزَوَال النَّجَسِ أَوِ ارْتِفَاعُ حُكْمِ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، والمصباح الْمُنِير، والمعجم الْوَسِيط
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 139
(3) الْقَامُوس الْمُحِيط، والمعجم الْوَسِيط
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 24(43/316)
وَالصِّلَةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ.
ج - التَّيَمُّمُ:
4 ـ التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ، يُقَال: تَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَيَمُّمًا وَتَأَمَّمْتُ أَيْضًا: قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ) (1) ، أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَةٌ وَرَفْعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَيَكُونُ مِنْ أَيٍّ مِنَ الْحَدَثَيْنِ: الأَْصْغَرِ أَوِ الأَْكْبَرِ، وَيُسْتَعْمَل فِيهِ الصَّعِيدُ الطَّاهِرُ.
الْوُضُوءُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ: 5 ـ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ - إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ،
__________
(1) سُورَةُ النِّسَاءِ: 43
(2) الْقَامُوس الْمُحِيط، والمصباح الْمُنِير
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 160(43/316)
وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيل مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: ". . . ثُمَّ دَعَا - أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْلِي (1) ، وَمَا ثَبَتَ لِلأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَثْبُتُ لأُِمَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا مَرَّ عَلَى الْجَبَّارِ وَمَعَهُ سَارَّةُ ". . . أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْجَبَّارِ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَل (2) ، وَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ لَمَّا رَمَوْهُ بِالْمَرْأَةِ " أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ قَال لِلْغُلاَمِ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَال: هَذَا الرَّاعِي " (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَوْ أَثَرُ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بَيَاضُ مَحَلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى
__________
(1) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْلِي " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ (1 / 80 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) ، وضعّفه ابْن حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي (1 / 236 - ط السَّلَفِيَّة)
(2) حَدِيث قِصَّةِ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلاَمُ: " وَأَنْ سَارَّة تَوَضَّأَتْ وَصَلَتْ. . . " أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 4 / 410 - ط السَّلَفِيَّة)
(3) حَدِيث: قِصَّةٌ جريج الرَّاهِب أُخْرِجُهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 6 / 477) ، ومسلم (4 / 1977)(43/317)
بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيل (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصَ هَذِهِ الأُْمَّةِ، (2) مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَِحَدٍ مِنَ الأُْمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ (3) .
مَكَانُ فَرْضِ الْوُضُوءِ وَزَمَانُهُ:
6 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلاَةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا لِلْمَكَانِ لاَ لِلزَّمَانِ، فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الاِفْتِرَاضِ بِلاَ وُضُوءٍ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي قَبْل فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَطْعًا، وَلَمْ يُصَل قَطُّ إِلاَّ بِوُضُوءٍ، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لاَ يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَلَمْ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 61ـ62، ومواهب الْجَلِيل 1 / 180، وحاشيتا الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة عَلَى شَرْح الْمُحَلَّى 1 / 44ـ45، وحاشية الرَّمْلِيّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 28، وحاشية الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 100، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 47، وكشاف الْقِنَاع 1 / 109، وفتح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 1 / 236
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة
(3) حَدِيث: " لَكُمْ سِيَّمَا لَيْسَتْ لأَِحَدٍ مِنَ الأُْمَمِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 217) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ(43/317)
يُنْقَل وُقُوعُ صَلاَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِدُونِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُقْبَل صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ (1) أَيْ بِالْمَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ (2) فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وُضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ.
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْوُضُوءَ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ نُزُول آيَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ: تَقْرِيرُ حُكْمِهِ الثَّابِتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، بَل تَابِعًا لِلصَّلاَةِ احْتُمِل أَنْ لاَ تَهْتَمَّ الأُْمَّةُ بِشَأْنِهِ، وَأَنْ يَتَسَاهَلُوا فِي شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ بِطُول الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَانْتِقَاصِ النَّاقِلِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ تَقْبَل صَلاَة مِنْ أَحْدَثِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 234) ، ومسلم (1 / 204) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
(2) حَدِيث: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وُضُوء الْمُسْلِمِ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 212) ، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(43/318)
الْمُتَوَاتِرِ الْبَاقِي فِي كُل زَمَانٍ وَعَلَى كُل لِسَانٍ.
وَمِنَ الْفَائِدَةِ كَذَلِكَ تَأَتِّي اخْتِلاَفِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، كَالنِّيَّةِ، وَالدَّلْكِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَقَدْرِ الْمَسْمُوحِ، وَنَقْضِهِ بِالْمَسِّ، وَكَذَلِكَ اشْتِمَال الآْيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَبْل فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لاَ يُصَلُّونَ إِلاَّ بِالْوُضُوءِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ أَوِ النَّظَافَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، كَمَا دَلَّتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَكَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا فِي صَدْرِ الإِْسْلاَمِ لِكُل صَلاَةٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ) (1) ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ - إِلاَّ مَعَ الْحَدَثِ - وَصَارَ يُؤَدَّى بِهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِهِ (2) . (ر: شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3) .
__________
(1) سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 6
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 61ـ62، والتمهيد لاِبْن عَبْد الْبَرّ 19 / 279، وفتح الْبَارِي 1 / 233ـ236، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47، وحاشية الْجُمَل 1 / 100، وحاشية الْقَلْيُوبِيّ 1 / 44ـ45، والمستصفى مِنْ عِلْمِ الأُْصُول لِلْغَزَالِيِّ 1 / 251، وحاشية الشبراملسي مَعَ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ 1 / 139، وفتح الْقَدِير لاِبْن الْهُمَام وَشَرْح الْعِنَايَةِ عَلَى الْهِدَايَةِ للبابرتي 1 / 8(43/318)
مَشْرُوعِيَّةُ الْوُضُوءِ:
7 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ) (1) . قَالُوا: الآْيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ، أَوْ هِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ، وَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُل قَائِمٍ إِلَى الصَّلاَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْل الظَّاهِرِ - مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلاَفِهِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ. . وَإِنَّمَا أَضْمَرَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَال: ( {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ) (2) وَلَمْ يَقُل هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلاَل، كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلاَلَةِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ
__________
(1) سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 6
(2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 2(43/319)
بِغَيْرِ طَهُورٍ. (1)
وَأَجْمَعَ أَهِل السِّيَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلاَةِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ (2) .
مُنْكِرُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:
8 ـ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ يَكْفُرُ، لإِِنْكَارِهِ النَّصَّ الْقَطْعِيَّ، وَهُوَ آيَةُ: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ) (3) وَلإِِنْكَارِهِ الإِْجْمَاعَ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ لاَ يَكْفُرُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، لِوُقُوعِ الْخِلاَفِ فِي تَفْسِيرِ آيَتِهِ (4) وَهُوَ قَوْلُهُ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ تَقْبَل صَلاَة بِغَيْرٍ طَهُورٍ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 204 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر
(2) الْجَامِع لأَِحْكَامِ الْقُرْآنِ 6 / 80، وحاشيتا الشرواني وَالْعِبَادِيّ عَلَى تُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 186، ورد الْمُحْتَار 1 / 61، وشرح الْعِنَايَة عَلَى فَتْح الْقَدِير 1 / 8، وشرح الْمَنْهَج مَعَ حَاشِيَة الْجُمَل 1 / 102
(3) سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 6
(4) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 101، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 420، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 3 / 386(43/319)
تَعَالَى: ( {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} ) . (1)
تَرَكَ الْوُضُوءَ عَمْدًا ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا:
9 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُل مَنْ يَسْتَخِفُّ بِالدِّينِ يَكْفُرُ - كَالصَّلاَةِ بِلاَ وُضُوءٍ عَمْدًا -.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ يُقْتَل بِهَا كَالصَّلاَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا، اسْتُتِيبَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِل حَدًّا لاَ كُفْرًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ - جَاحِدًا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ - دُعِيَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ كُل صَلاَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِل (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوُضُوءِ بِحَسَبِ
__________
(1) سُورَةُ الْوَاقِعَةِِ: 79
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 2 / 268، والبحر الرَّائِق 5 / 129، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 2 / 447، 442، ومواهب الْجَلِيل 1 / 421، والخرشي 1 / 228، والغرر الْبَهِيَّة فِي شَرْح الْبَهْجَة الْوَرْدِيَّة 2 / 73، وحاشية الْجُمَل 2 / 131، وشرح الْبَهْجَة 1 / 73(43/320)
اخْتِلاَفِ مَا يُتَوَضَّأُ لأَِجْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ فَرْضًا:
أ - الصَّلاَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لِصَلاَةِ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْل؛ لأَِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَل صَلاَةً مِنْ غَيْرِ طَهُورٍ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً. وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ (2) .
(ر: جَنَائِز ف22)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 45 ط بُولاَق، وانظر حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 58، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 28، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47، ونيل الْمَآرِب 1 / 61
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 45، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 125، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 25، وكشاف الْقِنَاع 2 / 117، والإنصاف 2 / 525، والحاوي للماوردي 1 / 110(43/320)
فُرِضَ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلاَةِ (1) .
(ر: سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ ف3)
ب - الطَّوَافُ
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِلطَّوَافِ فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ، (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ مِثْل الصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ وَاجِبٌ (4) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 45، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 217، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 25، والمغني لاِبْنِ قُدَامَة 1 / 620
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 181، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 28، والحاوي للماوردي 1 / 110، ونيل الْمَآرِب 1 / 61
(3) حَدِيث: " الطَّوَاف حَوْل الْبَيْتِ مِثْل الصَّلاَةِ. . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 284 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، وصححه ابْن السَّكَنِ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حِبَّانَ كَمَا فِي التَّلْخِيصِ لاِبْنِ حَجَر (1 / 358 - 359 ط الْعِلْمِيَّة)
(4) يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّة بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَقَالُوا: إِنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيل قَطْعِي لاَ شُبْهَةَ فِيهِ وَحُكْمَهُ اللُّزُوم علما (أَيّ حُصُول الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِثُبُوتِهِ) وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ (أَيّ لُزُومِ اعْتِقَا(43/321)
بِالْحَدِيثِ الآْنِفِ الذِّكْرِ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ الطَّوَافُ الصَّلاَةَ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّتِهِ عَلَيْهَا، وَزَادُوا: إِذَا طَافَ الطَّائِفُ الْفَرْضَ مُحْدِثًا وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وَإِذَا طَافَ الْوَاجِبَ كَالْوَدَاعِ أَوِ النَّفْل مُحْدِثًا فَصَدَقَةٌ، وَجُنُبًا فَدَمٌ (1) .
ج - مَسُّ الْمُصْحَفِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} ) (3) .
(ر: مُصْحَف ف 4 - 11)
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص 45، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 9
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح ص 45، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 28، والحاوي للماوردي 1 / 110، وشرح الْمِنْهَاج لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 35، ونيل الْمَآرِب 1 / 61
(3) سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: 79(43/321)
ثَانِيًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ سُنَّةً:
13 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ الْبَغَوِيِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَْيْمَنِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَال الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ النُّوَّمَ لاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ (2) .
ثَالِثًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ مَنْدُوبًا:
ضَابِطُ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ: كُل وُضُوءٍ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ مَا يُفْعَل بِهِ بَل مِنْ كَمَالاَتِ مَا يُفْعَل بِهِ (3) .
يَكُونُ الْوُضُوءُ مَنْدُوبًا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) حَدِيث: " إِذَا أَتَيْت مَضْجَعك فَتَوَضَّأَ وُضُوءك لِلصَّلاَةِ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 11 / 109) ومسلم (4 / 2081)
(2) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 58، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 238، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص25، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، والمجموع 1 / 324، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 63
(3) الشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي عَلَيْهِ 1 / 129(43/322)
أ - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ.
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ (1) .
ب - ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
15 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
(ر: ذَكَر ف 28) .
ج - الأَْذَانُ:
5 ام - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ: الْوُضُوءُ لِلأَْذَانِ (3) .
(ر: أَذَان ف33) .
د - الإِْقَامَةُ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوُضُوءِ
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، والحاوي للماوردي 1 / 111، والمجموع 1 / 324، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، ونيل الْمَآرِب 1 / 61
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 181، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، والعناية بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 1 / 176، والفتوحات الرَّبَّانِيَّة 1 / 396
(3) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، والحاوي 1 / 111، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284(43/322)
لِلإِْقَامَةِ (1) . (ر: إِقَامَة ف 11) .
هـ - الْخُطْبَةُ:
17 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُطْبَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَقِبَ الْخُطْبَةِ لاَ يَفْصِل بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُل عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالاِقْتِدَاءُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ (2) .
(ر: خُطْبَة ف11)
و دِرَاسَةُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:
18 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَقَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الشَّبِيبِيِّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ (3) .
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، والمغني 2 / 307، وأسنى الْمَطَالِب 1 / 257، والشرح الصَّغِير 1 / 511
(3) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، والقوانين الْفِقْهِيَّة 28، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، والحاوي للماوردي 1 / 111، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 63(43/323)
ز - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
19 - يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَمُبَاهَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلاَئِكَةَ بِالْوَاقِفِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لأَِدَاءِ الْعِبَادَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَيْنِ (1) .
ح - زِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لِحَضْرَتِهِ وَدُخُول مَسْجِدِهِ (2) .
ط - الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.
(ر: تَجْدِيد ف2)
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، والحاوي للماوردي 1 / 111، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، ومواهب الْجَلِيل 1 / 181، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 63
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 47، والحاوي 1 / 111، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 284، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 63، والشرح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي عَلَيْهِ 1 / 129 - 130(43/323)
ي - وُضُوءُ الْجُنُبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَل فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ (1) .
وَلِحَدِيثِ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُل أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ (2) وَلِحَدِيثِ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ (3) .
قَال الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ وَعِنْدَ النَّوْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: " كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُب. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 393) ، ومسلم (1 / 248) ، واللفظ لِلْبُخَارِيِّ
(2) حَدِيث: " كَانَ رَسُول اللَّهِ إِذَا كَانَ جنبا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُل. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 248)
(3) حَدِيث: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 249) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ(43/324)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَل فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ قَبْل أَنْ يَنَامَ.
أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَوِيُّ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُل وَهُوَ جُنُبٌ غَسَل يَدَيْهِ (1) قَال فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ بَل هُوَ جَائِزٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ أَوْ مُعَاوَدَةِ الْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْل يَدَيْهِ مِنَ الأَْذَى إِذَا أَرَادَ الأَْكْل كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْل فَرْجِهِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فَفِي وُضُوئِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ الْوُضُوءُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْوُضُوءُ (2) .
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: " كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُل وَهُوَ جُنُبٌ. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (1 / 139 - ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة) والدارقطني (1 / 126 ط دَارَ الْمَحَاسِن) ، وَقَال الدَّارَقُطْنِيّ: صَحِيح
(2) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 47، والمجموع 2 / 155 - 156، والمغني 1 / 229، 6 / 26، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 137 - 138، والتاج والإكليل 1 / 316، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 25(43/324)
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
ك - الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ:
23 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا أَحْدَثَ لِيَكُونَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا (1) .
ل - الْوُضُوءُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ:
24 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا إِذَا مَسَّ امْرَأَةً مُشْتَهَاةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ فَرْجَهُ بِبَطْنِ كَفِّهِ لِتَكُونَ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً بِالاِتِّفَاقِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ مِنَ الْقَوْل بِالإِْفْسَادِ (2) .
(ر: مُرَاعَاة الْخِلاَف فِقْرَة 2 - 4)
رَابِعًا: مَا يُبَاحُ لَهُ الْوُضُوءُ:
25 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ الْمُبَاحَ هُوَ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ، وَقَال الشَّبِيبِيُّ: مِنَ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 9، وانظر الْفَتَاوَى الْكُبْرَى الْفِقْهِيَّة للهيثمي 1 / 55
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 47(43/325)
الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوُضُوءُ الْمُبَاحُ هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُول عَلَى الأُْمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلاَ يُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ صَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ. ثُمَّ قَال: وَقَدْ يُقَال فِي هَذَا كُلِّهِ: إِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِبَّاتِ.
وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ فِي هَذَا كُلِّهِ الاِسْتِحْبَابَ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ.
وَهَذَا الْوُضُوءُ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لأَِنَّ مَا قَصَدَهُ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ (1) .
خَامِسًا: الْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ:
26 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُجَدَّدُ قَبْل أَنْ تُفْعَل بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ (2) .
انْظُرِ الْمُصْطَلَحَ (تَجْدِيد ف2)
فَضِيلَةُ الْوُضُوءِ:
27 - وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي فَضْل
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 181، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص26، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 94
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 181(43/325)
الْوُضُوءِ وَسُقُوطِ الْخَطَايَا بِهِ، مِنْهَا:
مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الأَْشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّهُورُ شَطْرُ الإِْيمَانِ (1) .
وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَال: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مِثْل وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَال: " مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ (3) .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُول: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (4) .
__________
(1) حَدِيث: " الطَّهُور شَطْر الإِْيمَانِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 203)
(2) حَدِيث: " مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 207)
(3) حَدِيث: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَن الْوُضُوء. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 216)
(4) حَدِيث: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 210) بِرِوَايَتَيْهِ(43/326)
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل (1) .
شُرُوطُ الْوُضُوءِ:
28 - شُرُوطُ الْوُضُوءِ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا (2) .
وَالْمُرَادُ بِشُرُوطِ الْوُجُوبِ: هِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَتِ الطَّهَارَةُ عَلَى الشَّخْصِ.
وَشُرُوطُ الصِّحَّةِ هِيَ مَا لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ إِلاَّ بِهَا، وَلاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَل بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ (3) .
أَوَّلاً: شُرُوطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:
أ - الْعَقْل:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْل مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِذْ لاَ خِطَابَ
__________
(1) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ: " إِنَّ أُمَّتِي يَدْعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّا. . . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 235) ، ومسلم (1 / 216)
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 182
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 59(43/326)
بِدُونِ الْعَقْل (1) ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْل شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا (2) ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ (3) .
ب - الْبُلُوغُ:
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَاصِرِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ وُضُوؤُهُ (4) .
ج - الإِْسْلاَمُ:
31 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الإِْسْلاَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، إِذْ لاَ يُخَاطَبُ كَافِرٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
كَمَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل الْمَشْهُورِ أَنَّ الإِْسْلاَمَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ مَعًا.
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص 34 ط الأَْمِيرِيَّة
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 182
(3) مَعُونَة أُولِي النُّهَى شَرْح الْمُنْتَهَى 1 / 280، وكشاف الْقِنَاع 1 / 85
(4) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص 34، ومواهب الْجَلِيل 1 / 182 ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 279، والروض الْمُرْبِع 1 / 21، وحاشية الْجُمَل 1 / 101، وحاشية البجيرمي عَلَى مَنْهَجِ الطُّلاَّبِ 1 / 64(43/327)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الإِْسْلاَمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ (1) .
د - انْقِطَاعُ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ انْقِطَاعَ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا (2) .
هـ - وُجُودُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي:
33 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي.
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 59، وحاشية الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص34، ومواهب الْجَلِيل 1 / 182، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 280، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 130، والروض الْمُرْبِع 1 / 21، وحاشية الرَّوْض الْمُرْبِع 1 / 193، وشرح الزُّرْقَانِيّ 1 / 54، وحاشية الْجُمَل 1 / 101، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115
(2) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص 34، ومواهب الْجَلِيل 1 / 182، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115، وحاشية الْجُمَل 1 / 101، ومطالب أُولِي النُّهَى 1 / 104(43/327)
فَلاَ يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ تَنْفِيهِ حُكْمًا، فَلاَ قُدْرَةَ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْكَافِي لِجَمِيعِ الأَْعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَيْرُهُ كَالْعَدَمِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَالْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ ظَنًّا عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ (1) .
و الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
34 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَال الْمُطَهِّرِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنِ اسْتِعْمَال الْمُطَهِّرِ، وَلاَ عَلَى مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَرِجْلاَهُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ (2) .
ز - وُجُودُ الْحَدَثِ:
35 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 1 / 10، ومواهب الْجَلِيل 2 / 182، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 59، وحاشية الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 56، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 149، والحطاب 1 / 182، حاشية البجيرمي 1 / 64، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47 وكشاف الْقِنَاع 1 / 85
(2) الْبَحْر الرَّائِق 1 / 10، وحاشية الطحطاوي 1 / 56، ومواهب الْجَلِيل 1 / 182(43/328)
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وُجُودَ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ.
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِي مُوجِبِهِ أَوْجُهًا:
أَحَدُهَا: الْحَدَثُ مَعَ الاِنْقِطَاعِ فَيَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا.
ثَانِيهَا: الْقِيَامُ إِلَى الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا.
ثَالِثُهَا: هُمَا مَعًا وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الاِنْتِصَارِ: يَجِبُ بِإِرَادَةِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ. قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لاَ تَجِبُ الطَّهَارَةُ قَبْل إِرَادَةِ الصَّلاَةِ بَل تُسْتَحَبُّ.
أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وُجُوبًا، وَقِيل: اسْتِحْبَابًا (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ ف 14) .
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح ص34، ومواهب الْجَلِيل 1 / 182، وحاشية الْجُمَل 1 / 101، والبجيرمي عَلَى مَنْهَجِ الطُّلاَّبِ 1 / 64، والبجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115 - 116، وكشاف الْقِنَاع 1 / 84، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47(43/328)
ح - ضِيقُ الْوَقْتِ:
36 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ ضِيقَ الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ مُضَيَّقًا حِينَئِذٍ وَمُوَسَّعًا فِي ابْتِدَائِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مُوَسَّعٌ بِدُخُول الْوَقْتِ كَالصَّلاَةِ، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَارَ الْوُجُوبُ فِيهِمَا مُضَيَّقًا (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ الْحَاضِرَةِ وَتَذَكُّرَ الْفَائِتَةِ.
وَقَال فِي الْفُرُوعِ: وَيُتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُول الْوَقْتِ، لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ إِذَنْ وَوُجُوبِ الشَّرْطِ بِوُجُوبِ الْمَشْرُوطِ (2) .
ط - بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
37 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ بُلُوغَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُكَلَّفِ (3) .
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 34، والدر الْمُخْتَار 1 / 59
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 182، والفروع 1 / 157 وكشاف الْقِنَاع 1 / 84
(3) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 182(43/329)
ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْوُضُوءِ:
أ - عُمُومُ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ:
38 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ عُمُومَ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، أَيْ بِأَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَحَل الْوَاجِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَغْرِزِ إِبْرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنَ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ أَنْ يَغْسِل مَعَ الْمَغْسُول جُزْءًا يَتَّصِل بِالْمَغْسُول وَيُحِيطُ بِهِ، لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِيعَابُ الْمَغْسُول (2) .
ب - زَوَال مَا يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ:
39 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ زَوَال مَا يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ لِجِرْمِهِ الْحَائِل كَشَمْعٍ وَشَحْمٍ وَعَجِينٍ وَطِينٍ (3) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِزَالَةَ مَانِعِ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْعُضْوِ مَا
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح 34، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 59
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 47
(3) مَرَاقِي الْفَلاَح 34، والزرقاني 1 / 54(43/329)
يُغَيِّرُ الْمَاءَ تَغَيُّرًا مُضِرًّا. قَال فِي الإِْمْدَادِ: وَمِنْهُ الطِّيبُ الَّذِي يُحَسَّنُ بِهِ الشَّعْرُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَشَّفُ وَيَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ لِلْبَاطِنِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ (1) .
ج - انْقِطَاعُ الْحَدَثِ حَال التَّوَضُّؤِ:
40 - يَرَى الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ انْقِطَاعَ الْحَدَثِ حَال التَّوَضُّؤِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ؛ لأَِنَّهُ بِظُهُورِ بَوْلٍ وَسَيَلاَنٍ نَاقِضٍ لاَ يَصِحُّ الْوُضُوءُ (2) .
د - الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ:
41 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ - ضِمْنَ شُرُوطِ الْوُضُوءِ - مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُمَيِّزَ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مِنْ سُنَنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فَرْضًا وَسُنَّةً وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الآْخَرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَرْضٌ.
وَالْمُضِرُّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فُرُوضًا وَسُنَنًا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ.
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 279، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115، وتحفة الْمُحْتَاج مَعَ حَاشِيَة الشرواني 1 / 186 - 187
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 34، والمجموع 2 / 5 ط الْمُطِيعِي، ومواهب الْجَلِيل 1 / 183، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 280، وحاشية الرَّوْض الْمُرْبِع 1 / 194، والروض الْمُرْبِع 1 / 21(43/330)
وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلاَ بُدَ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ (1) .
هـ - عَدَمُ الصَّارِفِ عَنِ الْوُضُوءِ:
42 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ عَدَمَ صَارِفٍ عَنِ الْوُضُوءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِدَوَامِ النِّيَّةِ حُكْمًا: بِأَنْ لاَ يَأْتِيَ بِمُنَافٍ لِلنِّيَّةِ كَرِدَّةٍ أَوْ قَوْل: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوْ قَطْعٍ لِلنِّيَّةِ (2) .
و جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ:
43 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ جَرْيَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقَالُوا: لاَ يَمْنَعُ مَنْ عَدَّ هَذَا شَرْطًا كَوْنَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَفْهُومِ الْغُسْل؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّضْحَ (3) .
ز - النِّيَّةُ:
44 - عَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ النِّيَّةَ لِخَبَرِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (4) أَيْ لاَ عَمَل
__________
(1) البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115
(2) حَاشِيَة الْجُمَل 1 / 101، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 115، وتحفة الْمُحْتَاج مَعَ حَاشِيَة الشرواني 1 / 188 - 189
(3) حَاشِيَة الْجُمَل 1 / 101، وحاشية البجيرمي عَلَى الْمَنْهَجِ 1 / 64، وحاشية الشرواني عَلَى التُّحْفَةِ 1 / 188
(4) حَدِيث: " إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ. . ". أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 9) ، ومسلم (3 / 1515) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ(43/330)
جَائِزٌ وَلاَ فَاضِلٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلأَِنَّ النَّصَّ دَل عَلَى الثَّوَابِ فِي كُل وُضُوءٍ وَلاَ ثَوَابَ فِي غَيْرِ مَنْوِيٍّ؛ وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَةِ النِّيَّةُ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلاَّ مِنَ الشَّارِعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ (1) .
ح - إِبَاحَةُ الْمَاءِ:
45 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ إِبَاحَةَ الْمَاءِ لِحَدِيثِ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (2) فَلاَ يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ مُحَرَّمِ الاِسْتِعْمَال كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَتُكْرَهُ (3) .
شُرُوطُ الْوُضُوءِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ:
46 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِوُضُوءِ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ - وَهُوَ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ - دَخَل الْوَقْتُ وَلَوْ ظَنًّا؛ لأَِنَّ طَهَارَتَهُ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ، وَتَقْدِيمِ الاِسْتِنْجَاءِ أَوِ الاِسْتِجْمَارِ.
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 277
(2) حَدِيث: " مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 5 / 301) ، ومسلم (3 / 1344) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(3) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 279، وكشاف الْقِنَاع 1 / 85، والإنصاف 1 / 28 29.(43/331)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ التَّحَفُّظِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْمُوَالاَةَ بَيْنَ الاِسْتِنْجَاءِ وَالتَّحَفُّظِ، وَالْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَفْعَال الْوُضُوءِ، وَالْمُوَالاَةَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5) ، (وَاسْتِحَاضَة ف 30 وَمَا بَعْدَهَا)
أَسْبَابُ الْوُضُوءِ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلاَةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا} . . .) (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ. (3)
__________
(1) حَاشِيَة الْجُمَل 1 / 101، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 116، والروض الْمُرْبِع 1 / 21، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 280، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 189.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(3) الاِخْتِيَار لِتَعْلِيل الْمُخْتَارِ 1 / 7، وانظر فَتْح الْبَارِي 1 / 232، والدر الْمُخْتَار مَعَ رَدِّ الْمُحْتَارِ 1 / 57 - 58، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47، وفتح الْقَدِير 1 / 7، وبداية الْمُجْتَهِد 1 / 5، وكشاف الْقِنَاع 1 / 84.(43/331)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَلَوْلاَهُ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْوُضُوءِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلاَةِ أَوْ نَحْوَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - نُقِل عَنِ الْفُرُوعِ - أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُول الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ. (1)
فُرُوضُ الْوُضُوءِ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْل الْوَجْهِ، وَغَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسِ، وَغَسْل الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّ النِّيَّةِ وَالْمُوَالاَةِ (وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ) وَالتَّرْتِيبِ وَالدَّلْكِ مِنْ فَرَائِضِهِ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 47، والمجموع 1 / 466، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 186، وحاشية البجيرمي 1 / 115، وكشاف الْقِنَاع 1 / 84، والإنصاف 1 / 194، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 49.(43/332)
وَنُوَضِّحُ كُل فَرْضٍ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ فِيمَا يَلِي (1) :
أَوَّلاً: الْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:
الْفَرْضُ الأَْوَّل: غَسْل الْوَجْهِ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْل ظَاهِرِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . . .) (2) .
وَلِمَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَل كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل الْيُسْرَى مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار 1 / 63 - 64، وفتح الْقَدِير 1 / 7 - 9، وحاشية الصَّاوِي مَعَ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 1 / 104، ومواهب الْجَلِيل 1 / 180 - 182، وحاشية الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 102، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 47، وكشاف الْقِنَاع 1 / 83 - 84.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6.(43/332)
تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ غَسْل الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ فِي الْوُضُوءِ (2) .
الْمُجْزِئُ مِنَ الْغَسْل فِي الْوُضُوءِ:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُجْزِئِ مِنَ الْغَسْل فِي الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ يَكْفِي فِي غَسْل الأَْعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الأَْعْضَاءِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الدَّلْكُ، وَانْفَرَدَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ بِاشْتِرَاطِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: غَسْل الْوَجْهِ هُوَ إِسَالَةُ الْمَاءِ مَعَ التَّقَاطُرِ وَلَوْ قَطْرَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَسِل، بِأَنِ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَال الدُّهْنِ لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: هُوَ مُجَرَّدُ بَل الْمَحَل بِالْمَاءِ. . سَال أَوْ لَمْ يَسِل.
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان دَعَا بِوُضُوءٍ فَتَوَضَّأَ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 204 - 205) .
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ مَعَ الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 62، والمنتقى شَرْح الْمُوَطَّأ 1 / 35، وحاشية البجيرمي عَلَى الْخَطِيبِ 1 / 126، وكشاف الْقِنَاع 1 / 83، وشرح النَّوَوِيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 3 / 90، 91، 92.(43/333)
وَنَقَل ابْنُ الْهُمَامِ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ إِذَا سَال عَلَى الْعُضْوِ وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ.
وَنَقَل الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْفَيْضِ أَنَّ أَقَلَّهُ قَطْرَتَانِ فِي الأَْصَحِّ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْغَسْل هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ مُقَارِنًا لِلْمَاءِ أَوْ عَقِبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُرَادُ بِالْغَسْل الاِنْغِسَال، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْل الْمُتَوَضِّئِ أَمْ بِفِعْل غَيْرِهِ، أَمْ بِغَيْرِ فِعْلٍ أَصْلاً - كَأَنْ يَنْزِل عَلَيْهِ الْمَطَرُ - وَلَوْ بِغَسْل غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنِهِ، أَوْ سُقُوطِهِ فِي نَهَرٍ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ فِيهِمَا. (1)
الْوَجْهُ وَحَدُّهُ:
51 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْوَجْهُ هُوَ مَا تَحْصُل بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، فَيُغْسَل ظَاهِرُهُ كُلُّهُ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: حَدُّ الْوَجْهِ عَرْضًا: مَا بَيْنَ الأُْذُنَيْنِ، وَحَدُّهُ طُولاً: مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعَرِ رَأْسِهِ عَالِيًا - أَيْ أَنَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْبُتَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْمَذْكُورُ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَبْدَأِ أَعْلَى جَبْهَتِهِ. . إِلَى أَسْفَل الذَّقَنِ.
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 1 / 9 والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 65، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 85، وحاشية البجيرمي 1 / 126، وكشاف الْقِنَاع 1 / 95.(43/333)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: ذَلِكَ فِيمَنْ لاَ لِحْيَةَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ. . فَمُنْتَهَى لِحْيَتُهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُسْتَرْسِل أَيِ الْخَارِجُ عَنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُوَاجِهُ إِلَى الْمُتَّصِل عَادَةً لاَ إِلَى الْمُسْتَرْسِل فَلَمْ يَكُنْ وَجْهًا، فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلاَ يَجِبُ مَسْحُهُ كَذَلِكَ، بَل يُسَنُّ، وَالسِّلْعَةُ إِذَا تَدَلَّتْ عَنِ الْوَجْهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الشُّعُورُ الْخَارِجَةُ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا مُطْلَقًا إِنْ خَفَّتْ، وَظَاهِرِهَا مُطْلَقًا إِنْ كَثُفَتْ. . . وَفِي قَوْلٍ: لاَ يَجِبُ غَسْل خَارِجٍ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنْ لِحْيَةٍ وَغَيْرِهَا خَفِيفًا كَانَ أَوْ كَثِيفًا، لاَ ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَل الْغَرَضِ. . . وَقَالُوا: يَجِبُ غَسْل سِلْعَةٍ (1) نَبَتَتْ فِي الْوَجْهِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ حَدِّهِ؛ لِحُصُول الْمُوَاجَهَةِ بِهَا. (2)
غَسْل الشَّعْرِ الَّذِي عَلَى الْوَجْهِ:
52 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعْرٍ
__________
(1) وَالسِّلْعَة بِالْكَسْرِ زِيَادَة تَحَدُّثٍ فِي الْجَسَدِ كَالْغُدَّةِ تَتَحَرَّكُ إِذَا حَرَّكَتْ (الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 3 / 69) .
(2) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 105، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52، وحاشية البجيرمي 1 / 130، ونهاية الْمُحْتَاج 1 / 156، وكشاف الْقِنَاع 1 / 96، ورد الْمُحْتَار 1 / 68، 69.(43/334)
إِنْ كَانَ لِحْيَةَ رَجُلٍ فَيَغْسِل الْخَفِيفَ مِنْ هَذَا الشَّعْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى الْجِلْدَةَ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا بِحَيْثُ لاَ تُرَى هَذِهِ الْجِلْدَةُ أَثْنَاءَ الْمُخَاطَبَةِ سَقَطَ غَسْل الْبَاطِنِ؛ لِلْحَرَجِ.
وَإِنْ كَانَ مَا فِي الْوَجْهِ مِنْ شَعَرٍ هُدْبًا، أَوْ حَاجِبًا، أَوْ شَارِبًا، أَوْ عَنْفَقَةً - وَهِيَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى - أَوْ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى. . فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ غَسْل هَذَا الشَّعْرِ - خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا - عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجِبُ غَسْل أُصُول شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالْعَنْفَقَةِ إِذَا كَانَ هَذَا الشَّعْرُ كَثِيفًا؛ لِلْحَرَجِ فِي إِيصَال الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ وَيُسَنُّ تَخْلِيل لِحْيَةِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا تَبْدُو الْبَشَرَةُ مِنْ خِلاَلِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى الْجِلْدَةِ الَّتِي نَبَتَ عَلَيْهَا.
وَلاَ يَجِبُ غَسْل الْمُسْتَرْسِل مِنَ الشَّعْرِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَائِرَةِ الْوَجْهِ كَمَا لاَ يَجِبُ مَسْحُهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ غَسْل الْوَجْهِ مَعَ تَخْلِيل شَعْرٍ مِنْ لِحْيَةٍ أَوْ حَاجِبٍ أَوْ شَارِبٍ أَوْ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، 69، 79.(43/334)
عَنْفَقَةٍ أَوْ هُدْبٍ تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهُ فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، وَالتَّخْلِيل: إِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَيِ الْجِلْدَةِ النَّابِتِ فِيهَا الشَّعْرُ. . وَهَذَا فِي الشَّعْرِ الْخَفِيفِ، أَمَّا الْكَثِيفُ فَلاَ يُخَلِّلُهُ، بَل يُكْرَهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَمُّقِ، وَيَكْفِي إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ دُونَ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ.
قَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ تَحْرِيكُهُ لِيَدْخُل الْمَاءُ بَيْنَ ظَاهِرِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِل إِلَى الْبَشَرَةِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الرَّاجِحُ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال بِنَدْبِهِ، وَلِمَنْ قَال بِوُجُوبِ تَخْلِيلِهِ، وَقَال: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي وُجُوبِ تَخْلِيل الْخَفِيفِ، وَفِي الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ فِي الْكَثِيفِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: شُعُورُ الْهُدْبِ وَالْحَاجِبِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارِ وَالْعَنْفَقَةِ تُغْسَل شَعْرًا وَبَشَرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَتْ؛ لأَِنَّ كَثَافَتَهَا نَادِرَةٌ، وَقِيل: لاَ يَجِبُ غَسْل بَاطِنِ عَنْفَقَةٍ كَثِيفَةٍ وَلاَ بَشَرَتِهَا كَاللِّحْيَةِ، وَفِي ثَالِثٍ: يَجِبُ إِنْ لَمْ تَتَّصِل بِاللِّحْيَةِ.
وَقَالُوا: لِحْيَةُ الْمَرْأَةِ كَهَذِهِ الشُّعُورِ تُغْسَل ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِنُدْرَةِ كَثَافَتِهَا؛ وَلأَِنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إِزَالَتُهَا؛ لأَِنَّهَا مُثْلَةٌ فِي حَقِّهَا، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى فِي
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 86، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 106، 107.(43/335)
غَسْل مَا ذُكِرَ إِنْ لَمْ يُجْعَل ذَلِكَ عَلاَمَةً عَلَى ذُكُورَتِهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَلِحْيَةُ الرَّجُل إِنْ خَفَّتْ - بِحَيْثُ تُرَى بَشَرَةُ الْوَجْهِ تَحْتَ الشَّعْرِ - يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَإِنْ كَثُفَتْ فَيُغْسَل ظَاهِرُهَا وَلاَ يَجِبُ غَسْل بَاطِنِهَا؛ لِعُسْرِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ مَعَ الْكَثَافَةِ غَيْرِ النَّادِرَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غَرْفَةً غَسَل بِهَا وَجْهَهُ " (1) ، وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً، وَبِالْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا. . وَيُسَنُّ تَخْلِيلُهَا.
فَإِنْ خَفَّ بَعْضُ لِحْيَةِ الرَّجُل وَكَثُفَ بَعْضُهَا وَتَمَيَّزَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بِأَنْ كَانَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ وَجَبَ غَسْل الْكُل؛ لأَِنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بِالْغَسْل يَشُقُّ، وَإِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَى الْخَفِيفِ لاَ يُجْزِئُ. . وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. (2)
وَفِي رَأْيٍ يَجِبُ غَسْل الْبَشَرَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ قَوْلاً وَوَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غَرْفَة غَسَل بِهَا وَجْهَهُ أُخَرِّجُهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 240) .
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 51، 60.(43/335)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ، فَخَلَّل بِهَا لِحْيَتَهُ، وَقَال: هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي (1) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى غُسْل الْجَنَابَةِ وَعَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل اللِّحْيَةِ وَمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنَ الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسِل؛ لأَِنَّ اللِّحْيَةَ تُشَارِكُ الْوَجْهَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْمُوَاجَهَةِ.
وَكَذَا يَجِبُ غَسْل عَنْفَقَةِ وَشَارِبِ وَحَاجِبَيْ وَلِحْيَةِ امْرَأَةٍ وَخُنْثَى إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُجْزِئُ غَسْل ظَاهِرِهِ كَلِحْيَةِ الذَّكَرِ، وَيُسَنُّ غَسْل بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ. . كَالشَّافِعِيِّ أَيْ فِي غَيْرِ لِحْيَةِ الرَّجُل.
وَالْخَفِيفُ مِنْ شُعُورِ الْوَجْهِ كُلِّهَا - وَهُوَ الَّذِي يَصِفُ الْبَشَرَةَ - يَجِبُ غَسْلُهُ وَغَسْل مَا تَحْتَهُ؛ لأَِنَّ الَّذِي لاَ يَسْتُرُهُ شَعْرُهُ يُشْبِهُ مَا لاَ شَعْرَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ غَسْل الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْمَحَل، فَإِنْ كَانَ فِي شَعْرِهِ كَثِيفٌ وَخَفِيفٌ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
وَقَالُوا يُسَنُّ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ عِنْدَ غَسْلِهَا
__________
(1) حَدِيث: " كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاء. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 101 ط حِمْص) .
(2) الْمَجْمُوع 1 / 374 - 375.(43/336)
لِحَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل لِحْيَتَهُ (1) .
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ لاَ يَجِبُ غَسْل مَا خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْبَشَرَةِ طُولاً وَعَرْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُسْتَرْسِل. قَال أَحْمَدُ: وَيُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ لأَِسَارِيرِهِ وَدَوَاخِلِهِ وَخَوَارِجِهِ وَشُعُورِهِ. (2)
غَسْل مَآقِ الْعَيْنِ وَدَاخِلِهَا:
53 - قَال الْفُقَهَاءُ: يُغْسَل مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَآقِ الْعَيْنِ - أَيْ طَرَفِهَا أَوْ مُؤَخِّرِهَا - فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْمَحَل الْوَاجِبِ غَسْلُهُ كَالرَّمَصِ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ وَغَسْل مَا تَحْتَهُ.
أَمَّا دَاخِل الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءَ فِي غَسْلِهِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغْسَل مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ بَاطِنُ الْعَيْنَيْنِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلاَ أَمَرَ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ شَحْمٌ
__________
(1) حَدِيث: " عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّل لِحْيَتَهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 46 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال حَدِيث حَسَن صَحِيح.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 96 - 97، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 289 - 290، والإنصاف 1 / 156.(43/336)
يَضُرُّهُ الْمَاءُ الْحَارُّ وَالْبَارِدُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ غَسْل دَاخِل الْعَيْنَيْنِ بِشَرْطِ أَمْنِ الضَّرَرِ، وَعَنْهُ: يَجِبُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى. (1)
أَمَّا إِذَا تَنَجَّسَ دَاخِل الْعَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْلِهِ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل بَاطِنِ الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل دَاخِل الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فِيهَا، فَيُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلاَةِ. (2)
غَسْل مَوْضِعِ الْغَمَمِ:
54 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل فِي غَسْل الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَوْضِعُ الْغَمَمِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِحُصُول الْمُوَاجَهَةِ بِهِ، وَمَوْضِعُ الْغَمَمِ هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنَ الْجَبْهَةِ، وَالْغَمَمُ أَنْ يَسِيل الشَّعْرُ حَتَّى يَضِيقَ الْجَبْهَةُ وَالْقَفَا فَيَغْسِل الْمُتَوَضِّئُ مَا نَزَل مِنَ الشَّعْرِ عَنِ الْمُعْتَادِ مِنْ حَدِّ مَنْبَتِهِ فِي
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 87، والشرح الصَّغِير 1 / 166، ومواهب الْجَلِيل 1 / 88، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 50، وكشاف الْقِنَاع 1 / 96، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 292، والإنصاف 1 / 155.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.(43/337)
الرَّأْسِ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْمُعْتَادِ وَقَدْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَاجِبُ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (1) .
غَسْل مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي الْوُضُوءِ:
55 - مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ: هُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ. (2)
وَضَابِطُهُ أَنْ تَضَعَ طَرَفَ خَيْطٍ عَلَى طَرَفِ الأُْذُنِ، وَالطَّرَفَ الثَّانِيَ عَلَى أَعْلَى الْجَبْهَةِ، وَتَفْرِضَ هَذَا الْخَيْطَ مُسْتَقِيمًا، فَمَا نَزَل عَنْهُ إِلَى جَانِبِ الْوَجْهِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّحْذِيفِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ فِي غَسْل الْوَجْهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ.
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 86، والشرح الصَّغِير 1 / 105، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 50، ونهاية الْمُحْتَاج 1 / 153، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 289.
(2) الْعِذَار: هُوَ شِعْرٌ نَابَتْ عَلَى عَظْم نَاتِئ يُحَاذِي صِمَاخ الأُْذُن بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْعَارِض. وَالْعَارِضُ: هُوَ الشَّعْر النَّابِتُ عَلَى الْخَدِّ وَاللَّحْيَيْنِ. وَالصُّدْغُ: هُوَ مَا فَوْقَ الْعِذَارِ يُحَاذِي رَأْس الأُْذُن وَيَنْزِل(43/337)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي رَأْيٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّحْذِيفِ مِنَ الرَّأْسِ لاِتِّصَال شَعْرِهِ بِشَعْرِ الرَّأْسِ، فَلاَ يُغْسَل مَعَ الْوَجْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ - قَال الْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا هُوَ الأَْصَحُّ - إِلَى أَنَّ التَّحْذِيفَ مِنَ الْوَجْهِ لِمُحَاذَاتِهِ بَيَاضَ الْوَجْهِ فَيُغْسَل مَعَهُ. (1)
غَسْل الْبَيَاضِ بَيْنَ الْعِذَارِ وَالأُْذُنِ:
56 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَبِهِ يُفْتَى - إِلَى أَنَّ الْبَيَاضَ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالأُْذُنِ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِ فِي حَدِّهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْوَجْهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا قَرَّرَ الدُّسُوقِيُّ - أَنَّ الْبَيَاضَ الْمُحَاذِيَ لِوَتَدِ الأُْذُنِ مِنَ الْوَجْهِ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَا مَا كَانَ تَحْتَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلاَفًا لِمَنْ
__________
(1) رَدُّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، ونهاية الْمُحْتَاج 1 / 153 - 154، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 203، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 291، والإنصاف 1 / 154، ومواهب الْجَلِيل 1 / 185 - 186.(43/338)
قَال: إِنَّهُ لاَ يُغْسَل وَلاَ يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي فَوْقَهُ فَهُوَ مِنَ الرَّأْسِ. (1)
غَسْل الشَّفَتَيْنِ:
57 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ أَنْ يُغْسَل مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْ حُمْرَةِ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا انْضِمَامًا طَبِيعِيًّا لاَ عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا بِشِدَّةٍ وَتَكَلُّفٍ، وَقِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَجْهٍ: الشَّفَةُ تَبَعٌ لِلْفَمِ. (2)
غَسْل جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ:
58 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ غَسْل جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ فِي غَسْل الْوَجْهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَغَسْل جُزْءٍ مِنَ الْحَلْقِ وَمِنْ تَحْتِ الْحَنَكِ وَمِنَ الأُْذُنَيْنِ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (3) .
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ وَالدَّرّ الْمُخْتَار 1 / 66، والشرح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 85، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، وكشاف الْقِنَاع 1 / 95.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 86، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 106، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 269.
(3) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي عليه1 / 105، والشرح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 86، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، والطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 62.(43/338)
غَسْل الْعِذَارِ:
59 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْعِذَارُ - وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ أَيِ الْمُرْتَفِعِ الْمُسَامِتِ صِمَاخَ الأُْذُنِ وَهُوَ خَرْقُهَا - مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَل مَعَهُ. (1)
غَسْل الْوَتَرَةِ وَدَاخِل الْفَمِ وَالأَْنْفِ:
60 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى غَسْل الْوَتَرَةِ - وَهِيَ الْحَائِل بَيْنَ طَاقَتَيِ الأَْنْفِ - مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لأَِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَل مَا ظَهَرَ مِنَ الْوَجْهِ بِالْجَدْعِ: أَيْ مَا بَاشَرَتْهُ السِّكِّينُ بِالْقَطْعِ لاَ مَا كَانَ مَسْتُورًا بِالأَْنْفِ. . . وَلَوِ اتَّخَذَ لَهُ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَالْتَحَمَ وَجَبَ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ غَسْل مَا ظَهَرَ مِنْ أَنْفِهِ بِالْقَطْعِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْقَطْعِ، فَصَارَ الأَْنْفُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّهِ كَالأَْصْلِيِّ (3) .
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 105 - 106، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، وكشاف الْقِنَاع 1 / 95، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 290، والطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 62.
(2) الشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 105 - 106، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، وكشاف الْقِنَاع 1 / 95، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 290، والطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 62.
(3) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 86.(43/339)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْوَجْهِ أَيْ ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ دَاخِل الْفَمِ وَدَاخِل الأَْنْفِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ؛ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ، فَهُوَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالظَّاهِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ مِنَ الْوَجْهِ؛ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الطِّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى (1) ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ " (2) .
غَسْل الصُّدْغِ وَمَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَيْنِ:
61 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصُّدْغَ وَمَوْضِعَ الصَّلَعِ وَالنَّزْعَتَانِ لَيْسَتْ مِنَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الرَّأْسِ.
وَالصُّدْغُ هُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ يُحَاذِي رَأْسَ الأُْذُنِ وَيَنْزِل عَنْهُ قَلِيلاً.
وَمَوْضِعُ الصَّلَعِ: وَهُوَ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ إِذَا خَلاَ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 86، وحاشية البجيرمي 1 / 128، وكشاف الْقِنَاع 1 / 96.
(2) حَدِيث: " الْمَضْمَضَة وَالاِسْتِنْشَاق. . . " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (1 / 84 ط دَارَ الْمَحَاسِن) ثُمَّ أَعُلْهُ بِوَهْم أَحَد رُوَاته، وَأَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ الإِْرْسَال.(43/339)
مِنَ الشَّعْرِ.
وَالنَّزْعَتَانِ هُمَا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ مِنْ جَانِبَيْ مُقَدِّمَةِ الرَّأْسِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصُّدْغُ مِنَ الْوَجْهِ فَيُغْسَل.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: يُسَنُّ غَسْل مَوْضِعِ الصَّلَعِ وَالتَّحْذِيفِ وَالنَّزَغَيْنِ وَالصُّدْغَيْنِ مَعَ الْوَجْهِ؛ لِلْخِلاَفِ فِي وُجُوبِهَا فِي غَسْلِهِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَغْسِل الْمُتَوَضِّئُ أَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ، أَيْ خُطُوطَهَا وَتَكَامِيشَهَا، وَمَا غَارَ مِنْ جَفْنٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ بِدَلْكٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ غَسْلُهُ. (2)
وَخَالَفَ الزُّهْرِيُّ الْجُمْهُورَ فِي تَحْدِيدِ الْوَجْهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الأُْذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلاَنِ مَعَهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ " (3) حَيْثُ أَضَافَ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 66، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 85، 86، والشرح الصَّغِير والصاوي 1 / 105، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، وكشاف الْقِنَاع 1 / 95، والإنصاف 1 / 154، 156، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 291
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 86 - 87، والشرح الصَّغِير والصاوي 1 / 106، 107.
(3) حَدِيث: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقه وَصَوَّرَهُ. . . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 535) مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب.(43/340)
السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ كَمَا أَضَافَ الْبَصَرَ إِلَيْهِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ " (1) ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ (2) ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُمَا إِلَى الْوَجْهِ لِمُجَاوَرَتِهِمَا لَهُ، وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بَاسْمِ مَا جَاوَرَهُ. (3)
غَسْل مَا ظَهَرَ مِنَ الْعُضْوِ بَعْدَ غَسْل مَا فَوْقَهُ:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ غَسَل ظَاهِرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الشُّعُورِ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوِ انْقَلَعَتْ مِنْ وَجْهِهِ جِلْدَةٌ بَعْدَ غَسْلِهَا، هَل يَلْزَمُهُ غَسْل مَا ظَهَرَ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ غَسْل مَا ظَهَرَ وَلاَ يُعِيدُ وُضُوءَهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ انْتَقَل إِلَى الشَّعْرِ أَصْلاً، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ
__________
(1) حَدِيث: " الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 93 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وحسنه الزيلعي فِي نَصْبِ الرَّايَةِ (1 / 18 ط الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ) .
(2) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (1 / 74 ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة) .
(3) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 1 / 115، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 290.(43/340)
غَسَل الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْل شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ؛ وَلأَِنَّ غَسْلَهَا كَانَ بَدَلاً عَمَّا تَحْتَهَا (1) .
الْفَرْضُ الثَّانِي: غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ:
63 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ) (2) إِلَى الْمَرَافِقِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَبِمَا رُوِيَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، فَغَسَل وَجْهَهُ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَل يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ " (3) .
__________
(1) رَدَّ الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 66، 69، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 117، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 382، وشرح الزُّرْقَانِيّ 1 / 60 - 61.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(3) حَدِيث: " أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 216) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.(43/341)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ فِي وُجُوبِ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ (1) .
غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.
64 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ) إِلَى وُجُوبِ غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ) (2) ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى " إِلَى " الْوَارِدِ فِي الآْيَةِ بِمَعْنَى " مَعَ " فَدُخُول الْمِرْفَقِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْغَايَةِ فَالْحَدُّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَل فِيهِ وَأَصْبَحَ شَامِلاً لِلْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ.
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ إِلَى مِرْفَقَيْهِ " (3) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) الْبَدَائِع 1 / 4، ورد الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 66 - 67، وحاشية الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 87 - 88، والشرح الصَّغِير 1 / 107، والمجموع النَّوَوِيّ 1 / 382، وَمَا بَعْدَهَا، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 22، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52، وكشاف الْقِنَاع 1 / 97.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(3) حَدِيث: عِبَاد الْعَبْدِي فِي صِفَة وَضَوْء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ كَمَا فِي مَجْمَع الزَّوَائِد للهيثمي (1 / 224 - ط الْقُدْسِيّ) وَقَال الهيثمي: رِجَالُهُ مُوثَقُونَ.(43/341)
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَل يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدَيْنِ وَغَسَل رِجْلَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقَيْنِ ثُمَّ قَال: " هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ " (1) فَثَبَتَ غَسْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الآْيَةِ وَلَمْ يُنْقَل تَرْكُهُ ذَلِكَ.
وَيَرَى نَفَرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الْمِرْفَقَ لاَ يَدْخُل فِي غَسْل الْيَدِ أَيْ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْيَدِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا لاَ يَدْخُل اللَّيْل تَحْتَ الأَْمْرِ بِالصَّوْمِ (2) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل) (3) .
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِرْفَقَيْنِ يَدْخُلاَنِ، لاَ لأَِجْل وُجُوبِ غَسْلِهِمَا مَعَ الْيَدَيْنِ، بَل احْتِيَاطًا؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ لاَ يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلاَّ
__________
(1) حَدِيث: حَدِيثٌ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ تَوَضَّأَ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 216) .
(2) البدائع1 / 4، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 67، ومواهب الْجَلِيل 1 / 191، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 383 وَمَا بعدها والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 122، والإنصاف 1 / 157.
(3) سُورَة الْبَقَرَة: 187.(43/342)
بِدُخُولِهِمَا. قَال الْحَطَّابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل: عَزَاهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ لأَِبِي الْفَرَجِ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِدْخَالُهُمَا أَحْوَطُ؛ لِزَوَال تَكْلِيفِ التَّحْدِيدِ. (1)
قَطْعُ بَعْضِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ:
65 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ بَعْضُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْيَدِ وَجَبَ غَسْل مَا بَقَى مِنْهُ؛ لِحَدِيثِ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " (2) ، وَلأَِنَّ الْمَيْسُورَ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ (3) .
قَطْعُ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ:
66 - إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنَ الْمِرْفَقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْل الْمِرْفَقِ فِي حُكْمِ غَسْل مَوْضِعِ الْقَطْعِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ 1 / 191.
(2) حَدِيث: " إِذَا أَمَرَتْكُمْ بِشَيْءٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. . . . . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 13 / 251) ومسلم (3 / 1830) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، واللفظ لِلْبُخَارِيِّ.
(3) بَدَائِع الصنائع1 / 4، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 69، ومواهب الْجَلِيل 1 / 191 - 193، ومغني الْمُحْتَاج 2 / 52، وشرح الْمَحَلِّيّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 1 / 49، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 392، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 123.(43/342)
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ غَسْل الْعَظْمِ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ؛ لأَِنَّ غَسْل الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلاَقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا غُسِل الآْخَرُ؛ وَلأَِنَّهُ مِنَ الْمِرْفَقِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلٍ لِلْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ طَرَفُ عَظْمِ السَّاعِدِ فَقَطْ، وَوُجُوبُ غَسْل رَأْسِ الْعَضُدِ كَانَ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْمِرْفَقَ فِي الذِّرَاعِ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِنْ عَرَفَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْمِرْفَقِ شَيْءٌ فِي الْعَضُدِ، فَيُغْسَل مَوْضِعُ الْقَطْعِ. (2)
قَطْعُ الْيَدِ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ:
67 - إِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الْغَسْل؛ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ غَسْل بَاقِي عَضُدِهِ؛ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ، وَلِتَطْوِيل التَّحْجِيل كَمَا لَوْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ، وَلأَِنَّ فِي هَذَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، كَإِمْرَارِ الْمُحْرِمِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ عَدَمِ شَعْرِهِ وَقَالُوا: وَإِنْ قُطِعَ مِنْ مَنْكِبِهِ
__________
(1) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 191 - 193، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52.(43/343)
نُدِبَ غَسْل مَحَل الْقَطْعِ بِالْمَاءِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. (1)
غَسْل مَا زَادَ مِنْ إِصْبَعٍ أَوْ كَفٍّ أَوْ يَدٍ:
68 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلإِْنْسَانِ إِصْبَعٌ أَوْ كَفٌّ زَائِدٌ فِي مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الأَْصْلِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا نَابِتَةٌ مِنْهَا، أَشْبَهَتِ الثُّؤْلُول.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ كَالْمِنْكَبِ أَوِ الْعَضُدِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يُحَاذِ مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا نَبَتَ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَتَمَيَّزَ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَل عَنِ الْوَجْهِ. (2)
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 191 - 193، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 392، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 391 - 392، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 123.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 69 - 70، ومواهب الْجَلِيل 1 / 193 - 194، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 387 - 389، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52 - 53، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 123، والإنصاف 1 / 157، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 293.(43/343)
غَسْل ظُفُرِ الْيَدِ أَوْ مَا تَحْتَهُ:
69 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ غَسْل ظُفُرِ الْيَدِ وَإِنْ طَال؛ لأَِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِيَدِهِ اتِّصَال خِلْقَةٍ، فَيَدْخُل فِي مُسَمَّى الْيَدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: لاَ يَضُرُّ وَسَخٌ يَسِيرٌ تَحْتَ الظُّفُرِ وَلَوْ مَنَعَ وُصُول الْمَاءِ، قَال الْمُرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ عَادَةً، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ مَعَهُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ بِالْوَسَخِ الْيَسِيرِ تَحْتَ الظُّفُرِ كُل يَسِيرٍ مَنَعَ وُصُول الْمَاءِ حَيْثُ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ كَدَمٍ وَعَجِينٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاخْتَارَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَحْتَ الظُّفُرِ.
وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ: تَحْتَ ظُفُرٍ وَنَحْوِهِ، فَيَدْخُل فِيهِ الشُّقُوقُ فِي بَعْضِ الأَْعْضَاءِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 25، وكشاف الْقِنَاع 1 / 97، والإنصاف، بداية الْمُجْتَهِد 1 / 8، الشرح الصَّغِير 1 / 166، الشرح الْكَبِير 1 / 88.(43/344)
الْهِنْدِيَّةِ -: عَلَى أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُضُوءِ قَدْرُ رَأْسِ إِبْرَةٍ أَوْ لَزِقَ بِأَصْل ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ أَوْ رَطْبٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَلَطَّخَ يَدُهُ بِخَمْرٍ أَوْ حِنَّاءٍ جَازَ، وَسُئِل الدَّبُوسِيُّ عَمَّنْ عَجَنَ فَأَصَابَ يَدَهُ عَجِينٌ فَيَبِسَ وَتَوَضَّأَ؟ قَال: يُجْزِيهِ إِذَا كَانَ قَلِيلاً، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ، وَمَا تَحْتَ الأَْظَافِيرِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ عَجِينٌ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، كَذَا فِي الْخُلاَصَةِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.
ذَكَرَ الشَّيْخُ الإِْمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَارُ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الظُّفُرَ إِذَا كَانَ طَوِيلاً بِحَيْثُ يَسْتُرُ رَأْسَ الأُْنْمُلَةِ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا لاَ يَجِبُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الأَْصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلاً وَاحِدًا، كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: سُئِل أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ وَافِرِ الظُّفُرِ الَّذِي يَبْقَى فِي أَظْفَارِهِ الدَّرَنُ، أَوِ الَّذِي يَعْمَل عَمَل الطِّينِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صُبِغَ إِصْبَعُهَا بِالْحِنَّاءِ، أَوِ الصِّرَامِ، أَوِ الصِّبَاغِ قَال: كُل ذَلِكَ سَوَاءٌ يُجْزِيهِمْ وُضُوؤُهُمْ؛ إِذْ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ إِلاَّ بِحَرَجٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ وَالْقَرَوِيِّ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَكَذَا الْخَبَّازُ إِذَا كَانَ وَافِرَ الأَْظْفَارِ، كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ نَاقِلاً عَنِ الْجَامِعِ الأَْصْغَرِ،(43/344)
وَالْخِضَابُ إِذَا تَجَسَّدَ وَيَبِسَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْوُضُوءِ وَالْغَسْل، كَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ نَاقِلاً عَنِ الْوَجِيزِ (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: فِي الْجَامِعِ الأَْصْغَرِ إِنْ كَانَ وَافِرَ الأَْظْفَارِ وَفِيهَا دَرَنٌ أَوْ طِينٌ أَوْ عَجِينٌ، أَوِ الْمَرْأَةُ تَضَعُ الْحِنَّاءَ جَازَ الْوُضُوءُ فِي الْقَرَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، قَال الدَّبُوسِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَقَال الإِْسْكَافُ: يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ إِلاَّ الدَّرَنَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ. وَقَال الصَّفَارُ فِيهِ يَجِبُ الإِْيصَال إِلَى مَا تَحْتَهُ إِنْ طَال الظُّفُرُ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لأَِنَّ الْغَسْل وَإِنْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّوَاهِرِ لَكِنْ إِذَا طَال الظُّفُرُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ عُرُوضِ الْحَائِل كَقَطْرَةِ شَمْعَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّهُ عَارِضٌ. وَفِي النَّوَازِل يَجِبُ فِي الْمِصْرِيِّ لاَ الْقَرَوِيُّ؛ لأَِنَّ دُسُومَةَ أَظْفَارِ الْمِصْرِيِّ مَانِعَةٌ وُصُول الْمَاءِ، بِخِلاَفِ الْقَرَوِيِّ وَلَوْ لَزِقَ بِأَصْل ظُفُرِهِ طِينٌ يَابِسٌ وَنَحْوُهُ، أَوْ بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الإِْبْرَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْغَسْل لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الأَْصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلاً وَاحِدًا. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الشَّعْرِ عَلَى الْيَدَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَ؛ لِنُدْرَتِهِ،
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 4.
(2) فَتْح الْقَدِير 1 / 13.(43/345)
وَغَسْل بَاطِنِ ثُقْبٍ وَشُقُوقٍ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَوْرٌ فِي اللَّحْمِ، وَإِلاَّ وَجَبَ غَسْل مَا ظَهَرَ مِنْهُ فَقَطْ، وَيُجْزِهِ هَذَا فِي سَائِرِ الأَْعْضَاءِ. (1)
وَيَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَقَطْ فِي الْوُضُوءِ (خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ) ، وَيُحَافِظُ عَلَى عُقَدِ الأَْصَابِعِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بِأَنْ يَحْنِيَ أَصَابِعَهُ، وَعَلَى رُءُوسِ الأَْصَابِعِ بِأَنْ يَجْمَعَهَا وَيَحُكَّهَا بِوَسَطِ الْكَفِّ، وَيَجِبُ مُعَاهَدَةُ تَكَامِيشِ الأَْنَامِل وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَجِبُ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَيَشْمَل الْخَاتَمُ الْمُتَعَدِّدَ فِي حَقِّهَا وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَهَا مِنْ أَسَاوِرَ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ الْمَأْذُونُ فِيهِ ضَيِّقًا لاَ يَدْخُل الْمَاءُ تَحْتَهُ، وَلاَ يُعَدُّ حَائِلاً، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَالذَّهَبِ لِلرَّجُل أَوِ الْمُتَعَدِّدِ، فَلاَبُدَّ مِنْ نَزْعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا يَدْخُل تَحْتَهُ الْمَاءُ فَيَكْفِي تَحْرِيكُهُ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَرَامِ كَالذَّهَبِ أَوِ الْمَكْرُوهِ كَالنُّحَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ نَزْعُهُ عَلَى كُل حَالٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَرَامٌ. (2)
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 52.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 87 - 88، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 107 - 107.(43/345)
غَسْل الْيَدِ الزَّائِدَةِ:
70 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل يَدٍ زَائِدَةٍ نَبَتَتْ بِمَحَل الْفَرْضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ الْيَدُ الزَّائِدَةُ بِغَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْل مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ تُغْسَل كُلُّهَا.
وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الزَّائِدَةُ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ وَجَبَ غَسْلُهَا أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانُ عَلَى الْمَنْكِبِ، فَالتَّامَّةُ هِيَ الأَْصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا وَالأُْخْرَى زَائِدَةٌ، فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَمَا لاَ فَلاَ، بَل يُنْدَبُ غَسْلُهُ.
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الْمُجْتَبَى: لَوْ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 4، ابن عَابِدِينَ 1 / 69 - 70، حاشية الصَّاوِي مَعَ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 1 / 107، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 87، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 52.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 52 - 53، وكشاف الْقِنَاع 1 / 97، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 293، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 53، والإنصاف 1 / 157 - 158 - ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 293، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 87.(43/346)
خُلِقَ لَهُ يَدَانِ فَلَوْ يَبْطِشُ بِهِمَا غَسَلَهُمَا، وَلَوْ بِإِحْدَاهُمَا فِي الأَْصْلِيَّةِ فَيَغْسِلُهَا. (1)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى عِبَارَةِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " لَوْ يَبْطِشُ بِإِحْدَاهُمَا فِي الأَْصْلِيَّةِ وَالأُْخْرَى زَائِدَةٌ لاَ يَجِبُ غَسْلُهَا "، وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ كَانَتْ تَامَّةً، وَفِي النَّهَرِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا لَوْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ غَسْلِهِمَا فِي الأَْوَّل وَغَسْل وَاحِدَةٍ فِي الثَّانِي. ثُمَّ قَال: فَلَمْ يَعْتَبِرْ - صَاحِبُ النَّهَرِ - الْبَطْشَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْبَطْشُ أَوَّلاً، فَإِنْ بَطَشَ بِهِمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لاَ يَجِبُ إِلاَّ غَسْل الأَْصْلِيَّةِ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا. (2)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِنْ نَبَتَتْ بِغَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ عَنِ الأَْصْلِيَّةِ بِأَنْ كَانَتَا أَصْلِيَّتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ بِفُحْشِ قِصَرٍ، وَنَقْصِ أَصَابِعَ، وَضَعْفِ بَطْشٍ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ مُتَمَيِّزَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْل مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ. (3)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 1 / 13، والبحر الرَّائِق 1 / 14، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 4، رد الْمُحْتَار مَعَ الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 69 - 70.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ مَعَ الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 69 - 70.
(3) أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 33، مغني الْمُحْتَاج 1 / 53.(43/346)
غَسْل الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الْعَضُدِ:
71 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَدَلَّتْ جِلْدَةُ الْعَضُدِ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ غَسْل شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يُحَاذِي مَحَل الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ خُرُوجِهَا عَنْ مَحَل الْفَرْضِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَلَّعَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ حَتَّى تَدَلَّتْ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُهَا كَالإِْصْبَعِ الزَّائِدَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ تَقَلَّصَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الْعَضُدِ وَالْتَحَمَ رَأْسُهَا بِالذِّرَاعِ غَسْل مَا حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَالْمُتَجَافِيَ مِنْهُ لِمَحَل الْفَرْضِ مِنْ بَاطِنِهَا، وَغَسَل مَا تَحْتَهُ؛ لأَِنَّهَا كَالنَّاتِئَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، وَالْحَنَفِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
غَسْل الْجِلْدِ الْمُتَدَلِّي مِنَ الذِّرَاعِ:
72 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَقَلَّصَتْ جِلْدَةُ الذِّرَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْهُ. (3)
وَإِنْ تَقَلَّصَتِ الْجِلْدَةُ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْتَحَمَ
__________
(1) الْبِنَايَة 1 / 93، وأسنى الْمَطَالِب 1 / 33، والإنصاف 1 / 158، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 294.
(2) أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 33، مطالب أُولِي النُّهَى 1 / 116، البناية 1 / 93.
(3) أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 33، والإنصاف 1 / 158، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 4، الخرشي 1 / 123.(43/347)
رَأَسُهَا فِي الْعَضُدِ وَجَبَ غَسْل مَا حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ تَجَافَتْ عَنْهُ لَزِمَهُ غَسْل مَا تَحْتَهَا أَيْضًا، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
الْفَرْضُ الثَّالِثُ: مَسْحُ الرَّأْسِ:
73 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ فُرُوضِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ) (2) ، وَلِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةً حَدِيثُ عُثْمَانَ وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) (3) ، وَلإِِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمَسْحُ هُوَ: إِمْرَارُ الْيَدِ الْمُبْتَلَّةِ بِالْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ بِلاَ تَسْيِيلٍ (4) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ:
الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ:
74 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ فِي
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 1 / 12، والبناية 1 / 93، أسنى الْمَطَالِب 1 / 33، ومطالب أُولِي النُّهَى 1 / 116، مغني الْمُحْتَاج 1 / 53.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(3) حَدِيث عُثْمَان وَفِيهِ: " ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 259) ومسلم (1 / 205) .
(4) التَّعْرِيفَات للرجاني، ورد الْمُخْتَار 1 / 67.(43/347)
مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيل:
فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ مَسْحُ جَمِيعِ رَأْسِهِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ شَعْرٍ، وَذَلِكَ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ غَالِبًا مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إِلَى نُقْرَةِ الْقَفَا، مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ مِمَّا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ فِي الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْعَظْمُ النَّاتِئُ فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ، فَلاَ يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ بَل يُغْسَل مَعَ الْوَجْهِ.
وَيَدْخُل فِي الرَّأْسِ الْبَيَاضُ الَّذِي فَوْقَ وَتَدَيِ الأُْذُنَيْنِ.
وَقَال أَشْهَبُ: يَكْفِي مَسْحُ النِّصْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَسْحَ النَّاصِيَةِ مُجْزِئٌ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يُجْزِئُ مَسْحُ الثُّلُثَيْنِ، وَقَال أَبُو الْفَرَجِ: يُجْزِئُ مَسْحُ الثُّلُثِ وَيُدْخِل الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ تَحْتَ الشَّعْرِ فِي رَدِّ الْمَسْحِ حَيْثُ طَال: إِذْ لاَ يَحْصُل التَّعْمِيمُ إِلاَّ بِهَذَا الرَّدِّ. وَيُطَالَبُ بِالسُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ الْقَصِيرُ فَيَحْصُل التَّعْمِيمُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ، فَالرَّدُّ سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى بِكُلٍّ مِنْ أَثَرِ مَسْحِ الرَّأْسِ(43/348)
، وَإِلاَّ سَقَطَتْ سُنَّةُ الرَّدِّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ ظَاهِرِ الرَّأْسِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يُجْزِئُ مَسْحُ أَكْثَرِهِ، وَقَال الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ وَأَبُو الْخَطَّابِ: أَكْثَرُهُ الثُّلُثَانِ فَصَاعِدًا، وَالْيَسِيرُ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ، وَأَطْلَقَ الأَْكْثَرَ فَالأَْكْثَرَ فَشَمِل أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا: يُجْزِئُ مَسْحُ قَدْرِ النَّاصِيَةِ، وَعَنْهُ: يُجْزِئُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.
وَذَكَرَ فِي الاِنْتِصَارِ احْتِمَالاً: يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ فِي التَّجْدِيدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَنْهُ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ لِلْمَرْأَةِ دُونَ غَيْرِهَا. (2)
وَقَالُوا: لَوْ مَسَحَ الْبَشَرَةَ فَقَطْ لَمْ يُجْزِئْ كَمَا لَوْ غَسَل بَاطِنَ اللِّحْيَةِ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْوُضُوءِ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً فَوْقَ الأُْذُنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالرِّوَايَةُ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 88 - 98، والشرح الصَّغِير والصاوي 1 / 109 - 120، مواهب الْجَلِيل 1 / 202.
(2) الإِْنْصَاف 1 / 161 - 162، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 294.
(3) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 259.(43/348)
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهَا مِقْدَارُ ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ، رَوَاهَا هِشَامٌ عَنِ الإِْمَامِ، وَقِيل: هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: أَنَّهَا رِوَايَةُ الأُْصُول، وَصَحَّحَهَا فِي التُّحْفَةِ وَغَيْرِهَا وَفِي الظَّهِيرَيْنِ وَعَلَيْهَا الْفَتْوَى. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ مُسَمَّى مَسْحٍ فَيُجْزِئُ مَسْحٌ لِبَعْضِ بَشَرَةِ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَوْ وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ بِأَنْ لاَ يَخْرُجُ بِالْمَدِّ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ، فَلَوْ خَرَجَ بِالْمَدِّ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ لَمْ يَكْفِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَجَمِّعًا بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ لَخَرَجَ عَنِ الرَّأْسِ وَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، أَوْ قَدْرَ بَعْضِ شَعْرهِ مِنَ الْبَشَرَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَشَرَةِ وَالشَّعْرِ أَصْلٌ فِي الْمَسْحِ؛ وَلِذَا خُيِّرَ بَيْنَهَا عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الرَّأْسِ عُرْفًا؛ لأَِنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا رَأَسَ وَعَلاَ. (2)
كَيْفِيَّةُ مَسْحِ الرَّأْسِ الْوَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ:
: 75 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَعْمَل فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلاَثُ أَصَابِعَ مِنَ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 67، وبدائع الصَّنَائِع 1 / 4، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 5.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 53، وأسنى الْمَطَالِب 1 / 33، نهاية الْمُحْتَاج 1 / 159، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 209.(43/349)
الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إِصْبَعَيْنِ لاَ يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ مَسَحَ بِالسَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ مَفْتُوحَتَيْنِ فَبَعْضُهُمَا مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَفِّ عَلَى رَأْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُمَا إِصْبَعَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَفِّ قَدْرُ إِصْبَعٍ، فَيَصِيرُ ثَلاَثَةَ أَصَابِعَ. وَلَوْ وَضَعَ ثَلاَثَةَ أَصَابِعَ وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى رِوَايَةِ الثَّلاَثِ أَصَابِعَ لاَ الرُّبُعِ، وَلَوْ مَسَحَ بِهَا مَنْصُوبَةً غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ وَلاَ مَمْدُودَةٍ فَلاَ يُجْزِئُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى أَيِّ كَيْفِيَّةٍ فَعَل بِيَدِهِ وَبِحَائِلٍ، قَال فِي الإِْنْصَافِ: الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَسْحَ بِحَائِلٍ يُجْزِئُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْمَسْحُ بِخَشَبَةٍ وَخِرْقَةٍ مَبْلُولَتَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يُمِرَّهَا عَلَيْهَا، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ خِرْقَةً مَبْلُولَةً أَوْ بَلَّهَا وَهِيَ عَلَيْهِ - لَمْ يُجْزِئْ فِي الأَْصَحِّ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَصِحَّ. (2)
مَا نَزَل مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ:
76 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجِبُ مَسْحُ مَا نَزَل عَنِ الرَّأْسِ مِنَ الشَّعْرِ لِعَدَمِ مُشَارَكَتِهِ الرَّأْسَ فِي التَّرَؤُّسِ وَلاَ يُجْزِئُ مَسْحُهُ عَنِ الرَّأْسِ سَوَاءٌ رَدَّهُ فَعَقَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ أَوْ لَمْ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 5، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 1 / 67 - 68.
(2) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 296.(43/349)
يَرُدَّهُ، وَإِنْ نَزَل الشَّعْرُ عَنْ مَنْبَتِهِ وَلَمْ يَنْزِل عَنْ مَحَل الْفَرْضِ فَمَسَحَ عَلَيْهِ - أَجْزَأَهُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي تَحْتَهُ مَحْلُوقًا كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ شَعْرِهِ دُونَ بَعْضِهِ. (1)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَرْخَى مِنَ الشَّعْرِ وَلَوْ طَال جِدًّا؛ لأَِنَّهُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ - فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ - مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ (2) .
غَسْل الرَّأْسِ بَدَل مَسْحِهِ:
77 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ إِنْ غَسَل الْمُتَوَضِّئُ رَأْسًا عِوَضًا عَنْ مَسْحِهِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّهُ مَسْحٌ وَزِيَادَةٌ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ بِأَنْ يُمِرَّ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ عَلَى الرَّأْسِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يُجْزِئُهُ غَسْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ.
كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ غَسْل الرَّأْسِ بَدَلاً مِنْ مَسْحِهِ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الْمَأْمُورِ بِهِ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 53، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 5، وكشاف الْقِنَاع 1 / 99.
(2) الشَّرْح الصَّغِير 1 / 108، والشرح الْكَبِير مَعَ الدُّسُوقِيّ 1 / 88.(43/350)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ غَسْل الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى مَسْحًا، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ أَمَرَّ يَدَهُ. (1)
حَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
78 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ رَأْسِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْوُضُوءِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُعَادُ الْوُضُوءُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ؛ لأَِنَّ الْمَسْحَ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ لَيْسَ بَدَلاً عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْبَشَرَةِ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَسْحِ الْبَشَرَةِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلاً لَمْ يَجُزْ. . . وَلاَ يُعَادُ بَل الْمَحَل بِذَلِكَ.
وَحُكِيَ فِي رَأْيٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ إِعَادَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ بَعْدَ الْحَلْقِ، قَال الدُّسُوقِيُّ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: هُوَ ضَعِيفٌ.
وَحُكِيَ وُجُوبُ الإِْعَادَةِ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، حَيْثُ أَلْحَقَهُ بِخَلْعِ الْخُفِّ بَعْدَ مَسْحِهِ.
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 6، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 89، والشرح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي 1 / 108، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 53، نهاية الْمُحْتَاج 1 / 159، معونة أُولِي النُّهَى 1 / 297، والإنصاف 1 / 159.(43/350)
وَعَنِ ابْنِ رَجَبٍ: اسْتَحَبَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ أَنْ يَمَسَّهُ بِالْمَاءِ وَلَمْ يُوجِبْهُ. (1)
تَكْرَارُ الْمَسْحِ:
79 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ يَكُونُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّهُ بِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غَسْلاً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْمَسْحُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ. . . لأَِنَّ أَكْثَرَ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّ مَسْحَ رَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا قَال أَبُو دَاوُدَ: أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُل عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا وَقَالُوا فِيهَا: " وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ " وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ. . . لاَ يُقَال: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَثَلاَثًا لِيُبَيِّنَ الْفَضِيلَةَ؛ لأَِنَّ قَوْل الرَّاوِي: هَذَا طَهُورُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُل عَلَى أَنَّ طَهُورَهُ عَلَى الدَّوَامِ. (2)
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 69، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 53، وكشاف الْقِنَاع 1 / 100، والشرح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 89.
(2) الاِخْتِيَار 1 / 7، والدر الْمُخْتَار 1 / 67، والتاج وَالإِْكْلِيل 1 / 261، وكشاف الْقِنَاع 1 / 100 - 101، والإنصاف 1 / 163.(43/351)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَثْلِيثُ مَسْحِ الرَّأْسِ. (1)
الشُّعُورُ الْمَضْفُورَةُ:
80 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا ضُفِّرَ مِنَ الشَّعْرِ بِنَفْسِهِ لاَ يُنْقَضُ فِي الْوُضُوءِ مُطْلَقًا. . اشْتَدَّ أَمْ لاَ، وَمَا ضُفِّرَ بِخُيُوطٍ ثَلاَثَةٍ يَجِبُ نَقْضُهُ مُطْلَقًا. . اشْتَدَّ أَمْ لاَ، وَمَا ضُفِّرَ بِأَقَل مِنْهَا يَجِبُ نَقْضُهُ إِنِ اشْتَدَّ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَدَّ فَلاَ يَجِبُ نَقْضُهُ.
وَنَبَّهَ الصَّاوِيُّ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ النِّسَاءَ فِي الْوُضُوءِ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ (2)
الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:
81 - فِي إِجْزَاءِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ - مَعَ مَسْحِ الْفَرْضِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ بَدَلاً عَنْهُ - أَوْ عَدَمِ إِجْزَائِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح ف 8 - 12، عِمَامَة ف13) .
الْفَرْضُ الرَّابِعُ: غَسْل الرِّجْلَيْنِ:
82 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ أَوْ
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 1 / 53.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 88، والشرح الصَّغِير والصاوي 1 / 108 - 109.(43/351)
مَسْحِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ غَسْل الرِّجْلَيْنِ الظَّاهِرَتَيْنِ السَّلِيمَتَيْنِ - غَيْرِ الْمَسْتُورَتَيْنِ بِخُفٍّ أَوْ جَبِيرَةٍ - إِلَى الْكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} " (1) وَلِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا: ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَل الْيُسْرَى مِثْل ذَلِكَ (2) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ غَسَل كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ يَغْسِل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى (4) قَال الْبَيْهَقِيُّ:
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(2) حَدِيث: " غَسْل رِجْلِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثًا. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 259) ومسلم (1 / 204) مِنْ حَدِيثِ عُثْمَان بْن عَفَّان وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(3) حَدِيث: " ثُمَّ غَسَل كُل رَجُل ثَلاَثًا. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 266) مِنْ حَدِيثِ عُثْمَان بْن عَفَّان.
(4) حَدِيث: " ثُمَّ يَغْسِل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 571) مِنْ حَدِيثِ عَمْرو بْن عبسة دون قَوْله: كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (1 / 81) .(43/352)
وَفِي هَذَا دَلاَلَةٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِهِمَا؛ وَلأَِنَّ الرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مَحْدُودَانِ، فَكَانَ وَاجِبُهُمَا الْغَسْل كَالْيَدَيْنِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ، (1) وَأَنَّهُ كَانَ يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، (2) وَهَذَا يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْغَسْل، فَإِنَّ الْمَمْسُوحَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِسْتِيعَابِ وَالدَّلْكِ، (3) وَقَال الْكَاسَانِيُّ: قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَل رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، لاَ يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانَ الْمُرَادِ بِالآْيَةِ (4) .
__________
(1) حَدِيث: " أَمْر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْلِيل الصَّابِع فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 56 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيث لَقِيط بْن صَبْرَة، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدُلُّك بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (1 / 77 دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْن شَدَّاد وَنَقَل الْبَيْه
(3) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا مَعَ فَتْح الْقَدِير 1 / 20، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 67 - 80، والاختيار لِتَعْلِيل الْمُخْتَارِ 1 / 7، والشرح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 89، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 109 - 110، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 53 - 54، 60، وكشاف الْقِنَاع 1 / 101 - 102، والإنصاف 1 / 164 - 165.
(4) بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 6.(43/352)
وَثَبَتَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالإِْجْمَاعِ، قَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَسْل الْقَدَمَيْنِ (1) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: غَسْل الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَرْضُهَا عَنْ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ الْغَسْل دُونَ الْمَسْحِ. (2)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحُ دُونَ الْغَسْل، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ثُمَّ دَخَل الْمَسْجِدَ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ. (4)
وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، (5) فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَال: اغْسِلُوا الأَْقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَال: قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: فَقَرَآ ( {وَأَرْجُلَكُمْ
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَّامَهُ 1 / 132 - 133.
(2) الْحَاوِي للماوردي 1 / 148.
(3) الْمَجْمُوع 1 / 417، وانظر فَتْح الْبَارِي 1 / 266 وانظر نَيْل الأَْوْطَار 1 / 168.
(4) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَّامَهُ 1 / 133.
(5) نَيْل الأَْوْطَار 1 / 168.(43/353)
إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ) (1) فَسَمِعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَقَال: (وَأَرْجُلَكُمْ) هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلاَمِ (2) .
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال " مَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ " (3) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، (4) فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بِالنَّصْبِ، وَقَال: عَادَ الأَْمْرُ إِلَى الْغُسْل. (5)
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْل الْحَجَّاجِ " اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَخَلِّلُوا مَا بَيْنَ الأَْصَابِعِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَبَثِ مِنْ قَدَمَيْهِ " فَقَال أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، وَتَلاَ الآْيَةَ (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قَرَأَهَا جَرًّا (6) .
وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَال: الْوُضُوءُ مَغْسُولاَنِ وَمَمْسُوحَانِ، فَالْمَمْسُوحَانِ يَسْقُطَانِ
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة: 6.
(2) تَفْسِير الطَّبَرَيْ 4 / 467 - 468 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ.
(3) الْمُغْنِي 1 / 133.
(4) نَيْل الأَْوْطَار 1 / 168.
(5) تَفْسِير الطَّبَرَيْ 4 / 468.
(6) الْمُغْنِي 1 / 133، والمجموع 1 / 418.(43/353)
فِي التَّيَمُّمِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلطَّبَرِيِّ (1) . .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحُ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُول بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا، إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَال: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْل. (2)
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا. (3)
الْقَوْل الرَّابِعُ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْل الظَّاهِرِ إِلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ، بِحُجَّةِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هُنَا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إِذْ لاَ تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. (4)
وَيَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِدْخَال الْكَعْبَيْنِ
__________
(1) الْمُحَلَّى لاِبْنِ حَزْم 2 / 56.
(2) الْمُغْنِي 1 / 133.
(3) ابْن عَابِدِينَ 1 / 67، والبدائع 1 / 5، ومواهب الْجَلِيل 1 / 211، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 417 وَمَا بَعْدَهَا، والمغني لاِبْنٍ قُدَّامِهِ 1 / 133، ونيل الأَْوْطَار 1 / 168.
(4) الْبَدَائِع 1 / 5 - 6، والمجموع 1 / 417.(43/354)
فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ زُفَرُ وَالْكَلاَمُ فِي الْكَعْبَيْنِ نَحْوُ الْكَلاَمِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ. (1)
وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَل السَّاقِ (2) (ر: كَعْب ف1 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: الْفَرَائِضُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فِي الْوُضُوءِ:
أ - النِّيَّةُ:
83 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لاَ يَصِحُّ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِهَا.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّة ف 44) .
رَفْضُ نِيَّةِ الْوُضُوءِ:
84 - إِذَا رَفَضَ الْمُتَوَضِّئُ النِّيَّةَ بَعْدَ كَمَال
__________
(1) الْبَدَائِع 1 / 5 - 7، ومواهب الْجَلِيل 1 / 211 - 213، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 421 وَمَا بَعْدَهَا، والمغني لاِبْنٍ قُدَّامِهِ 1 / 135 - 136، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 272.
(2) الْبِنَايَة 1 / 110، ومواهب الْجَلِيل 1 / 212، والحاوي للماوردي 1 / 153، والمغني لاِبْنٍ قُدَّامِهِ 1 / 134 - 135.(43/354)
الْوُضُوءِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ هَذَا الرَّفْضُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَذَلِكَ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَبْطُل، أَمَّا إِذَا رَفَضَهَا أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِفَرْضِيَّتِهَا أَوْ شَرْطِيَّتِهَا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِذَا نَوَى قَطْعَ الْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَبْطُل وَيَسْتَأْنِفُ النِّيَّةَ لِمَا بَقِيَ إِنْ جَوَّزْنَا تَفْرِيقَهَا، وَإِلاَّ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ: يَبْطُل مَا مَضَى مِنَ الطَّهَارَةِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنْ أَرَادَ الإِْتْمَامَ اسْتَأْنَفَ، وَقِيل: لاَ يَبْطُل مَا مَضَى فِيهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ غَسَل الْبَاقِيَ بِنِيَّةٍ أُخْرَى قَبْل طُول الْفَصْل صَحَّتْ طَهَارَتُهُ، وَإِنْ طَال انْبَنَى عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالاَةِ وَعَدَمِهِ.
فَأَمَّا إِنْ غَسَل بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَبَعْضَهَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ ثُمَّ أَعَادَ غَسْل مَا نَوَى بِهِ التَّبَرُّدَ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ قَبْل طُول الْفَصْل أَجْزَأَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ: لاَ يُغْتَفَرُ رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ فَيَبْطُل.
وَقِيل: يُغْتَفَرُ الرَّفْضُ فَلاَ يَبْطُل الْوُضُوءُ، وَمَحَل الْخِلاَفِ عِنْدَهُمْ فِي الرَّفْضِ الْوَاقِعِ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا كَمَّلَهُ بِالْقُرْبِ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى.(43/355)
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُكْمِلْهُ أَوْ كَمَّلَهُ بِنْيَةٍ أُخْرَى أَوْ بَعْدَ طُولٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي بُطْلاَنِهِ. (1)
ب: الْمُوَالاَةُ:
85 - الْمُوَالاَةُ: هِيَ غَسْل الأَْعْضَاءِ عَلَى سَبِيل التَّعَاقُبِ بِحَيْثُ لاَ يَجِفُّ الْعُضْوُ الأَْوَّل قَبْل الشُّرُوعِ فِي الثَّانِي.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ الْجَدِيدِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَال مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالأَْوْزَاعِيُّ.
(ر: مُوَالاَة ف 3)
ج: التَّرْتِيبُ:
86 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 50، كشاف الْقِنَاع 1 / 86، والإنصاف 1 / 151، معونة أُولِي النُّهَى 1 / 283، حاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 95، حاشية الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 95.(43/355)
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْحِ وَالْغَسْل، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ وَهُوَ قَوْل عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ بِالطَّهَارَةِ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَغْسِل الْوَجْهَ ثُمَّ الْيَدَيْنِ، ثُمَّ يَمْسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَغْسِل الرِّجْلَيْنِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ) (1) .
حَيْثُ دَخَل الْمَسْحُ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ وَقُطِعَ حُكْمُ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ إِيجَابَ التَّرْتِيبِ؛ لأَِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مُتَجَانِسَةً وَغَيْرَ مُتَجَانِسَةٍ جَمَعَتِ الْمُتَجَانِسَةَ عَلَى نَسَقٍ، ثُمَّ عَطَفَتْ غَيْرَهَا، وَلاَ يُخَالِفُونَ ذَلِكَ إِلاَّ لِفَائِدَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَمَا قَطَعَ النَّظِيرَ عَنْ نَظِيرِهِ، وَلأَِنَّ الآْيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ الْوُضُوءِ الْوَاجِبِ، لاَ لِلْمَسْنُونِ، حَيْثُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ؛ وَلأَِنَّ كُل مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ مُرَتَّبًا مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الْمَوَاطِنِ الَّتِي حَكَوْهَا وَفِعْلُهُ
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة: 6.(43/356)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانٌ لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الآْيَةِ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَشْتَمِل عَلَى أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَلاَ مِنْ وَاجِبَاتِهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالزَّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ فِي الآْيَةِ بِغَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ وَهِيَ لاَ تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، فَكَيْفَمَا غَسَل الْمُتَوَضِّئُ أَعْضَاءَهُ كَانَ مُمْتَثِلاً لِلأَْمْرِ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ " النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ " (2) ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالْجَنَابَةِ،
__________
(1) الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ 1 / 441 وَمَا بَعْدَهَا، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 54، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 136، والإنصاف 1 / 138، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 272 - 274، ومواهب الْجَلِيل 1 / 250.
(2) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 259) ومسلم (1 / 205) مِنْ حَدِيثِ عُثْمَان بْن عَفَّان.(43/356)
وَكَتَقْدِيمِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَال، وَلأَِنَّهُ لَوِ اغْتَسَل الْمُحْدِثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، فَدَل عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ لاَ يَجِبُ (1) .
(ر: تَرْتِيب ف4) 50.
د - الدَّلْكُ
87 - الدَّلْكُ لُغَةً: مَصْدَرُ " دَلَكَ "، يُقَال: دَلَكْتُ الشَّيْءَ دَلْكًا مِنْ بَابِ " قَتَل ": مَرَسْتَهُ بِيَدِكَ، وَدَلَكْتَ النَّعْل بِالأَْرْضِ: مَسَحْتَهَا بِهَا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ - كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ -: إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ إِمْرَارًا مُتَوَسِّطًا وَلَوْ لَمْ تَزُل الأَْوْسَاخُ وَلَوْ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ قَبْل جَفَافِهِ. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدَّلْكِ فِي الْوُضُوءِ هَل هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُبَالِغُ
__________
(1) رَدَّ الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 83، والشرح الصَّغِير 1 / 120، والمجموع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 441 - 447، ومواهب الْجَلِيل 1 / 250، والمغني 1 / 136 - 137، والإنصاف 1 / 138، ومعونة أُولِي النُّهَى 6 / 272 - 274.
(2) الْمِصْبَاح المنير وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 90 وانظر الْبَحْر الرَّائِق 1 / 30.(43/357)
فِي الْعَقِبِ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ، (1) فَقَدْ وَرَدَ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنَ النَّارِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: هُوَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، قَال الْحَطَّابُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الدَّلْكِ هَل هُوَ وَاجِبٌ أَوْ لاَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْمَشْهُورُ: الْوُجُوبُ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي حُصُول مُسَمَّى الْغَسْل، قَال ابْنُ يُونُسَ: لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَادْلُكِي جَسَدَكِ بِيَدِكِ (3) ، وَالأَْمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلأَِنَّ عِلَّتَهُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى غَسْلاً، وَقَدْ فَرَّقَ أَهْل اللُّغَةِ بَيْنَ الْغَسْل وَالاِنْغِمَاسِ.
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 83، 85، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 62، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 90، والشرح الصَّغِير 1 / 110، وكشاف الْقِنَاع 1 / 153.
(2) حَدِيث. " وَيْل لِلأَْعْقَابِ مِنَ النَّارِ ". أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 143) ومسلم (1 / 214) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو.
(3) حَدِيث عَائِشَة: " ادْلُكِي جَسَدك بِيَدِك ". أَوْرَدَهُ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب الْمَالِكِيُّ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى مَذْهَب أَهْل الْمَدِينَةِ (1 / 27 28 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَيِّ مَصْدَرِ حَدِيثِي، وَلَمْ نَهْت(43/357)
وَالثَّانِي: نَفْيُ وُجُوبِهِ، وَهُوَ لاِبْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بِنَاءً عَلَى صِدْقِ اسْمِ الْغَسْل بِدُونِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لاَ لِنَفْسِهِ بَل لِتَحَقُّقِ إِيصَال الْمَاءِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ إِيصَال الْمَاءِ لِطُول مُكْثٍ أَجْزَأَهُ، وَعَزَاهُ اللَّخْمِيُّ لأَِبِي الْفَرَجِ وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ عَزَاهُ لَهُ. (1)
سُنَنُ الْوُضُوءِ:
أَوَّلاً: التَّسْمِيَةُ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ وَعِنْدَ غَسْل كُل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ:
88 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ) إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَقِيل: إِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَأَنَّهَا تُكْرَهُ.
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 218.(43/358)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. (1)
(ر: بَسْمَلَة ف 6)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَتَحْصُل التَّسْمِيَةُ بِكُل ذِكْرٍ، فَلَوْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّل أَوْ حَمِدَ كَانَ مُقِيمًا لأَِصْل السُّنَّةِ، لَكِنَّ الْوَارِدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَنْقُول عَنِ السَّلَفِ: بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ. وَقِيل: الأَْفْضَل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ التَّعَوُّذِ، وَفِي الْمُجْتَبِي: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، (2) وَقَال الْعَيْنِيُّ: الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَأَكْمَلُهَا كَمَالُهَا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَنِعْمَتِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَل الْمَاءَ طَهُورًا، وَزَادَ الْغَزَالِيُّ: رَبِّي أَعُوذُ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 1 / 122، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 103، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 268 - 269، والإنصاف 1 / 128 - 129، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 57، ورد الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 86.
(2) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 74 - 75.
(3) حَدِيث: " الْقَوْل فِي التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْد لِلَّهِ " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِيرِ (1 / 131 132 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وقال ابْن حَجَرٍ فِي لِسَان الْمِيزَان (1 / 98 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُنْكِر.(43/358)
بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ، وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمُ التَّعَوُّذَ قَبْلَهَا.
وَالْمُرَادُ بِأَوَّل الْوُضُوءِ: أَوَّل غَسْل الْكَفَّيْنِ، فَيَنْوِي الْوُضُوءَ وَيُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَهُ بِأَنْ يُقْرِنَ النِّيَّةَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أَوَّل غَسْلِهِمَا، ثُمَّ يَتَلَفَّظُ النِّيَّةَ، ثُمَّ يُكْمِل غَسْلَهُمَا؛ لأَِنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ سُنَّةٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى الْمَشْهُورِ -: يَقُول الْمُتَوَضِّئُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ وُضُوئِهِ أَيْ عِنْدَ غَسْل يَدَيْهِ إِلَى كُوعَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي زِيَادَةٍ: - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - قَوْلاَنِ رُجِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَابْنُ نَاجِي رَجَّحَ الْقَوْل بِعَدَمِ زِيَادَتِهِمَا، وَالْفَاكِهَانِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ رَجَّحَا الْقَوْل بِزِيَادَتِهِمَا. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ، لاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَلَوْ قَال: بِسْمِ الرَّحْمَنِ أَوِ الْقُدُّوسِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الأَْشْهَرِ، وَقَال الْمُرْدَاوِيُّ: الأُْولَى الإِْجْزَاءُ، وَمَحَل التَّسْمِيَةِ اللِّسَانُ؛ لأَِنَّهَا ذِكْرٌ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ أَوَّل الْوَاجِبَاتِ وُجُوبًا وَأَوَّل
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 57.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 103، والشرح الصَّغِير والصاوي 1 / 122.(43/359)
الْمَسْنُونَاتِ اسْتِحْبَابًا (1) .
ب - التَّسْمِيَةُ عِنْدَ غَسْل كُل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ:
89 - نَصَّ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ غَسْل كُل عُضْوٍ فِي الْوُضُوءِ أَوْ عِنْدَ مَسْحِ مَا يُمْسَحُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَالتَّسْمِيَةُ تَكُونُ بِالصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الإِْسْلاَمِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ التَّشَهُّدَ هُنَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ (2) : قَال فِي الْحِلْيَةِ: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُول حِينَ يَتَوَضَّأُ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُول بِكُل عُضْوٍ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَقُول حِينَ يَفْرَغُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، فَإِنْ قَامَ مِنْ وَقْتِ ذَلِكَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا وَيَعْلَمُ مَا يَقُول، انْفَتَل مِنْ صِلاَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ثُمَّ يُقَال لَهُ: اسْتَأْنِفِ الْعَمَل (3) .
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 91 - 92، والإنصاف 1 / 128 - 129.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 86.
(3) حَدِيث الْبَرَاء: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُول حِينَ يَتَوَضَّأُ. . " قَال الْعَيْنِيّ فِي الْبِنَايَةِ (1 / 191 ط دَار الْفِكْرِ) : رَوَاهُ الْمُسْتَغْفَرِي، وَإِسْنَاده وَاهٍ.(43/359)
وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ كُل عُضْوٍ. (1)
ثَانِيًا: غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ:
90 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ غَسْل الْيَدَيْنِ الطَّاهِرَتَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ؛ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: " دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَل يَمِينَهُ فِي الإِْنَاءِ (2) .
وَإِنْ كَانَتَا نَجِسَتَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا اتِّفَاقًا.
(ر: رُسْغ ف 2، كَفّ ف 3، نَوْم، يَد) .
ثَالِثًا: الْمَضْمَضَةُ:
91 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَضْمَضَةُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبَةٌ.
__________
(1) الْفُرُوع 1 / 152، وكشاف الْقِنَاع 1 / 104، ومطالب أُولِي النُّهَى 1 / 121 - 122.
(2) حَدِيث: " عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَة وَضَوْء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 205) .(43/360)
وَانْظُرْ تَفْصِيل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ وَأَدِلَّةِ كُل رَأْيٍ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَالْمُبَالَغَةِ فِيهَا، وَحُكْمِهَا لِلصَّائِمِ فِي مُصْطَلَحِ (مَضْمَضَة ف 2 - 8) .
رَابِعًا - الاِسْتِنْشَاقُ:
92 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الاِسْتِنْشَاقَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِنْشَاقَ فِي الْوُضُوءِ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الاِسْتِنْشَاقِ وَأَدِلَّةَ كُل رَأْيٍ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَضْمَضَة ف 3 - 8، اسْتِنْشَاق ف 2) .
خَامِسًا - الاِسْتِنْثَارُ:
93 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِنْثَارَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ؛ لِحَدِيثِ إِذَا اسْتَنْشَقْتَ فَانْتَثِرْ (1) وَبِمَا وَرَدَ
__________
(1) حَدِيث: " إِذَا اسْتَنْشَقْتَ فَانْتَثِرْ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 40 ط الْحَلَبِيّ) ، والطبراني فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ (7 / 42 ط الْعِرَاق) مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن قَيْس، وَاللَّفْظ للطبراني، وقال التِّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(43/360)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ (1) .
وَالاِسْتِنْثَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: طَرْحُ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ مِنَ الأَْنْفِ بِالنَّفَسِ وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالإِْبْهَامَ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَيْهِ عِنْدَ نَثْرِهِ، مُمْسِكًا لَهُ مِنْ أَعْلاَهُ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ، فَإِنْ لَمْ يَضَعْ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ وَلاَ أَنْزَل الْمَاءَ مِنَ الأَْنْفِ بِالنَّفَسِ - وَإِنَّمَا نَزَل الْمَاءُ بِنَفْسِهِ - فَلاَ يُسَمَّى هَذَا اسْتِنْثَارًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَ الإِْصْبَعَيْنِ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ، وَقِيل: إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَكَوْنُ الإِْصْبَعَيْنِ مِنَ الْيَدِ الْيُسْرَى مُسْتَحَبٌّ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الإِْصْبَعَيْنِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ.
وَالاِسْتِنْثَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُخْرِجَ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الاِسْتِنْشَاقِ مَا فِي أَنْفِهِ مِنْ مَاءٍ وَأَذًى بِخِنْصَرِ يَدِهِ الْيُسْرَى.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ اسْتِنْثَارُهُ بِيَسَارِهِ. (2)
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 297) ومسلم (1 / 210، 211) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن زَيْد.
(2) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح ص 39 ورد الْمُحْتَار 1 / 85، والشرح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 97 - 98، والشرح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي 1 / 120، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 58 وكشاف الْقِنَاع 1 / 94.(43/361)
سَادِسًا: مَسْحُ كُل الرَّأْسِ:
94 - سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ مَسْحَ كُل الرَّأْسِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ (1) .
وَقَالُوا إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، (2) فَيَكُونُ مَسْحُ الرُّبُعِ فَرْضًا وَيَكُونُ مَسْحُ الْجَمِيعِ سُنَّةً.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ اسْتِيعَابِ كُل الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ بِلاَ عُذْرٍ يَأْثَمُ، وَقَالُوا: وَكَأَنَّهُ لِظُهُورِ رَغْبَتِهِ عَنِ السُّنَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِلْمُتَوَضِّئِ مَسْحُ كُل الرَّأْسِ لِلاِتِّبَاعِ، وَخُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ. (3)
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلّه ". أَخْرَجَهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ (1 / 81 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن زَيْد.
(2) حَدِيث: " أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1 / 230) مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
(3) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 82، والهداية وَشُرُوحهَا 1 / 22 - 23، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 59، وروضة الطَّالِبِينَ 1 / 60.(43/361)
مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِمَسْحِ الرَّأْسِ:
أ - تَكْرَارُ الْمَسْحِ
95 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ مَسْحُ كُل الرَّأْسِ مَرَّةً بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي يُرْوَى مِنَ التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسْحِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا مَسَحَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ثَلاَثًا كَانَ مَسْنُونًا.
أَمَّا لَوْ مَسَحَ ثَلاَثًا فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: قِيل يُكْرَهُ، وَقِيل: بِدْعَةٌ، وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يَكُونُ سُنَّةً وَلاَ أَدَبًا، قَال فِي الْبَحْرِ: وَهُوَ الأَْوْلَى، إِذْ لاَ دَلِيل عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنِ اسْتَوْجَهَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ، وَذَكَرْتُ مَا يُؤَيِّدُهُ فِيمَا عَلَّقْتُهُ عَلَى الْبَحْرِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَيُسَنُّ مَسْحُ كُل الرَّأْسِ ثَلاَثًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ تَثْلِيثُ مَغْسُولٍ وَمَمْسُوحٍ، وَلَوْ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ ثَلاَثًا حَصَل لَهُ التَّثْلِيثُ. (2)
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 82، والهداية وَشُرُوحهَا 1 / 22 - 23.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 59، وروضة الطَّالِبِينَ 1 / 60.(43/362)
ب - كَيْفِيَّةُ مَسْحِ الرَّأْسِ الْمَسْنُونِ:
96 - الأَْظْهَرُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسْحِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيَمُدَّهُمَا إِلَى الْقَفَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَالأُْذُنَانِ عِنْدَهُمْ مِنَ الرَّأْسِ، فَلاَ يَثْبُتُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ قَبْل الاِنْفِصَال.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السُّنَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيُلْصِقَ سَبَّابَتَهُ بِالأُْخْرَى، وَإِبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ، ثُمَّ يَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ إِذَا كَانَ لَهُ شَعْرٌ يَنْقَلِبُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الذَّهَابُ وَالرَّدُّ مَسْحَةً وَاحِدَةً؛ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمَسْحَةِ بِالذَّهَابِ.
وَأَمَّا مَنْ لاَ شَعْرَ لَهُ أَوْ لَهُ شَعْرٌ لاَ يَنْقَلِبُ لِقِصَرِهِ أَوْ طُولِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الذَّهَابِ، فَلَوْ رَدَّ لَمْ يُحْسَبْ ثَانِيَةً. وَقَالُوا فِيمَا إِذَا مَسَحَ كُل رَأْسِهِ فَهَل يَقَعُ كُلُّهُ فَرْضًا أَوْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ يَكُونُ فَرْضًا وَالْبَاقِي سُنَّةٌ؟ وَجْهَانِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 82، والهداية وَشَرْحهَا 1 / 22 - 23، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 59، وروضة الطَّالِبِينَ 1 / 60.(43/362)
الرَّأْسِ لِمَا رَوَى أَبُو حَيَّةَ قَال: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَل كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلاَثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثًا، وَغَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَال أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طَهُورُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ. . . " - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - كُلَّهُ ثَلاَثًا. . وَقَال: مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَاحِدَةً. (2)
وَعَنْ أَحْمَدَ: يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ. نَصَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَذَا أُذُنَيْهِ وِفَاقًا. (3)
وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ السُّنَنِ كَذَلِكَ رَدَّ الْمُتَوَضِّئِ مَسْحَ رَأْسِهِ أَيْ إِلَى حَيْثُ بَدَأَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَعْرٌ بِأَنْ يَعُمَّهُ بِالْمَسْحِ ثَانِيًا بَعْدَ أَنْ عَمَّهُ أَوَّلاً، وَلاَ يَحْصُل التَّعْمِيمُ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ طَوِيلاً إِلاَّ بِالرَّدِّ الأَْوَّل، ثُمَّ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ يُعِيدَ
__________
(1) حَدِيث أَبِي حَيَّة: " رَأَيْت عُلْيَا تَوَضَّأَ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 67 68 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال حَدِيث حَسَن صَحِيح.
(2) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 92 93 ط حِمْص) .
(3) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 297 - 298.(43/363)
الْمَسْحَ وَالرَّدَّ، كَذَا قِيل، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَظْهَرُوا مَا لِلزُّرْقَانِيِّ - الْمُرَادُ بِهِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ فَجْلَهْ - مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْمُسْتَرْخِي؛ لأَِنَّ لَهُ حُكْمَ الْبَاطِنِ وَالْمَسْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَحَاصِل كَلاَمِهِمْ أَنَّ الشَّعْرَ الطَّوِيل إِنَّمَا يُمْسَحُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ، مَرَّةً لِلْفَرْضِ وَمَرَّةً لِلسُّنَّةِ، وَأَنَّ إِدْخَال الْيَدِ تَحْتَهُ فِي رَدِّ الْمَسْحِ هُوَ السُّنَّةُ.
وَمَحَل كَوْنِ الرَّدِّ سُنَّةً: إِنْ بَقِيَ بِيَدِهِ بَلَلٌ مِنَ الْمَسْحِ الْوَاجِبِ وَإِلاَّ لَمْ يُسَنَّ، وَيُكْرَهُ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِلرَّدِّ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَسِيَهُ حَتَّى أَخَذَ الْمَاءَ لِرِجْلَيْهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ فَضِيلَةً، فَإِنْ بَقِيَ مَا يَكْفِي بَعْضَ الرَّدِّ فَالظَّاهِرُ أَنْ يُسَنَّ بِقَدْرِ الْبَلَل فَقَطْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) وَمُقَابِل الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَسْقُطُ. (2)
ج - صِفَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ:
97 - وَقَالُوا فِي صِفَةِ الْمَسْحِ: يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيُفْرِغُهُ عَلَى بَاطِنِ يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ
__________
(1) حَدِيث: " إِذَا أَمَرَتْكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فَقُرَّة (65) .
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 88، 98، 99، والشرح الصغير وحاشية الصَّاوِي 1 / 108، والقوانين الْفِقْهِيَّة ص 27.(43/363)
يَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ، يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِهِ مِنْ أَوَّل مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَقَدْ قَرَنَ أَطْرَافَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَجَعَل إِبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِيَدَيْهِ مَاسِحًا إِلَى طَرَفِ شَعْرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا حَيْثُ بَدَأَ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الصِّفَةُ الْمَسْنُونَةَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يُمِرُّ يَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَل بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ (2) . ثُمَّ يُدْخِل سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ وَيَمْسَحُ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ ذَا شَعْرٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَفِشَ بِرَدِّ يَدَيْهِ لَمْ يَرُدَّهُمَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عِنْدَهَا فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ قَرْنِ الشَّعْرِ، كُل نَاحِيَةٍ لِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ لاَ يُحَرَّكُ الشَّعْرُ عَنْ هَيْئَتِهِ (3) .
__________
(1) الْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 / 164.
(2) حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسه بِيَدَيْهِ. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 289) ومسلم (1 / 211) .
(3) حَدِيث الرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذٍ: " أَنَّ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عِنْدَهَا. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 91 ط حِمْص) والترمذي (1 / 49 - ط الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لأَِبِي دَاوُد، وَقَال التِّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(43/364)
وَسُئِل أَحْمَدُ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ؟ قَال: هَكَذَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ ثُمَّ جَرَّهَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ مِنْهُ بَدَأَ، ثُمَّ جَرَّهَا إِلَى مُؤَخَّرِهِ. (1)
سَابِعًا - مَسْحُ الأُْذُنَيْنِ:
98 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسْحِ الأُْذُنَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ مَسْحَ الأُْذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ فِي وُضُوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَأَدْخَل إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخِ أُذُنَيْهِ (2) .
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ ظَاهِرَ الأُْذُنَيْنِ هُوَ مَا يَلِي الرَّأْسَ، وَبَاطِنَهَا هُوَ مَا كَانَ مُوَاجِهًا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهَا خُلِقَتْ كَالْوَرْدَةِ.
__________
(1) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 295 - 296.
(2) حَدِيث: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ فِي وُضُوئِهِ بِرَأْسِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 88، 89 ط حِمْص) ، مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْن مُعِدِّي كَرَبٍّ، وحسن إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 281 ط الْعِلْمِيَّة) .(43/364)
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ظَاهِرَ الأُْذُنَيْنِ هُوَ مَا كَانَ مُوَاجِهًا وَبَاطِنَهُمَا هُوَ مَا يَلِي الرَّأْسَ (1) .
تَجْدِيدُ مَاءٍ لِمَسْحِ الأُْذُنَيْنِ، وَكَيْفِيَّةُ مَسْحِهِمَا:
99 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَجْدِيدِ مَاءِ مَسْحِ الأُْذُنَيْنِ
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ يُسَنُّ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لَهُمَا. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: السُّنَنُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأُْذُنَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ثَلاَثٌ: مَسْحُ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ، وَتَجْدِيدُ الْمَاءِ لَهُمَا، فَلَوْ مَسَحَهُمَا بِلاَ تَجْدِيدِ مَاءٍ كَانَ آتِيًا بِسُنَّةِ الْمَسْحِ فَقَطْ وَتَارِكًا لِسُنَّةِ تَجْدِيدِ الْمَاءِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ سُنَّةُ مَسْحِ الصِّمَاخَيْنِ؛ إِذْ هُوَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَمَا نَقَل الْمَوَّاقُ عَنِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ يُونُسَ.
وَالصِّمَاخُ: هُوَ الثُّقْبُ الَّذِي تَدْخُل فِيهِ رَأَسُ
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 82 - 85، والشرح الْكَبِير 1 / 98، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 243، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 60، وكشاف الْقِنَاع 1 / 100، والإنصاف 1 / 162، ومواهب الْجَلِيل 1 / 248.(43/365)
الإِْصْبَعِ مِنَ الأُْذُنِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ مَسْحُ الأُْذُنَيْنِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ، وَيَأْخُذُ لِصِمَاخَيْهِ مَاءً جَدِيدًا، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحْصِيل السُّنَّةِ تَرْتِيبُ الأُْذُنِ عَلَى الرَّأْسِ - قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا هُوَ الأَْصَحُّ فِي الرَّوْضَةِ - وَلَوْ أَخَذَ بِأَصَابِعِهِ مَاءً لِرَأْسِهِ ثُمَّ أَمْسَكَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ وَلَمْ يَمْسَحِ الرَّأْسَ بِهَا بَعْدَ الأُْذُنَيْنِ كَفَى؛ لأَِنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، قَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ (3) .
وَيُسَنُّ مَسْحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ بَعْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ، فَأَخَذَ لأُِذُنَيْهِ مَاءً خِلاَفَ الْمَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ (4) ، وَالْبَيَاضُ فَوْقَ الأُْذُنَيْنِ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ الدُّسُوقِيّ 1 / 98، والشرح الصَّغِير 1 / 120، ومواهب الْجَلِيل 1 / 248.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 60، وتحفة الْمُحْتَاج 1 / 243.
(3) حَدِيث: " الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 93 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وحسنه الزيلعي فِي نَصْبِ الرَّايَةِ (1 / 18 ط الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ) .
(4) حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد: " أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ. . . " أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ (1 / 151 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، ونقل ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 282 ط الْعِلْمِيَّة) عَنِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَة أَصْوَب مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْر الأُْذُنَيْنِ.(43/365)
دُونَ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَيَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ الرَّأْسِ، وَكَيْفَ مَسَحَ الأُْذُنَيْنِ أَجْزَأَ كَالرَّأْسِ.
وَالْمَسْنُونُ فِي مَسْحِهِمَا أَنْ يُدْخِل سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِمَا، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ: دَاخَلَهُمَا بِالسَّبَّابَتَيْنِ وَخَالَفَ بِإِبْهَامَيْهِ إِلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ (1) وَلاَ يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنَ الأُْذُنَيْنِ بِالْغَضَارِيفِ؛ لأَِنَّ الرَّأْسَ الَّذِي هُوَ الأَْصْل لاَ يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنْهُ بِالشَّعْرِ، فَالأُْذُنُ أَوْلَى (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَالأُْذُنَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ.
__________
(1) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَّة (1 / 151 ط الْحَلَبِيّ) وابْن حِبَّانَ (الإِْحْسَان 3 / 367 ط الرِّسَالَة) وَاللَّفْظ لاِبْن حِبَّانَ، وجود إِسْنَاده النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوعِ (1 / 415 ط المنيرية) .
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 100، والإنصاف 1 / 162 - 163، ومعونة أُولِي النُّهَى 1 / 296.(43/366)
وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَضَعُ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيَمُدُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً بِهَذَا؛ لأَِنَّ الاِسْتِيعَابَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
فَلَوْ مَسَحَ الْمُتَوَضِّئُ أُذُنَيْهِ بِالْبَلَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ كَفَى وَكَانَ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَلَكِنَّ مَسْحَهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ أَوْلَى؛ مُرَاعَاةً لِلْخِلاَفِ لِيَكُونَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ اتِّفَاقًا.
وَقَالُوا يُنْدَبُ إِدْخَال خِنْصَرِهِ الْمَبْلُولَةِ فِي صِمَاخِ أُذُنَيْهِ عِنْدَ مَسْحِهِمَا. (1)
ثَامِنًا - تَخْلِيل اللِّحْيَةِ وَشُعُورِ الْوَجْهِ:
100 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ وَسَائِرِ شُعُورِ الْوَجْهِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ بَيَانُهُ (ف5) فِي غَسْل الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَخْلِيل ف 6 - 8) .
تَاسِعًا - تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:
101 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 8، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 82 - 85، وتبيين الْحَقَائِق 1 / 5 - 6.(43/366)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِصْبَع ف 2 - 3، وَتَخْلِيل 2 - 5) .
عَاشِرًا - التَّثْلِيثُ:
102 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَثْلِيثَ غَسْل الأَْعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ (1) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَال: هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَل اللَّهُ تَعَالَى الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَال: هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الأَْجْرَ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا وَقَال: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي (2) ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَثْلِيث ف2)
الْحَادِي عَشَرَ - الاِسْتِيَاكُ:
103 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْلاَ أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُل وُضُوءٍ) (3) . وَقَال الْحَصْكَفِيُّ:
__________
(1) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 1 / 20، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 101، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 60، وكشاف الْقِنَاع 1 / 102.
(2) حَدِيث: " تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّة. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف5.
(3) حَدِيث: " لَوْلاَ أَنَّ أَشَقَّ عَلَى أُمَّتِي. . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (2 / 460 ط الميمنية) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وصححه ابْن خُزَيْمَة (1 / 73 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ) .(43/367)
السِّوَاكُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. . . وَهُوَ لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ السِّوَاكَ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ مُقْتَضَى الأَْحَادِيثِ مِنْ مُلاَزَمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لِمَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَوْلُهُ: " لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ. . . . . " أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، وَهُوَ وَجِيهٌ، لَكِنَّهُ خِلاَفُ الْمَشْهُورِ، قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ (1) .
وَفِي تَعْرِيفِ الاِسْتِيَاكِ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَحُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ، وَالاِسْتِيَاكِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِلصَّائِمِ، وَمَا يُسْتَاكُ بِهِ، وَمَا يُحْظَرُ أَوْ يُكْرَهُ، وَصِفَاتِ السِّوَاكِ، وَالسِّوَاكِ بِغَيْرِ عُودٍ أَوْ بِالإِْصْبَعِ، وَكَيْفِيَّةِ الاِسْتِيَاكِ، وَآدَابِهِ، وَتَكْرَارِهِ، وَأَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، وَإِدْمَاءِ السِّوَاكِ لِلْفَمِ، وَ. . . . . . فِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيَاك) .
الثَّانِي عَشَرَ - الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:
104 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَانْظُرْ تَفْصِيل آرَائِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح ف 8 - 12، عِمَامَة ف13) .
__________
(1) الْهِدَايَة وَشَرْحهَا 1 / 15 - 16، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 77، والشرح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 102، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 55، وكشاف الْقِنَاع 1 / 73.(43/367)
الثَّالِثَ عَشَرَ - عَدَمُ الإِْسْرَافِ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
105 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ الإِْسْرَافِ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ فِي حَالَتَيْنِ:
أ - الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ.
ب - حَالَةُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِكَثْرَةٍ فِي الْوُضُوءِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَالَتَيْنِ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْرَاف ف 6 - 7) .
الرَّابِعَ عَشَرَ - التَّيَامُنُ:
106 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّيَامُنِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّيَامُنَ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ. (1)
__________
(1) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا مَعَ فَتْح الْقَدِير 1 / 23، والاختيار 1 / 9، والبحر الرَّائِق 1 / 28، وتبيين الْحَقَائِق 1 / 6، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 84، والفتاوى الْهِنْدِيَّة 1 / 8، والشرح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 101، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 123، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 60 - 62، والإنصاف 1 / 135، والمغني 1 / 109، والفروع 1 / 151، وكشاف الْقِنَاع 1 / 106 - 107.(43/368)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ: وَفِي طَهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ (1) .
وَحَكَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبَدَأَ بِالْيُمْنَى قَبْل الْيُسْرَى (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ التَّيَامُنَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ (3) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ التَّيَامُنَ سُنَّةٌ؛ لِثُبُوتِ مُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحُوا بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ؛ لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْكُونَ وُضُوءَهُ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّن فِي شَأْنِهِ كُلّه. . " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 523) ومسلم (1 / 266) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) حَدِيث عُثْمَان: " فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبَدَأَ بِالْيُمْنَى قَبْل الْيُسْرَى ": تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة 49، وَحَدِيث عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 141 ط حِمْص) .
(3) حَدِيث: " إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فابدؤوا بِمُيَامِنِكُمْ " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 141 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ونقل ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 279 ط الْعِلْمِيَّة) عَنِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ قَال: هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَحِّحَ.(43/368)
فَيَكُونُ سُنَّةً؛ وَلِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ التَّيَامُنَ وَاجِبٌ، حَكَاهَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَشَذَّذَهُ الزَّرْكَشِيُّ.
وَقِيل يُكْرَهُ تَرْكُهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِيَسَارِهِ قَبْل يَمِينِهِ (1) .
الْخَامِسَ عَشَرَ - إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيل:
107 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيل:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيل، بِأَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُتَوَضِّئُ مَوْضِعَ الْفَرْضِ فِي غَسْل الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ.
وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ تَكُونُ بِغَسْلٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَغَايَتُهَا غَسْل صَفْحَةِ الْعُنُقِ مَعَ مُقَدِّمَاتِ الرَّأْسِ.
وَإِطَالَةُ التَّحْجِيل بِغَسْلٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَاجِبِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 60، رد الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 84، والإنصاف 1 / 135، والمغني 1 / 109، وكشاف الْقِنَاع 1 / 106.(43/369)
مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَغَايَتُهَا اسْتِيعَابُ الْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ بَقَاءِ مَحَل الْفَرْضِ وَسُقُوطِهِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ خَبَرُ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل (1) .
وَمَعْنَى " غُرًّا مُحَجَّلِينَ ": بِيضُ الْوُجُوهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، كَالْفَرَسِ الأَْغَرِّ وَهُوَ الَّذِي فِي وَجْهِهِ بَيَاضٌ، وَالْمُحَجَّل وَهُوَ الَّذِي قَوَائِمُهُ بِيضٌ، قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُْمَّةِ. (2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ تُنْدَبُ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي غَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَحَل الْفَرْضِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَل يُكْرَهُ لأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ دَوَامُ الطَّهَارَةِ وَالتَّجْدِيدِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ كَمَا حُمِل عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ أُمَّتِي يَدْعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَرَّا مُحَجَّلِينَ " أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 235) ، ومسلم (1 / 216) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) فَتْح الْقَدِير 1 / 24، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 61، وكشاف الْقِنَاع 1 / 106، 109، والدر الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 88، والإنصاف 1 / 168.(43/369)
يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل، فَقَدْ حَمَلُوا الإِْطَالَةَ عَلَى الدَّوَامِ، وَالْغُرَّةَ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَقَال: وَالْحَاصِل أَنَّ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ تُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَغْسُول، وَتُطْلَقُ عَلَى إِدَامَةِ الْوُضُوءِ، وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل هُوَ الْمَكْرُوهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مَطْلُوبٌ عِنْدَهُ، وَحِينَئِذٍ لاَ يَكُونُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مُعَارِضًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ. (1)
(ر: غُرَّة ف 5) .
السَّادِسَ عَشَرَ - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
108 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ آدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يُمْكِنَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ لِكُل طَاعَةٍ إِلاَّ لِدَلِيلٍ، كَمَا نَقَل الْمُرْدَاوِيُّ عَنِ الْفُرُوعِ (2) .
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 103 - 104، والإنصاف 1 / 168.
(2) فَتْح الْقَدِير 1 / 24، والدر الْمُخْتَار 1 / 84، والدسوقي 1 / 103، والشرح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 122، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 62، وكشاف الْقِنَاع 1 / 105، والإنصاف 1 / 138.(43/370)
السَّابِعَ عَشَرَ - الْجُلُوسُ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ:
109 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ الْجُلُوسَ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، تَحَرُّزًا عَنِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل فِي الْوُضُوءِ؛ لِوُقُوعِ الْخِلاَفِ فِي نَجَاسَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، زَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُلُوسَ مَعَ التَّمَكُّنِ.
وَعَبَّرَ الْكَمَال بِحِفْظِ ثِيَابِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَقَاطِرِ. قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ أَشْمَل؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا وَلاَ يَتَحَفَّظُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَتَوَقَّى الْمُتَوَضِّئُ الرَّشَاشَ الْمُتَطَايِرَ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ. (1)
الثَّامِنَ عَشَرَ ـ التَّوَضُّؤُ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ:
110 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ التَّوَضُّؤَ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ؛ لأَِنَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ حُرْمَةً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ بِالْفِعْل، وَشَأْنُ الْمَكَانِ الطَّهَارَةُ لِيَخْرُجَ بَيْتُ الْخَلاَءِ قَبْل الاِسْتِعْمَال، فَيُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِيهِ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِالْفِعْل لَكِنْ لَيْسَ شَأْنُهُ الطَّهَارَةَ، وَأَوْلَى
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 86، وفتح الْقَدِير 1 / 36، وحاشية الدُّسُوقِيّ 1 / 103، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 62.(43/370)
غَيْرُهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَجِّسَةِ بِالْفِعْل. (1)
التَّاسِعَ عَشَرَ ـ تَرْكُ الاِسْتِعَانَةِ:
111 ـ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ عَدَمَ الاِسْتِعَانَةِ، وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَنْ يَتَوَلَّى الشَّخْصُ وُضُوءَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَكِل طَهُورَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَلاَ صَدَقَتَهُ الَّتِي يَتَصَدَّقُ بِهَا إِلَى أَحَدٍ، يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ (2) ، وَتُبَاحُ مُعَاوَنَةُ الْمُتَوَضِّئِ كَتَقْرِيبِ مَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ صَبِّهِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: " أَفْرَغَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَضُوئِهِ (3) . وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: " صَبَبْتُ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 85، وَالشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 100.
(2) حَدِيث: " كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَكِل طَهُوره إِلَى أَحَد. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 129 ط الْحَلَبِيّ) ، وَضَعَّفَهُ الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 104 ط دَار الْجِنَان) لِجَهَالَة أَحَد رُوَاته وَضِعْف آخَر.
(3) حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " أَنَّهُ أَفْرَغَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُضُوئِهِ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1 / 229) .(43/371)
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي الْوُضُوءِ (1) . وَتَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ أَفْضَل.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ تَرْكُ الاِسْتِعَانَةِ بِالصَّبِّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأَِنَّهُ الأَْكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَِنَّ الاِسْتِعَانَةَ نَوْعٌ مِنَ التَّنَعُّمِ وَالتَّكَبُّرِ، وَذَلِكَ لاَ يَلِيقُ بِالْمُتَعَبِّدِ، وَالأَْجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَهِيَ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَقِيل: تُكْرَهُ، وَالاِسْتِعَانَةُ بِغَسْل الأَْعْضَاءِ لاَ بِالصَّبِّ مَكْرُوهَةٌ، أَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِإِحْضَارِ الْمَاءِ فَهِيَ لاَ بَأْسَ بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ فَلاَ تَكُونُ الاِسْتِعَانَةُ خِلاَفَ الأَْوْلَى وَلاَ مَكْرُوهَةً دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، بَل قَدْ تَجِبُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّطَهُّرُ إِلاَّ بِهَا وَلَوْ بِبَذْل أُجْرَةٍ مَثَلاً.
وَالْمُرَادُ بِتَرْكِ الاِسْتِعَانَةِ الاِسْتِقْلاَل بِالأَْفْعَال لاَ طَلَبُ الإِْعَانَةِ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ أَعَانَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا اسْتَعَانَ بِالصَّبِّ فَلْيَقِفِ الْمُعِينُ عَلَى يَسَارِ الْمُتَوَضِّئِ لأَِنَّهُ أَعْوَنُ وَأَمْكَنُ وَأَحْسَنُ أَدَبًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ عَدَمُ
__________
(1) حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال: " صَبَبْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 138 ط الْحَلَبِيّ) ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 294 ط الْعِلْمِيَّة) .(43/371)
اسْتِعَانَةِ الْمُتَوَضِّئِ بِغَيْرِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَأَمَّا اسْتِعَانَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَتْ لِتَعْلِيمِ الْجَوَازِ.
وَقَال ابْنُ مَوْدُودٍ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وُضُوئِهِ بِغَيْرِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ؛ لِيَكُونَ أَعْظَمَ لِثَوَابِهِ وَأَخْلَصَ لِعِبَادَتِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُ مَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ أَصْلاً إِذَا كَانَتْ بِطِيبِ قَلْبٍ وَمَحَبَّةٍ مِنَ الْمُعِينِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ مِنَ الْمُتَوَضِّئِ.
وَقَال: حَاصِلُهُ: أَنَّ الاِسْتِعَانَةَ فِي الْوُضُوءِ إِنْ كَانَتْ بِصَبِّ الْمَاءِ أَوِ اسْتِقَائِهِ أَوْ إِحْضَارِهِ فَلاَ كَرَاهَةَ بِهَا أَصْلاً وَلَوْ كَانَتْ بِطَلَبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْغَسْل وَالْمَسْحِ فَتُكْرَهُ بِلاَ عُذْرٍ. (1)
الْعِشْرُونَ ـ مَسْحُ الرَّقَبَةِ:
112 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ مَسْحُ الْمُتَوَضِّئِ رَقَبَتَهُ بِظَهْرِ يَدَيْهِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَال بِلَّتِهِمَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيل: إِنَّهُ سَنَّةٌ.
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 1 / 24، وَالاِخْتِيَار 1 / 9، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 86، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 61، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 106.(43/372)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ: لاَ يُسَنُّ مَسْحُ الرَّقَبَةِ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ حُكِيَ بِلَفْظِ " قِيل " وَالنَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّقَبَةِ بِدْعَةٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُنْدَبُ مَسْحُ الرَّقَبَةِ بِالْمَاءِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَل يُكْرَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ (1) .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ ـ تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ:
113 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ فِي الْوُضُوءِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ تَحْرِيكُ الْمُتَوَضِّئِ خَاتَمَهُ الْوَاسِعَ ـ وَمِثْلُهُ الْقُرْطُ ـ وَكَذَا الضَّيِّقُ إِنْ عَلِمَ وُصُول الْمَاءِ، وَإِلاَّ فُرِضَ.
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ تَوَضَّأَ وَكَانَ خَاتَمُهُ ضَيِّقًا فَلاَ بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَهُ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 84، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 36، وَالْبَحْر الرَّائِق 1 / 29، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 60 - 61، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 41، وَالإِْنْصَاف 1 / 137، وَالْمُغْنِي 1 / 107، وَالْخَرَشِيّ 1 / 140، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 103 - 104.(43/372)
يَدْخُل فِيهِ الْمَاءُ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو رَافِعٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ (1) .
وَإِذَا شَكَّ فِي وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ وَجَبَ تَحْرِيكُهُ لِيَتَبَيَّنَ وُصُول الْمَاءِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَاتَمَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لاَ يَجِبُ نَزْعُهُ وَلاَ تَحْرِيكُهُ فِي الْوُضُوءِ وَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا لاَ يَصِل الْمَاءُ تَحْتَهُ، فَإِنْ نَزَعَهُ غَسَل مَحَلَّهُ إِنْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّ الْمَاءَ وَصَل تَحْتَهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَيَجِبُ نَزْعُهُ إِنْ كَانَ حَرَامًا وَأَجْزَأَ تَحْرِيكُهُ إِنْ كَانَ وَاسِعًا. (2)
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ ـ الْبَدْءُ بِمُقَدَّمِ الأَْعْضَاءِ:
114 ـ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ الْبَدْءُ بِأَعْلَى الْوَجْهِ، وَأَطْرَافِ الأَْصَابِعِ، وَمُقْدَّمِ الرَّأْسِ.
__________
(1) حَدِيث أَبِي رَافِع: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 153 ط الْحَلَبِيّ) وَضَعْف إِسْنَادِهِ الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 117 ط دَار الْجِنَان) .
(2) الدُّرُّ الْمُخْتَار 1 / 86، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 88، وَالشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 108، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَالْمُغْنِي 1 / 108.(43/373)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ الْبَدْءُ فِي الْغُسْل أَوِ الْمَسْحِ بِمُقَدَّمِ الْعُضْوِ، بِأَنْ يَبْدَأَ فِي الْوَجْهِ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ نَازِلاً إِلَى ذَقْنِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ، وَيَبْدَأُ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ إِلَى الْمَرْفَقَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ إِلَى نُقْرَةِ الْقَفَا، (1) وَفِي الرَّجُل مِنَ الأَْصَابِعِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. (2)
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ ـ عَدَمُ الْكَلاَمِ:
115 ـ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ الْمُتَوَضِّئُ أَثْنَاءَ وُضُوئِهِ بِلاَ حَاجَةٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلاَمُ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُنَا تَرْكُ الأَْوْلَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْكَرَاهَةُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ (3) .
(3)
__________
(1) نَقْرَة الْقَفَا: حُفْرَةٌ فِي آخِرِ الدِّمَاغِ (الْمِصْبَاح الْمُنِير) .
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 8، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 85، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 123، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62.
(3) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 68، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 24، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 8، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَالإِْنْصَاف 1 / 137، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 1 / 121، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 126.(43/373)
السَّلاَمُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَرَدُّهُ:
116 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلاَمِ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَحُكْمِ رَدِّهِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّلاَمُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ كَمَا يُشْرَعُ رَدُّهُ. قَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّلاَمُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ.
قَال فِي الْفُرُوعِ: ظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْكْثَرِ لاَ يُكْرَهُ السَّلاَمُ وَلاَ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ عَلَى طُهْرٍ أَكْمَل؛ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ أَمَّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْتَسِل، فَقَال: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: أَمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَال: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ (1) .
وَقَال أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ، وَفِي " الرِّعَايَةِ ": وَيُكْرَهُ رَدُّ الْمُتَوَضِّئِ السَّلاَمَ. (2)
__________
(1) حَدِيثُ أَمِّ هَانِئٍ: " أَنَّهَا سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَغْتَسِل " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (الْفَتْحُ 1 / 357) ، وَمُسْلِمٌ (1 / 498) .
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَحَاشِيَة الشبراملسي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ 1 / 180، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 135، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 104، وَالإِْنْصَاف 1 / 138، وَالدُّسُوقِيّ 1 / 199، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى الْخَرَشِيّ 1 / 236.(43/374)
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ ـ الدُّعَاءُ عِنْدَ كُل عُضْوٍ:
117 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ غَسْل أَوْ مَسْحِ الأَْعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَوْل الدُّعَاءِ عِنْدَ كُل عُضْوٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ غَسْل كُل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَدُعَاءُ الأَْعْضَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالأَْفْقَهْسِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنْ يَقُول بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
وَعِنْدَ الاِسْتِنْشَاقِ: اللَّهُمَّ أَرِحْنِي رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَلاَ تُرِحْنِي رَائِحَةَ النَّارِ.
وَعِنْدَ غَسْل الْوَجْهِ: اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.
وَعِنْدَ غَسْل يَدِهِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي(43/374)
بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا.
وَعِنْدَ غَسْل يَدِهِ الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ لاَ تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي وَلاَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.
وَعِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ: اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي تَحْتَ عَرْشِكَ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظَل عَرْشِكَ.
وَعِنْدَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وَعِنْدَ مَسْحِ عُنُقِهِ: اللَّهُمَّ أَعْتِقْ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ.
وَعِنْدَ غَسْل رِجْلِهِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِل الأَْقْدَامُ.
وَعِنْدَ غَسْل رِجْلِهِ الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ اجْعَل ذَنْبِي مَغْفُورًا وَسَعْيِي مَشْكُورًا وَتِجَارَتِي لَنْ تَبُورَ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْوَارِدَ مِنَ الدُّعَاءِ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) مِنْ طُرُقٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا ـ فَارْتَقَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْحُسْنِ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ ـ فَيُعْمَل بِهِ، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يُعْمَل بِهِ فِي فَضَائِل الأَْعْمَال بِشَرْطِ عَدَمِ شِدَّةِ
__________
(1) حَدِيث: " الذِّكْر عِنْد كُل عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاء "، ذِكْره الْعَيْنِيّ فِي الْبِنَايَةِ (1 / 191 ط الْفِكْر) وَخَرَجَ طَرْقه وَذِكْر عِلَّة كُلّ طَرِيقٍ مِنْهَا.(43/375)
ضَعْفِهِ، وَأَنْ يَدْخُل تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ، وَأَنْ لاَ يُعْتَقَدَ سُنِّيَّةُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الأَْصَحِّ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ كُل عُضْوٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَالْمُرَادُ تَرْكُ الأَْوْلَى.
قَال النَّوَوِيُّ: دُعَاءُ الأَْعْضَاءِ لاَ أَصْل لَهُ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الأَْذْكَارُ الَّتِي يَقُولُهَا الْعَامَّةُ عَلَى الْوُضُوءِ عِنْدَ كُل عُضْوٍ لاَ أَصْل لَهَا عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ. (1)
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ ـ الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
118 ـ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُول الْمُتَوَضِّئُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ وَهُوَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَقَدْ رَفَعَ يَدَيْهِ وَبَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 86 - 87، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 135، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 181، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 44، وَشَرْح الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 56، وَالإِْنْصَاف 1 / 137 - 138.(43/375)
لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، لِخَبَرِ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغُ أَوْ يُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُول: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ يَدْخُل مِنْ أَيِّهَا شَاءَ (1) ، ثُمَّ يَقُول الْمُتَوَضِّئُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ ـ زَادَهُ التِّرْمِذِيُّ عَلَى خَبَرِ مُسْلِمٍ (2) ـ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، لِخَبَرِ: مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، كُتِبَ فِي رَقٍّ ثُمَّ طُبِعَ بِطَابَعٍ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3) أَيْ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ إِبْطَالٌ، أَيْ يُصَانُ صَاحِبُهُ مِنْ تَعَاطِي مُبْطِلٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ
__________
(1) حَدِيث: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 210) مِنْ حَدِيثِ عُمَر بْن الْخَطَّابِ.
(2) حَدِيث: " اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ. . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 78 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال: هَذَا حَدِيث فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَاب
(3) حَدِيث: " مَنْ تَوَضَّأَ فَقَال: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (6 / 25 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعًا، وَصَوْب النَّسَائِيّ كَوْنه مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي سَعِيد.(43/376)
يَقُول بَعْدَ الْوُضُوءِ: وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: وَيَقُول الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ مِنَ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْقَدْرِ ثَلاَثًا (1) .
وَالْحِكْمَةُ ـ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ ـ فِي خَتْمِ الْوُضُوءِ، وَالصَّلاَةِ وَغَيْرِهِمَا بِالاِسْتِغْفَارِ: أَنَّ الْعِبَادَ مُقَصِّرُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَعَنْ أَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ اللاَّئِقِ بِجَلاَلِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَهُ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ أَنَّ قَدْرَ الْحَقِّ أَجَل مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْتَحْيِي مِنْ عَمَلِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهِ، كَمَا يَسْتَغْفِرُ غَيْرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَغَفَلاَتِهِ.
وَالاِسْتِغْفَارُ يَرِدُ مُجَرَّدًا، وَمَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ.
فَإِنْ وَرَدَ مُجَرَّدًا دَخَل فِيهِ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 108 - 109، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 87، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 24، وَحَاشِيَة الْبُنَانِيّ عَلَى الزُّرْقَانِيّ 1 / 73، وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 134، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ وَحَاشِيَة الشبراملسي 1 / 181.(43/376)
الذَّنْبِ الْمَاضِي بِالدُّعَاءِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَوِقَايَةِ شَرِّ الذَّنْبِ الْمُتَوَقَّعِ بِالْعَزْمِ عَلَى الإِْقْلاَعِ عَنْهُ، وَهَذَا الاِسْتِغْفَارُ الَّذِي يَمْنَعُ الإِْصْرَارَ وَالْعُقُوبَةَ.
وَإِنْ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ اخْتُصَّ بِالنَّوْعِ الأَْوَّل، فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي ـ بَل كَانَ سُؤَالاً مُجَرَّدًا ـ فَهُوَ دُعَاءٌ مَحْضٌ، وَإِنْ صَحِبَهُ نَدَمٌ فَهُوَ تَوْبَةٌ، وَالْعَزْمُ عَلَى الإِْقْلاَعِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ (1) .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ ـ تَنْشِيفُ الأَْعْضَاءِ مِنْ بَلَل مَاءِ الْوُضُوءِ:
119 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَنْشِيفِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ بَلَل مَائِهِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنْشِيفُ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَلَبَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ (2) ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غُسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ نَاوَلَتْهُ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِرْقَةً فَلَمْ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 109.
(2) حَدِيث سَلْمَانَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَقَلَبَ جُبَّة. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (2 / 1180 ط الْحَلَبِيّ) وَأَشَارَ الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 229 ط دَارَ الْجِنَان) إِلَى انْقِطَاعٍ فِي إِسْنَادِهِ.(43/377)
يَرُدَّهَا فَجَعَل يَنْفُضُ بِيَدِهِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنْشِيفَ أَفْضَل.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ التَّنْشِيفَ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ أَنَّ الْمَسْنُونَ تَرْكُ التَّنْشِيفِ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّهُ يُزِيل أَثَرَ الْعِبَادَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ التَّنْشِيفُ لِعُذْرٍ فَلاَ يُسَنُّ تَرْكُهُ بَل يَتَأَكَّدُ سَنُّهُ، كَأَنْ خَرَجَ عَقِبَ وُضُوئِهِ فِي هُبُوبِ رِيحٍ تَنَجَّسَ، أَوْ آلَمَهُ شِدَّةٌ نَحْوَ بَرْدٍ، أَوْ كَانَ يَتَيَمَّمُ عَقِبَ الْوُضُوءِ لِكَيْ لاَ يَمْنَعَ الْبَلَل فِي وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ التَّيَمُّمَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنْشِيفُ. (2)
(ر: تَنْشِيفٌ ف 3) .
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غَسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَتَتْهُ مَيْمُونَة. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 1 / 382) .
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 89، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 104، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 74، وَالْخَرَشِيّ 1 / 140، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 261، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 179، وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 133، وقليوبي وَعَمِيرَة عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ 1 / 133، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 106 - 107.(43/377)
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ ـ تَرْكُ نَفْضِ الْيَدِ أَوِ الْمَاءِ:
120 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَدَمِ نَفْضِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الأَْعْضَاءِ أَوْ عَنِ الْيَدِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ عَدَمُ نَفْضِ يَدِهِ، لِحَدِيثِ: إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلاَ تَنْفُضُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيْطَانِ (1) ، وَلأَِنَّهُ يُشْعِرُ بِكَرَاهَةِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الشَّرْحِ: لاَ يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ بِيَدَيْهِ عَنْ بَدَنِهِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (2) وَيُكْرَهُ نَفْضُ يَدِهِ.
وَقَال فِي غَايَةِ الْمَطْلَبِ - كَمَا نَقَل عَنْهُ الْبُهُوتِيُّ - هَل يُبَاحُ نَفْضُ يَدِهِ أَوْ يُكْرَهُ؟ - وَجْهَانِ، الأَْصَحُّ: لاَ يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى
__________
(1) حَدِيث: " إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَلاَ تَنْفُضُوا أَيْدِيكُمْ. . " أَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ فِي الْمَجْرُوحِينَ (1 / 203 نَشْر دَارَ الْمَعْرِفَة) ، وَنَقَل ابْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَال: هَذَا حَدِيث مُنْكِر، عِلَل الْحَدِيثِ (1 / 36 ط السَّلَفِيَّة) .
(2) حَدِيث ميونة: تَقَدَّمَ ف119، وَتُقَدِّمُ تَخْرِيجه.(43/378)
أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَوَضِّئِ نَفْضُ الْمَاءِ وَتَرْكُهُ. (1)
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الشُّرْبُ مِنْ فَضْل مَاءِ الْوُضُوءِ:
121 ـ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ أَنْ يَشْرَبَ الْمُتَوَضِّئُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي زَادَ فِي الإِْنَاءِ، لِمَا وَرَدَ " عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ " (2) .
قَال الْكَمَال: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ فَضْل وُضُوئِهِ قَائِمًا مُسْتَقْبِلاً، قِيل: وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا.
وَقَال الْحَصَكْفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ وَغَيْرُهُمَا: يَشْرَبُ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الْوُضُوءِ مِنْ فَضْل وُضُوئِهِ ـ التَّشْبِيهُ فِي الشُّرْبِ مُسْتَقْبِلاً قَائِمًا لاَ فِي كَوْنِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ ـ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا. . . وَالْمُرَادُ شُرْبُ كُل الْفَضْل أَوْ بَعْضِهِ.
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 89، وَحَاشِيَة الطَّحَاوِيّ عَلَى الدُّرِّ 1 / 76، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 61، وَشَرْح الْمِنْهَاجِ وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 1 / 55، وَشَرْح الْمَنْهَجِ 1 / 133، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 107، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 1 / 122، وَمَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 301.
(2) حَدِيث عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ فَضْل وَضَوْئِهِ. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (1 / 70 ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة) .(43/378)
وَيَقُول عَقِبَ الشُّرْبِ: اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِشِفَائِكَ، وَدَاوِنِي بِدَوَائِكَ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْوَهَل وَالأَْمْرَاضِ وَالأَْوْجَاعِ. قَال فِي الْحِلْيَةِ: وَالْوَهَل هُنَا ـ بِالتَّحْرِيكِ ـ الضَّعْفُ وَالْفَزَعُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ مَأْثُورًا، وَهُوَ حَسَنٌ. (1)
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ ـ صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ:
122 ـ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُتَوَضِّئُ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِل بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يُصَلِّي سُنَّةَ الْوُضُوءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ الأَْوْقَاتُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ تَرْكَ الْمَكْرُوه أَوْلَى مِنْ فِعْل الْمَنْدُوبِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 1 / 24، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 87، وَحَاشِيَة الطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 75، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 43، وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 135، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 24.
(2) حَدِيث: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 209 210) مِنْ حَدِيثِ عُقْبَة بْن عَامِر.(43/379)
صَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فَأَكْثَرَ عَقِبَ كُل وُضُوءٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَيَفْعَل هَذِهِ الصَّلاَةَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ لَهَا سَبَبًا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ يُنْظَرُ (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 23 وَمَا بَعْدَهَا)
الثَّلاَثُونَ ـ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ:
123 ـ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ. . أَيِّ التَّوَضُّؤِ عَلَى وُضُوءٍ قَائِمٍ لَمْ يُنْقَضْ.
فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ قَبْل أَنْ تُفْعَل بِهِ عِبَادَةٌ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ فَضْل فِيهِ. (2)
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: مُصْطَلَحُ تَجْدِيدٍ ف 2)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 1 / 24، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 89، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 62، وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 135، وَصَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ 3 / 90 - 93، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 81، 85، وَالشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 131، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 63، 74، وَالْمُغْنِي 1 / 143.(43/379)
الْوَاحِدُ وَالثَّلاَثُونَ - عَدَمُ نَقْصِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ:
124 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ لاَ يُحَدُّ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ هُوَ فَضِيلَةُ الاِقْتِصَادِ وَتَرْكُ الإِْسْرَافِ. أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْحِلْيَةِ: نَقَل غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْل صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لاَزِمٍ، بَل هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ.
وَقَال ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِئُ أَقَل مِنْ مُدٍّ فِي الْوُضُوءِ وَلاَ أَقَل مِنْ صَاعٍ
__________
(1) حَدِيث: " كَانَ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 1 / 304) ، وَمُسْلِم (1 / 258) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.(43/380)
فِي الْغُسْل. (1)
وَلِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُدِّ وَاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ (ر: مَقَادِيرُ ف 25) .
الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ: عَدَمُ النَّفْخِ فِي الْمَاءِ حَال غَسْل الْوَجْهِ:
125 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ عَدَمُ نَفْخِ الْمُتَوَضِّئِ فِي الْمَاءِ حَال غَسْل الْوَجْهِ (2) . وَأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مُتَوَضَّأِ الْعَامَّةِ.
الثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ السُّنَنِ:
126 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِيمَا بَيْنَهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْتِيبُ سُنَنِ الْوُضُوءِ فِي أَنْفُسِهَا.
فَلَوْ حَصَل تَنْكِيسٌ بَيْنَ السُّنَنِ أَوْ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ لَمْ تُطْلَبِ الإِْعَادَةُ لِمَا نَكَّسَهُ وَلاَ لِمَا
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 85، وَالْمَجْمُوع لِلنَّوَوِيِّ 1 / 466، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى شَرْحِ الرِّسَالَةِ / 142 - 143، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 1 / 122 123.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 85.(43/380)
بَعْدَهُ لِلتَّرْتِيبِ؛ لأَِنَّ الْمَنْدُوبَ إِذَا فَاتَ لاَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ.
وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ عَدَمَ وُجُودِ التَّرْتِيبِ فِي نَفْل الْوُضُوءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الأَْعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ، فَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ؛ لأَِنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا. (1)
الرَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ: أَخْذُ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا عِنْدَ غَسْل الْوَجْهِ:
127 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ صِفَةَ غَسْل الْوَجْهِ الْمُسْتَحَبَّةَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا؛ لِمَا وَرَدَ " فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَل يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا، فَغَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (2) .
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 85، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 138، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 102، وَالْحَاوِي 1 / 172 - 173، وَالإِْنْصَاف 1 / 138.
(2) حَدِيث: " أَدْخَل يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (1 / 59 ط مُحَمَّد بْن عَلِيّ صُبَيْح) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن زَيْد.(43/381)
وَلأَِنَّ غَسْل الْوَجْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْكَنُ وَأَسْبَغُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ بِيَدِهِ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَل يَدَهُ فَغَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثًا (1) .
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ لِزَاهِرٍ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ يَغْرِفُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى، وَيَضَعُ ظَهْرَهَا عَلَى بَطْنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَيَصُبُّهُ مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ (2) لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَل بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُْخْرَى فَغَسَل بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ (3) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنْ صِفَةِ الْوُضُوءِ الْكَامِل: ثُمَّ يَغْسِل وَجْهَهُ فَيَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، أَوْ يَغْتَرِفُ بِيَمِينِهِ، وَيَضُمُّ إِلَيْهَا الأُْخْرَى وَيَغْسِل بِهِمَا ثَلاَثًا؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِهِ. (4)
__________
(1) حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَل يَدَهُ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 1 / 294) .
(2) الْمَجْمُوع 1 / 380 - 381.
(3) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَة مِنْ مَاء. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 1 / 240 241) .
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 95.(43/381)
الْخَامِسُ وَالثَّلاَثُونَ ـ تَدَارُكُ مَا فَاتَ مِنَ الْوُضُوءِ:
128 ـ التَّدَارُكُ وَهُوَ فِعْل الْعِبَادَةِ، أَوْ فِعْل جُزْئِهَا إِذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ فِعْل ذَلِكَ فِي مَحِلِّهِ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا مَا لَمْ يَفُتْ.
وَقَدْ تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَدَارُكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ بِالإِْتْيَانِ بِالْفَائِتِ ثُمَّ الإِْتْيَانِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ تَدَارُكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَدَارُكٍ، فِقْرَاتِ 4 ـ 7)
مَكْرُوهَاتُ الْوُضُوءِ:
عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا اعْتَبَرُوهَا مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْوُضُوءِ، مِنْهَا:
أَوَّلاً: لَطْمُ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ:
129 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ لَطْمِ الْوَجْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ، وَخُصَّ الْوَجْهُ بِالذِّكْرِ لِمَا لَهُ مِنْ مَزِيدِ الشَّرَفِ. (1)
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 1 / 30، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 9، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 43.(43/382)
ثَانِيًا: التَّقْتِيرُ فِي الْوُضُوءِ:
130 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّقْتِيرُ فِي التَّوَضُّؤِ بِأَنْ يَقْرُبَ إِلَى حَدِّ دَهْنِ الأَْعْضَاءِ بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَل يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لِيَكُونَ غَسْلاً ـ فِيمَا يُغْسَل ـ بِيَقِينٍ فِي كُل مَرَّةٍ مِنَ الثَّلاَثِ (1) .
ثَالِثًا: الإِْسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ:
131 - يُكْرَهُ الإِْسْرَافُ فِي التَّوَضُّؤِ. . بِأَنْ يَسْتَعْمِل مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَال: " مَا هَذَا السَّرَفُ؟ " فَقَال: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَال: " نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ (2) .
وَلأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ لِلْوَسْوَسَةِ وَفِي الْحَدِيثِ لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ (3) نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 89.
(2) حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ عَلَى سَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 147 ط الْحَلَبِيّ) ، وَضَعْف إِسْنَادِهِ الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 114 ط دَار الْجِنَان) .
(3) حَدِيثُ: " لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (الْفَتْحُ 1 / 93) .(43/382)
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمَاءَ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ وَمِنْ مَاءِ الْمَدَارِسِ فَالإِْسْرَافُ فِيهِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِهَا، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا لَيْسَ بِجَارٍ، أَمَّا الْجَارِي فَهُوَ مِنَ الْمُبَاحِ. (1)
رَابِعًا: التَّوَضُّؤُ بِفَضْل مَاءِ الْمَرْأَةِ:
132 - قَال الشِّرْوَانِيُّ: الْمُرَادُ بِفَضْل مَاءِ الْمَرْأَةِ مَا فَضَل عَنْ طَهَارَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ، دُونَ مَا مَسَّتْهُ فِي شُرْبٍ أَوْ أَدْخَلَتْ يَدَهَا فِيهِ بِلاَ نِيَّةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِفَضْل مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِفَضْل مَاءِ الْمَرْأَةِ مَكْرُوهٌ مُرَاعَاةً لِلْخِلاَفِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ إِلَى أَنَّ فَضْل مَاءِ الْمَرْأَةِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ يَرْفَعُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا، فَلاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا وَرَدَ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 89 - 90، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 100 103، وَالإِْنْصَاف 1 / 163، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 187، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 59، 62، وَالدُّسُوقِيّ 1 / 100.(43/383)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " اغْتَسَل بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا، فَقَال: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُجْنِبُ " (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الطَّهَارَةُ بِفَضْل طَهُورِ الْمَرْأَةِ. (2)
لِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُل بِفَضْل طَهُورِ الْمَرْأَةِ (3) .
وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: مَنْعُ الرَّجُل مِنَ اسْتِعْمَال فَضْل طَهُورِ الْمَرْأَةِ تَعَبُّدِيٌّ لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُبَاحُ لاِمْرَأَةٍ سِوَاهَا وَلَهَا التَّطَهُّرُ بِهِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِالرَّجُل، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَوْرِدِهِ (4) .
__________
(1) حَدِيث بْن عَبَّاسٍ: " اغْتَسَل بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 94 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ وَالدَّرّ الْمُخْتَار 1 / 90، وَالإِْنْصَاف 1 / 48، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 52، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَوَاشِيه 1 / 77.
(3) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُل بِفَضْلٍ طَهُورٍ الْمَرْأَة. . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (1 / 93 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ الْحَكَم بْن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(4) الإِْنْصَاف 1 / 48.(43/383)
خَامِسًا: تَثْلِيثُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ:
133 - نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ. (1)
سَادِسًا: الْوُضُوءُ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ: 134 - يُكْرَهُ فِعْل الْوُضُوءِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ لأَِنَّهُ طَهَارَةٌ: فَيَتَنَحَّى عَنِ الْمَكَانِ النَّجِسِ أَوْ مِنْ مَا شَأْنُهُ كَذَلِكَ، لأَِنَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ حُرْمَةً، وَلِئَلاَّ يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَتَقَاطَرُ مِنْ أَعْضَائِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَذَلِكَ فِي الْمَكَانِ النَّجِسِ بِالْفِعْل. نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إِلْقَاءُ النُّخَامَةِ وَالاِمْتِخَاطُ فِي الْمَاءِ (2) .
سَابِعًا: التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ:
135 - يُكْرَهُ التَّوَضُّؤُ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 89 - 90، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 100 - 103، وَالإِْنْصَاف 1 / 163 وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 98 99.
(2) رَدَّ الْمُخْتَار 1 / 90، وَحَاشِيَة الطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 76 وَالدُّسُوقِيّ 1 / 100، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 63، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 42.(43/384)
إِنَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ أُعِدَّ لِذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَإِنْ جَعَلَهُ فِي طَسْتٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: يُبَاحُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْل فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُؤْذِ بِهِ أَحَدًا، وَلَمْ يُؤْذِ الْمَسْجِدَ.
وَقَال سَحْنُونٌ: لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِصَحْنِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ( {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ) (1) فَوَجَبَ أَنْ تُرْفَعَ وَتُنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهَا؛ لِمَا يَسْقُطُ فِيهَا مِنْ غُسَالَةِ الأَْعْضَاءِ مِنَ الأَْوْسَاخِ وَالتَّمَضْمُضِ وَالاِسْتِنْشَاقِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ لِلصَّلاَةِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ آخَرُ فَيَتَأَذَّى بِالْمَاءِ الْمُهْرَاقِ فِيهِ، (2) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: اجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ " (3) .
__________
(1) سُورَة النُّور: 36.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 107، وَالإِْنْصَاف 1 / 168، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 203، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 90، وَحَاشِيَة الطحطاوي عَلَى الدُّرِّ 1 / 76، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 279، وَإِعْلاَم السَّاجِد بِأَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ 311.
(3) حَدِيث: " اجْعَلُوا مطاهركم عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ. . " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ (20 / 173 ط الْعِرَاق) مِنْ حَدِيثِ مُعَاذ، وَذِكْر الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (2 / 26 ط الْقُدْسِيّ) أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعًا بَيْنَ مُعَاذ وَالرَّاوِي عَنْهُ.(43/384)
ثَامِنًا: إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ:
136 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِرَاقَةُ مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل فِي الْمَسْجِدِ، وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَيْضًا إِرَاقَتُهُ فِي مَكَانٍ يُدَاسُ فِيهِ كَالطَّرِيقِ.
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لاَ يُكْرَهُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلْمَاءِ. وَفِي وَجْهٍ: تَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا لِلطَّرِيقِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِسْقَاطُ مَاءِ الْوُضُوءِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَتَأَذَّ بِهِ النَّاسُ. (2)
تَاسِعًا: الْوُضُوءُ بِمَاءِ الشَّمْسِ:
137 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّوَضُّؤِ
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 168، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 107.
(2) إِعْلاَم السَّاجِدِ لِلزَّرْكَشِيّ ص311.(43/385)
بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. (1)
(ر: مِيَاه ف 13) .
عَاشِرًا - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ:
138 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُتَوَضِّئِ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا سُنَّ لَهُ فِعْلُهَا لِمَا يَسْتَقْبِل مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ. (2)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ بِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. (3)
نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:
139 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ هُوَ: إِخْرَاجُ الْوُضُوءِ عَنْ إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَاسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ انْتِهَاءُ حُكْمِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُوضِ أَوْ رَفْعُ اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ مِمَّا كَانَ يُبَاحُ بِهِ مِنْ صَلاَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا يَنْتَهِي حُكْمُ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 45، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 19، وَالْمَجْمُوع 1 / 87 89، وَالْمُغْنِي 1 / 17، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 121.
(2) الشَّرْح الصَّغِير 1 / 129
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 84 85.(43/385)
النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ. (1)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوَّلاً - الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُمَا:
140 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِلَى أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ، أَيِ الْعِلَل الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِخْرَاجِ الْوُضُوءِ عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِهِ - خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ السَّبِيلَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ (2) } .
وَالْغَائِطُ حَقِيقَةً: الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ النَّاسُ حَاجَتَهُمْ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ مُرَادَةً، فَجُعِل مَجَازًا عَنِ الأَْمْرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، وَلِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ تَحَوُّجٌ إِلَيْهِ لِتُفْعَل فِيهِ تَسَتُّرًا عَنِ النَّاسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ، حَتَّى لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْغَائِطِ أَيِ الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 24، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 9، وَالْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 1 / 24، وَالدَّرّ الْمُخْتَار 1 / 90 ـ 91، وَالاِخْتِيَار 1 / 9، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 114، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 135، وَالْخَرَشِيّ 1 / 15.
(2) سُورَة الْمَائِدَة: 6، وَسُورَة النِّسَاء: 43.(43/386)
لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَوْنِ الْخَارِجِ مُعْتَادًا كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ، بَل يَكُونُ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى، وَفِي كَوْنِ الْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ - الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ - أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْ فَوْقِهَا، وَكَانَ السَّبِيلاَنِ مَفْتُوحَيْنِ أَوْ مَسْدُودَيْنِ أَوْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الخ. (1)
(ر: حَدَث ف 6 - 10) .
ثَانِيًا: خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:
141 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ عَدَمِ نَقْضِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَطْهِيرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَبْقَى الْوُضُوءُ إِلاَّ إِذَا انْتَقَضَ بِسَبَبٍ آخَرَ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةَ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ - كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا - نَاقِضَةٌ لِلْوُضُوءِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. (2)
(ر: حَدَث ف 10) .
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 9، وَالْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 1 / 24 25، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 90 93، وَالشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي عَلَيْهِ 1 / 135 137، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 114 117، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 32 33، وَالإِْنْصَاف 1 / 195 197.
(2) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 1 / 25 32، وَالاِخْتِيَار 1 / 9، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 90 92، وَالإِْنْصَاف 1 / 197 199، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 124 125.(43/386)
ثَالِثًا: زَوَال الْعَقْل (الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ) :
زَوَال الْعَقْل قَدْ يَكُونُ بِالنَّوْمِ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الْغَشْيُ.
أ - النَّوْمُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
142 - الرَّأْيُ الأَْوَّل:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ " الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ " (1) ،
__________
(1) حَدِيث: " الْعَيْن وِكَاء السه. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 161 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، وَحُسْنه النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوعِ (2 / 14) .(43/387)
وَحَدِيثِ إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ " (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل:
143 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالنَّائِمُ عِنْدَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا، أَوْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا عَلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل عَنْهُ لَسَقَطَ، أَوْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا.
أ - فَإِنْ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا نُقِضَ وُضُوؤُهُ لِحَدِيثِ: " إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا " (2) إِنَّ مَنِ اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ غَايَةَ الاِسْتِرْخَاءِ بِحَالَةِ الاِضْطِجَاعِ، فَيَكُونُ بِمَظِنَّةِ خُرُوجِ الرِّيحِ.
ب - وَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ نَامَ مُتَوَرِّكًا لِزَوَال مَقْعَدَيْهِمَا مِنَ الأَْرْضِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل عَنْهُ لَسَقَطَ: فَهَذَا لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْعَدَتُهُ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاء السه. . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (4 / 97 ط الميمنية) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَذِكْر الهيثمي فِي الْمَجْمَعِ (1 / 247 ط الْمُقَدِّسِي) أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا ضَعِيفًا.
(2) حَدِيث: " إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 139 حِمْص) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، وَنُقِل ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 336 - ط الْعِلْمِيَّة) عَنِ التِّرْمِذِيَّ أَنَّ أَحْمَد وَالْبُخَارِيّ ضِعْفَا هَذَا الْحَدِيثِ.(43/387)
زَائِلَةً مِنَ الأَْرْضِ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَتْ زَائِلَةً نَقَضَ بِالإِْجْمَاعِ بَيْنَ أَئِمَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَائِلَةٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَنْقُضُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ.
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
ج - وَإِنْ كَانَ النَّائِمُ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ سَاجِدًا " (1) وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، فَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ إِنْ كَانَ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ بِأَنْ كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَإِلاَّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ.
د - وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضِ إِذَا كَانَ يُصَلِّي مُضْطَجِعًا فَنَامَ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: فَالصَّحِيحُ انْتِفَاضُ وُضُوئِهِ؛ لِلْحَدِيثِ: " إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ".
هـ - وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ أَوْ جَنْبِهِ، إِنِ انْتَبَهَ قَبْل سُقُوطِهِ، أَوْ حَالَةَ
__________(43/388)
سُقُوطِهِ، أَوْ سَقَطَ نَائِمًا وَانْتَبَهَ مِنْ سَاعَتِهِ - لاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، وَإِنِ اسْتَقَرَّ بَعْدَ السُّقُوطِ نَائِمًا ثُمَّ انْتَبَهَ انْتَقَضَ؛ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَنْتَقِضُ بِالسُّقُوطِ؛ لِزَوَال الاِسْتِمْسَاكِ حَيْثُ سَقَطَ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إِنِ انْتَبَهَ قَبْل أَنْ تُزَايِل مَقْعَدَتُهُ الأَْرْضَ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَإِنْ زَايَلَهَا وَهُوَ نَائِمٌ انْتَقَضَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ الأَْوَّل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الصَّحِيحُ أَنَّ النَّوْمَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَإِنَّمَا الْحَدَثُ: مَا لاَ يَخْلُو عَنْهُ النَّائِمُ، فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ - وَهُوَ النَّوْمُ هُنَا - مَقَامَهُ كَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ (1) .
144 - وَلِلْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَانِ فِي اعْتِبَارِ النَّوْمِ نَاقِضًا:
الأُْولَى: طَرِيقَةُ اللَّخْمِيِّ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّقْضِ صِفَةُ النَّوْمِ وَلاَ عِبْرَةَ بِهَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَمَتَى كَانَ النَّوْمُ ثَقِيلاً: نُقِضَ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِمُ مَضْطَجِعًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا، وَعَلاَمَةُ النَّوْمِ الثَّقِيل هُوَ مَا لاَ يَشْعُرُ
__________
(1) حَدِيث: تَبْيِين الْحَقَائِقِ 1 / 9 - 10، وَرَدّ الْمُحْتَارِ مَعَ حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 95 - 96.(43/388)
صَاحِبُهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَسَقَطَتْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ غَيْرَ ثَقِيلٍ فَلاَ يَنْتَقِضُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ صِفَةَ النَّوْمِ مَعَ الثِّقَل، وَصِفَةَ النَّائِمِ مَعَ النَّوْمِ غَيْرِ الثَّقِيل، وَقَالُوا: إِنَّ النَّوْمَ ثَقِيلٌ يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الثَّقِيل فَيَجِبُ الْوُضُوءُ فِي الاِضْطِجَاعِ وَالسُّجُودِ، وَلاَ يَجِبُ فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ.
وَعُزِيَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ لِعَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ.
وَلَكِنَّ الطَّرِيقَةَ الأُْولَى هِيَ الأَْشْهَرُ عِنْدَهُمْ (1) .
145 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَيْفَمَا كَانَ إِلاَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ مِنَ الأَْرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَلاَ يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَإِنِ اسْتَنَدَ إِلَى مَا لَوْ زَال لَسَقَطَ لأَِمْنِ خُرُوجِ شَيْءٍ حِينَئِذٍ مِنْ دُبُرِهِ.
وَلاَ عِبْرَةَ لاِحْتِمَال خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ، لأَِنَّهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ، وَلأَِثَرِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُونَ ثُمَّ
__________
(1) حَاشِيَة الصَّاوِي عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 1 / 141، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 8 6.(43/389)
يُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ " (1) . وَفِي رِوَايَةٍ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ " (2) .
وَحُمِل عَلَى نَوْمِ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ فِي الأَْرْضِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَدَخَل فِي ذَلِكَ مَا لَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا (3) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ نَوْمَ الْمُتَمَكِّنِ مَقْعَدُهُ لاَ يَنْقُضُ وَغَيْرُهُ يَنْقُضُ:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ وَالْمُخْتَصَرِ وَالأَْصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلنَّائِمِ مُمَكَّنًا أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لاِحْتِمَال خُرُوجِ حَدَثٍ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ تَيَقَّنَ النَّوْمَ وَشَكَّ هَل كَانَ مُمَكَّنًا أَمْ لاَ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَامَ جَالِسًا فَزَالَتْ أَلْيَاهُ أَوْ إِحْدَاهُمَا عَنِ الأَْرْضِ، فَإِنْ زَالَتْ قَبْل الاِنْتِبَاهِ
__________
(1) حَدِيث أَنَس: حَدِيث: مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 34.(43/389)
انْتَقَضَ؛ لأَِنَّهُ مَضَى لَحْظَةٌ وَهُوَ نَائِمٌ غَيْرَ مُمَكَّنٍ، وَإِنْ زَالَتْ بَعْدَ الاِنْتِبَاهِ أَوْ مَعَهُ، أَوْ لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا سَبَقَ لَمْ يَنْتَقِضْ؛ لأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَهَ مِنَ الأَْرْضِ مُسْتَنِدًا إِلَى حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ الْحَائِطُ لَسَقَطَ أَمْ لاَ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَلِيل النَّوْمِ وَكَثِيرُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ، فَنَوْمُ لَحْظَةٍ وَنَوْمُ يَوْمَيْنِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَال أَصْحَابُنَا: لاَ فَرْقَ فِي نَوْمِ الْقَاعِدِ الْمُمَكَّنِ بَيْنَ قُعُودِهِ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُفْتَرِشًا أَوْ مُتَوَرِّكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَالاَتِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَقْعَدُهُ لاَصِقًا بِالأَْرْضِ أَوْ غَيْرِهَا مُتَمَكِّنًا، وَسَوَاءٌ الْقَاعِدُ عَلَى الأَْرْضِ وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ، وَالْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَْصْحَابُ.
وَلَوْ نَامَ مُحْتَبِيًا - وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا - فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ:(43/390)
أَحَدُهَا: لاَ يَنْتَقِضُ كَالْمُتَرَبِّعِ، وَالثَّانِي: يَنْتَقِضُ كَالْمُضْطَجِعِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ نَحِيفَ الْبَدَنِ بِحَيْثُ لاَ تَنْطَبِقُ أَلْيَاهُ عَلَى الأَْرْضِ انْتَقَضَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَالْمُخْتَارُ الأَْوَّل.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا نَامَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَأَلْصَقَ أَلْيَيْهِ بِالأَْرْضِ فَإِنَّهُ يُسْتَبْعَدُ خُرُوجُ الْحَدَثِ مِنْهُ، وَلَكِنِ اتَّفَقَ الأَْصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ كَالْجَالِسِ الْمُمَكَّنِ، فَلَوِ اسْتَثْفَرَ وَتَلَجَّمَ بِشَيْءٍ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الاِنْتِقَاضُ أَيْضًا (1) .
146 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النَّوْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ فِي قَوْل كُل مَنْ يَقُول بِنَقْضِهِ بِالنَّوْمِ.
ب - وَنَوْمُ الْقَاعِدِ إِنْ كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَنْقُضْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: " فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ " وَحَدِيثِ: " فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ".
وَقَوْل صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لاَ نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ
__________
(1) الْمَجْمُوع 2 / 12 23.(43/390)
غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ " (1) وَقَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمَا فِي الْيَسِيرِ: لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ " وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَثْرَةٍ وَلاَ قِلَّةٍ، فَإِنَّ النَّائِمَ يَخْفِقُ رَأْسُهُ فِي يَسِيرِ النَّوْمِ، فَهُوَ يَقِينٌ فِي الْيَسِيرِ فَيَعْمَل بِهِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لاَ يُتْرَكُ لَهُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ، وَلأَِنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ يُعَلَّل بِإِفْضَائِهِ إِلَى الْحَدَثِ، وَمَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ يُفْضِي إِلَيْهِ، وَلاَ يَحِسُّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ، بِخِلاَفِ الْيَسِيرِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الإِْفْضَاءِ إِلَى الْحَدَثِ، وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ، وَعَنْهُ: لاَ يَنْقُضُ نَوْمُ الْجَالِسِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا.
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَحُكِيَ عَنْهُ لاَ يَنْقُضُ غَيْرُ نَوْمِ الْمُضْطَجِعِ.
ج - وَمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ هُوَ " نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ " فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَاتٌ إِحْدَاهَا: يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ عُمُومِ أَحَادِيثِ
__________(43/391)
النَّقْضِ نَصٌّ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لِكَوْنِ الْقَاعِدِ مُتَحَفِّظًا لاِعْتِمَادِهِ بِمَحَل الْحَدَثِ إِلَى الأَْرْضِ، وَالرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ يَنْفَرِجُ مَحَل الْحَدَثِ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ.
وَالثَّالِثَةُ: لاَ يَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ، وَيَنْقُضُ نَوْمُ السَّاجِدِ (1) .
وَأَمَّا نَوْمُ الْقَاعِدِ الْمُسْتَنِدِ وَالْمُحْتَبِي فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْوُضُوءِ.
فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْقُضُ يَسِيرُهُ؛ لأَِنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَنْقُضُ يَسِيرُهُ.
قَال أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ قِيل لَهُ: الْوُضُوءُ مِنَ النَّوْمِ؟ قَال: إِذَا طَال، قِيل: فَالْمُحْتَبِي؟ قَال: يَتَوَضَّأُ، قِيل: فَالْمُتَّكِئُ؟ قَال: الاِتِّكَاءُ شَدِيدٌ، وَالْمُتَسَانِدُ كَأَنَّهُ أَشَدُّ - يَعْنِي مِنَ الاِحْتِبَاءِ - وَرَأَى مِنْهَا كُلِّهَا الْوُضُوءَ إِلاَّ أَنْ يَغْفُوَ قَلِيلاً (2) .
__________
(1) حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال: الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 1 / 173، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 125، وَالإِْنْصَاف 1 / 199 - 200.
(2) الْمُغْنِي 1 / 275، وَالإِْنْصَاف 1 / 201.(43/391)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُعْتَمِدًا بِمَحَل الْحَدَثِ عَلَى الأَْرْضِ أَنْ لاَ يَنْقُضَ مِنْهُ إِلاَّ الْكَثِيرُ؛ لأَِنَّ دَلِيل انْتِفَاءِ النَّقْضِ فِي الْقَاعِدِ لاَ تَفْرِيقَ فِيهِ فَيُسَوَّى بَيْنَ أَحْوَالِهِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّوْمِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
فَقَال أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ لِلْقَلِيل حَدٌّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَقِيل: حَدُّ الْكَثِيرِ: مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ النَّائِمُ عَنْ هَيْئَتِهِ: مِثْل أَنْ يَسْقُطَ عَلَى الأَْرْضِ، وَمِنْهَا أَنْ يَرَى حُلْمًا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ حَدَّ لَهُ؛ لأَِنَّ التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِتَوْقِيفٍ، وَلاَ تَوْقِيفَ فِي هَذَا، فَمَتَى وَجَدْنَا مَا يَدُل عَلَى الْكَثْرَةِ: مِثْل سُقُوطِ الْمُتَمَكِّنِ وَغَيْرِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقِّنَةٌ فَلاَ تَزُول بِالشَّكِّ.
وَقَال: مَنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى عَقْلِهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّوْمَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْل، وَقَال بَعْضُ أَهْل اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ (2) } : هِيَ ابْتِدَاءُ النُّعَاسِ فِي الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا، وَلأَِنَّ النَّاقِضَ
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 1 / 175.
(2) سُورَة الْبَقَرَة: 255.(43/392)
زَوَال الْعَقْل، وَمَتَى كَانَ ثَابِتًا وَحِسُّهُ غَيْرُ زَائِلٍ، مِثْل مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَال عِنْدَهُ وَيَفْهَمُهُ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ مِنْ حَقِّهِ.
وَإِنْ شَكَّ: هَل نَامَ أَمْ لاَ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لاَ يَدْرِي أَرُؤْيَا هُوَ أَمْ حَدِيثُ نَفْسٍ؟ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي:
147 - حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الأَْعْرَجِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ النَّوْمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ " (2) .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ يَزُول الْيَقِينُ بِالشَّكِّ (3) .
قَال الْمَرْدَاوِيُّ: نَقَل الْمَيْمُونِيُّ: لاَ يَنْقُضُ
__________
(1) الْمُغْنِي 1 / 173 176.
(2) وَنِيل الأَْوْطَار 1 / 190. حَدِيث: الْمُغْنِي 1 / 173،(43/392)
النَّوْمُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِنْ ظَنَّ بَقَاءَ طُهْرِهِ، وَقَال الْخَلاَّل: هَذِهِ الرِّوَايَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ (1) .
ب - الإِْغْمَاءُ:
148 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْغْمَاءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَمِنْهُ الْغَشْيُ (2) .
(ر: إِغْمَاءٌ، ف6) .
ج - الْجُنُونُ:
149 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ - قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا - يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
(ر: جُنُونٌ، ف10) .
د - السُّكْرُ:
150 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ (3) .
(ر: حَدَثٌ ف11) .
رَابِعًا: مَسُّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ:
151 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 199، 201.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 12، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص29، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 33، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 125.
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 12، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 97.(43/393)
بِمَسِّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى أَمْ خُنْثَى، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف14، فَرْجٌ ف5، 4، مَسٌّ ف18، خُنْثَى ف9) .
خَامِسًا: الْتِقَاءُ بَشَرَتَيِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
152 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ بَشَرَةِ الرَّجُل بَشَرَةَ الأُْنْثَى، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف13، أُنُوثَةٌ ف21) .
سَادِسًا: الرِّدَّةُ:
153 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الاِرْتِدَادِ عَنِ الإِْسْلاَمِ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى - نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ بِذَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَل فِي حَال اتِّصَالِهَا بِالْمَوْتِ، وَعَلَيْهِ فَمَنِ ارْتَدَّ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِرِدَّتِهِ ذَاتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ انْتَقَضَ لِسَبَبٍ آخَرَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنِ اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَل وَالثَّوَابِ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِل بِهِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلثَّوَابِ دُونَ الْعَمَل، بِمَعْنَى أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لاَ يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ السَّابِقِ وَلاَ يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهِ،(43/393)
وَمَنِ اتَّصَلَتْ رِدَّتُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُثَبْ أَيْضًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الإِْسْلاَمِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (1) } فَمَنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَارْتَدَّ انْتَقَضَ هَذَا الْوُضُوءُ بِالرِّدَّةِ ذَاتِهَا وَبِمُجَرَّدِ حُدُوثِهَا؛ لأَِنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ فَيُحْبَطُ بِنَصِّ الآْيَةِ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ فَأَفْسَدَهَا الشِّرْكُ كَالصَّلاَةِ وَالتَّيَمُّمِ، وَقَالُوا: الآْيَةُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيل مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُشْرِكُ وَلاَ يَقَعُ مِنْهُ إِشْرَاكٌ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ نَدْبَ الْوُضُوءِ مِنَ الرِّدَّةِ.
وَقَال الصَّاوِيُّ: مَعْنَى إِحْبَاطِ الْعَمَل مِنْ حَيْثُ الثَّوَابِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلاَنِ ثَوَابِهِ إِعَادَتُهُ؛ فَلِهَذَا لاَ يُطَالَبُ بَعْدَهَا بِقَضَاءِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ - أَيْ عَوْدَتِهِ إِلَى الإِْسْلاَمِ - بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَ حِينَئِذٍ، فَوَجَبَ
__________
(1) سُورَة الزُّمَرِ: 65.(43/394)
عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِمُوجِبِهِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ (1) .
سَابِعًا: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلاَةِ:
154 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلاَةِ لاَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلاَةَ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ الْوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ - إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي صَلاَةٍ كَامِلَةً - وَهِيَ مَا لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ - تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلاَةَ (3) .
(ر: حَدَثٌ ف15 - 16، قَهْقَهَةٌ ف4 - 5) .
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 3 / 48، 15 / 277، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 122، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 300، وَالشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 147، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 133، وَالْمَجْمُوع 2 / 5، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 313، وَالإِْنْصَاف 1 / 219.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 1 / 123، وَحَاشِيَة البجيرمي 1 / 178، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 32، وَالْمَجْمُوع 2 / 62، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 131، وَالْمُغْنِي 1 / 177.
(3) الاِخْتِيَار 1 / 11، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 32، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 34 - 35.(43/394)
ثَامِنًا: أَكْل مَا مَسَّتْهُ النَّارُ:
155 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْل مَا مَسَّتْهُ النَّارُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجِبُ الْوُضُوءُ بِأَكْل شَيْءٍ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَبِهِ قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَال جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَل كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ " (1) ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُل " (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجِسَ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِمَا رَوَى جَابِرٌ
__________(43/395)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: " كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ " (1) .
وَالثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي مُوسَى وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (2) وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ " (3) .
تَاسِعًا: الْوُضُوءُ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ:
156 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ وَالإِْبِل، عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) وَالْمُغْنِي 1 / 191. وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 130، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 32، وَالْمَجْمُوعِ 2 / 56 - 60، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 90 ط دَار السَّلاَمِ، حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: حَدِيث: حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه: بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 32، وَالشَّرْح الْكَبِير 1 / 123،(43/395)
الأَْوَّل: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ) وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْل سَائِرِ الأَْطْعِمَةِ.
وَلِحَدِيثِ: " الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُل " (1) .
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، يَعْنِي الْخَارِجَ مِنَ النَّجِسِ وَلَمْ يُوجَدْ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ النَّجِسِ حَقِيقَةً أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
الثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ خَاصَّةً: لاَ فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَكَوْنُهُ نَيْئًا أَوْ غَيْرَ نَيْئٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
__________(43/396)
عَنْ جَابِرٍ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأَ، قَال: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل؟ قَال: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل " (2) .
وَعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل فَقَال: تَوَضَّئُوا مِنْهَا " (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْل لُحُومِ الإِْبِل تَفْصِيلٌ:
فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِأَكْل لُحُومِ الْجَزُورِ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا
__________
(1) حَدِيث: بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 32 - 33، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 90 ط دَار السَّلاَمِ، وَالْمَجْمُوعِ 2 / 56 - 60، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 32، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 130، وَالإِْنْصَاف 1 / 216، وَنِيل الأَْوْطَار 1 / 200.(43/396)
أَوْ مَطْبُوخًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ أَوْ لاَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ نَيْئُهُ دُونَ مَطْبُوخِهِ، وَعَنْهُ: لاَ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، اخْتَارَهُ يُوسُفُ الْجَوْزِيُّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَعَنْهُ: إِنْ عَلِمَ النَّهْيَ نَقَضَ وَإِلاَّ فَلاَ، اخْتَارَهُ الْخَلاَّل وَغَيْرُهُ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الإِْبِل كَأَكْل سَنَامِهَا وَدُهْنِهَا وَقَلْبِهَا وَكَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَكَرِشِهَا وَمُصْرَانِهَا.
فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ؛ لأَِنَّ النَّصَّ لاَ يَتَنَاوَلُهُ، وَالثَّانِي يَنْقُضُ (2) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يَنْتَقِضُ بِشُرْبِ لَبَنِ الإِْبِل وَشُرْبِ مَرَقِ لَحْمِهَا؛ لأَِنَّ الأَْخْبَارَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي اللَّحْمِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ شُرْبُ لَبَنِهَا (3) .
(ر: حَدَثٌ ف17) .
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 216، وَمَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 359.
(2) الإِْنْصَاف 1 / 217، وَمَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 364.
(3) مَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 364 - 365.(43/397)
عَاشِرًا - أَكْل الأَْطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
157 - اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْل الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ:
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ الطَّعَامُ الْمُحَرَّمُ، وَعَنْهُ: يَنْقُضُ اللَّحْمُ الْمُحَرَّمُ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ يَنْقُضُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَقَطْ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: وَبَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ نَقْضَ بِأَكْل مَا سِوَى لَحْمِ الإِْبِل مِنَ اللُّحُومِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً كَلُحُومِ السِّبَاعِ، لِكَوْنِ النَّقْضِ بِلَحْمِ الإِْبِل تَعَبُّدِيًّا؛ فَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ.
قَال الْمَرْدَاوِيُّ: ظَاهِرُ كَلاَمِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَكْل الأَْطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ (1) .
حَادِي عَشَرَ: غَسْل الْمَيِّتِ:
158 - لَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَسْل الْمَيِّتِ ضِمْنَ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَعْدَ غَسْل الْمَيِّتِ.
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 218، وَمَعُونَة أُولِي النُّهَى 1 / 363.(43/397)
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ غُسْل الْمَيِّتِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَلِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَال بَعْضِ النَّقْضِ إِذَا غَسَلَهُ الْغَاسِل فِي قَمِيصٍ (1) .
(ر: حَدَث ف18) .
ثَانِي عَشَرَ: الشَّكُّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمُهُ:
159 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالشَّكِّ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ الشَّكَّ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ لاَ تَبْرَأُ مِمَّا طُلِبَ مِنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلاَ تَعَيُّنَ عِنْدَ الشَّاكِّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ مَا يَشْمَل الظَّنَّ.
وَلِلشَّكِّ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
الأُْولَى: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَقَدُّمِ طُهْرِهِ، هَل حَصَل مِنْهُ نَاقِضٌ مِنْ حَدَثٍ أَوْ سَبَبٍ أَمْ لاَ؟
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِ حَدَثِهِ، هَل حَصَل مِنْهُ وُضُوءٌ أَمْ لاَ؟
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 215 - 216، وَالْمُغْنِي 1 / 191 - 192، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 9، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 31 - 36، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص29 - 30.(43/398)
وَالثَّالِثَةُ: عَلِمَ كُلًّا مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَدَثِ، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمِهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا، وَشَكَّ فِي حُدُوثِ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَعَكْسِهِ: وَهُوَ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا وَشَكَّ فِي طُرُوءِ الْوُضُوءِ. . عَمِل بِيَقِينِهِ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ: إِلاَّ إِنْ تَأَيَّدَ اللاَّحِقُ؛ لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ، فَمَنْ ظَنَّ الضِّدَّ - أَيْ ضِدَّ الْيَقِينِ - لاَ يَعْمَل بِظَنِّهِ؛ لأَِنَّ اسْتِصْحَابَ الْيَقِينِ أَقْوَى مِنْهُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ اسْتِصْحَابُهُ، وَإِلاَّ فَالْيَقِينُ لاَ يُجَامِعُهُ شَكٌّ، (2) وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: " إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَل عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يُخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " (3) .
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 122 - 123، وَالشَّرْح الصَّغِير وَحَاشِيَة الصَّاوِي 1 / 147 - 148.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 1 / 102، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 39، وَالْمَجْمُوع 2 / 63 - 65، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 132 - 133، وَالإِْنْصَاف 1 / 221 - 222.(43/398)
ثَالِثَ عَشَرَ - الْغِيبَةُ وَالْكَلاَمُ الْقَبِيحُ:
160 - حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِالْغِيبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْكَلاَمِ الْقَبِيحِ كَالْغِيبَةِ(43/399)
وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَقَوْل الزُّورِ وَالْفُحْشِ وَأَشْبَاهِهَا (1) .
وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا " (2) .
__________
(1) الإِْنْصَاف 1 / 221، وَالْمَجْمُوع 2 / 62، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 9.(43/399)
وَضِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْوَضِيعَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَسَارَةُ وَمَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنَ الْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ، وَالْحَطِيطَةُ، وَمِنْهُ: وَضَعْتُ عَنْهُ وَفِيهِ: أَسْقَطْتُهُ، وَوَضَعَ الشَّيْءَ بَيْنَ يَدَيْهِ: تَرَكَهُ هُنَاكَ، وَوَضَعَ فِي تِجَارَتِهِ ضِعَةً وَوَضِيعَةً: خَسِرَ (1) .
وَالْوَضِيعَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ بَيْعٌ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ. وَتُسَمَّى مُوَاضَعَةً، وَمُخَاسَرَةً، وَمُحَاطَّةً، وَحَطِيطَةً، وَهِيَ أَشْهَرُ مَعَانِيهَا الاِصْطِلاَحِيَّةِ (2) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْوَضِيعَةَ أَيْضًا عَلَى الْخَسَارَةِ (3) وَالْحَطِّ مِنَ الدَّيْنِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط
(2) بدائع الصنائع 5 / 228، والفتاوى الهندية 3 / 4، وابن عابدين 4 / 152، وحاشية الدسوقي 3 / 163، والشرح الصغير 3 / 220، ومغني المحتاج 2 / 77، والشرقاوي على التحرير 2 / 39 - 40، والمغني 4 / 209 - 210، وكشاف القناع 3 / 230.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 475.
(4) كفاية الطالب الرباني 2 / 132.(44/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُرَابَحَةُ:
2 - الْمُرَابَحَةُ فِي اللُّغَةِ: إِعْطَاءُ الرِّبْحِ، يُقَال: بِعْتُهُ الْمَتَاعَ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً إِذَا سَمَّيْتَ بِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الْبَيْعُ الَّذِي يُحَدَّدُ فِيهِ الثَّمَنُ بِزِيَادَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَال (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ التَّضَادُّ.
ب - التَّوْلِيَةُ:
3 - التَّوْلِيَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ مَصْدَرُ وَلَّى، يُقَال: وَلَّيْتُهُ الأَْمْرَ تَوْلِيَةً جَعَلْتُهُ وَالِيًا، وَمِنْهُ بَيْعُ التَّوْلِيَةِ (3) .
وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْبَيْعِ اصْطِلاَحًا: هِيَ نَقْل جَمِيعِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُوَلَّى بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل لاَ غَيْرَ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ وَالْوَضِيعَةِ بِمَعْنَاهَا الأَْشْهَرِ أَنَّهُمَا مَعًا مِنْ بُيُوعِ الأَْمَانَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، والقاموس المحيط.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 152، والشرح الصغير 3 / 215، وحاشية الدسوقي 3 / 159، وقليوبي وعميرة 2 / 219، وكشاف القناع 3 / 230.
(3) المصباح المنير.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 153، والشرح الصغير 3 / 215، وحاشية الدسوقي 3 / 159، وقليوبي وعميرة 2 / 219، وكشاف القناع 3 / 230.(44/5)
ج - الإِْشْرَاكُ:
4 - الإِْشْرَاكُ لُغَةً مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهِيَ اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ (1) .
وَالإِْشْرَاكُ فِي الْبَيْعِ اصْطِلاَحًا: هُوَ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، أَوْ هُوَ نَقْل بَعْضِ الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّلِ، أَيْ بِمِثْل ثَمَنِ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ كُلِّهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْشْرَاكِ وَالْوَضِيعَةِ بِمَعْنَاهَا الأَْشْهَرِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بُيُوعِ الأَْمَانَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَضِيعَةِ:
تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَضِيعَةِ بِاخْتِلاَفِ تَعْرِيفَاتِهَا الاِصْطِلاَحِيَّةِ.
أ - بَيْعُ الْوَضِيعَةِ:
5 - الْمَعْنَى الأَْشْهَرُ لِلْوَضِيعَةِ أَنَّهَا بَيْعُ أَمَانَةٍ بِنُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَنِ الأَْوَّلِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ شَرْعًا (3) لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْبَيْعِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ (4) } . هَذَا إِذَا اسْتَوْفَتْ جَمِيعَ
__________
(1) لسان العرب.
(2) البدائع 5 / 226، وكشاف القناع 3 / 229.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 3، والبدائع 5 / 220، وحاشية الدسوقي 3 / 163، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 39 - 40، ومغني المحتاج 2 / 77، والمغني 4 / 209 - 210، وكشاف القناع 3 / 229.
(4) سورة البقرة / 275.(44/6)
شُرُوطِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَجُزْ لِنُقْصَانِ الشُّرُوطِ، مِثْل سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ الأُْخْرَى.
وَشُرُوطُ صِحَّةِ الْوَضِيعَةِ هِيَ شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُرَابَحَةِ، وَكَذَلِكَ آثَارُهَا بِعَامَّةٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُرَابَحَة ف7 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - الْوَضِيعَةُ بِمَعْنَى الْخَسَارَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَسَارَةَ فِي الشَّرِكَاتِ عَامَّةً تَكُونُ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا، بِحَسَبِ رَأْسِ مَال كُلٍّ فِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَيْرِ ذَلِكَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلاَفِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَال بَاطِلٌ (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ فِي الْمُضَارَبَةِ لاَ يَتَحَمَّل شَيْئًا مِنَ الْخَسَارَةِ، وَتَكُونُ الْخَسَارَةُ كُلُّهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلاَفِ الرِّبْحِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِحَسَبِ الشَّرْطِ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ رَبِحَ ثُمَّ خَسِرَ، أُخِذَتِ الْخَسَارَةُ مِنَ الرِّبْحِ مَا دَامَتِ الْمُضَارَبَةُ مُسْتَمِرَّةً، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سُئِل عَنِ الْمُضَارِبِ يَرْبَحُ وَيَضَعُ مِرَارًا: يَرُدُّ الْوَضِيعَةَ عَلَى الرِّبْحِ إِلاَّ أَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَال صَاحِبُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ فَيَقُول اعْمَل بِهِ ثَانِيَةً، فَمَا رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 337، ومغني المحتاج 2 / 214، والشرقاوي 2 / 112، والروض المربع ص286، وكشاف القناع 3 / 519.(44/6)
لاَ يُجْبَرُ بِهِ وَضِيعَةُ الأَْوَّلِ، لأَِنَّهُ مَضَارَبَةٌ ثَانِيَةٌ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُضَارَبَة ف29) .
ج - الْوَضِيعَةُ بِمَعْنَى الْحَطِّ مِنَ الدَّيْنِ:
7 - قَال فِي كِفَايَةِ الطَّالِبِ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَضِيعَةُ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى تَعْجِيلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ " ضَعْ وَتَعَجَّل "، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّبَا (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِبْرَاء ف51) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 485، وكشاف القناع 3 / 130، 519، كفاية الطالب على رسالة أبي زيد 2 / 132.
(2) كفاية الطالب على رسالة أبي زيد 2 / 132.(44/7)
وَضِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَضِيمَةُ لُغَةً: طَعَامُ الْمَأْتَمِ، وَالطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْكَلأَُ الْمُجْتَمِعُ، وَالْقَوْمُ يَنْزِلُونَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيُحْسِنُونَ إِلَيْهِمْ وَيُكْرِمُونَهُمْ (1) . وَالْوَضِيمَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَ - الْخُرْسُ:
2 - الْخُرْسُ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ - وَالْخِرَاسُ - بِكَسْرِ الْخَاءِ - فِي اللُّغَةِ: طَعَامُ الْوِلاَدَةِ، أَوْ طَعَامُ الْوِلاَدَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ، أَوْ طَعَامٌ يُصْنَعُ لِلْوِلاَدَةِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 10، وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 4 / 176، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 294، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 / 241 - ط السلفية، وكشاف القناع 5 / 165، وشرح منتهى الإرادات 3 / 85 ط عالم الكتب - بيروت، ومطالب أولي النهى 5 / 231 - 234.(44/7)
وَالْخُرْسَةُ وَكَذَا الْخُرْصَةُ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ فِيهِمَا، ثُمَّ سِينٌ فِي الأُْولَى وَصَادٌ فِي الثَّانِيَةِ - طَعَامُ النُّفَسَاءِ، أَوْ مَا يُصْنَعُ لَهَا مِنْ طَعَامٍ وَحِسَاءٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَضِيمَةِ وَالْخُرْسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنَ الْوَلاَئِمِ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - غَيْرَ أَنَّ الْوَضِيمَةَ تَكُونُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالْمَوْتِ، وَالْخُرْسُ تَكُونُ فِي السُّرُورِ وَالْوِلاَدَةِ لِسَلاَمَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الطَّلْقِ.
ب - الْحَذَاقُ:
3 - الْحَذَاقُ وَالْحَذَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّعَلُّمُ وَالْمَهَارَةُ، يُقَال: حَذَقَ الصَّبِيُّ الْقُرْآنَ حَذْقًا وَحَذَاقًا وَحَذَاقَةً، وَيُكْسَرُ الْكُل: تَعَلَّمَهُ كُلَّهُ وَمَهَرَ فِيهِ، وَيَوْمُ حَذَاقِهِ: يَوْمُ خَتْمِهِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ عِنْدَ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) بريقة محمودية 4 / 176، وكشاف القناع 5 / 165، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 2 / 275، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 270.
(3) القاموس المحيط.(44/8)
حِفْظِ الْقُرْآنِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَضِيمَةِ وَالْحَذَاقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَلِيمَةٌ وَطَعَامُ ضِيَافَةٍ، غَيْرَ أَنَّ طَعَامَ الْحَذَاقِ يَكُونُ عِنْدَ مُنَاسَبَةٍ سَارَّةٍ، وَهِيَ حِفْظُ الصَّبِيِّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَخَتْمُهُ لَهُ، أَمَّا طَعَامُ الْوَضِيمَةِ فَيَكُونُ ضِيَافَةً عِنْدَ مُصِيبَةِ الْمَوْتِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَضِيمَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَضِيمَةِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا: حُكْمُ اتِّخَاذِ الْوَضِيمَةِ:
4 - الْوَضِيمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَيِّتِ.
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّخَاذُهَا؛ لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ، وَشُغُلاً لَهُمْ إِلَى شُغُلِهِمْ، وَتَشَبُّهًا بِصُنْعِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَلأَِنَّ اتِّخَاذَ الطَّعَامِ فِي السُّرُورِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ مَكْرُوهَةٌ لَمْ يُنْقَل فِيهَا شَيْءٌ (2) ، " وَعَنْ جَرِيرِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337، ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج 3 / 245، وكشاف القناع 5 / 165.
(2) فتح القدير 1 / 473، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 561، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2 / 228، والمجموع للنووي 5 / 320، وتحفة المحتاج 3 / 207، ومغني المحتاج 1 / 368، وأسنى المطالب 1 / 335، ومطالب أولي النهى 1 / 929 - 930، والمغني 2 / 550.(44/8)
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: كُنَّا نَرَى الاِجْتِمَاعَ إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ مِنَ النِّيَاحَةِ " (1) .
وَفِي رَأْيٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ يُبَاحُ لأَِهْل الْمَيِّتِ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ، قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ: أَوْسِعْ مِنْ قِبَل رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ، فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَال: أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يُشْتَرَى لِي شَاةٌ فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِل إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا فَلَمْ يُوجَدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمِيهِ الأُْسَارَى (2) .
فَهَذَا يَدُل عَلَى إِبَاحَةِ صُنْعِ أَهْل الْمَيِّتِ الطَّعَامَ
__________
(1) أثر جرير بن عبد الله: كنازلة الاجتماع إلى أهل الميت. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 415) ، وصححه النووي في المجموع (5 / 320) .
(2) حديث رجل من الأنصار: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة. . . أخرجه أبو داود (3 / 627) ، وصحح إسناده النووي في المجموع (5 / 286) .(44/9)
وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ (1) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ أَقَارِبُ الْمَيِّتِ مِنَ الطَّعَامِ وَجَمْعِ النَّاسِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُرْجَى خَيْرُهُ لِلْمَيِّتِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِفِعْلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثُلُثِهِ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ فِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ غَائِبٌ وَصُنِعَ ذَلِكَ مِنَ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ (3) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَهْل الْمَيِّتِ ضُيُوفًا فَلاَ يُكْرَهُ صُنْعُ أَهْل الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِمْ طَعَامًا لَهُمْ، قَالُوا: إِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنَ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يُمْكِنُهُمْ إِلاَّ أَنْ يُطْعِمُوهُ (4) .
وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَيِّتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْل الْمَيِّتِ
__________
(1) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص609، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 339.
(2) الفواكه الدواني 1 / 332.
(3) أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 1 / 335.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 929 - 930، والمغني 2 / 550 - 551.(44/9)
وَالأَْقَارِبِ الأَْبَاعِدِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لَهُمْ، يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا لأَِهْل جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ (1) ، وَلأَِنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَفِيهِ إِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ وَالاِعْتِنَاءِ.
وَقَالُوا: يُلِحُّ - مُقَدِّمُ الطَّعَامِ - عَلَيْهِمْ فِي الأَْكْل لأَِنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَيَضْعُفُونَ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِالْقَسَمِ عَلَيْهِمْ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُمْ يَبَرُّونَ بِقَسَمِهِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اجْتَمَعَ أَهْل الْمَيِّتِ عَلَى مُحَرَّمٍ مِنْ نَدْبٍ وَلَطْمٍ وَنِيَاحَةٍ فَلاَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ طَعَامٌ وَيُبْعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، بَل يَحْرُمُ إِرْسَال الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ عُصَاةٌ (2) .
إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَضِيمَةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَضِيمَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِجَابَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) حديث: اصنعوا لأهل جعفر طعاما. . . أخرجه الترمذي (3 / 314) ، وحسنه.
(2) فتح القدير 2 / 473، والفواكه الدواني على رسالة القيرواني 1 / 332، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 561، وحاشية الدسوقي 1 / 419، وروضة الطالبين للنووي 2 / 145، ونهاية المحتاج للرملي 3 / 41، والمجموع شرح المهذب 5 / 319 - 320، ومغني المحتاج 1 / 367 - 368، والمغني لابن قدامة 2 / 550، ومطالب أولي النهى 1 / 929.(44/10)
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَذَهَبَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مُبَاحَةٌ (1) .
الأَْكْل مِنْ طَعَامِ الْوَضِيمَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأَْكْل مِنْ طَعَامِ الْوَضِيمَةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِالأَْكْل مِنْهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا يَصْنَعُهُ أَهْل الْمَيِّتِ مِنَ الطَّعَامِ وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ الأَْكْل مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَنَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ بَالِغًا رَشِيدًا فَلاَ حَرَجَ فِي الأَْكْل مِنْهُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ لِلنَّاسِ غَيْرَ الْضُّيُوفِ الأَْكْل مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يَصْنَعُهُ أَهْل الْمَيِّتِ لِلضُّيُوفِ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مِنَ التَّرِكَةِ وَفِي مُسْتَحِقِّيهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ - حَرُمَ فِعْل الطَّعَامِ، وَحَرُمَ الأَْكْل مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَالٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (4) .
__________
(1) البناية في شرح الهداية للعيني 9 / 202، وحاشية الطحطاوي على الدر 4 / 175، ومواهب الجليل 4 / 3، وحاشية الدسوقي 2 / 337، ومغني المحتاج 3 / 245، وتحفة المحتاج 3 / 207، والشرح الصغير 2 / 419، ومطالب أولي النهى 5 / 234، وكشاف القناع 5 / 168.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 344.
(3) الفواكه الدواني 1 / 332.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 930.(44/10)
الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَنَقْل الطَّعَامِ إِلَيْهِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِيمَا اسْتَظْهَرَهُ الْهَيْتَمِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَنَقْل الطَّعَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ فِعْل الْجَاهِلِيَّةِ وَمُخَالِفٌ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ عَقْرَ فِي الإِْسْلاَمِ (1) ، قَال الْعُلَمَاءُ: الْعَقْرُ: الذَّبْحُ عَلَى الْقَبْرِ. وَلِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ لأَِنَّ السُّنَّةَ فِي أَفْعَال الْقُرَبِ الإِْسْرَارُ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَحْرُمُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَلَوْ نَذَرَهُ نَاذِرٌ لَمْ يَفِ بِهِ، وَلَوْ شَرَطَهُ وَاقِفٌ فَشَرْطُهُ فَاسِدٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَمِنَ الْمُنْكَرِ وَضْعُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ عَلَى الْقَبْرِ لِيَأَخُذَهُ النَّاسُ، وَإِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ غَائِبٌ وَإِلاَّ فَحَرَامٌ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَإِنَّهَا مُحْدَثَةٌ، الأَْوْلَى تَرْكُهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَشُوبُهَا رِيَاءٌ، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيهَا، وَنَقَل أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ:
__________
(1) حديث: " لا عقر في الإسلام. . . "، أخرجه أبو داود (3 / 551) من حديث أنس بن مالك.
(2) تبيين الحقائق 1 / 246، والمجموع 5 / 320، وتحفة المحتاج 3 / 208، والفواكه الدواني 1 / 332، ومواهب الجليل 2 / 248، وكشاف القناع 2 / 149، والإنصاف 2 / 569، 570، ومطالب أولي النهى 1 / 930 - 931.(44/11)
لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الصَّدَقَةِ لِلْمَيِّتِ (1) .
وَطْءٌ
التَّعْرِيفُ ِ:
1 - الْوَطْءُ لُغَةً: الْعُلُوُّ عَلَى الشَّيْءِ. يُقَال: وَطِئْتُهُ بِرِجْلِي، أَطَؤُهُ، وَطْئًا: أَيْ عَلَوْتُهُ.
وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الْوَطْءُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إِيلاَجُ ذَكَرٍ فِي فَرْجٍ، لِيَصِيرَا بِذَلِكَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. فَيُقَال: وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَطْأً، أَيْ جَامَعَهَا؛ لأَِنَّهُ اسْتِعْلاَءٌ (2) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 930 - 931.
(2) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والنهاية لابن الأثير 5 / 200 وما بعدها.(44/11)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّكَاحُ:
2 - أَصْل النِّكَاحِ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ. وَيُطْلَقُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَطْءِ، وَمَجَازًا عَلَى الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ (2) .
وَيُطْلَقُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى عَقْدِ التَّزْوِيجِ حَقِيقَةً، وَعَلَى الْوَطْءِ مَجَازًا. وَقِيل: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ. وَقِيل: هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ حَقِيقَةً. وَقِيل: هُوَ حَقِيقَةٌ فِي مَجْمُوعِهِمَا، كَسَائِرِ الأَْلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالنِّكَاحِ هِيَ التَّرَادُفُ، إِذَا قِيل: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ. وَالسَّبَبِيَّةُ إِذَا قِيل: إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 4.
(2) معجم مقاييس اللغة، وطلبة الطلبة ص38، المطلع ص31، 319، والمصباح المنير، والمغرب، والنهاية لابن الأثير 5 / 114، وتحرير ألفاظ التنبيه ص249، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص710.
(3) ابن عابدين 3 / 5 ط: حلبي الثانية.(44/12)
ب - اللِّوَاطُ:
3 - اللِّوَاطُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ لاَطَ، يُقَال: لاَطَ الرَّجُل وَلاَوَطَ: أَيْ عَمِل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ إِتْيَانُ الذُّكُورِ (1) .
وَيُطْلَقُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى إِيلاَجِ ذَكَرٍ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَطْءِ وَاللِّوَاطِ أَنَّ الْوَطْءَ أَعَمُّ مِنَ اللِّوَاطِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَطْءِ: َتَعَلَّقُ بِالَوَطْءِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْوَطْءُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ.
أَقْسَامُ الْوَطْءِ:
4 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْوَطْءَ - بِمَعْنَى الْجِمَاعِ - إِلَى قِسْمَيْنِ: مَشْرُوعٍ، وَمَحْظُورٍ.
فَأَمَّا الْمَشْرُوعُ: فَهُوَ وَطْءُ الْحَلِيلَةِ، الَّتِي هِيَ الزَّوْجَةُ أَوِ السُّرِّيَّةُ. وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّحْرِيمُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَالِ، كَوَطْءِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ، وَفِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالاِعْتِكَافِ.
__________
(1) الصحاح.
(2) تحرير ألفاظ التنبيه ص324، والمطلع للبعلي ص31، والمفردات، وجواهر الإكليل 2 / 283، وكشاف القناع 6 / 94، 95، ونهاية المحتاج 7 / 403، والبحر الرائق 5 / 4.(44/12)
وَالتَّحْرِيمُ الْعَارِضُ فِي النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ أَخَفُّ مِنَ اللاَّزِمِ.
وَأَمَّا الْوَطْءُ الْمَحْظُورُ: فَهُوَ مَا لاَزَمَهُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً، كَوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ فِي قُبُلِهَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، وَفِيهِ حَدُّ الزِّنَا، (1) قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَفِي وَطْئِهَا حَقَّانِ، حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَفِيهِ ثَلاَثُ حُقُوقٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَأَقَارِبُ يَلْحَقُهُمُ الْعَارُ بِذَلِكَ صَارَ فِيهِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ صَارَ فِيهِ خَمْسَةُ حُقُوقٍ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ سَبِيل إِلَى حِلِّهِ أَلْبَتَّةَ، كَاللِّوَاطَةِ وَوَطْءِ الْحَلِيلَةِ أَوِ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا وَوَطْءِ الْبَهِيمَةِ. وَإِنَّ مِنْ أَفْحَشِ صُوَرِهِ وَأَفْظَعِهَا وَطْءَ الْمَحَارِمِ (2) .
(أَ) الْوَطْءُ الْمَشْرُوعُ:
أَسْبَابُهُ:
5 - أَسْبَابُ حِل الْوَطْءِ أَمْرَانِ: عَقْدُ النِّكَاحِ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ.
فَأَمَّا النِّكَاحُ، فَقَدْ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَجَعَل حِل الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَهَمَّ
__________
(1) زاد المعاد 4 / 264، 265، وقواعد الأحكام ص532، 533، 544.
(2) زاد المعاد 4 / 264 - 265.(44/13)
أَحْكَامِهِ الأَْصْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تَحِل لِزَوْجِهَا فَزَوْجُهَا يَحِل لَهَا. . وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إِلاَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالإِْحْرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ، لأَِنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا، كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى:؟ {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (2) } .
وَفِي مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ وَحِكْمَتِهِ (ر: نِكَاح ف7) .
وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَطْءِ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَالتَّسَرِّي بِهَا، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى عَقْدِ نِكَاحٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ. (ر: تَسَرِّي ف 6 - 7)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ وَطْءِ الْحَلِيلَةِ - الزَّوْجَةِ أَوِ السُّرِّيَّةِ - فِي الأَْصْل هُوَ الإِْبَاحَةُ، إِذْ هُوَ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا الطِّبَاعُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ فِي ذَاتِهِ (3) .
__________
(1) بدائع الصناع 2 / 331، وأنيس الفقهاء للقونوي 145.
(2) سورة المؤمنون / 5 - 7.
(3) أحكام القرآن للجصاص 5 / 92، والمفهم للقرطبي 3 / 51، وجامع العلوم والحكم 2 / 65، والمبين المعين للملا علي القاري ص142، وفتح المبين للهيتمي ص205، 206، ودليل الفالحين 1 / 350.(44/13)
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الاِسْتِحْبَابُ إِذَا قَارَنَتْهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، كَالاِسْتِعْفَافِ بِالْحَلاَل عَنِ الْحَرَامِ، وَالاِنْقِطَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَطَلَبِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُول النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمُبَاحَاتِ تَصِيرُ طَاعَاتٍ بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَاتِ، فَالْجِمَاعُ يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاءَ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَافَ الزَّوْجَةِ، وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حَرَامٍ أَوِ الْفِكْرِ فِيهِ أَوِ الْهَمِّ بِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ (2) .
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ وَسِيلَةً لإِِعْفَافِ النَّفْسِ أَوْ إِعْفَافِ الأَْهْل عَنِ الْحَرَامِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّحْرِيمُ كَمَا فِي وَطْءِ الْحَائِضِ أَوِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ أَوْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِوَصْفٍ يَقْتَضِيهَا (3) .
__________
(1) النووي على مسلم 7 / 92، والمبين المعين ص141، وفتح المبين ص205، والمفهم للقرطبي 3 / 51، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ص332.
(2) النووي على مسلم 7 / 92.
(3) فليوبي وعميرة 4 / 373، والزرقاني على خليل 8 / 79، وبدائع الصنائع 2 / 331، وجواهر الإكليل 2 / 284، وزاد المعاد 4 / 264، ومجموع فتاوى ابن تيمية 32 / 271، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص246، وقواعد الأحكام ص544.(44/14)
مَقَاصِدُ الْوَطْءِ الشَّرْعِيَّةُ:
7 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا الْجِمَاعُ وَالْبَاهُ، فَكَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَكْمَل هَدْيٍ، يَحْفَظُ بِهِ الصِّحَّةَ، وَتَتِمُّ بِهِ اللَّذَّةُ وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَيُحَصِّل بِهِ مَقَاصِدَهُ الَّتِي وُضِعَ لأَِجْلِهَا، فَإِنَّ الْجِمَاعَ وُضِعَ فِي الأَْصْل لِثَلاَثَةِ أُمُورٍ هِيَ مَقَاصِدُهُ الأَْصْلِيَّةُ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ النَّسْل وَدَوَامُ النَّوْعِ إِلَى أَنْ تَتَكَامَل الْعِدَّةُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ بُرُوزَهَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ.
الثَّانِي: إِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ وَاحْتِقَانُهُ بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ.
الثَّالِثُ: قَضَاءُ الْوَطَرِ وَنَيْل اللَّذَّةِ وَالتَّمَتُّعُ بِالنِّعْمَةِ. وَهَذِهِ وَحْدَهَا هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ، إِذْ لاَ تَنَاسُل هُنَاكَ، وَلاَ احْتِقَانَ يَسْتَفْرِغُهُ الإِْنْزَال. ثُمَّ قَال: وَمِنْ مَنَافِعِهِ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ النَّفْسِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْعِفَّةِ عَنِ الْحَرَامِ، وَتَحْصِيل ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، فَهُوَ يَنْفَعُ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَيَنْفَعُ الْمَرْأَةَ (1) .
__________
(1) زاد المعاد 4 / 249، 250، وانظر الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 385، وقواعد الأحكام (ص53 ط. دار الطباع بدمشق) .(44/14)
ثَوَابُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ:
8 - وَرَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. (1) قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَال: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَل كَانَ لَهُ أَجْرٌ (2) .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى ثَوَابِ الرَّجُل عَلَى جِمَاعِهِ لِحَلِيلَتِهِ إِذَا قَارَنَتْهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ كَإِعْفَافِ نَفْسِهِ أَوْ حَلِيلَتِهِ عَنْ إِتْيَانِ مُحَرَّمٍ، أَوْ قَضَاءِ حَقِّهَا مِنْ مُعَاشَرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ طَلَبِ وَلَدٍ صَالِحٍ يُوَحِّدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقُومُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الإِْسْلاَمِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْغْرَاضِ الْمَبْرُورَةِ (3) .
9 - أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ الْمُجَامِعُ غَيْرَ قَضَاءِ شَهْوَتِهِ
__________
(1) أي فيه أجر وحسنة مثل ماله في الصدقة إذا تصدق بها. (انظر بهجة النفوس 4 / 169) قال ابن حجر الهيتمي: وتسميته صدقة من مجاز المشابهة، أي إن له أجرا كأجر الصدقة في الجنس، لأن الجميع صادر عن رضا الله تعالى مكافأة على طاعته. (فتح المبين ص205) .
(2) حديث: " وفي بضع أحدكم صدقة ". أخرجه مسلم (2 / 697 - 698) .
(3) فتح المبين للهيتمي ص205، والمبين المعين للملا علي القاري ص141، وجامع العلوم والحكم 2 / 62، والنووي على مسلم 7 / 92، ودليل الفالحين 1 / 349، والمغني 10 / 241.(44/15)
وَنَيْل لَذَّتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثَوَابِ جِمَاعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِبَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ مَال ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ يُثَابُ وَيُؤْجَرُ فِي جِمَاعِ حَلِيلَتِهِ مُطْلَقًا دُونَ أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا (1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ (2) حَيْثُ دَل ظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ عَلَى أَنَّ الإِْنْسَانَ يُؤْجَرُ فِي جِمَاعِ حَلِيلَتِهِ مُطْلَقًا، إِذْ إِنَّهُ كَمَا يَأْثَمُ فِي الزِّنَا الْمُضَادِّ لِلْوَطْءِ الْحَلاَلِ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِي فِعْل الْحَلاَل (3) .
وَالثَّانِي: لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ - مَال إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ - وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِجِمَاعِ حَلِيلَتِهِ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ زَوْجِهِ أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ فَلاَ أَجْرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَطْءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ التَّصْرِيحِ بِالاِحْتِسَابِ لِنَيْل الثَّوَابِ، وَنَصُّهَا: قُلْتُ: نَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ قَال: أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي حَرَامٍ أَكُنْتَ تَأْثَمُ؟ قَال: قُلْتُ: نَعَمْ. قَال: فَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلاَ تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ؟ (4) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم 2 / 62، 65، 66، وفتح المبين ص205، والمبين المعين ص142.
(2) حديث: " وفي بعض أحدكم. . . " (سبق تخريجه ف8) .
(3) جامع العلوم والحكم 2 / 66.
(4) حديث: " نأتي شهوتنا ونؤجر؟ . . . " أخرجه أحمد (5 / 154) .(44/15)
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ (1) .
وَوَرَدَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً " (2) . فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا (3) . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الإِْنْفَاقِ الْوَاجِبِ مُشْتَرَطًا، فَأَوْلَى فِي الْجِمَاعِ الْمُبَاحِ (4) .
آدَابُ الْوَطْءِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ:
10 - لَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ لِلْوَطْءِ آدَابًا وَمُسْتَحَبَّاتٍ، فَقَالُوا:
أَ - يُسْتَحَبُّ الْبَدَاءَةُ بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:؟ {وَقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ (5) } قَال عَطَاءٌ: هُوَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ (6) .
__________
(1) حديث: " لست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 109) ومسلم (3 / 1251) .
(2) حديث: " إذا أنفق المسلم نفقة على أهله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 97) ومسلم (2 / 795) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(3) جامع العلوم والحكم 2 / 63.
(4) فتح المبين ص206.
(5) سورة البقرة / 223.
(6) المغني 10 / 231، وكشاف القناع 5 / 216، جواهر الإكليل 1 / 17، ومختصر منهاج القاصدين ص104، وبهجة النفوس 3 / 235، والمفهم للقرطبي 4 / 159، والمدخل لابن الحاج 2 / 186، وإحياء علوم الدين 2 / 46، وانظر عشرة النساء للمناوي ص87، وتفسير القرطبي 3 / 96، والأذكار للنووي ص252.(44/16)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَال: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا (1) .
ب - كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الاِنْحِرَافُ عَنِ الْقِبْلَةِ، فَلاَ يَسْتَقْبِلْهَا بِالْوِقَاعِ إِكْرَامًا لَهَا (2) .
ج - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُلاَعَبَةِ وَالضَّمِّ وَالتَّقْبِيل (3) . فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُوَاقَعَةِ قَبْل الْمُلاَعَبَةِ (4) . وَذَلِكَ لِتَنْهَضَ شَهْوَتُهَا، فَتَنَال مِنْ
__________
(1) حديث: " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 337) ومسلم (2 / 1058) واللفظ لمسلم.
(2) المجموع 2 / 80، وجواهر الإكليل 1 / 18، والمغني 10 / 232، وكشاف القناع 5 / 216، وإحياء علوم الدين 2 / 46، وإتحاف السادة المتقين 5 / 372.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 389، والمغني 10 / 232، والإحياء 2 / 46، ومختصر منهاج القاصدين ص104، وإتحاف السادة المتقين 5 / 372، وكشاف القناع 5 / 216، والمدخل لابن الحاج 2 / 186.
(4) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة ". أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13 / 221 - ط الخانجي) ، وترجم الذهبي لأحد رواته في ميزان الاعتدال (1 / 662 - ط الحلبي) ونقل عن الخليلي أنه قال عنه: ضعيف جدا، روى متونا لا تعرف. وعن الحاكم أنه أسقط حديثه بروايته لهذا الحديث.(44/16)
لَذَّةِ الْجِمَاعِ مِثْل مَا نَالَهُ (1) .
د - وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل مُرَاعَاةُ التَّوَافُقِ مَعَ حَلِيلَتِهِ فِي قَضَاءِ الْوَطَرِ، لأَِنَّ فِي تَعَجُّلِهِ فِي قَضَاءِ وَطَرِهِ قَبْل قَضَاءِ حَاجَتِهَا ضَرَرًا عَلَيْهَا وَمَنْعًا لَهَا مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا (2) .
فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا، ثُمَّ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَبْل أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتَهَا فَلاَ يُعْجِلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا (3) .
قَال الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِذَا قَضَى وَطَرَهُ فَلْيَتَمَهَّل عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى تَقْضِيَ هِيَ أَيْضًا نَهْمَتَهَا، فَإِنَّ إِنْزَالَهَا رُبَّمَا يَتَأَخَّرُ، فَتَهِيجُ شَهْوَتُهَا، ثُمَّ الْقُعُودُ عَنْهَا إِيذَاءٌ لَهَا، وَالاِخْتِلاَفُ فِي طَبْعِ الإِْنْزَال يُوجِبُ التَّنَافُرَ مَهْمَا كَانَ الزَّوْجُ سَابِقًا إِلَى الإِْنْزَالِ، وَالتَّوَافُقُ فِي وَقْتِ الإِْنْزَال أَلَذُّ عِنْدَهَا (4) .
هـ - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَغَطَّى هُوَ وَأَهْلُهُ بِثَوْبٍ (5) ،
__________
(1) المغني 10 / 231.
(2) المغني 10 / 233، وكشاف القناع 5 / 217، وعشرة النساء للمناوي ص89، والمدخل لابن الحاج 2 / 187.
(3) حديث: " إذا جامع أحدكم أهله. . . ". أخرجه أبو يعلى في المسند (7 / 208 - 209 - ط دار المأمون) ، وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (4 / 295) : فيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات.
(4) إحياء علوم الدين 2 / 46، وانظر مختصر منهاج القاصدين ص104.
(5) الإحياء 2 / 46، وإتحاف السادة المتقين 5 / 372، وعشرة النساء للمناوي ص88، والمدخل 2 / 186.(44/17)
حَيْثُ رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلاَ يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُعَرِّيَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ (2) .
و كَمَا يُسْتَحَبُّ غَضُّ الصَّوْتِ وَعَدَمُ الإِْكْثَارِ مِنَ الْكَلاَمِ عِنْدَ الْجِمَاعِ (3) ، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُل وَطْءُ حَلِيلَتِهِ بِحَيْثُ يَرَاهُمَا أَوْ يَسْمَعُ حِسَّهُمَا أَوْ يُحِسُّ بِهِمَا أَحَدٌ غَيْرَ طِفْلٍ لاَ يَعْقِلُ، وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَا مَسْتُورِي الْعَوْرَةِ، وَإِلاَّ حَرُمَ مَعَ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطَأُ الرَّجُل أَمَتَهُ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ كَمَا لاَ يَحِل لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَةِ أَمَتِهِ، وَلاَ بِحَضْرَةِ الضَّرَّةِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُكْرَهُ لِلرَّجُل وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِحَضْرَةِ أَمَتِهِ أَوْ ضَرَّتِهَا (5) .
__________
(1) حديث: " إذا أتى أحجكم أهل فليستتر ". أخرجه ابن ماجه (1 / 619) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 337 - ط دار الجنان) .
(2) الذخيرة 4 / 418.
(3) الإحياء 2 / 46، وإتحاف السادة المتقين 5 / 372، والمغني 10 / 233، 234، وكشاف القناع 5 / 217.
(4) كشاف القناع 5 / 217، والحاوي للماوردي 11 / 431.
(5) فتح القدير 4 / 397، والفتاوى الهندية 5 / 328، ودرر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 416.(44/17)
ز - وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يَغْسِل فَرْجَهُ وَيَتَوَضَّأَ، وَالْغُسْل أَفْضَل (1) ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ (2) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ (3) .
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نِسَائِهِ، يَغْتَسِل عِنْدَ هَذِهِ وَعِنْدَ هَذِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ! أَلاَ تَجْعَلُهُ غُسْلاً وَاحِدًا؟ قَال: هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ (4) .
11 - قَال الْغَزَالِيُّ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَحَبَّ الْجِمَاعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ (5) وَذَلِكَ تَحْقِيقًا لأَِحَدِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 118، ومختصر اختلاف الفقهاء للطحاوي 1 / 176، والنووي على مسلم 3 / 217، والمغني 10 / 233، 334، وكشاف القناع 5 / 218، والإحياء 2 / 47، ومختصر منهاج القاصدين ص104، والحاوي 11 / 430، والمدخل لابن الحاج 2 / 188.
(2) حديث: " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ ". أخرجه مسلم (1 / 249) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ". أخرجه مسلم (1 / 249) .
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه ". أخرجه أبو داود (1 / 149) .
(5) إحياء علوم الدين 2 / 46.(44/18)
التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْل الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ - كَانَ لَهُ بِكُل خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا (1) .
التَّحَدُّثُ عَنِ الْوَطْءِ وَإِفْشَاءُ سِرِّهِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّحَدُّثِ عَنِ الْوَطْءِ وَإِفْشَاءِ سِرِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ - قَال عَنْهُ الْمَرْدَاوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ - وَالنَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْمُفَاخَرَةُ بِالْجِمَاعِ وَإِفْشَاءُ الرَّجُل مَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُل يُفْضِي (2) إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا (3) .
وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشِّيَاعُ حَرَامٌ (4) . قَال ابْنُ
__________
(1) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة ". أخرجه الترمذي (2 / 368) من حديث أوس بن أوس، وقال: حديث حسن.
(2) أي يصل، وهو كناية عن الجماع، كما في قوله تعالى: ? وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". (المفهم للقرطبي 4 / 161) .
(3) حديث: " إن من أشر الناس عند الله منزلة ". أخرجه مسلم (2 / 1060) .
(4) حديث: الشياع حرام ". أخرجه أحمد (3 / 29) وأبو يعلى في المسند (2 / 529 - ط دار المأمون) من حديث أبي سعيد، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 295) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه دراج وثقه ابن معين وضعفه جماعة.(44/18)
لَهِيعَةَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِالْجِمَاعِ.
وَعَدَّهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالْهَيْتَمِيُّ وَابْنُ عِلاَّنَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحَدُّثُ الزَّوْجَيْنِ بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَلَوْ لِضَرَّتِهَا.
وَهَذَا مَا عَزَاهُ الْهَيْتَمِيُّ إِلَى النَّوَوِيِّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَال: مَحَل الْحُرْمَةِ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ حَلِيلَتَهُ بِمَا يَخْفَى كَالأَْحْوَال الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ، وَالْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَا لاَ يَخْفَى مُرُوءَةً، وَمِنْهُ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْجِمَاعِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ (1) .
مَوَانِعُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ:
مَوَانِعُ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ تِسْعَةٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا: وَهِيَ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالاِعْتِكَافُ وَالصَّوْمُ وَالإِْحْرَامُ وَالظِّهَارُ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلاَثَةٍ مِنْهَا: وَهِيَ الاِسْتِحَاضَةُ، وَعَدَمُ الاِغْتِسَال بَعْدَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، وَالإِْقَامَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 233، والإنصاف 8 / 360، وكشاف القناع 5 / 194، والزواجر 2 / 29، 30، ودليل الفالحين 3 / 153 - 154، وشرح النووي على مسلم 10 / 260.(44/19)
أَوَّلاً: الْحَيْضُ:
13 - اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (2) } . وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي شَأْنِ الاِسْتِمْتَاعِ بِالْحُيَّضِ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ وَلِمَعْرِفَةِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَحُكْمِ مُسْتَحِل وَطْءِ الْحَائِضِ. (ر. حَيْض ف42 - 44) .
ثَانِيًا: النِّفَاسُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ النُّفَسَاءِ فِي الْفَرْجِ، وَأَنَّ حُكْمَ دَمِ النِّفَاسِ (4) فِي حَظْرِ الْوَطْءِ وَفِي اقْتِضَاءِ الْغُسْل بَعْدَهُ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ - حُكْمُ الْحَيْضِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلاَفًا (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 57، والمجموع للنووي 2 / 359، والحاوي للماوردي 1 / 471، وبداية المجتهد 1 / 56، والمغني 1 / 386، والذخيرة للقرافي 1 / 376، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 92.
(2) سورة البقرة / 222.
(3) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". أخرجه مسلم (1 / 246) من حديث أنس بن مالك.
(4) وهو الدم الخارج من الفرج بسبب الولادة من غير مرض خارج عنها. (عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 1 / 99) .
(5) رد المحتاج 1 / 199، 200، وتبيين الحقائق 1 / 68، والذخيرة 1 / 375، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 92، والحاوي للماوردي 1 / 534، والمجموع 2 / 520.(44/19)
(ر: حَيْض ف 42 - 44)
ثَالِثًا: الاِسْتِحَاضَةُ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ. وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُول.
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ (1) } . وَهَذِهِ طَاهِرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَ زَوْجُهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُجَامِعُهَا، وَأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَغْشَاهَا (2) ، وَقَدْ سَأَلَتَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) سورة البقرة / 222.
(2) حديثا: " إن حمنة بنت جحش، وأم حبيبة كانتا تستحاضان ". أخرجهما أبو داود (1 / 216) من حديث عكرمة مرسلا.(44/20)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَحْكَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَلَوْ كَانَ وَطْؤُهَا حَرَامًا لَبَيَّنَهُ لَهُمَا. وَلأَِنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ كَالطَّاهِرِ فِي الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ، وَلأَِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، فَلَمْ يَمْنَعِ الْوَطْءَ كَالنَّاسُورِ، وَلأَِنَّ التَّحْرِيمَ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمٍ فِي حَقِّهَا، بَل وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَابْنُ عُلَيَّةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْعَنَتِ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " الْمُسْتَحَاضَةُ لاَ يَغْشَاهَا زَوْجُهَا " (2) . وَلأَِنَّ بِهَا أَذًى فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا كَالْحَائِضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ وَطْءَ الْحَائِضِ مُعَلِّلاً بِالأَْذَى بِقَوْلِهِ: {قُل هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ (3) } .
فَأَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ عَقِيبَ الأَْذَى مَذْكُورًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَلأَِنَّ الْحُكْمَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ وَصْفٍ يَقْتَضِيهِ وَيَصْلُحُ لَهُ عُلِّل بِهِ، وَالأَْذَى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً
__________
(1) رد المحتار 1 / 198، وتبيين الحقائق 1 / 68، والمجموع 2 / 372، والذخيرة 1 / 390، وجواهر الإكليل 1 / 31، وبداية المجتهد 1 / 63، وكشاف القناع 1 / 251، والمغني 1 / 421 - ط هجر.
(2) أثر عائشة: " المستحاضة لا يغشاها زوجها ". أخرجه البيهقي في السنن (1 / 329) .
(3) سورة البقرة / 222.(44/20)
فَيُعَلَّل بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهَا (1) .
رَابِعًا: الاِعْتِكَافُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي الاِعْتِكَافِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لَهُ لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَارًا إِذَا كَانَ عَامِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (2) } .
(وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي اعْتِكَاف ف27) .
خَامِسًا: الصَّوْمُ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ عَمْدًا عَلَى الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، وَمُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، حَيْثُ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، هَلَكْتُ! قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ. قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، فَقَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا. قَال:
__________
(1) المغني 1 / 420 - ط هجر، وكشاف القناع 1 / 217، والذخيرة 1 / 390، والمجموع 2 / 372.
(2) سورة البقرة / 178.(44/21)
خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرِ مِنِّي يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - أَيِ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتِ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (1) .
(ر: صَوْم ف 68، 89) .
سَادِسًا: الإِْحْرَامُ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِنُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ (2) } . حَيْثُ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الرَّفَثِ: أَنَّهُ مَا قِيل عِنْدَ النِّسَاءِ مِنْ ذِكْرِ الْجِمَاعِ وَقَوْل الْفُحْشِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ الآْيَةُ دَلِيلاً عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ دَلاَلَةِ النَّصِّ، أَيْ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
كَمَا فُسِّرَ الرَّفَثُ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ الآْيَةُ نَصًّا فِيهِ (3) .
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ جِنَايَةٌ تُفْسِدُ النُّسُكَ، إِذَا كَانَ الْوَطْءُ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163) ومسلم (2 / 781 - 782) واللفظ للبخاري.
(2) سورة البقرة / 197.
(3) تفسير البغوي 1 / 226، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 133.(44/21)
قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلاَ يُفْسِدُهُ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل.
(وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي إِحْرَام ف 170 - 171) .
سَابِعًا: الظِّهَارُ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ الْمَظَاهَرِ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا (1) } ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَلاَ تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ (2) .
فَقَدْ أَمَرَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالاِسْتِغْفَارِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ، فَدَل هَذَا عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْوِقَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَكَانَ دَلِيلاً عَلَى حُرْمَةِ الْوِقَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 3.
(2) حديث ابن عباس: " أن رجلا ظاهر من امرأته. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 666) والترمذي (3 / 493) ، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح، وذكر الزيلعي في نصب الراية (3 / 246 - 247) طرق الحديث ثم قال: ولم أجد ذكر الاستغفار في شيء من طرق الحديث.(44/22)
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ.
(ر: ظِهَار ف 22) .
ثَامِنًا: وَطْءُ الْمُسْلِمِ حَلِيلَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَطَأَ حَلِيلَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَسْلٌ؛ لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّوَطُّنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ " قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَال: لاَ تَرَاءَى نَارُهُمَا (1) .
وَإِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِيهَا فَيَتَخَلَّقُ وَلَدُهُ بِأَخْلاَقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلأَِنَّ مَوْطُوءَتَهُ إِذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ مَلَكُوهَا مَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَطَأُ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ فِي دَارِ
__________
(1) حديث: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ". أخرجه الترمذي (4 / 155) من حديث جرير بن عبد الله ثم نقل عن البخاري أنه صحح إرساله من حديث قيس بن أبي حازم.(44/22)
الْحَرْبِ نَصًّا إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَا وُجِدَتِ الضَّرُورَةُ يَجِبُ الْعَزْل (1) .
(ب) الْوَطْءُ الْمَحْظُورُ
لِلْوَطْءِ الْمَحْظُورِ صُوَرٌ: مِنْهَا الزِّنَا، وَاللِّوَاطَةُ، وَوَطْءُ الْحَلِيلَةِ وَالأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا، وَوَطْءُ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءُ الْبَهِيمَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الزِّنَا:
21 - الزِّنَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ (2) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (3) } .
(ر: زِنًا ف 5) .
ثَانِيًا: اللِّوَاطُ:
22 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللِّوَاطَ مُحَرَّمٌ مُغَلَّظُ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ (4) . قَال
__________
(1) المبسوط 10 / 74 - 75، والدر المختار مع رد المحتار 2 / 289، والخرشي 3 / 226، وأسنى المطالب 30 / 161، ومغني المحتاج 3 / 178، والإنصاف 8 / 14، وشرح المنتهى 3 / 3.
(2) رد المحتار 3 / 141، وفتح القدير 5 / 31، ومغني المحتاج 4 / 143، وحاشة الدسوقي 4 / 313.
(3) سورة الإسراء / 32.
(4) الكبائر للذهبي ص81، والزواجر 2 / 139، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص141، والمغني 12 / 348، ونيل الأوطار 7 / 117.(44/23)
الْمَاوَرْدِيُّ: وَاللِّوَاطُ أَغْلَظُ الْفَوَاحِشِ تَحْرِيمًا (1) .
(ر: لِوَاط ف 3) .
وَجَرِيمَةُ اللِّوَاطِ لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَبْل قَوْمِ لُوطٍ؛ كَمَا قَال عَزَّ وَجَل: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (2) } .
عُقُوبَةُ اللِّوَاطِ:
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَل فِعْل قَوْمِ لُوطٍ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ - الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ - كَالزِّنَا، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَتَى الرَّجُل الرَّجُل فَهُمَا زَانِيَانِ (3) ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى طَبْعًا
__________
(1) الحاوي 17 / 59، وانظر المبسوط 9 / 77، وتحريم الغناء والسماع للطرطوشي ص257.
(2) سورة الأعراف / 80.
(3) حديث: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ". أخرج البيهقي في السنن (8 / 233) ، ثم قال: هو منكر بهذا الإسناد. وذكر ابن حجر في التلخيص (4 / 55) أن في إسناده راويا متهما بالكذب.(44/23)
مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى قُبُل الْمَرْأَةِ، بَل هُوَ أَوْلَى بِالْحَدِّ، لأَِنَّهُ إِتْيَانٌ فِي مَحَلٍّ لاَ يُبَاحُ الْوَطْءُ فِيهِ بِحَالٍ، وَالْوَطْءُ فِي الْقُبُل يُبَاحُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال.
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ كَالزِّنَا (1) .
الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ. وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ أَوْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ، قَتَلَهُ الإِْمَامُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، سِيَاسَةً.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدُّ الزِّنَا، لأَِنَّهُ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُهُ، فَكَانَ كَالاِسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لاَ يُسْتَبَاحُ بِعَقْدٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ حَدٌّ، كَالاِسْتِمْتَاعِ بِمِثْلِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَلأَِنَّ أُصُول الْحُدُودِ لاَ تَثْبُتُ قِيَاسًا. وَأَيْضًا: فَلأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ لاَ تَشْتَهِيهِ الطِّبَاعُ، بَل رَكَّبَهَا اللَّهُ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَزْجُرَ الشَّارِعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ، كَأَكْل الْعَذِرَةِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَشُرْبِ الْبَوْل. . . غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْصِيَةً مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يُقَدِّرِ
__________
(1) الأم 7 / 183، ومغني المحتاج 4 / 144، والحاوي الكبير 17 / 62، وأسنى المطالب 4 / 126، وكشاف القناع 6 / 94، والمغني 12 / 349، ورد المحتار 3 / 155، وتبيين الحقائق 3 / 180، ومجمع الأنهر 1 / 595.(44/24)
الشَّارِعُ فِيهَا حَدًّا مُقَدَّرًا، كَانَ فِيهِ التَّعْزِيرُ (1) .
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ اللِّوَاطِ الرَّجْمُ مُطْلَقًا، فَيُرْجَمُ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَا مُحْصَنَيْنِ أَمْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ. وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ وَرَبِيعَةَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ (2) .
وَبِأَنَّهُ إِيلاَجٌ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ يُقْصَدُ الاِلْتِذَاذُ بِهِ غَالِبًا كَالْقُبُلِ، فَكَانَ الرَّجْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ كَالْمَرْأَةِ، وَلأَِنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا إِنَّمَا وُضِعَ زَجْرًا وَرَدْعًا لِئَلاَّ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ، وَوَجَدْنَا الطِّبَاعَ تَمِيل إِلَى الاِلْتِذَاذِ بِإِصَابَةِ هَذَا الْفَرْجِ كَمَيْلِهَا إِلَى الْقُبُلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرَّدْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُبُلِ، بَل إِنَّ هَذَا أَشَدُّ وَأَغْلَظُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الإِْحْصَانُ كَمَا اعْتُبِرَ الزِّنَا، إِذِ الْمَزْنِيُّ بِهَا جِنْسٌ مُبَاحٌ وَطْؤُهَا،
__________
(1) رد المحتار 3 / 155، وفتح القدير مع الكفاية والعناية 5 / 43، 44، والمبسوط 9 / 77 - 79، والحاوي للماوردي 17 / 60، ومجمع الأنهر 1 / 595، وتبيين الحقائق 3 / 180، والمحلى 11 / 382، والمغني 12 / 350.
(2) حديث: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ". أخرجه الترمذي (4 / 57) والحاكم (4 / 355) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(44/24)
وَإِنَّمَا أُتِيَتْ عَلَى خِلاَفِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَالذَّكَرُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَطْؤُهُ، فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا (1) .
الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَل اللُّوطِيُّ بِالسَّيْفِ كَالْمُرْتَدِّ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ.
قَال ابْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ هَذَا سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ. حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بَيْنَ مُحْصَنٍ وَغَيْرِ مُحْصَنٍ. وَلأَِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّمَا تَغَلَّظَتْ، تَغَلَّظَتْ عُقُوبَتُهَا، وَوَطْءُ مَنْ لاَ يُبَاحُ بِحَالٍ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ وَطْءِ مَنْ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَالِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ حَدُّهُ أَغْلَظَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 320، والخرشي 8 / 82، والقوانين الفقهية ص360، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 3 / 1400، والكافي لابن عبد البر ص574، والمغني 12 / 349، والإنصاف 10 / 176، وتحريم الغناء والسماع للطرطوشي ص257، والزواجر 2 / 142، والحاوي للماوردي 17 / 61 - 62، وسنن البيهقي 8 / 232.
(2) روضة المحبين ص372.
(3) الحاوي الكبير 17 / 62، ومغني المحتاج 4 / 144، والزواجر 2 / 142، وسنن الترمذي مع العارضة 6 / 241، والمغني 12 / 349.(44/25)
الْخَامِسُ: يُحْرَقُ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِالنَّارِ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ رَوَى صَفْوَانُ بْنُ سَلِيمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلاً يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ فِيهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلاً فِيهِ، فَقَال: مَا فَعَل هَذَا إِلاَّ أُمَّةٌ مِنَ الأُْمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَل اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ فَحَرَقَهُ.
وَنَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ رَأَى الإِْمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ فَلَهُ ذَلِكَ (1) .
السَّادِسُ: يُعْلَى اللُّوطِيُّ أَعْلَى الأَْمَاكِنِ مِنَ الْقَرْيَةِ ثُمَّ يُلْقَى مَنْكُوسًا فَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً (3) } .
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثَالِثًا: وَطْءُ الْحَلِيلَةِ فِي الدُّبُرِ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى
__________
(1) المغني 12 / 349 - 350، والإنصاف 10 / 177، والمبسوط 9 / 78 - 79.
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 79، والحاوي 17 / 61.
(3) سورة هود / 82.(44/25)
حُرْمَةِ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ أَوِ الأَْمَةِ فِي دُبُرِهَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُوسٌ وَالثَّوْرِيُّ (1) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ (2) . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَطْءُ الْحَلِيلَةِ فِي الدُّبُرِ لَمْ يُبَحْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ (3) .
وَقَدْ نَصَّ جَمْعٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، مِنْهُمُ ابْنُ النَّحَّاسِ وَالْهَيْتَمِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ (4) .
25 - وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِي وَطْئِهَا، لأَِنَّ كَوْنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الأَْمَةِ مَحَل اسْتِمْتَاعِ الرَّجُل فِي الْجُمْلَةِ أَوْرَثَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَلَكِنَّهُ
__________
(1) العناية على الهداية 5 / 43، ومغني المحتاج 4 / 144، وتحفة المحتاج 9 / 104، وكشاف القناع 6 / 95، والذخيرة 4 / 416، والحاوي للماوردي 11 / 433، وأعلام الموقعين 4 / 345، 346، وأسنى المطالب 4 / 126، والخرشي 8 / 76، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 215، 4 / 311، ومختصر الفتاوى المصرية ص427، 490، والإرشاد للأفقهسي 1 / 626، والمدخل لابن الحاج 2 / 192 وما بعدها، وشرح معاني الآثار 3 / 46، والمغني 10 / 226.
(2) الحاوي 11 / 433.
(3) زاد المعاد 4 / 257.
(4) الزواجر 2 / 30، وإعلام الموقعين 4 / 402، تنبيه الغافلين لابن النحاص 248، والدقوسي 4 / 313، 2 / 215.(44/26)
يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلاَ تَعْزِيرَ. وَقَال الْهَيْتَمِيُّ: وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِمَا بَعْدَ مَنْعِ الْحَاكِمِ لَهُ، وَالأَْوَّل أَوْجَهُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَطَاوَعَتْهُ فِي دُبُرِهَا، وَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَا عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَعْزِيرِيَّةً تَزْجُرُهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِيَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ يَفْجُرُ بِهِ (2) . وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شُرْطِيَّ الْمَدِينَةِ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا. فَقَال لَهُ: أَرَى أَنْ تُوجِعَهُ ضَرْبًا فَإِنْ عَادَ إِلَى ذَلِكَ فَفَرِّقْ بَيْنَهُمَا (3) .
أَدِلَّةُ اللِّوَاطِ:
26 - وَقَدِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ هَذِهِ الْفِعْلَةِ وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ بِالْمَنْقُول وَالْمَعْقُول:
__________
(1) رد المحتار 3 / 155، وبدائع الفوائد 4 / 100، وتحفة المحتاج 9 / 104، ومغني المحتاج 4 / 144، والخرشي 8 / 76، وروضة الطالبين 10 / 91، والعناية على الهداية 5 / 43، وأسنى المطالب 4 / 126، والحاوي للماوردي 11 / 442، والمغني 10 / 228.
(2) مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص37، 491، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 3 / 174، والاختيارات الفقهية ص246.
(3) المدخل لابن الحاج 2 / 198.(44/26)
فَأَمَّا الْمَنْقُول: فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَل اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا (2) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ (3) .
وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. . . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ (4) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: َلأَِنَّهُ إِتْيَانٌ فِي دُبُرٍ، فَوَجَبَ أَنْ
__________
(1) حديث: " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 243) ثم نقل عن البخاري أنه ضعف إسناده، والرواية الأخرى لأبي داود (4 / 226) .
(2) حديث: " معلون من أتى امرأة في دبرها ". أخرجه أحمد (2 / 479) .
(3) حديث: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ". أخرجه الترمذي (4 / 460) وقال: حديث حسن غريب.
(4) حديث خزيمة بن ثابت: " إن الله لا يستحي من الحق ". أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5 / 316 - ط العلمية) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 253 - ط دار ابن كثير) : رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد أحدها جيد.(44/27)
يَكُونَ مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ (1) . قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنَّ الدُّبُرَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَلَمْ يُخْلَقْ لَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُيِّئَ لَهُ الْفَرْجُ، فَالْعَادِلُونَ عَنْهُ إِلَى الدُّبُرِ خَارِجُونَ عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ جَمِيعًا (2) .
وَلأَِنَّ الدُّبُرَ مَحَل أَذًى، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ الإِْصَابَةُ فِيهِ كَالْحَيْضِ (3) ، بَل هُوَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، لأَِنَّ الأَْذَى فِي الْحَيْضِ عَارِضٌ، أَمَّا الأَْذَى فِيهِ فَهُوَ لاَزِمٌ دَائِمٌ (4) . قَال ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ: قَال عُلَمَاؤُنَا: إِذَا مُنِعَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فِي حَال الْحَيْضِ مِنْ أَجْل الأَْذَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ (5) } ، وَهِيَ أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الشَّهْرِ غَالِبًا، فَمَا بَالُكَ بِمَوْضِعٍ لاَ تُفَارِقُهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ (6) ؟ وَلأَِنَّ لِلْمَرْأَةِ حَقًّا عَلَى الزَّوْجِ فِي الْوَطْءِ، وَوَطْؤُهَا فِي دُبُرِهَا يُفَوِّتُ حَقَّهَا، وَلاَ يَقْضِي وَطَرَهَا، وَلاَ يُحَصِّل مَقْصُودَهَا، بَل يَضُرُّهَا لِتَحْرِيكِ بَاعِثِ شَهْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنَال غَرَضَهَا (7) .
__________
(1) الحاوي للماوردي 11 / 437.
(2) زاد المعاد 4 / 262.
(3) زاد المعاد 4 / 262.
(4) زاد المعاد 4 / 262.
(5) سورة البقرة / 222.
(6) المدخل 2 / 194.
(7) المدخل 2 / 194، وزاد المعاد 4 / 264.(44/27)
وَلاِنْدِرَاجِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ (1) } . قَال الْقَرَافِيُّ: وَتَلَطُّخُ الإِْنْسَانِ بِالْعَذِرَةِ مِنَ الدُّبُرِ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ، وَلاَ يَمِيل إِلَى ذَلِكَ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ إِلاَّ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ، خَسِيسَةُ الطَّبْعِ، بَهِيمَةُ الأَْخْلاَقِ، وَالنُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ (2) .
27 - وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَنَافِعٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلٍ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ - أَنَّ إِتْيَانَ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا حَلاَلٌ (3) ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (4) } (5) .
__________
(1) سورة الأعراف / 157.
(2) الذخيرة 4 / 418.
(3) المغني 10 / 226، والحاوي للماوردي 11 / 433، والتلخيص الحبير 3 / 181 - 182، والمدخل لابن الحاج 2 / 192، وشرح معاني الآثار 3 / 40 وما بعدها، والأشراف لابن المنذر ص157، ومواهب الجليل 3 / 407، وتفسير القرطبي 3 / 93.
(4) سورة البقرة / 223.
(5) حديث ابن عمر أن رجلا أتى امرأة في دبرها. أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5 / 316 - ط العلمية) .(44/28)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (1) } .
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يَتَأَوَّل فِيهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (2) } . حَيْثُ قَال: فَتَقْدِيرُهُ: تَتْرُكُونَ مِثْل ذَلِكَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، وَلَوْ لَمْ يُبَحْ مِثْل ذَلِكَ مِنَ الأَْزْوَاجِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَوْضِعِ الآْخَرِ مِثْلاً لَهُ حَتَّى يُقَال تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَتَتْرُكُونَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُبَاحِ (3) .
28 - وَقَدْ رَدَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ الأُْولَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (4) } ، بِأَنَّ " أَنَّى " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى " مِنْ أَيْنَ " لاَ بِمَعْنَى " أَيْنَ "، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مِنْ أَيْنَ شِئْتُمْ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا (5) } ، بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ قَال لِنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: قَدْ أَكْثَرَ عَلَيْكَ الْقَوْلُ، أَنَّكَ تَقُول عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ
__________
(1) سورة المؤمنون / 5.
(2) سورة الشعراء / 165.
(3) تفسير القرطبي 3 / 93 - 94.
(4) سورة البقرة / 223.
(5) سورة آل عمران / 37.(44/28)
يُؤْتَى النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهَا، قَال نَافِعٌ: لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكَ كَيْفَ كَانَ الأَْمْرُ، إِنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَال: يَا نَافِعُ، هَل تَدْرِي مَا أَمْرُ هَذِهِ الآْيَةِ؟ إِنَّا كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نُجَبِّي النِّسَاءَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الأَْنْصَارِ أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مِثْل مَا كُنَّا نُرِيدُ مِنْ نِسَائِنَا، فَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) .
وَقَال ابْنُ الْحَاجِّ: الدُّبُرُ اسْمٌ لِلظَّهْرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (2) } ، وَقَال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ (3) } ، أَيْ ظَهْرَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُؤْتَى مِنْ قُبُلٍ وَمِنْ دُبُرٍ. يَعْنِي: أَنَّهَا تُؤْتَى مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا فِي قُبُلِهَا (4) .
وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ سَائِلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَلاَلٌ، ثُمَّ دَعَاهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَقَال: كَيْفَ قُلْتَ؟ فِي أَيِّ الْخُرْبَتَيْنِ أَوْ فِي أَيِّ الْخُرْزَتَيْنِ، أَوْ فِي
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 92 - 93، والمحلى 10 / 269. وأثر ابن عمر أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5 / 315 - ط العلمية) .
(2) سورة القمر / 45.
(3) سورة الأنفال / 16.
(4) المدخل 2 / 194.(44/29)
الْخُصْفَتَيْنِ؟ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ، أَمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلاَ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ (1) .
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جَوَازِ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، وَقَال فِيهِ: وَهَل يَفْعَل ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ كَمَا أَنْكَرَ ابْنُهُ سَالِمٌ نَقْل الإِْبَاحَةِ عَنْ أَبِيهِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ "، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ بِنَصِّهِ (2) .
وَمَا نُسِبَ لِمَالِكٍ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَكْسُ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَال مَالِكٌ لاِبْنِ وَهْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ لَمَّا أَخْبَرَاهُ: أَنَّ نَاسًا بِمِصْرَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ ذَلِكَ، فَنَفَرَ مِنْ ذَلِكَ وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيبِ النَّاقِلِ، فَقَال: كَذَبُوا عَلَيَّ، كَذَبُوا عَلَيَّ، كَذَبُوا عَلَيَّ! ثُمَّ قَال: أَلَسْتُمْ عَرَبًا، أَلَمْ يَقُل اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وَهَل يَكُونُ الْحَرْثُ إِلاَّ فِي مَوْضِعِ الْمَنْبَتِ (3) .
وَبِذَلِكَ ثَبَتَ بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ
__________
(1) حديث خزيمة بن ثابت: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن. . . أخرجه الشافعي في الأم (10 / 322 - ط دار ابن قتيبة) وعنه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7 / 196) ثم نقل البيهقي عن الشافعي توثيق روايته.
(2) شرح معاني الآثار 3 / 42، وتفسير القرطبي 3 / 93 - 95، وتهذيب ابن القيم لمختصر سنن أبي داود 3 / 78، والمحلى 10 / 69.
(3) الذخيرة 4 / 416، وتفسير القرطبي 3 / 94 - 95.(44/29)
تَحْرِيمُ إِتْيَانِ الْحَلِيلَةِ فِي دُبُرِهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلاَلُهُمْ بِالآْيَةِ الثَّانِيَةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي فَرْجِهَا دُونَ دُبُرِهَا.
وَأَمَّا تَأْوِيل مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ لِلآْيَةِ، فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الآْيَةِ: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (1) } مِمَّا قَدْ أَحَل لَكُمْ مِنْ جِمَاعِهِنَّ فِي فُرُوجِهِنَّ، وَقَالُوا: هَذَا التَّأْوِيل أَوْلَى مِنْ تَأْوِيل مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَل بِهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) .
رَابِعًا: وَطْءُ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا، وَأَنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا (3) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ (4) . وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَلْعُونٌ مَنْ
__________
(1) سورة الشعراء / 166.
(2) شرح معاني الآثار 3 / 45، وتفسير القرطبي 3 / 94.
(3) الزواجر 2 / 140، والهداية مع الفتح 5 / 43، وكشاف القناع 6 / 95.
(4) حديث: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " تقدم تخريجه فقرة (24) .(44/30)
أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا (1) .
30 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ مُرْتَكِبِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِ حَدَّ الزِّنَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا، إِذْ هُوَ قَضَاءٌ لِشَهْوَةٍ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى، عَلَى سَبِيل الْكَمَالِ، عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا، بِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ (2) .
الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ فِي مُوجِبِهِ مِنَ الإِْحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الأَْحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الأَْنْسَابِ،
__________
(1) حديث: " معلون من أتى امرأة في دبرها ". تقدم تخريجه، فقرة (24) .
(2) تحريم الغناء والسماع للطرطوشي ص257، 258، وكشاف القناع 6 / 95، والمغني لابن قدامة 12 / 340، وشرح منتهى الإرادات 3 / 345، ورد المحتار 3 / 155، والهداية مع فتح القدير 5 / 43، والحاوي الكبير 11 / 442، ومغني المحتاج 4 / 144، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 314، وشرح الخرشي 8 / 76.(44/30)
وَكَذَلِكَ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ لاِنْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ، وَالدَّاعِي إِلَى الزِّنَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ (1) .
الثَّالِثُ: لِلْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ اللِّوَاطِ، يُرْجَمَانِ جَمِيعًا، أُحْصِنَا أَمْ لَمْ يُحْصَنَا (2) . وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: يُحَدُّ حَدَّ اللِّوَاطِ، وَهُوَ الْقَتْل بِكُل حَالٍ (3) .
الرَّابِعُ: لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَتْل بِالسَّيْفِ حَدًّا كَالْمُرْتَدِّ، بِكْرًا كَانَ أَمْ ثَيِّبًا (4) .
خَامِسًا: وَطْءُ الْمَيْتَةِ:
31 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي حَيَاتِهَا زَوْجَتَهُ أَمْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ. وَعَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنْ كَبَائِرِ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشِ (5) .
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْفَاعِل عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 144، والحاوي 17 / 58، ورد المحتار 3 / 155، والهداية مع فتح القدير 5 / 43.
(2) عقد الجواهر الثمينة 3 / 305، والقوانين الفقهية ص360.
(3) بدائع الفوائد لابن القيم 4 / 101.
(4) الحاوي للماوردي 11 / 442.
(5) الزواجر للهيتمي 2 / 143.(44/31)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى وَاطِئِ الْمَيْتَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ وَطْءَ الْمَيْتَةِ كَلاَ وَطْءٍ، لِوُقُوعِهِ فِي عُضْوٍ مُسْتَهْلَكٍ، وَلأَِنَّ وَطْأَهَا لاَ يُشْتَهَى، بَل هُوَ مِمَّا تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ وَتَعَافُهُ الأَْنْفُسُ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى شَرْعِ الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ زَجْرًا. . . وَلَكِنْ يَجِبُ تَعْزِيرُ الْفَاعِل لِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَالَغُ فِي تَعْزِيرِهِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ آدَمِيَّةٍ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحَيَّةِ، وَلأَِنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبًا وَأَكْبَرُ إِثْمًا، لِضَمِّهِ إِلَى الْفَاحِشَةِ هَتْكَ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ. غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَةَ حَال مَوْتِهَا، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى زَوْجِهَا بِوَطْئِهَا (2) .
(ر: زِنًا 23) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 34، ومغني المحتاج 4 / 145، وأسنى المطالب 4 / 125، والمغني لابن قدامة 12 / 340، 341، وكشاف القناع 6 / 95، وفتح القدير 5 / 45.
(2) الخرشي 8 / 76، ومغني المحتاج 4 / 145، والقوانين الفقهية ص359، والمغني 12 / 340، والداء والدواء لابن القيم ص303.(44/31)
سَادِسًا: وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (1) } .
وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَرْبَعَةٌ يُصْبِحُونَ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَيُمْسُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ، وَعَدَّ مِنْهُمُ: الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ (2) . وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ (3) . قَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ الْبَهَائِمِ (4) . وَنَصَّ جَمْعٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَبَائِرِ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشِ (5) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 5 - 6.
(2) حديث: " أربعة يصبحون في غضب الله. . ". أخرجه الطبراني في الأوسط (7 / 439 - ط المعارف) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 273) : رواه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سلام الخزاعي عن أبيه، قال البخاري: لا يتابع على حديثه هذا.
(3) حديث: " ملعون من أتى شيئا من البهائم. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط (9 / 226 - ط المعارف) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 272) فيه محرز بن هارون ويقال محرر وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(4) التفسير الكبير 23 / 133، وانظر نيل الأوطار 7 / 119.
(5) الزواجر 2 / 139، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص287.(44/32)
33 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ آتِي الْبَهِيمَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ لَهُمَا: وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا، فَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُجْلَدُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِيلاَجٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، كَالْقُبُل مِنَ الْمَرْأَةِ، فَوَجَبَ بِهِ حَدُّ الزِّنَا (1) .
الثَّانِي: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَل فِي كُل حَالٍ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُقْتَل صَبْرًا بِالسَّيْفِ. لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ (2) ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يُبَاحُ بِحَالٍ، فَكَانَ فِيهِ الْقَتْل كَاللُّوطِيِّ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 145، وأسنى المطالب 4 / 125، والداء والدواء ص303، والتفسير الكبير للرازي 23 / 133، ومعالم السنن للخطابي 6 / 275، وعارضة الأحوذي 6 / 239، والحاوي للماوردي، ونيل الأوطار 7 / 118 - 119، والمحلى 11 / 386.
(2) حديث: " من أتى بهيمة فاقتلوه. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 609) .
(3) المغني 12 / 352، ومغني المحتاج 4 / 145، وعارضة الأحوذي 6 / 239، والداء والدواء لابن القيم ص303، وأسنى المطالب 4 / 125، وزاد المعاد 5 / 41، والأشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 221، والحاوي 17 / 63.(44/32)
الثَّالِثُ: لِلزُّهْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ أَدْنَى الْحَدَّيْنِ، أُحْصِنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ فَيُجْلَدُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا مِائَةً (1) .
الرَّابِعُ: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا، وَلُزُومِ التَّعْزِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ، وَقَال الْبِيرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْتَل فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِصِدْقِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَالَغُ فِي تَعْزِيرِهِ (2) . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا:
بِأَنَّهُ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ ? الْعَادُونَ (3) ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنِ أَحَدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ أَنَّهُ لاَ يَحِل أَنْ تُؤْتَى الْبَهِيمَةُ أَصْلاً، فَفَاعِل ذَلِكَ فَاعِل مُنْكَرٍ، وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) عارضة الأحوذي 6 / 239، ومعالم السنن 6 / 276.
(2) رد المحتار 3 / 155، وفتح القدير والكفاية 5 / 45، ومختصر اختلاف الفقهاء للطحاوي 3 / 304، ومغني المحتاج 4 / 146، وأسنى المطالب 4 / 125، وتحفة المحتاج 9 / 106، وكشاف القناع 6 / 95، والقوانين الفقهية ص358، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 305، والمغني 12 / 351، والخرشي 8 / 78، والحاوي 17 / 63.
(3) سورة المؤمنون / 5 - 6.(44/33)
بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ (1) ، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ (2) .
وَبِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِوَطْئِهَا شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي فَرْجِ الآْدَمِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لَهَا، وَلَيْسَ وَطْؤُهَا بِمَقْصُودٍ يَحْتَاجُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ إِلَى الْحَدِّ، فَإِنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ، وَالنُّفُوسَ تَعَافُهُ، وَعَامَّتَهَا تَنْفِرُ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ عَنْهُ بِحَدٍّ، وَيَكْفِي فِيهِ التَّعْزِيرُ (3) .
تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا:
34 - ثُمَّ إِنَّ فِي حُكْمِ إِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ الْمَرْأَةُ حَيَوَانًا - كَكَلْبٍ وَقِرْدٍ وَنَحْوِهِمَا - مِنْ نَفْسِهَا فَوَطِئَهَا، أَوْ أَدْخَلَتْ هِيَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
قَتْل الَّدابَّةِ الْمَوْطُوءَةِ: 35 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي قَتْل الدَّابَّةِ الَّتِي أَتَاهَا الآْدَمِيُّ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
__________
(1) حديث تغيير المنكر باليد. أخرجه مسلم (1 / 69) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) المحلى ابن حزم 11 / 388.
(3) المغني 12 / 352، ومغني المحتاج 4 / 145، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 3 / 1400، والحاوي 17 / 64.
(4) رد المحتار 3 / 155، وأسنى المطالب 4 / 126، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 316، وكشاف القناع 6 / 95.(44/33)
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ قَتْل الْبَهِيمَةِ الْمَوْطُوءَةِ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْحَدِيثِ الآْمِرِ بِقَتْلِهَا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ (1) .
وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذَبْحُهَا ثُمَّ حَرْقُهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا لاَ يُؤْكَلُ، وَذَلِكَ لِقَطْعِ امْتِدَادِ التَّحَدُّثِ بِهِ كُلَّمَا رُئِيَتْ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَل جَازَ أَكْلُهَا عِنْدَ الإِْمَامِ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: تُحْرَقُ (2) .
الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ، وَهُوَ وُجُوبُ قَتْل الْبَهِيمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْفَاعِل أَمْ لِغَيْرِهِ، مَأْكُولَةً أَمْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ. وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ (3) ، وَلأَِنَّ فِي بَقَائِهَا تَذْكَارًا لِلْفَاحِشَةِ، فَيُعَيَّرُ بِهَا (4) .
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة. ورد من حديث القاسم مولى عبد الرحمن مرسلا بلفظ لا تقتل بهيمة ليست لك بها حاجة. أخرجه أبو داود في المراسيل (ص239، 240 - ط الرسالة) .
(2) رد المحتار 3 / 155، وفتح القدير 5 / 45، والمحلى على المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 180، وتحفة المحتاج 9 / 106، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 316، والخرشي 8 / 78، والمعونة 3 / 1401.
(3) حديث: " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ". تقدم تخريجه فقرة (31) .
(4) كشاف القناع 6 / 95، والمغني 12 / 352، 353، ومغني المحتاج 2 / 146، والحاوي 17 / 65، وعارضة الأحوذي 6 / 239.(44/34)
الثَّالِثُ: تُقْتَل إِذَا كَانَتْ لِلْوَاطِئِ، وَلاَ تُقْتَل إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (1) .
الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ ذُبِحَتْ، وَإِلاَّ لَمْ تُقْتَل؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ (2) .
وَعَلَى قَوْل مَنْ قَال بِوُجُوبِ قَتْل الْبَهِيمَةِ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ نَدْبِهِ فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لِلْفَاعِل ذَهَبَتْ هَدْرًا؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَضْمَنُ مَال نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لِغَيْرِ الْوَاطِئِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْوَجْهِ الْقَائِل بِوُجُوبِ قَتْلِهَا، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ - إِلَى وُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَى الْفَاعِل؛ ِ لأَِنَّهَا أُتْلِفَتْ بِسَبَبِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهَا.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ غُرْمَ لِصَاحِبِهَا؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ قَتْلَهَا لِلْمَصْلَحَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ لِغَيْرِ الْوَاطِئِ يُطَالَبُ صَاحِبُهَا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ تُذْبَحُ هَكَذَا (3) .
__________
(1) الحاوي 17 / 64.
(2) مغني المحتاج 4 / 146، وعارضة الأحوذي 6 / 239، والمغني 12 / 352، والإنصاف 10 / 179.
(3) ابن عابدين 3 / 155، والحاوي 17 / 64، ومغني المحتاج 4 / 146، وكشاف القناع 6 / 95، والإنصاف 10 / 179.(44/34)
36 - كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حِل أَكْل الْبَهِيمَةِ الْمَوْطُوءَةِ بَعْدَ ذَبْحِهَا إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ، وَهُوَ حُرْمَةُ أَكْلِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا حَيَوَانٌ يَجِبُ قَتْلُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ كَسَائِرِ الْمَقْتُولاَتِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهِيَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهَا وَلاَ يَحْرُمُ.
وَالثَّالِثُ: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ جَوَازُ أَكْلِهَا مَعَ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَْنْعَامِ (1) } حَيْثُ جَاءَ ذِكْرُ الْحِل فِي الآْيَةِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَصِّل بَيْنَ الْمَوْطُوءَةِ وَغَيْرِهَا، وَلأَِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ مَعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ (2) } ، وَلأَِنَّهَا حَيَوَانٌ مِنْ جِنْسٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ، ذَبَحَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الذَّكَاةِ، فَحَل أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُفْعَل بِهِ هَذَا الْفِعْل (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) رد المحتار 3 / 155، وفتح القدير 5 / 45، ومغني المحتاج 4 / 146، وتحفة المحتاج 9 / 106، والقوانين الفقهية ص358، والمغني 12 / 253، وكشاف القناع 6 / 95، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 316، وعارضة الأحوذي 6 / 239، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 305، والخرشي 8 / 78، والحاوي للماوردي 17 / 65.(44/35)
سَابِعًا: الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ:
37 - الشُّبْهَةُ فِي الأَْصْل: مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ. أَمَّا الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ: فَهُوَ الْوَطْءُ الْمَحْظُورُ الَّذِي لاَ يُوجِبُ حَدًّا، لِقِيَامِ شُبْهَةٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ قَصْدِ الزِّنَا.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَقْسِيمَاتٌ لِلشُّبْهَةِ تُنْظَرُ فِي (زِنًا ف 15 - 21، شُبْهَة ف3) .
أَحْكَامُ الْوَطْءِ:
أ - حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فِي الْوَطْءِ:
38 - لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقُّ إِتْيَانِهَا وَقَضَاءِ وَطَرِهَا (1) ، دَل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: فَلاَ تَفْعَل. صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (2) .
__________
(1) دليل الفالحين 1 / 390.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " ألم أخبر أنك تصوم النهار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 299) ومسلم (2 / 813) واللفظ للبخاري.(44/35)
وَقَال لأَِبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَل وَنَمْ، وَائْتِ أَهْلَكَ (1) .
39 - أَمَّا ضَابِطُ هَذَا الْحَقِّ، وَحُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ جِمَاعِ أَهْلِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةَ زَوْجِهَا بِالْوَطْءِ، لأَِنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا، كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ. وَإِذَا طَالَبَتْهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَقَالُوا: يَأْثَمُ الزَّوْجُ إِذَا تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَانَةً مُتَعَنِّتًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ، وَلاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ قَضَاءً، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ، لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ، وَلأَِنَّ فِي دَاعِيَةِ الطَّبْعِ مَا يُغْنِي عَنْ إِيجَابِهِ، وَلأَِنَّ الْجِمَاعَ
__________
(1) حديث: فصم وأفطر وكل ونم. أخرجه الدارقطني (2 / 176 - ط دار المحاسن) من حديث أبي جحيفة، وأصله في صحيح البخاري (الفتح 4 / 209) .
(2) البدائع 2 / 331، وفتح القدير 3 / 302، والكفاية على الهداية 3 / 300، ورد المحتار 2 / 594، وفتح الباري 9 / 299.(44/36)
مِنْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَخُلُوصِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَكَلُّفِهَا بِالتَّصَنُّعِ.
وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يُعَطِّلَهَا مِنَ الْجِمَاعِ تَحْصِينًا لَهَا، لأَِنَّهُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّ تَرْكَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِهَا أَوْ فَسَادِهَا (1) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الرَّجُل مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجِمَاعِ وَتَرْكِهِ، وَفِعْل مَا الأَْصْلَحُ لِلزَّوْجَيْنِ أَفْضَل (2) . وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَهَا فِي كُل أَرْبَعِ لَيَالٍ مَرَّةً، فَهُوَ أَعْدَلُهُ، إِذْ عَدَدُ النِّسَاءِ أَرْبَعَةٌ، فَجَازَ التَّأْخِيرُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ. نَعَمْ، يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ بِحَسَبِ حَاجَتِهَا فِي التَّحْصِينِ، فَإِنَّ تَحْصِينَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِالْوَطْءِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْوَفَاءِ. وَاخْتَارَ قَوْل الْقَمُولِيِّ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الإِْعْرَاضُ عَنْهُنَّ، وَقَوَّى الْوَجْهَ الْمُحَرِّمَ لِذَلِكَ (3) .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا انْتَفَى الْعُذْرُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ حَيْثُ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ. فَإِذَا شَكَتْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 251، وتحفة المحتاج 7 / 440، والحاوي الكبير 12 / 212، وفتح الباري 9 / 299، وأسنى المطالب 3 / 229، والوسيط للغزالي 5 / 285.
(2) قواعد الأحكام ص351.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 46، وتحفة المحتاج 7 / 144.(44/36)
قِلَّتَهُ قُضِيَ لَهَا بِلَيْلَةٍ فِي كُل أَرْبَعٍ عَلَى الرَّاجِحِ (1) .
وَرَوَى أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ: اخْتُلِفَ فِي أَقَل مَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الرَّجُل مِنَ الْوَطْءِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لَيْلَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ، أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ. وَقِيل: لَيْلَةٌ مِنْ ثَلاَثٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ (2) } . وَقَضَى عُمَرُ بِمَرَّةٍ فِي الطُّهْرِ، لأَِنَّهُ يُحْبِلُهَا (3) .
وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ فِي كُل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، لَمْ يَصِرْ بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِهِ وَاجِبًا، كَسَائِرِ مَا لاَ يَجِبُ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ كَإِفْضَائِهِ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الرَّجُلِ، فَيَكُونُ الْوَطْءُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْل كَالأَْمَةِ.
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ ثُلْثَ سَنَةٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ فِي حَقِّ الْمُولِي ذَلِكَ،
__________
(1) الزرقاني على خليل 4 / 56، والقوانين الفقهية ص216، والذخيرة 4 / 416.
(2) سورة النساء / 11.
(3) حاشية البناني على الزرقاني 4 / 56.(44/37)
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. . وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ تَرَكَهُ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْل عُذْرِهِ.
فَإِنْ أَصَرَّ الزَّوْجُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ حَتَّى انْقَضَتِ الأَْرْبَعَةُ الأَْشْهُرِ بِلاَ عُذْرٍ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلَبِهَا، كَالْمُولِي وَالْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ وَلَوْ قَبْل الدُّخُول. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَظَاهِرُ قَوْل أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ لَوْ ضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ لِذَلِكَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَكُنْ لِلإِْيلاَءِ أَثَرٌ، وَلاَ خِلاَفَ فِي اعْتِبَارِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَجِبُ عَلَى الرَّجُل وَطْءُ زَوْجَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ - كَمَا يُطْعِمُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ - مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَرَّةٍ فِي كُل شَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ يَوْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ دَلاَلَةَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَدَمُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُهُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، قَال تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (3) } ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي
__________
(1) كشاف القناع 5 / 192، والمغني 10 / 240.
(2) المغني 10 / 240.
(3) سورة البقرة / 228.(44/37)
سُفْيَانَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَكْسُوهَا وَيُعَاشِرُهَا بِالْمَعْرُوفِ، بَل هَذَا عُمْدَةُ الْمُعَاشَرَةِ وَمَقْصُودُهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْوَطْءُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْمُعَاشَرَةِ وَلاَ بُدَّ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ أَنْ يُشْبِعَهَا وَطْئًا إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُشْبِعَهَا قُوتًا، وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْل وَيَخْتَارُهُ (2) .
فَإِنْ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ لَهَا، فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَحَالَةِ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى وَسَائِرَ حُقُوقِهَا (3) .
ثُمَّ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَحُصُول الضَّرَرِ لِلزَّوْجَةِ بِتَرْكِ الْوَطْءِ مُقْتَضٍ لِلْفَسْخِ بِكُل حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَصْدٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِ، كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى لِلْفَسْخِ بِتَعَذُّرِهِ فِي الإِْيلاَءِ إِجْمَاعًا (4) .
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدكب المعروف. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 705) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة بلفظ: " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك " واللفظ للبخاري.
(2) روضة المحبين لابن القيم ص217.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 28 / 383، 384، 29 / 173، 32 / 271، وروضة المحبين ص215 وما بعدها.
(4) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص247.(44/38)
ب - حَقُّ الرَّجُل عَلَى زَوْجَتِهِ فِي الْوَطْءِ:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَ زَوْجَتَهُ بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إِلاَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ مَانِعَةٍ مِنْهُ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالإِْحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ طَالَبَهَا بِهِ وَانْتَفَتِ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الاِسْتِجَابَةُ (1) . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ إِذَا طَلَبَهَا إِلَى الْفِرَاشِ، وَذَلِكَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا (2) .
وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْهَيْتَمِيُّ وَغَيْرُهُمُ امْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ عَنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا إِذَا دَعَاهَا بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ضَرْبًا مِنَ النُّشُوزِ، وَكَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ (3) .
وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا دَعَا الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ تَأْتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ (4) . وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 331، 334، وبهجة النفوس 3 / 229، والنووي على مسلم 10 / 7، وفتح الباري 9 / 294.
(2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (ط. دار الريان) 3 / 144، ومجموع فتاوى ابن تيمية 32 / 274، وانظر مختصر الفتاوى المصرية ص443.
(3) الكبائر للذهبي ص124، تنبيه الغافلين لابن النحاس ص135، 167، والزواجر 2 / 48، 50.
(4) حديث: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 294) ومسلم (2 / 1060) واللفظ لمسلم.(44/38)
بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ (1) وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ، إِلاَّ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا (2) .
وَفِيمَا ذُكِرَ مِنَ الأَْحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ امْتِنَاعِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَرَادَهَا، وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ (3) .
أَمَّا الرَّجُل فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِذَا دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ لِلْوَطْءِ لأَِنَّهُ لَوْ أُجْبِرَ الرِّجَال عَلَى إِجَابَتِهِنَّ لَعَجَزُوا، إِذْ لاَ تُطَاوِعُهُمُ الْقُوَى فِي كُل آنٍ عَلَى إِجَابَتِهِنَّ، وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُمْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال لِضَعْفِ الْقُوَى وَعَدَمِ الاِنْتِشَارِ، وَالْمَرْأَةُ يُمْكِنُهَا التَّمْكِينُ فِي كُل وَقْتٍ وَحِينٍ. إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ الرَّجُل بِالاِمْتِنَاعِ مُضَارَّتَهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 294) ومسلم (2 / 1059) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته. . . " أخرجه مسلم (2 / 1060) .
(3) المفهم شرح مختصر مسلم للقرطبي 4 / 160، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام (ص351 ط. دار الطباع بدمشق) .
(4) المرجعان السابقان.(44/39)
ج - حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْفُرْقَةِ لِعَجْزِ الزَّوْجِ عَنِ الْوَطْءِ:
41 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي طَلَبِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ عَجْزِ الزَّوْجِ عَنِ الْوَطْءِ - لِجَبٍّ أَوْ خِصَاءٍ أَوْ عُنَّةٍ - بَيْنَ حَالَتَيْنِ: حَالَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ الْمُقَارِنِ لِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَحَالَةِ الْعَجْزِ الْحَادِثِ بَعْدَ الدُّخُول وَاسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ. كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (طَلاَق 93 - 106، عُنَّة ف 13 - 14، خِصَاء ف7، جَبّ ف5 - 6) .
د - حَقُّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ:
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْفَسْخِ إِذَا كَانَ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْوَطْءَ كَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالتَّفْصِيل فِي (رَتَق ف4 - 6، قَرَن ف3، طَلاَق ف93) .
هـ - حُكْمُ امْتِنَاعِ الرَّجُل عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ إِيلاَءً أَوْ مُظَاهَرَةً:
أَوَّلاً: الإِْيلاَءُ:
43 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُؤْلِي(44/39)
يُمْهَل أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُطَالَبُ بِالْوَطْءِ فِيهِنَّ، قَال تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) } . قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ سَبَبَ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ الْجَاهِلِيِّينَ كَانُوا يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمُ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَأَنْزَل اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ، فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (2) .
44 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُولِي إِمَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ، حَتَّى مُضِيِّ الأَْرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ أَوْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ.
فَإِنْ أَصَرَّ الْمُولِي عَلَى عَدَمِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ الإِْيلاَءِ، كَانَ إِصْرَارُهُ هَذَا دَاعِيًا إِلَى الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ الاِمْتِنَاعِ إِضْرَارًا بِهَا، وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَأْمُرَ الرَّجُل بِالْفَيْءِ - أَيْ بِالرُّجُوعِ عَنْ مُوجَبِ يَمِينِهِ - فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي. وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْقَاضِي وَلاَ حُكْمِهِ بِتَطْلِيقِهَا، وَذَلِكَ جَزَاءٌ لِلزَّوْجِ
__________
(1) سورة البقرة / 226 - 227.
(2) الجامع لأحكام القرآن 3 / 103.(44/40)
عَلَى الإِْضْرَارِ بِزَوْجَتِهِ وَإِيذَائِهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا الْمَشْرُوعِ.
أَمَّا إِذَا وَطِئَهَا قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ، وَيَنْحَل الإِْيلاَءُ (1) .
(ر: إِيلاَء ف16 - 19) .
ثَانِيًا: الظِّهَارُ:
45 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا (2) } . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا إِذَا كَانَ التَّكْفِيرُ بِالإِْطْعَامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَالتَّفْصِيل فِي (ظِهَار ف22 - 23) . كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إِذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ. (ر: كَفَّارَة ف64) .
46 - وَلِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 176، ومغني المحتاج 3 / 348، والحاوي الكبير 13 / 229، والخرشي 3 / 238، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 221، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 436، وبداية المجتهد 2 / 99 وما بعدها، والمغني 11 / 30 وما بعدها.
(2) سورة المجادلة / 3.(44/40)
امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِل التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ سيُطَلِّقَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بَتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا. فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلاَقِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ حَالَةِ عَجْزِ الْمُظَاهِرِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَحَالَةِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، فَقَالُوا: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلاَقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْحَالِ، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا. فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلاَقِ مِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 234، والفتاوى الهندية 1 / 456، وفتح القدير 3 / 225، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 229، والمغني لابن قدامة 11 / 66.(44/41)
الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلاَقَ، فَإِنَّهُ لاَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، كَمَا فِي الإِْيلاَءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُولِي مُظَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَطْءِ، لأَِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ قَبْل التَّكْفِيرِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ شَرْعًا، أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ، وَيُقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تُكَفِّرَ وَتَفِيءَ، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ، فَإِنْ طَلَبَ الإِْمْهَال لِيَطْلُبَ رَقَبَةً يُعْتِقُهَا أَوْ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ وَيُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ، إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ - أُمْهِل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لأَِنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُظَاهِرَ قَادِرٌ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْمُدَافَعَةُ لَمْ يُمْهَل؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُمْهَل لِلْحَاجَةِ وَلاَ حَاجَةَ هُنَا.
وَإِنْ كَانَ فَرْضُ الْمُظَاهِرِ الصِّيَامَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْعِتْقِ، وَطَلَبَ أَنْ يُمْهَل لِيَصُومَ - لَمْ يُمْهَل حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ لأَِنَّهُ كَثِيرٌ، بَل يُؤْمَرُ أَنْ يُطَلِّقَ.
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنَ الصِّيَامِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ عُرْفًا أُمْهِل فِيهَا كَسَائِرِ الْمَعَاذِيرِ (2) .
__________
(1) الخرشي مع حاشية الْعَدَوِيّ 3 / 235، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 433.
(2) كشاف القناع 5 / 365، وانظر المغني 7 / 328 (ط الرياض) .(44/41)
و - عَدَمُ تَمْكِينِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا:
47 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا سَلَّمَ زَوْجَتَهُ مَهْرَهَا، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إِذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مُؤَجَّلاً - لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ طَلَبَهُ - وَقَبَضَتِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّل مِنْهُ؛ لأَِنَّ رِضَاهَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا رِضًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْل قَبْضِهِ، كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل فِي الْبَيْعِ، فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا، لاِنْعِدَامِ الإِْسْقَاطِ مِنْ جِهَتِهِ، وَرِضَاهَا بِالسُّقُوطِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا قَوْلَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلاً بِأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا الدُّخُول بِهَا قَبْل حُلُول الأَْجَل وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَوْلاَنِ (1) .
48 - أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُعَجَّلاً أَوْ بَعْضُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهَا الزَّوْجُ الْقَدْرَ الْمُعَجَّلَ، فَهَل يَحِقُّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؟
ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 359، وفتح القدير 3 / 249، ومغني المحتاج 3 / 222، والحاوي الكبير 12 / 163، 164، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 96، وشرح منتهى الإرادات 3 / 84، والمغني 10 / 171.(44/42)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا الْمُعَجَّلَ، أَوِ الْقَدْرَ الْمُعَجَّل مِنْهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَلًّا؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا، كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ الْحَالِّ، فِلِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا لاِسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْمُعَجَّلِ، وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا تَتْلَفُ بِالاِسْتِيفَاءِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَهْرِ عَلَيْهَا، لَمْ يُمْكِنْهَا اسْتِرْجَاعُ عِوَضِهَا، فَلِذَلِكَ مَلَكَتِ الاِمْتِنَاعَ مِنَ التَّسْلِيمِ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) . وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ (2) .
أَثَرُ الْوَطْءِ فِي سِقُوُطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الاِمْتِنَاعِ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّل صَدَاقِهَا:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ فِي مَنْعِ نَفْسِهَا عَنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مُعَجَّل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 288، ورد المحتار 2 / 358، ومغني المحتاج 3 / 223، وروضة الطالبين 7 / 259 وما بعدها، الحاوي 12 / 162، ميارة على التحفة 1 / 187، والذخيرة 4 / 373، وعقد الجواهر 2 / 96، والشرح الصغير للدردير 2 / 399، 434، وكشاف القناع 5 / 181، وشرح منتهى الإرادات 3 / 84، المغني 10 / 171، 400.
(2) الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر ص62، وانظر المغني 10 / 171.(44/42)
مَهْرِهَا بَعْدَمَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا بِرِضَاهَا فَوَطِئَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ، لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ، لاَ بِالْمُسْتَوْفَى فِي الْوَطْأَةِ الأُْولَى خَاصَّةً، فَكَانَتْ كُل وَطْأَةٍ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَتَسْلِيمُ الْبَعْضِ لاَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْبَاقِي، كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْبَاقِي لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّلَ، كَذَا هَذَا. وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَالثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا عَنْهُ؛ لأَِنَّهَا بِالتَّسْلِيمِ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنْ حَبْسِ نَفْسِهَا، ذَلِكَ أَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا فِي الاِبْتِدَاءِ رِضًا مِنْهَا بِبَقَاءِ الْمَهْرِ فِي ذِمَّتِهِ، وَامْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ فِيمَا تَرَكَتْهُ فَلاَ يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ الْبَائِعُ فَسَلَّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي قَبْل قَبْضِ ثَمَنِهِ، فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ وَحَبْسُهُ (2) . قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَدَلِيلُنَا هُوَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 358، وفتح القدير 3 / 249، وبدائع الصنائع 2 / 289، والمغني 10 / 171، والإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر ص62.
(2) البدائع 2 / 289، ورد المحتار 2 / 358، والحاوي الكبير 12 / 162، وروضة الطالبين 7 / 260، ومغني المحتاج 3 / 222 - 223، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 96، والذخيرة 4 / 373، والبهجة شرح التحفة 1 / 92، وشرح منتهى الإرادات 3 / 84، وكشاف القناع 5 / 183، والمغني 10 / 171.(44/43)
أَنَّهُ تَسْلِيمُ رِضًا اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حَقُّ الإِْمْسَاكِ، قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ وَلأَِنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ اخْتَصَّتْ بِالْوَطْءِ الأَْوَّلِ، وَكَانَ مَا بَعْدَهُ تَبَعًا، وَقَدْ رَفَعَ الْوَطْءُ الأَْوَّل حُكْمَ الإِْمْسَاكِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَهُ فِي حَقِّ تَبَعِهِ كَالإِْحْلاَل (1) .
حُلُول أَجَل الْمَهْرِ الْمُؤَجَّل قَبْل التَّسْلِيمِ:
50 - إِذَا حَل الأَْجَل قَبْل تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا، فَهَل يُعْتَبَرُ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّل فِي حُكْمِ الْمُعَجَّلِ، وَيَكُونُ لَهَا الاِمْتِنَاعُ مِنْ تَمْكِينَ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، أَمْ يُعْتَبَرُ حَقُّهَا فِي الاِمْتِنَاعِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهَا بِحُلُول الأَْجَل؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِتَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْل الْحُلُولِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْحُلُولِ، لأَِنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيلِ، وَالسَّاقِطُ لاَ يَحْتَمِل الْعَوْدَ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ (2) .
__________
(1) الحاوي 12 / 162.
(2) بدائع الصنائع 2 / 289، فتح القدير 3 / 249، ومغني المحتاج 3 / 222 - 223، وروضة الطالبين 7 / 259، والحاوي الكبير 12 / 162 - 163 - 164، وشرح منتهى الإرادات 3 / 84، والمغني 10 / 171.(44/43)
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا حَل صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِلِ، وَالْعَاجِل تَمْنَعُهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا إِيَّاهُ. إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ الدُّخُول قَبْل حُلُول الأَْجَلِ، فَلَوْ شَرَطَهُ وَرَضِيَتْ لَيْسَ لَهَا الاِمْتِنَاعُ (1) .
تَنَازُعُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْبَدْءِ بِالتَّسْلِيمِ:
51 - إِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي الْبَدَاءَةِ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَل بِالْعَقْدِ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ وَهُوَ الْبَدَل لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَل تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا. وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلزَّوْجَةِ تَمْكِينَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا قَبْل قَبْضِهَا مِنْهُ رُبْعَ دِينَارٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 2 / 399، 434، والبهجة شرح التحفة 1 / 292، وميارة على التحفة 1 / 187، ومغني المحتاج 3 / 223.
(2) تبيين الحقائق 3 / 189، وبدائع الصنائع 2 / 289، وفتح القدير 3 / 249، وابن عابدين 2 / 258، وجواهر الإكليل 1 / 307.(44/44)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، بِأَنَّهُ يُجْبَرُ الزَّوْجُ أَوَّلاً عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لأَِنَّ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا أَوَّلاً خَطَرَ إِتْلاَفِ الْبُضْعِ، وَالاِمْتِنَاعَ مِنْ بَذْل الصَّدَاقِ، وَلاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِي الْبُضْعِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ مَعًا، بَأَنْ يُؤْمَرَ الزَّوْجُ بِوَضْعِ الصَّدَاقِ عِنْدَ عَدْلٍ، وَهَذَا الْعَدْل لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الزَّوْجِ وَلاَ عَنِ الزَّوْجَةِ، بَل هُوَ نَائِبُ الشَّرْعِ بِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا، وَتُؤْمَرُ الزَّوْجَةُ بِالتَّمْكِينِ، فَإِذَا مَكَّنَتْ سَلَّمَ الْعَدْل الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، وَبِذَلِكَ تُفْصَل الْخُصُومَةُ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَفِعْل الأَْحْوَطِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا أَحْوَطُ الأُْمُورِ فِيهَا، وَأَقْطَعُ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ أَنَّهُ لاَ إِجْبَارَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ بَادَرَ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا أُجْبِرَ صَاحِبُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ (3) .
__________
(1) الحاوي 12 / 169، ومغني المحتاج 3 / 223، وشرح منتهى الإرادات 3 / 84، وكشاف القناع 5 / 182، والمغني 10 / 171، 11 / 400.
(2) روضة الطالبين 7 / 259، ومغني المحتاج 3 / 223، والحاوي الكبير 12 / 168، 169.
(3) مغني المحتاج 3 / 223.(44/44)
ز - اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ عَدَمِ حِلِّهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الاِشْتِرَاطِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ، حَالَةِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ حِل الْوَطْءِ، وَحَالَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ فِعْلِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
49 - إِذَا اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ نَفْيَ حِل الْوَطْءِ بَأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لاَ تَحِل لَهُ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي بُطْلاَنِ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِهِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الشَّرْطِ وَالْعَقْدِ مَعًا، وَذَلِكَ لإِِخْلاَل ذَلِكَ الشَّرْطِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ وَلِلتَّنَاقُضِ، إِذْ لاَ يَبْقَى مَعَهُ لِلزَّوَاجِ مَعْنًى، بَل يَكُونُ كَالْعَقْدِ الصُّورِيِّ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ صَحِيحٌ. إِذِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَبْطُل بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُل الشَّرْطُ دُونَهُ (2) .
__________
(1) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني عليه 7 / 312، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 49، والخرشي 3 / 195، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص327، 328، وكشاف القناع 5 / 97.
(2) الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 3 / 152، ورد المحتار 2 / 295.(44/45)
53 - أَمَّا إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَدَمُ الْوَطْءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحْنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ. أَمَّا بُطْلاَنُ الشَّرْطِ، فَلأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَيَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بِالْعَقْدِ لَوْلاَ اشْتِرَاطُهُ، وَأَمَّا بَقَاءُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ فَلاَ يُبْطِلُهُ؛ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَبْطُل بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَبْطُل الشَّرْطُ دُونَهُ (1) . وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ لِوُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَقِيل: يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ. وَقِيل: يُفْسَخُ قَبْل الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ (3) .
__________
(1) رد المحتار مع الدر المختار 2 / 295، وكشاف القناع 5 / 98، والهداية مع فتح القدير 3 / 152، والفتاوى الخانية 1 / 331.
(2) عقد الجواهر الثمينة 2 / 49، والقواين الفقهية ص223.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 238، والخرشي 3 / 195، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام ص327، 328، والذخيرة 4 / 405، ومواهب الجليل 3 / 445 - 446.(44/45)
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَهَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا، أَوْ لاَ يَطَأَهَا إِلاَّ نَهَارًا أَوْ إِلاَّ مَرَّةً مَثَلاً، بَطَل النِّكَاحُ إِنْ كَانَ الاِشْتِرَاطُ مِنْ جِهَتِهَا، لِمُنَافَاتِهِ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ تَرْكُهُ، وَالتَّمْكِينُ حَقٌّ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَرْكُهُ (1) .
ح - الْعَزْل:
54 - الْمُرَادُ بِالْعَزْل: أَنْ يُنَحِّيَ الرَّجُل مَاءَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنِ الرَّحِمِ، فَيُلْقِيَهُ خَارِجَ الْفَرْجِ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ عَزْل السَّيِّدِ عَنْ أَمَتِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَذِنَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ؛ لأَِنَّ إِنْجَابَ الْوَلَدِ حَقُّهُ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهَا (3) .
وَقَدْ نَقَل الْقَرَافِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْعَزْل عَنِ السُّرِّيَّةِ، أَمَّا الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ. وَالتَّفْصِيل فِي (عَزَل ف33 - 35)
__________
(1) حاشية الشرواني على التحفة 7 / 312، وتحفة المحتاج 7 / 387، 388، والمحلى على المنهاج وحاشية عميرة عليه 3 / 280.
(2) المفهم للقرطبي 4 / 166، والمعلم للمازري 2 / 104.
(3) المغني 10 / 230، والنووي على مسلم 10 / 9، والمهذب 2 / 67، والحاوي 11 / 439، والوسيط للغزالي 5 / 184، وإتحاف السادة 5 / 379، والذخيرة 4 / 418.(44/46)
ط - الْغِيلَةُ:
55 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمُرْضِعِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ (1) .
وَقَال الزُّرْقَانِيُّ: الْغِيلَةُ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيل بِالْفَتْحِ: وَطْءُ الْمُرْضِعِ، كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَمْ لاَ، وَقِيل بِقَيْدِ الإِْنْزَال (2) .
(ر: غِيلَة ف7)
ي - وَطْءُ الْحَامِل:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَطْءِ الْحَامِل:
فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِذَا كَانَتْ حُبْلَى، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ سِرًّا، فَإِنَّ الْغَيْل يُدْرِكُ الْفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ عَنْ فَرَسِهِ (3) .
__________
(1) حديث: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة. . . " أخرجه مسلم (2 / 1066) من حديث جدامة بنت وهب الأسدية.
(2) الزرقاني على خليل 4 / 244، شرح النووي على مسلم 10 / 16، وشرح معاني الآثار 3 / 46، وكشاف القناع 5 / 196.
(3) حديث: " لا تقتلوا أولادكم سرا. . " أخرجه أبو داود (4 / 211) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن.(44/46)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حِل وَطْءِ الْحَامِلِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي أَعْزِل عَنِ امْرَأَتِي، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَفْعَل ذَلِكَ؟ فَقَال الرَّجُل: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ لِذَلِكَ فَلاَ، مَا ضَارَّ ذَلِكَ فَارِسَ وَلاَ الرُّومَ (1) .
قَال الطَّحَاوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ وَطْءِ الْحَبَالَى، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ لاَ يَضُرُّ فَارِسَ وَالرُّومَ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ غَيْرَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ (2) .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ، أَوْ حَتَّى ذَكَرَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَهُ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ.
وَفِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ مَا قَدْ حَظَرَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْقَائِلُونَ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْحَامِل (3) .
آثَارُ الْوَطْءِ:
أ - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَأْكِيدِ لُزُومِ كُل الْمَهْرِ:
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " إن كان لذلك فلا. . " أخرجه مسلم (2 / 1067) .
(2) سبق تخريجه ف52.
(3) شرح معاني الآثار 3 / 46 - 48، وفيض القدير 5 / 280.(44/47)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى اسْتِقْرَارِ كَمَال الْمَهْرِ بِوَطْءِ الزَّوْجَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَتَقَرَّرُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى كَامِلاً؛ لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَقْصُودَ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عِوَضُهُ (1) . قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْنَى الاِسْتِقْرَارِ هَاهُنَا الأَْمْنُ مِنْ سُقُوطِ كُل الْمَهْرِ أَوْ بَعْضِهِ بِالتَّشْطِيرِ (2) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا قَال الْبَابَرْتِيُّ فِي الْعِنَايَةِ: أَنَّهُ بِالدُّخُول يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَل وَهُوَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، يَتَأَكَّدُ بِهِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَأَكِّدًا، لِكَوْنِهِ عَلَى عُرْضَةِ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ، وَبِتَسْلِيمِهِ يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ كَانَ عُرْضَةً أَنْ يَسْقُطَ بِتَقْبِيل ابْنِ الزَّوْجِ أَوِ الاِرْتِدَادِ، وَأَنْ يَتَنَصَّفَ بِطَلاَقِهَا قَبْل الدُّخُولِ، وَبِالْوَطْءِ تَأَكَّدَ لُزُومُ تَمَامِهِ (3) ..
__________
(1) الهداية مع الفتح والكفاية 3 / 209، ومغني المحتاج 3 / 224، والذخيرة 4 / 374، 378، والشرح الصغير للدردير 2 / 437، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 96، 97، وشرح منتهى الإرادات 3 / 76، 83، وكشاف القناع 5 / 168.
(2) مغني المحتاج 3 / 224.
(3) العناية على الهداية 3 / 209، ورد المحتار 2 / 330.(44/47)
ب - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ:
58 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ عِدَّةَ الطَّلاَقِ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا (1) } . إِذِ الْمَسِيسُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِدَّة ف6)
ج - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي الْفَيْءِ مِنَ الإِْيلاَءِ:
59 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَطْءَ هُوَ الْفِعْل الَّذِي يَكُونُ فَيْئًا، وَيَنْحَل بِهِ الإِْيلاَءُ.
(ر: إِيلاَء ف20 - 21)
د - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ الإِْحْصَانِ فِي الزِّنَا:
60 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ - إِلَى جَانِبِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَالْحُرِّيَّةِ - الْوَطْءَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُلِ، عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل.
(ر: إِحْصَان ف6 - 11)
__________
(1) الأحزاب / 49.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 218.(44/48)
هـ - ثُبُوتُ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا بِالْوَطْءِ:
61 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ تَصِحُّ فِي الْعِدَّةِ بِالْقَوْل الدَّال عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ مُطَلَّقَتِهِ: " رَاجَعْتُكِ " أَوْ " رَاجَعْتُ زَوْجَتِي " إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَاطَبَةٍ، وَكَذَا بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى.
أَمَّا الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ فَتَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَذَا الْمَالِكِيَّةُ، بِشَرْطِ قَصْدِ الزَّوْجِ إِلَى الاِرْتِجَاعِ؛ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رَجْعَة ف12 - 18)
ز - أَثَرُ الْوَطْءِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلاَقِ:
62 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ.
فَأَمَّا طَلاَقُ السُّنَّةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَدَبَ الشَّرْعُ لإِِيقَاعِهِ، وَأَمَّا طَلاَقُ الْبِدْعَةِ: فَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَنَعَ الشَّرْعُ إِيقَاعَهُ عَلَيْهِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الطَّلاَقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 3 / 328، 329، والكافي لابن عبد البر ص262، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 833، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 361.(44/48)
وَجْهَانِ حَلاَلٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَالْحَلاَلاَنِ: أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلاً مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا، وَالْحَرَامَانِ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهَذَا فِي طَلاَقِ الْمَدْخُول بِهَا. أَمَّا مَنْ لَمْ يُدْخَل بِهَا، فَيَجُوزُ طَلاَقُهَا حَائِلاً وَطَاهِرًا (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ كَانَتْ صِفَةُ طَلاَقِ السُّنَّةِ: مَا وَقَعَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعِ الرَّجُل زَوْجَتَهُ فِيهِ. أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا فِيهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ قَبْل تَبَيُّنِ الْحَمْلِ، فَإِنْ فَعَل كَانَ مُحْدِثًا لِطَلاَقٍ بِدْعِيٍّ مُوجِبٍ لإِِثْمِ فَاعِلِهِ فِي قَوْل سَائِرِ أَهْل الْعِلْمِ (2) .
أَمَّا عَنْ وُقُوعِ طَلاَقِ الْبِدْعَةِ الَّذِي صَدَرَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ وَكَانَ الْمُطَلِّقُ عَاصِيًا (3) . لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ
__________
(1) زاد المعاد 5 / 219.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 33 / 66، 70 - 72، وفتح القدير 3 / 329، والكافي ص262، والمعونة 2 / 833 وما بعدها، وزاد المعاد 5 / 221.
(3) فتح القدير 2 / 329، والمعونة 2 / 837، والكافي ص262، نيل الأوطار 6 / 224، وشرح منتهى الإرادات 3 / 123، والمغني لابن قدامة 10 / 327، ومغني المحتاج 3 / 307 - 308.(44/49)
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا (1) وَفِي رِوَايَةٍ، قَال: فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلاَثًا، أَكَانَ يَحِل لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَال: " لاَ، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً (2) . وَفِي رِوَايَةٍ: قَال سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاَقِهِ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، قَال: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: تُحْتَسَبُ؟ قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ (4) ! وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ؛ وَلأَِنَّهُ طَلاَقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَل الطَّلاَقِ، فَوَقَعَ، كَطَلاَقِ الْحَامِل؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ، بَل هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ، وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ، أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ، فَلاَ يَمْلِكُ الطَّلاَقَ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِهِ مَحِلَّهُ.
__________
(1) حديث ابن عمر: " أنه طلق امرأته وهي حائض. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 345) ومسلم (2 / 1093) .
(2) رواية ابن عمر: قلت: يا رسول الله رأيت لو أني طلقتها ثلاثا. أخرجها الدارقطني (4 / 63 - ط دار المحاسن) .
(3) مقالة سالم: وكان عبد الله طلقها تطليقة. . . أخرجها مسلم (2 / 1095) .
(4) رواية يونس بن جبير: تحتسب؟ . . . أخرجها البخاري (الفتح، 9 / 351) ومسلم (2 / 1096) ، واللفظ للبخاري.(44/49)
الثَّانِي: يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ حَزْمٍ وَالشَّوْكَانِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَخِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ الطَّلاَقَ الْمُحَرَّمَ لاَ يَقَعُ؛ لأَِنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَهَى عَنْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لأَِمْرِهِ فَكَانَ مَرْدُودًا بَاطِلاً.
وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي قُبُل الْعِدَّةِ، فَإِذَا بَطَل فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ، كَالْوَكِيل إِذَا أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ أَمَرَهُ مُوَكِّلُهُ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِهِ (1) .
ح - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا:
63 - الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِحَدِّ الزِّنَا - كَمَا قَال التَّمْرَتَاشِيُّ - هُوَ إِدْخَال قَدْرِ حَشَفَةٍ مِنْ ذَكَرِ مُكَلَّفٍ نَاطِقٍ طَائِعٍ فِي قُبُل مُشْتَهَاةٍ، خَالٍ عَنْ مِلْكِ الْوَاطِئِ وَشُبْهَتِهِ، فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي (زِنى ف1، 7، 11، 28)
ط - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْغُسْل:
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 / 5، 66، 70 - 72، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص256، المحلى 10 / 61 - 63 وما بعدها، زاد المعاد 5 / 218 / 223، نيل الأوطار 4 / 224 - 226، والمغني 10 / 327.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 504 ط الحلبي.(44/50)
تَغِيبَ الْحَشَفَةُ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (2) ، وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَْرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " وَإِنْ لَمْ يُنْزِل " (3) .
(ر: غُسْل ف 9 - 10، إِكْسَال ف4)
ي - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي تَحْلِيل الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِزَوْجِهَا:
65 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا بَعْدَ الدُّخُول لاَ تَحِل لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (4) } . وَجَمَاهِيرُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى عَدَمِ حِلِّهَا لِلأَْوَّل حَتَّى يَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي
__________
(1) رد المحتار 1 / 109، 211، تبيين الحقائق 1 / 16، 17، المجموع للنووي 2 / 130، 132، شرح النووي على مسلم 4 / 36، 41، القوانين الفقهية ص32، المفهم للقرطبي 2 / 600، التفريع لابن الجلاب 1 / 197، عقد الجواهر الثمينة 1 / 64، شرح منتهى الإرادات 1 / 75، 76، والمغني 1 / 204، الحاوي الكبير 13 / 214.
(2) حديث عائشة: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". أخرجه الشافعي في الأم (1 / 39 - ط المعرفة) وأصله في صحيح مسلم (1 / 272) .
(3) حديث أبي هريرة: إذا جلس بين شعبها الأربع. . أخرجه البخاري (الفتح 1 / 395) ، ومسلم (1 / 271) .
(4) سورة البقرة / 230.(44/50)
وَطْئًا يُوجَدُ فِيهِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِل؛ لِلآْيَةِ (1) .
وَيَرَى سَعِيدُ بْنُ الْمَسَيَّبِ أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لاَ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِحْلاَلَهَا لِلأَْوَّل، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الأَْوَّل.
التَّفْصِيل فِي (تَحْلِيل ف6 - 9، عُسَيْلَة ف2) .
ك - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي التَّحْرِيمِ بِالْمُصَاهَرَةِ:
63 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ - عَلَى التَّأْبِيدِ - أُمُّ زَوْجَتِهِ (وَإِنْ عَلَتْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ) بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا أَمْ لَمْ يَطَأْهَا، وَكَذَلِكَ زَوْجَاتُ الأَْبْنَاءِ (وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ ابْنُ صُلْبِهِ وَابْنُهُ مِنَ الرِّضَاعِ وَابْنُ ابْنِهِ وَابْنُ ابْنَتِهِ) وَزَوْجَاتُ الآْبَاءِ (وَيَتَنَاوَل آبَاءَ الآْبَاءِ وَآبَاءَ الأُْمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا) سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الْعَقْدِ وَطْءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
أَمَّا الرَّبَائِبُ - جُمْعُ رَبِيبَةٍ - وَهِيَ: بِنْتُ امْرَأَةِ الرَّجُل مِنْ غَيْرِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يُرَبِّيهَا فِي حِجْرِهِ غَالِبًا، فَحُرْمَتُهُنَّ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الأُْمِّ، وَالدُّخُول
__________
(1) رد المحتار 2 / 537، والحاوي الكبير 13 / 214، 215، وبداية المجتهد 2 / 87، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 48، 49، والقوانين الفقهية ص215، وشرح منتهى الإرادات 3 / 187، والمغني 10 / 548، 549.(44/51)
بِهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الدُّخُول بَعْدَ الْعَقْدِ، لَمْ يُثْبُتِ التَّحْرِيمُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (رَبِيبَةٍ ف2، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ف9)
ل - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ:
(1) وَطْءُ الْحَائِضِ:
67 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّل الْحَيْضِ، وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ فِي وَسَطِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِذَا كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ الْحَائِضَ، وَهُوَ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ عَلَى سَبِيل التَّخْيِيرِ، أَيُّهُمَا
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 376 وما بعدها، أحكام القرآن للكيا الهراسي 2 / 233، 237 - 247، الحاوي الكبير 11 / 282 - 288، المغني لابن قدامة 9 / 515 - 519.
(2) حديث: " إذا كان دما أحمر فدينار. . . " أخرجه الترمذي (1 / 245) ، وضعفه النووي في المجموع (2 / 360) .(44/51)
402 أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: " يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفٍ دِينَارٍ " (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالاِسْتِغْفَارُ وَتَرْكُ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَالرَّابِعُ: لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ: إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا (2) .
(2) الْوَطْءُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ:
68 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ عَلَى مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
__________
(1) حديث: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. . . أخرجه أبو داود (1 / 181 - 182) والحاكم (1 / 172) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) رسائل ابن عابدين 1 / 114، المجموع 2 / 359 - 360، مغني المحتاج 1 / 110، والقوانين الفقهية ص45، المغني لابن قدامة 1 / 235، الإنصاف 1 / 351، والمحلى لابن حزم 2 / 187.(44/52)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ الآْخَرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَقَال: أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ قَال: لاَ، قَال: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ. قَال: أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ، قَال: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَهُوَ الزَّبِيلُ، قَال: أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ. قَال: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْل بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَال: فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (1) .
وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ قَضَائِهَا، فَلاَ تَجِبُ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلاَةِ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ اسْتِدْلاَلِهِمْ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ الأَْدَاءِ فِي ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ يَتَعَيَّنُ بِهِ، وَالْقَضَاءُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ، وَالصَّلاَةُ لاَ يَدْخُل فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَتِنَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (2) .
(ر: صَوْم ف68، كَفَّارَة ف20 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حديث أبي هريرة: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الآخر وقع على امرأته في رمضان. . . أخرجه البخاري (الفتح 4 / 173) ، ومسلم (2 / 781 - 782) ، واللفظ للبخاري.
(2) تبيين الحقائق 1 / 322، 327، الحاوي للماوردي 3 / 276، 284، بداية المجتهد 1 / 301، 303، المغني 4 / 372، 374.(44/52)
(3) الْوَطْءُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ:
69 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي حَجَّةِ الْقَضَاءِ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَاةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَدَنَةٌ.
أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّلِ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْ جَامَعَهَا بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجَزَاءِ الْوَاجِبِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ، وَقَال مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ (1) .
(ر: إِحْرَام ف 170 - 175)
م - أَثَرُ الْوَطْءِ فِي إِبْطَال الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ:
(1) أَثَرُهُ فِي إِبْطَال الصَّوْمِ:
70 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ عَامِدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ، فَأَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ. وَقَدْ
__________
(1) العيني على الكنز 1 / 102، 103، المجموع 7 / 381، 393، نهاية المحتاج 2 / 456، مطالب أولي النهى 2 / 350، المغني 5 / 166 وما بعدها، المنتقى للباجي 3 / 3، 9، 10.(44/53)
دَلَّتِ الأَْخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
أَمَّا إِذَا جَامَعَهَا نَاسِيًا، فَلاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّهُ مَعْنًى حَرَّمَهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، لَمْ يُفْسِدْهُ كَالأَْكْل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَطَاءٌ: يَفْسُدُ صَوْمُهُ كَالْعَامِدِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تُحَرِّمُ الْوَطْءَ، فَاسْتَوَى فِيهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْحَجِّ، وَلأَِنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، لاَ تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ، كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ (2) .
(2) أَثَرُهُ فِي إِبْطَال الْحَجِّ:
71 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ إِذَا وَقَعَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ الاِسْتِمْرَارُ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ إِلَى نِهَايَتِهِ، ثُمَّ قَضَاؤُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَبَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل.
أَمَّا إِذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّلِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُ فِي قَوْل جُمْهُورِ
__________
(1) المغني 4 / 372.
(2) تبيين الحقائق 1 / 322 وما بعدها، الحاوي الكبير 3 / 276، بداية المجتهد 1 / 301، 303، المغني 4 / 372، 374.(44/53)
الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَفْسُدُ (1) .
التَّفْصِيل فِي (إِحْرَام ف170 - 175) .
ثَانِيًا: الْوَطْءُ بِالأَْقْدَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ أَحْكَامٍ:
أ - وَطْءُ الإِْنْسَانِ الْمُصْحَفَ:
72 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَطِئَ الْمُصْحَفَ عَلَى قَصْدِ الإِْهَانَةِ وَالاِسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا.
أَمَّا إِذَا فَعَل ذَلِكَ مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا فَلاَ يَكْفُرُ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رِدَّة ف20)
ب - وَطْءُ الْقَبْرِ:
73 - الْقَبْرُ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ، فَيُكْرَهُ وَطْؤُهُ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) العيني على الكنز 1 / 103، نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 2 / 456، المغني 5 / 166 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 2 / 68.
(2) رد المحتار 1 / 119، 3 / 56، وحاشية القليوبي 4 / 176، وانظر الشرح الصغير للدردير 4 / 433، حاشية الدسوقي 4 / 301، كشاف القناع 6 / 168، شرح منتهى الإرادات 3 / 386، شرح النووي على مسلم 7 / 37، مختصر سنن أبي داود للمنذري 4 / 342.(44/54)
" لأََنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِيَ بِرِجْلِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ (1) ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " لأََنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ " (2) . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْوَطْءِ عَلَى الْقَبْرِ - وَلَوْ بِلاَ نَعْلٍ - إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، بِأَنْ لاَ يَصِل إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إِلاَّ بِوَطْئِهِ (3) .
أَمَّا الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ: فَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَوْ بِنَعْلٍ وَبِلاَ حَاجَةٍ (4) ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ بِنَعْلٍ - إِلاَّ خَوْفَ نَجَاسَةٍ أَوْ شَوْكٍ أَوْ نَحْوِهِ - وَلاَ يُكْرَهُ إِذَا كَانَ بِخُفٍّ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، وَيَشُقُّ نَزْعُهُ (5) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ
__________
(1) حديث عقبة بن عامر: لأن أمشي على جمرة. . . أخرجه ابن ماجه (1 / 499) ، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (4 / 280 - ط ابن كثير) .
(2) أثر ابن مسعود: لأن أطأ على جمرة أحب إلي. . . أخرجه الطبراني في الكبير (9 / 222 - ط العراق) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 61) : فيه عطاء بن السائب وفيه كلام.
(3) الروضة 2 / 139، حاشية القليوبي 1 / 342، كشاف القناع 2 / 162، 164، شرح منتهى الإرادات 1 / 352.
(4) قليوبي وعميرة 1 / 342، روضة الطالبين 2 / 136.
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 352، كشاف القناع 2 / 164.(44/54)
وَوَطْئِهِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ. قَالُوا: وَيُزَارُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَا يَصْنَعُهُ مَنْ دُفِنَ حَوْل أَقَارِبِهِ خَلْقٌ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ فَمَكْرُوهٌ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ الْقُبُورَ، وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو لَهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الْقَبْرِ بِثَلاَثَةِ قُيُودٍ: أَنْ يَكُونَ مُسَنَّمًا، وَالطَّرِيقُ دُونَهُ، وَظَنُّ دَوَامِ شَيْءٍ مِنْ عِظَامِهِ فِيهِ، وَإِلاَّ جَازَ، بِأَنْ كَانَ مُسَطَّحًا، أَوْ كَانَ مُسَنَّمًا وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ ظُنَّ فِنَاؤُهُ وَعَدَمُ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْقَبْرِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ بِالنِّعَال النَّجِسَةِ (2) .
ج - وَطْءُ الدَّابَّةِ بِرِجْلِهَا:
74 - اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ مَا وَطِئَتِ الْبَهِيمَةُ أَثْنَاءَ سَيْرِهَا بِيَدِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ مَعَهَا مِنْ رَاكِبٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ سَائِقٍ، مَتَى أَمْكَنَ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَعَدٍّ وَلَمْ يَحْصُل مِنْهُ تَفْرِيطٌ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِذْ مَا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ (3) ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 606، والفتاوى الهندية 1 / 166.
(2) ردحاشية الدسوقي 1 / 428، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 272، والخرشي وحاشية الْعَدَوِيّ عليه 2 / 144.
(3) تبيين الحقائق 6 / 149، المبسوط 26 / 188، روضة الطالبين 10 / 197، مغني المحتاج 4 / 204، حاشية الدسوقي 4 / 258، المدونة 6 / 645، تبصرة الحكام 2 / 351، التمهيد لابن عبد البر 7 / 22، المنتقى للباجي 7 / 109، كشاف القناع 4 / 139، شرح منتهى الإرادات 2 / 429.(44/55)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ (1) . وَالْجُبَارُ: هُوَ الْهَدَرُ الَّذِي لاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ (2) . قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِجُرْحِ الْعَجْمَاءِ: إِتْلاَفُهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِجُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجُرْحِ لأَِنَّهُ الأَْغْلَبُ، أَوْ هُوَ مِثَالٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ (4) .
جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: قَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ ضَامِنُونَ لِمَا أَوْطَأَتِ الدَّابَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ أَوْ هِيَ وَاقِفَةٌ لِغَيْرِ شَيْءٍ فَهَدَرٌ. فَقَوْلُهُ: " ضَامِنُونَ " أَيْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ فِيمَا تَعَدَّى. . .
قَال الْجَزُولِيُّ: قَال عَبْدُ الْحَقِّ: قَوْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ: " وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ " يَعْنِي وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُمْ أَوْ عَنْ غَلَبَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيل تَفْرِيطٍ وَلاَ إِهْمَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهَا " (5) .
__________
(1) حديث: " العجماء جرحها جبار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 254) ومسلم (3 / 1334) .
(2) انظر الموطأ 2 / 869، والتمهيد لابن عبد البر 7 / 19 - 22.
(3) شرح النووي على مسلم 11 / 225.
(4) الزرقاني على الموطأ 4 / 26.
(5) تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 351، 352.(44/55)
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: يَضْمَنُ قَائِدُ الدَّابَّةِ وَسَائِقُهَا وَرَاكِبُهَا مَا أَصَابَتْ بِيَدٍ أَوْ فَمٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ ذَنَبٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ هَذَا، وَلاَ يَضْمَنُ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى أَنْ تَطَأَ شَيْئًا فَيَضْمَنَ؛ لأَِنَّ وَطْأَهَا مِنْ فِعْلِهِ، فَتَكُونَ حِينَئِذٍ كَأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِهِ جَنَى بِهَا (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الإِْمَامُ: وَالدَّابَّةُ النَّزِقَةُ الَّتِي لاَ تَنْضَبِطُ بِالْكَبْحِ وَالتَّرْدِيدِ فِي مَعَاطِفِ اللِّجَامِ لاَ تُرْكَبُ فِي الأَْسْوَاقِ، وَمَنْ رَكِبَهَا فَهُوَ مُقَصِّرٌ ضَامِنٌ لِمَا تُتْلِفُهُ (2) .
انْظُرْ (ضَمَان ف102 - 108، وَحَيَوَان ف9) .
__________
(1) الأم 7 / 138.
(2) روضة الطالبين 10 / 198.(44/56)
وَطَن
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَطَنُ - بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالطَّاءِ - فِي اللُّغَةِ: مَنْزِل الإِْقَامَةِ، أَوْ مَكَانُ الإِْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وَيُقَال لِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالإِْبِل: وَطَنٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، جَمْعُهُ أَوْطَانٌ، وَمِثْل الْوَطَنِ الْمَوْطِنُ، وَجَمْعُهُ مَوَاطِنُ، وَأَوْطَنَ: أَقَامَ، وَأَوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ وَاسْتَوْطَنَهُ: اتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوَاطِنُ مَكَّةَ: مَوَاقِفُهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْوَطَنُ: هُوَ مَنْزِل إِقَامَةِ الإِْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وُلِدَ بِهِ أَوْ لَمْ يُولَدْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَحَلَّةُ:
2 - الْمَحَلَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَنْزِل الْقَوْمِ، وَالْجَمْعُ مَحَال (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَنْزِل قَوْمِ إِنْسَانٍ وَلَوْ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.(44/56)
تَفَرَّقَتْ بُيُوتُهُمْ حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّةِ وَالْوَطَنِ أَنَّ الْوَطَنَ أَعَمُّ مِنَ الْمَحَلَّةِ.
أَنْوَاعُ الْوَطَنِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَطَنَ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ، وَوَطَنُ إِقَامَةٍ، وَوَطَنُ سُكْنَى، كَمَا يَلِي:
أ - الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
3 - قَال الْحَنَفِيَّةُ هُوَ: مَوْطِنُ وِلاَدَةِ الإِْنْسَانِ أَوْ تَأَهُّلِهِ أَوْ تَوَطُّنِهِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ، وَيُسَمَّى بِالأَْهْلِيِّ، وَوَطَنُ الْفِطْرَةِ، وَالْقَرَارِ، وَمَعْنَى تَأَهُّلِهِ أَيْ تَزَوُّجِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلْدَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا صَارَ مُقِيمًا، فَإِنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ فِي إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَ لَهُ فِيهَا دُورٌ وَعَقَارٌ، قِيل: لاَ يَبْقَى وَطَنًا، إِذِ الْمُعْتَبَرُ الأَْهْل دُونَ الدَّارِ، وَقِيل: تَبْقَى، وَمَعْنَى تَوَطُّنِهِ أَيْ عَزْمِهِ عَلَى الْقَرَارِ فِيهِ وَعَدَمِ الاِرْتِحَال عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَهَّل فِيهِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْوَطَنُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الشَّخْصُ لاَ يَرْحَل عَنْهُ صَيْفًا وَلاَ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 39.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 532، والمبسوط 1 / 252.(44/57)
شِتَاءً إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ (1) .
وَيَلْحَقُ بِهِ الْقَرْيَةُ الْخَرِبَةُ الَّتِي انْهَدَمَتْ دُورُهَا وَعَزَمَ أَهْلُهَا عَلَى إِصْلاَحِهَا وَالإِْقَامَةِ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً (2) .
كَمَا يَلْحَقُ بِهِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ امْرَأَةٌ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ فِيهِ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ تَأَهَّل فِي بَلَدٍ فَلْيُصَل صَلاَةَ الْمُقِيمِ (3) .
قَال الرُّحَيْبَانِيُّ: وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ (4) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَطَنِ الْبَلَدُ الَّذِي لِلشَّخْصِ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَاشِيَةٌ، وَقِيل: أَوْ مَالٌ (5) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْوَطَنُ هُوَ مَحَل سُكْنَى الشَّخْصِ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ، وَمَوْضِعُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُول بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ سُكْنَاهُ عِنْدَهَا،
__________
(1) المغني 2 / 327، 329، ومطالب أولي النهى 1 / 764، ومغني المحتاج 2 / 294، وتحفة المحتاج 2 / 434.
(2) مغني المحتاج 2 / 280، ومطالب أولي النهى 1 / 757.
(3) حديث: " من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم ". أخرجه أحمد (1 / 62) ، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 156) أن في إسناده راويا ضعيفا.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 722 - 723، وانظر الإنصاف 2 / 331.
(5) الإنصاف 2 / 331.(44/57)
فَمَنْ كَانَ لَهُ بِقَرْيَةٍ وَلَدٌ فَقَطْ أَوْ مَالٌ فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ (1) .
ب - وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ الإِْقَامَةِ هُوَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ مُدَّةٍ قَاطِعَةٍ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَيُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْمُسْتَعَارِ أَوْ بِالْوَطَنِ الْحَادِثِ (2) .
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِحُكْمِ السَّفَرِ (3) .
ج - وَطَنُ السُّكْنَى:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ السُّكْنَى هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ الْمُقَامَ بِهِ أَقَل مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ (4) .
(ر: صَلاَةِ الْمُسَافِرِ ف3 - 8)
شُرُوطُ الْوَطَنِ:
6 - لاَ يُسَمَّى الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الإِْنْسَانُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 362، ومواهب الجليل 2 / 148 - 149.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 532، والمبسوط 1 / 252.
(3) مغني المحتاج 1 / 264 - 265، والإنصاف 2 / 329، وكشاف القناع 1 / 512 - 513، ومواهب الجليل 2 / 148، والزرقاني 2 / 42.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 533، والمبسوط 1 / 25.(44/58)
وَطَنًا لَهُ تُنَاطُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطَنِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا، أَوْ وَطَنَ إِقَامَةٍ، أَوْ وَطَنَ سُكْنَى.
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَبَعْضَهَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ:
7 - أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا بِنَاءً مُسْتَقِرًّا بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبِنَاءِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ عَرَّفُوا الْوَطَنَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ صَلاَةِ الْجُمْعَةِ بِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْمَبْنِيَّةُ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ يَعْتَبِرُونَ الْمَكَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّخْصُ أَوْ تَأَهَّل فِيهِ أَوْ تَوَطَّنَ فِيهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 327، 329، ومغني المحتاج 1 / 280، 282، وتحفة المحتاج 2 / 434، وحاشية الدسوقي 1 / 372، والمدونة 1 / 152، والزرقاني 2 / 42.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 532.(44/58)
شُرُوطُ وَطَنِ الإِْقَامَةِ:
8 - تُشْتَرَطُ لاِتِّخَاذِ مَكَانٍ وَطَنًا لِلإِْقَامَةِ شُرُوطٌ، مِنْهَا: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَمُدَّةُ الإِْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَاتِّخَاذُ مَكَانِ الإِْقَامَةِ، وَصَلاَحِيَّةُ الْمَكَانِ لِلإِْقَامَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَكَانُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا (ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف26 - 29)
شُرُوطُ وَطَنِ السُّكْنَى:
9 - لَيْسَ لِوَطَنِ السُّكْنَى إِلاَّ شَرْطَانِ، وَهُمَا: عَدَمُ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ الإِْقَامَةِ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ - بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ - وَأَنْ لاَ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ فِيهِ.
(ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف8)
مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوَطَنُ:
10 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ لاَ يَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالاِنْتِقَال مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ، بِشَرْطِ نَقْل الأَْهْل مِنْهُ، وَتَرْكِ السُّكْنَى فِيهِ، فَإِذَا هَجَرَ الإِْنْسَانُ وَطَنَهُ الأَْصْلِيَّ، وَانْتَقَل عَنْهُ بِأَهْلِهِ إِلَى وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ، بِشُرُوطِهِ لَمْ يَبْقَ الْمَكَانُ الأَْوَّل وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، فَإِذَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَافِرًا، بَقِيَ مُسَافِرًا عَلَى حَالِهِ، مَا لَمْ يَنْوِ فِيهِ الإِْقَامَةَ، أَوْ مَا لَمْ يُقِمْ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ(44/59)
مُقِيمًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ لَهُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَطَنَ الأَْصْلِيَّ لاَ يَنْتَقِضُ بِاتِّخَاذِ وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ. قَال الرُّحَيْبَانِيُّ: لاَ يَقْصُرُ مَنْ مَرَّ بِوَطَنِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَطَنَهُ فِي الْحَال أَوْ فِي الْمَاضِي، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ طَرِيقُهُ إِلَى بَلَدٍ يَطْلُبُهُ (2) .
وَمَنِ اسْتَوْطَنَ وَطَنًا آخَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِل عَنْ وَطَنِهِ الأَْوَّلِ، كَأَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَثَلاً: الأُْولَى فِي وَطَنِهِ الأَْوَّلِ، وَالثَّانِيَةُ فِي وَطَنٍ آخَرَ جَدِيدٍ، كَانَ الْمَكَانُ الآْخَرُ وَطَنًا لَهُ بِشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوَطَنُ الأَْوَّل بِذَلِكَ، لِعَدَمِ التَّحَوُّل عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ لِلإِْنْسَانِ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُعَدَّانِ وَطَنَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا عُدَّ مُقِيمًا فِيهَا مُنْذُ دُخُولِهِ مُطْلَقًا، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَلاَ يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا، فَلاَ يَنْتَقِضُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 532 - 533، وتبيين الحقائق 1 / 214 - 215.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 722، ونيل المآرب 1 / 187، وحاشية الروض المربع 2 / 292، وكشاف القناع 1 / 509.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 532 - 533، وتبيين الحقائق 1 / 214 - 215، ومطالب أولي النهى 1 / 722 - 723، والإنصاف 2 / 331، وحاشية الدسوقي 1 / 363.(44/59)
بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ، وَأَقَامَ فِيهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، أَوْ نَوَى ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، لَمْ يَنْتَقِضْ بِذَلِكَ وَطَنُهُ الأَْصْلِيُّ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُدَّ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا.
أَمَّا وَطَنُ الإِْقَامَةِ، فَيَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ؛ لأَِنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الإِْقَامَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ مِثْلُهُ، كَمَا يَنْتَقِضُ بِالسَّفَرِ، وَلاَ يَنْتَقِضُ وَطَنُ الإِْقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ دُونَهُ.
أَمَّا وَطَنُ السُّكْنَى، فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ، وَبِوَطَنِ الإِْقَامَةِ، وَبِوَطَنِ السُّكْنَى أَيْضًا، أَمَّا الأَْوَّلاَنِ فَلأَِنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَأَمَّا الآْخِرُ فَلأَِنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.
(ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف5، 7، 9)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَطَنِ:
11 - يَتَعَلَّقُ بِالْوَطَنِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاَثَةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، أَهَمُّهَا: قَصْرُ الصَّلاَةِ، وَجَمْعُ الصَّلَوَاتِ، وَالإِْفْطَارُ فِي رَمَضَانَ، وَالأُْضْحِيَّةُ، وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - قَصْرُ الصَّلاَةِ:
12 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاطِنَ فِي وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ أَوْ وَطَنِ الإِْقَامَةِ، لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ؛(44/60)
لأَِنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةُ السَّفَرِ، وَلاَ يَكُونُ الْقَاطِنُ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَطَنَيْنِ مُسَافِرًا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا عَادَ إِلَى وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْمَامُ مِنْ حِينِ الدُّخُول إِلَى الْوَطَنِ، سَوَاءٌ نَوَى الإِْقَامَةَ فِيهِ مُدَّةً، أَوْ أَقَامَ فِيهِ فِعْلاً، أَوْ نَوَى الْمُرُورَ فِيهِ لِمُتَابَعَةِ السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا دَخَل بَلَدًا وَنَوَى فِيهِ الإِْقَامَةَ، أَوْ أَقَامَ فِيهِ فِعْلاً الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، - بِحَسَبِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُقِيمًا وَيُتِمُّ الصَّلاَةَ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَةِ الْمُسَافِرِ ف26، 31) .
ب - الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ صَلاَتِيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِشُرُوطِهِ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: لاَ جَمْعَ فِي السَّفَرِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: جَمْع الصَّلَوَاتِ ف3 - 8) .
ج - الإِْفْطَارُ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ:
14 - لِلْمُسَافِرِ بِشُرُوطِهِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ مَا دَامَ مُسَافِرًا، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ الشَّهْرَ كُلَّهُ وَالْعُمْرَ كُلَّهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ سَفَرُهُ، فَإِنْ كَانَ الاِنْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ نَهَارِ رَمَضَانَ - بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ - وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ حُرْمَةً لِلشَّهْرِ، ثُمَّ الصِّيَامُ فِي(44/60)
الأَْيَّامِ الأُْخْرَى، وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ السَّفَرِ فِي اللَّيْل لَزِمَهُ الصِّيَامُ فِي الأَْيَّامِ الأُْخْرَى، مَا لَمْ يُسَافِرْ.
وَانْقِطَاعُ السَّفَرِ يَكُونُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ وَلَوْ كَانَ مُرُورًا فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُصْبِحَ مُقِيمًا فِي وَطَنِ الإِْقَامَةِ بِشُرُوطِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَوْمٍ ف61) .
د - الإِْعْفَاءُ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ:
15 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الأُْضْحِيَّةِ الْوُجُوبُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَاشْتَرَطَ الأَْوَّلُونَ لِوُجُوبِهَا الإِْقَامَةَ، وَقَالُوا: لاَ تَجِبُ الأُْضْحِيَّةُ عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لأَِنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ لاَ يَجِدُ مَا يُضَحِّي بِهِ بِشُرُوطِهِ، فَيَكُونُ فِي تَكْلِيفِهِ بِهَا حَرَجٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ قَبْل فَجْرِ يَوْمِ عِيدِ الأَْضْحَى، وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الأُْضْحِيَّةَ تَلْزَمُهُ، لاِنْقِطَاعِ سَفَرِهِ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَيَنْقَطِعُ السَّفَرُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِدُخُول الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ وَلَوْ مُرُورًا فِيهِ، أَوْ بِعَدِّهِ مُقِيمًا فِي وَطَنِ الإِْقَامَةِ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِسِنِّيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا الإِْقَامَةَ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أُضْحِيَّة ف15) .
هـ - سُقُوطُ التَّكْلِيفِ بِالْجُمُعَةِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، فَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسَافِرِ، فَإِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ قَبْل إِقَامَةِ صَلاَةِ(44/61)
الْجُمُعَةِ، وَجَبَتْ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَانْقِطَاعُ السَّفَرِ يَكُونُ بِدُخُول الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ مُطْلَقًا، وَلَوْ مُرُورًا فِيهِ، أَوْ بِعَدِّهِ مُقِيمًا فِي وَطَنِ الإِْقَامَةِ بِشُرُوطِهِ.
(ر: صَلاَة الْجُمُعَةِ ف11، سَفَر ف13)
و سُقُوطُ التَّكْلِيفِ بِالْعِيدَيْنِ:
17 - صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ بِهَا الإِْقَامَةُ أَوِ الاِسْتِيطَانُ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يُكَلَّفُ بِهَا الْمُسَافِرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا دَخَل الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ الأَْصْلِيَّ أَوْ أَقَامَ فِي وَطَنِ إِقَامَةٍ بِشُرُوطِهِ قَبْل حُلُول وَقْتِهَا، كُلِّفَ بِهَا كَمَا فِي الْجُمُعَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَة الْعِيدَيْنِ ف2 - 3) .
ز - نَقْل الزَّكَاةِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ مَعَهُ فِي نَفْسِ الْبَلَدِ، فَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِزَكَاةِ هَذَا الْمَال أَهْل الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ وَأَمْوَالُهُ فِي آخَرَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَلَدُ وُجُودِ الْمَال أَوْ بَلَدُ وُجُودِ الْمُزَكِّي، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
(ر: زَكَاة ف185)(44/61)
ح - تَوَطُّنُ الْحَرْبِيَّةِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
19 - إِذَا دَخَلَتِ الْحَرْبِيَّةُ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ وَتَزَوَّجَتْ بِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً، فَالْمَرْأَةُ بِالسُّكْنَى تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَجَعَلَتْ نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً (1) .
(ر: أَهْل الذِّمَّةِ ف13، مُسْتَأْمَن ف38)
ط - تَغْرِيبُ الزَّانِي الْغَرِيبِ إِلَى غَيْرِ وَطَنِهِ:
20 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى غَرِيبٌ غُرِّبَ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِ وَطَنِهِ لِيَكُونَ تَغْرِيبًا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْغَرِيبُ إِنْ زَنَى بِفَوْرِ نُزُولِهِ الْبَلَدَ الَّذِي زَنَى بِهِ يُسْجَنُ فِيهِ، وَإِنْ زَنَى بِهِ بَعْدَ تَأَنُّسِهِ بِأَهْلِهِ يُغَرَّبُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ (3) .
(ر: تَغْرِيب ف2)
ي - هِجْرَةُ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ وَطَنِهِ:
21 - لِهِجْرَةِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ وَطَنِهِ حَالاَتٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ.
__________
(1) المبسوط للسرخسي 10 / 84، والفتاوى الهندية 2 / 235.
(2) مغني المحتاج 4 / 148، وكشاف القناع 6 / 92.
(3) منح الجليل 4 / 499.(44/62)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَار الْحَرْبِ ف2، وَهِجْرَة ف10) .
ك - التَّوَطُّنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
22 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُسَافِرَ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلتَّوَطُّنِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ.
أَمَّا السَّفَرُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُلْزِمُوهُ بِفِعْل مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفَرُ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمُفَادَاةِ مُسْلِمٍ أَوْ تَبْلِيغِ رِسَالَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ (1) .
(ر: دَار الْحَرْبِ ف15)
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 384، والقوانين الفقهية ص296، ومنح الجليل 4 / 214، ومواهب الجليل 2 / 518، المدخل لابن الحاج 4 / 58 - 59، والمدونة 4 / 270، والفروع لابن مفلح 308، والمحلى لابن حزم 9 / 65.(44/62)
وَظِيفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَظِيفَةُ مِنْ كُل شَيْءٍ: مَا يُقَدَّرُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ عَمَلٍ فِي زَمَنِ مُعَيَّنٍ. يُقَال: وَظَّفَ الشَّيْءَ عَلَى نَفْسِهِ: أَلْزَمَهَا إِيَّاهُ، وَوَظَّفَهُ: عَيَّنَ لَهُ فِي كُل يَوْمٍ وَظِيفَةً، وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْعَمَل وَالْخَرَاجَ وَنَحْوَ ذَلِكَ: قَدَّرَهُ. وَالْوَظِيفَةُ: الْوِرْدُ مِنْ قِرَاءَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَنْصِبِ وَالْخِدْمَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مُوَلَّدٌ (1) .
وَالْوَظِيفَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُقَدَّرُ فِي كُل يَوْمٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ رِزْقٍ. كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مَجَازًا. وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَمَل الْمَطْلُوبِ الْقِيَامُ بِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْوْرَادِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمِهْنَةُ:
2 - الْمِهْنَةُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - لُغَةً: الْخِدْمَةُ
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (وظف) ، والمصباح المنير مادة (ورد) .
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 295، وكشاف القناع 4 / 268، ومطالب أولي النهى 4 / 192 - 193.(44/63)
وَالْعَمَل وَنَحْوُهُ (1) .
وَلاَ يُخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَظِيفَةِ وَالْمِهْنَةِ أَنَّ الْوَظِيفَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمِهْنَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَظِيفَةِ:
أَوَّلاً: الْوَظِيفَةُ بِمَعْنَى الْعَمَل الْمَطْلُوبِ الْقِيَامُ بِهِ:
الْوَظِيفَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً.
النوع الأول: الْوَظَائِفُ الْعَامَّةُ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:
أ - مَنْ لَهُ حَقُّ تَوْلِيَةِ الْوَظَائِفِ الْعَامَّة ِ:
3 - يُعْتَبَرُ فِي تَوْلِيَةِ الْوَظَائِفِ نُفُوذُ الأَْوَامِرِ وَجَوَازُ النَّظَرِ، فَكُل مَنْ جَازَ نَظَرُهُ فِي عَمَلٍ نَفَذَتْ فِيهِ أَوَامِرُهُ وَصَحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةُ الْعُمَّال عَلَيْهِ. وَهُوَ يَكُونُ مِنَ أَحَدِ ثَلاَثَةٍ: إِمَّا مِنَ السُّلْطَانِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُل الأُْمُورِ، وَإِمَّا مِنْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، وَإِمَّا مِنْ عَامِلٍ عَامِّ الْوِلاَيَةِ كَعَامِل إِقْلِيمٍ أَوْ مِصْرٍ عَظِيمٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المني، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركي.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص209.(44/63)
ب - مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْوَظِيفَةَ الْعَامَّةَ:
4 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَلَّى الْوَظِيفَةَ الْعَامَّةَ أَنْ يُوثَقَ بِأَمَانَتِهِ، وَأَنْ يَسْتَقِل بِكِفَايَتِهِ، وَيَكُونَ أَصْلَحَ النَّاسِ لِتَوَلِّي الْوَظِيفَةِ (1) . قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَلَّى مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاسْتَعْمَل عَلَيْهِمْ رَجُلاً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ: مَنِ اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ (3) .
ج - مَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ عِنْدَ تَوْلِيَةِ الْوَظِيفَةِ:
5 - يَلْزَمُ تَوَافُرُ مَا يَلِي عِنْدَ تَوْلِيَةِ الْوَظِيفَةِ:
1 - تَعْيِينُ الْعَمَل الَّذِي يَخْتَصُّ الْمُوَظَّفُ بِالنَّظَرِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص209، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص9.
(2) حديث: " من تولى من أمر المسلمين شيئا. . . " أخرجه الطبراني في الكبير (11 / 114 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 212) : فيه أبو محمد الجزري حمزة، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) حديث: " من استعمل رجلا من عصابة. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (4 / 62 - 63) من حديث ابن عباس، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 62) عن الذهبي أنه ذكر أن فيه راويا ضعيفا.(44/64)
فِيهِ مِنْ جِبَايَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ أَوْ غَيْرِهَا.
2 - الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَل وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ.
3 - تَحْدِيدُ الْمَكَانِ الَّذِي يُمَارِسُ فِيهِ الْمُوَظَّفُ عَمَلَهُ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ (1) .
د - وِلاَيَةُ النَّظَرِ فِي الْوَظِيفَةِ:
6 - وِلاَيَةُ الْمُوَظَّفِ فِي الْوَظِيفَةِ لَهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ (كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى) :
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةِ الشُّهُورِ أَوِ السِّنِينَ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهَا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ مُجَوِّزًا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَمَانِعًا مِنَ النَّظَرِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا. وَلاَ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَيَّدَةِ لاَزِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي، وَلَهُ صَرْفُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ صَلاَحًا، فَأَمَّا لُزُومُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَامِل الْمُوَلَّى فَمُعْتَبَرٌ بِحَال مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الأَْجْرِ، فَإِنْ كَانَ الْجَارِي مَعْلُومًا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الأُْجُورُ لَزِمَهُ الْعَمَل فِي الْمُدَّةِ إِلَى انْقِضَائِهَا؛ لأَِنَّ الْعِمَالَةَ فِيهَا تَصِيرُ مِنَ الإِْجَارَاتِ الْمَحْضَةِ، وَيُؤْخَذُ الْعَامِل فِيهَا بِالْعَمَل إِلَى انْقِضَائِهَا إِجْبَارًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي تَخْيِيرِ الْمُوَلِّي وَلُزُومِهَا لِلْمُوَلَّى أَنَّهَا فِي جَنَبَةِ الْمُوَلِّي مِنَ الْعُقُودِ الْعَامَّةِ لِنِيَابَتِهِ فِيهَا عَنِ الْكَافَّةِ، فُرُوعِيَ
__________
(1) الماوردي 209.(44/64)
الأَْصْلَحُ فِي التَّخْيِيرِ، وَهِيَ فِي جَنَبَةِ الْمُوَلَّى مِنَ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، لِعَقْدِهِ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ اللُّزُومِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ جَارِيهِ بِمَا يَصِحُّ فِي الأُْجُورِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْمُدَّةُ، وَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْعَمَل إِذَا شَاءَ بَعْدَ أَنْ يُنْهِيَ إِلَى مُوَلِّيهِ حَال تَرْكِهِ، حَتَّى لاَ يَخْلُوَ عَمَلُهُ مِنْ نَاظِرٍ فِيهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَدَّرَ بِالْعَمَل فَيَقُول الْمُوَلِّي فِيهِ: قَدْ قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ انْعَزَل عَنْهُ، وَهُوَ قَبْل فَرَاغِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ وَفَسَادِهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلاَ يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ وَلاَ عَمَلٍ، فَيَقُول فِيهِ: قَدْ قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ مَثَلاً، فَهَذَا تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الإِْذْنُ لِجَوَازِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللُّزُومَ الْمُعْتَبَرَ فِي عُقُودِ الإِْيجَارَاتِ (1) .
7 - وَإِذَا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَجَازَ النَّظَرُ لَمْ يَخْل حَالُهُ مِنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدِيمًا أَوْ مُنْقَطِعًا.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 210 - 211، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 247.(44/65)
فَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمًا كَالنَّظَرِ فِي الْجِبَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَحُقُوقِ الْمَعَادِنِ فَيَصِحُّ نَظَرُهُ فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل.
وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْهُودَ الْعَوْدِ فِي كُل عَامٍ كَالْوَالِي عَلَى قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، فَيَنْعَزِل بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا فِي كُل عَامٍ كَالْخَرَاجِ الَّذِي إِذَا اسْتُخْرِجَ فِي عَامٍ عَادَ فِيمَا يَلِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يَكُونُ إِطْلاَقُ تَقْلِيدِهِ مَقْصُورًا عَلَى نَظَرِ عَامِهِ أَوْ مَحْمُولاً عَلَى كُل عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَقْصُورًا لِلنَّظَرِ عَلَى الْعَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى خَرَاجَهُ أَوْ أَخَذَ أَعْشَارَهُ انْعَزَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعَامِ الثَّانِي إِلاَّ بِتَقْلِيدٍ مُسْتَجَدٍّ اقْتِصَارًا عَلَى الْيَقِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يُحْمَل عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ فِي كُل عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَظَائِفُ الْخَاصَّةُ:
8 - الْوَظَائِفُ الْخَاصَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِطُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 210 - 211، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 247.(44/65)
بِالْعُقُودِ الَّتِي يُنْشِئُهَا الْمُتَعَاقِدُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّ حَقَّ تَعْيِينِ الْوَظَائِفِ يَكُونُ مِنْ حَقِّ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُقُودِ الْمُنْشِئَةِ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي حُدُودِ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْوِلاَيَاتِ إِحْدَاثُ وَظِيفَةٍ فِيهِ لَمْ تَكُنْ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلاَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ فِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ قُرِّرَ فِيهَا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ إِلْغَاءُ وَظِيفَةٍ مِمَّا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَيُفَسَّقُ بِهِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ، وَيَنْعَزِل النَّاظِرُ بِهِ، وَلاَ يَحِقُّ لأَِحَدٍ غَيْرِ الْوَاقِفِ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ إِلاَّ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَعَجْزٍ أَوْ خِيَانَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْفُذُ الْعَزْل، وَيُفَسَّقُ بِهِ عَازِلُهُ وَيُطَالَبُ بِسَبَبِهِ (1) .
صِيغَةُ تَوْلِيَةِ الْوَظَائِفِ:
9 - تَوْلِيَةُ الْوَظَائِفِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ أَوْ بِأَلْفَاظِ كِنَايَةٍ، وَالتَّفْصِيل فِي (تَوْلِيَة ف10 - 12) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوْلِيَةِ بِاللَّفْظِ وَبِالْكِتَابَةِ كَذَلِكَ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ
__________
(1) حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المنهاج 3 / 110، والأشباه لابن نجيم ص125، وابن عابدين 3 / 386.(44/66)
الْحَال. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ بِصِيغَةٍ مُنَجَّزَةٍ (1) .
10 - وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّقِ التَّوْلِيَةِ عَلَى شَرْطٍ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُ التَّقْرِيرِ فِي الْوَظَائِفِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قُتِل زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِل جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (2) .
وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ فَقَال: فُلاَنٌ وَصِيٌّ حَتَّى يَقَدُمَ فُلاَنٌ، فَإِذَا قَدِمَ فُلاَنٌ فَفُلاَنٌ الْقَادِمُ وَصِيٌّ، أَيَجُوزُ هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، هَذَا جَائِزٌ.
وَوَرَدَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الدِّينِ ابْنِ قُدَامَةَ: إِذَا قَال: أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، صَحَّ ذَلِكَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيًّا. . . لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ: أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ فَإِنْ قُتِلَ، فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِل فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 418، والمدونة 15 / 18 (طبعة السعادة) ، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 340، والشرح الكبير للمقدسي 6 / 582، والفروع 4 / 711 - 712.
(2) حديث: إن قتل زيد فجعفر. . . أخرجه البخاري (الفتح 7 / 510) من حديث ابن عمر.(44/66)
رَوَاحَةَ وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَى التَّأْمِيرِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْوِلاَيَاتِ - وَمِنْهَا التَّقْرِيرُ عَلَى الْوَظَائِفِ - بِشَرْطٍ إِلاَّ فِي مَحَل الضَّرُورَةِ، كَالإِْيصَاءِ وَالإِْمَارَاتِ، وَعَلَيْهِ قَالُوا بِبُطْلاَنِ الشَّرْطِ فِي حَقِّ الأَْوْلاَدِ فِيمَنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِهِ بَعْدَهُ.
وَقَالُوا فِي وَاقِعَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ: إِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ الإِْمَارَةَ كَانَتْ مُنَجَّزَةً، وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَوْتِ (2) .
الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَأْيٍ قَال عَنْهُ الْحَطَّابُ: ضَعِيفٌ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - مِنْهُمُ السُّبْكِيُّ - أَنَّهُ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 418، والمدونة 15 / 18، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 340، والشرح الكبير للمقدسي 6 / 582، والفروع 4 / 711 - 712.
(2) حاشيتا القليوبي وعميرة على شرح المنهاج 2 / 340.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 183، 4 / 14، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص391، ومواهب الجليل 4 / 12 - 13، وأسنى المطالب 3 / 236، مع حاشية الرملي، وحاشية القليوبي 3 / 323، وحاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 92، ومطالب أولي النهى 4 / 191 - 192، وتحفة الحبيب على شرح الخطيب 3 / 401.(44/67)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خلو ف16)
الْغَيْبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُوَظَّفُ الْعَزْل مِنَ الْوَظِيفَةِ:
12 - لِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْغَيْبَةِ لِعَزْل الْمُوَظَّفِ عَنْ وَظِيفَتِهِ وَسُقُوطِ مَعْلُومِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا غَابَ عَنِ الْمَدْرَسَةِ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ لاَ، فَإِنْ خَرَجَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ ثُمَّ رَجَعَ، لَيْسَ لَهُ طَلَبُ مَا مَضَى مِنْ مَعْلُومِهِ بَل يَسْقُطُ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ لَحَجٍّ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لِسَفَرٍ بِأَنْ خَرَجَ إِلَى الرُّسْتَاقِ (1) فَإِنْ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ بِلاَ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِلتَّنَزُّهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَطَلَبِ الْمَعَاشِ فَهُوَ عَفْوٌ إِلاَّ أَنْ تَزِيدَ غَيْبَتُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَلِغَيْرِهِ أَخْذُ حُجْرَتِهِ وَوَظِيفَتِهِ؛ أَيْ مَعْلُومِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمِصْرِ: فَإِنِ اشْتَغَل بِكِتَابَةِ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ عَفْوٌ وَإِلاَّ جَازَ عَزْلُهُ أَيْضًا.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا خَرَجَ لِلرُّسْتَاقِ وَأَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقِيل: يَسْقُطُ، وَقِيل: لاَ، هَذَا حَاصِل مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الشِّحْنَةِ فِي شَرْحِهِ،
__________
(1) الرستاق معرب ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم (المصباح المنير) .(44/67)
وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مَعْلُومُهُ الْمَاضِي وَلاَ يُعْزَل فِي الآْتِي إِذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ مُشْتَغِلاً بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ خَرَجَ لِغَيْرِ سَفَرٍ وَأَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَكْثَرَ لَكِنْ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَطَلَبِ الْمَعَاشِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَاضِي وَلاَ يُعْزَل، وَلَوْ خَرَجَ مُدَّةَ سَفَرٍ وَرَجَعَ، أَوْ سَافَرَ لِحَجٍّ وَنَحْوِهِ، أَوْ خَرَجَ لِلرُّسْتَاقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَاضِي وَيُعْزَل لَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ وَأَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ لِعُذْرٍ، قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: وَكُل هَذَا إِذَا لَمْ يُنَصِّبْ نَائِبًا عَنْهُ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُ وَظِيفَتِهِ، وَفِي الْقِنْيَةِ مِنْ بَابِ الإِْمَامَةِ: إِمَامٌ يَتْرُكُ الإِْمَامَةَ لِزِيَارَةِ أَقْرِبَائِهِ فِي الرَّسَاتِيقِ أُسْبُوعًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لاِسْتِرَاحَةٍ، لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمِثْلُهُ عَفْوٌ فِي الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ.
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ خُرُوجَهُ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ لاَ يُسْقِطُ مَعْلُومَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الأَْشْبَاهِ فِي قَاعِدَةِ: (الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ) عِبَارَةَ الْقِنْيَةِ هَذِهِ، وَحَمَلَهَا عَلَى أَنَّهُ يُسَامَحُ أُسْبُوعًا فِي كُل شَهْرٍ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ مُحَشِّيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي كُل شَهْرٍ، لَيْسَ فِي عِبَارَةِ الْقِنْيَةِ مَا يَدُل عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَالأَْظْهَرُ مَا فِي آخِرِ شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي لِلْحَلَبِيِّ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي كُل سَنَةٍ.(44/68)
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْقَيِّمَ خَرَسٌ أَوْ عَمًى أَوْ جُنُونٌ أَوْ فَالِجٌ أَوْ نَحْوُهُ مِنَ الآْفَاتِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْكَلاَمُ وَالأَْمْرُ وَالنَّهْيُ وَالأَْخْذُ وَالإِْعْطَاءُ فَلَهُ أَخْذُ الأَْجْرِ وَإِلاَّ فَلاَ.
قَال الطَّرَطُوسِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمُدَرِّسَ وَنَحْوَهُ إِذَا أَصَابَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَجٍّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُبَاشَرَةُ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومَ؛ لأَِنَّهُ أَدَارَ الْحُكْمَ فِي الْمَعْلُومِ عَلَى نَفْسِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ وُجِدَتِ اسْتَحَقَّ الْمَعْلُومَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
النُّزُول عَنِ الْوَظَائِفِ:
13 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَوْ عَزَل نَفْسَهُ لاَ يَنْعَزِل حَتَّى يُبْلِغَ الْقَاضِيَ فَيُنَصِّبَ غَيْرَهُ.
وَإِنْ عَزَل نَفْسَهُ لِفَرَاغٍ لِغَيْرِهِ عَنْ وَظِيفَةِ النَّظَرِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَنْزُول لَهُ غَيْرَ أَهْلٍ لاَ يُقَرِّرُهُ الْقَاضِي، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْرِيرُهُ وَلَوْ كَانَ أَهْلاً.
وَأَفْتَى الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ بِأَنَّ مَنْ فَرَغَ لإِِنْسَانٍ عَنْ وَظِيفَتِهِ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ لَمْ يُقَرِّرِ النَّاظِرُ الْمَنْزُول لَهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَزَل الإِْنْسَانُ عَنْ وَظِيفَةٍ مِنْ إِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ أَوْ تَدْرِيسٍ وَنَحْوِهِ لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْقِيَامِ بِهَا فَلاَ يُقَرَّرُ غَيْرَ مَنْزُولٍ لَهُ؛ لِتُعَلِّقِ حَقِّهِ بِهَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 407 - 408
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 386.(44/68)
فَإِنْ قَرَّرَهُ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ كَالنَّاظِرِ فَقَدْ تَمَّ الأَْمْرُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَرِّرْهُ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّقْرِيرِ، فَالْوَظِيفَةُ لِلنَّازِل؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل مِنْهُ رَغْبَةٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ وَظِيفَتِهِ، بَل مُقَيَّدَةٌ بِحُصُولِهِ لِلْمَنْزُول لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ التَّقْرِيرُ فِي مِثْل هَذَا، إِنَّمَا يُقَرِّرُ فِيمَا هُوَ خَالٍ عَنْ يَدِ مُسْتَحِقٍّ أَوْ فِي يَدِ مَنْ يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ لِمُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْرِيرُهُ سَائِغًا.
وَقَال الرُّحَيْبَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ مَنْزُولٌ لَهُ، وَيُوَلِّي مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا شَرْعًا، فَمَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ تَمَامِ النُّزُول، إِمَّا لِكَوْنِهِ قَبْل الْقَبُول مِنَ الْمَنْزُول لَهُ أَوْ قَبْل الإِْمْضَاءِ إِذَا كَانَ النُّزُول مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الإِْمْضَاءِ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى مَنْ رَغِبَ عَنْهُ رَغْبَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْمَنْزُول لَهُ أَهْلاً، فَفِي هَذَا يَتَّجِهُ الْقَوْل بِهِ، وَإِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ النُّزُول مَشْرُوطًا بِالإِْمْضَاءِ، وَتَمَّ النُّزُول بِالْقَبُول مِنَ الْمَنْزُول لَهُ وَالإِْمْضَاءِ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْزُول لَهُ أَهْلاً، فَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَيْهِ عَاجِلاً بِقَبُولِهِ وَلَيْسَ لأَِحَدٍ التَّقَرُّرُ عَنِ الْمَنْزُول لَهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقْرِيرِ نَاظِرٍ وَلاَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُ، إِذْ هُوَ حَقٌّ لَهُ نَقَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِهِ لَيْسَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، أَشْبَهَ سَائِرِ حُقُوقِهِ، إِذْ لاَ فَرْقَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، مِنْهَا مَا ذَكَرُوا فِي الْمُتَحَجِّرِ أَنَّ مَنْ نَقَلَهُ إِلَيْهِ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا ذَكَرُوا أَنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لَيْسَ(44/69)
لِلإِْمَامِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ وَدَفْعُهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ آثَرَ بِهَا غَيْرَهُ صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا، مَعَ أَنَّ لِلإِْمَامِ نَظَرًا وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ، وَقَال " الْمُوَضِّحُ ": مُلَخَّصُ كَلاَمِ الأَْصْحَابِ: يَسْتَحِقُّهَا مَنْزُولٌ لَهُ إِنْ كَانَ أَهْلاً، وَإِلاَّ فَلِلنَّاظِرِ تَوْلِيَةُ مُسْتَحِقِّهَا شَرْعًا (1) .
تَقْرِيرُ أَوْلاَدِ الْمُوَظَّفِينَ فِي وَظِيفَةِ آبَائِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ:
14 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ وَظِيفَةٌ فِي بَيْتِ الْمَال لِحَقِّ الشَّرْعِ وَإِعْزَازِ الإِْسْلاَمِ كَأُجْرَةِ الإِْمَامِ وَالتَّأْذِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِلْمَيِّتِ أَبْنَاءٌ يُرَاعُونَ وَيُقِيمُونَ حَقَّ الشَّرْعِ وَإِعْزَازِ الإِْسْلاَمِ كَمَا كَانَ يُرَاعِي الأَْبُ وَيُقِيمُهُ - فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَ وَظِيفَةَ الأَْبِ لأَِبْنَاءِ الْمَيِّتِ لاَ لِغَيْرِهِمْ لِحُصُولٍ مَقْصُودِ الشَّرْعِ وَانْجِبَارِ كَسْرِ قُلُوبِهِمْ (2) .
قَال الْبِيرِيُّ: هَذَا مُؤَيِّدٌ لِمَا هُوَ عُرْفُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمِصْرَ، وَالرُّومِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فِي إِبْقَاءِ أَبْنَاءِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ عَلَى وَظَائِفِ آبَائِهِمْ مُطْلَقًا مِنْ إِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ عُرْفًا مَرْضِيًّا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ خَلَفِ الْعُلَمَاءِ وَمُسَاعَدَتَهُمْ عَلَى تَحْصِيل الْعِلْمِ، هَذَا إِذَا كَانُوا أَهْلاً، أَمَّا إِذَا كَانُوا
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 192 - 193.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 281.(44/69)
غَيْرَ أَهْلٍ فَلاَ (1) .
مَوْتُ صَاحِبِ الْوَظِيفَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الأَْجْرِ:
15 - إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْوَظِيفَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فِي الْوَظِيفَةِ: فَإِنْ كَانَ الْعَمَل مِمَّا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ فِيهِ كَالْمَعَاصِي سَقَطَ حَقُّهُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ فِيهِ أُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا بَاشَرَ مِنَ الْعَمَل وَيَكُونُ مِيرَاثًا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَمَل عِبَادَةً كَالأَْذَانِ وَالإِْمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَجِّ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ هَؤُلاَءِ لَهُ شَبَهٌ بِالأُْجْرَةِ وَالصِّلَةِ، وَمَنْ رَجَّحَ شَبَهَ الصِّلَةِ قَال بِسُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ وَهُمُ الَّذِينَ مَنَعُوا أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ؛ لأَِنَّ الصِّلَةَ لاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَمَنْ رَجَّحَ شَبَهَ الأُْجْرَةِ قَالُوا: يُعْطَى بِقَدْرِ مَا بَاشَرَ مِنَ الْعَمَل وَيَكُونُ مِيرَاثًا (2) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجَارَة ف108 وَمَا بَعْدَهَا) .
اسْتِحْقَاقُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْوَظِيفَةِ:
16 - الْوَظِيفَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي عَمَلٍ خَاصٍّ، أَوْ تَكُونَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ، أَمَّا الأَْوَّل فَهُوَ الأَْجِيرُ الْخَاصُّ (الأَْجِيرُ الْوَاحِدُ) وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الأَْجْرَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف 119 - 130) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 281.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 406 - 407.(44/70)
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَلِي وِلاَيَةً عَامَّةً كَالإِْمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالإِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَكُل مَا هُوَ طَاعَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِهِ الأَْجْرَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف108 - 121، 139 - 151) .
أَمَّا الْمَعَاصِي فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا وَلاَ يَسْتَحِقُّ بِهِ الأَْجِيرُ أَجْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف108 - 121، 139 - 151) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: إِنَّ جَارِيَ الْعَامِل عَلَى عَمَلِهِ لاَ يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُسَمَّى مَعْلُومًا. وَالثَّانِي أَنْ يُسَمَّى مَجْهُولاً. وَالثَّالِثُ أَنْ لاَ يُسَمَّى بِمَجْهُولٍ وَلاَ بِمَعْلُومٍ.
فَإِنْ سُمِّيَ مَعْلُومًا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى إِذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ، فَإِنْ كَانَ لِتَرْكِ بَعْضِ الْعَمَل لَمْ يَسْتَحِقَّ جَارِيَ مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لِخِيَانَةٍ مِنْهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَل اسْتَكْمَل جَارِيَهُ وَارْتَجَعَ مَا خَانَ فِيهِ.
وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَل رُوعِيَتِ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُل فِي حُكْمِ عَمَلِهِ كَانَ نَظَرُهُ فِيهَا مَرْدُودًا لاَ يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حُكْمِ نَظَرِهِ لَمْ يَخْل مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهَا بِحَقٍّ أَوْ ظُلْمٍ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا بِحَقٍّ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهَا لاَ يَسْتَحِقُّ لَهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي جَارِيهِ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا(44/70)
وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى مَنْ ظُلِمَ بِهَا وَكَانَ عُدْوَانًا مِنَ الْعَامِل يُؤْخَذُ بِجَرِيرَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ سُمِّيَ جَارِيهِ مَجْهُولاً اسْتَحَقَّ جَارِيَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ، فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَل مُقَدَّرًا فِي الدُّيُونِ وَعَمِل بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّال صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِي الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل بِهِ إِلاَّ وَاحِدٌ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جَارِي الْمِثْل.
ثُمَّ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُسَمَّ جَارِيهِ بِمَعْلُومٍ وَلاَ بِمَجْهُولٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِجَارِي مِثْلِهِ عَلَى عَمَلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ قَالَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَنَّهُ لاَ جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ جَارِيًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ. وَقَال الْمُزَنِيُّ: لَهُ جَارِي مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لاِسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إِذْنِهِ، وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ. وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَل فِي الاِبْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأُذِنَ لَهُ فِي الْعَمَل فَلاَ جَارِيَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَال مُسْتَحَقٌّ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ (1) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص249.(44/71)
وَقَال أَبُو يَعْلَى: إِنْ لَمْ تُسَمَّ لَهُ جَارِيَةٌ بِمَعْلُومٍ وَلاَ مَجْهُولٍ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارٍ مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ يُسْتَحَقُّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَال مِنْ أَسْهُمِ الْمَصَالِحِ (1) .
ثَانِيًا: الْوَظِيفَةُ بِمَعْنَى الْوِرْدِ:
17 - الْوِرْدُ هُوَ مَا يُرَتِّبُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ كُل يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ مِنْ عَمَلٍ، وَيُنْظَرُ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا فِي مُصْطَلَحِ (وِرْد) .
ثَالِثًا: الْوَظِيفَةُ بِمَعْنَى مَا يَجِبُ فِي الأَْرْضِ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ:
18 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمَ مَا يَجِبُ عَلَى الأَْرْضِ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَى عُشْرٍ وَخَرَاجٍ، كَمَا قَسَّمُوا الْخَرَاجَ إِلَى خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ وَخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ.
وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِمَا فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاء الْمَوَاتِ ف28، خَرَاج ف14 - 15) .
رَابِعًا: الْوَظِيفَةُ بِمَعْنَى مَا يُقَدَّرُ فِي كُل يَوْمٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ رِزْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ:
19 - إِنْ كَانَ الْمُعْطَى مِنْ رِزْقٍ أَوْ طَعَامٍ هُوَ مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 211.(44/71)
بَيْتِ الْمَال فَهُوَ الرِّزْقُ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَدُّ الْكِفَايَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِزْق ف4 وَمَا بَعْدَهَا) وَإِنْ كَانَ الْمُعْطَى مِنْ غَيْرِ بَيْتِ الْمَالِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَا حَدَّدَهُ الْمُعْطِي لِهَذَا الْمَالِ، قَل الْمُعْطَى أَوْ كَثُرَ.
وَعْد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَعْدُ فِي اللُّغَةِ يُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَيُقَال: وَعَدْتُهُ خَيْرًا وَوَعَدْتُهُ شَرًّا.
وَالْعِدَةُ: الْوَعْدُ، وَقَالُوا فِي الْخَيْرِ: وَعَدَهُ وَعْدًا وَعِدَةً، وَفِي الشَّرِّ: وَعَدَهُ وَعِيدًا، فَالْمَصْدَرُ فَارِقٌ بَيْنَهُمَا.(44/72)
وَيُقَال: أَنْجَزَ الْوَعْدَ إِنْجَازًا؛ أَيْ أَوْفَى بِهِ، وَنَجَزَ الْوَعْدُ، وَهُوَ نَاجِزٌ: إِذَا حَصَل وَتَمَّ، وَوَعَدْتُهُ فَاتَّعَدَ: أَيْ قَبِل الْوَعْدَ (1) .
وَالْوَعْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الإِْخْبَارُ بِإِيصَال الْخَيْرِ فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَهْدُ:
2 - الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَهِدَ، يُقَال: عَهِدْتُ إِلَيْهِ عَهْدًا، مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَالأَْمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، قَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: الْعَهْدُ مَا كَانَ مِنَ الْوَعْدِ مَقْرُونًا بِشَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَعَلْتُ كَذَا، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنَا عَلَيْهِ، وَالْعَهْدُ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ، وَالْوَعْدُ يَقْتَضِي الإِْنْجَازَ. وَيُقَال: نَقَضَ الْعَهْدَ، وَأَخْلَفَ الْوَعْدَ.
وَالْعَهْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْمَوْثِقِ الَّذِي تَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ (3) . وَقَال الْكَفَوِيُّ: وَالْعَهْدُ الْمَوْثِقُ، وَوَضْعُهُ لِمَا مِنْ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6 / 125، وبصائر ذوي التمييز 5 / 237، ومشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 291.
(2) عمدة القاري للعيني 11 / 174، وأساس البلاغة للزمخشري ص504.
(3) التعريفات للجرجاني (ط. الدار التونسية بتونس) والفروق لأبي هلال العسكري ص48 (ط. القدسي) .(44/72)
شَأْنِهِ أَنْ يُرَاعَى وَيُتَعَهَّدَ، كَالْقَوْل وَالْقَرَارِ وَالْيَمِينِ وَالْوَصِيَّةِ وَالضَّمَانِ وَالْحِفْظِ وَالزَّمَانِ وَالأَْمْرِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ الْوَفَاءُ بِهِ شَرْعًا.
ب - الْوَأْيُ:
3 - الْوَأْيُ فِي اللُّغَةِ: الْوَعْدُ، يُقَال: وَأَيْتُهُ وَأْيًا؛ أَيْ وَعَدْتُهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ لِي عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأْيٌ أَيْ عِدَةٌ (2) وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَأْيُ: الْوَعْدُ الَّذِي يُوَثِّقُهُ الرَّجُل عَلَى نَفْسِهِ وَيَعْزِمُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ (3) .
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَأْيِ وَالْوَعْدِ، فَقَدْ قَال فِيهِ أَبُو
__________
(1) انظر المصباح المنير، وأساس البلاغة ص315، والمغرب للمطرزي 2 / 91، والكليات للكفوي 3 / 255 (ط. دمشق) ، والفروق لأبي هلال العسكري ص48 (ط. القدسي) ، وبصائر ذوي التمييز 4 / 114، ونزهة الأعين النواضر ص446، ومشارق الأنوار 2 / 104.
(2) حديث عبد الرحمن بن عوف: " كان لي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي "، أورده أبو موسى المديني في المجموع المغيث (3 / 375 - ط جامعة أم القرى) ، ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إلى أي مصدر أخرجه. وأخرج أبو داود في المراسيل (352 - 353 ط الرسالة) من حديث زيد بن أسلم مرسلا: " وأي المؤمن حق واجب "، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وضعفه ووافقه المناوي في شرحه (فيض القدير 6 / 360) .
(3) المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث لأبي موسى المديني (3 / 375 ط جامعة أم القرى) ، والقاموس المحيط، والفائق في غريب الحديث 4 / 37.(44/73)
هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: إِنَّ الْوَعْدَ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَغَيْرَ مُؤَقَّتٍ، فَالْمُؤَقَّتُ كَقَوْلِهِمْ: جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ، وَغَيْرُ الْمُؤَقَّتِ كَقَوْلِهِمْ: إِذَا وَعَدَ زَيْدٌ أَخْلَفَ وَإِذَا وَعَدَ عَمْرٌو وَفَّى. وَالْوَأْيُ: مَا يَكُونُ مِنَ الْوَعْدِ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّكَ تَقُول: إِذَا وَأَى زَيْدٌ أَخْلَفَ أَوْ وَفَّى. وَلاَ تَقُول: جَاءَ وَأْيُ زَيْدٍ، كَمَا تَقُول: جَاءَ وَعْدُهُ (1) .
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوَأْيُ: الْعِدَةُ الْمَضْمُونَةُ، وَقِيل: الْوَأَيُ الْعِدَةُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، وَالْعِدَةُ: التَّصْرِيحُ بِالْعَطِيَّةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْدِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَعْدِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:
أ - الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ:
4 - الْوَعْدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ بِشَيْءٍ وَاجِبٍ أَوْ بِشَيْءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ.
أَمَّا الْوَعْدُ بِشَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْلاَفُهُ شَرْعًا (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ: مَنْ وَعَدَ بِمَا لاَ يَحِل أَوْ عَاهَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَلاَ يَحِل لَهُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،
__________
(1) الفروق لأبي هلال العسكري ص48.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 277.
(3) الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 258، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442.(44/73)
كَمَنْ وَعَدَ بِزِنًا أَوْ بِخَمْرٍ أَوْ بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ. فَصَحَّ أَنَّ لَيْسَ كُل مَنْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ أَوْ عَاهَدَ فَغَدَرَ مَذْمُومًا وَلاَ مَلُومًا وَلاَ عَاصِيًا، بَل قَدْ يَكُونُ مُطِيعًا مُؤَدِّيَ فَرْضٍ (1) .
وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِشَيْءٍ وَاجِبٍ شَرْعًا، كَأَدَاءِ حَقٍّ ثَابِتٍ أَوْ فِعْل أَمْرٍ لاَزِمٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ ذَلِكَ الْوَعْدِ (2) .
وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِفِعْل شَيْءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُنْجِزَ وَعْدَهُ، حَيْثُ إِنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَخِصَال الإِْيمَانِ، وَقَدْ أَثْنَى الْمَوْلَى جَل وَعَلاَ عَلَى مَنْ صَدَقَ وَعْدَهُ فَامْتَدَحَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (3) ، وَكَفَى بِهِ مَدْحًا، وَبِمَا خَالَفَهُ ذَمًّا.
5 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ وَاجِبٌ (4) .
وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي ابْنُ الأَْشْوَعِ الْكُوفِيُّ الْهَمْدَانِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ تَقِيُّ
__________
(1) المحلى 8 / 29، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442.
(2) المحلى 8 / 29، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442، والفتوحات الربانية 6 / 258.
(3) سورة مريم / 54.
(4) انظر أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800، والأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 260.(44/74)
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (2) .
وَكَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ وَاجِبٌ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، فَإِنَّهُ قَال: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى كُل حَالٍ إِلاَّ لِعُذْرٍ (4) .
وَقَال أَيْضًا: وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَفِيَ، فَلاَ يَضُرُّهُ إِنْ قَطَعَ بِهِ عَنِ الْوَفَاءِ قَاطِعٌ كَانَ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُ، أَوْ مِنْ جِهَةِ فِعْلٍ اقْتَضَى أَلاَّ يَفِيَ لِلْمُوعَدِ بِوَعْدِهِ (5) ، وَعَلَيْهِ يَدُل حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ
__________
(1) الأذكار مع الفتوحات الربانية 6 / 260، والمبدع شرح المقنع 9 / 345، وفتح الباري 5 / 290، والمحلى 8 / 28، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص331، وحاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي 4 / 24 - 43، الفرق 214.
(2) سورة الصف / 2 - 3.
(3) حديث: " آية المنافق ثلاث. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 289) ، ومسلم (1 / 78) .
(4) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800.
(5) عارضة الأحوذي لابن العربي 10 / 100.(44/74)
أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا وَعَدَ الرَّجُل وَيَنْوِي أَنْ يَفِيَ بِهِ فَلَمْ يَفِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً، وَهُوَ رَأْيُ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ، قَال: وَلاَ أَقُول يَبْقَى دَيْنًا حَتَّى يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنَّمَا أَقُول: يَجِبُ الْوَفَاءُ تَحْقِيقًا لِلصِّدْقِ وَعَدَمِ الإِْخْلاَفِ (2) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْل وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةً، وَلَكِنْ لاَ يَأْثَمُ. وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا، وَيُكْرَهُ إِخْلاَفُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَدَلاَئِلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْلُومَةٌ وَلاِتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لاَ يُضَارِبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به. . . " أخرجه الترمذي (5 / 20) ، وضعف إسناده لأن فيه راويان مجهولان كما قال.
(2) الفتوحات الربانية لابن علان 6 / 258، 259، وفتح الباري 5 / 290.
(3) الأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 258، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7 / 207، وكشاف القناع 6 / 279، وشرح منتهى الإرادات 3 / 456.
(4) روضة الطالبين 5 / 390، وفتح الباري 5 / 290، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام ص154، والفتوحات الربانية 6 / 260.(44/75)
وَقَال بُرْهَانُ الدِّينِ ابْنُ مُفْلِحٍ: لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
وَنَصَّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل وَهُوَ مُبَاحٌ، فَإِنَّ الأَْوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الإِْمْكَانِ (2) .
الْقَوْل الْخَامِسُ: أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ الْمُجَرَّدِ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَمَّا الْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لاَزِمًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ نَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْقُنْيَةِ: لاَ يَلْزَمُ الْوَعْدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا (3) وَفِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْمَوَاعِيدَ بِاكْتِسَاءِ صُوَرِ التَّعْلِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً (4) . وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (84) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: الْمَوَاعِيدُ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً.
مِثَال ذَلِكَ: لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: ادْفَعْ دَيْنِي مِنْ مَالِكَ، فَوَعَدَهُ الرَّجُل بِذَلِكَ، ثُمَّ امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، أَمَّا قَوْل رَجُلٍ لآِخَرَ: بِعْ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلاَنٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكَ ثَمَنَهُ فَأَنَا أُعْطِيهِ لَكَ، فَلَمْ يُعْطِ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ،
__________
(1) المبدع 9 / 345.
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 442 (ط. استانبول) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم كتاب الحظر والإباحة ص344.
(4) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 6 / 3.(44/75)
لَزِمَ الْمُوَاعِدَ أَدَاءُ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى وَعْدِهِ (1) .
وَأَسَاسُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَنْبَأَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ سَيَفْعَل أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَل مَرْغُوبًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الأَْمْرُ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ؛ لأَِنَّ الْوَعْدَ لاَ يُغَيِّرُ الأُْمُورَ الاِخْتِيَارِيَّةَ إِلَى الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَوَاعِيدُ مُفْرَغَةً فِي قَالَبِ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ لِقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ حُصُول مَضْمُونِ الْجَزَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُول شَرْطِهِ، وَذَلِكَ يُكْسِبُ الْوَعْدَ قُوَّةً، كَقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ، فَيَكُونُ لاَزِمًا (2) .
عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا الْوُعُودَ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ لاَزِمَةً إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مِمَّا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ شَرْعًا حَسَبَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، حَيْثُ إِنَّهُمْ أَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْطْلاَقَاتِ وَالْوَلاَيَاتِ بِالشَّرْطِ الْمُلاَئِمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ بِالْمُلاَئِمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، أَمَّا التَّمْلِيكَاتُ وَكَذَا التَّقْيِيدَاتُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 77.
(2) شرح المجلة للأتاسي 1 / 238، 239، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 110، وانظر الفتاوى البزازية 6 / 3، وشرح المجلة لعلي حيدر 1 / 77.(44/76)
تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَالنَّافُونَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا الْمَحْظُورَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (2) عَلَى مَنْ وَعَدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَلاَّ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ بِهِ، أَوْ عَلَى الإِْنْسَانِ الَّذِي يَقُول عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا لاَ يَفْعَلُهُ (3) .
وَأَمَّا حَدِيثُ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ فَقَالُوا بِأَنَّ ذَمَّ الإِْخْلاَفِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ تَضَمُّنُهُ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ إِنْ عَزَمَ عَلَى الإِْخْلاَفِ حَال الْوَعْدِ، لاَ إِنْ طَرَأَ لَهُ (4) .
قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا يَنْزِل عَلَى مَنْ وَعَدَ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْخُلْفِ أَوْ تَرْكِ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ فَعَنَّ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ مِنَ الْوَفَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ مَا هُوَ صُورَةُ النِّفَاقِ (5) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1 / 233، 234، 239، وانظر رد المحتار لابن عابدين (4 / 22 ط بولاق) .
(2) سورة الصف / 2 - 3.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 442.
(4) مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 1 / 106، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 110.
(5) إحياء علوم الدين 3 / 115، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 6 / 259.(44/76)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ حَرَامٌ إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ لاَ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ، أَمَّا إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ فَلَمْ يَفِ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (1) .
الْقَوْل السَّادِسُ: إِنَّ الْوَعْدَ إِذَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَاعِدِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ حَقِيقَةً، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ، فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْوَعْدِ. . . فَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا يُلْزَمُ الْوَاعِدُ قَضَاءً بِإِنْجَازِ وَعْدِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ، فَلاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِشَيْءٍ.
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ وَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ (2) ، وَعَزَاهُ الْقَرَافِيُّ إِلَى مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسُحْنُونٍ (3) .
الْقَوْل السَّابِعُ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَإِنَّهُ يَجِبَ الْوَفَاءُ بِهِ قَضَاءً، سَوَاءٌ دَخَل
__________
(1) حاشة الحموي على الأشباه 2 / 110.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص155، البيان والتحصيل لابن رشد 8 / 18، والمنتقى شرح الموطأ للباجي 3 / 227.
(3) الفروق للقرافي 4 / 25، وانظر مجالس العرفان لجعيط 2 / 34 وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في كتابه التمهيد 3 / 208، 209.(44/77)
الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ أَوْ لَمْ يَدْخُل فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: أَعِدُكَ بِأَنْ أُعِيرَكَ بَقَرِي وَمِحْرَاثِي لِحِرَاثَةِ أَرْضِكَ، أَوْ أُرِيدُ أَنْ أُقْرِضَكَ كَذَا لِتَتَزَوَّجَ. أَوْ قَال الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ: أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ أَوْ أَنْ أَقْضِيَ دَيْنِي أَوْ أَنْ أَتَزَوَّجَ، فَأَقْرِضْنِي مَبْلَغَ كَذَا. فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ عَنْ وَعْدِهِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ وَفَاءِ دَيْنٍ أَوْ حِرَاثَةِ أَرْضٍ. . . فَإِنَّ الْوَاعِدَ يَكُونُ مُلْزَمًا بِالْوَفَاءِ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْفِيذِ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَ. . أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِدَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ بِسَبَبٍ، كَمَا إِذَا قُلْتَ لآِخَرَ: أَسْلِفْنِي كَذَا، وَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبًا، أَوْ أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَوْ بَقَرَتَكَ، وَلَمْ تَذْكُرْ سَفَرًا وَلاَ حَاجَةً، فَقَال: نَعَمْ. أَوْ قَال الْوَاعِدُ مِنْ نَفْسِهِ: أَنَا أُسْلِفُكَ كَذَا أَوْ أَهَبُ لَكَ كَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ قُوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل أَصْبَغَ الَّذِي حَكَاهُ الْبَاجِيُّ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِدَةً لاَ تُدْخِل مَنْ وَعَدَ بِهَا فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُفَسَّرَةً أَوْ مُبْهَمَةً.
- فَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةً: مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 25، وانظر تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص154، والبيان والتحصيل 8 / 18، والأذكار مع الفتوحات الربانية 6 / 261، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800.(44/77)
لِلرَّجُل: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا. فَيَقُول: أَنَا أُعِيرُكَ غَدًا، أَوْ يَقُول: عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ أَقْضِهِ، فَيَقُول: أَنَا أُسْلِفُكَ.
فَهَذَا قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: يُحْكَمُ بِإِنْجَازِ مَا وَعَدَ بِهِ، كَالَّذِي يُدْخِل الإِْنْسَانَ فِي عَقْدٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلاَفِ هَذَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ بِوَعْدِهِ فِي شَيْءٍ يَضْطَرُّهُ إِلَى مَا وَعَدَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُبْهَمَةً: مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ: أَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ، وَلاَ يَذْكُرُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا، أَوْ يَقُول: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَرْكَبْهَا، وَلاَ يَذْكُرُ لَهُ مَوْضِعًا وَلاَ حَاجَةً. فَهَذَا قَال أَصْبَغُ: لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا.
فَإِذَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى: إِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْعِدَةِ إِذَا كَانَ الأَْمْرُ أَدْخَلَهُ فِيهِ، مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ: انْكِحْ وَأَنَا أُسْلِفُكَ مَا تُصْدِقُهَا. فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ قَبْل أَنْ يَنْكِحَ مَنْ وُعِدَ، فَهَل يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟ قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ، أَلْزَمَهُ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ (1) .
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ:
6 - نَصَّ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِدِ أَنْ يَسْتَنْثِيَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْل: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} {
__________
(1) المنتقى للباجي 3 / 227، وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق 4 / 25، وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ 2 / 34.(44/78)
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1) ، وَلأَِنَّ الْوَاعِدَ لاَ يَدْرِي هَل يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ أَمْ لاَ، فَإِذَا اسْتَثْنَى وَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ الإِْلَهِيَّةِ خَرَجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ فِي حَال التَّعَذُّرِ.
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْوَعْدِ:
- فَقَال الْغَزَالِيُّ: هُوَ الأَْوْلَى (2) .
- وَقَال الْجَصَّاصُ: إِنْ لَمْ يَقْرِنْهُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ (3) .
- وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ الْوَعْدُ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ (4) .
__________
(1) سورة الكهف / 23 - 24.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 115.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 442.
(4) كشاف القناع 6 / 279، وشرح منتهى الإرادات 3 / 456، والمبدع 9 / 345.(44/78)
الْمُوَاعَدَةُ:
7 - الْمُوَاعَدَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنْ وَاعَدَ. وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنْ يَعِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ؛ لأَِنَّهَا مُفَاعَلَةٌ لاَ تَكُونُ إِلاَّ مِنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ وَعَدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ فَهَذِهِ الْعِدَةُ.
وَقَدْ تَنَاوَل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُوَاعَدَةَ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا، وَذَكَرُوا بَعْضًا مِنْ أَحْكَامِهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْمُوَاعَدَةُ عَلَى مَا لاَ يَصِحُّ حَالاً:
قَال فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ مِنْ أُصُول مَالِكٍ مَنْعَ الْمُوَاعَدَةِ فِيمَا لاَ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِي الْحَال سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ مَنَعَ مَالِكٌ الْمُوَاعَدَةَ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَالْمُوَاعَدَةَ عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَعَلَى الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) ، وَجَاءَ فِي قَوَاعِدِ الْوَنْشَرِيسِيِّ: الأَْصْل مَنْعُ الْمُوَاعَدَةِ بِمَا لاَ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِي الْحَال حِمَايَةً (2) . بِمَعْنَى أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ عَلَى عَقْدٍ مَحْظُورٍ - بِالنَّظَرِ لِمَا تَؤُول إِلَيْهِ - كَالْوَسِيلَةِ لِلْغَايَةِ الْمَمْنُوعَةِ، فَتُحْمَى الْمَقَاصِدُ الَّتِي حَظَرَهَا الشَّرْعُ مِنْ أَنْ تُنْتَهَكَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا.
ب - الْمُوَاعَدَةُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ
9 - أَمَّا الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الصَّرْفِ فَفِيهَا ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَهُمْ:
أَحَدُهَا الْجَوَازُ.
__________
(1) إعداد المهج للاستفادة من المنهج لأحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ص195، والمنهج إلى المنهج لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ص90، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 413، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 215، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص278.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص278.(44/79)
وَثَانِيهَا الْمَنْعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ، وَشُهِرَتْ أَيْضًا نَظَرًا لِجَوَازِ الصَّرْفِ فِي الْحَال، وَشُبِّهَتْ بِعَقْدٍ فِيهِ تَأْخِيرٌ (1) .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْمَوَّاقِ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: وَأَمَّا الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الصَّرْفِ فَتُكْرَهُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَتَمَّ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُوَاعَدَةِ، لَمْ يُفْسَخْ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال أَصْبَغُ: يُفْسَخُ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَجْهَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ عَلَى الصَّرْفِ فِي حُكْمٍ - حَيْثُ قِيل بِجَوَازِهَا وَبِكَرَاهَتِهَا إِلَى جَانِبِ الْقَوْل بِمَنْعِهَا - وَبَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَعَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ وَنَحْوِهِمَا، فَقَال: وَإِنَّمَا مُنِعَتْ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ إِبْرَامَ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ فِيهِمَا، فَجُعِلَتِ الْمُوَاعَدَةُ حَرِيمًا لَهُ، وَلَيْسَ إِبْرَامُ الْعَقْدِ فِي الصَّرْفِ بِمُحَرَّمٍ، فَتُجْعَل الْمُوَاعَدَةُ حَرِيمًا لَهُ (3) .
ب وَتَعَرَّضَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُوَاعَدَةِ فِي الصَّرْفِ فَقَال: إِذَا تَوَاعَدَ الرَّجُلاَنِ الصَّرْفَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 215، الخرشي وحاشية الْعَدَوِيّ عليه 5 / 38، وشرح المواق على مختصر خليل 4 / 309، وإعداد المهج للاستفادة من المنهج ص195، والمنهج إلى المنهج ص90، والقوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص255، والمقدمات الممهدات (ص508 ط السعادة بمصر) ص508، وإيضاح المسالك ص279.
(2) شرح المواق على مختصر خليل 4 / 309.
(3) إيضاح المسالك ص280.(44/79)
يَشْتَرِيَ الرَّجُلاَنِ الْفِضَّةَ ثُمَّ يُقِرَّانِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَتَبَايَعَاهَا وَيَصْنَعَا بِهَا مَا شَاءَا (1) .
وَعْظٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَعْظُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، يُقَال: وَعَظَهُ يَعِظُهُ وَعْظًا وَعِظَةً؛ أَيْ أَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ وَوَصَّاهُ بِهَا.
وَمِنْ مَعَانِي الْوَعْظِ أَيْضًا: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُل إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} (2) .
وَوَعَظَهُ فَاتَّعَظَ؛ أَيِ ائْتَمَرَ وَقَبِل الْمَوْعِظَةَ،
__________
(1) الأم 3 / 27 ط بولاق.
(2) سورة فاطر / 46.(44/80)
وَالاِسْمُ: الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ مَا يُوعَظُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاعِظُ مَنْ يَنْصَحُ وَيُذَكِّرُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّصِيحَةُ:
2 - النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الإِْخْلاَصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَل (3) .
وَالنَّصِيحَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلاَحُ وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الدُّعَاءَ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلاَحُ وَالتَّذْكِيرَ بِالْخَيْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الأَْصْل فِي الْوَعْظِ الاِسْتِحْبَابُ، فَقَدْ قَال الْحَصْكَفِيُّ: التَّذْكِيرُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالاِتِّعَاظُ سُنَّةُ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والقاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن للأصفاني.
(2) التعريف للجرجاني.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) الدر المختار 6 / 421 ط الحلبي.(44/80)
وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمَّا كَانَتِ الْمَوَاعِظُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَاهَدُوا النَّاسَ بِالتَّذْكِرَةِ (2) أَلَّفْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ كُتُبًا (3) .
وَقَال الرُّحَيْبَانِيُّ: ذَكَرَ الإِْمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تَدُل عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْوَعْظِ، وَحُسْنِ حَال الْوُعَّاظِ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وَعْظِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ (4) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ - وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ - فِي شَرْحِهِ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (5) : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ (6) .
وَقَدْ يَكُونُ الْوَعْظُ مَنْهِيًّا عَنْهِ كَأَنْ يُهَيِّجَ الْمُصِيبَةَ فَيُعْتَبَرُ مِنَ النِّيَاحَةِ (7) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: الْوَعْظُ
__________
(1) سورة الذاريات / 5، 5.
(2) حديث: " تعاهدوا الناس بالتذكرة. . " ذكره الديلمي في مسند الفردوس (2 / 64 - ط دار الكتاب العربي) بدون إسناد.
(3) أبجد العلوم 2 / 535 ط دار الكتب العلمية.
(4) مطالب أولي النهى 2 / 261.
(5) سورة إبراهيم / 5.
(6) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1104، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9 / 342.
(7) الإنصاف 2 / 569، والفروع لابن مفلح 2 / 291.(44/81)
لِلرِّئَاسَةِ، وَكَسْبِ الْمَال، وَالْقَبُول لَدَى عَامَّةِ النَّاسِ (1) .
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ يَحِل لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ شَيْئًا فِي مَجْلِسِهِ لِلْوَعْظِ لأَِنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ (2) .
أَرْكَانُ الْوَعْظِ:
أَرْكَانُ الْوَعْظِ هِيَ: الْوَاعِظُ، وَالْمَوْعُوظُ، وَأُسْلُوبُ الْوَعْظِ.
وَنَتَنَاوَل كُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ بِالتَّفْصِيل حَسَبَ الآْتِي:
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الْوَاعِظُ:
شُرُوطُ الْوَاعِظِ:
4 - يُشْتَرَطُ فِي الْوَاعِظِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلاً بِالِغًا.
ب - أَنْ يَكُونَ عَدْلاً.
ج - أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِل بِكُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ قَرَأَ لَفْظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَعَرَفَ صِحَّتَهَا وَسُقْمَهَا وَلَوْ بِإِخْبِارِ حَافِظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطِ فَقِيهٍ.
__________
(1) الدر المختار 6 / 421 ط الحلبي، والفتاوى الهندية 5 / 319، والآداب الشرعية 2 / 91.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 319.(44/81)
د - أَنْ يَكُونَ مُفَسِّرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْتَغِل بِشَرْحِ غَرِيبِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَوْجِيهِ مُشْكِلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا لاَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ إِلاَّ قَدْرَ فَهْمِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَطِيفًا ذَا وَجْهٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَأَنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا لاَ مُعَسِّرًا (1) .
آدَابُ الْوَاعِظِ:
5 - مِنْ آدَابِ الْوَاعِظِ وَالْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ وَنَحْوِهِمْ: أَنْ يَجْتَنِبَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا خِلاَفَ الصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهَا، لأَِنَّهُ إِذَا فَعَل ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ.
مِنْ جُمْلَتِهَا: تَوَهُّمُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِكُل حَالٍ، وَأَنْ يُصْبِحَ ذَلِكَ شَرْعًا وَأَمْرًا مَعْمُولاً بِهِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَحْمَل الَّذِي صَحِبَهُ مَقْصُورًا.
وَمِنْهَا: وُقُوعُ النَّاسِ فِي الْوَاعِظِ بِالتَّنْقِيصِ بِكَوْنِهِ يُبَاشِرُ مَا لاَ يَجُوزُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَيْهِ وَيُنَفِّرُونَ عَنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِهِ فَيَنْفِرُوا
__________
(1) أبجد العلوم 2 / 536 ط دار الكتب العلمية.(44/82)
عَنْهُ، وَيُنَفِّرُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ، وَتَسْقُطُ رِوَايَاتُهُ وَشَهَادَاتُهُ، وَيَبْطُل الْعَمَل بِفَتْوَاهُ، وَيَذْهَبُ رُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَذَلِكَ لاِنْطِلاَقِ الأَْلْسِنَةِ فِيهِ الْمُقْتَضِي عَادَةً قِلَّةَ الْوُثُوقِ مِمَّنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ ظَاهِرَةٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ أَفْرَادِهَا، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ مُحِقًّا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ - لَمْ يُظْهِرْهُ خَشْيَةً مِنْ حُصُول الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، أَوْ أَظْهَرَهُ قَصْدًا لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ مَثَلاً، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُول: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلْتُهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا، وَدَلِيلُهُ كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " أَنَّهُ لَمَّا سُئِل عَنْ مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَامَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عُمِل وَوُضِعَ، فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الأَْرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالأَْرْضِ، ثُمَّ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ، فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلاَتِي " (1) ، وَلِحَدِيثِ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ
__________
(1) حديث سهل بن سعد " لما سئل عن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 486) ومسلم (1 / 387) ، واللفظ للبخاري ما عدا القول المرفوع فهو لمسلم.(44/82)
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَِنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِْنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا (1) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرِبَ قَائِمًا، وَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ (2) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: فَعَل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَبْلِيغِ شَرْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ نَهْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا (3) لَيْسَ عَلَى سَبِيل التَّحْرِيمِ بَل عَلَى سَبِيل الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ (4) .
__________
(1) حديث صفية رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 278) ، ومسلم (4 / 1712) واللفظ لمسلم.
(2) حديث علي " أنه شرب قائما. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 81) .
(3) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما " أخرجه مسلم (3 / 1600) من حديث أنس بن مالك.
(4) الفتوحات الربانية 6 / 282، وما بعدها.(44/83)
مَنْعُ مَنْ لَيْسَ أَهْلاً لِلْوَعْظِ مِنَ الْوَعْظِ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِلْوَعْظِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ كَانَ يَكْذِبُ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ اغْتِرَارُ النَّاسِ بِهِ فِي تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ (1) .
أَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَلاَ يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ إِظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِلْكَافَّةِ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ حَوَالَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ، قَال تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (2) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَوْعُوظُ
7 - مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِ مَا يَلِي:
أ - مِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ لِلْوَعْظِ أَنْ يُنْصِتُوا لِلْوَاعِظِ وَأَنْ لاَ يَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُنْصِتُوا فَلِلْوَاعِظِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاضِرِينَ الاِسْتِمَاعَ إِلَى وَعْظِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَيْسِيرِ وُصُول الْوَعْظِ إِلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " اسْتَنْصِتِ النَّاسَ. فَقَال: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 218 ط المكتب الإسلامي، الآداب الشرعية 1 / 89 - 93.
(2) سورة الأنعام / 68.(44/83)
بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ " (1) قَال الْعُلَمَاءُ فِيهِ: إِنَّ الإِْنْصَاتَ لِلْعُلَمَاءِ لاَزِمٌ لِلْمُتَعَلِّمِينَ، لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ وَكَانِتُ الْخُطْبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَقَدْ قَال لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (2) فَلَمَّا خَطَبَهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالإِْنْصَاتِ.
وَقَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوَّل الْعِلْمِ الاِسْتِمَاعُ، ثُمَّ الإِْنْصَاتُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَل، ثُمَّ النَّشْرُ (3) .
ب - وَمِنْ آدَابِ الْمَوْعُوظِينَ وَالْمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْوَاعِظَ.
ج - وَمِنْ آدَابِهِمْ أَنْ لاَ يَلْعَبُوا وَلاَ يَلْغَطُوا أَثْنَاءَ الْوَعْظِ.
د - مِنْ آدَابِهِمْ أَلاَّ يُكْثِرُوا السُّؤَال مِنَ الْوَاعِظِ فِي كُل مَسْأَلَةٍ، بَل إِذَا عَرَضَ خَاطِرٌ فَإِنْ كَانَ لاَ
__________
(1) حديث جرير بن عبد الله: " استنصت الناس. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 217) ، ومسلم (1 / 81 - 82) .
(2) حديث: " خذوا عني مناسككم. . " أخرجه مسلم (2 / 943) ، والبيهقي في السنن (5 / 125) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للبيهقي.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري 1 / 217، والفتوحات البانية 6 / 281، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 165.(44/84)
يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقًا قَوِيًّا أَوْ كَانَ دَقِيقًا لاَ يَتَحَمَّلُهُ فَهْمُ الْعَامَّةِ فَلْيَسْكُتِ الْمَوْعُوظُ عَنْهُ فِي الْمَجْلِسِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ كَتَفْصِيل إِجَمَالٍ، وَشَرْحِ غَرِيبٍ فَلْيَنْتَظِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلاَمُهُ (1) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: أُسْلُوبُ الْوَعْظِ وَمَنْهَجُهُ:
يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: اسْتِعْمَال الأَْلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ:
8 - يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُوَضِّحَ الْكَلاَمَ بِاسْتِعْمَال الأَْلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَاجْتِنَابِ الْغَرِيبِ مِنَ الْكَلِمَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْعُوظِ، وَعَدَمِ إِخْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى يَسْهُل عَلَى الْمَوْعُوظِ فَهْمُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ كَلاَمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلاَمًا فَصْلاً يَفْهَمُهُ كُل مَنْ سَمِعَهُ (2) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَاطِبُ كُلًّا بِقَدْرِ فَهْمِهِ وَعَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ.
قَال ابْنُ عَلاَّنَ نَقْلاً عَنِ السَّخَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: " كَلاَمًا فَصْلاً " أَيْ مَفْصُولاً بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ مَعَ اخْتِصَارِهِ، ثُمَّ قَال:
__________
(1) أبجد العلوم 2 / 537 - 538.
(2) حديث: " كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم فصلا. . ". أخرجه الترمذي (5 / 600) ، وأبو داود (5 / 172) واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حسن صحيح.(44/84)
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلاً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، أَوْ مَفْصُولاً عَنِ الْبَاطِل وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِ بَاطِلٌ أَصْلاً، وَالأَْوَّل أَنْسَبُ.
وَقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَفْهَمُهُ كُل مَنْ يسْمَعُهُ أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْفَهْمِ (1) .
ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:
9 - يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الاِعْتِنَاءِ بِمَدْلُول تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ " (2) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَل الْجُمْلَةَ وَالْجُمَل مِمَّا لاَ يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ
__________
(1) فتح الباري شرح البخاري 1 / 188 - 189، الفتوحات الربانية 6 / 296، ودليل الفالحين 3 / 164.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم. . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 188) .(44/85)
الْكُل، ثُمَّ قَال: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الإِْعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ (1) .
ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَال النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:
10 - يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لاَ يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لاَ يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لاَ تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْل الْمُخَاطَبِ، كَمَا لاَ يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلاَفِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَال؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلاَفِ الْمُرَادِ.
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (2) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ (3) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " مَا
__________
(1) الفتوحات الربانية 5 / 296، ودليل الفالحين 3 / 164، وفتح الباري 1 / 188.
(2) أثر علي: " حدثوا الناس بما يعرفون. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 225) .
(3) الفتوحات الربانية 6 / 279، وما بعدها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 1 / 225.(44/85)
أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " (1) .
رَابِعًا: الاِقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:
11 - يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الإِْمْلاَل وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الإِْيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الإِْخْلاَل أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَال، لأَِنَّ خَيْرَ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلاً جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلأَِنَّ خَيْرَ الْكَلاَمِ مَا قَل وَدَل، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ (2) .
قَال الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لأَِنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلاَةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الأَْهَمُّ، وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالإِْطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَل وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ (3) .
__________
(1) أثر ابن مسعود: " ما أنت بمحدث قوما. . . " أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1 / 11) .
(2) حديث: " إن طول صلاة الرجل. . . " أخرجه مسلم (2 / 594) .
(3) الفتوحات الربانية 6 / 236 وما بعدها، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 166، 168، 172، وانظر فتح الباري 1 / 163، والآداب الشرعية 1 / 98، 2 / 93.(44/86)
12 - وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الأَْوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الأَْوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُول، وَلاَ يَعِظُ النَّاسَ كُل يَوْمٍ حَتَّى لاَ يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لأَِنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالإِْكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.
وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَل الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ (1) ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَْيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا (2) .
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا " أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُل خَمِيسٍ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُل يَوْمٍ، قَال: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " (3) .
__________
(1) فتح الباري 1 / 162 - 163، عمدة القارئ 2 / 44 - 47 الطبعة المنيرية، وقواعد الأحكام 2 / 176 ط دار الكتب العلمية، والآداب الشرعية 2 / 108 ط مكتبة الرياض الحدثية.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 162) .
(3) حديث ابن مسعود: " أنه كان يذكر الناس. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 163) .(44/86)
خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:
13 - عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَال الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ:
فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الأَْمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الأَْخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُل ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَل يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ(44/87)
أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ شَانَهُ (1) .
قَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلاَنِيُّ: وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُول وَالإِْقْلاَعِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ - حِينَئِذٍ - ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْل الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ (2) .
14 - وَقَال الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْل الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَل إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الإِْصْرَارِ وَالاِسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْل قَوْل إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (3) .
ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الآْمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْل وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لاَ الاِنْتِصَارَ لِنَفْسِهِ (4) .
__________
(1) أثر أم الدرجاء: " من وعظ أخاه سرا. . " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6 / 112 - ط دار الكتب العلمية) .
(2) الكنز الأكبر 238 - 240، والإحياء 2 / 182، والقنية ص58.
(3) سورة الأنبياء / 67.
(4) الإحياء 2 / 330، والكنز الأكبر 243.(44/87)
سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:
15 - قَال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلآْمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْل النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِل فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الآْيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ وَالآْثَارِ وَأَقْوَال السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الأَْنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيل الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُل مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَل فِي أَمْرِ الآْخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّل شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الرَّجُل لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ. . . " (1) .
قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأََحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ
__________
(1) حديث: " إن الرجل ليحرم الرزق. . . " أخرجه أحمد (5 / 277) وفي إسناده جهالة الراوي عن ثوبان، كما في الميزان للذهبي (2 / 400) .(44/88)
يَنْسَى الْعَمَل بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.
الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ حَصْرُهُ (1) ..
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:
لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
أ - وَعْظُ الزَّوْجَةِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُل بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نُشُوز ف14) .
وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُول الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلاَ تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الإِْثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا (3) .
__________
(1) الكنز الأكبر ص241 - 242.
(2) سورة النساء / 34.
(3) بدائع الصنائع 2 / 334، وكشاف القناع 5 / 209، ومغني المحتاج 3 / 259.(44/88)
ب - وَعْظُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
17 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَال لَهُمَا قَبْل الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الأُْولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَال الأُْخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالاِعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلاَلٍ: " اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ (1) .
وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وَيُقَال لَهُمَا كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَل مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ (3) .
__________
(1) حديث: " اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. . . " أخرجه أبو داود (2 / 689) من حديث ابن عباس.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) حديث: " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب. . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 449) من حديث ابن عباس.(44/89)
وَقَال ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَال لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَال لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْل شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُول لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُول لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلاً أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ (1) ، وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الإِْمَامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْل الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلاً فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُل، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُول: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ هِلاَلٍ قَال: فَشَهِدَ
__________
(1) حديث: " الأمر بوضع اليد على في المتلاعن. . " أخرجه أبو داود (2 / 688) .
(2) الشرح الصغير 2 / 666، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 248، ومغني المحتاج 3 / 378.(44/89)
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهِ فَوَعَظَهُ، وَقَال: وَيْحَكَ كُل شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَال: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأَمْسَكَ عَلَى فِيهَا فَوَعَظَهَا، وَقَال: وَيْحَكِ كُل شَيْءٍ أَهْوَنُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ (1) .
ج - الْوَعْظُ قَبْل صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَرَادَ صَلاَةَ الاِسْتِسْقَاءِ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَعْظُ النَّاسِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِالْخَيْرِ، وَأَمْرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَبِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاء ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - الْوَعْظُ بَعْدَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
19 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْوَعْظُ بَعْدَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَسْتَقْبِل الإِْمَامُ النَّاسَ بَعْدَ سَلاَمِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ وَيُكَبِّرُوا وَيَتَصَدَّقُوا (2) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 9 / 64، وكشاف القناع 5 / 393. وأثر ابن عباس أورده ابن قدامة في المغني (11 / 179 - ط دار هجر) وعزاه إلى أبي إسحاق الجوزجاني.
(2) التاج والإكليل 2 / 202.(44/90)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ خُطْبَةَ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ (1) .
وَنَصُّ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الإِْمَامُ بَعْدَ الصَّلاَةِ جَالِسًا مُسْتَقْبَل الْقِبْلَةِ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبَل النَّاسِ، وَإِذَا دَعَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ وَالتَّكْبِيرُ وَالاِسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلاَةِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي الأَْرْكَانِ (3) .
(ر: صَلاَةُ الْكُسُوفِ ف7)
هـ - وَعْظُ السُّلْطَانِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ عَادِلاً (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ وَعْظِ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ جَائِرًا.
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص298، والمغني لابن قدامة 1 / 425.
(2) مراقي الفلاح ص298، والمغني لابن قدامة 2 / 425، وكشاف القناع 2 / 61.
(3) أسنى المطالب 1 / 286، ومغني المحتاج 1 / 318.
(4) الكنز الأكبر ص189.(44/90)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ وَعْظِ السُّلْطَانِ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.
وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْل: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ تَخْشِينَ الْقَوْل لَهُ كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ، يَا مَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرُّ لاَ يَعُودُ إِلاَّ عَلَى الْوَاعِظِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ (1) . وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ السُّلْطَانِ وَتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ.
قَال أَبُو عُمَرَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ (3) : أَوْجَبُ مَا يَكُونُ هَذَا عَلَى مَنْ وَاكَلَهُمْ وَجَالَسَهُمْ وَكُل مَنْ أَمْكَنُهُ نُصْحُ السُّلْطَانِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 353، وإحياء علوم الدين 2 / 343 ط دار المعرفة، والآداب الشرعية 1 / 195 - 197، والكنز الأكبر ص202 - 203.
(2) حديث: " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل. . " أخرجه الترمذي (4 / 471) من حديث أبي سعيد الخدري وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: " الدين النصيحة. . " أخرجه مسلم (1 / 74) من حديث تميم الداري.(44/91)
لَزِمَهُ ذَلِكَ، قَال مَالِكٌ: وَذَلِكَ إِذَا رَجَا أَنْ يَسْمَعَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ تَرْكَ الإِْنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِزِ أَفْضَل.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لاَ يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا قُلْنَا بِالإِْنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْئِمَّةِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ بِالْكَلاَمِ اللَّطِيفِ، وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَيَجِبُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مُوسَى وَهَارُونَ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إِلَى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا} (3) . أَيْ كَنِّيَاهُ، وَقِيل: الْقَوْل اللَّيِّنُ هُوَ الَّذِي لاَ خُشُونَةَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُوسَى أُمِرَ أَنْ يَقُول لِفِرْعَوْنَ قَوْلاً لَيِّنًا فَمَنْ دُونَهُ أَحْرَى بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فِي خِطَابِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَلاَمِهِ (4) .
و وَعَظُ الْبُغَاةِ:
21 - إِذَا بَعَثَ الإِْمَامُ إِلَى الْبُغَاةِ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ فَأَبَوُا الرُّجُوعَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَعْظِهِمْ:
__________
(1) التاج والإكليل 1 / 277، والكنز الأكبر ص190، والآداب الشرعية 1 / 197.
(2) الآداب الشرعية 1 / 197.
(3) سورة طه / 44.
(4) الكنز الأكبر ص202.(44/91)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ وَعْظِ الْبُغَاةِ وَتَخْوِيفِهِمُ الْقِتَال، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ لاَ قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَال، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ (1) ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لأَِهْل الْعَدْل إِذَا لَقُوا أَهْل الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْل، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَهْل حَرُورَا حَتَّى نَاظَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُل مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالإِْنْذَارِ، فَالأَْحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَال، لأَِنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَال الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْل الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ وَعْظِهِمْ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَتَحْسِينَ اتِّحَادِ كَلِمَةِ الدِّينِ لَهُمْ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ (4) .
(ر: بُغَاة ف10) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 428، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 52 - 54، وكشاف القناع 6 / 162.
(2) سورة الحجرات / 9.
(3) المبسوط للسرخسي 10 / 128.
(4) نهاية المحتاج 7 / 386.(44/92)
التَّكَسُّبُ بِالْوَعْظِ:
22 - لاَ يَحِل لِلْوَاعِظِ سُؤَال النَّاسِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ، لأَِنَّهُ اكْتِسَابُ الدُّنْيَا بِالْعِلْمِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
حُضُورُ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْوَعْظِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً وَذَلِكَ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ.
أَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَهُنَّ حُضُورُ مَجَالِسِ الْوَعْظِ وَذَلِكَ لأَِمْنِ الْفِتْنَةِ (2) ، فَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُول: " لَوْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل، قَال: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل مُنِعْنَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ " (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 319، والآداب الشرعية 2 / 91.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 380، وانظر شرح مسلم للنووي 4 / 405 - 406، وفتح الباري شرح البخاري 1 / 424، 2 / 471.
(3) حديث عائشة: " لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء. . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 349) ، ومسلم (1 / 329) واللفظ لمسلم.(44/92)
وَفَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَفَاءُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَدْرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِلْفِعْل وَفَى، يُقَال: وَفَى يَفِي وَفَاءً وَوَفْيًا أَيْ تَمَّ، وَوَفَّى فُلاَنٌ نَذْرَهُ: أَدَّاهُ، وَوَفَّى بِعَهْدِهِ: عَمِل بِهِ.
وَأَوْفَى الْكَيْل: أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَوْفَى فُلاَنًا حَقَّهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا تَامًّا، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: وَفَّى نَذْرَهُ وَأَوْفَاهُ: أَيْ أَبْلَغَهُ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (1) . قَال الْفَرَّاءُ: أَيْ بَلَّغَ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: الْزَمِ الْوَفَاءَ: مَعْنَى الْوَفَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ.
وَالْوَفَاءُ اصْطِلاَحًا: مُلاَزِمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَمُحَافَظَةُ الْعُهُودِ، وَحِفْظُ مَرَاسِمِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُخَالَطَةُ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً، حُضُورًا وَغَيْبَةً.
__________
(1) سورة النجم / 37.(44/93)
وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) بِحِفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالْقِيَامُ بِمُوجَبِهِ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْوَفَاءِ بِمَعْنَى: تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَارَةً، وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ تَارَةً أُخْرَى، وَبِمَعْنَى الأَْدَاءِ أَيْضًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِيفَاءُ:
2 - الاِسْتِيفَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ لِلْفِعْل اسْتَوْفَى، يُقَال: اسْتَوْفَى فَلاَنٌ حَقَّهُ أَيْ: أَخَذَهُ وَافِيًا تَامًّا. وَيُقَال: اسْتَوْفَى مِنْهُ مَالَهُ: لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ شَيْئًا (4)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالاِسْتِيفَاءِ: أَنَّ الْوَفَاءَ يَكُونُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَالاِسْتِيفَاءُ يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ وَكِيلِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاء ف24 - 25) .
ب - الإِْسْقَاطُ
3 - الإِْسْقَاطُ لُغَةً: الإِْيقَاعُ وَالإِْلْقَاءُ، يُقَال:
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) تفسير روح المعاني 6 / 48.
(3) المغني 4 / 33، والبدائع 5 / 213.
(4) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(5) قليوبي 4 / 335، والمغني 10 / 288.(44/93)
أَسْقَطَتِ الْحَامِل: أَلْقَتِ الْجَنِينَ. وَقَوْل الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ، أَيْ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالأَْمْرُ بِهِ (1) .
وَالإِْسْقَاطُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ وَلاَ إِلَى مُسْتَحِقٍّ، وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ (2) .
كَمَا يُسْتَعْمَل الإِْسْقَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِسْقَاطِ الْجَنِينِ أَيِّ السِّقْطِ، يَعْنِي تَضَعُهُ قَبْل التَّمَامِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالإِْسْقَاطِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ حُقُوقٍ.
ج - الإِْبْرَاءُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ. قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: بَرِئَ: تَخَلَّصَ وَتَنَزَّهَ وَتَبَاعَدَ، فَالإِْبْرَاءُ عَلَى هَذَا جَعْل الْمَدِينِ بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ أَوِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَلاَ تُجَاهَهُ - كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ السُّكْنَى الْمُوصَى بِهِ - فَتَرْكُهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِبْرَاءً، بَل هُوَ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) الذخيرة 1 / 152 ط. وزارة الأوقاف الكويتية.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير.
(5) فتح القدير 3 / 356 ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 4 / 276 ط بولاق.(44/94)
(ر: إِبْرَاء ف1) وَقَال الْبَرَكَتِيُّ: الإِْبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ هُوَ: جَعْل الْمَدْيُونِ بَرِيئًا مِنَ الدَّيْنِ.
وَأَصْل الْبَرَاءِ التَّلَخُّصُ وَالتَّقَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ مُجَاوَرَتُهُ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالإِْبْرَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِمَّا شُغِلَتْ بِهِ مِنْ حُقُوقٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْوَفَاءُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَعْتَرِيهَا الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ وَالْحُرْمَةِ. . . وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَحَل التَّصَرُّفِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ:
أ - الْعُقُودُ:
6 - مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا مُقْتَضَيَاتُ الْعُقُودِ الَّتِي يَعْقِدُهَا الإِْنْسَانُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ.
فَهَذِهِ الْعُقُودُ إِذَا تَمَّتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشَرَائِطِهَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهَا، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي،
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.(44/94)
وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَالأُْجْرَةِ لِلأَْجِيرِ. . وَهَكَذَا (1) .
وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) .
ب - الشُّرُوطُ:
7 - الشُّرُوطُ: كُل مَا يَشْرِطُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا وَلاَ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ بَاطِلاً (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (4) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ (5) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لاَ يَصِحُّ، فِي كُل عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ (بَيْع ف27) وَ (إِجَارَة ف27) وَ (رَهْن ف11، وَ23) ،
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 32، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 296.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) أحكام القرآن للقرطبي 6 / 32، 33، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 9، والمغني 8 / 482، 483.
(4) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) حديث: " من اشترط شرطا ليس في كتاب الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 370) ، ومسلم (2 / 1143) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.(44/95)
وَ (مُزَارَعَة ف9 - 19) وَ (نِكَاح ف132 - 133) .
ج - النَّذْرُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا كَانَ طَاعَةً مِنْهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف5) .
ثَانِيًا: مَا يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي:
أ - الْمَعْرُوفُ:
9 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لاَ يُجْبَرُ الإِْنْسَانُ عَلَيْهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وَصِيَّة وَهِبَة ف5، 6) .
ب - الْوَعْدُ:
10 - الْوَعْدُ لُغَةً يَدُل عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، يُقَال: وَعَدْتُهُ أَعِدُهُ وَعْدًا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا (1) .
وَالْوَعْدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
وَالْوَعْدُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس.
(2) فتح العلي المالك 1 / 254 - 257.(44/95)
إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُجَرَّدًا عَنْ حَاجَةٍ أَوْ سَبَبٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ كَانَ الْوَفَاءُ وَاجِبًا، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: لَوْ ذَكَرَا الْبَيْعَ بِلاَ شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَّةِ جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، إِذِ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لاَزِمَةً، فَيُجْعَل لاَزِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ مُلْزِمٌ وَيُقْضَى بِهِ إِذَا دَخَل الْمَوْعِدُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَعْد) .
ثَالِثًا: مَا يُبَاحُ الْوَفَاءُ بِهِ:
11 - نَذْرُ الْمُبَاحِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُبَاحُ الْوَفَاءُ بِهَا كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْمُبَاحِ وَصِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ، وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِهِ إِنْ قِيل بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَذْر ف18، 19) .
رَابِعًا: مَا يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ:
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهَا مَا يَلِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 120، 121.
(2) الفروق للقرافي 4 / 25.(44/96)
أ - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ:
12 - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ، وَيَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) ، فَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُل فُلاَنًا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نَذْر ف16) .
ب - الْيَمِينُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ:
13 - مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَقَدْ عَصَى بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل الْوَاجِبُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف118) .
ج - الشُّرُوطُ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ:
14 - يَحْرُمُ الْوَفَاءُ بِالشُّرُوطِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ؛ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (4) .
__________
(1) المغني 9 / 3، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 296.
(2) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 581) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) الاختيار 4 / 47، والمنثور 3 / 107.
(4) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " سبق تخريجه ف7.(44/96)
(ر: شَرْط ف21) مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَفَاءُ:
15 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، التَّكْلِيفُ (الْبُلُوغُ وَالْعَقْل) ، لأَِنَّ الْوَفَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُبَاحُ نَتِيجَةَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُوجِبُ بِهَا حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَنْعَقِدُ بِإِرَادَتَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، أَوْ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، فَلاَ يُؤَاخَذُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ، لأَِنَّ عُقُودَهُمَا لاَ تَنْعَقِدُ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَهْلِيَّة ف19 - 23، صَفَر ف32 وَمَا بَعْدَهَا، جُنُون ف15 وَمَا بَعْدَهَا، عَقْد ف28، 29) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْوَفَاءِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: مَا يَتِمُّ بِهِ الْوَفَاءُ:
يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ وَيَتِمُّ بِمَا يَأْتِي:
أ - التَّسْلِيمُ: 16 - يَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ فِي الْعُقُودِ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص240، 242، ط عيسى الحلبي، والأشباه لابن نجيم ص309، والمنثور 2 / 295 - 301، وروضة الطالبين 3 / 293.(44/97)
عَلَيْهِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يَكُونُ الْوَفَاءُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ (1) .
وَهَكَذَا فِي كُل الْعُقُودِ يَكُونُ الْوَفَاءُ بِهَا بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَاهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُل عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (تَسْلِيم ف4 وَمَا بَعْدَهَا، قَبْض ف5 - 11) .
ب - الرَّدُّ:
17 - مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْوَفَاءُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (رَدّ ف3 - 7، 12، اسْتِرْدَاد ف4 - 6، إِجَارَة ف58، قَرْض ف18، إِعَارَة ف21، 22) .
ج - الْقِيَامُ بِالْعَمَل:
18 - قِيَامُ الشَّخْصِ بِأَدَاءِ الْعَمَل الْمَطْلُوبِ مِنْهُ يُعْتَبَرُ وَفَاءً بِمَا تَعَهَّدَ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: قِيَامُ الأَْجِيرِ بِالْعَمَل الْمُوكَل إِلَيْهِ أَوِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ أَكَانَ أَجِيرًا خَاصًّا أَوْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا - يُعْتَبَرُ وَفَاءً بِهَذَا الْعَمَل.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف106، 130) .
__________
(1) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 4 / 42، 43، والدسوقي 3 / 147.
(2) ينظر القواعد لابن رجب ص53، القاعدة الثانية والأربعون.(44/97)
د - الْحَوَالَةُ:
19 - الْحَوَالَةُ هِيَ نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَإِذَا أَحَال الْمَدِينُ الدَّائِنَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ دَيْنَهُ، وَاسْتَوْفَتِ الْحَوَالَةُ جَمِيعَ شَرَائِطِهَا، كَانَ ذَلِكَ وَفَاءً مِنَ الْمَدِينِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَوَالَة ف106) .
ثَانِيًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ:
20 - يَصِحُّ وَفَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ وَضَمَانُهُ (الْكَفَالَةُ بِهِ) ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ رِفْقًا بِالْمَدِينِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ - مَنْ أَدَّى عَنْ رَجُلٍ دَيْنًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ إِنْ فَعَلَهُ رِفْقًا بِالْمَطْلُوبِ، فَإِنْ أَرَادَ الضَّرَرَ بِطَلَبِهِ وَإِعْنَاتَهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَالْوَفَاءُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِهَذَا الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهِ.
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَة ف41، 42، 43، دَيْن ف31، 32) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 334.(44/98)
ثَالِثًا: وَفَاءُ دَيْنِ الْمَيِّتِ:
21 - يَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَوَفَاؤُهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ مَا يُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُفْلِسًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - يَرَوْنَ صِحَّةَ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَأَدَائِهِ وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ضَمِنَ دَيْنَ مَيِّتٍ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً، فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَال: هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَال: هَل عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَال: فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَال أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُول اللَّهِ. فَصَلَّى عَلَيْهِ (1) .
وَقَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ إِنْسَانٌ بِوَفَائِهِ جَازَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مُفْلِسًا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لِدَيْنِهِ فَقَدْ سَقَطَ دَيْنُهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ، لَكِنْ لَوْ تَبَرَّعَ شَخْصٌ بِوَفَائِهِ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (2) .
__________
(1) حديث سلمة بن الأكوع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 474) .
(2) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 4 / 270، وفتح القدير 6 / 317، والدسوقي 3 / 331، ومغني المحتاج 2 / 200، والمغني 4 / 593.(44/98)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَة ف21، 22، رُجُوع ف20، 21، دَيْن ف78) .
عَدَمُ الْوَفَاءِ وَأَسْبَابُهُ:
لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الإِْنْسَانِ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْمُمَاطَلَةُ:
22 - مَنْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ حَالٌّ، وَكَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ، وَقَدْ طَلَبَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ فَوْرًا بَعْدَ الطَّلَبِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُمَاطِلاً، وَهُوَ ظَالِمٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (1) . وَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِظُلْمِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ اتِّخَاذِ الْوَسَائِل الَّتِي تَحْمِل الْمَدِينَ الْمُوسِرَ عَلَى الْوَفَاءِ،
__________
(1) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 466) ومسلم (3 / 1197) .
(2) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . . " أخرجه أحمد (4 / 222) من حديث الشريد بن سويد، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (5 / 64) .
(3) فتح القدير شرح الهداية 6 / 376، والمنظم للحكام بهامش تبصرة الحكام 2 / 232، ومغني المحتاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 418، 419.(44/99)
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِل، وَمُخْتَلِفُونَ عَلَى بَعْضِهَا (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَطْل ف9 - 16، حَبْس ف79 - 82، إِعْسَار ف15) .
ب - الإِْعْسَارُ:
23 - إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ إِعْسَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ بِأَنْ شَهِدَ عَدْلاَنِ أَنَّهُمَا لاَ يَعْرِفَانِ لَهُ مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَحَلَفَ الْمَدِينُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُخْلَى سَبِيلُهُ وَلاَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي، لأَِنَّ حَبْسَهُ لاَ تَحْصُل بِهِ فَائِدَةٌ، وَلأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الإِْنْظَارَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) .
وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإِْعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يُحْبَسْ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلاَزَمَتُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَار ف15) .
ج - الإِْفْلاَسُ:
24 - الإِْفْلاَسُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الرَّجُل أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْوَفَاءِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة البقرة / 280.(44/99)
وَإِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَال الْمَدِينِ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ تَفْلِيسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَهُمْ بَيْعُ مَالِهِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَس ف6 وَمَا بَعْدَهَا) .
الأَْوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ:
تَأْتِي الأَْوْلَوِيَّةُ فِي الْوَفَاءِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَكُونُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، أَوِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الإِْنْسَانُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.
أ - حُقُوقُ اللَّهِ:
25 - مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الزَّكَاةُ، وَمَصَارِفُ الزَّكَاةِ هِيَ الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيل فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَصَارِفِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف184)
__________
(1) سورة التوبة / 60.(44/100)
ب - الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ:
26 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ لَيْسَتْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَهَا مُقَدَّمٌ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَدَّمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ مِنْ دُيُونِ الْعِبَادِ، ثُمَّ تَنْفِيذُ وَصَايَاهُ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَرِكَة ف21 - 32) .
ج - الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا:
27 - مِمَّا يَلْتَزِمُهُ الإِْنْسَانُ الصَّدَقَةُ وَالْوَصَايَا، أَمَّا الصَّدَقَةُ: فَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ الإِْنْسَانُ بِمَا يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ وَمَؤُونَتِهِ وَمَؤُونَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَالأَْوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول (3)
وَيَقُول السَّرَخْسِيُّ: الصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) المغني 3 / 83، 84.
(3) حديث: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 294) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(44/100)
الأَْجَانِبِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَرَابَاتِ وَذَلِكَ أَفْضَل، لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (1) . وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: أَفْضَل الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ (2) [512] .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْوْلَى فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَفِي الأَْشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيَتَأَلَّفَ قَلْبَهُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَة ف17، 18) .
وَأَمَّا الْوَصَايَا: فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ الأَْقْرَبُ غَيْرُ الْوَارِثِ، لأَِنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُقَرَاءُ غَيْرُ وَارِثِينَ فَإِلَى ذِي رَضَاعٍ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: ثُمَّ صِهْرٍ، ثُمَّ ذِي وَلاَءٍ، ثُمَّ ذِي جِوَارٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَحَارِمَ مِنَ الرَّضَاعِ، فَإِلَى جِيرَانِهِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لأَِقْرِبَائِهِ أَوْ لأَِرْحَامِهِ أَوْ لأَِنْسَابِهِ فَهُمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ غَيْرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ.
__________
(1) المبسوط 12 / 49.
(2) حديث: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح. . " أخرجه الحاكم (1 / 406) من حديث أم كلثوم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(3) مغني المحتاج 3 / 121.
(4) أسنى المطالب 3 / 29، وكشاف القناع 4 / 360.(44/101)
وَيُعْتَبَرُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالاَنِ فَلِلْعَمِّ النِّصْفُ وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَيُعْتَبَرُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى لِلأَْقَارِبِ أَوِ الأَْرْحَامِ أَوِ الأَْهْل أَوْ لِغَيْرِهِ أُوثِرَ الْمُحْتَاجُ الأَْبْعَدُ فِي الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ أَوْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ لاَ بِالْجَمِيعِ، فَالْمُحْتَاجُ الأَْقْرَبُ عُلِمَ إِيثَارُهُ بِالأَْوْلَى فِي كُل حَالٍ، إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنَ الْمُوصِي خِلاَفَ ذَلِكَ: كَأَعْطُوا الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ، أَوْ أَعْطُوا فُلاَنًا ثُمَّ فُلاَنًا، فَيُفَضَّل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحْوَجَ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّة) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 78، 79.
(2) جواهر الإكليل 2 / 320.(44/101)
وَقْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَقْتُ فِي اللُّغَةِ: مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مَفْرُوضٌ لأَِمْرٍ مَا، أَوْ نِهَايَةُ الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ لِلْعَمَل، وَكُل شَيْءٍ قَدَّرْتَ لَهُ حِينًا فَقَدْ وَقَّتَّهُ تَوْقِيتًا، وَكَذَلِكَ مَا قَدَّرْتَ لَهُ غَايَةً. وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) . وَجَمْعُ الْوَقْتِ: أَوْقَاتٌ.
وَالْوَقْتُ: الْمِيقَاتُ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْوَقْتُ لِلْمَكَانِ. . . وَمِنْ ذَلِكَ: مَوَاقِيتُ الْحَجِّ لِمَوَاضِعِ الإِْحْرَامِ (2) .
وَالْوَقْتُ اصْطِلاَحًا - كَمَا عَرَّفَهُ الْبَرَكَتِيُّ -: الْمِقْدَارُ مِنَ الدَّهْرِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الْمَاضِي.
وَقِيل: هُوَ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَنِ الْمَفْرُوضِ لأَِمْرٍ مَا، وَقِيل لِلْعَمَل (3) .
__________
(1) سورة النساء / 103.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(3) قواعد الفقه للبركتي، وطلبة الطلبة ص122، 218 ط دار النفائس.(44/102)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّاعَةُ:
2 - السَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْوَقْتُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُهَا وَتُرِيدُ بِهَا الْحِينَ وَالْوَقْتَ وَإِنْ قَل، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (1) . وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْل حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْل الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُْولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً. . . " (2) . قَال الْفَيُّومِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ السَّاعَةَ الَّتِي يَنْقَسِمُ عَلَيْهَا النَّهَارُ الْقِسْمَةَ الزَّمَانِيَّةَ، بَل الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَهُوَ السَّبْقُ وَإِلاَّ لاَقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ مَنْ جَاءَ فِي أَوَّل السَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا، لأَِنَّهُمَا حَضَرَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل مَنْ جَاءَ فِي أَوَّلِهَا أَفْضَل مِمَّنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا.
وَالسَّاعَةُ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، لأَِنَّ زَمَنَهُمَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً.
وَيُقَال: عَامَلْتُهُ مُسَاوَعَةً نَحْوَ مُعَاوَمَةٍ وَمُشَاهَرَةٍ.
__________
(1) سورة الأعراف / 34.
(2) حديث: " من اغتسل يوم الجمعة. . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 101) والبخاري (الفتح 2 / 366) ومسلم (2 / 582) واللفظ لمالك.(44/102)
وَالسَّاعَةُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (1) ، كَمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَوْتِ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَمُدُّ طَرْفِي وَلاَ أَغُضُّهَا إِلاَّ وَأَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ (2) يَعْنِي مَوْتَهُ.
وَتُسْتَعْمَل السَّاعَةُ بِمَعْنَى الْهُدُوءِ فِي مِثْل قَوْلِهِمْ: جَاءَنَا بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْل وَسَوَاعٍ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْتِ وَالسَّاعَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَنِ.
ب - الدَّهْرُ:
3 - الدَّهْرُ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى الأَْبَدِ، وَقِيل: هُوَ الزَّمَانُ قَل أَوْ كَثُرَ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الدَّهْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ، وَعَلَى الْفَصْل مِنْ فُصُول السَّنَةِ وَأَقَل مِنْ ذَلِكَ، وَيَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا (4) .
__________
(1) سورة القمر / 1.
(2) حديث: " ما أمد طرفي ولا أغضها إلا وأظن أن الساعة قد قامت. . " أورده الأصفهاني في المفردات (ص435 - ط دار القلم) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد لمن أخرجه.
(3) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني، والمعجم الوسيط، ومغني المحتاج 1 / 109.
(4) المصباح المنير.(44/103)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالدَّهْرِ أَنَّ الْوَقْفَ جُزْءٌ مِنَ الدَّهْرِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَقْتِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: أَفْضَل الأَْوْقَاتِ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الأَْوْقَاتِ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا لِعِبَادِهِ مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ، لاَ بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِي تِلْكَ الأَْوْقَاتِ وَالأَْزْمَانِ، لأَِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الأَْصْل، وَيَرْجِعُ تَفْضِيل الأَْوْقَاتِ إِلَى مَا يُنِيل اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ (2) .
قَال ابْنُ رَجَبٍ: جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِبَعْضِ الشُّهُورِ فَضْلاً عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَال تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (3) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (4) وَقَال تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ} (5) .
__________
(1) أنيس الفقهاء ص73، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 137، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1 / 38 - 39، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 3 / 306، وروضة الطالبين 8 / 125.
(3) سورة التوبة / 36.
(4) سورة البقرة / 197.
(5) سورة البقرة / 185.(44/103)
كَمَا جَعَل بَعْضَ الأَْيَّامِ وَاللَّيَالِي أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ، وَجَعَل لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَأَقْسَمَ بِالْعَشْرِ، وَهُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْضَل الأَْوْقَاتِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِالأَْيَّامِ وَالأَْشْهُرِ الْفَاضِلَةِ، وَ (مُصْطَلَحُ زَمَان ف7، وَفَضَائِل ف10) .
ثَانِيًا: وَقْتُ الْحَيْضِ:
أ - السِّنُّ الَّذِي تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَفِي أَكْبَرِ سِنٍّ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ حَيْض ف10، وَإِيَاس ف6) .
ب - أَقَل وَقْتِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرُهُ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل وَقْتِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف11) .
ج - أَقَل وَقْتِ الطُّهْرِ وَأَكْثَرُهُ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ،
__________
(1) لطائف المعارف في ما لمواسم العام من الوظائف ص40.(44/104)
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف24، وَطُهْر ف4) .
ثَالِثًا: وَقْتُ الأَْذَانِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الأَْذَانِ هُوَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُؤَذَّنُ لَهَا، وَأَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْل دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ غَيْرَ صَلاَةِ الْفَجْرِ لاَ يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْلْبَاسِ، وَلأَِنَّهُ شُرِعَ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، فَلاَ يُشْرَعُ قَبْل الْوَقْتِ، لِئَلاَّ يَذْهَبَ مَقْصُودُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان ف17) .
رَابِعًا: وَقْتُ الصَّلاَةِ
9 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ مَحْدُودَةٍ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَوَاقِيتِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ ف5 وَمَا بَعْدَهَا، وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ ف10، وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ ف6، وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ ف3) .
خَامِسًا: وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الأَْنْعَامِ - وَهِيَ الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ -
__________
(1) المجموع 3 / 87 - 89.(44/104)
وَفِي الأَْثْمَانِ - وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ - وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَيْهَا فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا، لِحَدِيثِ: لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَكَامَل نَمَاؤُهُ قَبْل تَمَامِ الدُّخُول.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ عِنْدَ حَصَادِهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) . وَكَذَا الْمَعَادِنُ وَالرِّكَازُ تَجِبُ زَكَاتُهَا وَقْتَ الْحُصُول عَلَيْهَا (3) .
(ر: زَكَاة ف29 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زَكَاةِ الْفِطْرِ ف8، ف9) .
سَادِسًا: وَقْتُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ هُوَ حُلُول شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَتَمَثَّل بِحُصُول أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِكْمَال شَهْرِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا.
ثَانِيهِمَا: رُؤْيَةُ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ
__________
(1) حديث: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ". أخرجه أبو داود (2 / 230) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الزيلعي في نصب الراية (2 / 328) : حديث حسن.
(2) سورة الأنعام / 141.
(3) مغني المحتاج 1 / 378 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 2 / 625.(44/105)
الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ (2) .
وَوَقْتُ الصِّيَامِ الْمَشْرُوعِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (4) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَل اللَّيْل مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ (5) .
(ر: صَوْم ف21 - 24، رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف2، رَمَضَان ف2) .
سَابِعًا: وَقْتُ الاِعْتِكَافِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل وَقْتٍ لِلُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ الْمُجْزِئِ فِي الاِعْتِكَافِ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ.
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119) ومسلم (2 / 857) واللفظ للبخاري.
(3) البدائع 2 / 80، والقوانين الفقهية ص115، ومغني المحتاج 1 / 420 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 3 / 86 وما بعدها.
(4) سورة البقرة / 187.
(5) حديث: " إذا أقبل الليل من ههنا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 196) ومسلم (2 / 772) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.(44/105)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اعْتِكَاف ف16 - 17) .
ثَامِنًا: وَقْتُ الْحَجِّ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ إِحْرَامِ الْحَجِّ هُوَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حَجّ ف34، إِحْرَام ف33 - 38، أَشْهُرِ الْحَجِّ ف1 - 3) .
تَاسِعًا: وَقْتُ الْعُمْرَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ الزَّمَنِيَّ هُوَ جَمِيعُ السَّنَةِ، فَهِيَ وَقْتٌ لإِِحْرَامِهَا وَلِجَمِيعِ أَفْعَالِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الْعُمْرَةُ.
(ر: إِحْرَام ف37 - 38) .
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الأَْدَاءِ:
15 - الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ أَدَائِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 471، كشاف القناع 2 / 405، والبدائع 2 / 119 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص129.
(2) سورة البقرة / 197.(44/106)
مُطْلَقَةٍ وَمُؤَقَّتَةٍ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكُل قِسْمٍ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاء ف6) .
أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (أَدَاء ف8) .
مَا يُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ وَمَا لاَ يُقْضَى:
17 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَا يُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا لاَ يُقْضَى. وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءِ الْفَوَائِتِ) .
توقيت خِصَال الْفِطْرَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ خِصَال الْفِطْرَةِ مِنْ حَيْثُ اسْتِيفَاؤُهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (أَظْفَار ف2، وَشَارِب ف12، وَفِطْرَة ف10، وَعَانَة ف4) .
وَقْتُ الْعَقِيقَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الْعَقِيقَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (عَقِيقَة ف9) .
قَاعِدَةٌ: إِضَافَةُ الْحَادِثِ إِلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ:
20 - الْمُرَادُ بِالْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ حَادِثٌ وَاخْتُلِفَ فِي زَمَنِ وُقُوعِهِ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى(44/106)
أَقْرَبِ الأَْوْقَاتِ إِلَى الْحَال مَا لَمْ يَثْبُتْ نِسْبَتُهُ إِلَى زَمَنٍ بَعِيدٍ (1) .
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أ - إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا طَلاَقَ الْفَارِّ أَثْنَاءَ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَطَلَبَتِ الإِْرْثَ، وَالْوَرَثَةُ ادَّعَوْا طَلاَقَهَا فِي حَال صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهَا فِي الإِْرْثِ، فَالْقَوْل لِلزَّوْجَةِ لأَِنَّ الأَْمْرَ الْحَادِثَ الْمُخْتَلَفَ فِي زَمَنِ وُقُوعِهِ هُنَا هُوَ الطَّلاَقُ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْوَقْتِ الأَْقْرَبِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ الَّذِي تَدَّعِيهِ الزَّوْجَةُ مَا لَمْ يُقَدِّمِ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فِي حَال الصِّحَّةِ (2) .
ب - إِذَا ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَوْ وَصِيُّهُ أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ الَّذِي أَجْرَاهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ قَدْ حَصَل بَعْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ وَطَلَبَ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي حُصُول الْبَيْعِ قَبْل تَارِيخِ الْحَجْرِ، فَالْقَوْل هُنَا لِلْمَحْجُورِ أَوْ وَصِيِّهِ، لأَِنَّ وُقُوعَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْحَجْرِ أَصْلٌ وَهُوَ أَقْرَبُ زَمَنًا مِمَّا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إِثْبَاتُ خِلاَفِ الأَْصْل وَهُوَ حُصُول
__________
(1) شرح المجلة العدلية لعلي حيدر 1 / 25، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 32 المادة 11، وغمز عيون البصائر 1 / 217، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 174، والأشباه والنظائر للسيوطي ص59.
(2) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.(44/107)
الْبَيْعِ لَهُ قَبْل صُدُورِ الْحُكْمِ بِالْحَجْرِ (1) .
ج - لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ مِنْ كُل عَيْبٍ يَكُونُ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ بَعْدَ الْقَبْضِ أَرَادَ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، فَقَال الْبَائِعُ: كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَدَخَل تَحْتَ الْبَرَاءَةِ. وَقَال الْمُشْتَرِي: بَل هُوَ حَادِثٌ عِنْدَكَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل أَنْ أَقْبِضَهُ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَال الْعَقْدِ لاَ تَتَنَاوَل إِلاَّ الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لأَِقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لأَِبْعَدِهِمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْمَوْجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ إِحَالَةُ الْمَوْجُودِ إِلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى الأَْصْل، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (2) .
د - لَوْ بَاعَ الأَْبُ مَال وَلَدِهِ وَادَّعَى الْوَلَدُ عَلَى وَالِدِهِ أَنَّهُ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالأَْبُ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْبَيْعِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَادَّعَى حُصُولَهُ قَبْل الْبُلُوغِ فَبِمَا أَنَّ الْبُلُوغَ أَقْرَبُ زَمَنًا مِنْ قَبْل الْبُلُوغِ، فَالْقَوْل لِلاِبْنِ، وَعَلَى الأَْبِ إِثْبَاتُ خِلاَفِ الأَْصْل (3) .
وَفُرُوعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَتَطْبِيقَاتُهَا مُتَنَاثِرَةٌ فِي مُخْتَلَفِ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالْكُتُبُ الْمَعْنِيَّةُ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.
(2) شرح المجلة للأتاسي 1 / 33.
(3) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 25.(44/107)
بِالْقَوَاعِدِ تَشْتَمِل عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهَا، وَلِلاِسْتِزَادَةِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
وَقْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْوَقْفِ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، يُقَال: وَقَفْتُ الدَّارَ وَقْفًا: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، وَمِنْهَا الْمَنْعُ، يُقَال: وَقَفْتُ الرَّجُل عَنِ الشَّيْءِ وَقْفًا: مَنَعْتُهُ عَنْهُ، وَمِنْهَا السُّكُونُ، يُقَال: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ تَقِفُ وَقْفًا وَوُقُوفًا: سَكَنَتْ.
وَيُطْلَقُ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ أَوْقَافٌ كَثَوْبٍ وَأَثْوَابٍ (1) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.(44/108)
وَالْوَقْفُ اصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
فَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ، وَهَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: الْوَقْفُ - مَصْدَرًا - إِعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وَجُودِهِ لاَزِمًا بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَالْوَقْفُ - اسْمًا - مَا أَعْطَيْتَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةَ وُجُودِهِ. . (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرِفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ تَحْبِيسُ مَالِكٍ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ مَالَهُ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ تَصَرُّفِهِ وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ يُصْرَفُ رِيعُهُ إِلَى جِهَةِ بِرٍّ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 357 - 358، والهداية 3 / 13 - 14.
(2) منح الجليل 4 / 34، وجواهر الإكليل 2 / 205.
(3) مغني المحتاج 2 / 376.
(4) شرح منتهى الإرادات 2 / 489، والإنصاف 7 / 3.(44/108)
أ - التَّبَرُّعُ:
2 - التَّبَرُّعُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ بَرَعَ، يُقَال:: بَرَعَ الرَّجُل بَرَاعَةً:: فَاقَ أَصْحَابَهُ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَتَبَرَّعَ بِالأَْمْرِ:: فَعَلَهُ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا (1) . .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلتَّبَرُّعِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ التَّطَوُّعَ بِالشِّيْءِ غَيْرَ طَالِبٍ عِوَضًا، بِقَصْدِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ غَالِبًا (2) . .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّبَرُّعُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ. .
ب -
ب - الصَّدَقَةُ:
3 - الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، أَوْ مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ، أَوْ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ (3) . َفِي الاِصْطَلاَحِ هِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ (4) .
وَيَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ:: الصَّدَقَةُ مَا
__________
(1) الصحاح للجوهري،، والمصباح المنير. .
(2) أنيس الفقهاء ص256. .
(3) لسان العرب،، والصحاح للجوهري،، وتاج العروس، والمعجم الوسيط. .
(4) المغني 5 / 649. .(44/109)
يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الأَْصْل لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَال لِلْوَاجِبِ (1) .
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَال لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصَّدَقَةُ أَعَمُّ مِنَ الْوَقْفِ؛ إِذْ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ أَرْضٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا (3) .
وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْفِ، فَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (4) .
ج -
ج - الْهِبَةُ:
4 - الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ بِلاَ عِوَضٍ.
وَهُوَ الْمَعْنَى الاِصْطَلاَحِيُّ أَيْضًا، يَقُول ابْنُ
__________
(1) المفردات للراغب. .
(2) مغني المحتاج 3 / 120. .
(3) حديث ابن عمر " أن عمر طلب من النبي ? صلى الله عليه وسلم أن يدله. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 399) ، ومسلم (3 / 1255) . .
(4) حديث:: " كل معروف صدقة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 447) من حديث جابر بن عبد الله. .(44/109)
قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهِا (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فَيهَا.
أَمَّا الْهَبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ، فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ.
د - الْعَارِيَّةُ:
5 - الْعَارِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الاِسْمُ مِنَ الإِْعَارَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعَارِ (2) .
وَفِي الاِصْطَلاَحِ هِيَ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ مَالِكٍ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا بِلاَ عِوَضٍ، أَوْ هِيَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِمَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، أَمَّا الْوَقْفُ: فَالْعَيْنُ فِيهِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ - الْوَصِيَّةُ:
6 - الْوَصِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَصَّيْتُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغني 5 / 649. .
(2) تاج العروس. .
(3) مغني المحتاج 2 / 263، وشرح منتهى الإرادات 2 / 391. .(44/110)
الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ أَصِيهِ وَصَلْتُهُ، وَوَصَّيْتُ إِلَى فُلاَنٍ تَوْصِيَةً، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِيصَاءً.
وَالاِسْمُ: الْوِصَايَةُ، وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ جَعَلْتُهُ لَهُ، وَأَوْصَيْتُهُ بِوَلَدِهِ اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَوْصَيْتُهُ بِالصَّلاَةِ أَمَرْتُهُ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ تَبَرُّعٌ بِحَقٍّ مُضَافٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا تَبَرُّعٌ، لَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ، أَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ تَبَرُّعٌ فِي حَال الْحَيَاةِ وَبِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْوَقْفِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ وَاعْتِبَارِهِ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا (4) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المصباح المنير. .
(2) البدائع 7 / 330. .
(3) مغني المحتاج 3 / 39. .
(4) المغني 5 / 597، 598، وشرح منتهى الإرادات 2 / 489،، والاختيار 3 / 40، 41، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 75، ومنح الجليل 4 / 34، 35، والحطاب 6 / 18، والمهذب 1 / 477، ومغني المحتاج 2 / 376. .(44/110)
يَسْتَأْمِرْهُ فِيهَا فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيفِ، وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيَطْعَمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَفِي لَفْظٍ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً (1) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (2) .
وَقَال جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ لَهُ مَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ إِلاَّ حَبَسَ مَالاً مِنْ صَدَقَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لاَ تُشْتَرَى أَبَدًا وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورثُ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى
__________
(1) حديث ابن عمر:: " أصاب عمر أرضا بخيبر. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 354 - 355) ، ومسلم (3 / 1255) واللفظ للبخاري. .
(2) حديث:: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله. . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1255) من حديث أبي هريرة. .
(3) أثر جابر:: " ما أعلم أحدا ". . أخرجه الخصاف في أحكام الأوقاف (ص6 - ط ديوان عموم الأوقاف المصرية) . .(44/111)
الْوَقْفِ وَقَفَ وَاشْتَهَرَ ذَلِكِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا (1) .
وقَال ابْنُ رُشْدٍ: الأَْحْبَاسُ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ عَمِل بِهَا رَسُول اللَّهِ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ عَابدِينَ عَنِ الإِْسْعَافِ: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَكَرَ فِي الأَْصْل: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُجِيزُ الْوَقْفَ فَأَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَقَال: لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنَدَ الْكُل، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ جَوَازَ الإِْعَارَةِ فَتُصْرَفُ مَنْفَعَتُهُ إِلَى جِهَةِ الْوَقْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ حَال حَيَاتِهِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي،أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ (3) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ (4) عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْوَقْفَ وَقَال: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَال: جَاءَ مُحَمَّدٌ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ (5) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَال: جَاءَ
__________
(1) المغني 5 / 599. .
(2) منح الجليل 4 / 34. .
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، والبدائع 6 / 218، 219. .
(4) المغني 5 / 598. .
(5) الحاوي 9 / 369. .(44/111)
مُحَمَّدٌ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ، وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ لأَِنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوفُ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُول - إِذِ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يُوجِبُ زَوَال الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الأَْصْل فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى فِي حَالاَتٍ مُعَيَّنَةٍ: فَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ فَرْضًا وَهُوَ الْوَقْفُ الْمَنْذُورُ كَمَا لَوْ قَال: إِنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلىَ ابْنِ السَّبِيل (2) ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ بِلاَ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَلِذَا يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ وَلاَ ثَوَابَ لَهُ، وَيَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِ (3) .
وَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ حَرَامًا كَمَا لَوْ وَقَفَ مُسْلِمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَوَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 219. .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 358، 359، ومنح الجليل 4 / 34. .
(3) ابن عابدين 3 / 358، 359، والبحر الرائق 5 / 206. .(44/112)
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمْالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ عَلِى الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ فِعْل الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حِرْمَانِ الْبَنَاتِ مِنْ إِرْثِ أَبِيهِمْ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ فَيَمْضِي الْوَقْفُ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَل، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ (1) .
أَرْكَانُ الْوَقْفِ:
أَرْكَانُ الْوَقْفِ عِِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَرْبَعَةٌ:
الصِّيغَةُ، وَالْوَاقِفُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَالْمَوْقُوفُ، أَمَّا عِِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرُّكْنُ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (2) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَ بِالإِْيجَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول لاِنْعِقَادِهِ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 79، وحاشية الْعَدَوِيّ على الخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 380، وكشاف القناع 4 / 246، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 360. .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 359، والخرشي 7 / 78، والشرح الصغير 2 / 298 ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 376، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490. .(44/112)
أ - صِيغَةُ الإِْيجَابِ:
10 - الإِيجَابُ فِي صِيغَةِ الْوَقْفِ هُوَ مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الْوَاقِفِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ صَرِيحًا مِنَ الأَْلْفَاظِ وَمَا يُعَتَبَرُ كِنَايَةً. وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ " وَقَفْتُ " مِنَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ لاِشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا (1) .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " حَبَسْتُ " مِنَ الصِّرِيحِ عِِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورِ عِِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحِ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا " سَبَلْتُ " عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَمَتَى أَتَى الْوَاقِفُ بِلَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الثَّلاَثَةِ فَقَال: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ قَال: أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَذَا أَوْ حَبَسْتُ أَوْ سَبَلْتُ صَارَ وَقْفًا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الاِسْتِعْمَال بَيْنَ النَّاسِ وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 359، والشرح الصغير 2 / 299 ط الحلبي، والزرقاني 7 / 82، ومغني المحتاج 2 / 382، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، ومعونة أولي النهى 5 / 740. .(44/113)
عُرْفُ الشَّرْعِ بِقَوْل النَّبِيِّ ? صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا (1) .
وَمْقَابِل الصَّحِيحِ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَفْظَيْ: حَبَسْتُ وَسَبَلْتُ مِنَ الْكِنَايَاتِ؛ لأَِنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ الْوَقْفِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ " سَبَلْتُ " عِِنْدَ الْحَارِثِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لاَ تُبَاعُ أَوْ لاَ تُوَهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ فِي الأُْمِّ؛ لأَِنَّ لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لاَ يَحْتَمِل غَيْرَ الْوَقْفِ وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ لاِحْتِمَال التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ (2) .
أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فَمِنْهَا لَفْظُ تَصَدَّقْتُ وَذَلِكَ عِِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُجَرَّدَةً فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ تَصَدَّقْتُ فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَإِنْ نَوَى الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ إِلاَّ أَنْ يُضِيفَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَيَنْوِيَ الْوَقْفَ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ
__________
(1) حديث:: " إن شئت حبست أصلها. . . . " تقدم تخرجه (فقرة 3) . .
(2) الشرح الصغير 2 / 299، والزرقاني 7 / 82، ومغني المحتاج 2 / 382، وتحفة المحتاج 6 / 250، والمهذب 1 / 449، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، والمغني 5 / 602، والإنصاف 7 / 5. .(44/113)
وَالنَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ الصَّرَاحَةِ، وَإِنَّمَا إِضَافَتُهُ إِلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تُعْمَل فِيهِ النِّيَّةُ، وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ، لأَِنَّ الصَّرِيحَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ (1) .
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا: حَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ وَذَلِكَ عِِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لأَِنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَل فِي الزَّكَاةِ وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَل فِي الظِّهَارِ وَالأَْيْمَانِ، وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ يَحْتَمِل تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ عُرْفُ الاِسْتِعْمَال فَلاَ يَحْصُل الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الأَْلْفَاظِ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ حَصَل الْوَقْفُ بِهَا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُضَمَّ عَلَيْهَا أَحَدُ أَلْفَاظٍ خَمْسَةٍ؛ وَهِيَ الصَّرَائِحُ الثَّلاَثُ وَالْكِنَايَاتِ فَيَقُول: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحْبَسَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُؤَبَّدَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُسْبَلَةً، أَوْ تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً.
الثَّانِي: أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، فَيَقُول: صَدَقَةٌ لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيل الاِشْتِرَاكَ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 299، ومغني المحتاج 2 / 382، ومنتهى الإرادات 2 / 490، والإنصاف 7 / 5. .(44/114)
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى إِلاَّ أَنَّ النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الاِطِّلاَعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ لَزِمَ فِي الْحُكْمِ لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَال: مَا أَرَدْتُ الْوَقْفَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ " حَرَّمْتُ،وَأَبَّدْتُ " مِنَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ لإِِفَادَةِ الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيل، وَلأَِنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّأْبِيدَ فِي غَيْرِ الأَْبْضَاعِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْوَقْفِ فَحُمِل عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا بَعْضَ الصِّيَغِ دُونَ بَيَانِ مَا هُوَ صَرِيحٌ وَمَا هُوَ كِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَضْمُونِهِ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ.
أَلْفَاظُ الْوَقْفِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالأَْلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ هِيَ:
الأَْوَّل: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، الثَّانِي: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَهِلاَلٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عَرَّفَ مَصْرِفَهُ وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ: " مَوْقُوُفَةٌ " احْتِمَال كَوْنِهِ نَذْرًا.
__________
(1) المغني 5 / 602 - 603، وشرح منتهى الإرادات 2 / 491، والإنصاف 7 / 5، ومعونة أولي النهى 5 / 743، والمهذب 1 / 449، ومغني المحتاج 2 / 382، وتحفة المحتاج 6 / 250. .(44/114)
الثَّالِثُ: حَبْسُ صَدَقَةٍ، الرَّابِعُ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَهُمَا كَالثَّانِي، الْخَامِسُ: مَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ عِِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ مَوُقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ؛ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا لأَِنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لاَ تَنْقَطِعُ، قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِقَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلاَلٍ قَوْل أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَبْطُل؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ إِذَا كَانَ يَصْرِفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، السَّادِسُ: مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِِنْدَ هِلاَلٍ أَيْضًا لِزَوَال الاِحْتِمَال بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، السَّابِعُ: مَحْبُوسَةٌ، الثَّامِنُ: حَبْسٌ، وَهُمَا بَاطِلاَنِ، وَلَوْ كَانَ فِي " حَبْسٌ " مِثْل هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ: مَوْقُوفَةٌ، التَّاسِعُ: لَوْ قَال: هِيَ لِلسَّبِيلِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلاَ سُئِل فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا لأَِنَّهُ مْحْتَمِلٌ لَفْظَهُ، أَوْ قَال: أَرَدْتُ مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا، ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِل، الْعَاشِرِ: جَعَلْتُهَا لِلْفُقَرَاءِ، إِنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عَمِل بِهِ وَإِلاَ سُئِل، فَإِنْ أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ، أَوِ الصَّدَقَةَ فَهِيَ نَذْرٌ، وَهَذَا عِِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لأَِنَّهُ أَدْنَى، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِِنْدَ الاِحْتِمَال أَوْلَى، الْحَادِيَ(44/115)
عَشَرَ: مُحَرَّمَةٌ، الثَّانِيَ عَشَرَ: وَقْفٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِِنْدَ أَهْل الْحِجَازِ، الثَّالِثَ عَشَرَ: حَبْسٌ مَوْقُوفَةٌ، وَهُوَ كَالاِقْتِصَارِ عَلَى مَوْقُوفَةٍ، الرَّابِعَ عَشَرَ: جَعَلْتُ نُزُل كَرْمِي وَقْفًا، صَارَ وَقْفًا فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ لاَ، الْخَامِسَ عَشَرَ: جَعَلْتُ غَلَّتَهُ وَقْفًا كَذَلِكَ، السَّادِسَ عَشَرَ: مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، الْكُل فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَجَزَمَ فِي الْبَزَّازِيَةِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: وَقْفٌ أَوْ مَوْقُوفَةٌ، السَّابِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ فَقَطْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى مَاتَ كَانَتْ مِيرَاثًا، كَذَا فِي الْخَصَّافِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وَجْهِ الْخَيْرِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ فِي الْحَجِّ عَنِّي وَالْعُمْرَةِ عَنِّي يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَلَوْ لَمْ يَقُل عَنِّي لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ. الْعِشْرُونَ: صَدَقَةٌ لاَ تُبَاعُ تَكُونُ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ لاَ وَقْفًا وَلَوْ زَادَ " وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ " صَارَتْ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَالثَّلاَثَةُ فِي الإِْسْعَافِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: اشْتَرُوا مِنْ غَلَّةِ دَارِي هَذِهِ كُل شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ خُبْزًا وَفَرِّقُوهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، صَارَتِ الدَّارُ وَقَفًا. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ بَعْدَ وَفَاتِي صَدَقَةٌ يُتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا، أَوْ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، ذَكَرَهُمَا فِي الذَّخِيرَةِ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْصَى أَنْ يُوقَفَ ثُلُثُ مَالِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَقُول لِلَّهِ أَبَدًا كَذَا(44/115)
فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَذَا الدُّكَّانُ مَوْقُوفَةٌ بَعْدَ مَوْتِي وَمُسْبَلٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفًا لاَ يَصِحُّ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: دَارِي هَذِهِ مُسْبَلَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِي يَصِحُّ إِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ وَعَيَّنَ الْمَسْجِدَ وَإِلاَّ فَلاَ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: سَبَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي وَجْهِ إِمَامِ مَسْجِدِ كَذَا عَنْ جِهَةِ صَلَوَاتِي، وَصِيَامَاتِي تَصِيرُ وَقْفًا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَنْهُمَا، وَالثَّلاَثَةُ فِي الْقُنْيَةِ، السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: جَعَلْتُ حُجْرَتِي لِدُهْنِ سِرَاجِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ صَارَتِ الْحُجْرَةُ وَقْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ، كَمَا قَال: وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَصْرِفَ إِلَى غَيْرِ الدُّهْنِ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ، الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ قَاضِيخَانُ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا: رَجُلٌ قَال: ثُلُثُ مَالِي وَقْفٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، قَال أَبُو نَصْرٍ: إِنْ كَانَ مَالُهُ نَقْدًا فَهَذَا الْقَوْل بَاطِلٌ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَقْفٌ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ ضِيَاعًا تَصِيرُ وَقَفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ (1) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ:
12 - كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِاللَّفْظِ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ مَا يَأْتِي:
أ - الإِْشَارَةُ الْمُفْهَمَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 205 - 206.
(2) مغني المحتاج 2 / 381، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، ومعونة أولي النهى 5 / 740.(44/116)
ب - الْكِتَابَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الأَْخْرَسِ أَمْ مِنَ النَّاطِقِ كَالْكِتَابَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْكُتُبِ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى كِتَابٍ: وَقْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَدْرَسَةِ الْفُلاَنِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْكُتُبِ ثَبَتَتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ وَقْفِيَّتُهُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ بِكِتَابَةِ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ (1) .
ج - الْفِعْل: كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً وَيُخَلِّي بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا أَعَدَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا وَلَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ، وَكَمَنَ يَجْعَل أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًا بِالدَّفْنِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ أَوِ الإِْشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنُوا مِنِ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إِذَا بَنَى شَخْصٌ مَسْجِدًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ؛ لأَِنَّ الْفِعْل مَعَ النِّيَّةِ هُنَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْقَوْل، وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُل فِي مِلْكِ مَنْ أَحْيَاهُ مَسْجِدًا (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 299، والدسوقي 4 / 85، ومغني المحتاج 2 / 381.
(2) الشرح الصغير 2 / 299، وشرح منتهى الإرادات 2 / 49، والإنصاف 7 / 3 - 4، وحاشية ابن عابدين 3 / 369 - 370، ومغني المحتاج 2 / 381.(44/116)
قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَقِيَاسُ ذَلِكَ إِجْزَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنَ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِهَا (1) .
أَمَّا مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي مِلْكِهِ فَلاَ يَصِيرُ وَقَفًا إِلاَّ بِالْقَوْل، قَال الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَوْل، فَإِنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا؛ لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ (2) .
وَقَال الرَّمْلِيُّ: لَوْ قَال: أَذِنْتُ فِي الاِعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ مَسْجِدًا بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ (3) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل وَحْدَهُ (4) .
ب - الْقَبُول:
13 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْقَبُول كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، أَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً غَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول وَيَكْفِي الإِْيجَابُ فِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 381، 382.
(2) المهذب 1 / 499.
(3) مغني المحتاج 2 / 382.
(4) الإنصاف 7 / 3 - 4.(44/117)
انْعِقَادِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي احْتِمَالٍ ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُشْتَرُطُ الْقَبُول فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَقْبَلُهُ نَائِبُ الإِْمَامِ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ مَثَلاً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْقَبُول، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَثَلاً قَبِل عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِحْقَاقِ الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالإِْعْتَاقِ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُول (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17، وحاشية الدسوقي 4 / 88، وجواهر الإكليل 2 / 108، ومغني المحتاج 2 / 383، والروضة 5 / 324، والإنصاف 7 / 26، والفروع 4 / 589، ومعونة أولي النهى 5 / 780.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17، وحاشية الدسوقي 4 / 88، وجواهر الإكليل 2 / 108، ومغني المحتاج 2 / 383، والروضة 5 / 324، وتحفة المحتاج 6 / 251، والمغني 5 / 600، 601، والإنصاف 7 / 27، وكشاف القناع 4 / 252، ومعونة أولي النهى 5 / 780 - 781.(44/117)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ الْقَبُول مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ كَمَا فِي الأَْصَحِّ - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى الْفَوْرِ عَقِبَ الإِْيجَابِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلاَ تُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول عَقِبَ الإِْيجَابِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْقَبُول عَقِبَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ طَال الزَّمَنُ. قَال الشَّبْرَامَلْسِيُّ: وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ هَل يَكْفِي قَبُول الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ لاَ يَكْفِي؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَبُول لإِِلْحَاقِهِمُ الْوَقْفَ بِالْعُقُودِ دُونَ الْوَصِيَّةِ (1) .
وَقَال الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُشْتَرَطُ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ فَإِنْ تَرَاخَى عَنْهُ بَطَل كَمَا يَبْطُل فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إِذَا اشْتُرِطَ الْقَبُول عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْمَجْلِسَ، بَل يُلْحَقُ بِالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ، فَيَصِحُّ مُعَجَّلاً وَمُؤَجَّلاً بِالْقَوْل وَالْفِعْل، فَأَخْذُ رِيْعِهِ قَبُولٌ، وَتَصَرُّفُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُول بِالْقَوْل (2) .
رَدُّ الْمَوْقُوفِ:
14 - الرَّدُّ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا رَدَّ وَلَمْ يَقْبَل مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ:: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ لَشَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 369، ومغني المحتاج 2 / 383.
(2) الإنصاف 7 / 28، والاختيارات الفقهية ص173.(44/118)
لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَبِلَهُ كَانَتِ الْغَلَّةُ لَهُ، وَإِنْ رَدَّهُ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَمَنْ قَبِل مَا وُقِفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَهُ، وَمَنْ رَدَّهُ أَوَّل مَرَّةٍ لَيْسَ لَهُ الْقَبُول بَعْدَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ فَالْمَنْقُول فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا فِي ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا لِلإِْمَامِ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ: أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى غَيْرِ مَنْ رَدَّهُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهَذَا إِذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ حَبْسًا مُطْلَقًا، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْوَاقِفُ الْمُعَيِّنُ بِخُصُوصِهِ فَرَدَّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِمُطَرِّفٍ:: وَهُوَ أَنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:: لَوْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بَطَل حَقُّهُ، سَوَاءً اشْتَرَطَ الْقَبُول مِنَ الْمُعَيِّنِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَعُدْ لَهُ، لَكِنْ قَال الرُّويَانِيُّ:: إِنْ رَجَعَ قَبْل حُكْمِ الْحَاكِمِ بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِغَيْرِهِ بَطَل حَقُّهُ، وَهَذَا فِي الْبَطْنِ الأَْوَّل، أَمَّا الْبَطْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَنَقَل الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لاَ يَتَّصِل بِالإِْيجَابِ، وَنَقَلاَ فِي ارْتِدَادِهِ بِرَدِّهِمْ وَجْهَيْنِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص17.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 88، والشرح الصغير 2 / 300.
(3) روضة الطالبين 5 / 324، 325، ومغني المحتاج 2 / 383.(44/118)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول فِي الْوَقْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَبْطُل الْوَقْفُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِرَدِّهِ، فَقَبُولُهُ وَرَدُّهُ سَوَاءٌ، وَقَال أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَالْوَكِيل إِذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا الْقَبُول، وَعَلَى الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ الْقَبُول فَإِنْ رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَطَل فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ (1) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول فَرَدَّهُ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بَطَل فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الاِبْتِدَاءِ، يَخْرُجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ وَبُطْلاَنِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ فَهَل يَنْتَقِل فِي الْحَال إِلَى مَنْ بَعْدَهُ أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَال إِلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (2) .
لُزُومُ الْوَقْفِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ الْوَقْفِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ مُسْتَكْمِلاً شَرَائِطَهُ أَصْبَحَ لاَزِمًا، وَانْقَطَعَ حَقُّ
__________
(1) الإنصاف 7 / 27، 28، وكشاف القناع 4 / 252، والمغني 5 / 601، ومعونة أولي النهى 5 / 780.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 601.(44/119)
الْوَاقِفِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِأَيِّ تَصَرُّفٍ يُخِل بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْوَقْفِ، فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ؛ وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، وَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ (1) (وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ مِنَ الْوَاقِفِ كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ، وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى. .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَقْفُ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ - كَمَا سَبَقَ - وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ حَال حَيَاتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَيُورِثُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:: أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي، أَوْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ اللُّزُومُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: وَالْحَقُّ تَرْجِيحُ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ وَالآْثَارَ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَتَرَجَّحَ قَوْلُهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ
__________
(1) حديث: " تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 392) .(44/119)
بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ (1) .
قَبْضُ الْمَوْقُوفِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْمَوْقُوفِ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى الْوَقْفِ فَأَشْبَهَ الإِْعْتَاقَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ لاَ يَتِمُّ الْوَقْفُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَقَةِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ، وَيُعَبِّرُ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ بِالْحَوْزِ، قَال الْخَرَشِيُّ: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَبِيرٍ وَلَمْ يَحُزْهُ قَبْل مَوْتِ الْوَاقِفِ، أَوْ قَبْل فَلَسِهِ، أَوْ قَبْل مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَبْسَ يَبْطُل، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صَغِيرًا فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحُوزُ عَنْهُ، وَالْحَوْزُ - أَيِ الْقَبْضُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، 367، والإسعاف ص3، 4، وحاشية الدسوقي 4 / 75، وحاشية الْعَدَوِيّ بهامش الخرشي 7 / 84، وروضة الطالبين 5 / 342، والمهذب 1 / 449، وكشاف القناع 4 / 254، 292، والمغني 5 / 600، ومعونة أولي النهى 5 / 777.(44/120)
لِلْمَوْقُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمِيًّا، وَذَلِكَ بِتَخْلِيَةِ الْوَاقِفِ لِلْمَوْقُوفِ وَرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي وَقْفِ مِثْل الْمَسْجِدِ وَالْقَنْطَرَةِ وَالْبِئْرِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (1) .
وَإِنَّمَا يَبْطُل الْوَقْفُ قَبْل الْحَوْزِ إِذَا حَصَل الْمَانِعُ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَرَضِ مَوْتٍ إِذَا لَمْ يُطَّلَعْ عَلَى الْوَقْفِ إِلاَّ بَعْدَ حُصُول الْمَانِعِ. وَلِذَلِكَ قَال الْعَدَوِيّ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ أَوِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّحْوِيزِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ بِالْقَوْل (2) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْبُطْلاَنِ عَدَمُ التَّمَامِ لاَ حَقِيقَتُهُ (3) .
وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ عَنِ الْقَبْضِ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَتَسْلِيمِ كُل شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ: فَفِي الْمَسْجِدِ بِالإِْفْرَازِ وَالصَّلاَةِ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا، وَفِي السِّقَايَةِ بِشُرْبٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْخَانِ بِنُزُولٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَارَّةِ، لَكِنَّ السِّقَايَةَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى صَبِّ الْمَاءِ فِيهَا، وَالْخَانَ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ بِمَكَّةَ وَالْغُزَاةُ بِالثَّغْرِ لاَ بُدَّ فِيهِمَا مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 364، والإسعاف ص15، والخرشي 7 / 84، والروضة 5 / 342، وكشاف القناع 4 / 254، وشرح المنتهى 2 / 514، ومعونة أولي النهى 5 / 777.
(2) حاشية الْعَدَوِيّ بهامش الخرشي 7 / 84.
(3) الخرشي 7 / 84.(44/120)
التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُتَوَلِّي؛ لأَِنَّ نُزُولَهُمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَيُحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ وَإِلَى مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ فِيهَا (1) .
الرُّجُوعُ فِي الْوَقْفِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ مَتَى أَصْبَحَ لاَزِمًا فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُرْهَنُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطَ حِينَ الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَهُ الْخِيَارَ، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَلاَ الْوَقْفُ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلاً، وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَبْطُل الشَّرْطُ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ قَال: وَقَفْتُ بِشَرْطِ أَنِّي أَبِيعُهُ أَوْ أَرْجِعُ فِيهِ مَتَى شِئْتُ فَبَاطِلٌ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْعِتْقِ، أَوْ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَة، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْقَفَّال: أَنَّ الْعِتْقَ لاَ يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 364.(44/121)
الْمَوْقُوفَ مَتَى شَاءَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَلاَ الْوَقْفُ؛ لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْوَقْفُ بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ فَسَدَ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْعَقْدِ (1) .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ حِينَ الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً كَأَنْ قَال: وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَمَامُ الْقَبْضِ عِنْدَهُ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: الْوَقْفُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ تَمَامُ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ، وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَفُوتُ هَذَا الشَّرْطُ، وَاخْتَارَ هِلاَلٌ قَوْل مُحَمَّدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْل يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ كَالإِْعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لاَ إِلَى مَالِكٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَل الشَّرْطُ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا.
__________
(1) الروضة 5 / 328، 329، ومغني المحتاج 2 / 385، والمغني 5 / 606، والإنصاف 7 / 25.(44/121)
وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَجْهُولَةً، بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ دُونَ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلاَنِ بِالاِتِّفَاقِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، لَكِنَّ الطَّرَابُلُسِيَّ ذَكَرَ فِي الإِْسْعَافِ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ قَال: الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عَلَى كُل حَالٍ (1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ حِينَ الْوَقْفِ: عَلَى أَنَّ لِي إِبْطَالَهُ أَوْ بَيْعَهُ أَوْ رَهْنَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِفُلاَنٍ أَوْ لِوَرَثَتِي أَنْ يُبْطِلُوهُ أَوْ يَبِيعُوهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلاً عَلَى قَوْل الْخَصَّافِ وَهِلاَلٍ، وَجَائِزًا عَلَى قَوْل يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ لإِِبْطَالِهِ الشَّرْطَ بِإِلْحَاقِهِ إِيَّاهُ بِالْعِتْقِ (2) .
وَمَا مَرَّ مِنَ الْخِلاَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ أَوِ الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حِينَ الْوَقْفِ، إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ اشْتَرَطَ إِبْطَالَهُ أَوْ بَيْعَهُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل الشَّرْطُ بِاتِّفَاقٍ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْوَقْفُ وَلَوْ لَمْ يَحُزْ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَاقِفُ الرُّجُوعَ فِي الْوَقْفِ
__________
(1) فتح القدير 6 / 229، 230، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص28.
(2) الإسعاف ص29، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والإسعاف ص28.(44/122)
لاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحُزْ عَنْهُ أُجْبِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: وَلِيَ الْخِيَارُ كَمَا قَال ابْنُ الْحَاجِبِ، وَبَحَثَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالُوا: أَنَّهُ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ إِذَا شَرَطَ أَنَّهُ إِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ قَاضٍ رَجَعَ لَهُ، وَأَنَّ مَنِ احْتَاجَ مِنَ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ بَاعَ (1) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ الرُّجُوعَ أَوِ الْبَيْعَ إِنِ احْتَاجَ لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ (2) .
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّنْجِيزُ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّنْجِيزِ فِي الصِّيغَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْوَقْفِ مُنْجَزَةً، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ غَيْرِ كَائِنٍ، فَإِذَا قَال الْوَاقِفُ: إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ كَذَا عَلَى كَذَا لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْل الْمِلْكِ فِي الْحَال لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، لَكِنْ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِكَائِنٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَال، أَيْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 75، وجواهر الإكليل 2 / 208.
(2) الشرح الكبير 4 / 82.(44/122)
بِأَمْرٍ مُتَحَقِّقِ الْوُجُودِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ قَال: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الأَْرْضُ مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ صَحَّ الْوَقْفُ وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ الْكَائِنِ تَنْجِيزٌ.
لَكِنْ يُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْمَوْتِ، كَمَا إِذَا قَال: إِنْ مُتُّ فَأَرْضِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ، وَيُعْتَبَرُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ، وَعِنْدَئِذٍ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ بِالْمَوْتِ وَاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَّى فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ: " هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ " (1) (، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ صِيغَةَ الْوَقْفِ تَقْبَل التَّعْلِيقَ وَأَنَّ التَّنْجِيزَ لَيْسَ شَرْطًا
__________
(1) ثمغ بالفتح مال بالمدينة لعمر وقفه (القاموس المحيط) ، وأثر عمر في ذكر وصيته أخرجه أبو داود (3 / 299 - 300) وصححه إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 162 - ط العلمية) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 362، والإسعاف ص35، ومغني المحتاج 2 / 385، والمهذب 1 / 448، ورح منتهى الإرادات 2 / 496، وكشاف القناع 4 / 250 - 251، والإنصاف 7 / 23.(44/123)
لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَدَارِي هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى كَذَا صَحَّ الْوَقْفُ وَيَلْزَمُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: التَّأْبِيدُ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَأْبِيدِ الْوَقْفِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ لاَ إِلَى حَدٍّ فَلاَ يُحْتَمَل التَّوْقِيتُ كَالإِْعْتَاقِ، وَجَعْل الدَّارِ مَسْجِدًا. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ لَفْظًا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ - وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ التَّأَبِيدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ سَوَاءٌ ذُكِرَ التَّأْبِيدُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، كَأَنْ وَقَفَهُ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ هَذَا الشَّرْطُ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، وَلأَِنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلاَلَةً،
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 87، وشرح الخرشي على مختصر خليل 7 / 91، والإنصاف 7 / 23.(44/123)
وَالثَّابِتُ دَلاَلَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ أَنْ يُنَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفٍ وَقَّتَهُ الْوَاقِفُ بِشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ مُؤَبَّدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَصِحُّ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّأْبِيدُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوَاقِف:
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَاقِفِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: كَوْنُ الْوَاقِفِ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ:
20 - الْوَقْفُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 356، وبدائع الصنائع 6 / 220، وحاشية ابن عابدين 3 / 365 - 367، ومغني المحتاج 2 / 382 - 383، وتحفة المحتاج 6 / 252 - 253، وشرح منتهى الإرادات 2 / 497، والكافي لابن قدامة 2 / 449 - 450، والإنصاف 7 / 35، والفروع 4 / 588، ومعونة أولي النهى 5 / 783، وحاشية الدسوقي 4 / 87، والخرشي 7 / 91، وجواهر الإكليل 2 / 208.(44/124)
الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ (1) .
وَتَتَحَقَّقُ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ بِمَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُكَلَّفًا، أَيْ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُزِيل الْمِلْكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنَ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ (3) .
ج - أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا، فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُكْرَهِ (4) .
د - أَلاَّ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) البدائع 6 / 219، وحاشية ابن عابدين 3 / 359، وحاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 377، وكشاف القناع 4 / 251.
(2) البدائع 6 / 219، والشرح الصغير 2 / 298، ونهاية المحتاج 5 / 356، وكشاف القناع 4 / 240.
(3) البدائع 6 / 219، والشرح الصغير 2 / 298، ومغني المحتاج 2 / 377، وكشاف القناع 4 / 240، وشرح منتهى الإرادات 2 / 490.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 377.(44/124)
يَصِحَّ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَعِنْدَ الْكُل إِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عَلَى أَنَّ وَقْفَ الْمُفْلِسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ فَاضِلاً عَنِ الدَّيْنِ (1) .
أَمَّا وَقْفُ الْمَدِينِ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَقْفُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ إِذَا كَانَ فِي حَال الصِّحَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ قَصَدَ بِهِ الْمُمَاطَلَةَ لأَِنَّهُ صَادَفَ مِلْكَهُ كَمَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِل عَنِ الذَّخِيرَةِ، قَال فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ لاَزِمٌ لاَ يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إِذَا كَانَ قَبْل الْحَجْرِ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَال صِحَّتِهِ، وَبِهِ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَفْتَى بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ.
وَفِيَ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْمَدِينُ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ لَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَشَرَطَ وَفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ غَلَّتِهِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ يُوَفَّى مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ بِلاَ سَرَفٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ إِذَا فَضَل مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ شَيْءٌ عَنْ قُوتِهِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْغَلَّةَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 359، والشرح الصغير 2 / 298، ومغني المحتاج 2 / 148، والمغني 4 / 486.(44/125)
فَغَلَّتُهُ لِمَنْ جَعَل لَهُ خَاصَّةً.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِ الْمَدِينِ، فَقَدْ نَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ مَعْرُوضَاتِ الْمُفْتِي أَبِي السُّعُودِ أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَهَرَبَ مِنَ الدُّيُونِ هَل يَصِحُّ؟ فَأَجَابَ: لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَلْزَمُ، وَالْقُضَاةُ مَمْنُوعُونَ مِنَ الْحُكْمِ وَتَسْجِيل الْوَقْفِ بِمِقْدَارِ مَا شُغِل بِالدَّيْنِ (1) .
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ بَعْدَ الدَّيْنِ أَوْ قَبْلَهُ، وَبَيْنَ حَوْزِ الْمَوْقُوفِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ بَاطِلاً، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى التَّبَرُّعِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ سَابِقًا عَلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ قَدْ حَازَ الْمَوْقُوفَ قَبْل حُصُول الدَّيْنِ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحًا وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِذِمَّةِ الْوَاقِفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحُزِ الْوَقْفَ حَتَّى حَصَل الدَّيْنُ فَلِلْغَرِيمِ إِبْطَال الْوَقْفِ، أَيْ عَدَمُ إِتْمَامِهِ وَأَخْذِهِ فِي دَيْنِهِ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ.
وَإِنْ جَهِل سَبْقَ أَحَدِهِمَا، أَيْ جَهِل سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّيْنِ أَوْ سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قَدْ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ وَحَازَهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 395، وفتح القدير 6 / 208.(44/125)
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلاً يُبَاعُ لِلدَّيْنِ، وَإِنْ وَقَفَ شَخْصٌ عَلَى مَحْجُورِهِ وَحَصَل الدَّيْنُ بَعْدَ الْوَقْفِ وَحَازَهُ الأَْبُ لِمَحْجُورِهِ قَبْل حُصُول الدَّيْنِ - أَيِ اسْتَمَرَّ الْمَوْقُوفُ تَحْتَ يَدِ الْوَاقِفِ - فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا، لَكِنْ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ الْوَاقِفُ عَلَى الْوَقْفِ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْغَلَّةَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ دَارًا يَسْكُنُهَا الْوَاقِفُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا وَقَفَهُ الْوَاقِفُ عَلَى مَحْجُورِهِ مُشَاعًا وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ حِصَّةٌ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ أَحَدُهَا كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلاً.
أَمَّا إِنْ وَقَفَ عَلَى مَحْجُورِهِ وَجَهِل سَبْقَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْ سَبْقَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّيْنِ وَتَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ مِنَ الإِْشْهَادِ وَصَرْفِ الْغَلَّةِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِ الْمَوْقُوفِ غَيْرَ دَارِ سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ بَاطِلاً إِذَا حَازَ الأَْبُ لِمَحْجُورِهِ، وَيُبَاعُ لِلدَّيْنِ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى التَّبَرُّعِ لِضَعْفِ الْحَوْزِ، أَمَّا لَوْ حَازَهُ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الأَْبِ فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ صَحِيحًا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَدِينِ الَّذِي لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا فَعَلَهُ الْمُفْلِسُ قَبْل حَجْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ نَافِذٌ؛
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 80 - 82.(44/126)
لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ كَغَيْرِهِ (1) .
وَقَال الْبَهُوتِيُّ: تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ نَصًّا لَوِ اسْتَغْرَقَ دَيْنُهُ جَمِيعَ مَالِهِ؛ لأَِنَّهُ رَشِيدٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ الْحَجْرُ فَلاَ يَتَقَدَّمُ سَبَبُهُ، وَيَحْرُمُ إِنْ أَضَرَّ بِغَرِيمِهِ، ذَكَرَهُ الآْمِدِيُّ الْبَغْدَادِيُّ (2) .
وَقْفُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
21 - الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فِي حَقِّ نُفُوذِهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ. فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ كَأَنْ يَقِفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَا وَقَفَهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ صَارَ الْوَقْفُ لاَزِمًا، وَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَال الْوَاقِفِ تَوَقَّفَ لُزُومُهُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ نَفَذَ فِي الثُّلُثِ فَقَطْ، وَبَطَل فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لأَِنَّ حَقَّ
__________
(1) المغني 4 / 485 - 486، ومغني المحتاج 2 / 147 - 148.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 278.(44/126)
الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَال بِوُجُودِ الْمَرَضِ فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَةِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ فَأَقَل صَحَّ الْوَقْفُ، سَوَاءٌ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ تَوَقَّفَ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَجَازَ وَقْفُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، وَمَنْ رَدَّ مِنْهُمُ اعْتُبِرَ وَارِثًا بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ فَرْضًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، (، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ فِي قِسْمَةِ الْغَلَّةِ، بَيَانُهُ كَالآْتِي: قَال الْحَنَفِيَّةُ: امْرَأَةٌ وَقَفَتْ مَنْزِلاً فِي مَرَضِهَا عَلَى بَنَاتِهَا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِنَّ عَلَى أَوْلاَدِهِنَّ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِنَّ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَلِلْفُقَرَاءِ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ مَرَضِهَا وَخَلَّفَتْ بِنْتَيْنِ وَأُخْتًا لأَِبٍ، وَالأُْخْتُ لاَ تَرْضَى بِمَا صَنَعَتْ وَلاَ مَال لَهَا سِوَى الْمَنْزِل جَازَ الْوَقْفُ فِي الثُّلُثِ وَلَمْ يَجُزْ فِي الثُّلُثَيْنِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ وَقْفًا، وَمَا خَرَجَ مِنْ غَلَّتِهِ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ عَلَى قَدْرِ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 211، والإسعاف ص35، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 78، 82، 91، والمغني 5 / 627، ومغني المحتاج 2 / 377 و3 / 47، 50، وشرح منتهى الإرادات 2 / 525.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 363، 394، والبحر الرائق 5 / 210، وشرح منتهى الإرادات 2 / 525.(44/127)
سِهَامِهِمْ مُدَّةَ حَيَاةِ الْبِنْتَيْنِ، فَإِذَا مَاتَتَا صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى أَوْلاَدِهِمَا وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمَا كَمَا شَرَطَتِ الْوَاقِفَةُ، لاَ حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالْحَاصِل أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ الآْخَرُ كَانَ الْكُل وَقْفًا وَاتَّبَعَ الشَّرْطَ وَإِلاَّ (أَيْ وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ الآْخَرُ) كَانَ الثُّلُثَانِ مِلْكًا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ وَقْفًا، مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْبَعْضِ لاَ تَنْفُذُ فِي شَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ بَعْدَهُ لِغَيْرِهِ، فَاعْتُبِرَ الْغَيْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الثُّلُثِ، وَاعْتُبِرَ الْوَارِثُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَلَّةِ الثُّلُثِ الَّذِي صَارَ وَقْفًا، فَلاَ يُتْبَعُ الشَّرْطُ مَا دَامَ الْوَارِثُ حَيًّا، وَإِنَّمَا تُقْسَمُ غَلَّةُ هَذَا الثُّلُثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا انْقَرَضَ الْوَارِثُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ شَرْطُهُ فِي غَلَّةِ الثُّلُثِ (2) .
وَلَوْ وَقَفَ رَجُلٌ فِي مَرَضِهِ دَارًا لَهُ عَلَى ثَلاَثِ بَنَاتٍ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُنَّ فَالثُّلُثُ مِنَ الدَّارِ وَقْفٌ، وَالثُّلُثَانِ مُطْلَقٌ يَصْنَعْنَ بِهِمَا مَا شِئْنَ، قَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُجِزْنَ، أَمَّا إِذَا أَجَزْنَ صَارَ الْكُل وَقْفًا عَلَيْهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ دَارًا لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا عَلَى ابْنِهِ وَبِنْتِهِ بِالسَّوِيَّةِ فَرَدَّا، فَثُلُثُهَا وَقْفٌ بَيْنَهُمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 362، والبحر الرائق 5 / 210.
(2) البحر الرائق 5 / 210، وحاشية ابن عابدين 3 / 363.
(3) البحر الرائق 5 / 210.(44/127)
بِالسَّوِيَّةِ وَلاَ يُحْتَاجُ لإِِجَازَةٍ، وَثُلُثَاهَا مِيرَاثٌ، وَإِنْ رَدَّ الاِبْنُ وَحْدَهُ فَلَهُ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُمَا وَقْفًا، وَإِنْ رَدَّتِ الْبِنْتُ وَحْدَهَا فَلَهَا ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا وَلِلاِبْنِ نِصْفُهُمَا وَقْفًا وَسُدُسُهُمَا إِرْثًا لِرَدِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (1) .
وَلَوْ وَصَّى بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ صَحَّ مُطْلَقًا سَوَاءً أَجَازَ ذَلِكَ بَاقِي الْوَرَثَةِ أَوْ رَدُّوهُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ نَصًّا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ يُمْلَكُ مِلْكًا تَامًّا لِتَعَلُّقِ حَقِّ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْبُطُونِ بِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ إِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا لَمْ يُنَفَّذِ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ رَدَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ بِمَرَضِ مَوْتِهِ بَطَل وَلَوْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ وَلَوْ حَازَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ لَهُ بِقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ لَمْ يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ ابْتِدَاءُ وَقْفٍ مِنْهُمْ (3) ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَارِثِ مَسْأَلَةً تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ وَلَدِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 525.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 541.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 82.(44/128)
الأَْعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى أَوْلاَدِهِ لِصُلْبِهِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ يَصِحُّ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّ الْوَارِثَ يُعْتَبَرُ كَالْمِيرَاثِ فِي الْقِسْمَةِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ لاَ مِيرَاثٌ حَقِيقِيٌّ، فَلاَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بِأَيْدِيهِمْ وَقْفٌ لاَ مِلْكٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمِثَال ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ لِصُلْبِهِ وَأَرْبَعَةُ أَوْلاَدِ أَوْلاَدٍ، وَتَرَكَ مَعَ ذَلِكَ أُمًّا وَزَوْجَةً وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي الْوَقْفِ، فَيُقْسَمُ الْوَقْفُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ الثَّلاَثَةِ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ الأَْرْبَعَةِ، يَخُصُّ أَوْلاَدَهُ الثَّلاَثَةَ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ وَيُشَارِكُهُمْ فِيهَا الأُْمُّ وَالزَّوْجَةُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَرِثُ، فَيَكُونُ لِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَهَذَا مِنْ نَصِيبِ أَوْلاَدِهِ الثَّلاَثَةِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ لأَِوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ حَسَبَ شَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْ تُفَاضِلٍ وَتَسْوِيَةٍ، وَمَا خَصَّ أَوْلاَدَهُ الثَّلاَثَةَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَيَدْخُل مَعَهُمْ فِي نَصِيبِهِمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلِكَوْنِهِ وَقْفًا مُعَقَّبًا لَمْ يَبْطُل مَا نَابَ الأَْوْلاَدُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِمْ بِهِ، وَلِكَوْنِهِمْ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَضِ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَعَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ وَعَقِبِهِمْ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يُقْسَمُ عَلَى رُءُوسِ الْجَمِيعِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا نَابَ الْوَرَثَةَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا نَابَ أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ يُقْسَمُ عَلَى حَسَبِ شَرْطِ الْوَاقِفِ. .(44/128)
وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاقِفُ عَقِبًا كَأَنْ قَال: وَقْفٌ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي بَطَل الْوَقْفُ عَلَى الأَْوْلاَدِ وَصَحَّ عَلَى أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ، فَالتَّعْقِيبُ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَتُقْسَمُ ذَاتُ الْوَقْفِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ، فَمَا نَابَ الأَْوْلاَدَ تَكُونُ ذَاتُهُ إِرْثًا، وَمَا نَابَ أَوْلاَدَ الأَْوْلاَدِ يَكُونُ وَقْفًا (1) .
وَقْفُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَدِينُ بِدَيْنٍ مُحِيطٍ بِمَالِهِ نُقِضَ الْوَقْفُ وَبِيعَ فِي دَيْنِهِ، وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَوَاكِهِ الْبَدْرِيَّةِ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ الْوَقْفِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِمَالِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَجُوزُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ لَوْ كَانَ وَرَثَةٌ وَلَمْ يُجِيزُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ وَأَجَازُوا جَازَ الْوَقْفُ فِي كُل مَا بَقِيَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ. .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَقِلًّا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُمْكِنْ وَفَاءُ الدَّيْنِ إِلاَّ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْوَقْفِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِيعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 82، 83.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 395، والإسعاف ص3، والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص179، ومغني المحتاج 2 / 148، تحفة المحتاج 6 / 236، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 81 - 82.(44/129)
وَقْفُ الذِّمِّيِّ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ مِنَ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلاً، بَل التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ حَتَّى يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالْعِتْقِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) . (إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ مِنَ الذِّمِّيِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْمَوْقُوفِ. .
وَقْفُ الْمُرْتَدِّ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا وَقَفَ الْمُرْتَدُّ حَال رِدَّتِهِ. . فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَوْ وَقَفَ حَال رِدَّتِهِ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا، فَإِنْ عَادَ وَأَسْلَمَ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا، وَإِلاَّ - بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ - كَانَ وَقْفُهُ بَاطِلاً، وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ عَدَا أَبِي بَكْرٍ؛ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُحْكَمُ بِزَوَال مِلْكِ الْمُرْتَدِّ لِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ. .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 358، 360، 361، 396، وفتح القدير 6 / 200، 201، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 78، ومغني المحتاج 2 / 376 - 377، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.(44/129)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مِنَ الْمُرْتَدِّ مَا يَجُوزُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ انْتَقَل إِلَى دِينِهِمْ. وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْفُ الْمُرْتَدَّةِ لأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَقْفُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ قَدْ صَدَرَ مِنَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَإِنَّ وَقْفَهُ يَكُونُ بَاطِلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَاسْتَظْهَرَ الشَّيْخُ عِلِيشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ وَقْفَهُ صَحِيحٌ وَلاَ يَبْطُل (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: كَوْنُ الْوَاقِفِ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ:
يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ مَالِكًا لِلْمَوْقُوفِ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِلْكًا بَاتًّا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ بَيَانُ الْحُكْمِ فِي وَقْفِ الْفُضُولِيِّ وَوَقْفِ الْحَاكِمِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً:: وَقْفُ الْفُضُولِيِّ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ:
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 396، وحاشية الدسوقي 4 / 307، ومنح الجليل 4 / 473، ومغني المحتاج 2 / 385، و4 / 143، وأنس المطالب 4 / 123، والمغني 8 / 129.(44/130)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ؛ لأَِنَّ الْمَالِكَ إِذَا أَجَازَ فِعْل الْفُضُولِيِّ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْل فِي الْحَقِيقَةِ صَادِرًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْمَالِكُ لَمْ يَجُزْ. .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ - فِي الْمَشْهُورِ - وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفُ الْفُضُولِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَلِيٍّ وَلاَ وَكِيلٍ (1) . وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِخُرُوجِ الْمَوْقُوفِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلاَفِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ بِعِوَضٍ. (ر:: فُضُولِيُّ ف11) . .
ثَانِيًا:: وَقْفُ الْحَاكِمِ:
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْخَيْرَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ بَعْضَ الْقُيُودِ وَالتَّفْصِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَصْلَحَةٍ عَمَّتْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 203، وحاشية الدسوقي 4 / 76، والخرشي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 15، وشرح منتهى الإرادات 2 / 43، والفروع 4 / 36، ونيل المآرب 2 / 11.(44/130)
يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَأَوْلاَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ حَتَّى وَإِنْ جَعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال هُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا أَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ يُثَابُ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَهُ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَ مَنْ يَجِيءُ مِنْهُمْ وَيَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:: مَا يَقِفُهُ السَّلاَطِينُ عَلَى الْخَيْرَاتِ مَعَ عَدَمِ مِلْكِهِمْ لِمَا حَبَسُوهُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ السُّلْطَانَ وَكِيلٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَوَكِيل الْوَاقِفِ، فَوَقْفُهُ صَحِيحٌ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، لَكِنْ تَأَوَّلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ عَلَى مَا إِذَا حَبَسَ الْمُلُوكُ مُعْتَقِدِينَ فِيهِ أَنَّهُمْ وُكَلاَءُ الْمُلاَّكِ، فَإِنْ حَبَسُوهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ مِلْكُهُمْ بَطَل تَحْبِيسُهُمْ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْعَبْدُوسِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِصِحَّةِ وَقْفِ الإِْمَامِ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَأَفْتَى بِهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدِ بْنُ عَصْرُونَ لِلسُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ مُتَمَسِّكًا بِوَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَوَادَ الْعِرَاقِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ:: لَوْ رَأَى الإِْمَامُ وَقْفَ أَرْضِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 393.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 76، والفروق للقرافي 3 / 7.(44/131)
الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَازَ إِذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُول عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وَقْفِ الإِْمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَقِفَ الإِْمَامُ الأَْرْضَ الْمَغْنُومَةَ وَأَنْ يَقِفَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، قَال الْبَهُوتِيُّ: الأَْوْقَافُ الَّتِي مِنْ بَيْتِ الْمَال وَكَأَوْقَافِ السَّلاَطِينِ فَيَجُوزُ لِمَنْ لَهُ الأَْخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال التَّنَاوُل مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْمَشْرُوطَ (2) .
شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ:
27 - الْوَقْفُ قُرْبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ يَضَعُهَا الْوَاقِفُ فِيمَنْ يَشَاءُ وَبِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ مَا لاَ يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَضَعُهَا الْوَاقِفُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، وَلاَ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ؛ إِذْ إِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّرْعِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ.
فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: شَرَائِطُ الْوَاقِفِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، وأسنى المطالب 2 / 457.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 118، 119، 513.(44/131)
مُعْتَبَرَةٌ إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ وَهُوَ مَالِكٌ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً (1) ، (وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ:: وَاتُّبِعَ وُجُوبًا شَرْطُ الْوَاقِفِ إِنْ جَازَ شَرْعًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمْ يُتَّبَعْ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل أَنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِعِ مَرْعِيَّةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الشُّرُوطُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى الإِْخْلاَل بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ، وَلاَ يَجُوزُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ (4) .
وَيُقَسِّمُ ابْنُ الْقَيِّمِ شُرُوطَ الْوَاقِفِينَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: شُرُوطٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَشُرُوطٌ مَكْرُوهَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشُرُوطٌ تَتَضَمَّنُ فِعْل مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَالأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ الأُْولَى لاَ حُرْمَةَ لَهَا وَلاَ اعْتِبَارَ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ هُوَ الشَّرْطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 361، 416.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88.
(3) مغني المحتاج 2 / 386.
(4) كشاف القناع 4 / 263، والإنصاف 7 / 56، والفروع 4 / 601.(44/132)
الْمُتَّبَعُ الْوَاجِبُ الاِعْتِبَارِ (1) .
28 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تُعْتَبَرُ جَائِزَةً وَيَجِبُ الْعَمَل بِهَا، وَالشُّرُوطُ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، وَبِتَتَبُّعِ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الشُّرُوطِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ.
أ - شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ، مَانِعَةٌ مِنِ انْعِقَادِهِ؛ لأَِنَّهَا تُنَافِي لُزُومَ الْوَقْفِ.
ب - شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ إِذَا شَرَطَهَا الْوَاقِفُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل الشَّرْطُ.
ج - شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ فِيهَا، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ بِأَنْوَاعِهَا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
فَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلاً فِي مَذْهَبٍ صَحِيحًا فِي مَذْهَبٍ آخَرَ، بَل أَحْيَانًا يَخْتَلِفُ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فِي الْمِثَال الْوَاحِدِ فَيُبْطِلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُصَحِّحُهُ غَيْرُهُمْ.
وَبَيَاْنُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
29 -
29 - الْقِسْمُ الأَْوَّل:: شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ وَمُبْطِلَةٌ لِلْوَقْفِ مَانِعَةٌ مِنِ انْعِقَادِهِ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي تُنَافِي لُزُومَ الْوَقْفِ وَتُنَافِي مُقْتَضَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ
__________
(1) إعلام لموقعين 3 / 97 ط مكتبة الكليات الأزهرية.(44/132)
يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ؛ أَيْ فِي إِبْقَاءِ وَقْفِهِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ مَتَى شَاءَ، أَوْ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّ لَهُ حَقَّ بَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ أَوْ رَهْنِهِ.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُفْسِدُ الْوَقْفَ وَتُبْطِلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنَ الْوَقْفِ أَوِ انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُنْفِقَ مِنَ الْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يَنْتَفِعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَيُدْخِل مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ، لأَِنَّهَا شُرُوطٌ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَأَفْسَدَتْهُ (2) .
30 - الْقِسْمُ الثَّانِي: شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ، إِذَا شَرَطَهَا الْوَاقِفُ صَحَّ الْوَقْفُ وَبَطَل الشَّرْطُ، وَالأَْمْثِلَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ وَاقِفَ الْكُتُبِ لَوْ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ لاَ تُعَارَ الْكُتُبُ إِلاَّ بِرَهْنٍ، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الْمُعَارَ أَمَانَةٌ عِنْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 364، ومغني المحتاج 2 / 380، والمغني 5 / 604 - 605، والدر المختار 3 / 387.
(2) كشاف القناع 4 / 261، والإنصاف 7 / 57.(44/133)
الْمُسْتَعِيرِ وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَتَوَلَّى مِنْ أَوْلاَدِهِ إِدَارَةَ الْوَقْفِ الْعَزْل وَالنَّصْبُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ يُدَاخِلُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالأُْمَرَاءِ وَإِنْ دَاخَلُوهُمْ فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَهَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَتَعْطِيل الْوَقْفِ فَلاَ يُقْبَل، وَلأَِنَّ الشَّرَائِطَ الْمُخَالِفَةَ لِلشَّرْعِ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ (2) .
ب - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يَعْزِل الْقَاضِي أَوِ السُّلْطَانُ الْمُتَوَلِّيَ عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَزْلُهُ لَوْ كَانَ خَائِنًا؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَل (3) .
ج - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاضِي أَوِ السُّلْطَانِ كَلاَمٌ فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ بَاطِلٌ وَلِلْقَاضِي الْكَلاَمُ؛ لأَِنَّ نَظَرَهُ أَعْلَى، وَهَذَا شَرْطٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ لِلْوَقْفِ وَلاَ مَصْلَحَةَ فَلاَ يُقْبَل (4) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
أ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ إِصْلاَحَ الْوَقْفِ عَلَى
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 367، والحطاب 6 / 36.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 390.
(3) البحر الرائق 5 / 265، وفتح القدير 6 / 232.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 388، والبحر الرائق 5 / 241.(44/133)
مُسْتَحَقِّهِ فَيُلْغَى الشَّرْطُ وَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَيَصْلُحُ مِنْ غَلَّتِهِ، كَأَرْضٍ مُوَظَّفَةٍ - أَيْ عَلَيْهَا مَغْرَمٌ لِحَاكِمٍ ظَالِمٍ - - وَشَرَطَ وَاقِفُهَا أَنَّ التَّوْظِيفَ مِنْ غَلَّتِهَا (1) .
ب - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَدْءِ بِإِصْلاَحِ الْمَوْقُوفِ إِذَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الإِْصْلاَحِ كَالْبِنَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ فَلاَ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْوَقْفِ مِنْ أَصْلِهِ، بَل يَبْدَأُ بِمَرَمَّتِهِ لِتَبْقَى عَيْنُهُ.
ج - لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ حَيَوَانًا يَحْتَاجُ لِنَفَقَةٍ وَشَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَدْءِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَيَبْطُل شَرْطُهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشُّرُوطُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى الإِْخْلاَل بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ وَلاَ تَجُوزُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ بِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ شَرَطَ فِي الْقُرُبَاتِ أَنْ يُقَدِّمَ فِيهَا الصِّنْفَ الْمَفْضُول فَقَدْ شَرَطَ خِلاَفَ شَرْطِ اللَّهِ كَشَرْطِهِ فِي الإِْمَامَةِ تَقْدِيمَ غَيْرِ الأَْعْلَمِ (3) .
وَلَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِلنَّاظِرِ فِعْل مَا يَهْوَاهُ مُطْلَقًا أَوْ مَا يَرَاهُ مُطْلَقًا فَشَرْطٌ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 89.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 90.
(3) كشاف القناع 4 / 263.(44/134)
الْمَصْلَحَةِ؛ أَيِ التَّثَبُّتِ وَالتَّحَرِّي، فَيَعْمَل بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ. . وَإِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ فِي اسْتِحْقَاقِ رَيْعِ الْوَقْفِ الْعُزُوبَةَ فَالْمُتَأَهِّل أَحَقُّ مِنَ الْمُتَعَزِّبِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ (1) .
31 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالْوَقْفِ وَلاَ بِالْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ مَالِكٌ فَلَهُ أَنْ يَجْعَل مَالَهُ حَيْثُ يَشَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً (2) .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْغَالِبِ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِتَوْزِيعِ رَيْعِ الْوَقْفِ وَبَيَانِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَصِفَاتِهِمْ وَزَمَنِ الاِسْتِحْقَاقِ وَمِقْدَارِ مَا يُعْطَى وَهَكَذَا، وَقَدْ وَقَفَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشَرَطَ فِي وَقْفِهِ شُرُوطًا، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ اتِّبَاعُ شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ فِي اشْتِرَاطِهِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ وَقَفَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وَلَدِهِ وَجَعَل لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا، فَإِذَا اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلاَ حَقَّ لَهَا فِيهِ، وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ مُتَلَقٍّ مِنْ جِهَتِهِ فَاتَّبَعَ شَرْطَهُ، وَنَصُّهُ كَنَصِّ الشَّارِعِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 261 - 262.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 361، ومعونة أولي النهى 5 / 798.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 427، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 88 - 89، روضة الطالبين 5 / 338 - 339، والمهذب 1 / 450، والمغني 5 / 617 - 618، وكشاف القناع 4 / 258.(44/134)
وَفِيمَا يَلِي ذِكْرُ بَعْضِ الأَْمْثِلَةِ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ:
أ - الْبَدْءُ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ تَقْدِيمُهُ أَوْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَهُ:
32 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّرْفِ مِنَ الْغَلَّةِ بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ مِنْ فُقَرَاءِ قَرَابَتِي فَيُعْطَى مِنَ الْغَلَّةِ مَا يُغْنِيهِ، يُعْطَى الأَْقْرَبُ مِنْهُمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ) ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِ الْبُطُونِ (1) .
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل أَبَدًا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو مَا عَاشَا، وَمِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى الْمَسَاكِينِ عَلَى أَنْ يُبْدَأَ بِزَيْدٍ فَيُعْطَى مِنْ غَلَّةِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كُل سَنَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَيُعْطَى عَمْرٌو قُوتَهُ لِسَنَةٍ جَازَ الْوَقْفُ، وَيُبْدَأُ بِزَيْدٍ فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ أَلْفٌ ثُمَّ يُعْطَى عَمْرٌو قُوتَهُ لِسَنَةٍ، وَمَهْمَا فَضَل كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِجَمْعِهِ إِيَّاهُمَا أَوَّلاً بِقَوْلِهِ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَلَوْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْكُل بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا، فَلَمَّا فَصَل فِي الْبَعْضِ عُمِل بِهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْغَلَّةُ بِمَا قَال يُقَدَّمُ زَيْدٌ، ثُمَّ إِنْ فَضَل عَنْهُ شَيْءٌ يُدْفَعُ إِلَى عَمْرٍو وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَبْدِئَةَ فُلاَنٍ
__________
(1) الإسعاف ص118.
(2) الإسعاف ص122 - 123.(44/135)
بِكَذَا مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ أَوْ إِعْطَاءَهُ كَذَا كُل شَهْرٍ أَوْ كُل سَنَةٍ كَذَا، يُعْطَى ذَلِكَ مَبْدَأً عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ الْغَلَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْعَامِ الأَْوَّل بِحَقِّهِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ الْوَاقِفُ يُكَمَّل لَهُ مِنْ غَلَّةِ الْعَامِ الثَّانِي. .
فَإِنْ قَال الْوَاقِفُ:: أَعْطُوهُ كَذَا مِنْ غَلَّةِ كُل عَامٍ وَجَاءَتْ سَنَةٌ لَمْ يَحْصُل فِيهَا شَيْءٌ فَلاَ يُعْطَى مِنْ رَيْعِ الْمُسْتَقْبَل عَنِ الْمَاضِي إِذَا لَمْ يَفِ بِحَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَ الْغَلَّةَ إِلَى كُل عَامٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ صَرَفَ غَلَّةَ السَّنَةِ الأُْولَى إِلَى قَوْمٍ، وَغَلَّةَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى آخَرِينَ وَهَكَذَا مَا بَقُوا، اتُّبِعَ شَرْطُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَالْبُدَاءَةِ بِبَعْضِ أَهْل الْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ نَحْوَ: وَقَفْتُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ يُبْدَأُ بِالدَّفْعِ إِلَى زَيْدٍ، أَوْ وَقَفْتُ عَلَى طَائِفَةِ كَذَا وَيُبْدَأُ بِالأَْصْلَحِ أَوِ الأَْفْقَهِ فَيُرْجَعُ إِلَى ذَلِكَ (3) .
ب - تَفْضِيل بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَوِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ:
33 - يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي وَقْفِهِ التَّسْوِيَةَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 89.
(2) روضة الطالبين 5 / 339.
(3) كشاف القناع 4 / 260، والإنصاف 7 / 53، ومعونة أولي النهى 5 / 803.(44/135)
أَوْ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، فَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ عَلَى أَنَّ لِي أَنْ أُفَضِّل مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ وَمَاتَ قَبْل أَنْ يُفَضِّل بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَانَتِ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِعَدَمِ اتِّصَال التَّفْضِيل بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ قَال: فَضَّلْتُ فُلاَنًا فَجَعَلْتُ لَهُ كُل الْغَلَّةِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِتَفْضِيلٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُعْطِيَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا ثُمَّ يَزِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَلَوْ زَادَ وَقَال: عَلَى بَنِي فُلاَنٍ وَنَسْلِهِمْ وَفَضَّل وَاحِدًا مِنْهُمْ وَوَلَدَهُ وَنَسْلَهُ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ وَلِنَسْلِهِ أَبَدًا وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّفْضِيل يَلْتَحِقُ بِأَصْل الْوَقْفِ بِسَبَبِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، وَلَوْ فَضَّل وَاحِدًا بِنِصْفِ غَلَّةِ سَنَةٍ مَثَلاً جَازَ وَيَكُونُ أُسْوَةَ شُرَكَائِهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَوْ قَال: فَضَّلْتُ فُلاَنًا عَلَى إِخْوَتِهِ بِنِصْفِ الْغَلَّةِ - وَكَانُوا ثَلاَثَةً - اسْتَحَقَّ الْمُفَضَّل ثُلُثَيْهَا وَأَخَوَاهُ ثُلُثَهَا؛ لأَِنَّ النِّصْفَ صَارَ لَهُ بِالتَّفْضِيل وَالنِّصْفَ الآْخَرَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا لِتَسَاوِيهِمْ فِيهِ فَيَكُونُ لِكُلٍّ سُدُسٌ وَالنِّصْفُ مَعَ السُّدُسِ ثُلُثَانِ (1) .
وَلَوْ قَال: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ غَلَّتَهَا لِمَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ ثُمَّ جَعَل
__________
(1) الإسعاف ص126.(44/136)
لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ رَتَّبَهُمْ فِيهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، أَوْ فَضَّل بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَازَ، وَلَوْ جَعَلَهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدَّةً فَمَضَتْ، أَوْ مُطْلَقًا فَمَاتَ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ (1) .
وَكَذَا يُعْمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ لَوْ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ كَقَوْلِهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ، أَوْ فَضَّل الذَّكَرَ عَلَى الأُْنْثَى، أَوِ الأُْنْثَى عَلَى الذَّكَرِ (2) .
أَوْ قَال: عَلَى أَنَّ لِلْكَبِيرِ ضِعْفَ مَا لِلصَّغِيرِ، أَوْ لِلْعَالِمِ ضِعْفَ مَا لِلْجَاهِل، أَوْ لِلْعَائِل ضِعْفَ مَا لِلْغَنِيِّ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ تَفْضِيلُهُ وَتَرْتِيبُهُ (3) .
جـ - تَخْصِيصُ الرَّيْعِ لأَِهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ:
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَصَّصَ الْوَاقِفُ رَيْعَ الْوَقْفِ لأَِهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ اعْتُبِرَ شَرْطُهُ وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل عَنْهُ خَرَجَ اعْتُبِرَ
__________
(1) الإسعاف ص128.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 87، والروضة 5 / 338 - 339، والمهذب 1 / 450، وكشاف القناع 4 / 260، والإنصاف 7 / 53.
(3) المغني 5 / 617 - 618.(44/136)
شَرْطُهُ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ صَارَ خَارِجًا فَانْتَقَل مِنْهُمْ وَاحِدٌ صَارَ خَارِجًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَشَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل إِلَى مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ صَارَ خَارِجًا اعْتُبِرَ شَرْطُهُ، وَلَوْ شَرَطَ أَنَّ مَنِ انْتَقَل مِنْ مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى غَيْرِهِ فَصَارَ خَارِجًا أَوْ رَافِضِيًّا خَرَجَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ خَصَّصَ أَهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لِصَرْفِ غَلَّةِ وَقْفِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِالتَّدْرِيسِ فِي مَدْرَسَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُمْ لِغَيْرِهِمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ عَلَى مَذْهَبِ فُلاَنٍ يُرَاعَى شَرْطُهُ. وَكَذَا لَوْ خَصَّ طَائِفَةً بِمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ اخْتُصَّ بِهِمْ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَصَّصَ الْوَاقِفُ الْمَدْرَسَةَ بِأَهْل مَذْهَبٍ كَالْحَنَابِلَةِ أَوِ الشَّافِعِيَّةِ تَخَصَّصَتْ، وَكَذَلِكَ الرِّبَاطُ وَالْخَانِقَاهْ كَالْمَقْبَرَةِ إِذَا خَصَّصَهَا بِأَهْل مَذْهَبٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ قَبِيلَةٍ تَخَصَّصَتْ إِعْمَالاً لِلشَّرْطِ، وَإِنْ خَصَّصَ الإِْمَامَةَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ بِمَذْهَبٍ تَخَصَّصَتْ بِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْرُوطُ لَهُ الإِْمَامَةُ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 266، والإسعاف ص106.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 88، والخرشي 7 / 92.
(3) روضة الطالبين 5 / 339، ومغني المحتاج 2 / 385.(44/137)
فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ مُخَالِفًا لِصَرِيحِ السُّنَّةِ أَوْ لِظَاهِرِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ خَصَّصَ الْمُصَلِّينَ فِي الْمَسْجِدِ بِمَذْهَبٍ لَمْ يُخْتَصَّ بِهِمْ؛ لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْمَسْجِدِيَّةِ تَقْتَضِي عَدَمَ الاِخْتِصَاصِ، فَاشْتِرَاطُ التَّخْصِيصِ يُنَافِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَصَاحِبُ التَّلْخِيصِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ اخْتَصَّ بِهِمْ، قَال صَاحِبُ التَّلْخِيَصِ: اخْتُصَّ بِهِمْ عَلَى الأَْشْبَهِ، لاِخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي أَحْكَامِ الصَّلاَةِ (1) .
د - شَرْطُ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجِ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي وَقْفِهِ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ (2) .
وَالْمَقْصُودُ بِالإِْدْخَال تَرَتُّبُ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَلَى صِفَةٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالإِْخْرَاجِ تَرَتُّبُ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَلَى صِفَةٍ فَهُوَ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقُ الاِسْتِحْقَاقِ بِصِفَةٍ، فَكَأَنَّ الْوَاقِفَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 262 - 263، ومغني المحتاج 2 / 385.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 431، والدسوقي 4 / 87، و98، والمهذب 1 / 450، والروضة 5 / 339، وكشاف القناع 4 / 261، والمغني 5 / 618.(44/137)
جَعَل لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ إِذَا اتَّصَفَ بِكَذَا أَعْطَاهُ، وَلَمْ يَجْعَل لَهُ حَقًا إِذَا انْتَفَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ. وَقَيَّدَ تُرَتُّبُ الاِسْتِحْقَاقِ وَعَدَمُهُ عَلَى الصِّفَةِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. .
وَمَثَّل الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى الشَّبَابِ أَوِ الصِّغَارِ أَوِ الأَْحْدَاثِ ثُمَّ زَال وَصْفُهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ؛ لأَِنَّ الاِسْتِحْقَاقَ قَدْ عُلِّقَ بِوَصْفٍ، فَإِذَا زَال الْوَصْفُ يَزُول الاِسْتِحْقَاقُ بِزَوَالِهِ (1) .
وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِلإِْخْرَاجِ بِصِفَةٍ كَأَنْ يَقُول الْوَاقِفُ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ بَنَاتِي فَلاَ حَقَّ لَهَا أَوْ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَغْنَى مِنْ أَوْلاَدِي فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ. .
وَأَمَّا الإِْدْخَال بِصِفَةٍ فَهُوَ أَنْ يَقُول: مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ بَنَاتِي فَلاَ حَقَّ لَهَا فِيهِ، فَإِنْ طُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا عَادَ إِلَيْهَا حَقُّهَا (2) .
وَمَثَّل الْحَنَابِلَةُ:: بِأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ بِشَرْطِ كَوْنِهِمْ فُقَرَاءَ أَوْ صُلَحَاءَ، أَوْ يَقُول الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي، وَمَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ أَوِ اسْتَغْنَى فَلاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَلَهُ وَمَنْ نَسِيَهُ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَيْدٍ آخَرَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الإِْخْرَاجُ وَالإِْدْخَال مِنْ أَهْل
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 97.
(2) المهذب 1 / 450، والروضة 5 / 339.(44/138)
الْوَقْفِ لاَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ إِنْ شَرَطَ فِيهِ إِدْخَال مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْوَقْفِ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَأَفْسَدَهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يُقَيِّدُوا الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجَ بِأَيِّ قَيْدٍ، جَاءَ فِي الإِْسْعَافِ: لَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَزِيدَ فِي وَظِيفَةِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهُ، وَأَنْ يَنْقُصَ مِنْ وَظِيفَةِ مَنْ يَرَى نُقْصَانَهُ مِنْ أَهْل الْوَقْفِ، وَأَنْ يُدْخِل مَعَهُمْ مَنْ يَرَى إِدْخَالَهُ، وَأَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى إِخْرَاجَهُ جَازَ، ثُمَّ إِذَا زَادَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَوْ نَقَصَهُ مَرَّةً أَوْ أَدْخَل أَحَدًا أَوْ أَخْرَجَ أَحَدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ شَرْطَهُ وَقَعَ عَلَى فِعْلٍ يَرَاهُ فَإِذَا رَآهُ وَأَمْضَاهُ فَقَدِ انْتَهَى مَا رَآهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا مَا دَامَ حَيًّا يَقُول عَلَى أَنَّ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ أَنْ يَزِيدَ فِي مُرَتَّبِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهُ، وَأَنْ يَنْقُصَ مِنْ مُرَتَّبِ مَنْ يَرَى نُقْصَانَهُ، وَأَنْ يَنْقُصَ مَنْ زَادَهُ، وَيَزِيدَ مَنْ نَقَصَهُ مِنْهُمْ وَأَنْ يُدْخِل مَعَهُمْ مَنْ يَرَى إِدْخَالَهُ وَيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى إِخْرَاجَهُ مَتَى أَرَادَ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى رَأْيًا بَعْدَ رَأْيٍ وَمَشِيئَةٍ بَعْدَ مَشِيئَةٍ مَا دَامَ حَيًّا ثُمَّ إِذَا أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ يَسْتَقِرُّ أَمْرُ الْوَقْفِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لَهُ فِي أَصْل الْوَقْفِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 261، والمغني 5 / 618، ومغني المحتاج 2 / 385.
(2) الإسعاف ص34 - 35، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.(44/138)
وَلَوْ قَال الْوَاقِفُ: عَلَى أَنَّ لِي أَنْ أَحْرِمَ وَأُخْرِجَ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ تَكُونُ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ أَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ أَخْرَجَهُمْ إِلاَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّ، وَلَيْسَ لَهُ حِرْمَانُ الْجَمِيعِ قِيَاسًا، وَإِذَا مَاتَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَوْ أَخْرَجَهُمْ كُلَّهُمْ بِنَاءً عَلَى الاِسْتِحْسَانِ تَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَيْهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا حَرَّمَهُمْ غَلَّتَهَا أَبَدًا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ وَانْقَطَعَتْ مَشِيئَتُهُ فِيهَا وَصَارَتْ لِلْمَسَاكِينِ (1) .
حُكْمُ مُخَالَفَةِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ:
36 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُخَالَفَةَ شَرْطِ الْوَاقِفِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِل مِنْهَا:
أ - شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الاِسْتِبْدَال، فَلِلْقَاضِي الاِسْتِبْدَال لِلْمَصْلَحَةِ.
ب - لَوْ شَرَطَ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَعْزِل النَّاظِرَ فَلَهُ عَزْل غَيْرِ الأَْهْل.
ج - لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤَجِّرَ وَقْفَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَالنَّاسُ لاَ يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِ سَنَةٍ أَوْ كَانَ فِي الزِّيَادَةِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ، فَلِلْقَاضِي الْمُخَالَفَةُ دُونَ النَّاظِرِ.
__________
(1) الإسعاف ص127.(44/139)
د - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِفَاضِل الْغَلَّةِ عَلَى مَنْ يَسْأَل فِي مَسْجِدِ كَذَا، فَلِلْقَيِّمِ التَّصَدُّقُ عَلَى سَائِل غَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى مَنْ لاَ يَسْأَل.
هـ - لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ خُبْزًا وَلَحْمًا مُعَيَّنًا كُل يَوْمٍ فَلِلْقَيِّمِ دَفْعُ الْقِيمَةِ مِنَ النَّقْدِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فِي أَخْذِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ أَوْ أَخْذُ الْقِيمَةِ. .
و تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنَ الْقَاضِي عَلَى مَعْلُومِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ لاَ يَكْفِيهِ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا. .
ز - يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ مُخَالَفَةُ الشُّرُوطِ إِذَا كَانَ أَصْل الْوَقْفِ لِبَيْتِ الْمَال (1) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ:
37 - الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِالْمَوْقُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِهَةُ مُعَيَّنَةً كَشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَأْتِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:: كَوْنُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَقُرْبَةٍ:
38 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا جِهَةَ بِرٍّ وَقُرْبَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 389.(44/139)
ذمِّيًّا لأَِنَّ الذِّمِّيَّ مَوْضِعُ قُرْبَةٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ (1) ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ (2) .
وَإِذَا كَانَ الأَْصْل فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ جِهَةَ قُرْبَةٍ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي الأَْصَحِّ لَمْ يَشْتَرِطُوا ظُهُورَ الْقُرْبَةِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْوَقْفَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ لاَ يُجِيزُونَ الْوَقْفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ وَحْدَهُمْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قُرْبَةً فِي نَظَرِهِمْ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يُجْعَل الْوَقْفُ بَعْدَ الأَْغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ، كَمَا لاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْوَقْفُ عَلَى طَائِفَةِ الأَْغْنِيَاءِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ نَظَرًا إِلَى اشْتِرَاطِ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ (3) .
وَنَظَرًا لاِشْتِرَاطِِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 361، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 379، 380، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492، 493، والمغني 5 / 644، 646.
(2) أثر أن صفية وقفت على أخ لها يهودي. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6 / 33) بلفظ. . عن ابن عمر أن صفية ابنة حي أوصت لابن أخ لها يهودي.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 357، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 381، وكشاف القناع 4 / 247.(44/140)
قُرْبَةٍ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ: كَالْوَقْفِ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَإِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ؛ لأَِنَّ الْقُرْبَةَ تَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ وَبِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الْوَاقِفِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: شَرْطُ وَقْفِ الذِّمِّيِّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِخِلاَفِ الْوَقْفِ عَلَى بَيْعَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَقَطْ، أَوْ عَلَى حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا فَقَطْ، وَيُعَلِّل الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ صِحَّةِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنِيسَةِ بِأَنَّ الْمَذْهَبَ خِطَابُهُمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَكَمَا لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ حُصُرِهَا وَقَنَادِيلِهَا، وَهَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرُ لاَزِمٍ سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْفِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ لاَ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ، وَفَصَل ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: إِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى عُبَّادِ الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّتِي فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عِمَارَةُ كَنَائِسِ غَيْرِ الْمُتَعَبِّدِ: كَكَنَائِسِ نُزُول الْمَارَّةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَمَا قَال(44/140)
الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُمَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِالْكَنِيسَةِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِجَوَازِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُجْتَازِينَ وَصَلاَحِيَتِهِمْ لِلْقُرْبَةِ فَإِنْ خَصَّ أَهْل الذِّمَّةِ بِوَقْفٍ عَلَى الْمَارَّةِ مِنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ (1) .
وَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ أَوْ سِلاَحٍ لِقِتَالٍ غَيْرِ جَائِزٍ أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى كِتَابَةِ التَّوْارَةِ وَالإِْنْجِيل لأَِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مُبَدَّلَةٌ (2) وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَقَال:: ابْن الْخَطَّاب؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً،. . . . . . وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَخِي مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي " (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ:
39 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، أَيْ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّمَلُّكِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 360، 361، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 78، ومغني المحتاج 2 / 380، وشرح متنهى الإرادات 2 / 493.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 360، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 380، وشرح منتهى الإرادات 2 / 492.
(3) حديث: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب. . " أخرجه أحمد (3 / 387) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 174) وذكر أن فيه راويا ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما.(44/141)
حَقِيقَةً كَزَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ، أَوْ حُكْمًا كَمَسْجِدٍ وَرِبَاطٍ وَسَبِيلٍ (1) ، وَلأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَنَحْوَهَا يُعْتَبَرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ أَنَّهُ عُيِّنَ فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ (2) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّطْبِيقِ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الشَّرْطِ الْمَسَائِل الآْتِيَةُ:
أ - الْوَقْفُ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ:
40 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَقْفِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ صَحَّ الْوَقْفُ لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَوْقُوفُ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِ زَيْدٍ وَلاَ وَلَدَ لَهُ، أَوْ عَلَى مَكَانٍ هَيَّأَهُ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ صَحَّ فِي الأَْصَحِّ، وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ إِلَى أَنْ يُولَدَ لِزَيْدٍ أَوْ يُبْنَىَ الْمَسْجِدُ فَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَلَدِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ (3) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَوْقُوفُ:
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 4 / 77، ومغني المحتاج 2 / 379.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 495، والمغني 5 / 646.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 360، 414، 438.(44/141)
أَوَّلُهَا لِلإِْمَامِ مَالِكٍ قَال: الْوَقْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ صَحِيحٌ إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَلِلْوَاقِفِ بَيْعُهُ قَبْل وِلاَدَةِ الْمُحْبَسِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُل لَهُ يَأْسٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنْ غَفَل عَنْهُ حَتَّى حَصَل لَهُ وَلَدٌ تَمَّ الْوَقْفُ.
وَالثَّانِي لاِبْنِ الْقَاسِمِ، قَال:: الْوَقْفُ لاَزِمٌ بِمُجَرَّدِ عَقْدِهِ وَلاَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ إِلاَّ إِذَا حَصَل يَأْسٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيُوقَفُ أَمْرُ ذَلِكَ الْحَبْسِ لِلإِْيَاسِ فَإِذَا يَئِسَ مِنَ الْوَلَدِ كَانَ لَهُ بَيْعُهُ.
وَالثَّالِثُ:: لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ، قَال: يُحْكَمُ بِحَبْسِهِ وَيُخْرَجُ إِلَى يَدِ ثِقَةٍ لِيَصِحَّ حَوْزُهُ وَتُوقَفُ ثَمَرَتُهُ فَإِنْ وُلِدَ لَهُ كَانَ الْحَبْسُ وَالْغَلَّةُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ كَانَ لأَِقْرَبِ النَّاسِ لِلْوَاقِفِ. .
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وُلِدَ لَهُ سَابِقًا، أَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ بِلاَ نِزَاعٍ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الزُّرْقَانِيُّ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَقْفِ فَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ أَوْ عَلَى فَقِيرِ أَوْلاَدِهِ وَلاَ فَقِيرَ فِيهِمْ فَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيُعْتَبَرُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ لاَ يُمَلَّكُ فَلاَ يُفِيدُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ الْمَوْجُودِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 89، ومنح الجليل 4 / 66.(44/142)
تَبَعًا لاَ أَصَالَةً كَقَوْل الْوَاقِفِ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِي مَا تَنَاسَلُوا (1) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل:
41 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل ابْتِدَاءً، وَصَحَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل ابْتِدَاءً وَاخْتَارَهُ الْحَارِثِيُّ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل تَبَعًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى جَنِينٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَمَلُّكِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصُودًا أَمْ تَابِعًا، حَتَّى لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وَكَانَ لَهُ أَوْلاَدٌ وَلَهُ جَنِينٌ عِنْدَ الْوَقْفِ لَمْ يَدْخُل، نَعَمْ إِنِ انْفَصَل دَخَل مَعَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ قَدْ سَمَّى الْمَوْجُودِينَ أَوْ ذَكَرَ عَدَدَهُمْ فَلاَ يَدْخُل كَمَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْل وَالْعَقِبِ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْوَقْفِ الْحَمْل الْحَادِثُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا الْوَقْفَ عَلَى الْحَمْل إِذَا كَانَ تَبَعًا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ إِذَنْ وَهُوَ لاَ يُمَلَّكُ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل تَبَعًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 379، 386، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 / 495 - 496، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 6 / 242.(44/142)
كَقَوْل وَاقِفٍ: وَقَفْتُ كَذَا عَلَى أَوْلاَدِي وَفِيهِمْ حَمْلٌ فَيَشْمَلُهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال ابْنُ عَرَفَةَ نَقْلاً عَنِ الْمُتِيطِيِّ: الْمَشْهُورُ الْمَعْمُول عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَى الْحَمْل، قَال ابْنُ الْهِنْدِيِّ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل، وَالرِّوَايَاتُ وَاضِحَةٌ بِصِحَّتِهِ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ (2) .
وَالَّذِي تُفِيدُهُ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْل حَيْثُ قَالُوا: إِذَا وَقَفَ الرَّجُل أَرْضَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَقْفًا صَحِيحًا، فَإِنَّمَا يَدْخُل تَحْتَ الْوَقْفِ الْوَلَدُ الْمَوْجُودُ يَوْمَ وُجُودِ الْغَلَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا يَوْمَ الْوَقْفِ أَوْ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، هَذَا قَوْل هِلاَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بَلْخٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَكَذَا لَوْ قَال: عَلَى وَلَدِي وَعَلَى مَنْ يَحْدُثُ لِي مِنَ الْوَلَدِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْمَسَاكِينِ. وَلَوْ قَال: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَنْ يَحْدُثُ لِي مِنَ الْوَلَدِ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ، فَإِذَا أُدْرِكَتِ الْغَلَّةُ تُقْسَمُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ تُصْرَفُ الْغَلَّةُ الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَلَدِ مَا يَبْقَى هَذَا الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ وَلَدٌ صُرِفَتِ الْغَلَّةُ إِلَى الْفُقَرَاءِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 379، وشرح منتهى الإرادات 2 / 495، 496، والإنصاف 7 / 22.
(2) الحطاب 6 / 22، ومنح الجليل 4 / 38.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 371.(44/143)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ قَوْلَهُ:: ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الْوَلَدِ - أَيْ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَْوْلاَدِ - كُل مَنْ أَدْرَكَ خُرُوجَ الْغَلَّةِ عَالِقًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ حَتَّى لَوْ حَدَثَ وَلَوْ بَعْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ بِأَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ، وَمَنْ حَدَثَ إِلَى تَمَامِهَا فَصَاعِدًا لاَ يَسْتَحِقُّ؛ لأَِنَّا نَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الأَْوَّل فِي الْبَطْنِ عِنْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ فَاسْتَحَقَّ، فَلَوْ مَاتَ قَبْل الْقِسْمَةِ فَلِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ، أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ مُبَانَةٌ لِدُونِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الإِْبَانَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ بِلاَ حِل وَطْئِهَا (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:: أَنْ لاَ يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَى الْوَاقِفِ::
وَيَشْمَل هَذَا حَالَتَيْنِ: الأُْولَى أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ. .
أ - أَنْ يَقِفَ عَلَى نَفْسِهِ:
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الأَْوَّل: عَدَمُ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ لِتَعَذُّرِ تَمْلِيكِ الإِْنْسَانِ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ حَاصِلٌ وَتَحْصِيل الْحَاصِل مُحَالٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 438.(44/143)
فِي الأَْصَحِّ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
لَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْقَضْ لأَِنَّهَا مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ صِحَّةُ وَقْفِ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، قَالُوا: لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ وَقْفًا غَيْرُ اسْتِحْقَاقِهِ مِلْكًا، وَهُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ (1) .
ب - أَنْ يَشْتَرِطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ:
43 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ أَوِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالزُّهْرِيِّ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ. قَال فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ: مَنْ وَقَفَ شَيْئًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 387، والدسوقي 4 / 80، ومغني المحتاج 2 / 380، وشرح منتهى الإرادات 2 / 494، والإنصاف 7 / 17.(44/144)
عَلَى غَيْرِهِ وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهُ كُلَّهَا أَوِ اسْتَثْنَى بَعْضَهَا لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً صَحَّ، أَوِ اسْتَثْنَى غَلَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا لِوَلَدِهِ كَذَلِكَ صَحَّ، أَوِ اسْتَثْنَى الأَْكْل مِنْهُ أَوِ الاِنْتِفَاعَ لِنَفْسِهِ أَوْ لأَِهْلِهِ أَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يُطْعَمَ صَدِيقُهُ مِنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً صَحَّ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ: إِنَّ فِي صَدَقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُل أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ (1) وَيَدُل لَهُ أَيْضًا قَوُل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ: " لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ " (2) ، وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ ثُمَّ بِنْتِهِ حَفْصَةَ ثُمَّ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، قَال الْحَنَابِلَةُ وَلأَِنَّهُ لَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ كَانَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فَكَذَا هُنَا.
وَاسْتَدَل أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا بِأَنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوِ الْكُل لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَل مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لاَ أَنَّهُ يَجْعَل مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " حجر المدري: إن في صدقة رسول الله. . ". أخرجه الأثرم كما في المغني لابن قدامة (8 / 191 - ط هجر) .
(2) أثر عمر لما وقف: لا جناح على من وليها. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 392) ، ومسلم (3 / 1255) .(44/144)
جَائِزٌ كَمَا إَذَا بَنَى خَانًا أَوْ سَاقِيَةً أَوْ جَعَل أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِل فِيهِ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَلأَِنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إِلَى نَفْسِهِ كَذَلِكَ (1) ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْفَقَ الرَّجُل عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ صَدَقَةٌ (2) .
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ قَالُوا: إِنَّ انْتِفَاعَ الْمَوْقُوفِ بِغَلَّةِ الْوَقْفِ لاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالشَّرْطِ، فَلاَ يَحِل الأَْكْل مِنَ الْمَوْقُوفِ إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ.
لَكِنَّ هَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا عَامًّا، أَمَّا إِذَا وَقَفَ شَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مِثْل أَنْ يَقِفَ مَسْجِدًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ مَقْبَرَةً فَلَهُ الدَّفْنُ فِيهَا أَوْ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا أَوْ سِقَايَةً أَوْ شَيْئًا يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونَ كَأَحَدِهِمْ (3) وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَبَّل بِئْرَ رُومَةَ وَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 387، وفتح القدير 6 / 225 - 227، وشرح منتهى الإرادات 2 / 494 - 495، ومغني المحتاج 2 / 380.
(2) حديث: " ما أنفق الرجل على نفسه. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 723) من حديث المقدام بن معد يكرب، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 5 - ط دار الجنان) .
(3) فتح القدير 6 / 226، والمغني 5 / 604.
(4) أثر عثمان بن عفان أنه سبل بئر رومة. أخرجه الترمذي (5 / 627) وقال: حديث حسن.(44/145)
غَلَّةَ الْمَوْقُوفِ عَلَى غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَعَدَمُ الصِّحَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إَذَا شَرَطَ الاِنْتِفَاعَ بِغَلَّةِ الْوَقْفِ. قَال الشِّيرَازِيُّ: لأَِنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي حَبْسَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْفَعَتُهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ مَعْنًى، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَشَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ فَلاَ يَصِحُّ لِفَسَادِ الشَّرْطِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ الْوَاقِفُ أَنَّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى الْوَقْفِ بَاعَ فَلَهُ بَيْعُهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْحَاجَةِ وَالْحَلِفِ عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِلاَ يَمِينٍ (1) .
وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مَسَائِل يَجُوزُ فِيهَا لِلْوَاقِفِ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ، أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنْ وَقَفَ كِتَابًا لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ قِدْرًا لِلطَّبْخِ فِيهِ أَوْ كِيزَانًا لِلشُّرْبِ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَهُ الاِنْتِفَاعُ مَعَهُمْ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 380، والمهذب 1 / 448، والدسوقي 4 / 89، والخرشي 7 / 93.
(2) مغني المحتاج 2 / 380.(44/145)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ:
44 - الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاجِدِ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُنْقَطِعِ الاِبْتِدَاءِ أَوِ الْوَسَطِ أَوِ الاِنْتِهَاءِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الاِبْتِدَاءِ وَالاِنْتِهَاءِ:
45 - كَمَنْ يَقِفُ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ وَلَدَ لَهُ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتُصْرَفُ الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْوَلَدُ صُرِفَ إِلَيْهِ، وِلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ (2) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَقْفِ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ. (ف33) .
ثَانِيًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الاِبْتِدَاءِ مُتَّصِل الاِنْتِهَاءِ:
46 - كَمَنْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ (عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 365، والمهذب 1 / 448، والمغني 5 / 622، 623، والدسوقي 4 / 84.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 414، والدسوقي 4 / 89، ومنح الجليل 4 / 66، ومغني المحتاج 2 / 379، 386، والمهذب 1 / 448، وشرح منتهى الإرادات 2 / 495 - 496، والمغني 5 / 607.(44/146)
الْوَقْفَ عَلَى النَّفْسِ) أَوْ عَلَى عَبْدٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يُصْرَفُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ (أَيِ الْفُقَرَاءِ) فِي الْحَال، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ حِيزَ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ قَبْل حُصُول مَانِعٍ لِلْوَاقِفِ مِنْ فَلَسٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ مَوْتٍ فَإِنْ لَمْ يَحْصُل حَوْزٌ حَتَّى حَصَل لِلْوَاقِفِ مَانِعٌ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ (الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَلَسِ) لَمْ يَتِمَّ الْوَقْفُ وَلِلْوَرَثَةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوِ الْمَوْتِ إِبْطَالُهُ وَلَهُمْ إِجَازَتُهُ، وَفِي حَالَةِ الْفَلَسِ كَانَ لِلْغَرِيمِ إِبْطَالُهُ وَأَخْذُهُ فِي دَيْنِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِيهِ طَرِيقَانِ: قَال الشِّيرَازِيُّ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال يَبْطُل قَوْلاً وَاحِدًا، لأَِنَّ الأَْوَّل بَاطِلٌ، وَالثَّانِي فَرْعٌ لأَِصْلٍ بَاطِلٍ فَكَانَ بَاطِلاً، وَمِنْهُمُ مَنْ قَال فِيهِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لَمَّا بَطَل الأَْوَّل صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَصَارَ الثَّانِي أَصْلاً، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ يَصِحُّ فَإِنْ كَانَ الأَْوَّل لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ كَرَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ صُرِفَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ كَالْعَبْدِ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا يُنْقَل فِي الْحَال إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ(44/146)
الَّذِي وُقِفَ عَلَيْهِ فِي الاِبْتِدَاءِ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: أَنَّهُ لِلْوَاقِفِ ثُمَّ لِوَارِثِهِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُجْعَل لِمَنْ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْتِقَال إِلَى الْفُقَرَاءِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكُونُ لأَِقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُجْعَل لِلْفُقَرَاءِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْتِقَال إِلَيْهِمْ (1) .
ثَالِثًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ:
47 - كَمَا إِذَا وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَلَى رَجُلٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَا إِذَا حَصَل حَوْزٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول مَانِعٍ لِلْوَاقِفِ مِنْ فَلَسٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَيَصِحُّ الْوَقْفُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 80 - 81، والشرح الصغير 2 / 304، والمهذب 1 / 449، وشرح منتهى الإرادات 2 / 497، 498.(44/147)
فَرَّقُوا بَيْنَ صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: لَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ كَوَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى رَجُلٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ لِوُجُودِ الصَّرْفِ فِي الْحَال وَالْمَآل.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَوْلاَدِهِ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ لاَ لأَِقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَمَدِ الاِنْقِطَاعِ.
الثَّانِيَةُ: كَأَنْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، كَانَ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُصْرَفُ بَعْدَ أَوْلاَدِهِ لأَِقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ (1) .
رَابِعًا: إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُنْقَطِعَ الاِنْتِهَاءِ:
48 - كَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَلَمْ يَزِدْ، أَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجْعَل آخِرُ الْوَقْفِ لِجِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ، أَيْ أَنَّهُ لاَبُدَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: الرِّوَايَةُ الأُْولَى: أَنَّ التَّأْبِيدَ غَيْرُ شَرْطٍ، وَلَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 414، وحاشية الدسوقي 4 / 80، مغني المحتاج 2 / 384، وحاشية القليوبي 3 / 103، وشرح منتهى الإرادات 2 / 497 - 498.(44/147)