قَال الْحَطَّابُ: إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل وَقْتِ الإِْبَّانِ، أَيْ وَقْتِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَادَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ وَقْفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّمَا يُوقَفُ إِنْ خِيفَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْمُسْلَمُ فِيهِ كُل التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَل مِنَ التَّرِكَةِ وَقَفَ قَدْرَ مَا يَرَى أَنْ يَفِيَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَسَمَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا خِلاَفًا لِمَا يَرَاهُ أَشْهَبُ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْقَسْمَ لاَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ دُيُونٌ أُخْرَى قُسِمَتِ التَّرِكَةُ عَلَيْهِ، وَيَضْرِبُ لِلْمُسْلَمِ قِيمَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي أَغْلَبِ الأَْحْوَال مِنْ غَلاَءٍ وَرُخْصٍ.
وَقَال بَعْضُهُمْ تَتْمِيمًا لِقَوْل ابْنِ عَبْدِ السَّلاَم بِأَنَّهُ يُوقَفُ لِلْمُسْلَمِ مَا صَارَ لَهُ فِي الْمُحَاصَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتُ الإِْبَّانِ، فَيُشْتَرَى لَهُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أُتْبِعَ بِالْقِيمَةِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ طَرَأَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ زَادَ لَمْ يَشْتَرِ لَهُ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَتُتْرَكُ الْبَقِيَّةُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مِدْيَانٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الأَْسْوَاقِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 535، وانظر البهجة شرح التحفة 2 / 157، 158.(39/295)
وَتَسْلِيمُهُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَإِنْ غَلاَ وَزَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهَا، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلَمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ - كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ - لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالْوَفَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَل مُمْكِنٌ، وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْجَل لاَ يَحِل بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَلاَ يُوقَفُ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لأَِجَل دَيْنِ السَّلَمِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَل، لأَِنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ (2) .
ج - الإِْجَارَةُ:
69 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُؤَجِّر فِي إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ وَالأَْجِيرِ فِي إِجَارَةِ الأَْعْمَال عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهْ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 189، 190، وفتح العزيز 9 / 245، وأسنى المطالب 2 / 127.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 286، والمغني 6 / 407، 568، والإنصاف 5 / 307، والمبدع 4 / 326.(39/296)
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، بَل تَبْقَى عَلَى حَالِهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِك تَبْقَى الْعَيْنُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا مَا تَبَقَّى لَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأبِي ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) .
وَأَمَّا مَا الْتَزَمَ بِهِ الأَْجِيرُ مِنَ الْعَمَل: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرْتَبَطًا بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، كَمَا إِذَا قَال لَهُ: اسْتَأْجَرْتُكَ أَوِ اكْتَرَيْتُكَ لِتَعْمَل كَذَا أَوْ لِكَذَا أَوْ لِعَمَل كَذَا، أَوْ يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِذِمَّةِ الأَْجِيرِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لأَِدَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ، مِثْل أَنْ يُلْزِمَهُ حَمْل كَذَا إِلَى مَكَانِ كَذَا أَوْ خِيَاطَةِ كَذَا دُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَا يُسَمَّى فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ بِإِجَارَةِ الذِّمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ الاِلْتِزَامُ مُرْتَبِطًا بِعَيْنِ الأَْجِيرِ وَذَاتِهِ،
__________
(1) الأم 3 / 255 - 256، والقليوبي وعميرة 3 / 84، ونهاية المحتاج 5 / 313، 314، وبداية المجتهد 2 / 292، والمغني 8 / 43 - 44، وكشاف القناع 4 / 29 - 31، 34، والبهجة 2 / 178، 181، وأسنى المطالب 2 / 431 - 432، وحاشية الدسوقي 4 / 27، 28، والخرشي 7 / 30.(39/296)
فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِ الأَْجِيرِ لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِهِ نَظَرًا لِفَوَاتِ مَحَل الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَاسْتِحَالَةِ إِكْمَال تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ، أَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الأَْجِيرِ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ أَجْرٍ، وَذَلِكَ لاِسْتِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاِلْتِزَامُ مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الأَْجِيرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِإِكْمَال وَتَوْفِيَةِ الْتِزَامِهِ، لأَِنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَرْغَبْ وَرَثَتُهُ فِي إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَمَل الْمَوْصُوفِ فِي ذِمَّتِهِ لِيَسْتَحِقُّوا الأَْجْرَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَوْتِ الْمُلْتَزِمِ مُفْلِسًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لأَِعْيَانِهِ وَالأَْجِيرِ عَلَى عَمَلِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْل تَنْفِيذِ الْعَقْدِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ يُتَعَذَّرُ بِالْمَوْتِ، فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُ كُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالأَْجِيرِ (2) .
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) المبسوط 15 / 153 - 154، 16 / 5، وتكملة فتح القدير 9 / 145، ورد المحتار 6 / 83، وبداية المجتهد 2 / 229 - 230، والمغني 8 / 43.(39/297)
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْحَالاَتِ الْخَاصَّةِ، وَقَالُوا إِنَّ الإِْجَارَةَ فِيهَا لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ضَرُورَةً، وَهِيَ:
أ - إِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعُ بَقْلٍ، أَيْ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعُ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَئِذٍ الأَْجْرُ الْمُسَمَّى إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَجْرُ الْمِثْل حَتَّى يُدْرِكَ.
ب - إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِالأَْجْرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَابَّةً أُخْرَى يَصِل بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ قَاضٍ يَرْفَعُ الأَْمْرَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (إِجَارَةٌ ف 59 - 72) .
د - الْمُسَاقَاةُ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا الْتَزَمَ بِهْ صَاحِبُ الشَّجَرِ أَوِ النَّخْل بِتَمْكِينِ الْعَامِل مِنَ الْقِيَامِ بِسَقْيِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 222 - 223، ورد المحتار 6 / 83، 84، 85، والفتاوى الخيرية 2 / 131، والعناية على الهداية 9 / 145.(39/297)
وَإِصْلاَحِهِ، أَوْ مَا الْتَزَمَ بِهِ الْعَامِل مِنْ تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَعَمَل سَائِرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل بَدْءِ الْعَمَل أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَأَشْبَهَ الإِْجَارَةَ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا.
وَعَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَامِل الْمُسَاقَاةِ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ الْعَمَل إِذَا كَانُوا عَارِفِينَ بِالْعَمَل أُمَنَاءَ، وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ أَوْ وَرَثَتَهُ تَمْكِينُهُمْ مِنَ الْعَمَل إِنْ كَانُوا كَذَلِكَ.
فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْعَمَل لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْوَارِثَ لاَ يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَى مُوَرِّثِهِ إِلاَّ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَالْعَمَل هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَقُومُ بِالْعَمَل، لأَِنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَتَبَرَّعِ الْوَرَثَةُ بِالْوَفَاءِ، فَلِرَبِّ الْمَال الْفَسْخُ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَبَّ الشَّجَرِ، لَمْ تُفْسَخِ(39/298)
الْمُسَاقَاةُ، وَيَسْتَمِرُّ الْعَامِل فِي عَمَلِهِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَةِ رَبِّ الْمَال تَمْكِينُهُ مِنَ الْعَمَل وَالاِسْتِمْرَارِ فِيهِ وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِحَسَبِ مَا اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَبْطُل بِالْمَوْتِ، أَيْ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ أَوِ الْعَامِل، قَبْل بَدْءِ الْعَمَل أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الإِْجَارَةِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ فَصَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْعَامِل بِرِعَايَةِ وَسِقَايَةِ الشَّجَرِ، وَلَقَّحَهُ حَتَّى صَارَ بُسْرًا أَخْضَرَ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْتَقِضُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لِلْعَامِل - اسْتِحْسَانًا - أَنْ يَقُومَ بِرِعَايَةِ الشَّجَرِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الشَّجَرِ، لأَِنَّ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ إِضْرَارًا بِالْعَامِل وَإِبْطَالاً لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الأَْشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الإِْدْرَاكِ، وَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْجِذَاذَ قَبْل الإِْدْرَاكِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بَالِغٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لاَ تَبْطُل الْمُسَاقَاةُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 399، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 257، وبداية المجتهد 2 / 250، وحاشية الدسوقي 3 / 488، والمدونة 12 / 27، والمغني 7 / 542، 546.(39/298)
بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ فِي الاِسْتِحْسَانِ، فَإِنْ أَبَى الْعَامِل أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي عَمَل الشَّجَرِ وَأَصَرَّ عَلَى قَطْعِهِ وَأَخْذِهِ بُسْرًا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، لأَِنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ الْتِزَامَ الضَّرَرِ كَانَ لَهُ مَا اخْتَارَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ، فَيَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُوَرِّثِهِمْ وَالْعَامِل.
ب - أَنْ يُعْطُوا الْعَامِل قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الْبُسْرِ.
ج - أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِل مِنَ الثَّمَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ عَامِل الْمُسَاقَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَرِعَايَتِهِ، وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الشَّجَرِ، لأَِنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، إِلاَّ أَنْ يَقُول الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَأْخُذُهُ بُسْرًا، وَطَلَبُوا نَصِيبَ مُوَرِّثِهِمْ مِنَ الْبُسْرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ مِنَ الْخِيَارِ مِثْل مَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ إِذَا أَبَى الْعَامِل أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الْقِيَامِ عَلَى الشَّجَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَا جَمِيعًا، كَانَ الْخِيَارُ فِي الْقِيَامِ(39/299)
عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْعَامِل، لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ كَانَ الْخِيَارُ لِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْوَجْهِ الأَْوَّل (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ الْعَامِل أَوْ رَبُّ الشَّجَرِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ، كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَمَتَى انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَيَلْزَمُ الْعَامِل أَوْ وَارِثَهُ إِتْمَامُ الْعَمَل، فَإِنْ ظَهَرَتْ، ثَمَرَةٌ أُخْرَى بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل فِيهَا، وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل وَقَبْل ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْعَامِل بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ وَالْعَمَل، فَإِنْ أَبَى الْوَارِثُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَعْمَل، لَمْ يُجْبَرْ، وَيَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَعْمَل، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ، أَوْ تَعَذَّرَ الاِسْتِئْجَارُ
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية 9 / 481 - 482، والفتاوى الهندية 5 / 281 - 282، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 285، والمبسوط للسرخسي 23 / 56.(39/299)
مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَرِ الظَّاهِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيل الْعَمَل، وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ (1) .
هـ - الْمُزَارَعَةُ:
71 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِل أَمْ رَبَّ الأَْرْضِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِبْطَال مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِل.
أَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَبْقَى اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ لِدَفْعِ مَا يُصِيبُ أَحَدَهُمَا مِنْ ضَرَرٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا تَبْطُل، وَلَكِنْ تَبْقَى حُكْمًا إِلَى حَصْدِ الزَّرْعِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ صَاحِبَ الأَْرْضِ إِذَا مَاتَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَإِنَّ الْعَمَل يَكُونُ عَلَى
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 345، وكشاف القناع 3 / 538 - 539، والمغني 7 / 546، وانظر المواد 1965 - 1968 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184 - 185، والمبسوط للسرخسي 23 / 45، والهداية بشروحها العناية وتكملة الفتح 9 / 473، 474، 477، والمغني 7 / 546، 561، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 345.(39/300)
الْمُزَارِعِ خَاصَّةً، لأَِنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، إِلاَّ أَنَّنَا أَبْقَيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُزَارِعِ، لأَِنَّهُ لَوِ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، فَجَعَل ذَلِكَ عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعَمَل عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْل الْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الأَْرْضِ، لأَِنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا بِهِمْ وَلاَ ضَرَرَ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ فِي التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الإِْدْرَاكِ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ وَتَرْكَ الْعَمَل، لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً، إِلاَّ أَنَّا أَبْقَيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْعَمَل بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الأَْرْضِ: إِمَّا أَنْ يَقْسِمَهُ بِالْحِصَصِ، أَوْ يُعْطِيَهُمْ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّرْعِ الْبَقْل، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَال نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184 - 185، والمبسوط للسرخسي 23 / 45، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 9 / 473، 474، 477.(39/300)
و - الْحَوَالَةُ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوِ الْمُحِيل فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل اسْتِيفَاءِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ يُلْزَمُ بِالدَّيْنِ الْمَحَال بِهِ، وَلاَ يُطَالَبُ بِهِ الْمُحِيل أَبَدًا، لأَِنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ بِمُقْتَضَى الْحَوَالَةِ، فَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَال الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل بِحَالٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ الْمَحَال عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا لاَ تَرِكَةَ لَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ لاَ يَبْطُل، وَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَال حَقٌّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل، لأَِنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ لاَ يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل لِبَقَاءِ الدَّيْنِ الْمُحَال بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا مَوْتُ الْمُحِيل فَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْحَوَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ وَانْتَقَل الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 415، وأسنى المطالب 2 / 232، وكشاف القناع 3 / 386، وشرح منتهى الإرادات 2 / 257.(39/301)
فَأَصْبَحَ هُوَ الْمُطَالَبَ بِهِ وَحْدَهُ، إِذِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الإِْيفَاءِ
ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ مَالٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُعْطَى لِلْمُحَال.
وَإِذَا كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدِينًا قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَال بِالْحِصَصِ، فَإِنْ بَقِيَ لِلْمُحَال شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ رَجِعَ بِهِ عَلَى الْمُحِيل.
وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الْحَوَالَةِ مُؤَجَّلاً فَإِنَّهُ يَحِل بِوَفَاةِ الْمُحَال عَلَيْهِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنِ الأَْجَل بِمَوْتِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ - إِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَوْ تَنْتَهِي فِي بَاقِيهِ إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُحِيل فَإِنَّ لِوَفَاتِهِ تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ ذِمَّةَ الْمُحِيل قَدْ بَرِئَتْ لاِنْتِقَال الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ الْمُحَال، فَخَوْفًا أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ وَيَتْوَى، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل رَغْمَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، إِذِ الْبَرَاءَةُ هَهُنَا مُؤَقَّتَةٌ وَمَرْهُونَةٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ
__________
(1) المبسوط 20 / 72، ورد المحتار 5 / 345، وتكملة فتح القدير والعناية مع الهداية 7 / 245، 250.(39/301)
الْمُحَال، وَلِهَذَا فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيل بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمُحَال الْمَال مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُحِيل دُيُونٌ أُخْرَى، فَالْمُحَال أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً، فَإِنَّهُ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُحِيل، وَلاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِهِ عَلَى الْحَوَالَةِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تَبَرُّعٌ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدِينًا لِلْمُحِيل لاَ تَتَقَيَّدُ بِدَيْنِهِ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُحِيل مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْل الأَْدَاءِ، فَلاَ تَبْطُل بِقِسْمَةِ دَيْنِ الْمُحِيل بَيْنَ غُرَمَائِهِ، لأَِنَّ الْمُحَال لَمْ يَبْقَ مِنْ غُرَمَائِهِ، بَل صَارَ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُحِيل، بَل تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمُحَال عَلَى الْمُحْتَال عَلَيْهِ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُحِيل وَقُسِمَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (2) .
ثَالِثًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ مَتَى تَمَّتْ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِل مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَيُصْبِحُ الْمُحَال عَلَيْهِ مُلْتَزِمًا بِأَدَائِهِ لِلْمُحَال، فَإِذَا مَاتَ قَبْل الأَْدَاءِ، فَإِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 17، والبحر الرائق 6 / 274، وتبيين الحقائق 4 / 174، والعقود الدرية 1 / 292.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 293.(39/302)
يُؤْخَذُ الدَّيْنُ الْمُحَال بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلْمُحَال عَلَى الْمُحِيل بِحَال، حَتَّى وَإِنْ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ أَفْلَسَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ شَرْطُهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَال أَوْ فَلَّسَ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ:
وَتَشْمَل هَذِهِ الْعُقُودُ الرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ، إِذِ الرَّهْنُ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَالْكَفَالَةُ لاَزِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيل دُونَ الْمَكْفُول لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الرَّهْنُ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ الرَّاهِنِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
73 - الْحَالَةُ الأُْولَى: مَوْتُ الرَّاهِنِ بَعْدُ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدُ الْقَبْضِ يَكُونُ لاَزِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اللُّزُومِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ فَسْخُهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَإِذَا
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 94 - 95، والخرشي 6 / 17 - 18، والبهجة 2 / 58.(39/302)
مَاتَ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْتِزَامَهُ النَّاشِئَ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الرَّهْنَ قَدْ لَزِمَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلاَ حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِي إِبْطَال حَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثًا لَهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ، وَإِلاَّ بِيعَتِ الْعَيْنُ لِوَفَاءِ حَقِّهِ إِذَا تَعَذَّرَ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
74 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْتُ الرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ إِذَا مَاتَ قَبْل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُل بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَبِذَلِكَ
__________
(1) العقود الدرية 2 / 238، والعناية على الهداية 10 / 175 - 176، وحاشية الدسوقي 3 / 217، والمنتقى 5 / 248، ومغني المحتاج 2 / 129، وكشاف القناع 3 / 332، والمغني 6 / 531 - 532.(39/303)
لاَ يَخْتَصُّ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، بَل يَكُونُ فِي دَيْنِهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّ مَصِيرَ الرَّهْنِ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الإِْقْبَاضِ إِنْ شَاؤُوا وَلاَ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا فِي حَقِّ مُوَرِّثِهِمْ قَبْل الْقَبْضِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمَوْتِهِ، وَيَرِثُ وَرَثَتُهُ خِيَارَهُ فِي التَّسْلِيمِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ عَدَمِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ نَصُّوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ يَخُصُّوا الْمُرْتَهِنَ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، إِذَا كَانَ عَلَى مُوَرِّثِهِمْ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 6 / 63، والخرشي 5 / 245، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 217، والمهذب 1 / 307، وفتح العزيز 10 / 76، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 157.
(2) نهاية المحتاج 4 / 251، وأسنى المطالب 2 / 157، ومغني المحتاج 2 / 129، والمهذب 1 / 307، وفتح العزيز 10 / 76، وشرح منتهى الإرادات 2 / 232، وكشاف القناع 3 / 332، والقواعد ص 344.(39/303)
ب - الْكَفَالَةُ: 75 - الْكَفَالَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: كَفَالَةٌ بِالْمَال، وَكَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَكْفُول لَهُ (رَبَّ الْحَقِّ) إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَسْقُطُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَفَالَةً بِالْمَال أَوْ بِالنَّفْسِ، وَيَنْتَقِل الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَوْرُوثَةِ، فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِهِ (1) .
أَمَّا عَنْ أَثَرِ مَوْتِ الْكَفِيل فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْكَفَالَةُ بِالْمَال:
76 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الْمَال فِيهَا لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لأَِنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ بِهِ وَصِيُّهُ أَوْ وَارِثُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ (2) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 171، وأسنى المطالب 2 / 244، وشرح منتهى الإرادات 2 / 246، 254.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 171، ورد المحتار 5 / 292، ونهاية المحتاج 4 / 445، شرح منتهى الإرادات 2 / 254، والخرشي 6 / 28، وحاشية الدسوقي 3 / 303.(39/304)
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ مُؤَجَّلاً، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وأحمد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل بِمَوْتِ الْكَفِيل، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا. وَلَكِنَّ وَرَثَتَهُ لاَ تَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ حُلُول الأَْجَل، لأَِنَّ الأَْجَل بَاقٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُول لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ فَقَالُوا: لاَ يَحِل الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ الْمُؤَجَّل بِمَوْتِ الْكَفِيل إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ لأَِنَّ التَّأْجِيل حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَيِّتِ، فَلَمْ يَبْطُل بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ (2) .
ب - الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْكَفِيل عَلَى الْتِزَامِهِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 170 - 171، ونهاية المحتاج 4 / 445 - 446، والخرشي 6 / 28، والمغني 7 / 83.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 252، وكشاف القناع 3 / 374.(39/304)
الْمَكْفُول بِهِ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ وَرَثَتُهُ بِإِحْضَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أُخِذَ مِنَ التَّرِكَةِ قَدْرُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَكْفُول بِهِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْكَفِيل، لأَِنَّ تَسْلِيمَ الْكَفِيل الْمَطْلُوبَ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيل لاَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَلاَ تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّهُمْ لَمْ يَكْفُلُوا لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لاَ فِيمَا عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْمَكْفُول لَهُ فِي تَرِكَتِهِ، لأَِنَّ مَالَهُ لاَ يَصْلُحُ لإِِيفَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ (2) .
78 - أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَكْفُول بِهِ - فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ - فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْكَفِيل، وَلاَ يُلْزَمُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّ النَّفْسَ الْمَكْفُولَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَعَجَزَ الْكَفِيل عَنْ إِحْضَارِهَا، وَلأَِنَّ الْحُضُورَ قَدْ سَقَطَ عَنِ الْمَكْفُول، فَبَرِئَ الْكَفِيل تَبَعًا لِذَلِكَ، لأَِنَّ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ أَجْلِهِ سَقَطَ عَنِ الأَْصْل فَبَرِئَ الْفَرْعُ، كَالضَّامِنِ إِذَا قَضَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّيْنَ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ
__________
(1) الخرشي 6 / 28، وكشاف القناع 3 / 379، وشرح منتهى الإرادات 2 / 254، والبحر الرائق 6 / 230.
(2) رد المحتار 5 / 292، وتكملة فتح القدير 7 / 170، ونهاية المحتاج 4 / 439، والمبسوط 19 / 164.(39/305)
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ وَالْحَكَمُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْكَفِيل غُرْمُ مَا عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْكَفِيل وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ، فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، اسْتُوْفِيَ مِنَ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَلأَِنَّهُ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ، فَلَزِمَ كَفِيلَهُ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَابَ (2) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ:
وَتَشْمَل هَذِهِ الْعُقُودُ الْهِبَةَ قَبْل الْقَبْضِ، وَالإِْعَارَةَ، وَالْقَرْضَ، وَالْوَكَالَةَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْهِبَةُ قَبْل الْقَبْضِ:
79 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل لُزُومِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) المبسوط 19 / 184، وبداية المجتهد 2 / 295، والتاج والإكليل 5 / 115، وأسنى المطالب 2 / 244، ونهاية المحتاج 4 / 437، وشرح منتهى الإرادات 2 / 254، والمغني 7 / 105.
(2) مواهب الجليل 5 / 115، وبداية المجتهد 2 / 295، والمغني 7 / 105.(39/305)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَعَلَّل ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ بِانْتِقَال الْمُلْكِ لِوَارِثِ الْوَاهِبِ قَبْل تَمَامِهَا.
وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْهِبَةَ نَوْعٌ مِنِ الْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ، وَلاَ يُقْضَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُلْتَزِمِ إِذَا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْل الْحِيَازَةِ.
وَعَلَّلَهُ مُوَافِقُوهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَل بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا مَاتَ قَبْل قَبْضِ هِبَتِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ عَقْدُ الْهِبَةِ، لأَِنَّهُ يَئُول إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُل بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْوَاهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الإِْقْبَاضِ وَالإِْذْنِ فِيهِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ أَقْبَضَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُقْبِضْ (2) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 700، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 88، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام (بهامش فتاوى عليش) 1 / 218، والمغني 8 / 243، والمهذب 1 / 454، ومغني المحتاج 2 / 401.
(2) مغني المحتاج 2 / 401، وأسنى المطالب 2 / 282، والمهذب 1 / 454، وشرح منتهى الإرادات 2 / 520، والمغني 8 / 243.(39/306)
ب - الإِْعَارَةُ:
80 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ عَقْدِ الْعَارِيَةِ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ، وَانْتِهَاءِ تَبَرُّعِهِ بِمَنَافِعِهَا لِلْمُسْتَعِيرِ، وَوُجُوبِ مُبَادَرَةِ الْمُسْتَعِيرِ إِلَى رَدِّ الْعَارِيَةِ لِوَرَثَتِهِ.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَتَبْطُل بِمَوْتِ أَيٍّ مِنْهُمَا، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَوَجْهُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ انْتَقَلَتْ إِلَى وَارِثِ الْمُعِيرِ بِمَوْتِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ هَذَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَل الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكَ نَفْسِهِ لاَ مِلْكَ غَيْرِهِ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الإِْعَارَةَ مَعْرُوفٌ، وَالْوَفَاءُ بِهَا لاَزِمٌ، لأَِنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُفْلِسْ قَبْل الْحِيَازَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ، كَطَحْنِ إِرْدَبٍّ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى
__________
(1) المبسوط 11 / 143، وأسنى المطالب 2 / 332، ونهاية المحتاج 5 / 130 - 131، وشرح منتهى الإرادات 2 / 398، وكشاف القناع 4 / 73.(39/306)
الدَّابَّةِ الْمُسْتَعَارَةِ إِلَى جِهَةٍ مَا كَانَ حُكْمُهَا اللُّزُومَ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعَمَل الَّذِي اسْتُعِيرَتْ لأَِجْلِهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، كَيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ مِثْلاً، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل الْمَضْرُوبُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً - غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِعَمَلٍ أَوْ زَمَنٍ - فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا فِي حَقِّ الْمُعِيرِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ.
وَحَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْعَارِيَةِ، وَبَقِيَ فِي مُدَّتِهَا، أَوْ مِنَ الْغَرَضِ الْمُسْتَعَارَةِ لأَِجْلِهِ شَيْءٌ، فَلاَ تَبْطُل الإِْعَارَةُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَنْتَهِي الْتِزَامُهُ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ بِيَدِ الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِهَا إِلَى نِهَايَةِ الْعَمَل أَوِ الْمُدَّةِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَإِنَّ الإِْعَارَةَ تَبْطُل بِمَوْتِهِ لِعَدَمِ تَمَامِهَا بِالْحِيَازَةِ قَبْلَهُ (1) .
ج - الْوَكَالَةُ:
81 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ
__________
(1) الخرشي 6 / 126، والمدونة 15 / 167، وحاشية الدسوقي 3 / 394، وبداية المجتهد 2 / 313، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب 1 / 218 - 219.(39/307)
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل، وَتَبْطُل سَائِرُ الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
أَمَّا الْمُوَكِّل: فَلأَِنَّ التَّوْكِيل إِنَّمَا قَامَ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ بَطَل إِذْنُهُ، وَانْتَقَل الْحَقُّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَأَمَّا الْوَكِيل: فَلأَِنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلتَّصَرُّفِ قَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ، وَلَيْسَ الْوَكَالَةُ حَقًّا لَهُ فَتُورَثُ عَنْهُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ الْوَكَالَةَ تَعْتَمِدُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْل، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهَا، لاِنْتِفَاءِ مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَوْتَ الْمُوَكِّل فِي حَالَةِ الْوَكَالَةِ بِبَيْعِ الرَّهْنِ إِذَا وَكَّل الرَّاهِنُ الْعَدْل أَوِ الْمُرْتَهِنَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، فَحِينَئِذٍ لاَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ وَلاَ يَنْعَزِل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 37 - 39، والمبسوط 11 / 181، 213، 19 / 73، ونهاية المحتاج 5 / 55، والقليوبي وعميرة 2 / 348، والمهذب 1 / 364، وميارة على التحفة 1 / 136، والخرشي 6 / 86، وبداية المجتهد 2 / 303، وكشاف القناع 3 / 468، وانظر: م (1529) من المجلة العدلية، والمغني 7 / 234.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 305.(39/307)
الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَوْتَ الْمُوَكِّل إِذَا وَكَّل مَنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِمَوْتِهِ (2) .
د - الشَّرِكَةُ:
82 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ (بِأَنْوَاعِهَا) وَبُطْلاَنِ الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِنَّمَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ لأَِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا بِهَا ضَرُورَةً، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إِلاَّ بِوِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ لِكُل مِنْهُمَا فِي مَال الآْخَرِ، وَلاَ تَبْقَى الْوِلاَيَةُ إِلاَّ بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 539، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 141، ودرر الحكام 3 / 664، وانظر: م (971) من مرشد الحيران وم (1527) من المجلة العدلية.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 305، وانظر: م (1211) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(3) فتح القدير 6 / 194، ورد المحتار 4 / 327، وفتح العزيز 10 / 424، وأسنى المطالب 2 / 257، ونهاية المحتاج 5 / 10، وبداية المجتهد 2 / 256، والمدونة 12 / 84، والمغني 7 / 131، وكشاف القناع 3 / 506 - 507، وقد جاء في م (1832) من مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: تبطل الشركة بموت أحد الشريكين وجنونه المطبق وبالحجر عليه لسفه، وبكل ما يبطل الوكالة.(39/308)
هـ - الْمُضَارَبَةُ:
83 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَبُطْلاَنِ الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ أَوْ رَبِّ الْمَال إِذَا كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ نَاضًّا (أَيْ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ مَالِهَا) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْوَكَالَةُ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ عَاقِدَيْهَا وَلاَ تُوَرَّثُ، فَتَتْبَعُهَا الْمُضَارَبَةُ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَال عُرُوضًا تِجَارِيَّةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الْمُضَارَبَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 67 - 68، ورد المحتار 5 / 654 - 655، والفتاوى الهندية 4 / 329، ونهاية المحتاج 5 / 237، والخرشي 6 / 213، والمدونة 12 / 130، والمغني 7 / 172.(39/308)
بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَتُبَاعُ السِّلَعُ وَالْعُرُوضُ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَال جَمِيعُهُ، وَيُوَزَّعَ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى وَالطَّرَفِ الْبَاقِي (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَبْطُل بِوَفَاةِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ.
أَمَّا رَبُّ الْمَال إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي الْمَال، وَيَبْقَى الْعَامِل عَلَى قِرَاضِهِ إِذَا أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَقَاءَهُ، وَإِنْ أَرَادُوا فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَخْذَ مَالِهِمْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ نَضُوضِهِ.
وَأَمَّا الْمُضَارِبُ إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي حَقِّ عَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوا الْعَمَل فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لِمُوَرِّثِهِمْ (2) .
__________
(1) الهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 470، والبدائع 6 / 112، ورد المحتار 5 / 654 - 655، وأسنى المطالب 2 / 390، ونهاية المحتاج 5 / 237، والمغني 7 / 172، وشرح منتهى الإرادات 2 / 336، وانظر: م (1865) و (1866) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(2) المنتقى للباجي 5 / 174 - 175، والمدونة 12 / 130، والخرشي 6 / 213، والبهجة شرح التحفة 2 / 221، وحاشية الدسوقي 3 / 479.(39/309)
و - الْجَعَالَةُ:
84 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامِ عَلَى الْجَعَالَةِ بَيْنَ مَوْتِ الْجَاعِل وَمَوْتِ الْمَجْعُول لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
مَوْتُ الْجَاعِل:
85 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى انْفِسَاخِ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِ الْجَاعِل وَبُطْلاَنِ الْتِزَامِهِ فِيهَا قَبْل شُرُوعِ الْعَامِل (الْمَجْعُول لَهُ فِي الْعَمَل) .
وَقَال ابن حبيب وابن القاسم فِي ظَاهِرِ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْهُ: لاَ يَبْطُل الْجُعْل بِمَوْتِ الْجَاعِل، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُول لَهُ مِنَ الْعَمَل.
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ الْعَمَل فَلاَ أَثَرَ لِوَفَاتِهِ عَلَى الْتِزَامِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ، وَوَجَبَ لِلْعَامِل الْجُعْل فِي تَرِكَتِهِ (1) .
وَلَوْ مَاتَ الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل، وَلَكِنْ قَبْل إِتْمَامِهِ
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 179 - 180، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 / 289، ونهاية المحتاج 5 / 474.(39/309)
، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلاَّ أَنَّ الْعَامِل إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ قِسْطَ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَمِلَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَاعِل، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْوَرَثَةِ لَهُ بِهِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلإِْمَامِ مَالِكٍ - فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ وَأَشْهَبَ عَنْهُ - وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل، وَتَلْزَمُ وَرَثَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُول لَهُ مِنَ الْعَمَل. (2)
مَوْتُ الْمَجْعُول لَهُ:
86 - إِذَا مَاتَ الْعَامِل (الْمَجْعُول لَهُ) قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجَعَالَةَ تَبْطُل بِمَوْتِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِلُزُومِ الْجَعَالَةِ بِالْقَوْل بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاعِل، وَعَلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ الْمَجْعُول لَهُ قَبْل الشُّرُوعِ فِيهِ لَمْ يَبْطُل
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 5 / 474، أسنى المطالب 2 / 443.
(2) المقدمات الممهدات 2 / 179 (ط دار الغرب الإسلامي) .(39/310)
الْعَقْدُ، وَيَنْزِل وَرَثَتُهُ مَنْزِلَتَهُ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِل أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَل (1) .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْعَامِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي الْعَمَل، وَقَبْل إِتْمَامِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْعَامِل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي إِكْمَالِهِ إِنْ كَانُوا أُمَنَاءَ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِل أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا أَتَمَّ الْوَرَثَةُ الْعَمَل اسْتَحَقُّوا الْجُعْل كَامِلاً، بَعْضُهُ بِالإِْرْثِ مِنْ عَمَل مُوَرِّثِهِمْ، وَبَعْضُهُ الآْخَرُ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ (2) .
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ تَبْطُل بِمَوْتِهِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ أَتَمَّ وَرَثَتُهُ الْعَمَل مِنْ بَعْدِهِ، اسْتَحَقُّوا قِسْطَ مَا عَمِل مُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْجُعْل الْمُسَمَّى فَقَطْ، وَلاَ شَيْءَ لَهُمْ فِي الْعَمَل الَّذِي أَتَمُّوهُ بَعْدَ وَفَاةِ مُوَرِّثِهِمْ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَعَالَة ف67) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 308 ط التنوسي.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب 1 / 289، والمقدمات الممهدات 2 / 308 ط التنوسي.
(3) أسنى المطالب 2 / 443، ونهاية المحتاج 5 / 474.(39/310)
ز - الْوَصِيَّةُ:
87 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَلْزَمُ فِي حَقِّ الْمُوصِي مَا دَامَ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ مَتَى شَاءَ لأَِنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ لَمْ يَتِمَّ، إِذْ تَمَامُهَا بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَجَازَ رُجُوعُهُ عَنْهَا قَبْل تَمَامِهَا، وَلأَِنَّ الْقَبُول فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَكُل عَقْدٍ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِيجَابِهِ الْقَبُول، فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوصِي إِذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، وَلاَ يَسْقُطُ الْتِزَامُهُ بِوَفَاتِهِ، بَل يُعْتَبَرُ مَوْتُهُ مُوجِبًا لِلُزُومِهَا، مِنْ جِهَتِهِ، وَقَاطِعًا لِحَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَمُثْبِتًا لاِلْتِزَامِهِ النَّاشِئِ عَنْهَا وَالْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا (1) .
ح - النَّذْرُ:
88 - إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النَّذْرُ دُونَ أَنْ يَفِيَ بِهِ، فَهَل يَبْطُل الْتِزَامُهُ بِالْمَوْتِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) العناية على الهداية 10 / 436، وأسنى المطالب 3 / 63 - 64، ونهاية المحتاج 6 / 94، والبهجة شرح التحفة 2 / 313، وبداية المجتهد 2 / 336، وحاشية الدسوقي 4 / 380 - 381، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 / 238 - 239، والمغني 8 / 407، وكشاف القناع 4 / 348.(39/311)
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّذْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا، وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ وَنَحْوِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - النَّذْرُ الْمَالِيُّ:
89 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ فِي صِحَّتِهِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْل الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ سُقُوطِ النَّذْرِ بِمَوْتِهِ إِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُوفَّى مِنْ مَالِهِ، وَيُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِهِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّذْرَ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَال تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 53، ورد المحتار 6 / 760، وفتح القدير 2 / 358، والزرقاني على الموطأ 2 / 185، والمنتقى للباجي 2 / 62، 63، والخرشي وحاشية العدوي عليه 8 / 184.
(2) المجموع للنووي 6 / 231 - 232، ونهاية المحتاج 6 / 5 - 6، وفتح الباري 11 / 585، وتحفة المحتاج 10 / 96 - 97، والمغني 3 / 656، وكشاف القناع 4 / 403 - 404، والقواعد لابن رجب ص 344.(39/311)
ب - النَّذْرُ غَيْرُ الْمَالِيِّ:
90 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ حَجًّا أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلاَةً أَوِ اعْتِكَافًا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَلاَةً، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل فِعْلِهَا فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِهَا بِمَوْتِهِ، فَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ لاَ بَدَل لَهَا، وَهِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ يَنُوبُ أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ فِي أَدَائِهَا (1) .
ب - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ حَجًّا، وَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ لأَِيِّ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 359 - 360، ونهاية المحتاج 3 / 187، والمجموع 6 / 372، والمنتقى 2 / 63، وبداية المجتهد 1 / 320، والمغني 13 / 655 - 656.
(2) المجموع 8 / 494، والمغني 5 / 38.(39/312)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ (1) .
وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يَحُجَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِوَفَاةِ النَّاذِرِ، وَلاَ يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ الْحَجُّ عَنْهُ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لأَِجْل قَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَجٍّ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ بِالتَّمَكُّنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ إِنْ تَرَكَ مَالاً، بِأَنْ يَحُجَّ وَارِثُهُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً، بَقِيَ النَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يُلْزَمُ الْوَرَثَةَ بِقَضَائِهِ عَنْهُ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 4، والمبدع 3 / 89، والمغني 5 / 38، 13 / 655 - 656.
(2) العناية على الهداية 10 / 470، وبداية المجتهد 1 / 320، والخرشي 2 / 296، والمغني 5 / 38.
(3) المجموع 8 / 494، وشرح منتهى الإرادات 2 / 4، والمبدع 3 / 98، والمغني 5 / 38، 13 / 656.(39/312)
ج - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَوْمًا، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل فِعْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، فَلاَ يَصُومُ عَنْهُ أَحَدٌ، لأَِنَّ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ جَارٍ مَجْرَى الصَّلاَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، فَيُقْبَل قَضَاءُ الْوَلِيِّ لَهُ كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ.
غَيْرَ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ (2) .
د - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ اعْتِكَافًا، فَمَاتَ النَّاذِرُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 253، 359، وتكملة الفتح 10 / 470، وبداية المجتهد 1 / 299 - 300، والمنتقى للباجي 2 / 63، والمجموع 6 / 368، والمغني 13 / 655.
(2) المجموع 6 / 368 - 369، والمغني 8 / 28، 13 / 655، وإعلام الموقعين 4 / 390.(39/313)
قَبْل أَدَائِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الاِعْتِكَافَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَفْعَلُهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ، وَيَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ اسْتِحْبَابًا عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ، لاَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ (1) .
ط - الْعِدَةُ:
91 - الْعِدَةُ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعِدَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ (2) .
__________
(1) المجموع 6 / 372، ونهاية المحتاج 3 / 187، والمغني 13 / 655 - 656.
(2) البيان والتحصيل لابن رشد 8 / 18، والمبدع 9 / 345، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 321، والتمهيد لابن عبد البر 3 / 209، والفتوحات الربانية لابن علان 6 / 258 - 259.(39/313)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْعِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِسَبَبٍ، وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيُلْزَمُ بِهِ الْوَاعِدُ قَضَاءً، رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَوْعُودِ الْمُغَرَّرِ بِهِ، وَتَقْرِيرًا لِمَبْدَأِ تَحْمِيل التَّبَعِيَّةِ لِمَنْ وَرَّطَهُ فِي ذَلِكَ، إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَعَدَهُ بِأَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا، فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ تَعْوِيلاً عَلَى وَعْدِهِ، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ، فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا عَلَى عِدَتِهِ (1) .
وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّ الْوَاعِدَ إِذَا مَاتَ قَبْل إِنْجَازِ وَعْدِهِ فَإِنَّ الْوَعْدَ يَسْقُطُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا، أَمْ مُعَلَّقًا عَلَى سَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، أَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلأَِنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ الْوَاعِدَ أَصْلاً، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ فِي الْحَالَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَلأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَعْرُوفَ لاَزِمٌ لِمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُفْلِسْ، وَبِالْمَوْتِ سَقَطَ الْتِزَامُهُ وَتَلاَشَى فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لأَِجْلِهِ (2) .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 / 256 - 257، والمنتقى 3 / 227، والفروق للقرافي 4 / 25، والبيان والتحصيل 8 / 18.
(2) المراجع السابقة.(39/314)
مَوْزُونٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ.
مُوسِيقَى
انْظُرْ: مَعَازِفُ.(39/314)
مُوضِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُوضِحَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوُضُوحِ يُقَال:
وَضَحَ الشَّيْءُ وُضُوحًا انْكَشَفَ وَانْجَلَى، وَاتَّضَحَ كَذَلِكَ.
وَالْمُوضِحَةُ مِنَ الشِّجَاجِ: الَّتِي بَلَغَتِ الْعَظْمَ فَأَوْضَحَتْ عَنْهُ، وَقِيل: هِيَ الَّتِي تَقْشُرُ الْجِلْدَةَ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَوْ تَشُقُّهَا حَتَّى يَبْدُوَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشِّجَاجُ:
2 - الشِّجَاجُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَالشَّجَّةُ: الْجِرَاحُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) روضة الطالبين 9 / 180، والمدونة 6 / 316، وشرح الرسالة 2 / 242، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.(39/315)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الشِّجَاجِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالشِّجَاجِ: أَنَّ الْمُوضِحَةَ نَوْعٌ مِنَ الشِّجَاجِ.
ب - الْبَاضِعَةُ:
3 - الْبَاضِعَةُ فِي اللُّغَةِ: الشَّجَّةُ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ وَتَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلاَ تَبْلُغُ الْعَظْمَ وَلاَ يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ (2) .
وَالْبَاضِعَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ شَقًّا خَفِيفًا (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْبَاضِعَةِ: أَنَّ الْمُوضِحَةَ مِنَ الشِّجَاجِ الَّتِي تَبْلُغُ الْعَظْمَ وَتُظْهِرُهُ، وَأَمَّا الْبَاضِعَةُ فَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلاَ تَبْلُغُ الْعَظْمَ وَلاَ تُظْهِرُهُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُوضِحَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُوضِحَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 372، وبدائع الصنائع 7 / 296، وحاشية الدسوقي 4 / 250، ومغني المحتاج 4 / 26.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وحاشية الجمل 5 / 30.
(3) الاختيار 5 / 41، والدسوقي 4 / 251، وروضة الطالبين 9 / 180، ومغني المحتاج 4 / 26، وكشاف القناع 6 / 51.(39/315)
الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ عَمْدًا، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى عَظْمٍ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْكَفِّ مِنَ الْكُوعِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي كُل جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ لَسَقَطَ حُكْمُ الآْيَةِ.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيْفَةَ يَرَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَل بِالْمُوضِحَةِ عُضْوٌ آخَرُ كَالْبَصَرِ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَهُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِمَا (1) .
ب - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ
5 - لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ بِالآْلَةِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ (2) ، بَل يُسْتَوْفَى بِالْمُوسَى أَوْ حَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ لاَ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ.
وَلاَ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ
__________
(1) الاختيار 5 / 46، وابن عابدين 5 / 373، والشرح الصغير 4 / 349، والمدونة 6 / 312، وروضة الطالبين 9 / 191، ومغني المحتاج 4 / 30 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 558، والمغني 7 / 703.
(2) حديث: " إِن اللهَ كتبَ الإحسانَ. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1548) ط عيسى الحلبي.(39/316)
كَالْجَرَائِحِيِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عِلْمٌ بِذَلِكَ أَمَرَ بِالاِسْتِنَابَةِ (1) .
وَلَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ فِي الْمُوضِحَةِ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ يُنْظَرُ، إِنْ زَادَ بِاضْطِرَابِ الْجَانِي فَلاَ غُرْمَ، وَإِنْ زَادَ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ انْدِمَال الْمُوضِحَةِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، وَإِنْ آل الأَْمْرُ إِلَى الْمَال أَوْ أَخْطَأَ بِاضْطِرَابِ يَدِهِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَحَدُهُمَا: يُوَزَّعُ الأَْرْشُ عَلَيْهِمَا فَيَجِبُ قِسْطُ الزِّيَادَةِ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ أَرْشٌ كَامِلٌ.
وَلَوْ قَال الْمُقْتَصُّ: أَخْطَأْتُ بِالزِّيَادَةِ، فَقَال الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: بَل تَعَمَّدْتَهَا صُدِّقَ الْمُقْتَصُّ بِيَمِينِهِ (2) .
6 - وَإِذَا أَرَادَ الاِسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ وَشِبْهِهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى مَوْضِعِهَا شَعْرٌ حَلَقَهُ.
وَيَعْمِدُ إِلَى مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ فَيَعْلَمُ مِنْهُ طُولَهَا بِخَشَبَةِ أَوْ خَيْطٍ، وَيَضَعُهَا عَلَى رَأْسِ الشَّاجِّ، وَيُعَلِّمُ طَرَفَيْهِ بِخَطِّ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُ حَدِيدَةً عَرْضُهَا كَعَرْضِ الشَّجَّةِ، فَيَضَعُهَا فِي أَوَّل الشَّجَّةِ وَيَجُرُّهَا إِلَى
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تبيين الحقائق 6 / 106، ومغني المحتاج 4 / 31، وروضة الطالبين 9 / 191، والمغني 7 / 706.(39/316)
آخِرِهَا مِثْل الشَّجَّةِ طُولاً وَعَرْضًا، وَلاَ يُرَاعِي الْعُمْقَ لأَِنَّ حَدَّهُ الْعَظْمُ.
وَلاَ يُوضِحُ بِالسَّيْفِ لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ.
وَكَذَا لَوْ أَوْضَحَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْحَدِيدَةِ.
وَإِنْ أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَرَأْسَاهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمِسَاحَةِ، أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ اسْتَوْعَبْنَاهُ إِيضَاحًا، وَلاَ يُكْتَفَى بِهِ، وَلاَ نُتْمِمْهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْقَفَا لأَِنَّهُمَا غَيْرُ مَحَل الْجِنَايَةِ، بَل يُؤْخَذُ قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ لَوْ وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْمُوضِحَةِ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ لَمْ يُوضَحْ جَمِيعُهُ، بَل يُقَدِّرُهُ بِالْمِسَاحَةِ، وَالاِخْتِيَارُ فِي مَوْضِعِهِ إِلَى الْجَانِي.
وَلَوْ أَرَادَ أَنَّ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخِّرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بَدَل مُوضِحَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ قِسَطَهُ مِنَ الأَْرْشِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 309، ورد المحتار 5 / 373، وحاشية الدسوقي 4 / 251، وروضة الطالبين 9 / 190 - 192، والمغني لابن قدامة 7 / 704 - 706، وكشاف القناع 5 / 559.(39/317)
ج - أَرْشُ الْمُوضِحَةِ
7 - فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (دِيَاتٌ ف 65) .
د - شُمُول الْمُوضِحَةِ لِلرَّأْسِ وَالْوَجْهِ
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ وَقَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ (2) "، فَكَانَ أَرْشُهَا خَمْسًا مِنَ
__________
(1) حديث: " في الموضحة خمس. . . ". أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية الكبرى) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط شركة الطباعة الفنية) ، وتكلم على أسانيده ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) أثر: " الموضحة في الرأس. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8 / 82 - ط مجلس دائرة المعارف) .(39/317)
الإِْبِل كَغَيْرِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الشَّيْنِ بِدَلِيل التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي الأَْرْشِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مُوضِحَةُ الرَّأْسِ مِثْل مُوضِحَةِ الْوَجْهِ، إِلاَّ إِذَا تَشَيَّنَ الْوَجْهُ فَيُزَادُ فِيهَا لِشَيْنِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الْمُوضِحَةُ فِي الأَْنْفِ أَوْ فِي اللَّحْيِ الأَْسْفَل فَفِيهَا حُكُومَةٌ، لأَِنَّهَا تَبْعُدُ مِنَ الدِّمَاغِ فَأَشْبَهَتْ مُوضِحَةَ سَائِرِ الْبَدَنِ (2) .
وَقَال سَعِيْدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ تُضَعَّفُ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ، فَتَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل لأَِنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ، فَمُوضِحَةُ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دِيَاتٌ ف 65) .
9 - وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْبَارِزَةِ وَالْمَسْتُورَةِ بِالشَّعْرِ، لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 373، والجوهرة النيرة 2 / 131 الطبعة الأولى، والمغني والشرح الكبير 9 / 641، ومغني المحتاج 4 / 59 - 60، وكشاف القناع 5 / 559.
(2) المدونة الكبرى 6 / 310، وحاشية الدسوقي 4 / 251.
(3) المغني والشرح الكبير 9 / 641.(39/318)
الْمُوضِحَةَ تَشْمَل الْجَمِيعَ وَحَدُّ الْمُوضِحَةِ مَا أَفْضَى إِلَى الْعَظْمِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ.
وَإِنْ شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ وَبَعْضُهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، لأَِنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ الْجَمِيعَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، فَلأَِنْ لاَ يَلْزَمُهُ فِي الإِْيضَاحِ فِي الْبَعْضِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى (1) .
هـ - مُوضِحَةُ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ
10 - لَيْسَ فِي غَيْرِ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مُقَدَّرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِرَاحَةِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.
وَقَوْل الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدِينَ: " الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ " يَدُل عَلَى أَنَّ بَاقِيَ الْجَسَدِ بِخِلاَفِهِ، وَلأَِنَّ الشَّيْنَ فِيمَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَكْثَرُ وَأَخْطَرُ مِمَّا فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ.
ثُمَّ إِيجَابُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَجِبَ فِي مُوضِحَةِ الْعُضْوِ أَكْثَرُ عَنْ دِيَتِهِ، مِثْل أَنْ يُوضِحَ أُنْمُلَةً دِيَتُهَا ثَلاَثَةٌ وَثُلُثٌ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ الْمُوضِحَةَ تَكُونُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 372، والدسوقي 4 / 251، ومغني المحتاج 4 / 58، والمغني والشرح الكبير 9 / 242.(39/318)
فِي الْجَسَدِ أَيْضًا، وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ فِي جِرَاحَةِ الْجَسَدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحَةِ الرَّأْسِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ قَال: فِي الْمُوضِحَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا (1) .
و تَعَدِّي شَيْنِ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ:
11 - إِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّ السِّكِّينَ إِلَى قَفَاهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَحُكُومَةٌ لِجَرِّ الْقَفَا، لأَِنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْقِعٍ لِلْمُوضِحَةِ.
وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّهَا إِلَى وَجْهِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ، لأَِنَّ الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ سَوَاءٌ فِي الْمُوضِحَةِ، فَصَارَ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي: هُمَا مُوضِحَتَانِ لأَِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي عُضْوَيْنِ، فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَنَزَل إِلَى الْقَفَا (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ لأَِنَّهُمَا مُوضِحَتَانِ، فَإِنْ أَزَال الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَجَبَ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّهُ صَارَ الْجَمِيعُ بِفِعْلِهِ مُوضِحَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْضَحَ الْكُل مِنْ غَيْرِ حَاجِزٍ يَبْقَى بَيْنَهُمَا.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 9 / 642.
(2) المغني مع الشرح الكبير 9 / 643.(39/319)
وَإِنْ انْدَمَلَتَا ثُمَّ أَزَال الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ ثَلاَثِ مَوَاضِحَ، لأَِنَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَرْشُ الأُْولَيَيْنِ بِالاِنْدِمَال، ثُمَّ لَزِمَتْهُ دِيَةُ الثَّالِثَةِ.
وَإِنْ تَآكَل مَا بَيْنَهُمَا قَبْل انْدِمَالِهِمَا فَزَال لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّ سِرَايَةَ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ.
وَإِنِ انْدَمَلَتْ إِحْدَاهُمَا وَزَال الْحَاجِزُ بِفِعْلِهِ أَوْ سِرَايَةِ الأُْخْرَى فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ.
وَإِنْ أَزَال الْحَاجِزَ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى الأَْوَّل أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ مُوضِحَةٍ، لأَِنَّ فِعْل أَحَدِهِمَا لاَ يُبْنَى عَلَى فِعْل الآْخَرِ، فَانْفَرَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ.
وَإِنْ أَزَال الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ لأَِنَّ مَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ لاَ يَسْقُطُ بِفِعْل غَيْرِهِ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا، فَقَال الْجَانِي: أَنَا شَقَقْتُ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَال الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَل أَنَا، أَوْ أَزَالَهَا آخَرُ سِوَاك، فَالْقَوْل قَوْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لأَِنَّ سَبَبَ أَرْشِ الْمُوضِحَتَيْنِ قَدْ وُجِدَ، وَالْجَانِي يَدَّعِي زَوَالَهُ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ وَالأَْصْل مَعَهُ (1) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 271، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 643.(39/319)
وَإِنْ أَوْضَحَ مُوضِحَتَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ اللَّحْمَ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ، وَتَرَكَ الْجِلْدَ الَّذِي فَوْقَهُمَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ لاِنْفِصَالِهِمَا فِي الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: أَرْشُ مُوضِحَةٍ لاِتِّصَالِهِمَا فِي الْبَاطِنِ.
وَإِنْ جَرَحَهُ جِرَاحًا وَاحِدَةً، وَأَوْضَحَهُ فِي طَرَفَيْهَا، وَبَاقِيهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فَفِيهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، لأَِنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِمُوضِحَةِ (1) .
ز - الْوَكَالَةُ بِالصُّلْحِ عَلَى الْمُوضِحَةِ 12 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: إِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَصَالَحَ عَلَى مُوضِحَتَيْنِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُمَا وَضَمِنَ جَازَ، عَلَى الْمُوَكِّل النِّصْفُ وَلَزِمَ الْوَكِيل النِّصْفُ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ عَاشَ، لأَِنَّهُ فِي أَحَدِ الْمُوضِحَتَيْنِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَفِي الأُْخْرَى مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
فَإِنْ وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ ادَّعَاهَا قِبَل فُلاَنٍ فَصَالَحَ الْوَكِيل عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا جَازَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجُزْ عَلَى غَيْرِهَا، لأَِنَّ وَكِيل الطَّالِبِ مُسْقِطُ الْحَقِّ بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، فَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ أَصْلاً.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 9 / 643 - 644، والدسوقي 4 / 271.(39/320)
وَلَوْ وَكَّل الْمَطْلُوبُ وَكِيلاً بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْوَكِيل عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِ الْمُوَكِّل سِنِينَ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ، لأَِنَّ تَسْمِيَةَ خِدْمَةِ عَبْدِهِ كَتَسْمِيَةِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ، وَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِزَوَال مِلْكِهِ عَنْ مَنْفَعَةِ عَبْدِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ.
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ فَهُوَ عَفْوٌ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الآْمِرِ وَلاَ عَلَى الْوَكِيل، لأَِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْمَال فِيهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ لاَ يَجِبُ شَيْءٌ كَالطَّلاَقِ.
وَإِذَا شَجَّ رَجُلاَنِ رَجُلاً مُوضِحَةً فَوَكَّل وَكِيلاً يُصَالِحُ مَعَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ - كَمَا لَوْ بَاشَرَ الصُّلْحَ بِنَفْسِهِ - وَعَلَى الآْخَرِ نِصْفُ الأَْرْشِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الأَْرْشِ دُونَ الْقَوَدِ، فَإِنَّ الاِشْتِرَاكَ فِي الْفِعْل يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَوَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ: أَنْ صَالِحْ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّهمَا هُوَ فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَمِثْلُهَا لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ الرَّأْيُ إِلَى الْوَكِيل يُصَالِحُ أَيَّهمَا شَاءَ.(39/320)
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّاجُّ وَاحِدًا وَالْمَشْجُوجُ اثْنَيْنِ، فَوَكَّل وَكِيلاً بِالصُّلْحِ عَنْهُمَا، فَصَالَحَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ قَال الْوَكِيل: هُوَ فُلاَنٌ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ لأَِنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ صَالَحَ مَعَهُ وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ مَا بَاشَرَ مِنَ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلتَّعْيِينِ فِي الاِبْتِدَاءِ فَكَذَا فِي الاِنْتِهَاءِ يَصِحُّ تَعْيِينُهُ.
وَإِذَا اشْتَرَكَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّاهَا رَجُلاً، فَوَكَّل الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ وَكِيلاً، فَصَالَحَ عَنْهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، فَعَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ نِصْفُ ذَلِكَ، قَلَّتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ كَثُرَتْ، وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُهُ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّهَا إِيَّاهُ رَجُلٌ، فَصَالَحَ عَلَى الْمُوضِحَةِ الَّتِي شَجَّهَا فُلاَنٌ وَلَمْ يَقُل هِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ عَرَّفَهَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى فُلاَنٍ، وَمَحَل فِعْل فُلاَنٍ مَعْلُومٌ مُعَايَنٌ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 19 / 154 - 158، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 317.(39/321)
مَوْقُوذَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْقُوذَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَبُ بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ.
وَالْوَقِيذُ: هُوَ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ، لاَ يُدْرَى أَمَيِّتٌ هُوَ أَمْ حَيٌّ؟ وَالْوَقِيذُ أَيْضًا: الشَّدِيدُ الْمَرَضِ الْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُنْخَنِقَةُ:
2 - الْمُنْخَنِقَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ، سَوَاءٌ فَعَل بِهَا ذَلِكَ آدَمِيٌّ أَوِ اتَّفَقَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْلٍ، أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 6 / 48.(39/321)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لِعَدَمِ الذَّبْحِ.
ب - الْمُتَرَدِّيَةُ:
3 - الْمُتَرَدِّيَةُ فِي اللُّغَةِ مُتَفَعِّلَةٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلاَكُ، وَالتَّرَدِّي: التَّعَرُّضُ لِلْهَلاَكِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} .
وَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ: الشَّاةُ أَوْ نَحْوُهَا الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْل فَتَمُوتُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا غَيْرُهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لأَِنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
ج - النَّطِيحَةُ:
4 - النَّطِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ،
__________
(1) المعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 6 / 48، وروح المعاني 3 / 231.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، وتفسير القرطبي 6 / 49، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 304، وروح المعاني 3 / 231.(39/322)
وَهِيَ: الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى أَوْ غَيْرُهَا فَتَمُوتُ قَبْل أَنْ تُذَكَّى.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالنَّطِيحَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْل لَحْمِهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
د - مَا أَكَل السَّبُعُ:
5 - مَا أَكَل السَّبُعُ هُوَ: كُل مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ وَأَظْفَارٍ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا (2) .
وَالْعلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَمَا أَكَل السَّبُعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوذَةَ لاَ يَحِل أَكْل لَحْمِهَا إِذَا لَمْ يَتِمَّ ذَبْحُهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن، وتفسير القرطبي 6 / 49.
(2) تفسير القرطبي 6 / 49 - 50، والمفردات في غريب القرآن.
(3) تفسير القرطبي 6 / 48، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 304، وصحيح مسلم مع شرح النووي 13 / 73 - 75، ومغني المحتاج 4 / 274، وتفسير روح المعاني 3 / 231.(39/322)
تَعْدَادِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} .
قَال الْعُلَمَاءُ: كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الأَْنْعَامَ بِالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَقْتُلُوهَا فَيَأْكُلُونَهَا.
وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَال: مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُل، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُل (2) ، قَال النَّوَوِيُّ: وَقِيذٌ، أَيْ: مَقْتُولٌ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ.
وَالْمَوْقُوذَةُ الْمَقْتُولَةُ بِالْعَصَا وَنَحْوِهَا، وَأَصْل الْوَقْذِ مِنَ الْكَسْرِ وَالرَّضِّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ.
__________
(1) حديث: " ما أصاب بحده فَكُلْهُ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 599 ط السلفية) ومسلم (3 / 1530 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " إذا أصبت بحده فكل، فإذا أصاب بعرضه فإنه وقيذ فلا تأكل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 603 ط السلفية) .(39/323)
7 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ (1) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كُل مَا يُقْتل بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ مِنْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُوَ وَقِيذٌ لاَ يَحِل أَكْلُهُ إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَيْدٌ ف 31 - 36) .
ذَكَاةُ الْمَوْقُوذَةِ
8 - قَال الْجَصَّاصُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَكَاةِ الْمَوْقُوذَةِ وَنَحْوِهَا، فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ: أَنَّهُ إِذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهَا قَبْل أَنْ تَمُوتَ أُكِلَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} حَيْثُ يَقْتَضِي ذَكَاتَهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنَّ تَعِيشَ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ لاَ تَعِيشَ، وَلاَ بَيْنَ أَنْ تَبْقَى قَصِيرَ الْمُدَّةِ أَوْ طَوِيلَهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ: إِذَا تَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنْهَا صَحَّتْ ذَكَاتُهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الأَْنْعَامِ
__________
(1) المعراض مثل المفتاح: سهم لا ريش له (المصباح المنير) .
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 304، وشرح صحيح مسلم للنووي 13 / 75، وتفسير القرطبي 6 / 48 - 49، الاختيار 4 / 7 - 8، وحاشية الدسوقي 2 / 103، والشرح الصغير 2 / 176، ومغني المحتاج 4 / 274، وكشاف القناع 6 / 207 - 208.(39/323)
إِذَا أَصَابَتْهَا الأَْمْرَاضُ الْمُتْلِفَةُ الَّتِي قَدْ تَعِيشُ مَعَهَا مُدَّةً قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً أَنَّ ذَكَاتَهَا بِالذَّبْحِ، فَكَذَلِكَ الْمَوْقُوذَةُ وَنَحْوُهَا (1) .
قَال إِسْحَاقُ: وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُمْ أَبُو يُوْسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَهُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ: إِذَا صَارَتِ الْمَوْقُوذَةُ وَأَمْثَالُهَا إِلَى حَالٍ لاَ تَعِيشُ مَعَهَا فَلاَ يَحِل أَكْل لَحْمِهَا وَإِنْ تَمَّ ذَبْحُهَا قَبْل الْمَوْتِ (2) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لاَ يُؤْكَل إِلاَّ مَا ذُكِّيَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَضْطَرِبُ فَلْيَأْكُل، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُل بَلَدٍ طُول عُمْرِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 305 - 306، وتفسير القرطبي 6 / 50 - 51.
(2) تفسير القرطبي 6 / 50، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 306.
(3) تفسير القرطبي 6 / 50 - 51، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 305 - 306.(39/324)
مَوْقُوفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْقُوفُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْل: وَقَفَ، بِمَعْنَى: سَكَنَ وَحُبِسَ وَمُنِعَ، يُقَال: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ: سَكَنَتْ، وَوَقَفْتُهَا أَنَا: مَنَعْتُهَا مِنَ السَّيْرِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَفْتُ الدَّارَ: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ.
وَيُطْلَقُ عَلَى عَكْسِ الْجُلُوسِ، يُقَال: وَقَفَ الرَّجُل: قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَعَلَى الْمَنْعِ: وَقَفْتُهُ عَنِ الْكَلاَمِ: مَنَعْتُهُ عَنْهُ (1) .
وَالْمَوْقُوفُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْمَعْنَى الأَْوَّل: يُطْلَقُ عَلَى كُل عَيْنٍ مَحْبُوسَةٍ فِي سَبِيل الْبِرِّ وَالْخَيْرِ بِشُرُوطٍ (2) .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) روضة الطالبين 5 / 314، وأسنى المطالب 2 / 457.(39/324)
وَلاَ يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ (1) .
وَالْمَوْقُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَتَجَاوَزُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدَقَةُ:
2 - الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْعَطِيَّةُ تَبْتَغِي بِهَا الْمَثُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالصَّدَقَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَلَيْسَ كُل مَوْقُوفٍ صَدَقَةً، وَلَيْسَ كُل صَدَقَةٍ مَوْقُوفًا.
ب - الْمُوصَى بِهِ:
3 - الْمُوصَى بِهِ اسْمٌ لِمَا يَتَبَرَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالٍ فِي حَال حَيَاتِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ أَنَّ كُلًّا
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 41، والتعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب، وتاج العروس.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) رد المحتار 5 / 416 بتصرف.(39/325)
مِنْهُمَا بَذْل مَالٍ بِلاَ عِوَضٍ ابْتِغَاءَ الْمَثُوبَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْقُوفِ:
أَوَّلاً - الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمَحْبُوسَةِ:
أ - مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَوْقُوفِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول، كَحَيَوَانٍ وَسِلاَحٍ وَأَثَاثٍ وَنَحْوِ ذَلِك، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ (1) . وَلأَِنَّ الأُْمَّةَ اتَّفَقَتْ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ وَالأَْزْمَانِ عَلَى وَقْفِ الْحُصُرِ وَالْقَنَادِيل وَالزَّلاَلِيِّ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَبْسِ
__________
(1) حديث: " أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 331 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 676 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري.
(2) مغني المحتاج 2 / 377، وروضة الطالبين 4 / 315، وأسنى المطالب 2 / 457 - 458، والمغني 5 / 642، والخرشي 7 / 79.(39/325)
الْعَيْنِ لِلْبِرِّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا لاَ يُنْقَل وَلاَ يُحَوَّل كَالْعَقَارِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَنْقُول مَقْصُودًا، لأَِنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ الْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ لِكَوْنِهِ عَلَى شُرَفِ الْهَلاَكِ، فَلاَ يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا.
وَيَجُوزُ إِنْ كَانَ تَبَعًا لِمَا لاَ يُنْقَل كَالْعَقَارِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول وَالْمَنْفَعَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
ب - انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ مِنَ الْوَاقِفِ بِالْوَقْفِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ بِالْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ لَهُمْ، وَأَبُو يُوْسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ تَنْتَقِل مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَعْنَى انْتِقَالِهِ إِلَى اللَّهِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْفَكُّ مِنِ اخْتِصَاصِ الآْدَمِيِّ، وَإِلاَّ فَجَمِيعُ الأَْشْيَاءِ مِلْكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلاَ تَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلاَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 220، وتبيين الحقائق 3 / 327.(39/326)
غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِيْ يُوْسُفَ أَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَنْتَقِل بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ صَحِيحَةٍ مِنْ صِيَغِ الْوَقْفِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَسَنِ لاَ تَنْتَقِل بِالْقَوْل حَتَّى يَجْعَل لِلْمَوْقُوفِ وَلِيًّا يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي انْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِهَةً عَامَّةً كَالرِّبَاطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْغُزَاةِ وَالْفُقَرَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا. فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُبْتَاعُ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ يُوهَبُ. قَال: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 342، ومغني المحتاج 2 / 389، وتبيين الحقائق 3 / 325، وبدائع الصنائع 6 / 221.
(2) حديث: " أصاب عمر أرضًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 354 ط السلفية) ومسلم (3 / 1255 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ لمسلم.(39/326)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (1) وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَدْ تَعَامَلُوهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ لِيَصِل ثَوَابُهُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمْكَنَ دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَسْجِدُ.
وَلِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِزَوَال الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل - كَمَا سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ - لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ لِلَّهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَزُول الْمِلْكُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُتَوَلِّي لأَِنَّهُ صَدَقَةٌ، فَيَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَلأَِنَّ التَّمْلِيكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَتَحَقَّقُ قَصْدًا لأَِنَّهُ مَالِكُ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْعَبْدِ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1255 ط عيسى الحلبي) .
(2) تبيين الحقائق 3 / 325، ومغني المحتاج 2 / 382، وأسنى المطالب 2 / 462، وروضة الطالبين 5 / 322.(39/327)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبَو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ مَسْجِدًا، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَزُول الْمِلْكُ إِلاَّ بِقَضَاءِ قَاضٍ يَرَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ (1) وَلأَِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ بَاقٍ، إِذْ غَرَضُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّتِهِ، وَهُوَ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ الأَْصْل عَلَى مِلْكِهِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّل ثَمَرَتَهَا (2) أَيْ: احْبِسْهُ عَلَى مِلْكِك وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا، وَإِلاَّ كَانَ مُسَبِّلاً جَمِيعَهَا، وَلأَِنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ لاَ إِلَى مَالِكٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَانَا عَنِ
__________
(1) حديث: " لا حبس عن فرائض الله ". أخرجه الدارقطني في السنن (4 / 68 ط دار المحاسن. القاهرة) والبيهقي في السنن الكبرى (6 / 162 ط دائرة المعارف) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الدارقطني: لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان.
(2) حديث: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ". أخرجه النسائي (6 / 232 ط المكتبة التجارية) ، وابن ماجه (2 / 801 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(39/327)
السَّائِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَيِّبُهَا مَالِكُهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ بِزَعْمِهِمْ، قَال تَعَالَى: {مَا جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} .
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْل الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا أَوِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ وَالْعِتْقِ، حَيْثُ يَزُول الْمِلْكُ بِهِمَا، لأَِنَّهُ يُحْرَزُ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لاَ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلِهَذَا لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلاَّتِهِ إِلَى مَصَارِفِهِ، وَنَصْبِ الْقَيِّمِ، وَلأَِنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ ثَابِتٌ لِلْوَاقِفِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الإِْسْقَاطِ فَلاَ يَزُول بِهِ الْمِلْكُ، بَل يَبْقَى فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلِلْوَاقِفِ فِي حَيَاتِهِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلاَحَهُ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ الإِْصْلاَحُ إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ، وَلِوَارِثِهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ الْوَارِثُ فَلِلإِْمَامِ ذَلِكَ، هَذَا إِذَا قَامَ الْوَرَثَةُ بِإِصْلاَحِهِ، وَإِلاَّ فَلِغَيْرِهِمْ إِصْلاَحُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي: يَبْقَى مِلْكُ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 325، والخرشي 7 / 98.(39/328)
رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْوَاقِفِ، لأَِنَّهُ حَبَسَ الأَْصْل وَسَبَّل الثَّمَرَةَ، وَذَلِكَ لاَ يُوجِبُ زَوَال مِلْكِهِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَبَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ، حَيْثُ يَبْقَى الأَْوَّل عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَالثَّانِي يَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً عَامَّةً، كَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغُزَاةِ، فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَنْتَقِل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ عَدَدًا مِنَ الآْدَمِيِّينَ مَحْصُورِينَ كَأَوْلاَدِهِ أَوْ أَوْلاَدِ زَيْدٍ: يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَيَمْلِكُهُ كَالْهِبَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّالِثِ لَهُمْ: يَنْتَقِل الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِالصَّدَقَةِ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا وُقِفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، أَمَّا إِذَا جَعَل الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً فَهُوَ فَكٌّ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 320، 325، والبدائع 6 / 221، والخرشي 7 / 98، والزرقاني 7 / 91، وروضة الطالبين 5 / 342، ومغني المحتاج 2 / 389.(39/328)
عَنِ الْمِلْكِ، فَيَنْقَطِعُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الآْدَمِيِّينَ قَطْعًا (1) .
ج - الاِنْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ
6 - مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ، وَلَكِنْ لاَ يُؤَجِّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي تَأْجِيرِهَا.
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ فَوَائِدَ الْمَوْقُوفِ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَوْ شَرْطِ أَنَّهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَائِدُ الْمَوْقُوفِ كَثَمَرَةِ، وَصُوفٍ، وَلَبَنٍ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، أَوْ شَرْطُ الْوَلَدِ لَهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ وَقْفًا تَبَعًا لأُِمِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلاً عِنْدَ الْوَقْفِ فَوَلَدُهَا وَقْفٌ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي وَكَذَا عَلَى الأَْوَّل بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْل يُعْلَمُ، وَهَذَا الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِجِلْدِهَا، لأَِنَّهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 254، والمغني 5 / 601، ومغني المحتاج 2 / 389.(39/329)
وَكُل هَذَا مَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الاِنْتِفَاعِ (1) .
د - حُكْمُ بَدَل الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا تَلِفَتْ
7 - لاَ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَدَل الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةَ إِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدٍ ضَامِنَةٍ، بَل يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا لِتَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهَا مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي اسْتِمْرَارِ الثَّوَابِ.
وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْوَقْفَ هُوَ الْحَاكِمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ أَوْ لاَ.
أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ أَوْ يَعْمُرُهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَالْمُنْشِئُ هُوَ النَّاظِرُ، وَكَذَا مَا يَشْتَرِيهِ الْحَاكِمُ بِبَدَل الْمُتْلَفِ لاَ يَصِيرُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَقِفَهُ الْحَاكِمُ.
أَمَّا مَا يَقُومُ النَّاظِرُ أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ تَرْمِيمِ الْمَوْقُوفِ وَإِصْلاَحِ جُدْرَانِهِ فَلَيْسَ وَقْفًا مُنْشِئًا، لأَِنَّ الْعَيْنَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ بَدَل الْعَيْنِ التَّالِفَةِ بِمِثْلِهَا فَاتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالطِّينُ وَالْحَجَرُ الْمَبْنِيُّ بِهِمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 327، والخرشي 7 / 98، ومغني المحتاج 2 / 389 - 390، وشرح روض الطالب 2 / 470، وكشاف القناع 4 / 256، والمغني 5 / 604.(39/329)
كَالْوَصْفِ التَّابِعِ لِلْمَوْقُوفِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَصِيرُ الْبَدَل وَقْفًا بِلاَ حَاجَةٍ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ جَدِيدٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا إِذَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ (2) .
هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ وَجِنَايَتُهُ
8 - إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قِنًّا وَكَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَفْوٌ مَجَّانًا وَلاَ قَوَدٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَل هُوَ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ بَدَلُهُ: أَيْ مِثْلُهُ.
وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَل الْمُشْتَرَى مَعْنَاهُ: وُجُوبُ الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالأُْنْثَى فِي الأُْنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الأَْوْصَافِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ الأَْعْيَانُ بِتَفَاوُتِهَا، وَلاَ سِيَّمَا الصِّنَاعِيَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْوَقْفِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ وَلاَ يَحْصُل بِدُونِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ بَعْضِ أَطْرَافِهِ عَمْدًا فَلِلْقِنِّ الْمَوْقُوفِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لأَِنَّهُ حَقُّهُ لاَ يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 391، ونهاية المحتاج 5 / 389، وكشاف القناع 4 / 256 - 257.
(2) الدسوقي 4 / 90 - 91، وكشاف القناع 4 / 257.(39/330)
وَإِنْ عَفَا الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لاَ تُوجِبُ الْقِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا خَطَأً وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِمَّا فِيهِ نِصْفُ دِيَةٍ فِي الْحُرِّ وَإِلاَّ فَبِحِسَابِهِ وَيُشْتَرَى بِالأَْرْشِ مِثْلُهُ أَوْ شِقْصُ بَدَلِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ خَطَأً فَالأَْرْشُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ.
وَلَمْ يَلْزَمِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَجِبُ أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ (1) .
9 - وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَجَنَى فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إِيجَابُ الأَْرْشِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 257، والمغني 5 / 636 - 637، ونهاية المحتاج 5 / 390.(39/330)
فَإِنْ قُتِل قِصَاصًا بَطَل الْوَقْفُ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيهِ وَقْفًا (1) .
و عَطَبُ الْمَوْقُوفِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ
10 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَوْقُوفِ، كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرَزِهَا قَبْل جَفَافِهَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنِ امْتَنَعَ وَقْفُهَا ابْتِدَاءً لَقُوَّةِ الدَّوَامِ (2) بَل يُنْتَفَعُ بِهَا جِذْعًا بِإِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهَا، وَلاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ، وَقِيل: تُبَاعُ لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَالثَّمَنُ عَلَى هَذَا الْقَوْل حُكْمُهُ كَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ إِنِ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ نَقْلاً عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ الْجِذْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الاِنْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى الاِنْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ.
__________
(1) المغني 5 / 636، وكشاف القناع 4 / 256 - 257.
(2) مغني المحتاج 2 / 391، ونهاية المحتاج 5 / 389.
(3) مغني المحتاج 2 / 391 - 392.(39/331)
وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا جَازَ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا، وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا فَضَل مِنْ نِجَارَةِ خَشَبِ الْمَوْقُوفِ وَنُحَاتَتِهِ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ (1) ، لِخَبَرِ: مَا بَال أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2) .
وَإِنْ بِيعَ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي مِثْلِهِ، لأَِنَّ فِي إِقَامَةِ الْبَدَل مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ فَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ، وَيُصْرَفُ فِي جِهَتِهِ وَهِيَ مَصْرِفُهُ، لاِمْتِنَاعِ تَغْيِيرِ الْمَصْرِفِ مَعَ إِمْكَانِ مُرَاعَاتِهِ.
وَإِنْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ صُرِفَ فِي جِهَةٍ مِثْلِهَا، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ فَتَعَطَّل الْغَزْوُ فِيهِ، صُرِفَ الْبَدَل إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ تَحْصِيلاً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي الْجُمْلَةِ حَسْبَ الإِْمْكَانِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 293.
(2) حديث: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 353 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) كشاف القناع 4 / 293.(39/331)
ز - عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ حَتَّى لاَ يَضِيعَ الْوَقْفُ وَتَتَعَطَّل أَغْرَاضُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْعِمَارَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ شَرْطَ الْوَاقِفِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
ج - نَقْضُ الْمَوْقُوفِ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ نَقْضُهُ إِلَى عِمَارَتِهِ إِنِ احْتَاجَ، وَإِلاَّ حَفِظَهُ إِلَى الاِحْتِيَاجِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْعِمَارَةِ، لأَِنَّ الْمَوْقُوفَ لاَ يَبْقَى بِدُونِهَا فَلاَ يَحْصُل صَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَبْطُل غَرَضُ الْوَاقِفِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَصْرِفُهُ لِلْحَال إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ كَيْ لاَ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَوَانَ الْحَاجَةِ.
وَلاَ يُقْسَمُ النَّقْضُ عَلَى مُسْتَحِقِّي غَلَّةِ(39/332)
الْمَوْقُوفِ لأَِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ وَلاَ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، فَلاَ يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ غَيْرُ حَقِّهِمْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَى الْعِمَارَةِ، لأَِنَّ الْبَدَل يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَل فَيُصْرَفُ مَصْرِفَ الْبَدَل (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَنَقْضُ الْحَبْسِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْدَل رِيعٌ خَرِبٌ بِرِيعٍ غَيْرِ خَرِبٍ إِلاَّ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدٍ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لإِِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ حَالاً بِالصَّلاَةِ فِي أَرْضِهِ، نَعَمْ لَوْ خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ نُقِضَ وَحُفِظَ لَيُعْمِرَ بِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ، وَالْمَسْجِدُ الأَْقْرَبُ أَوْلَى، وَبَحَثَ الأَْذْرَعِيُّ تَعَيُّنَ مَسْجِدٍ خُصَّ بِطَائِفَةٍ خُصَّ بِهَا الْمُنْهَدِمُ إِنْ وُجِدَ وَإِنْ بَعُدَ (2) .
ثَانِيًا - الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ الْمَوْقُوفُ:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ كُل تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ كَبَيْعٍ وَتَزْوِيجٍ، أَوْ إِسْقَاطًا كَطَلاَقٍ وَإِعْتَاقٍ وَلَهُ مُجِيزٌ: أَيْ لَهُ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ حَال وُقُوعِهِ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا.
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 328، والبحر الرائق 5 / 237.
(2) الخرشي 7 / 95، ونهاية المحتاج 5 / 392.(39/332)
أَمَّا مَا لاَ مُجِيزَ لَهُ لاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً (1) .
فَإِنْ بَاعَ صَبِيٌّ مَثَلاً ثُمَّ بَلَغَ قَبْل إِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ، لأَِنَّهُ كَانَ لَهُ مُجِيزٌ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْوَلِيُّ، أَمَّا إِنْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ زَوْجَتَهُ مَثَلاً قَبْل الْبُلُوغِ فَأَجَازَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلإِْسْقَاطِ مُجِيزٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ لأَِنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ عَلَى زَوْجَةِ مُوَلِّيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِجَازَتَهُ (2) .
(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ) .
أَقْسَامُ الْمَوْقُوفِ:
14 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ إِلَى: مَوْقُوفٍ قَابِلٍ لِلصِّحَّةِ، وَمَوْقُوفٍ فَاسِدٍ (3) .
وَالْمَوْقُوفُ الْقَابِل لِلصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَصْل وَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ وَلاَ يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ (4) ، وَيَتَنَاوَل كُل تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ التَّصَرُّفُ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ، أَمْ إِسْقَاطًا كَالطَّلاَقِ وَالإِْعْتَاقِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 135.
(2) رد المحتار 4 / 135.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 135.
(4) قواعد الفقه للبركتي.(39/333)
وَالتَّمْلِيكُ يَشْمَل الْحَقِيقِيَّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَنْقُل الْمِلْكَ، وَالْحُكْمِيُّ كَالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ (1) .
وَالْفَاسِدُ الْمَوْقُوفُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ لاَ فِي وَصْفِهِ (2) ، كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمُّونَهُ: مَوْقُوفًا فَاسِدًا فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ فِيهِ الْمِلْكُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَال زُفَرُ: لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالتَّسْلِيمِ مُكْرَهًا لأَِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ فَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَهَا، وَقَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ - إِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ، وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا، فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ - لاَ يُمْكِنُ نَقْضُهُ - جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الإِْكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 135.
(2) قواعد الفقه للبركتي.(39/333)
اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ بِالإِْكْرَاهِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الأَْيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَصَرَّفَ إِنْسَانٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِلْكَ غَيْرِهِ فَإِنَّ نَفَاذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَالِكِهِ (2) .
وَكَبَيْعِ الْغَاصِبِ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ لِغَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ (3) .
وَكَطَلاَقِ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ (4) .
15 - وَالْوَقْفُ يُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ لِبَيَانِ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعُقُودِ، فَمِنَ الأَْوَّل حَجُّ الصَّبِيِّ، فَإِنْ دَامَ صَبِيًّا إِلَى آخِرِ أَعْمَال الْحَجِّ كَانَ نَفْلاً، وَإِنْ بَلَغَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ انْقَلَبَ فَرْضًا.
وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَسَلَّمَ سَاهِيًا قَبْل الإِْتْيَانِ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَذَكَّرَ قَرِيبًا فَفِي صِحَّةِ سَلاَمِهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَقَدْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 169، وحاشية ابن عابدين 5 / 81.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 12.
(3) الخرشي 6 / 146.
(4) جواهر الإكليل 1 / 339، وحاشية الدسوقي 2 / 395.(39/334)
فَاتَ مَحَل السُّجُودِ، وَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ فَإِنْ سَجَدَ فَهُوَ بَاقٍ فِي الصَّلاَةِ وَلَوْ أَحْدَثَ لَبَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ فَقَال الإِْمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ بُدَّ مِنَ السَّلاَمِ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: السَّلاَمُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ سَجَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ وَإِنْ تَرَكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّل (1) .
أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْوَقْفُ فِيهَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلاَثِ مَسَائِل:
الأُْولَى: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ فِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ: وَهُوَ وَقْفُ صِحَّةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الصِّحةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الإِْجَازَةِ فَلاَ تَحْصُل إِلاَّ بَعْدَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الأَْكْثَرِينَ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ عَنِ الإِْمَامِ: أَنَّ الصِّحةَ نَاجِزَةٌ وَالْمُتَوَقِّفَ عَلَى الإِْجَازَةِ هُوَ الْمِلْكُ.
الثَّانِيَةُ: بَيْعُ مَال مُوَرِّثِهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ، وَهُوَ وَقْفُ تَبَيُّنٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ فِي ثَانِي الْحَال فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَلاَ خِيَارَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ وَهِيَ مَا إِذَا غَصَبَ أَمْوَالاً وَبَاعَهَا وَتَصَرَّفَ فِي أَثْمَانِهَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ تَتَبُّعُهَا بِالنَّقْضِ فَفِي قَوْلٍ
__________
(1) المنثور 3 / 338 - 345.(39/334)
عِنْدَهُمْ: لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ وَيَأْخُذَ الْحَاصِل مِنْ أَثْمَانِهَا (1) .
16 - وَتَنْحَصِرُ التَّصَرُّفَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:
وَضَبَطَ الإِْمَامُ الْوَقْفَ الْبَاطِل فِي الْعُقُودِ بِتَوَقُّفِ الْعَقْدِ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ.
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ السِّتَّةُ هِيَ:
الأَْوَّل: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُول شَرْطٍ بَعْدَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ لأَِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
الثَّانِي: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَبْيِينٍ وَانْكِشَافٍ سَابِقٍ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَبَيْعِ مَال أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ.
وَأَلْحَقَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: مَا إِذَا بَاعَ الْعَبْدَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مُكَاتَبٌ وَكَانَ قَدْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، أَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ يَصِحُّ فِي الأَْصَحِّ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل: أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول وَأَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلاً قَبْل بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 340 - 341، ومغني المحتاج 2 / 15.(39/335)
الثَّالِثُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى انْقِطَاعِ تَعَدِّي فَقَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ الإِْبْطَال كَبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ ثُمَّ يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَكِّ إِنْ وُجِدَ نَفَذَ وَإِلاَّ فَلاَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل: فَهُوَ وَقْفُ تَبْيِينٍ.
وَالرَّابِعُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى ارْتِفَاعِ حَجْرٍ حُكْمِيٍّ خَاصٍّ كَأَنْ يُقِيمَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يُعَدَّلاَ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْجُرُ عَلَى السَّيِّدِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَى التَّعْدِيل، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى قَوْل الْوَقْفِ فِي صُورَةِ الْمُفْلِسِ كَمَا سَبَقَ، بَل أَوْلَى لأَِنَّهَا أَخَصُّ مِنْهَا لِوُجُودِ الْحَجْرِ هُنَا عَلَى الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ.
الْخَامِسُ: مَا تَوَقَّفَ لأَِجْل حَجْرٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ الْحَاكِمِ وَفِيهِ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ فِيهَا، وَفِيهَا قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَارِثُ صَحَّتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.
ثَانِيَتُهَا: إِذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ وَبَاقِي الْمَال غَائِبٌ فَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي(39/335)
ثُلُثَيِ الْحَاضِرِ ثُمَّ بَانَ تَلَفُ الْغَائِبِ فَأَلْحَقهَا الرَّافِعِيُّ بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ فَأَلْحَقَهَا بِبَيْعِ مَال مُوَرِّثِهِ يَظُنُّ حَيَاتَهُ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لأَِنَّ التَّصَرُّفَ هُنَا صَادَفَ مِلْكَهُ فَهِيَ بِبَيْعِ الاِبْنِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفُضُولِيِّ.
السَّادِسُ: مَا تَوَقَّفَ لأَِجْل حَجْرٍ وَضْعِيٍّ أَيْ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي يُجِيزُ وَقْفَ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الاِنْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ، وَأَلْحَقَهُ الإِْمَامُ بِبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ.
هَذَا وَأَنَّ الْوَقْفَ الْمُمْتَنِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الاِبْتِدَاءِ دُونَ الاِسْتِدَامَةِ، لِهَذَا قَالُوا: لَوِ ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ بَانَتْ، وَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِ مُرْتَدَّةٍ
وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْقَى الْمِلْكُ مَوْقُوفًا فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا عَلَى الأَْصَحِّ.
وَمِلْكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْل الْقَبُول الأَْصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، إِنْ قَبِل تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ.(39/336)
وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ مَالَهُ، فَإِنْ تَابَ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُل وَإِنْ قُتِل حَدًّا أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ زَال مِنْ حِينِ الاِرْتِدَادِ (1) .
ثَالِثًا - الْمَوْقُوفُ مِنَ الأَْحَادِيثِ
17 - وَهُوَ مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ وَنَحْوِهَا فَيُوقَفُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ إِنَّ مِنْهُ مَا يَتَّصِل الإِْسْنَادُ فِيهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الْمَوْصُول، وَمِنْهُ مَا لاَ يَتَّصِل إِسْنَادُهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ غَيْرِ الْمَوْصُول عَلَى حَسَبِ مَا عُرِفَ مِثْلُهُ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 339 وما بعدها.
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 41 - 42.(39/336)
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى، وَالْعَتَاقَةُ.
وَالْمَوْلَى: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ، وَعَلَى الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَالْحَلِيفِ: وَهُوَ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ، وَعَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِيَدِهِ شَخْصٌ (1) .
أَمَّا الْعَتَاقَةُ لُغَةً: فَهِيَ مِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَتَاقَةً، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: خَرَجَ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ (2) .
وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ أَوْ مُبَعَّضٌ، بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّزٍ اسْتِقْلاَلاً، أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ ضِمْنًا كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَأَجَابَهُ، أَوْ كِتَابَةً مِنْهُ وَتَدْبِيرًا وَاسْتِيلاَدًا
__________
(1) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.(39/337)
أَوْ قَرَابَةً كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ.
وَوَلاَءُ الْعَتَاقَةِ يُسَمَّى أَيْضًا وَلاَءَ نِعْمَةٍ، لأَِنَّ الْمُعْتِقَ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ حَيْثُ أَحْيَاهُ حُكْمًا.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالإِْعْتَاقِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَوْلَى الْمُوَالاَةِ:
2 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ هُوَ شَخْصٌ مَجْهُول النَّسَبِ آخَى مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَوَالاَهُ، فَقَال: إِنْ جَنَتْ يَدِيَّ جِنَايَةً تَجِبُ دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِك، وَإِنْ حَصَل لِي مَالٌ فَهُوَ لَك بَعْدَ مَوْتِي.
وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ: مُوَالاَةً، وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ النَّسَبِ: مَوْلَى الْمُوَالاَةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
ثُبُوتُ الْوَلاَءِ بِالْعِتْقِ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّرٍ، إِمَّا اسْتِقْلاَلاً
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 506، وتبيين الحقائق 5 / 175، وبدائع الصنائع 4 / 160، وكشاف القناع 4 / 498.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.(39/337)
أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ بِفَرْعٍ مِنَ الإِْعْتَاقِ كَكِتَابَةٍ، وَتَدْبِيرٍ وَاسْتِيلاَدٍ، أَوْ بِمِلْكِ قَرِيبٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ وَلاَؤُهُ، وَيُسَمَّى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَكَفَّارَةٍ عَنْ قَتْلٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، أَوْ عَنْ إِيلاَءٍ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ عَنْ نَذْرٍ، فَلَهُ وَلاَؤُهُ أَيْضًا (1) . لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (2) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (3) وَعَنِ الْحَسَنِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلاَءُ (4) وَوَرَدَ: أَنَّ رَجُلاً مَاتَ عَلَى عَهْدِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 160، وتبيين الحقائق 5 / 175، ومغني المحتاج 4 / 506، وكشاف القناع 4 / 498.
(2) حديث: " الولاء لمن أعتق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 185 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1141 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". أخرجه الحاكم (4 / 341) والبيهقي في السنن الكبرى (10 / 292) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " الميراث للعصبة. . . ". أخرجه سعيد بن منصور في السنن (1 / 75 - ط علمي برس) من حديث الحسن مرسلاً.(39/338)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ (1) . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَرِثُ عَتِيْقَهُ، إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ.
تَرْتِيبُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الإِْرْثِ
4 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ فِي التَّوْرِيثِ عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَمْ تُوجَدْ عَصَبَةُ النَّسَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمُؤَخَّرٌ عَنِ الْعَصَبَةِ النَّسَبِيَّةِ (2) .
فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَمَوْلاَهُ: فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلاَهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلاَهُ: فَالْمَال لِمَوْلاَهُ دُونَ ذِي رَحِمِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: تَقْدِيمُ ذَوِي الأَْرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، قَال ابن قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ
__________
(1) حديث: " أن رجلاً مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 423) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: حديث حسن.
(2) بدائع الصنائع 4 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 175، 6 / 238، 246، والدسوقي 4 / 467، 416، ومغني المحتاج 4 / 506، 3 / 4، 20، والمغني لابن قدامة 6 / 348 - 349.(39/338)
يَحْتَجُّونَ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .
وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أَوْ ذُو فَرْضٍ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، فَلاَ شَيْءَ لِلْمَوْلَى.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) .
وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، لأَِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلاَءِ بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَلاَءِ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 63 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثُبُوتُ الْوَلاَءِ لِلْكَافِرِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلاَءَ يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا.
__________
(1) حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 11 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1233 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) بدائع الصنائع 4 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 175، 6 / 238، 246، والدسوقي 4 / 416، 467، ومغني المحتاج 3 / 4، 20، 4 / 506، والمغني لابن قدامة 6 / 348 - 349.(39/339)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّوَارُثِ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِ دِينِهِمَا بِحَدِيثِ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ (1) ، وَلأَِنَّهُ مِيرَاثٌ فَيَمْنَعُهُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ فَمَنَعَ الْمِيرَاثَ بِالْوَلاَءِ كَالْقَتْل وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مَنَعَ الأَْقْوَى فَالأَْضْعَفُ أَوْلَى، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ الْوَلاَءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (2) فَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلاَءِ وَثُبُوتِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الإِْسْلاَمِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَينِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا - سَوَاءٌ مَلَكَهُ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ - أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ فَلاَ وَلاَءَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، بَل وَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَعُودُ لَهُ إِنْ أَسْلَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا فَمَالُهُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ قَرَابَةٌ عَلَى دِينِهِ،
__________
(1) حديث: " لا يرث المسلم الكافر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 50 ط السلفية) ومسلم (3 / 1233 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.(39/339)
فَإِنْ كَانَ لَهُ قَرَابَةٌ كُفَّارٌ فَالْوَلاَءُ لَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ الْوَلاَءُ لِسَيِّدِهِ الْمُسْلِمِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدٍ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 18) .
انْتِقَال الْوَلاَءِ
6 - لاَ يَصِحُّ مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَقْل الْوَلاَءِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، وَلاَ أَنْ يَأْذَنَ لِعَتِيقِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ يَشَاءُ، وَلاَ يَنْتَقِل الْوَلاَءُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَلاَ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ الْمَال بِالْوَلاَءِ مَعَ بَقَائِهِ لِلْمَوْلَى (2) . لِحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ وَقَال: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (3) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ (4) وَلأَِنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ فَلاَ يَنْتَقِل كَالْقَرَابَةِ (5) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 76، والدسوقي 4 / 415 - 416، ومغني المحتاج 4 / 506، والمغني 6 / 349 - 352.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.
(4) حديث: " لعن الله من تولى. . . ". أخرجه أحمد (1 / 309 - ط الميمنية) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 103 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح.
(5) المغني 6 / 352، والمصادر السابقة.(39/340)
عِتْقُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ وَلاَءَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ
7 - لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ لاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُل وَلاَؤُهُ وَلَمْ يَنْتَقِل كَنَسَبِهِ (1) لِخَبَرِ: مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ (2) وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (3) وَقَوْلِهِ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (4) .
فَكَمَا لاَ يَزُول نَسَبُ الإِْنْسَانِ وَلاَ يَنْتَقِل كَذَلِكَ لاَ يَزُول وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ أَهْل بَرِيرَةَ اشْتِرَاطَ وَلاَئِهَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَال صلى الله عليه وسلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ (5) يَعْنِي:
__________
(1) رد المحتار 5 / 174، والشرح الصغير 4 / 572، ومغني المحتاج 4 / 507، وكشاف القناع 4 / 498، والمغني 6 / 452 - 353.
(2) حديث: " ما كان من شرط ليس في كتاب الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 326 ط السلفية) ومسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " الولاء لمن أعتق ". سبق تخريجه ف 3.
(4) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.
(5) حديث: " اشتريها واشترطي. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي) .(39/340)
أَنَّ اشْتِرَاطَ تَحْوِيل الْوَلاَءِ لاَ يُفِيدُ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلاَمًا لِي وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً، فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالاً. فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَهْل الإِْسْلاَمِ لاَ يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نِعْمَتِهِ، فَإِنْ تَحَرَّجْتَ مِنْ شَيْءٍ فَأَدْنَاهُ نَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَال (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَعْتَقَ الرَّجُل عَبْدَهُ سَائِبَةً، كَأَنْ يَقُول: قَدْ أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَءٌ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ وَسَلَّمَهُ، وَقَال أَحْمَدُ: قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّائِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِيَوْمِهَا وَمَتَى قَال الرَّجُل لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَءٌ، فَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ مَالاً وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا اشْتُرِيَ بِمَالِهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ قَال: أَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَبْدًا سَائِبَةً، فَمَاتَ، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِمَالِهِ رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ وَوَلاَؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
__________
(1) أثر: " أن رجلاً جاء إلى عبد الله. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 300 ط دائرة المعارف) ، وأخرجه البخاري مختصرًا ونصه عن عبد الله بن مسعود: " إن أهل الإسلام لا يسيّبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيّبون " (فتح الباري 12 / 40 ط السلفية) . وانظر: كشاف القناع 4 / 498، والمصادر السابقة.
(2) المغني 6 / 353.(39/341)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَائِبَةٌ ف 3) .
الْمِيرَاثُ بِالْوَلاَءِ
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ لاَ عَصَبَةَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلَهُ مُعْتِقٌ فَمَالُهُ وَمَا لَحِقَ بِهِ - أَوِ الْفَاضِل مِنْهُ بَعْدَ الْفُرُوضِ أَوِ الْفَرْضِ - لَهُ، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (1) . وَلأَِنَّ الإِْنْعَامَ بِالإِْعْتَاقِ مَوْجُودٌ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فَاسْتَوَيَا فِي الإِْرْثِ بِهِ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقٌ فَلِعَصَبَتِهِ: أَيِ الْمُعْتِقِ (2) .
وَتَرْتِيبُهُمْ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ وَإِنْ عَلاَ.
وَلَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ أَخَا الْمُعْتِقِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ وَابْنَ أَخِيهِ يُقَدَّمَانِ عَلَى جَدِّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْبُنُوَّةَ أَقْوَى مِنَ الأُْبُوَّةِ.
وَإِنَّمَا خَالَفُوا فِي النَّسَبِ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْخَ لاَ يُسْقِطُ الْجَدَّ،
__________
(1) حديث: " إنما الولاء لمن أعتق ". سبق تخريجه ف 3.
(2) رد المحتار 5 / 74 - 75، والدسوقي 4 / 420، ومغني المحتاج 3 / 20، والمغني 6 / 374.(39/341)
وَلاَ إِجْمَاعَ فِي الْوَلاَءِ فَصَارُوا إِلَى الْقِيَاسِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 51) .
إِرْثُ النِّسَاءِ بِالْوَلاَءِ
9 - لاَ يَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلاَءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ مُنْتَمِيًا إِلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ وَلاَءٍ لِحَدِيثِ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ، أَوْ دَبَّرْنَ أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ، أَوْ جَرَّ وَلاَءَ مُعْتَقِهِنَّ (2) .
وَلأَِنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُعْتِقِ حَصَل مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَتْ مُحْيِيَةً لَهُ فَيُنْسَبُ الْمُعْتَقُ بِالْوَلاَءِ إِلَيْهَا.
فَإِنْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ عَتِيقُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ عَاصِبًا ذَكَرًا فَإِرْثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ حَقَّ لِبَنَاتِهِ وَلاَ لأَِخَوَاتِهِ انْفَرَدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ، فَلَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا
__________
(1) الدسوقي 4 / 420، ومغني المحتاج 3 / 20 - 21.
(2) حديث: " ليس للنساء من الولاء إلاَّ ما أعتقن. . . ". ذكره الزيلعي في نصب الراية (4 / 154 ط المكتب الإسلامي) وقال: غريب. وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (10 / 306 ط دائرة المعارف) ، عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت أنهم كانوا يجعلون الولاء للكبر من العصبة، ولا يورثون النساء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن.(39/342)
فَمَا تَرَكَهُ الْعَتِيقُ لاَبْن مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلاَ شَيْءَ لِلْبِنْتِ.
وَكَذَا إِنْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ وَبِنْتَ صُلْبٍ أَخَذَ ابْنُ الْعَمِّ الْمَال وَلاَ شَيْءَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ (1) .
حُقُوقٌ أُخْرَى تَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
10 - يَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلاَيَةُ الصَّلاَةِ عَلَى عَتِيقِهِ، وَوِلاَيَةُ النِّكَاحِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الْقُصَّرِ، وَعَلَيْهِ الْعَقْل عَنْهُ (2)
__________
(1) المصادر السابقة، وتبيين الحقائق 5 / 178.
(2) تبيين الحقائق 5 / 178، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 428، 4 / 417، ومغني المحتاج 1 / 347، 3 / 151، 4 / 96.(39/342)
مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى، وَالْمُوَالاَةُ.
وَالْمَوْلَى مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلاَءِ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَيُطْلَقُ الْمَوْلَى عَلَى: ابْنِ الْعَمِّ وَعَلَى الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَعَلَى الْمُعْتَقِ (بِالْفَتْحِ) ، وَالْمُعْتِقِ (بِالْكَسْرِ) ، وَعَلَى الْحَلِيفِ، وَالنَّاصِرِ (1) .
وَالْمُوَالاَةُ لُغَةً: مَصْدَرٌ لِلْفِعْل وَالَى، يُقَال: وَالاَهُ مُوَالاَةً وَوَلاَءً، مِنْ بَابِ قَاتَل: تَابَعَهُ.
وَمَوْلَى الْمُوَالاَةِ اصْطِلاَحًا هُوَ: أَنْ يُؤَاخِيَ شَخْصٌ مَجْهُول النَّسَبِ شَخْصًا مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَيُوَالِيَ مَعَهُ، كَأَنْ يَقُول: أَنْتَ مَوْلاَيَ تَرِثُنِي إِذَا مُتُّ، وَتَعْقِل عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ، وَقَال الآْخَرُ: قَبِلْتُ. أَوْ يَقُول: وَالَيْتُكَ، فَيَقُول: قَبِلْتُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الإِْرْثَ وَالْعَقْل فِي الْعَقْدِ،
__________
(1) المصباح المنير، ورد المحتار 5 / 75، والبحر الرائق 8 / 73، وقواعد الفقه للبركتي.(39/343)
وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ " مُوَالاَةً " وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ النَّسَبِ: " مَوْلَى الْمُوَالاَةِ " (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
2 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ هُوَ: مَنْ لَهُ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ أَوْ مُبَعَّضٌ بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّزٍ اسْتِقْلاَلاً، أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ ضِمْنًا كَقَوْل الرَّجُل لآِخَرَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَأَجَابَهُ الآْخَرُ، أَوْ بِكِتَابَةٍ مِنْهُ، أَوْ تَدْبِيرٍ، أَوْ بِاسْتِيلاَدٍ أَوْ قَرَابَةٍ كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَمَوْلَى الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِبَقَاءِ الْمِيرَاثِ لِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ:
مِيرَاثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) المصباح المنير، وشرح السراجية ص 9 ط مصطفى الحلبي، وقواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(2) تبيين الحقائق 5 / 175، وبدائع الصنائع 4 / 160، ومغني المحتاج 4 / 504، وكشاف القناع 2 / 498.(39/343)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّورِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالاَةِ لَيْسَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ، وَمَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، فَإِذَا أَسْلَمَ شَخْصٌ مُكَلَّفٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَوَالاَهُ، وَعَاقَدَهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ، كَأَنْ يَقُول: أَنْتَ مَوْلاَيَ تَرِثُنِي إِذَا مُتُّ وَتَعْقِل عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ، فَيَقُول الآْخَرُ: قَبِلْتُ، صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ، فَيَرِثُهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ ذِكْرِ الإِْرْثِ وَالْعَقْل، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِ وَإِرْثُهُ لَهُ.
وَكَذَا لَوْ شُرِطَ الإِْرْثُ وَالْعَقْل مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيَرِثُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَهُ (2) .
وَلِكُلٍّ أَدِلَّتُهُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ ف 52) .
شُرُوطُ اعْتِبَارِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ
4 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 593، وشرح المحلي على هامش القليوبي وعميرة 3 / 137، والمغني 6 / 381.
(2) رد المحتار، وحاشية ابن عابدين 5 / 78، وتبيين الحقائق 5 / 178 وما بعده.(39/344)
أ - أَنْ يُذْكَرَ الْمِيرَاثُ وَالْعَقْل فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ شُرِطَ الإِْرْثُ وَالْعَقْل مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ كَذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُمْكِنٌ، فَيَتَوَارَثَانِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَهَذَا مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ وَلاَءُ عَتَاقَةٍ، وَلاَ وَلاَءُ مُوَالاَةٍ قَدْ عَقَل عَنْهُ، فَإِنْ عَقَل عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ الاِنْتِقَال لِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ بِالْعَقْل عَنْهُ.
د - أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً، فَلَوْ عَقَدَ مَعَ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ أَوْ مَعَ عَبْدٍ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَْبِ وَالسَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ الأَْبُ صَحَّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ لِلصَّبِيِّ، كَمَا يَصِحُّ عَقْدُهُ مَعَ الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ لِلسَّيِّدِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ وَكِيلاً عَنْهُ فِي عَقْدِهِ.
هـ - أَنْ لاَ يَكُونَ عَرَبِيًّا وَلاَ مَوْلَى عَرَبِيٍّ،
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 179 - 180، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 186 - 187، وابن عابدين 5 / 78 - 79.(39/344)
لأَِنَّ تَنَاصُرَ الْعَرَبِ بِالْقَبَائِل فَأَغْنَى عَنِ الْمُوَالاَةِ.
و أَنْ لاَ يَكُونَ عَقَل عَنْهُ بَيْتُ الْمَال، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ وَلاَؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَمْلِكُ تَحْوِيلَهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا الإِْسْلاَمُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالاَةُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ وَعَكْسُهُ، وَالذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّ وَإِنْ أَسْلَمَ الأَْسْفَل، لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ كَالْوَصِيَّةِ فِي صِحَّتِهَا مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ، لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ، بِخِلاَفِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لاَ يَرِثُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ (1) .
الاِنْتِقَال عَنِ الْمَوْلَى إِلَى الْغَيْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ
5 - يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الاِنْتِقَال مِنْ مُوَالاَةِ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ بِمَحْضَرِ مِنَ الآْخَرِ مَا لَمْ يَعْقِل عَنْهُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لاَزِمٍ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ الآْخَرُ غَائِبًا لاَ يَمْلِكُ فَسْخَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لاَزِمٍ، لأَِنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، وَلاَ يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ، لأَِنَّهُ قَدْ يَمُوتُ الأَْسْفَل فَيَكُونُ الأَْعْلَى أَخَذَ مَالَهُ مِيرَاثًا فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 79، والبدائع 4 / 171.(39/345)
أَوْ يَعْتِقُ الأَْسْفَل عَبِيدًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّ عَقْل عَبِيدَهُ عَلَى الْمَوْلَى الأَْعْلَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِك، فَلاَ يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلاَّ بِمَحْضَرٍ مِنَ الآْخَرِ.
وَإِنْ عَاقَدَ الأَْسْفَل الْمُوَالاَةَ مَعَ غَيْرِ مَوْلاَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الأَْوَّل تَصِحُّ الْمُوَالاَةُ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ الأَْوَّل لأَِنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ، كَمَا فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَلاَءَ كَالنَّسَبِ، إِذَا ثَبَتَ مِنْ شَخْصٍ يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً.
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي هَذَا لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَعْقِل عَنْهُ، فَإِنْ عَقَل عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ التَّحَوُّل إِلَى غَيْرِهِ لِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَلِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهِ، وَلاِتِّصَال الْقَضَاءِ بِهِ، وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ التَّحَوُّل قَبْل أَنْ يَعْقِل عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ وَعَقْل جِنَايَتِهِ، فَإِذَا عَقَل عَنْهُ صَارَ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لاَ يَتَحَوَّل وَلَدُهُ بَعْدَ مَا تَحَمَّل الْجِنَايَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا إِذَا عَقَل عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ وَلاَ لِلأَْبِ أَنْ يَتَحَوَّل إِلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 179 - 181، والبحر الرائق 8 / 78 - 79، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 186 - 187، وابن عابدين 5 / 78 - 79.(39/345)
تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الْمُوَالاَةِ
6 - إِنْ وَالَتِ امْرَأَةٌ فَوَلَدَتْ تَبِعَهَا الْوَلَدُ فِي الْمُوَالاَةِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا مَوْلاَةُ فُلاَنٍ - وَمَعَهَا صَغِيرٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ - صَحَّ إِقْرَارُهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَيَصِيرَانِ مَوْلًى لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَلاَءَ كَالنَّسَبِ، وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ فَتَمْلِكُهُ الأُْمُّ كَقَبُول الْهِبَةِ.
وَقَال صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الصُّورَتَيْنِ، لأَِنَّ الأُْمَّ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا فِي مَالِهِ، فَلأَِنْ لاَ يَكُونَ لَهَا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى (1) .
إِرْثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
7 - يَرِثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ بِالْعُصُوبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ وَارِثٍ سِوَاهُ، فَيُؤَخَّرُ فِي الإِْرْثِ عَنِ الْعَصَبَةِ بِأَقْسَامِهَا الثَّلاَثَةِ: الْعَصَبَةُ بِالنَّفْسِ، وَالْعَصَبَةُ بِالْغَيْرِ، وَالْعَصَبَةُ مَعَ الْغَيْرِ.
كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، لأَِنَّ تَوْرِيثَ
__________
(1) المراجع السابقة.(39/346)
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ بِالإِْجْمَاعِ، وَفِي تَوْرِيثِ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ خِلاَفٌ.
وَيُؤَخَّرُ أَيْضًا عَنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، لأَِنَّ عَقْدَ الْمُوَالاَةِ عَقْدُهُمَا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِمَا، وَذَوُو الأَْرْحَامِ وَارِثُونَ شَرْعًا فَلاَ يَمْلِكَانِ إِبْطَالَهُ.
وَإِذَا مَاتَ الأَْعْلَى ثُمَّ الأَْسْفَل فَإِنَّمَا يَرِثُهُ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلاَدِ الأَْعْلَى دُونَ الإِْنَاثِ (1) .
__________
(1) المراجع السابقة.(39/346)
مَوْلُودٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْلُودُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْوِلاَدَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَوْلُودُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ.
وَالْوَلَدُ: كُل مَا وَلَدَهُ شَيْءٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّقْطُ
2 - السِّقْطُ فِي اللُّغَةِ: الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ قَبْل تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ (3) ، يُقَال: سَقَطَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلاَ يُقَال: وَقَعَ، فَهُوَ سِقْطٌ بِكَسْرِ السِّينِ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، وتاج اللغة.(39/347)
وَضَمِّهَا، وَفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ أَسْلَمُ وَأَكْثَرُ (1) .
وَالسِّقْطُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْوَلَدُ لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَقِيل: الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْلُودِ وَالسِّقْطِ: أَنَّ الْمَوْلُودَ يُولَدُ بَعْدَ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل، وَأَمَّا السِّقْطُ فَيَنْزِل قَبْل تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْلُودِ:
عَلاَمَاتُ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ
3 - عَلاَمَاتُ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ هِيَ كُل مَا دَل عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ رَضَاعٍ، أَوِ اسْتِهْلاَلٍ، أَوْ حَرَكَةٍ، أَوْ سُعَالٍ، أَوْ تَنَفُّسٍ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَيَاةٌ ف 16، وَاسْتِهْلاَلٌ ف 2 - 9، وَتَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 25) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ظُهُورِ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ آثَارٌ شَرْعِيَّةٌ عَدِيدَةٌ أَهَمُّهَا: ثُبُوتُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لَهُ.
وَيُقْصَدُ بِأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لأَِنْ تَكُونَ لَهُ حُقُوقُ قِبَل غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 588 الطبعة الثانية 1386 هـ - 1966 م.(39/347)
لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ بِوَاسِطَةٍ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِ. وَمَنَاطُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ الْحَيَاةُ، فَتَثْبُتُ لِكُل إِنْسَانٍ حَيٍّ، وَتَسْتَمِرُّ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا تُوُفِّيَ زَايَلَتْهُ (1) .
فَإِذَا مَاتَ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ إِنْ قُتِل (2) .
وَبِوِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ يَقَعُ الْمُعَلَّقُ مِنَ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهِمَا بِوِلاَدَتِهِ (3) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَهْلِيَّةٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ وَتَحْنِيكُهُ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى حِينَ يُولَدُ، وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى، وَكَذَلِك يُسْتَحَبُّ تَحْنِيكُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (أَذَانٌ ف 51، وَتَحْنِيكٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1360 - 1368، والتلويح والتوضيح في أصول الفقه 2 / 164، وشرح المنار لابن ملك ص 30 وما بعدها، وشرح السراجية ص 216 وما بعدها، والمغني 7 / 198 - 200 ط 1403 هـ - 1983 م.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 134، والمغني 7 / 198 - 200.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 303.(39/348)
حَلْقُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ حَلْقُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ وَالتَّصَدُّقُ بِوَزْنِ الشَّعْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَلْقٌ ف 5) .
تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَسْمِيَةٌ فُ 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْمَوْلُودِ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُولَدُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ تُخْرَجُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
أَمَّا مَنْ وُلِدَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَبْل طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُ تَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8) .
خِتَانُ الْمَوْلُودِ
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِتَانِ الْمَوْلُودِ:
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ خِتَانَ الذَّكَرِ سُنَّةٌ،(39/348)
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ.
أَمَّا الأُْنْثَى فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّهُ مَكْرُمَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي وَقْتِ خِتَانِ الْمَوْلُودِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِتَانٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَثْقِيبُ أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ
9 - اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَثْقِيبِ أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ لأَِجْل تَعْلِيقِ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ فِيهِمَا.
فَقَال بَعْضُهُمْ بِالْجَوَازِ، وَقَال آخَرُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَفَرَّقَ غَيْرُهُمْ بَيْنَ الصَّبِيِّ فَحَرَّمَهُ وَالصَّبِيَّةِ فَأَجَازَهُ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: لاَ أَدْرِي رُخْصَةً فِي تَثْقِيبِ أُذُنِ الصَّبِيَّةِ لأَِجْل تَعْلِيقِ حُلِيِّ الذَّهَبِ، أَوْ نَحْوِهِ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحٌ مُؤْلِمٌ، وَمِثْلُهُ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْخِتَانِ، وَالتَّزَيُّنِ بِالْحُلِيِّ غَيْرُ مُهِمٍّ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا فَهُوَ حَرَامٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالأُْجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 296، حاشية عميرة على شرح المحلي للمنهاج 4 / 211، نهاية المحتاج 8 / 30 - 31.(39/349)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَثْقِيبَ آذَانِ الْبَنَاتِ لِلزِّينَةِ جَائِزٌ وَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَيُكْرَهُ لِلصِّبْيَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الأُْنْثَى مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ، فَثَقْبُ الأُْذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ، كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَثْقُبُونَ آذَانَ الصِّبْيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَزَيُّنٌ ف 18) .
إِرْضَاعُ الْمَوْلُودِ إِلَى تَمَامِ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ الطِّفْل مَا دَامَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَفِي مُدَّتِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رَضَاعٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
حَضَانَةُ الْمَوْلُودِ
11 - حَضَانَةُ الْمَوْلُودِ وَاجِبَةٌ شَرْعًا، لأَِنَّ الْمَحْضُونَ قَدْ يَهْلِكُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ مِنَ الْهَلاَكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَةٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) تحفة المولود ص 147، وحاشية ابن عابدين 5 / 249، وفتح القدير 10 / 331، والقليوبي وعميرة 4 / 211.(39/349)
نَفَقَةُ الْمَوْلُودِ
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ - ذُكْرَانًا أَوْ إِنَاثًا - عَلَى الأَْبِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَكَانَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ فِي الدِّينِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الأَْبُ وَلَهُ أَوْلاَدٌ صِغَارٌ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِمْ تَبَعًا لأَِبِيهِمْ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ الصِّغَارِ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ عِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِسْلاَمَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ يَسْتَتْبِعُ الْحُكْمَ بِإِسْلاَمِ الأَْحْفَادِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الأَْبُ حَيًّا كَافِرًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِسْلاَمٌ ف 25، 26) .
بَوْل الْمَوْلُودِ
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ
__________
(1) الهداية 1 / 42 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الدسوقي 2 / 524 وما بعدها، وحاشيتا القليوبي وعميرة 4 / 84 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 582 وما بعدها.(39/350)
إِذَا أَكَلاَ الطَّعَامَ وَبَلَغَا عَامَيْنِ فَإِنَّ بَوْلَهُمَا نَجِسٌ كَنَجَاسَةِ بَوْل الْكَبِيرِ.
أَمَّا بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا لَمْ يَأْكُلاَ الطَّعَامَ وَكَانَا فِي فَتْرَةِ الرَّضَاعَةِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي وُجُوبِ التَّطَهُّرِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، فَبَوْل الصَّغِيرِ يُنْضَحُ بِالْمَاءِ وَبَوْل الصَّغِيرَةِ يَجِبُ غَسْلُهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِغَرٌ ف 26) .
حُكْمُ رِيقِ وَلُعَابِ الْمَوْلُودِ
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى طَهَارَةِ رِيقِ الإِْنْسَانِ مُطْلَقًا (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: رِيقُ الْمَوْلُودِ وَلُعَابُهُ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَقَدْ عَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ الطِّفْل يَقِيءُ كَثِيرًا، وَلاَ يُمْكِنُ غَسْل فَمِهِ، وَلاَ يَزَال رِيقُهُ يَسِيل عَلَى مَنْ يُرَبِّيهِ، وَلَمْ يَأْمُرِ الشَّارِعُ بِغَسْل الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ مَنَعَ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَلاَ أَمَرَ بِالتَّحَرُّزِ مِنْ رِيقِ الطِّفْل، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: هَذَا مِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 46، والزرقاني 1 / 24، وتحفة المحتاج 1 / 294، وكشاف القناع 1 / 194.(39/350)
النَّجَاسَةِ الَّتِي يُعْفَى عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ كَطِينِ الشَّوَارِعِ، وَالنَّجَاسَةِ بَعْدَ الاِسْتِجْمَارِ، وَنَجَاسَةِ أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ دَلْكِهِمَا بِالأَْرْضِ. . . بَل رِيقُ الطِّفْل يَطْهُرُ فَمُهُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا كَانَ رِيقُ الْهِرَّةِ مُطَهِّرًا لِفَمِهَا (1) ، وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي الإِْنَاءَ إِلَى الْهِرِّ حَتَّى يَشْرَبَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِك فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَوْتِ مَنِ اسْتَهَل
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَاسْتَهَل، بِأَنْ صَرَخَ وَظَهَرَ صَوْتُهُ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى حَيَاتِهِ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى، وَيُغَسَّل، وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ، وَيَرِثُ، وَيُورَثُ (3) . لِمَا رَوَى
__________
(1) تحفة المودود بأحكام المولود ص 154.
(2) حديث أبي قتادة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء إلى الهر. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1 / 246) .
(3) البحر الرائق 2 / 202، وفتح القدير 2 / 465، والدر المختار 1 / 828 - 830، والشرح الصغير 1 / 274، وبداية المجتهد 1 / 309، ومغني المحتاج 1 / 349، والمهذب 1 / 134، والمغني لابن قدامة 3 / 289، وكشاف القناع 2 / 116.(39/351)
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا اسْتَهَل الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ (1) ، وَلأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِْسْلاَمِ وَالْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ، فَغُسِل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا استهل الصبي ورث. . . ". أخرجه الحاكم (4 / 349) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) المهذب 1 / 134.(39/351)
مِيَاهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِيَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَاءٍ، وَالْمَاءُ مَعْرُوفٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَاءِ وَأَصْلُهُ مَوَهَ بِالتَّحْرِيكِ تَحَوَّلَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً.
وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاهٍ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَعَلَى مِيَاهٍ جَمْعَ كَثْرَةٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ بِهِ حَيَاةُ كُل نَامٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة 4 / 299 - 300 ط دار الكتب العلمية - بيروت.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 202 طبعة دار المعرفة - بيروت، وحاشية الرملي الكبير بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 5 ط دار إحياء الكتب العربية بمصر، وحاشية القليوبي 1 / 18 ط عيسى الحلبي بمصر، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 45 ط عيسى الحلبي 1 / 30 ط دار المعارف بمصر.(39/352)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّهَارَةُ
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَنْ غَسْل أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَّةٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيَاهِ وَالطَّهَارَةِ أَنَّ الْمِيَاهَ تَكُونُ وَسِيلَةً لِلطَّهَارَةِ.
أَقْسَامُ الْمِيَاهِ
يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْمِيَاهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
مُطْلَقٍ، وَمُسْتَعْمَلٍ، وَمُسَخَّنٍ، وَمُخْتَلَطٍ.
الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:
3 - الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلاَ قَيْدٍ (2) .
وَقِيل: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ (3) .
وَقَدْ أَجَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ (4) .
__________
(1) مختار الصحاح، والتعريفات للجرجاني.
(2) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 1 / 34 ط دار الفكر - بيروت، ومغني المحتاج 1 / 17.
(3) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار 1 / 17، 18 ط الشؤون الدينية بقطر.
(4) فتح القدير 1 / 68، 69، ومواهب الجليل 1 / 43 ط دار الفكر، وكفاية الأخيار 1 / 17، والروض المربع 1 / 11 ط دار الكتب العربية، والمغني 1 / 7، والمجموع 1 / 84.(39/352)
وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّهُورِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أَوْلاً: أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ جَاءَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ لِلْمُطَهِّرِ، وَمِنْ هَذَا:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) . فَقَوْلُهُ: (طَهُورًا) يُرَادُ بِهِ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، يُفَسِّرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) ، فَهَذِهِ الآْيَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالأُْولَى (3) .
ب - وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحَل لأَِحَدِ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) سورة الأنفال / 11.
(3) المجموع 1 / 85.(39/353)
إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً (1) .
فَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالطَّهُورِ الطَّاهِرُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِزْيَةٌ، لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُل أَحَدٍ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لإِِثْبَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَصَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ بِالتَّطَهُّرِ بِالتُّرَابِ (2) .
ج - وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا: جُعِلَتْ لِي كُل أَرْضٍ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا (3) .
فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ كُل أَرْضٍ طَيِّبَةٍ جُعِلَتْ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَالطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا: طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَتَحْصِيل الْحَاصِل بِالنِّسْبَةِ لَهُ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ (4) .
د - وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) حديث جابر: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 436) ومسلم (1 / 370 - 371) واللفظ للبخاري.
(2) الذخيرة 1 / 159، والمجموع 1 / 85، والمغني 1 / 7.
(3) حديث أنس: " جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا ". أخرجه ابن الجارود في المنتقى (ص 51) ، وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري (1 / 438) .
(4) فتح الباري 1 / 438 ط السلفية.(39/353)
التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَال: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (1) .
فَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَلَوْلاَ أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ، لَمْ يَحْصُل لَهُمُ الْجَوَابُ (2) .
ثَانِيًا: أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِل وَصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقُعُودٌ: لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَالطَّهُورُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الأَْسْمَاءِ اللاَّزِمَةِ (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ وَسُفْيَانَ وَأَبِي بَكْرِ الأَْصَمِّ وَابْنِ دَاوُدَ (4) .
وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (5) .
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ". أخرجه الترمذي (1 / 101) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) المجموع 1 / 85، والمغني 1 / 7.
(3) المغني 1 / 7.
(4) البحر الرائق 1 / 70، والمجموع 1 / 84
(5) سورة الإنسان / 21.(39/354)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْل الْجَنَّةِ لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثٍ وَلاَ نَجَسٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهُورِ هُوَ الطَّاهِرُ (1) .
ثَانِيًا: قَوْل جَرِيرٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ:
عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ
وَالرِّيقُ لاَ يُتَطَهَّرُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ (2) .
ثَالِثًا: وَالطَّهُورُ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّكُورِ وَالْغَفُورِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْغَافِرِ وَالشَّاكِرِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّهُورِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الطَّاهِرِ، وَلاَ تَكُونُ تِلْكَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ التَّطْهِيرِ لأَِنَّ فِي نَفْسِ الطَّهَارَةِ كِلْتَا الصِّفَّتَيْنِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ صِفَّةُ التَّطْهِيرِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، لاَ أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الْمُطَهَّر (3) .
أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ
4 - أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:
الأَْوَّل: مَاءُ السَّمَاءِ أَيِ النَّازِل مِنْهَا، يَعْنِي
__________
(1) البحر الرائق 1 / 70، والذخيرة 1 / 160، والمجموع 1 / 84.
(2) البحر الرائق 1 / 70، والمجموع 1 / 84 - 85.
(3) البحر الرائق 1 / 70، والكشاف للزمخشري 3 / 95 ط دار المعرفة - بيروت.(39/354)
الْمَطَرَ، وَمِنْهُ النَّدَى، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1) .
وَالثَّانِي: مَاءُ الْبَحْرِ وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَل رَجُلٌ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِل مَعَنَا الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (2) .
وَالثَّالِثُ: مَاءُ النَّهْرِ
وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْبِئْرِ وَالأَْصْل فِيهِ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلاَبِ وَالنَّتِنُ (أَيْ كَانَتْ تَجْرُفُهَا إِلَيْهَا السُّيُول مِنَ الطُّرُقِ وَالأَْفْنِيَةِ وَلاَ تُطْرَحُ فِيهَا قَصْدًا وَلاَ عَمْدًا فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". تقدم تخريجه ف 3.
(3) حديث أبي سعيد: " أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ . . . ". أخرجه الترمذي (1 / 95 - 96) وقال: حديث حسن.(39/355)
الْخَامِسُ: مَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يَنْبُعُ مِنَ الأَْرْضِ.
السَّادِسُ: مَاءُ الثَّلْجِ وَهُوَ مَا نَزَل مِنَ السَّمَاءِ مَائِعًا ثُمَّ جَمَدَ (1) ، أَوْ مَا يَتِمُّ تَجْمِيدُهُ بِالْوَسَائِل الصِّنَاعِيَةِ الْحَدِيثَةِ.
السَّابِعُ: مَاءُ الْبَرَدِ وَهُوَ مَا نَزَل مِنَ السَّمَاءِ جَامِدًا ثُمَّ مَاعَ عَلَى الأَْرْضِ، وَيُسمَّى حَبُّ الْغَمَامِ وَحَبُّ الْمُزْنِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ: حَدِيثُ أَبِي هُرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَال: أَحْسِبُهُ قَال: هُنَيَّةً -، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُول؟ قَال: أَقُول: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَال بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ،
__________
(1) المغني 1 / 18.
(2) مختار الصحاح، والمعجم الوجيز.
(3) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 227) .(39/355)
وَآخَرُ بِعَدِمِهَا، وَمِنْ قَائِلٍ بِصِحَّتِهَا وَآخَرُ بِعَدِمِ صِحَّتِهَا، وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ تَتَمَثَّل فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - مَاءُ الْبَحْرِ
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (1) .
يَقُول التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ (3) وَلأَِنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ فَيَقَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةُ التَّطَهُّرِ بِهِ (4) .
توى7 ثَانِيًا - مَاءُ الثَّلْجِ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 1 / 68، 69، ومواهب الجليل 1 / 46، ومغني المحتاج 1 / 17، والكافي 1 / 3.
(2) سنن الترمذي 1 / 101 - 102.
(3) الحديث سبق تخريجه ف 3.
(4) المجموع 1 / 90 - 91.(39/356)
ثَانِيًا - مَاءُ الثَّلْجِ
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَبْل الإِْذَابَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِالثَّلْجِ قَبْل الإِْذَابَةِ مَا لَمْ يَتَقَاطَرْ وَيَسِل عَلَى الْعُضْوِ.
يَقُول صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " يُرْفَعُ الْحَدَثُ مُطْلَقًا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ كَمَاءِ سَمَاءٍ وَأَوْدِيَةٍ وَعُيُونٍ وَآبَارٍ وَبِحَارٍ وَثَلْجٍ مُذَابٍ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ " (1) .
وَيَقُول صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَهُوَ - أَيِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ - مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلاَ قَيْدٍ وَإِنْ جُمِعَ مِنْ نَدًى أَوْ ذَابَ أَيْ تَمَيَّعَ بَعْدَ جُمُودِهِ كَالثَّلْجِ وَهُوَ مَا يَنْزِل مَائِعًا ثُمَّ يَجْمُدُ عَلَى الأَْرْضِ (2) .
وَيَقُول صَاحِبُ الْمُغْنِي (3) : الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ، لأَِنَّهُ مَاءٌ نَزَل مِنَ السَّمَاءِ،
__________
(1) الدر المختار بهامش حاشية الطحطاوي 1 / 102 ط دار المعرفة.
(2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 1 / 34، ويراجع: المجموع 1 / 81، 82.
(3) المغني 1 / 18.(39/356)
وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ (1) .
فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَمَرَّرَهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُل الطَّهَارَةُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَل بِهِ الْعُضْوُ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ الْغُسْل، وَأَقَل ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبُ، وَيَجْرِي مَاؤُهُ عَلَى الأَْعْضَاءِ فَيَحْصُل بِهِ الْغَسْل، فَيُجْزِئُهُ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ (2) .
يَقُول الطَّحْطَاوِيُّ: قَوْلُهُ (بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ (3) .
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِل وَيُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُول وَالْمَمْسُوحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى غَسْلاً وَلاَ فِي مَعْنَاهُ (4) .
__________
(1) حديث: " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ". تقدم تخريجه ف (5) .
(2) الدر المختار بحاشية الطحطاوي 1 / 102، والمجموع 1 / 82.
(3) حاشية الطحطاوي 1 / 102.
(4) المجموع 1 / 81، 82.(39/357)
الْقَوْل الثَّالِثُ: فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ سَيْل الثَّلْجِ عَلَى الْعُضْوِ لِشِدَّةِ حَرِّ وَحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَرَخَاوَةِ الثَّلْجِ، وَبَيْنَ عَدَمِ سَيْلِهِ. فَإِنْ سَال عَلَى الْعُضْوِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُول جَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى غَسْلاً، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِل لَمْ يَصِحَّ بِلاَ خِلاَفٍ فِي الْمَغْسُول، وَيَصِحُّ مَسْحُ الْمَمْسُوحِ مِنْهُ وَهُوَ الرَّأْسُ وَالْخُفُّ وَالْجَبِيرَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ (1) .
ثَالِثًا - مَاءُ زَمْزَمَ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَسِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي إِزَالَةِ الأَْحْدَاثِ، أَمَا فِي إِزَالَةِ الأَْنْجَاسِ فَيُكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا (2) .
__________
(1) المجموع 1 / 81، 82.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 179، 180 ط مصطفى الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 20، والمجموع 1 / 92، وحاشية العدوي 1 / 140 ط عيسى الحلبي.(39/357)
الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِعْمَال فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَمْ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا أَيْ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ يَغْتَسِل فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ حِلٌّ وَبِلٌّ (2) .
رَابِعًا - الْمَاءُ الآْجِنُ
8 - وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِطُول مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْء (3) ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ الآْسِنُ.
(ر: مُصْطَلَحُ آجِنٌ فِقْرَة 1، وَمُصْطَلَحُ طَهَارَةٍ فِقْرَة 10) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الآْجِنِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
__________
(1) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني بأعلى حاشية العدوي 1 / 139 ط عيسى الحلبي.
(2) منار السبيل شرح الدليل 1 / 10 - 11 ط المكتب الإسلامي. وأثر ابن عباس: " لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1 / 36.
(3) مختار الصحاح، والمغني 1 / 14.(39/358)
يَقُول صَاحِبُ مُلْتَقَى الأَْبْحُرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ وَالأَْوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَإِنْ غَيَّرَ طَاهِرٌ بَعْضَ أَوْصَافِهِ كَالتُّرَابِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالأُْشْنَانِ وَالصَّابُونِ أَوْ أَنْتَنَ بِالْمُكْثِ (1) .
وَيَقُول صَاحِبُ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلاَ يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِشَيْءِ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَالسَّمَكِ وَالَدُودِ وَالطُّحْلُبِ (بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا) ، وَكَذَا إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطُول مُكْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أُلْقِيَ فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ (2) .
وَيَقُول الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلاَ يُقَال الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطُول الْمُكْثِ أَوْ بِمُجَاوَرٍ أَوْ بِمَا يَعْسُرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، بَل هُوَ مُطْلَقٌ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ بِمَا يُتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنْهُ (4) .
وَنُقِل عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْقَوْل بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الآْجِنِ.
__________
(1) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1 / 27، 28.
(2) أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك بأعلى الشرح الصغير 1 / 49 ط عيسى الحلبي.
(3) حاشية الرملي بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 8.
(4) المجموع 1 / 91.(39/358)
يَقُول صَاحِبُ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِمَّا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لاَ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلاَفًا شَاذًّا رُوِيَ فِي الْمَاءِ الآْجِنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (1) .
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُكْثِ فَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ فَكَرِهَهُ (2) .
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل وَحُكْمِهِ وَذَلِك عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
9 - الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيل بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِل فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لإِِسْقَاطِ فَرْضٍ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِل لإِِقَامَةِ قُرْبَةٍ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل لإِِزَالَةِ الْحَدَثِ.
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 40، وجاء في مصنف ابن أبي شيبة 1 / 58 ط دار الفكر ما نصه: عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن.
(2) المجموع 1 / 91.(39/359)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْبَدَنِ (1) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوَ الصَّلاَةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُول الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا.
فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً بِلاَ خِلاَفٍ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ، وَهُمَا: إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَإِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْدِثٍ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَ الثَّلاَثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لاِنْعِدَامِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ.
ب - إِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل لِلتَّبَرُّدِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ لِوُجُودِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لِعَدَمِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِالاِتِّفَاقِ.
ج - إِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 89، 90.(39/359)
وَنَحْوِهِ لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ مُخَيَّرٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يُوجَدْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَلاَ إِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.
د - إِذَا غَسَل الأَْشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالأَْوَانِي وَالأَْحْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْحِنَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لاَ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً.
وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ بِطَهُورٍ لِحَدَثٍ بَل لِخَبَثٍ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ (1) .
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
10 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل:
هُوَ مَا اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَأَنَّ الْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ حَدَثٍ: هُوَ مَا تَقَاطَرَ مِنَ الأَْعْضَاءِ أَوِ اتَّصَل بِهَا أَوِ انْفَصَل عَنْهَا - وَكَانَ الْمُنْفَصِل يَسِيرًا - أَوْ غَسَل عُضْوَهُ فِيهِ (2) .
وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوِ اغْتِسَالاَتٍ مَنْدُوبَةٍ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلاَ يُكْرَهُ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 66، 67، والدر المختار ورد المحتار 1 / 134.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 41، 42.(39/360)
الأَْرْجَحِ اسْتِعْمَالُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْل إِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل قَلِيلاً كَآنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ، كَمَا أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ إِذَا صُبَّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ الْمُسْتَعْمَل مَاءٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلٌ مِثْلُهُ حَتَّى كَثُرَ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ لأَِنَّ مَا ثَبَتَ لِلأَْجْزَاءِ يَثْبُتُ لِلْكُل، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ نَفْيَهَا (1) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ آنِيَةِ الْغَسْل فَأَقَل الْمُسْتَعْمَل فِي حَدَثٍ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ لاَ حُكْمَ خَبَثٍ، وَأَنْ يَكُونَ الاِسْتِعْمَال الثَّانِي فِي رَفْعِ حَدَثٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل فِي حُكْمِ خَبَثٍ لاَ يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل فِي حَدَثٍ لاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حُكْمِ خَبَثٍ، وَالرَّاجِحُ فِي تَعْلِيل الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (3) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الشرح الصغير 1 / 56.
(3) الشرح الصغير 1 / 56، وأقرب المسالك 1 / 56، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 74 - 76.(39/360)
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
11 - الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَاءُ الْقَلِيل الْمُسْتَعْمَل فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عَنْ حَدَثٍ كَالْغَسْلَةِ الأُْولَى فِيهِ، أَوْ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، أَمَّا نَفْل الطَّهَارَةِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَالأَْصَحُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَهُورٌ (1) .
وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيل الَّذِي لاَ يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ.
فَيَرَوْنَ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، فَلاَ يَرْفَعُ حَدَثًا وَلاَ يُزِيل نَجَسًا لأَِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لاَ يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَلاَ عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.
فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِل فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ (2) .
وَلأَِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ - مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ - لَمْ يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل لِلاِسْتِعْمَال ثَانِيًا بَل انْتَقَلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ، كَمَا لَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ لأَِنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ.
__________
(1) المهذب 1 / 8.
(2) حديث جابر: " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 301) ، ومسلم (3 / 1235) .(39/361)
فَإِنْ جُمِعَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل، قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ الأَْصَحُّ: لأَِنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَإِنْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَل عَلَى الْجَدِيدِ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنَ الاِسْتِعْمَال، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَيْ وَلاَ تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا، فَالْمُسْتَعْمَل أَوْلَى، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَعُودُ طَهُورًا لأَِنَّ قَوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالاِسْتِعْمَال فَالْتَحَقَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ سُرَيْجٍ (2) .
وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل ضَرْبَانِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ النَّجَسِ.
فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، لأَِنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لاَقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ غُسِل بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ.
ثُمَّ قَال: وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي النَّجَسِ فَيُنْظَرُ فِيهِ:
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 21.
(2) مغني المحتاج 1 / 21.(39/361)
فَإِنِ انْفَصَل مِنَ الْمَحَل وَتَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (1) .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ لأَِنَّهُ مَاءٌ لاَ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْقَاسِمِ الأَْنْمَاطِيِّ لأَِنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ لاَقَى نَجَاسَةً، فَأَشْبَهَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْفَصَل وَالْمَحَل طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنِ انْفَصَل وَالْمَحَل نَجِسٌ، فَهُوَ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْل أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ لأَِنَّ الْمُنْفَصِل مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي فِي الْمَحَل: فَكَانَ حُكْمُهُ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ حُكْمَهُ (2) .
__________
(1) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 174) من حديث أبي أمامة، وذكر البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 131) أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(2) المهذب 1 / 8.(39/362)
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
12 - قَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَسٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لاَ يَرْفَعُ حَدَثًا وَلاَ يُزِيل نَجِسًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ.
أَمَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِ وَالْغُسْل لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لأَِنَّهُ طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ أَشَبَهَ مَا لَوِ اغْتَسَل بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَمْنَعُ الطُّهُورِيَّةَ لأَِنَّهُ لَمْ يَزَل مَانِعًا مِنَ الصَّلاَةِ أَشَبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا كَالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْوُضُوءِ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ أَوْ غَسَل بِهِ ثَوْبَهُ، وَلاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اسْتُعْمِل فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَغَسْل الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ(39/362)
قُلْنَا بِوُجُوبِهِ فَقَال القْاضِي: هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إِطْلاَقِهِ لأَِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ أَشَبَهَ الْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ قَبْل غَسْلِهَا (1) ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشَبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ (2) .
الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهَا.
أ - الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ (الْمُشَمَّسُ) :
13 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ اسْمَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: جِوَازُ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ
__________
(1) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم أن يغمس القائم من نوم الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 263) ومسلم (1 / 233) من حديث أبي هريرة.
(2) المغني 1 / 18 - 21.(39/363)
غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الاِسْتِعْمَال فِي الْبَدَنِ أَمْ فِي الثَّوْبِ.
وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِهِ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
يَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيِّ: وَيُكْرَهُ شَرْعًا تَنْزِيهًا الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ أَيْ مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ، أَيْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ: كَانَ يَكْرَهُ الاِغْتِسَال بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَقَال: يُورِثُ الْبَرَصَ (3) .
لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلاَدٍ حَارَّةٍ أَيْ تَقْلِبُهُ الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الأَْصْحَابِ فِي آنِيةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 42، والأم 1 / 3، والمغني 1 / 17 - 20، والمجموع 1 / 87، 89، والدر المختار بأعلى رد المحتار 1 / 27.
(2) مغني المحتاج 1 / 19.
(3) أثر عمر " أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس ". أخرجه الشافعي في الأم (1 / 3) ، وذكر ابن حجر في التلخيص (1 / 22) أن في إسناده راويًا ضعيفًا جدًا.(39/363)
النَّقْدَيْنِ وَهِيَ كُل مَا طُرِقَ كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُسْتَعْمَل فِي حَال حَرَارَتِهِ، لأَِنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِل مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ، فَإِذَا لاَقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُل الْبَرَصُ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: يُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ أَيِ الْمُسَخَّنُ بِالشَّمْسِ فِي الأَْقْطَارِ الْحَارَّةِ كَأَرْضِ الْحِجَازِ لاَ فِي نَحْوِ مِصْرَ وَالرُّومِ.
وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى قَوْل الدَّرْدِيرِ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ " وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ " بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ.
وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ طِبِّيَّةٌ لاَ شَرْعِيَّةٌ لأَِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ مِنْ إِكْمَال الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَاهَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ يُثَابُ تَارِكُهَا بِخِلاَفِ الطِّبِّيَّةِ (1) .
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: قَدَّمْنَا فِي مَنْدُوبَاتِ الْوُضُوءِ أَنَّ مِنْهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْحِلْيَةِ مُسْتَدِلًّا بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلِذَا صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ.
وَقَال فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَتُكْرَهُ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 16، وحاشية الدسوقي 1 / 44.(39/364)
الطَّهَارَةُ بِالْمُشَمَّسِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ سَخَّنَتِ الْمَاءَ بِالشَّمْسِ: لاَ تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ (1) ، وَفِي الْغَايَةِ: يُكْرَهُ بِالْمُشَمَّسِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ فِي أَوَانٍ مُنْطَبِعَةٍ (2) .
ب - الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِغَيْرِ الشَّمْسِ
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ لاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ التَّسْخِينُ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ وَإِنْ قَال بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ.
وَأَمَّا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ الإِْسْبَاغَ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَحَقَّقَ وُصُول شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ فَيُنَجِّسَهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا.
__________
(1) حديث: " لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص ". أخرجه الدارقطني (1 / 38) من حديث عائشة، وذكر أن فيه راويًا متروكًا، وقال: " غريب جدًا ".
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 180.
(3) الشرح الكبير 1 / 45، ونهاية المحتاج 1 / 71، ومغني المحتاج 1 / 19 - 20.(39/364)
وَالثَّانِي: أَلاَّ يُتَحَقَّقَ وُصُول شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْحَائِل غَيْرُ حَصِينٍ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْل الطَّهَارَةِ وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ.
الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْحَائِل حَصِينًا فَقَال الْقَاضٍي يُكْرَهُ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيل أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلاَفِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى الإِْطْلاَقِ (1) .
الْمَاءُ الْمُخْتَلِطُ:
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِطَاهِرٍ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِنَجَسٍ.
أَوَّلاً - حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ طَاهِرٌ - وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لِقِلَّتِهِ - لَمْ يَمْنَعِ الطَّهَارَةَ بِهِ، لأَِنَّ الْمَاءَ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ - كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُول مِنَ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ
__________
(1) المغني 1 / 17 - 18.(39/365)
وَنَحْوِهِ كَالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ - فَتَغَيَّرَ بِهِ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ، لأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ (1) .
أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ - كَزَعْفَرَانٍ وَصَابُونٍ وَنَحْوِهِمَا - فَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقُ الأَْوَّل: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرَوْنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّغْيِيرُ عَنْ طَبْخٍ، أَوْ عَنْ غَلَبَةِ أَجْزَاءِ الْمُخَالِطِ حَتَّى يَصِيرَ ثَخِينًا. قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ، وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الصَّابُونُ أَوِ الأُْشْنَانُ. . . إِلَى أَنْ يَقُول:
وَلاَ يَجُوزُ - أَيِ التَّطَهُّرُ - بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ، كَالأَْشْرِبَةِ وَالْخَل وَمَاءِ الْبَاقِلاَّ، لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَغَيْرِهِ: مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَنَقَل عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ وَالْمَيْمُونِيُّ
__________
(1) الهداية بأعلى فتح القدير 1 / 71، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 46، والمهذب 1 / 5، والمغني 1 / 13.
(2) الهداية بأعلى فتح القدير 1 / 62، والهداية 1 / 8.(39/365)
وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (2) . فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ - مُنَكَّرًا - عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُبِحِ التَّيَمُّمَ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَدَل هَذَا عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا أَمْ عَسَلاً أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ (3) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَل هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ (4) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلاَطٌ يَمْنَعُ التَّطَهُّرَ لَمَا اغْتَسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فِيهِ أَثَرُ الْعَجِينِ فَدَل هَذَا عَلَى طُهُورِيَّتِهِ (5) ، وَلأَِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ بِأَصْل خِلْقَتِهِ، وَقَدْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ وَلاَ رِقَّتَهُ وَلاَ جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ
__________
(1) المغني 1 / 12، والمحرر 1 / 2.
(2) سورة النساء / 43.
(3) المغني 1 / 12.
(4) حديث أم هانئ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد. . . ". أخرجه النسائي (1 / 131) ، والبيهقي (1 / 7) ، وأشار البيهقي إلى انقطاع في سنده بين مجاهد وأم هانئ.
(5) تبيين الحقائق 1 / 12، والمغني 1 / 15.(39/366)
الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ، أَوِ الْمُخْتَلَطَ بِالطُّحْلُبِ وَشِبْهَهُ (1) .
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ. قَال صَاحِبُ أَسْهَل الْمَدَارِكِ: وَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ كَاللَّبَنِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ طَهُورٍ، يُسْتَعْمَل فِي الْعَادَاتِ كَالطَّبْخِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: مَنْعُ الطَّهَارَةِ بِالْمُتَغَيِّرِ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَالْمَاءُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ مَذْهَبُنَا (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ - طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ - كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ. فَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تَحْصُل الطَّهَارَةُ بِهِ. . . قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهِيَ الأَْصَحُّ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلاَفِ (4) ، وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ وَهِيَ الْمَذْهَبُ (5) .
__________
(1) المغني 1 / 12.
(2) أسهل المدارك 1 / 38.
(3) المجموع 1 / 104.
(4) المغني 1 / 12.
(5) الإنصاف 1 / 32.(39/366)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَيُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ الْمَغْلِيِّ، وَبِأَنَّ اخْتِلاَطَ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَمْنَعُهُ الإِْطْلاَقُ، وَلِهَذَا لاَ يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ الْحَالِفُ عَلَى أَلاَّ يَشْرَبَ مَاءً، وَلِقِيَاسِهِ عَلَى مَاءِ الْوَرْدِ.
ثَانِيًا - حُكْمُ الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ بِمُجَاوَرَةِ طَاهِرٍ
16 - إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُجَاوَرَةِ (1) طَاهِرٍ كَالدُّهْنِ وَالطَّاهِرَاتِ الصُّلْبَةِ كَالْعُودِ وَالْكَافُورِ، إِذَا لَمْ يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يُمْعَ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُجَاوَرَةِ فَلاَ يَضُرُّ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ إِطْلاَقَ الاِسْمِ عَلَيْهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَرَوُّحَ الْمَاءِ بِرِيحِ شَيْءٍ عَلَى جَانِبِهِ (2) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ مُتَغَيِّرٌ بِمُجَاوِرٍ طَاهِرٍ كَعُودٍ وَدُهْنٍ، مُطَيَّبَيْنِ أَوْ لاَ، أَوْ بِتُرَابٍ طُرِحَ فِيهِ، لأَِنَّ تَغَيُّرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي الأَْوَّل تَرَوُّحًا، وَفِي الثَّانِي كُدُورَةً لاَ يَمْنَعُ
__________
(1) المجاور: ما يتميز في رأي العين، وقيل: ما يمكن فصله بخلاف الخليط، وقيل: المعتبر العرف (أسنى المطالب 1 / 8) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 15، وتبيين الحقائق 1 / 20، والشرح الصغير 1 / 46، وحاشية الدسوقي 1 / 35، والمغني 1 / 13.(39/367)
إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ لَدَيْهِمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، قِيَاسًا عَلَى الْمُتَغَيِّرِ الْمُخْتَلَطِ (2) .
أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمُجَاوِرُ الطَّاهِرُ وَمَاعَ فِي الْمَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّاهِرِ.
ثَالِثًا - حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلاً، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
__________
(1) شرح المنهاج 1 / 19.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 35، والمهذب 1 / 5.(39/367)
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَقَال قَوْمٌ: هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا أَمْ قَلِيلاً، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ (1) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إِذَا لاَقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ قَلِيلاً وَبَيْنَ كَوْنِهِ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لاَ يَنْجُسُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (4) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 41.
(2) المغني 1 / 23.
(3) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . ". تقدم تخريجه ف (11) .
(4) بدائع الصنائع 1 / 71، وبداية المجتهد 1 / 41، ومغني المحتاج 1 / 21، والمغني 1 / 23، والمجموع 1 / 112.(39/368)
18 - لَكِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْل اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِل بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخُلُوصِ التَّحْرِيكُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الآْخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لاَ يَخْلُصُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ: فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالاِغْتِسَال مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلاَ وُضُوءٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (2) .
فَلَوْ كَانَ مَاءُ الإِْنَاءِ لاَ يَنْجُسُ بِالْغَمْسِ لَمْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71، 72.
(2) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 233) .(39/368)
يَكُنْ لِلنَّهْيِ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَ الإِْنَاءِ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ إِلَى الطَّرَفِ الآْخَرِ (1) .
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ (2) .
فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسْل الإِْنَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، وَوُلُوغُ الْكَلْبِ لاَ يُغَيِّرُ لَوْنَ الْمَاءِ وَلاَ طَعْمَهُ وَلاَ رِيحَهُ، وَإِنَّمَا يُحَرِّكُهُ (3) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَيَرَى أَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (5) . وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ، إِلاَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 72.
(2) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 234) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 72.
(4) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 1 / 43.
(5) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . " تقدم تخريجه فقرة (11) .(39/369)
إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ (1) . فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ تُفِيدَانِ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَعَدَمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَدًّا فَاصِلاً بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلاَةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَال: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ (2) .
فَتَحْدِيدُ الْمَاءِ بِالْقُلَّتَيْنِ وَنَفْيُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ يَدُل عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إِذْ لَوِ اسْتَوَى
__________
(1) حديث: " إن الماء طاهر إلاَّ إن تغير ريحه. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 260) ، وقال: الحديث غير قوي.
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في الفلاة. . . ". أخرج الرواية الأولى الترمذي (1 / 97) ، والحاكم (1 / 132) ، والرواية الثانية للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.(39/369)
حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْدِيدِ مَعْنًى (1) .
وَلأَِنَّ الأُْصُول مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا صَعُبَتْ إِزَالَتُهَا وَشَقَّ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا عُفِيَ عَنْهَا، كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَسَلَسِ الْبَوْل وَالاِسْتِحَاضَةِ. وَإِذَا لَمْ يَشُقَّ الاِحْتِرَازُ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَغَيْرِ الدَّمِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلِيل الْمَاءِ لاَ يَشُقُّ حِفْظُهُ، وَكَثِيرُهُ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَمَّا شَقَّ دُونَ غَيْرِهِ، وَضَبَطَ الشَّرْعُ حَدَّ الْقُلَّةِ بِقُلَّتَيْنِ فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الْعُدُول عَنْهُ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ فِي حَالَتَيِ الْجَرَيَانِ وَالرُّكُودِ
وَفِيمَا يَلِي أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ:
أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
19 - فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَاءِ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا:
فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ جَارِيًا وَالنَّجَاسَةُ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ: فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ وَقَعَ - أَيِ النَّجَسُ -
__________
(1) المجموع 1 / 114، والمغني 1 / 25.
(2) المجموع 1 / 116.(39/370)
فِي الْمَاءِ: فَإِنْ كَانَ جَارِيًا:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا: لاَ يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
ثُمَّ قَال: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِل بَال فِي الْمَاءِ الْجَارِي وَرَجُلٌ أَسْفَل مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ؟ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ مِمَّا لاَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَل أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الأَْصْل فَلاَ نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ.
ب - وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَل الْجِيفَةِ لأَِنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجِسُ لاَ يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ.
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ، لأَِنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالأَْكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَل الْجِيفَةِ، لأَِنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ، أَوْ دُونَ(39/370)
النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، لأَِنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ، فَلاَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ.
وَفِي الاِسْتِحْسَانِ: لاَ يَجُوزُ احْتِيَاطًا (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ: فَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ بِحَال لَوِ اغْتَرَفَ إِنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الأَْرْضِ بِالاِغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقِيل: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لاَ فَلاَ. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقَاوِيل.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا وَكَانَ قَلِيلاً يَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لاَ يَنْجُسُ (2) .
ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
20 - قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ - وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل فَمَا دُونَهُمَا - إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 1 / 71 المطبعة العلمية.(39/371)
وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي حُكْمِ خَبَثٍ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَى طُهُورٍ كَالطَّهَارَةِ الْمَسْنُونَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَادَاتِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، فَالْكَرَاهَةُ خَاصَّةٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ.
ثُمَّ قَال: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لاَ تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ كَرَفْعِ حَدَثٍ وَحُكْمِ خَبَثٍ وَأَوْضِيَةٍ وَاغْتِسَالاَتٍ مَنْدُوبَةٍ. فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلاَ كَرَاهَةَ (1) .
ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21 - يَقُول الشِّيرَازِيُّ: إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا، أَوْ بَعْضُهُ رَاكِدًا وَبَعْضُهُ جَارِيًا.
أ - فَإِنْ كَانَ رَاكِدًا: نَظَرْتَ فِي النَّجَاسَةِ: فَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَةً يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ مَيْتَةٍ لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ نَظَرْتَ: فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 43.(39/371)
00 الْمَاءُ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ مَا غَيَّرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ (1) . فَنَصَّ عَلَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَقِيسَ اللَّوْنُ عَلَيْهِمَا لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا (2) .
وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ: نَجِسَ الْجَمِيعُ، لأَِنَّهُ مَاءٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْجُسَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ.
وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ: نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَهُوَ طَاهِرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (3) . وَلأَِنَّ الْقَلِيل يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي الظُّرُوفِ، وَالْكَثِيرُ لاَ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَجَعَل الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا فَاصِلاً بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ قَال: فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مِمَّا لاَ يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَفِيهِ ثَلاَثُ طُرُقٍ:
__________
(1) حديث: " الماء لا ينجس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 260) من حديث أبي أمامة، وقال: الحديث غير قوي.
(2) قال النووي في المجموع (1 / 111) : أما قول المصنف: فنص على الطعم والريح وقسنا اللون عليهما: فكأنه قاله لأنه لم يقف على الرواية التي فيها اللون وهي موجودة في سنن ابن ماجه والبيهقي. (انظر سنن ابن ماجه 1 / 174، وسنن البيهقي 1 / 260) .
(3) حديث: " إن كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ". تقدم تخريجه فقرة (17) .(39/372)
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: لاَ حُكْمَ لَهَا، لأَِنَّهَا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا فَهِيَ كَغُبَارِ السِّرْجِينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: فِيهِ قَوْلاَنِ.
كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُ إِنْ كَانَ جَارِيًا، فَقَال:
ب - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَارِيَةٌ كَالْمَيْتَةِ، وَالْجَرْيَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ، فَالْمَاءُ الَّذِي قَبْلَهَا طَاهِرٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى النَّجَاسَةِ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى النَّجَاسَةِ مِنْ إِبْرِيقٍ، وَاَلَّذِي بَعْدَهَا طَاهِرٌ أَيْضًا لأَِنَّهُ لَمْ تَصِل إِلَيْهِ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُحِيطُ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ فَوْقِهَا وَتَحْتِهَا وَيَمِينِهَا وَشِمَالِهَا فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ نَجِسٌ كَالرَّاكِدِ.
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ الْقَاصِّ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يَنْجُسُ الْمَاءُ الْجَارِي إِلاَّ لِتَغَيُّرٍ، لأَِنَّهُ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ، كَالْمَاءِ الْمُزَال بِهِ النَّجَاسَةُ.
وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا طَاهِرٌ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهَا إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَكَذَلِك كُل مَا يَجْرِي(39/372)
عَلَيْهَا بَعْدَهَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَلاَ يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَرْكُدَ فِي مَوْضِعٍ وَيَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ.
وَأَضَافَ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ جَارِيًا وَبَعْضُهُ رَاكِدًا: بِأَنْ يَكُونَ فِي النَّهْرِ مَوْضِعٌ مُنْخَفِضٌ يَرْكُدُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالْمَاءُ يَجْرِي بِجَنْبِهِ وَالرَّاكِدُ زَائِلٌ عَنْ سَمْتِ الْجَرْيِ، فَوَقَعَ فِي الرَّاكِدِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَرْيَةِ الَّتِي يُحَاذِيهَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ.
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَتَتَنَجَّسُ كُل جَرْيَةٍ بِجَنْبِهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَوْضِعٍ قُلَّتَانِ فَيَطْهُرُ (1) .
رَابِعًا - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - قَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ.
وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَهُوَ يَسِيرٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: يَنْجُسُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا الطَّرْفُ أَوْ لاَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لاَ يَنْجُسُ، وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ.
وَأَمَّا الْجَارِي، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَالرَّاكِدِ إِنْ
__________
(1) المهذب 1 / 13 وما بعدها.(39/373)
بَلَغَ جَمِيعُهُ قُلَّتَيْنِ دَفَعَ النَّجَاسَةَ إِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.
قَال فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ: وَلاَ يَنْجُسُ قَلِيلٌ جَارٍ قَبْل تَغَيُّرِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ تُعْتَبَرُ كُل جَرْيَةٍ بِنَفْسِهَا، اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَقَال: هِيَ الْمَذْهَبُ (1) .
تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي: قَال الْكَاسَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فِي الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا، فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدَاوَنِيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ: إِذَا دَخَل الْمَاءُ الطَّاهِرُ فِي الإِْنَاءِ وَخَرَجَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لاَ تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ، لأَِنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الأَْعْمَشِ: لاَ يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُل الْمَاءُ فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْل مَا كَانَ فِيهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلاَثًا.
وَقِيل: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ، كَالْبِئْرِ إِذَا تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا
__________
(1) الإنصاف 1 / 56، 57.(39/373)
بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَمُكَاثَرَتِهِ حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ. وَلَوْ زَال التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ ف 16) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) : فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُرَادُ تَطْهِيرُهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ يَزِيدُ.
أ - فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ: فَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَل الْمُرَادُ إِيصَال الْمَاءِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، إِمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا، أَوْ يَسِيل إِلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ.
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ الَّذِي كَاثَرَهُ بِهِ طَاهِرًا أَمْ نَجِسًا، قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 87، وفتح القدير 1 / 55.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 46، 47، وشرح الخرشي 1 / 79.
(3) المهذب 1 / 6، 7، والمجموع 1 / 132 وما بعدها، والمغني 1 / 35.
(4) حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ". تقدم تخريجه فقرة (17) .(39/374)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ، لأَِنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِمَا مَاءٌ نَجَسٌ لَمْ يُنَجِّسْهُمَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَارِدَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، وَحِينَئِذٍ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ لاَ غَيْرُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِهَا فَيَطْهُرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا زَال التَّغَيُّرُ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُول تَغَيُّرُهُ بِطُول مُكْثِهِ.
وَلاَ يَطْهُرُ بِأَخْذِ بَعْضِهِ حِينَئِذٍ وَلَوْ زَال بِهِ التَّغَيُّرُ، لأَِنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ قُلَّتَيْنِ وَفِيهِ نَجَاسَةٌ.
ج - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَزِيدُ عَنْ قُلَّتَيْنِ فَلَهُ حَالاَنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ، فَلاَ سَبِيل إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ بِزَوَال تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ بِالأَْخْذِ مِنْهُ مَا يَزُول بِهِ التَّغَيُّرُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ بَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَبْل زَوَال تَغَيُّرِهِ لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ تَنْجِيسِهِ، لأَِنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ فَلاَ يَزُول التَّنْجِيسُ بِزَوَالِهِ، وَلِذَلِك طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُول(39/374)
الْمُكْثِ وَلَمْ يَطْهُرِ الْقَلِيل، فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَال تَنْجِيسُهُ بِزَوَال عِلَّتِهِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا، وَالْقَلِيل عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلاَقَاةُ لاَ التَّغَيُّرُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي زَوَال التَّنْجِيسِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَطْهِيرِهِ بِالتُّرَابِ أَوِ الْجِصِّ إِنْ زَال بِهِ التَّغَيُّرُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لاَ يَطْهُرُ، كَمَا لاَ يَطْهُرُ إِذَا طُرِحَ فِيهِ كَافُورٌ أَوْ مِسْكٌ فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، وَلأَِنَّ التُّرَابَ أَوِ الْجِصَّ لاَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّانِي: يَطْهُرُ، لأَِنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ وَقَدْ زَال، فَيَزُول التَّنْجِيسُ كَمَا لَوْ زَال بِمُكْثِهِ أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ آخَرَ، وَيُفَارِقُ الْكَافُورَ وَالْمِسْكَ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّائِحَةُ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِغَلَبَةِ رَائِحَةِ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ (2) .
تَطْهِيرُ مِيَاهِ الآْبَارِ
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُول التَّغَيُّرُ وَيَكُونَ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِل إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِل هَذَا الْحَدَّ.
__________
(1) المغني 1 / 36.
(2) المهذب 1 / 6، 7، والمجموع 1 / 132 وما بعدها، والمغني 1 / 35 وما بعدها.(39/375)
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزْحِ فَقَطْ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (آبَارٌ ف 21 - 32) .
اخْتِلاَطُ الأَْوَانِي وَاشْتِبَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الطَّهُورِ بِالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ
25 - إِذَا اخْتَلَطَتِ الأَْوَانِي اخْتِلاَطَ مُجَاوَرَةٍ، وَكَانَ فِي بَعْضِهَا مَاءٌ طَهُورٌ، وَفِي الْبَعْضِ الآْخَرِ مَاءٌ نَجِسٌ وَاشْتَبَهَ الأَْمْرُ عَلَى الشَّخْصِ، وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِ مَاءٍ آخَرَ طَهُورٍ غَيْرِ الَّذِي فِي بَعْضِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ الطَّهُورِ مِنْهَا، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهُورِيَّةُ أَحَدِهَا بِعَلاَمَةٍ تَظْهَرُ جَازَ لَهُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ (1) ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المجموع 1 / 180، ومغني المحتاج 1 / 26.
(2) مواهب الجليل 1 / 171، وتهذيب الفروق 1 / 228 ط عالم الكتب - بيروت.(39/375)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1) . وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ، وَوَجَبَ الاِجْتِهَادُ، وَبِأَنَّ التَّطَهُّرَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ يُمْكِنُ التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِالاِجْتِهَادِ، فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ، وَعَلَى الاِجْتِهَادِ فِي الأَْحْكَامِ وَفِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ فِي الْخَطَأِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي إِذَا كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ أَوَانِي النَّجِسِ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ أَوَانِي النَّجِسِ أَوْ أَقَل لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَل يَتَيَمَّمُ.
وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (3) ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (5) . وَكَثْرَةُ النَّجِسِ تَرِيبُ، فَوَجَبَ تَرْكُهُ وَالْعُدُول إِلَى مَا لاَ رَيْبَ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) المجموع 1 / 181.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 21 ط الثانية طبع المطبعة الأزهرية.
(4) المغني 1 / 60.
(5) حديث: " دع ما يريبك. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 668) ، وقال: حديث حسن صحيح.(39/376)
فِيهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَبِأَنَّ الأُْصُول مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحَرَامِ وَاسْتِوَاءَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ كَأُخْتٍ أَوْ زَوْجَةٍ اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ.
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَهِدُ فِيهِ بَل يَتَيَمَّمُ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِطَةِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ مُطْلَقًا، بَل يَتْرُكُ الْجَمِيعَ وَيَتَيَمَّمُ.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّجِسِ، وَأَنَّهُ اشْتَبَهَ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ فَلَمْ يَجُزِ الاِجْتِهَادُ فِيهِ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ (5) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ: فَقَال أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لاَ يَتَيَمَّمُ حَتَّى يُرِيقَ الْمَاءَ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الْمَاءِ.
وَقَال سَحْنُونٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: يَتَيَمَّمُ
__________
(1) المغني 1 / 61.
(2) مواهب الجليل 1 / 171، والقوانين الفقهية ص 38.
(3) المجموع 1 / 181.
(4) المغني 1 / 61، وكشاف القناع 1 / 32، 33.
(5) المجموع 1 / 181، والمغني 1 / 61.(39/376)
وَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ لأَِنَّهُ كَالْمَعْدُومِ.
الْقَوْل الرَّابِعُ: يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إِنَاءٍ.
وَبِهَذَا قَال ابن الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِسَحْنُونٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّخْصَ فِي هَذِهِ الْحَالَة مَعَهُ مَاءٌ مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ وَلاَ سَبِيل إِلَى تَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِهِ إِلاَّ بِالتَّوَضُّؤِ وَالصَّلاَةِ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ إِنَاءٍ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.
الْقَوْل الْخَامِسُ: يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ بِلاَ اجْتِهَادٍ وَلاَ ظَنٍّ.
وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الأَْصْل طَهَارَةُ الْمَاءِ فِي كُل الأَْوَانِي.
سَقْيُ أَرْضِ الْفِلاَحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّرْعَ الَّذِي يُسْقَى بِمَاءٍ نَجِسٍ طَاهِرٌ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَاءُ النَّجِسُ ظَاهِرَ الزَّرْعِ تَنَجَّسَ وَوَجَبَ تَطْهِيرُهُ بِالْغَسْل.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 171، والقوانين الفقهية ص 38.
(2) المجموع 1 / 180.(39/377)
تَحْرُمُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ (1) ، وَلأَِنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَتَتَرَقَّى فِيهَا أَجْزَاؤُهَا، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تُطَهِّرُ، فَعَلَى هَذَا تَطْهُرُ إِذَا سُقِيَتِ الطَّاهِرَاتِ، كَالْجَلاَّلَةِ إِذَا حُبِسَتْ وَأُطْعِمَتِ الطَّاهِرَاتِ (2) .
__________
(1) أثر ابن عباس: " كنا نكري. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 139) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 217، وشرح الخرشي 1 / 88، وحاشية الدسوقي 1 / 52، ومغني المحتاج 1 / 81، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 72 - 73.(39/377)
مُيَاوَمَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُيَاوَمَةُ لُغَةً: مِنْ يَاوَمَهُ مُيَاوَمَةً وَيِوَامًا: عَامَلَهُ بِالأَْيَّامِ، وَيَاوَمْتُ الرَّجُل مُيَاوَمَةً وَيِوَامًا: أَيْ عَامَلْتُهُ أَوِ اسْتَأْجَرْتُهُ الْيَوْمَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - أَجَل الشَّيْءِ لُغَةً: مُدَّتُهُ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحِل فِيهِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الأَْجَل وَالْمُيَاوَمَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أُمُورٍ:
أ - أَنَّ الْوَقْتَ فِي الْمُيَاوَمَةِ مُحَدَّدٌ بِالْيَوْمِ أَوِ
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، ولسان العرب.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط.(39/378)
الأَْيَّامِ، أَمَّا الأَْجَل فَإِنَّهُ قَدْ يُحَدَّدُ بِالأَْيَّامِ أَوِ الشُّهُورِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
ب - أَنَّ مَحَل الْمُيَاوَمَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ، أَمَّا الأَْجَل فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَضَرْبِ أَجَلٍ لِلْمَدِينِ الْمُعْسِرِ بِسَنَةٍ مَثَلاً.
ب - التَّأْقِيتُ:
3 - التَّأْقِيتُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَقَّتَ أَوْ وَقَّتَ، وَمَعْنَاهُ: تَحْدِيدُ الأَْوْقَاتِ، وَهُوَ يَتَنَاوَل الشَّيْءَ الَّذِي قَدَّرْتَ لَهُ حِينًا أَوْ غَايَةً. تَقُول: وَقَّتُّهُ لِيَوْمِ كَذَا مِثْل أَجَّلْتُهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي الْحَال، وَيَنْتَهِيَ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ (2) .
وَالْمُيَاوَمَةُ وَالتَّأْقِيتُ يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ تَحْدِيدٌ لِلْوَقْتِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي التَّأْقِيتِ بِمُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّتِهِ فِي الْمُيَاوَمَةِ أَوْ أَقَل.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَأْقِيتٌ ف 1) .
ج - الْمُشَاهَرَةُ:
4 - الْمُشَاهَرَةُ لُغَةً: الْمُعَامَلَةُ شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَشَاهَرَ الأَْجِيرَ مُشَاهَرَةً وَشِهَارًا: اسْتَأْجَرَهُ لِلشَّهْرِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) الكليات 2 / 103.(39/378)
وَالْمُشَاهَرَةُ مِنَ الشَّهْرِ كَالْمُعَاوَمَةِ مِنَ الْعَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَتَتَّفِقُ الْمُيَاوَمَةُ مَعَ الْمُشَاهَرَةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ لِلْمَنْفَعَةِ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْمُشَاهَرَةِ مُحَدَّدَةٌ بِشَهْرٍ، وَفِي الْمُيَاوَمَةِ مُحَدَّدَةٌ بِيَوْمٍ أَوْ أَضْعَافِهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُيَاوَمَةِ:
أ - حُكْمُ الْمُيَاوَمَةِ
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُيَاوَمَةَ - بِمَعْنَى تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ - جَائِزَةٌ إِذَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَيْهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجَارَةٌ ف 35 - 37، 47، إِعَارَةٌ ف 9، 12) .
ب - مُدَّةُ الْمُيَاوَمَةِ وَتَحْدِيدُ الْيَوْمِ
6 - الْمُيَاوَمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَصْلِهَا وَهُوَ (يَوْمٌ) .
وَالْيَوْمُ مُحَدَّدٌ شَرْعًا بِالزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ مِنْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 7 - 8، وتبيين الحقائق 5 / 108 - 109، ومجلة الأحكام العدلية مادة 495، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 4، ونهاية المحتاج 5 / 275 - 276، وكشاف القناع 4 / 22 - 23.(39/379)
طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، بِخِلاَفِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مُمْتَدٌّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَلِذَلِكَ يُقَال: صُمْتُ الْيَوْمَ، وَلاَ يُقَال: صُمْتُ النَّهَارَ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ تَحْدِيدُ الْيَوْمِ بِالْعُرْفِ، جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يَعْمَل يَوْمًا، يَعْمَل مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الْعَصْرِ أَوِ الْغُرُوبِ، عَلَى وَفْقِ عُرْفِ الْبَلْدَةِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل (2) .
__________
(1) الكليات 5 / 118.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة 495.(39/379)
مَيْتَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ. أَمَّا الْمِيتَةُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - فَهِيَ لِلْحَال وَالْهَيْئَةِ. يُقَال: مَاتَ مِيتَةً حَسَنَةً، وَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجَصَّاصُ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لآِدَمِيِّ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِسَبَبِ فِعْل الآْدَمِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ (2) .
كَمَا تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ شَرْعًا عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالأَْلْيَةِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولاً أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 94، وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 146، وأنيس الفقهاء للقونوي ص 123.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 132.(39/380)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهِيَ مَيْتَةٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّذْكِيَةُ:
2 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ ذَكَّى، وَالاِسْمُ الذَّكَاةُ، وَمَعْنَاهَا تَمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحُ، يُقَال: ذَكَّيْتُ الذَّبِيحَةَ إِذَا أَتْمَمْتُ ذَبْحَهَا، وَالْمُذَكَّاةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَكَّى.
وَالتَّذْكِيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ هِيَ السَّبَبُ الْمُوصِل إِلَى حِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا (2) ، وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ: هِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الأَْوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ، وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، مَقْرُونًا ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى
__________
(1) حديث: " ما قطع من البهيمة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 277 ط حمص) ، والترمذي (4 / 74 ط الحلبي) من حديث أبي واقد الليثي وقال الترمذي: حسن غريب.
(2) المصباح المنير، ورد المحتار 5 / 186، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 300، والخرشي 3 / 2، وكشاف القناع 6 / 201، وكفاية الأخيار 2 / 137، وبداية المجتهد 1 / 447، والتفريغ لابن الجلاب 1 / 401، والكافي لابن عبد البر 1 / 428 - ط الرياض.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 541.(39/380)
التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُذَكَّاةَ يَحِل أَكْلُهَا، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلاَ يَحِل أَكْلُهَا.
ب - الْمُنْخَنِقَةُ:
3 - الْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا - بِحَبْلٍ أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ - إِمَّا قَصْدًا، وَإِمَّا اتِّفَاقًا بِأَنْ تَتَخَبَّطَ الدَّابَّةُ فِي وِثَاقِهَا، فَتَمُوتَ بِهِ.
قَال الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَمِنْهَا: مَا يُخْنَقُ بِحَبْل الصَّائِدِ. وَمِنْهَا: مَا يَدْخُل رَأْسُهَا بَيْنَ عُودَيْنِ فِي شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ، فَتَمُوتُ. وَالْمُنْخَنِقَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لأَِنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ وَمَا سَال دَمُهَا، كَانَتْ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ، إِلاَّ أَنَّهَا فَارَقَتِ الْمَيْتَةَ بِكَوْنِهَا تَمُوتُ بِسَبَبِ انْعِصَارِ الْحَلْقِ بِالْخَنْقِ (1) .
فَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ.
ج - الْمَوْقُوذَةُ:
4 - الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، يُقَال: وَقَذَهَا وَأَوْقَذَهَا، إِذَا ضَرَبَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَيَدْخُل فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ. قَال الضَّحَّاكُ: كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الأَْنْعَامَ بِالْخَشَبِ لآِلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا، فَيَأْكُلُوهَا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 11 / 133، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 538، والكشاف 1 / 322.(39/381)
وَالْمَوْقُوذَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ (1) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ.
د - الْمُتَرَدِّيَةُ:
5 - الْمُتَرَدِّي: هُوَ الْوَاقِعُ فِي الرَّدَى، وَهُوَ الْهَلاَكُ. وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ تَطِيحُ فِي بِئْرٍ، أَوْ تَسْقُطُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَمُوتُ. وَالْمُتَرَدِّيَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لأَِنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ (2) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَرَدِّيَةِ.
هـ - النَّطِيحَةُ:
6 - النَّطِيحَةُ هِيَ الْمَنْطُوحَةُ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَذَلِكَ مِثْل كَبْشَيْنِ تَنَاطَحَا إِلَى أَنْ مَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا.
وَالنَّطِيحَةُ مِنَ الْمَيْتَةِ، لأَِنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ (3) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ النَّطِيحَةِ.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 538، والتسهيل لعلوم التنزيل ص 167، وتفسير الفخر الرازي 11 / 133، والكشاف 1 / 322، وأحكام القرآن للكيا الهراس 3 / 42، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 297.
(2) الكشاف للزمخشري 1 / 322، والتسهيل لابن جزي ص 167، وتفسير الرازي 11 / 133.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 538، والكشاف 1 / 322، وتفسير الرازي 11 / 133، والتسهيل ص 167، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 298.(39/381)
و - الْمَيِّتُ:
7 - الْمَيِّتُ فِي اللُّغَةِ - بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ - يُقَال: مَيِّتٌ وَمَيْتٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَّكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، قَال تَعَالَى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا (1) ، وَقَال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُل مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (2) ، وَالْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَجَمْعُهُ أَمْوَاتٌ وَمَوْتَى (3) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَالْمَوْتَى جَمْعُ مَنْ يَعْقِل، وَالْمَيِّتُونَ مُخْتَصٌّ بِذُكُورِ الْعُقَلاَءِ، وَالْمَيِّتَاتُ بِالتَّشْدِيدِ مُخْتَصَّةٌ لإِِنَاثِهِمْ، وَبِالتَّخْفِيفِ لِلْحَيَوَانَاتِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَةِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ.
ز - الذَّبِيحَةُ عَلَى النُّصُبِ
8 - النُّصُبُ هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ مَنْصُوبَةً حَوْل الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا وَيَشْرَحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا بِذَلِكَ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، قَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَلَيْسَتْ هِيَ بِالأَْصْنَامِ، لأَِنَّ الأَْصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ،
__________
(1) سورة الفرقان / 49.
(2) سورة إبراهيم / 17.
(3) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(4) قواعد الفقه للبركتي.(39/382)
وَالنُّصُبُ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ، وَتُسَمَّى الأَْنْصَابَ، وَالْمُفْرَدُ نِصَابٌ، وَقِيل: إِنَّ النُّصُبَ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ (1) .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
ج - أَكِيلَةُ السَّبُعِ:
9 - أَكِيلَةُ السَّبُعِ هِيَ مَا بَقِيَ مِمَّا أَكَلَهُ السَّبُعُ أَوِ افْتَرَسَهُ مِنَ الْمَاشِيَةِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ، وَأَكَل بَعْضَهُ، أَكَلُوا مَا بَقِيَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2) .
وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنْهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
حُرْمَةُ أَكْل الْمَيْتَةِ:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل الْمَيْتَةِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالاِخْتِيَارِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) التسهيل لابن جزي ص 168، والكشاف 1 / 322، وتفسير الرازي 11 / 134.
(2) تفسير الرازي 11 / 134، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 539.
(3) تبيين الحقائق 5 / 185، والكافي لابن عبد البر 1 / 439 - ط الرياض، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 52، ولباب اللباب لابن راشد القفصي ص 75، وبداية المجتهد 1 / 440 و 465، وشرح منتهى الإرادات 3 / 396، والمبدع 9 / 193، وكشاف القناع 6 / 188، والمغني لابن قدامة 13 / 330 (ط هجر) .(39/382)
00 {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وَقَدْ عَبَّرَ الإِْمَامُ الرَّازِيُّ عَنْ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ أَكْل الْمَيْتَةِ الَّتِي نَفَقَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعُقُول، لأَِنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ، وَحَصَل مِنْ أَكْلِهِ مَضَارُّ عَظِيمَةٌ (2) .
وَأَمَّا حِكْمَةُ تَحْرِيمِ أَكْل الْمَيْتَةِ الَّتِي قُتِلَتْ عَلَى هَيْئَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ (أَيْ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ) فَقَدْ أَوْضَحَهَا الإُْمَامُ ابْنُ الْقُيِّمِ بِقَوْلِهِ: فَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالْخَبَثُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَظْهَرُ لَنَا وَقَدْ يَخْفَى، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهِ الشَّارِعُ عَلاَمَةً غَيْرَ وَصْفِهِ، وَمَا كَانَ خَفِيًّا نَصَبَ عَلَيْهِ عَلاَمَةً تَدُل عَلَى خَبَثِهِ.
فَاحْتِقَانُ الدَّمِ فِي الْمَيْتَةِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) تفسير الرازي 11 / 132.(39/383)
ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ وَمَنْ أَهَل بِذَبِيحَتِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَنَفْسُ ذَبِيحَةِ هَؤُلاَءِ أَكْسَبَتِ الْمَذْبُوحَ خَبَثًا أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ، وَلاَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ الأَْوْثَانِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ عَلَى الذَّبِيحَةِ يُكْسِبُهَا خَبَثًا، وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ يُكْسِبُهَا طِيبًا إِلاَّ مَنْ قَل نَصِيبُهُ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَالإِْيمَانِ وَذَوْقِ الشَّرِيعَةِ (1) .
11 - وَأَمَّا فِي حَالَةِ الإِْلْجَاءِ وَالاِضْطِرَارِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَئِذٍ، فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ إِمَّا بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ أَوْ بِفَقْرٍ لاَ يَجِدُ مَعَهُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، حَل لَهُ ذَلِكَ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ (2) ، حَيْثُ جَاءَ فِي التَّنْزِيل بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
قَال الزَّيْلَعِيُّ: فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 154.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 156 - 159، ورد المحتار 5 / 215، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، والمغني لابن قدامة 13 / 330.
(3) سورة البقرة / 173.
(4) سورة المائدة / 3.(39/383)
بِحَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَفِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ مُبَاحٌ (1) ، لأَِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (2) .
12 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لأَِكْل الْمَيْتَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ (3) .
الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ طُول مُدَّتِهِ، أَوِ انْقِطَاعَهُ عَنْ رُفْقَتِهِ، أَوْ خَوْفَ ضَعْفٍ عَنْ مَشْيٍ أَوْ رُكُوبٍ، فَيُسَمَّى هَذَا الْخَائِفُ مُضْطَرًّا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
الثَّالِثُ: خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 185.
(2) المادة 21 من مجلة الأحكام العدلية، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 317، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 365.
(3) الخرشي 3 / 28، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 603، والكافي لابن عبد البر 1 / 439 - ط الرياض، والقوانين الفقهية ص 178، ولباب اللباب للقفصي ص 75، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، وبداية المجتهد 1 / 476، والذخيرة للقرافي 4 / 109.
(4) مغني المحتاج 4 / 306، والمجموع للنووي 9 / 42، وتحفة المحتاج 9 / 390، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح المنتهى 3 / 400، وكفاية الأخيار 2 / 144.(39/384)
أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الأَْكْل، وَيَحْصُل ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجِدُ فِيهِ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ، وَأَمَّا مَيْتَةُ الآْدَمِيِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (ضَرُورَةٌ ف 10) .
13 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ، فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الأَْكْل وَصَبَرَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 185.
(2) رد المحتار 5 / 215، وتبيين الحقائق 5 / 185، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 157، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 56، والتسهيل لابن جزي ص 69، والمجموع للنووي 9 / 42، ومغني المحتاج 4 / 306، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح المنتهى 3 / 400، والمبدع 9 / 205، والمغني 13 / 331، وعدة الصابرين لابن القيم ص 30، والذخيرة 4 / 110، والإنصاف 10 / 37.(39/384)
00 {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) حَيْثُ أَنَّ تَرْكَ الأَْكْل مَعَ إِمْكَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَال إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) ، وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلاَلٌ (3) .
الثَّانِي. الإِْبَاحَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي إِسَحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ عَنْ أَكْلِهَا حَتَّى مَاتَ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (4) ، لأَِنَّ إِبَاحَةَ الأَْكْل رُخْصَةٌ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ. وَلأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُل الْمَيْتَةِ، وَفَارَقَ الْحَلاَل فِي الأَْصْل مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ (5) .
الثَّالِثُ: النَّدْبُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (6) .
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) سورة النساء / 29.
(3) المغني 13 / 332.
(4) تبيين الحقائق 5 / 185، والذخيرة 4 / 110، والمجموع شرح المهذب 9 / 40، والمغني 13 / 332.
(5) المغني 13 / 332.
(6) المبدع 9 / 205.(39/385)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (ضَرُورَةٌ ف 10، أَطْعِمَةٌ ف 90) .
مِقْدَارُ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ حَبِيْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ (1) ، أَيْ: مَا يَحْفَظُ بِهِ حَيَاتَهُ، قَال الصَّاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالرَّمَقِ: الْحَيَاةُ، وَسَدُّهَا: حِفْظُهَا (2) .
لأَِنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (3) ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 215، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 157، 160، وتفسير الرازي 5 / 24، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 257، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، 56، وبداية المجتهد 1 / 476، والمجموع 9 / 43، ومغني المحتاج 4 / 307، والمغني لابن قدامة 13 / 330، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح المنتهى 3 / 400، والمبدع 9 / 206، وكفاية الأخيار 2 / 143.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 183.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 95، المادة 22، من مجلة الأحكام العدلية، والمنثور في القواعد 2 / 320، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84.(39/385)
إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، عَادَتِ الْحُرْمَةُ كَحَالَةِ الاِبْتِدَاءِ (1) .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَزَال الْحُكْمُ بِزَوَال عِلَّتِهِ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا (2) .
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَشْبَعَ، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ، فَتَعُودُ مُبَاحَةً كَسَائِرِ الأَْطْعِمَةِ (3) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً نَزَل الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَال: هَل عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قَال: لاَ، قَال: فَكُلُوهَا (4) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 400.
(2) كفاية الأخيار 2 / 144.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 1 / 603، والذخيرة للقرافي 4 / 109، والشرح الصغير للدردير 2 / 184، والتسهيل لابن جزي ص 69، ولباب اللباب للقفصي ص 75، والقوانين الفقهية ص 178، والتفريع لابن الجلاب 1 / 407، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والخرشي 3 / 28، وبداية المجتهد 1 / 466، والمجموع شرح المهذب 9 / 40، 42، وكفاية الأخيار 2 / 144، والمبدع 9 / 206، والمغني 13 / 331، وتفسير الرازي 5 / 24.
(4) حديث جابر بن سمرة " أن رجلاً نزل الحرة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 166 - 167 - ط حمص) وأحمد (5 / 104 ط الميمنية) ، وسكت عنه المنذري (5 / 326 ط دار المعرفة) ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (9 / 30 ط دار الجيل) : وليس في إسناده مطعن.(39/386)
الثَّالِثُ: لِعُبَيْدِ الَّلهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا مَا يَسُدُّ جُوعَهُ، وَذَلِكَ فَوْقَ قَدْرِ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ (1) .
تَزَوُّدُ الْمُضْطَرِّ بِالْمَيْتَةِ:
15 - إِذَا خَشِيَ الْمُضْطَرُّ اسْتِمْرَارَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنَ الْمَيْتَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي اسْتِصْحَابِهَا وَلاَ فِي إِعْدَادِهَا لِدَفْعِ ضَرُورَتِهِ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلاَ يَأْكُل مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ ضَرُورَتِهِ (2) .
__________
(1) تفسير الرازي 5 / 24، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 160.
(2) الذخيرة للقرافي 4 / 109، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 603، والشرح الصغير للدردير 2 / 184، ولباب اللباب للقفصي ص 75، والقوانين الفقهية ص 178، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، وبداية المجتهد 1 / 476، والتفريع لابن الجلاب 1 / 407، وكفاية الأخيار 2 / 144، ومغني المحتاج 4 / 307، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 142، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح منتهى الإرادات 3 / 400، والمغني 13 / 333، ومغني المحتاج 4 / 307.(39/386)
وَالثَّانِي: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ تَوَسَّعَ فِيمَا لَمْ يُبَحْ إِلاَّ لِلضَّرُورَةٍ (1) .
حُكْمُ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَنَاوُلِهَا لِلْعِلاَجِ، بِأَنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ فِيهَا شِفَاءً، وَلَمْ يَجِدْ دَوَاءً غَيْرَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَمْ مَخْلُوطَةً بِغَيْرِهَا فِي بَعْضِ الأَْدْوِيَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الإِْبَاحَةُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَال الإِْبِل وَأَلْبَانِهَا لِلتَّدَاوِي (3) ، قَال العز بن عبد السلام: لأَِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَافِيَةِ وَالسَّلاَمَةِ أَكْمَل مِنْ مَصْلَحَةِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 13 / 333.
(2) رد المحتار 4 / 215، والبدائع 1 / 61، والمجموع للنووي 9 / 50، ونيل الأوطار 8 / 204.
(3) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أباح للعُرنيين شرب أبوال الإبل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 142 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1296 ط عيسى الحلبي) .
(4) قواعد الأحكام 1 / 142، (ط دار الطباع بدمشق) .(39/387)
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا. (2)
قَال ابن القيم: وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرَّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلاً وَشَرْعًا، أَمَّا الشَّرْعُ فَلِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْعَقْل، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَرَّمَهُ لِخُبْثِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى هَذِهِ الأُْمَّةِ طَيِّبًا عُقُوبَةً لَهَا، كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (3) ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى هَذِهِ الأُْمَّةِ مَا حَرَّمَ لِخَبَثِهِ، وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيَّةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ، فَلاَ يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشِّفَاءُ مِنَ الأَْسْقَامِ وَالْعِلَل، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَثَّرَ فِي إِزَالَتِهَا، لَكِنَّهُ يُعْقِبُ سُمًّا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ
__________
(1) التفريع لابن الجلاب 1 / 408، والذخيرة للقرافي 4 / 112، وانظر بداية المجتهد 1 / 476، وتفسير الرازي 5 / 25، والمغني 13 / 343، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 562 وما بعدها.
(2) حديث: " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. . . ". أخرجه ابن حبان في صحيحه (4 / 233 ط الرسالة) وأبو يعلى في المسند (12 - ط دار المأمون) ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 86 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق، وقد وثقه ابن حبان.
(3) سورة النساء / 160.(39/387)
بِقُوَّةِ الْخُبْثِ الَّذِي فِيهِ، فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إِزَالَةِ سَقَمِ الْبَدَنِ بِسَقَمِ الْقَلْبِ (1) .
نَجَاسَةُ الْمَيْتَةِ
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهَا بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) ، وَوَصَفَهَا بِالرِّجْسِ فِي قَوْلِهِ: {قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (3) وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَذَرُ وَالنَّجَسُ، وَحَكَى الرَّازِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ (4) ، هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ، أَمَّا مَيْتَةُ الآْدَمِيِّ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَةٌ) .
نَجَاسَةُ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ، حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَل فِي صِنَاعَةِ الْجُبْنِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) زاد المعاد 4 / 156.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) سورة الأنعام / 145.
(4) تفسير الفخر الرازي 5 / 19.(39/388)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَالْجُبْنُ الْمَعْقُودُ بِهَا مُتَنَجِّسٌ، لاَ يَحِل أَكْلُهُ، لأَِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا الإِْنْفَحَةُ.
وَالثَّانِي: لأَِبِيْ يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَل ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَل.
وَالثَّالِثُ: لأَِبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَجَّحَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ أَكَلُوا الْجُبْنَ، وَهُوَ يُعْمَل بِالإِْنْفَحَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ (1) .
نَجَاسَةُ لَبَنِ الْمَيْتَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ اللَّبَنِ الْخَارِجِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لأَِبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 63، 5 / 43، وتبيين الحقائق 1 / 26، والبحر الرائق 1 / 112، وتفسير الفخر الرازي 5 / 19، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 147، والخرشي 1 / 85، ولباب اللباب ص 75، ونهاية المحتاج 1 / 227، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 72، المغني لابن قدامة 1 / 100، والمبدع 9 / 209، 1 / 147، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 1 / 480، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 532.(39/388)
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ شَرْعًا (1) ، وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (2) ، حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا، فَلاَ يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَجْرَاهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا، وَهَذَا يَقْتَضِي الْحِل، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَالْمِنَّةُ بِالْحَلاَل لاَ بِالْحَرَامِ.
وَالثَّانِي: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لاَ يَحِل تَنَاوُلُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) حَيْثُ إِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا اللَّبَنُ، وَلأَِنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَتَنَجَّسَ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ حُلِبَ فِي إِنَاءٍ نَجِسٍ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 1 / 26، أحكام القرآن للجصاص 1 / 147، وتفسير الرازي 5 / 19، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 102.
(2) سورة النحل / 66.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) أحكام القرآن للجصاص 1 / 85، والبدائع 5 / 41 - 43، وتفسير الرازي 5 / 19، والتفريع 1 / 408، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والشرح الصغير 1 / 50، والخرشي 1 / 85، والمجموع 1 / 244، ونهاية المحتاج 1 / 227، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 72، والمغني لابن قدامة 1 / 74، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 102.(39/389)
نَجَاسَةُ الْبَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَيْتَةِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْبَيْضِ الْمُنْفَصِل عَنْ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَةَ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِ مَيْتَةِ الدَّجَاجِ إِذَا صَلُبَتْ قِشْرَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَيَحِل أَكْلُهَا، لأَِنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ الْمَأْكُول وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، فَتَحِل.
أَمَّا قَبْل تَصَلُّبِ قِشْرَتِهَا فَهِيَ نَجِسَةٌ لاَ تُؤْكَل (1) .
وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلأَِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ مِنْهَا مِثْل أَصْلِهَا، فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ الْحَيَّ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْبَيْضَةِ نَجِسٌ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَجُوزُ أَكْلُهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ (3) .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَوَجْهٌ
__________
(1) تفسير الرازي 5 / 19، والمجموع 1 / 244، والمغني 1 / 75.
(2) المجموع 1 / 244، والمغني 1 / 101.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 120، 149، والبدائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 1 / 26، والمجموع 1 / 244.(39/389)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ مُطْلَقًا، وَلاَ يَحِل أَكْلُهَا، لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (أَطْعِمَةٌ ف 81) .
مَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الْمَيْتَةِ
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ فِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ - جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل دَبْغِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ (2) :
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ.
__________
(1) التفريع لابن الجلاب 1 / 408، والكافي لابن عبد البر 1 / 439 - ط الرياض، والمجموع 1 / 244، والمغني 1 / 75، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 148.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 142، والبدائع 1 / 85، والشرح الصغير للدردير 1 / 52، والذخيرة 1 / 166، والتفريع 1 / 408، وبداية المجتهد 1 / 78، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والمجموع 1 / 217، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 71، وتفسير الرازي 5 / 16، ومغني المحتاج 1 / 78، والمغني 1 / 89، 94، والإنصاف 1 / 86، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 95.(39/390)
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَكِنْ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَعَ نَجَاسَتِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ.
الثَّالِثُ: لأَِبِيْ يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَلِسَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْجُلُودِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى الْخِنْزِيرُ.
الرَّابِعُ: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا حَال الْحَيَاةِ.
الْخَامِسُ: لِلأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِيْ َثْورٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ طَهَارَةُ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ فَقَطْ.
(ر: دِبَاغَةٌ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - صُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِنْتِفَاعِ بِصُوفِ وَشَعْرِ وَوَبَرِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ (1) :
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 26، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 149، والبدائع 1 / 63، والذخيرة 1 / 183، والتفريع 1 / 408، ومدارج السالكين 3 / 260، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1169، وبداية المجتهد 1 / 78، والمجموع 1 / 231، والإنصاف 1 / 92، وتفسير الرازي 5 / 15، والمغني 1 / 106.(39/390)
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا طَاهِرٌ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ اْلمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) ، فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالإِْبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، وَلأَِنَّهُ عَزَّ وَجَل ذَكَرَ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، وَالْمِنَّةُ لاَ تَقَعُ بِالنَّجِسِ الَّذِي لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَيْتَةِ: إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا (2) .
قَال الْجَصَّاُصُ: فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَأْكُول لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ (3) .
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 355) ، ومسلم (1 / 276 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 150.(39/391)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَالأَْصْوَافَ وَالأَْوْبَارَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، لِعَدَمِ تَعَرُّضِهَا لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلأَِنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: وَحُجَّتُنَا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ قَبْل الْمَوْتِ، فَتَكُونُ طَاهِرَةً بَعْدَهُ، عَمَلاً بِالاِسْتِصْحَابِ (1) ، وَلأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ يَلْحَقُهَا، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِل بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ، فَيَخْلُفَهَا الْمَوْتُ فِيهَا (2) .
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا نَجِسٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ سَائِرِ أَجْزَائِهَا.
ج - عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِنْتِفَاعِ بِعَظْمِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ وَقَرْنِهَا
__________
(1) الذخيرة 1 / 184.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1169.
(3) سورة المائدة / 3.(39/391)
وَظِلْفِهَا وَظُفُرِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّل مَرَّةٍ} (1) حَيْثُ دَل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً، فَصَارَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ مَيْتَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الاِنْتِفَاعُ بِهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا، كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلأَِنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ (3) .
__________
(1) سورة يس / 78 - 79.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) بدائع الصنائع 1 / 63، وتبيين الحقائق 1 / 26، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 149، والإنصاف للمرداوي 1 / 92، والذخيرة للقرافي 1 / 183، والتفريع لابن جلاب 1 / 408، وتفسير الرازي 5 / 15، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، وبداية المجتهد 1 / 78، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 72، والمجموع شرح المهذب 1 / 231، والمغني لابن قدامة 1 / 97، ومختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 26.(39/392)
د - إِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْحَيَوَانِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ بِإِطْعَامِهَا لِلدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ أَوِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالطَّيْرِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ وَنَحْوِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِك، لأَِنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْمَيْتَةَ لِلْحَيَوَانِ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) دَالٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا (2) .
قَال الْجَصَّاصُ: قَال أَصْحَابُنَا: لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَلاَ يُطْعِمُهَا الْكِلاَبَ وَالْجَوَارِحَ، لأَِنَّ ذَلِك ضَرْبٌ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا، مُؤَكَّدًا بِهِ حُكْمُ الْحَظْرِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِهِ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: لاَ أَرَى أَنْ يُطْعِمَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ الْمَيْتَةَ، وَلاَ الطَّيْرَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 132، وتفسير الفخر الرازي 5 / 16.
(3) أحكام القرآن 1 / 132.(39/392)
الْمُعَلَّمَ، لأَِنَّهُ يُضْرِيهِ عَلَى الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَل الْكَلْبُ فَلاَ أَرَى صَاحِبَهُ حَرَجًا، وَلَعَل أَحْمَدَ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ إِذَا صَادَ وَقَتَل أَكَل مِنْهُ، لِتَضْرِيَتِهِ بِإِطْعَامِهِ الْمَيْتَةَ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ جَوَازُ إِطْعَامِ كَلْبِهِ وَطَيْرِهِ الْبَازِي الْمُعَلَّمِ الْمَيْتَةَ، وَكَذَا عَلْفُ دَوَابِّهِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا الْمَيْتَةَ، لأَِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَتْ بِمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، وَلأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْمَيْتَةِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الإِْتْلاَفِ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَكَذَا يُبَاحُ أَنْ يَعْلِفَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالأَْنْعَامِ الأَْطْعِمَةَ النَّجِسَةَ إِذَا كَانَ لاَ يُرَادُ ذَبْحُهَا أَوْ حَلْبُهَا قَرِيبًا، لأَِنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهَا فِي الْمَرْعَى عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا تَرْعَى النَّجَاسَةَ، وَيَحْرُمُ عَلْفُهَا النَّجَاسَةَ إِذَا كَانَتْ تُؤْكَل قَرِيبًا أَوْ تُحْلَبُ قَرِيبًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ الذَّبْحُ أَوِ الْحَلْبُ (2) .
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ عَلْفِ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانَاتِ مُطْلَقًا الطَّعَامَ النَّجِسَ، مَا أُكِل لَحْمُهُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُؤْكَل، قَال
__________
(1) المغني 13 / 350.
(2) الكافي لابن عبد البر 1 / 439، والمغني 13 / 350، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 25، والمبدع 9 / 204، وكشاف القناع 6 / 192، وشرح منتهى الإرادات 3 / 399.(39/393)
ابْنُ الْجَلاَّبِ: وَلاَ بَأْسَ بِعَلْفِ الدَّوَابِّ الطَّعَامَ النَّجِسَ مَا أُكِل لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَل لَحْمُهُ (1) .
هـ - طِلاَءُ الْجُلُودِ وَالسُّفُنِ وَالاِسْتِصْبَاحُ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ تُطْلَى بِهِ ظُهُورُ السُّفُنِ وَالْجُلُودِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالأَْصْنَامَ فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَل اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ (3) . حَيْثُ بَيَّنَ
__________
(1) التفريع 1 / 407.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 145، وأحكام القرآن الكريم للكيا الهراس 1 / 71، والمغني 13 / 449، وتفسير الرازي 5 / 16.
(3) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 414 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) .(39/393)
النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَدَخَل تَحْتَ تَحْرِيمِهِ سَائِرُ ضُرُوبِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ.
وَالثَّانِي: لِعَطَاءٍ وَهُوَ جَوَازُ دَهْنِ ظُهُورِ السُّفُنِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ (1) .
وَالثَّالِثُ: لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرُهُ.
وَحَكَى أَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ (2) .
الْمَيْتَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ التَّحْرِيمِ
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ وَجَوَازِ أَكْلِهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (4) ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 145، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 71.
(2) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 26.
(3) البدائع 5 / 35، والمبسوط 11 / 249، والفتاوى الخانية 3 / 357، والتفريع 1 / 405، والقوانين الفقهية ص 176، وبداية المجتهد 1 / 76، 465، والذخيرة 1 / 179، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 52، والشرح الصغير 2 / 182، ومغني المحتاج 4 / 297، والمجموع 9 / 23، 31، وشرح منتهى الإرادات 3 / 399، والمغني 13 / 299، 345، وكشاف القناع 6 / 192.
(4) سورة المائدة / 96.(39/394)
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا صِيدَ مِنْهُ، وَطَعَامَهُ مَا مَاتَ فِيهِ (1) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْجَرَادِ، وَجَوَازِ أَكْلِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (3) .
وَقَدْ عَلَّل ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ الْحُكْمَ الاِسْتِثْنَائِيَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْمَيْتَةَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لاِحْتِقَانِ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلاَتِ وَالدَّمِ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَالذَّكَاةُ لَمَّا كَانَتْ تُزِيل ذَلِكَ الدَّمَ وَالْفَضَلاَتِ كَانَتْ سَبَبَ الْحِل، وَإِلاَّ فَالْمَوْتُ لاَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَإِنَّهُ حَاصِلٌ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَحْصُل بِغَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَيَوَانِ دَمٌ وَفَضَلاَتٌ
__________
(1) فتح الباري 9 / 529، وسنن البيهقي 9 / 254.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". أخرجه أبو داود (1 / 64 ط حمص) ، والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) حديث: " أحلت لنا ميتتان. . . ". أخرجه أحمد (2 / 97 ط الميمنية) ، وضعف إسناده ابن حجر (بلوغ المرام ص 28 ط دار إحياء العلوم) .(39/394)
تُزِيلُهَا الذَّكَاةُ لَمْ يَحْرُمْ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِحِلِّهِ ذَكَاةٌ كَالْجَرَادِ، وَلِهَذَا لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً كَالذُّبَابِ وَالنَّحْلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالسَّمَكُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَمٌ وَفَضَلاَتٌ تَحْتَقِنُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَحِل لِمَوْتِهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ (1) .
(ر: أَطْعِمَةٌ ف 15، 53) .
مِيرَاثٌ
انْظُرْ: إِرْثٌ.
__________
(1) زاد المعاد 3 / 393.(39/395)
مِيزَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِيزَابُ فِي اللُّغَةِ: قَنَاةٌ أَوْ أُنْبُوبَةٌ يُصْرَفُ بِهَا الْمَاءُ مِنْ سَطْحِ بِنَاءٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ (1) .
وَالْمِرْزَابُ وَالْمِزْرَابُ بِمَعْنَى الْمِيزَابِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِيزَابِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمِيزَابِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
إِخْرَاجُهُ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمِيزَابِ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَطَرَ مِيزَابٌ عَلَيْهِ لِلْعَبَّاسِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَ، فَقَال الْعَبَّاسُ: قَلَعْتَ مِيزَابِي، وَاللَّهِ مَا وَضَعَهُ حَيْثُ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.(39/395)
كَانَ إِلاَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ. فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لاَ يَضَعُهُ إِلاَّ أَنْتَ بِيَدِكَ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ لَكَ سُلَّمٌ إِلاَّ عُمَرُ. قَال: فَوَضَعَ الْعَبَّاسُ رِجْلَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْ عُمَرَ ثُمَّ أَعَادَهُ حَيْثُ كَانَ (1) . وَمَا فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِغَيْرِهِ فِعْلُهُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَلاَ يُمْكِنُهُ رَدُّ مَائِهِ إِلَى الدَّارِ، وَلأَِنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ، وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَى دَرْبٍ نَافِذٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ وَنَائِبِهِ وَأَهْلِهِ، لأَِنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ ضَرَّ بِالْمَارَّةِ أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ حَالاً فَقَدْ يَضُرُّ مَآلاً، كَمَا لَوْ كَانَ
__________
(1) حديث: " أن عمر رضي الله عنه خرج في يوم جمعة. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6 / 66) ، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 45) .
(2) مجلة الأحكام العدلية للأتاسي 4 / 172 - 173 المادة 1230، والبحر الرائق 8 / 395، وتبيين الحقائق 6 / 142، والمغني 4 / 554 ط الرياض، والحاوي للماوردي 8 / 45، وروضة الطالبين 9 / 320، والإنصاف 5 / 255، وتبصرة الحكام 2 / 242.(39/396)
الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ وَلأَِنَّهُ يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلِهَا، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ دِكَّةٍ فِيهَا أَوْ جُنَاحٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهَا، وَلاَ يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ فَإِنَّ مَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَارَّةِ وَرُبَّمَا جَرَى فِيهِ الْبَوْل أَوْ مَاءٌ نَجَسٌ فَيُنَجِّسُهُمْ، وَيَزْلِقُ الطَّرِيقَ وَيَجْعَل فِيهَا الطِّينَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (طَرِيقٌ ف 14) .
الْخُصُومَةُ فِي الْمِيزَابِ:
الْخُصُومَةُ فِي إِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ إِلَى الطَّرِيقِ
3 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ إِلَى الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ مِيزَابًا فَلِكُل أَحَدٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوَضَعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إِذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ لأَِنَّ فِيهِ الاِفْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الإِْمَامِ فِيمَا إِلَيْهِ تَدْبِيرُهُ فَلِكُل أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ لأَِحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِحْدَاثِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 554، والإنصاف 5 / 255.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 330 - 331 ط دار صادر - بيروت، والدسوقي 3 / 368، ومغني المحتاج 2 / 182 - 183، والإنصاف 5 / 255.(39/396)
الْخُصُومَةُ فِي رَفْعِ الْمِيزَابِ:
4 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ أَخْرَجَ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِيزَابًا فَلِكُل أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْخُصُومَةِ - كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِل الْحُرِّ أَوِ الذِّمِّيِّ - مُطَالَبَتُهُ بِالنَّقْضِ لأَِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمُ الْمُرُورَ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَيَكُونُ لَهُ الْخُصُومَةُ بِنَقْضِهِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لأَِحَدِ ذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لأَِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمَأْذُونِ مِنَ الإِْمَامِ فَلاَ يَرْفَعُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُول كَانَ قَبْل الْوَضْعِ لِكُل أَحَدٍ يَدٌ فِيهِ فَالَّذِي يُحْدِثُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي يَدِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، أَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَدْ صَارَ فِي يَدِهِ فَالَّذِي يُخَاصِمُهُ يُرِيدُ إِبْطَال يَدِهِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَنِّتٌ (1) .
وَقَال الأَْتَاسِيُّ: دُورٌ فِي طَرِيقٍ لَهَا مَيَازِيبُ مِنَ الْقَدِيمِ مُنَصَّبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ تَمْتَدُّ إِلَى عَرْصَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَسْفَلِهِ جَارِيَةٍ مِنَ الْقَدِيمِ، لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ سَدُّ ذَلِكَ الْمَسِيل الْقَدِيمِ، فَإِنْ سَدَّهُ يُرْفَعُ السَّدُّ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ وَيُعَادُ إِلَى وَضْعِهِ الْقَدِيمِ لأَِنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّدِّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ عَرْصَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ
__________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 330 - 331، وتبيين الحقائق 6 / 142.(39/397)
بِالطَّرِيقِ الَّذِي تَنْصَبُّ إِلَيْهِ الْمَيَازِيبُ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِمِثْلِهِ وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِالضَّرَرِ الْعَامِّ، وَيُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَلاَ سَبِيل إِلَى رَفْعِ الْمَيَازِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ لأَِنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلاَ عَنِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الضَّرَرُ حَيْثُ كَانَ مَسِيل مَاءٍ إِلَى الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّرِيقِ مَا يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ نَصَبَ مِيزَابًا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَلِكُل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُطَالَبَتُهُ بِإِزَالَتِهِ، لأَِنَّهُ مِنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، لَكِنْ لاَ يُزِيلُهُ إِلاَّ الْحَاكِمُ لاَ غَيْرُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْفِتْنَةِ (2) .
الاِخْتِلاَفُ فِي حَقِّ إِجْرَاءِ مَاءِ الْمِيزَابِ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمِيزَابُ مَنْصُوبًا إِلَى دَارِ رَجُلٍ وَاخْتَلَفَا فِي حَقِّ إِجْرَاءِ الْمَاءِ وَإِسَالَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي حَال عَدَمِ جَرَيَانِ الْمَاءِ لاَ يَسْتَحِقُّ إِجْرَاءَ الْمَاءِ وَإِسَالَتَهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَيْضًا أَنْ يَقْطَعَ الْمِيزَابَ.
وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: أَنَّهُمُ اسْتَحْسَنُوا أَنَّ الْمِيزَابَ إِذَا كَانَ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 4 / 172 - 173 المادة 1230.
(2) مغني المحتاج 2 / 183.(39/397)
قَدِيمًا وَكَانَ تَصْوِيبُ السَّطْحِ إِلَى دَارِهِ وَعُلِمَ أَنَّ التَّصْوِيبَ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ أَنْ يَجْعَل لَهُ حَقَّ التَّسْيِيل، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حَال جَرَيَانِ الْمَاءِ قِيل: الْقَوْل لِصَاحِبِ الْمِيزَابِ وَيَسْتَحِقُّ إِجْرَاءَ الْمَاءِ، وَقِيل: لاَ يَسْتَحِقُّ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمَسِيل وَبَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ مِنْ هَذَا الْمِيزَابِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسِيل مَاءَ الاِغْتِسَال وَالْوُضُوءِ فِيهِ، وَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الاِغْتِسَال وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسِيل مَاءَ الْمَطَرِ فِيهِ وَإِنْ قَالُوا لَهُ فِيهَا حَقُّ مَسِيل مَاءٍ وَلَمْ يُبَيِّنُوا لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ صَحَّ، وَالْقَوْل لِرَبِّ الدَّارِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ لِمَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسَالَةِ، وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تُقْبَل هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْمَسِيل، وَفِي الطَّرِيقِ تُقْبَل (1) .
الْوُضُوءُ وَالْغُسْل بِمَاءِ الْمِيزَابِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ أَوْ تَحْتَ مَطَرٍ نَاوِيًا الطَّهَارَةَ وَوَصَل الْمَاءُ إِلَى شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ وُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 104.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 103 - 105، والمجموع 2 / 185، وحاشية الدسوقي 1 / 134، والمغني 1 / 219، ومطالب أولي النهى 1 / 153.(39/398)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفِي فِي الْغُسْل إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى الْجَسَدِ دُونَ الدَّلْكِ (1) .
قَال الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: فِي مَاءِ الْمِيزَابِ الَّذِي يَظُنُّ نَجَاسَتَهُ وَلاَ يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ وَلاَ نَجَاسَتَهُ فِيهِ قَوْلاَنِ: وَالْمُخْتَارُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ انْغَسَلَتْ (2) .
سُقُوطُ الْمِيزَابِ وَأَثَرُهُ فِي الضَّمَانِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ مِيزَابًا فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لأَِنَّهُ مُسَبِّبٌ لِتَلَفِهِ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ وَهَذَا مِنْ أَسِبَابِ الضَّمَانِ (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَخَرَجَ مِيزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ يُنْظَرُ: إِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الَّذِي كَانَ فِي الْحَائِطِ لاَ ضَمَانَ فِيهِ لأَِنَّهُ وَضَعَ ذَلِكَ الطَّرَفَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 134، 135، والمجموع 2 / 185.
(2) المجموع 1 / 209.
(3) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 330 - 331 ط دار صادر بيروت لبنان، ومغني المحتاج 2 / 182 - 183، وكشاف القناع 3 / 407، وروضة الطالبين 9 / 320.(39/398)
الْخَارِجُ مِنَ الْحَائِطِ ضَمِنَ صَاحِبُ الْمِيزَابِ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ شَغَل بِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلاَ يُحْرَمُ فِي الْمِيرَاثِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيَّهُمَا أَصَابَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الضَّمَانِ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهَدْرُ النِّصْفِ، وَمَنْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِيزَابٍ لَهُ وَتَحْتَ الْمِيزَابِ مَتَاعٌ لِغَيْرِهِ يَفْسُدُ بِهِ كَانَ ضَامِنًا اسْتِحْسَانًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ كَانَ مَضْمُونًا فِي الْجَدِيدِ لأَِنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالشَّارِعِ، فَجَوَازُهُ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ.
فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمِيزَابِ فِي الْجِدَارِ وَبَعْضُهُ خَارِجًا عَنْهُ فَسَقَطَ الْخَارِجُ مِنْهُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَكُل الضَّمَانِ يَجِبُ لأَِنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِنْ سَقَطَ كُل الْمِيزَابِ دَاخِلُهُ وَخَارِجُهُ بِأَنْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ فَنِصْفُ الضَّمَانِ يَجِبُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل بِالدَّاخِل فِي مِلْكِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَبِالْخَارِجِ وَهُوَ مَضْمُونٌ فَوُزِّعَ عَلَى النَّوْعَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْصَابَةُ بِالدَّاخِل وَالْخَارِجِ اسْتَوَيَا
__________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 331، ومجمع الضمانات ص 177، والفتاوى الهندية 6 / 41، والخانية بهامش الهندية 3 / 361.(39/399)
بِالْقَدْرِ أَمْ لاَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُوَزَّعُ عَلَى الدَّاخِل وَالْخَارِجِ فَيَجِبُ قِسْطُ الْخَارِجِ، وَيَكُونُ التَّوْزِيعُ بِالْوَزْنِ وَقِيل: بِالْمِسَاحَةِ.
وَلَوْ أَصَابَ الْمَاءُ النَّازِل مِنَ الْمِيزَابِ شَيْئًا فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَ نِصْفَهَا إِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِي الْجِدَارِ وَبَعْضُهُ خَارِجًا، وَلَوِ اتَّصَل مَاؤُهُ بِالأَْرْضِ ثُمَّ تَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ قَال الْبَغَوِيُّ: الْقِيَاسُ التَّضْمِينُ أَيْضًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ سَقَطَ مِيزَابُهُ عَلَى رَأْسِ إِنْسَانٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ فَعَل مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلأَِنَّهُ لِضَرُورَةِ تَصْرِيفِ الْمِيَاهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أَخْرَجَ مِيزَابًا فِي دَرْبٍ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لأَِنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ مُتَعَدٍّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ بِلاَ ضَرَرٍ أَوْ بِإِذْنِ أَهْل غَيْرِ النَّافِذِ فَلاَ ضَمَانَ لِعَدَمِ الْعُدْوَانِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 85 - 86.
(2) التاج والإكليل 6 / 322، وتبصرة الحكام 2 / 242، والقليوبي 4 / 148.
(3) كشاف القناع 6 / 18.(39/399)
مِيزَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِيزَانُ مِنْ وَزَنَ الشَّيْءَ وَزْنًا وَزِنَةً.
قَال أَبُو مَنْصُورٍ: رَأَيْتُ الْعَرَبَ يُسَمُّونَ الأَْوْزَانَ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا التَّمْرُ وَغَيْرُهُ الْمُسَوَّاةَ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْحَدِيدِ الْمَوَازِينَ، وَاحِدُهَا مِيزَانٌ، وَهِيَ الْمَثَاقِيل وَاحِدُهَا مِثْقَالٌ، وَيُقَال لِلآْلَةِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا الأَْشْيَاءُ مِيزَانٌ أَيْضًا.
وَجَائِزٌ أَنْ يُقَال لِلْمِيزَانِ الْوَاحِدِ مَوَازِينٌ وَفِي التَّنْزِيل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (1) أَيْ نَضَعُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَيْل:
2 - الْكَيْل هُوَ مِنْ كَال يَكِيل كَيْلاً. وَالاِسْمُ:
__________
(1) سورة الأنبياء / 47.
(2) لسان العرب، والمفردات في غريب القرآن.(39/400)
كَيْلَةٌ، وَالْمِكْيَال مَا يُكَال بَهِ الأَْشْيَاءُ وَالْكَيْل مِثْلُهُ، وَالْجَمْعُ أَكْيَالٌ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيزَانِ وَالْكَيْل: أَنَّهُمَا أَصْل الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَكْثَرُ آلاَتِ التَّقْدِيرِ اسْتِعْمَالاً. (2)
ب - الْمِثْقَال:
3 - الْمِثْقَال مِعْيَارٌ يُوزَنُ بِهِ الأَْشْيَاءُ، وَمِثْقَال الشَّيْءِ مِيزَانُهُ مِنْ مِثْلِهِ، وَالْمِثْقَال وَاحِدُ مَثَاقِيل الذَّهَبِ، وَالْمِثْقَال وَزْنُ دِرْهَمٍ وَثَلاَثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيزَانِ وَالْمِثْقَال هِيَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَدَّرُ بِهِ الأَْشْيَاءُ.
ج - الرِّطْل:
4 - الرِّطْل مِعْيَارٌ يُوزَنُ بَهِ الأَْشْيَاءُ وَكَسْرُهُ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهِ، وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الرِّطْل إِذَا أُطْلِقَ يُحْمَل عَلَى الرِّطْل الْبَغْدَادِيِّ وَهُوَ اثْنَتَا عَشَرَةَ أُوقِيَّةً لأَِنَّهُ هُوَ الرِّطْل الشَّرْعِيُّ (4) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الرِّطْل وَالْمِيزَانِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تُقَدَّرُ بِهِ الأَْشْيَاءُ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاوي 3 / 59.
(3) المصباح المنير، وحاشية ابن عابدين 2 / 29.
(4) المحلي شرح المنهاج 2 / 16، وتحفة المحتاج 3 / 144.(39/400)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِيزَانِ:
5 - الْمِيزَانُ إِحْدَى الآْلَتَيْنِ لِتَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمَا الْكَيْل وَالْمِيزَانُ وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْبَخْسَ فِي الْمِيزَانِ بِالتَّطْفِيفِ أَوِ التَّنْقِيصِ حَرَامٌ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَالأَْمْرُ بِإِيفَائِهِمَا، وَأَوْعَدَ عَلَى الْمُطَفِّفِينَ الْوَيْل: وَهُوَ الْهَلاَكُ أَوِ الْعَذَابُ، وَاعْتُبِرَ أَيُّ إِخْلاَلٍ فِيهِمَا بِالنَّقْصِ أَوِ التَّطْفِيفِ إِفْسَادًا فِي الأَْرْضِ، وَالْوَعِيدُ عَلَى فَاعِلِي الْبَخْسِ فِي الْمِيزَانِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَال تَعَالَى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (1) .
وَالْوَيْل وَادٍ مِنَ النَّارِ أَوْ هُوَ الْهَلاَكُ.
وَالتَّطْفِيفُ: الْبَخْسُ فِي الْكَيْل وَالْمِيزَانِ، وَقَال جَل شَأْنُهُ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مَعَ قَوْمِهِ: {وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ} (2) .
__________
(1) سورة المطففين / 1 - 3.
(2) سورة هود / 84 - 85.(39/401)
وَالْعُثُوُّ: الإِْفْسَادُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ تَنْقِيصَ الْحُقُوقِ أَوْ غَيْرَهُ فَهُوَ مِنْ قَبِيل التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَيُقَال أَيْضًا عَثَى عِثِيًّا، وَالْعِثِيُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَسَادِ.
فَجَعَل تَجَاوُزَ الْحَدِّ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إِفْسَادًا فِي الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمَا وَضَعَهُ اللَّهُ فِي قَانُونِ سُنَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالْعَدْل وَأَصْلَحَ بِهِ أَحْوَال أَهْل الأَْرْضِ (1) .
الْمِيزَانُ الْمُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيرِ الْمَوْزُونَاتِ
6 - الأَْصْل أَنَّ الْمِيزَانَ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مَوْزُونٌ وَمَا هُوَ مَكِيلٌ وَمَا يُقَدَّرُ شَرْعًا هُوَ مَا كَانَ مَأْلُوفًا فِي مَكَّةَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثِ: الْمِكْيَال مِكْيَال أَهْل الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ (2) ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا نَصَّ الشَّارِعُ مِنَ الأَْشْيَاءِ عَلَى كَوْنِهِ مَوْزُونًا كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُوَ كَذَلِكَ لاَ يَتَغَيَّرُ أَبَدًا، وَمَا نَصَّ عَلَى كَوْنِهِ مَكِيلاً كَبُرِّ وَشَعِيرٍ وَتَمْرٍ وَمِلْحٍ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ لاَ يَتَغَيَّرُ أَبَدًا وَلَوْ مَعَ التَّسَاوِي، لأَِنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْعُرْفِ فَلاَ
__________
(1) حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاوي 3 / 59 في تفسير الآيتين: 84 - 85 من سورة هود.
(2) حديث: " المكيال مكيال أهل المدينة. . . ". أخرجه النسائي (5 / 54 ط التجارية الكبرى) من حديث ابن عمر، وقال ابن حجر في التلخيص (2 / 175 ط شركة الطباعة الفنية) : صححه ابن حبان والدارقطني والنووي.(39/401)
يُتْرَكُ الأَْقْوَى بِالأَْدْنَى، وَمَا لَمْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حُمِل عَلَى الْعُرْفِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ النَّصِّ لأَِنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْل فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنُ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِلاَّ لأَِنَّ الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّل الْحُكْمُ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَال كَالْقَمْحِ فَالْمُمَاثَلَةُ فِيهِ بِالْكَيْل لاَ بِالْوَزْنِ وَمَا وَرَدَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ كَانَ يُوزَنُ كَالنَّقْدِ فَالْمُمَاثَلَةُ فِيهِ بِالْوَزْنِ لاَ بِالْكَيْل فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ قَمْحٍ بِقَمْحٍ وَزْنًا وَلاَ نَقْدٍ بِنَقْدٍ كَيْلاً وَإِنْ لَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرْعِ مِعْيَارٌ مُعَيَّنٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ فَبِالْعَادَةِ الْعَامَّةِ كَاللَّحْمِ فَإِنَّهُ يُوزَنُ فِي كُل بَلَدٍ، أَوِ الْعَادَةِ الْخَاصَّةِ كَالسَّمْنِ وَاللَّبَنِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَل فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ، وَيُعْمَل فِي كُل مَحَلٍّ بِعَادَتِهِ فَإِنْ عَسُرَ الْوَزْنُ فِيمَا هُوَ مِعْيَارُهُ لِسَفَرٍ أَوْ بَادِيَةٍ جَازَ التَّحَرِّي إِنْ لَمْ يُتَعَذَّرِ التَّحَرِّيَ لِكَثْرَةٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِبَا ف 27، وَمَقَادِيرُ) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيل إِنَّمَا يَأْتَمُّ النَّاسُ فِيهِمَا بِأَهْل مَكَّةَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 181.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 53.(39/402)
وَأَهْل الْمَدِينَةِ وَإِنْ تَغَيَّرَ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ فَمَا كَانَ مَوْزُونًا بِعَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّرًا بِالْوَزْنِ يُقَدَّرُ بِهِ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيرُهُ بِالْكَيْل، وَيُوزَنُ بِالْوَزْنِ السَّائِدِ فِي مَكَّةَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مَكِيلاً فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدَّرُ بِالْكَيْل فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَبِمِعْيَارِ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ، لِظُهُورِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ.
وَمَا جُهِل كَوْنُهُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ كَوْنَ الْغَالِبِ مِنْهُ أَحَدُهُمَا فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وُجُودِهِ فِيهِ بِالْحِجَازِ أَوْ عُلِمَ وُجُودُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ حُدُوثُهُ بَعْدَهُ، أَوْ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهِمَا فِيهِ أَوِ الْغَالِبُ فِيهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَوْ نَسِيَ يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ الْحِجَازِ حَالَةَ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُرْفٌ فِيهِ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ جُرْمًا مِنَ التَّمْرِ الْمُعْتَدِل فَمَوْزُونٌ جَزْمًا إِذْ لَمْ يُعْلَمْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ الْكَيْل فِي ذَلِكَ وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ كَاللَّوْزِ أَوْ دُونَهُ فَأَمْرُهُ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ قَاعِدَةَ أَنَّ مَا لَمْ يُحَدَّ شَرْعًا يُحَكَّمُ فِيهِ الْعُرْفُ قَضَتْ بِأَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ عَادَةُ بَلَدِ الْبَيْعِ حَالَةَ الْبَيْعِ فَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَالَّذِي يَظْهَرُ اعْتِبَارُ الأَْغْلَبِ فِيهِ فَإِنْ فُقِدَ الأَْغْلَبُ أُلْحِقَ بِالأَْكْثَرِ شَبَهًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جَازَ فِيهِ الْكَيْل وَالْوَزْنُ. وَقِيل: الْكَيْل لأَِنَّهُ الأَْغْلَبُ فِيمَا وَرَدَ، وَقِيل: الْوَزْنُ لأَِنَّهُ(39/402)
أَضْبَطُ، وَقِيل: يَتَخَيَّرُ بِالتَّسَاوِي، وَقِيل: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مُعْتَبَرُ الْمِعْيَارِ اعْتُبِرَ أَصْلُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْكَيْل عُرْفُ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرْجِعَ الْوَزْنِ عُرْفُ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمِكْيَال مِكْيَال الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ مَكَّةَ وَكَلاَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى تَبْيِينِ الأَْحْكَامِ فَمَا كَانَ مِكْيَالاً بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ التَّحْرِيمُ بِتَفَاضُل الْكَيْل إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَكَذَا الْمَوْزُونُ، وَمَا لاَ عُرْفَ لَهُ بِهِمَا أَيْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ اعْتُبِرَ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ لأَِنَّ مَا لاَ حَدَّ لَهُ فِي الشَّرْعِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ كَالْحِرْزِ وَالْقَبْضِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْبِلاَدُ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُهُ اعْتُبِرَ الْغَالِبُ مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبٌ رُدَّ إِلَى أَقْرَبِ الأَْشْيَاءِ بِهِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ لأَِنَّ الْحَوَادِثَ تُرَدُّ إِلَى أَشْبَهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِهَا (2) .
عُقُوبَةُ التَّطْفِيفِ فِي الْمِيزَانِ
7 - الْغِشُّ فِي الْوَزْنِ بِالتَّطْفِيفِ أَوِ التَّنْقِيصِ جَرِيمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَوَرَدَ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ
__________
(1) المحلي شرح المنهاج 2 / 169، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 4 / 278.
(2) كشاف القناع 3 / 262 - 263.(39/403)
فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) .
وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّارِعُ عُقُوبَةً مُحَدَّدَةً لِهَذِهِ الْجَرِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَعُقُوبَتُهُ التَّعْزِيرُ كَمَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ كُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ فَعُقُوبَتُهَا التَّعْزِيرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ ف 13) .
__________
(1) سورة المطففين / 1 - 6.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا ". أخرجه مسلم (1 / 99 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.(39/403)
مَيْسِرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَيْسِرُ لُغَةً: قِمَارُ الْعَرَبِ بِالأَْزْلاَمِ (1) ، وَقَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ هُوَ اللَّعِبُ بِالْقِدَاحِ أَوْ هُوَ النَّرْدُ، أَوْ كُل قِمَارٍ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ: الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ، وَقَال الْمَحَلِّيُّ: صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ وَأَنْ يَغْرَمَ.
وَقَال مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ: مَيْسِرَانِ، مَيْسِرُ اللَّهْوِ وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ فَمِنْ مَيْسِرِ اللَّهْوِ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلاَهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القاموس المحيط.
(3) التعريفات للجرجاني ص 179، وتفسير القرطبي 3 / 53، وتفسير الرازي 6 / 46، وشرح الترمذي لابن العربي 7 / 18، والجمل على المنهج 2 / 425، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي المكي 2 / 200، والمحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 226، ومجموع فتاوى ابن تيمية 32 / 242.(39/404)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْزْلاَمُ:
2 - الأَْزْلاَمُ عِيدَانٌ مُخَصَّصَةٌ لِلاِسْتِقْسَامِ بِهَا، وَالاِسْتِقْسَامُ بِالأَْزْلاَمِ هُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ مَا قُسِمَ لِلشَّخْصِ (أَيْ مَا قُدِّرَ لَهُ) مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِي الْقِمَارِ.
فَالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَيْسِرِ وَالاِسْتِقْسَامِ بِالأَْزْلاَمِ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِلْفَرْدِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الاِسْتِقْسَامَ يُسْتَخْدَمُ لِلتَّصَرُّفِ لاَ لأَِخْذِ الْمَال كَمَا فِي الْمَيْسِرِ (1) .
ب - السَّبَقُ:
3 - السَّبَقُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةً: الْخَطَرُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَا يَتَرَاهَنُ عَلَيْهِ الْمُتَسَابِقَانِ (2) .
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْمَيْسِرِ.
__________
(1) الميسر والقداح لابن قتيبة ص 36، وتفسير القرطبي 6 / 291، وجواهر الإكليل 1 / 226.
(2) المصباح، ومغني المحتاج 4 / 311.(39/404)
ج - الرِّهَانُ:
4 - الرِّهَانُ وَالْمُرَاهَنَةُ: الْمُخَاطَرَةُ وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْل.
وَتَرَاهَنَا إِذَا أَخْرَجَ كُل وَاحِدٍ رَهْنًا لِيَفُوزَ السَّابِقُ بِالْجَمِيعِ إِذَا غَلَبَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلرِّهَانِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ هِيَ: أَنَّ الرِّهَانَ نَوْعٌ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْمَيْسِرِ (1) .
د - الْغَرَرُ:
5 - الْغَرَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّغْرِيرِ، وَهُوَ الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْغَرَرِ وَالْمَيْسِرِ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْغَرَرَ أَعَمُّ مِنَ الْمَيْسِرِ.
هـ - النَّرْدُ وَأَشْبَاهُهُ:
6 - جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: النَّرْدُ: مَعْرُوفٌ شَيْءٌ يُلْعَبُ بِهِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ وَهُوَ النَّرْدَشِيرُ.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح، والمغرب، والفروسية لابن القيم 5 و 19.
(2) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني.(39/405)
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: النَّرْدُ هُوَ الْمَعْرُوفُ الآْنَ بِالطَّاوِلَةِ.
وَمِثْلُهُ مَا كَانَ مِنْ طَبِيعَتِهِ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِعِبَارَةِ " أَشْبَاهُ النَّرْدِ " (1) .
وَالْعَلاَقَةُ هِيَ أَنَّ النَّرْدَ وَأَشْبَاهَهُ قَدْ يُسْتَعْمَل لِلْمَيْسِرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ:
8 - جَاءَ النَّصُّ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَيْسِرِ إِثْمًا وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُل فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (4)
__________
(1) لسان العرب، والقليوبي 4 / 319.
(2) سورة المائدة / 90.
(3) سورة المائدة / 91.
(4) سورة البقرة / 219.(39/405)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ مَفْسَدَةَ الْمَيْسِرِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الرِّبَا لأَِنَّهُ يَشْتَمِل عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةُ أَكْل الْمَال بِالْحَرَامِ، وَمَفْسَدَةُ اللَّهْوِ الْحَرَامِ، إِذْ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ وَيُوقِعُ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِهَذَا حُرِّمَ الْمَيْسِرُ قَبْل تَحْرِيمِ الرِّبَا (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْمَيْسِرِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (2) .
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: مَنْ حَلَفَ فَقَال فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَال لِصَاحِبِهِ تَعَال أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ (3) . وَقَال: فَإِذَا اقْتَضَى مُطْلَقُ الْقَوْل طَلَبَ الْكَفَّارَةَ وَالصَّدَقَةَ الْمُنْبِئَةَ عَنْ عَظِيمِ مَا وَجَبَتْ لَهُ أَوْ سُنَّتْ فَمَا ظَنُّكَ بِالْفِعْل وَالْمُبَاشَرَةِ (4) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 32 / 337، والقرطبي 3 / 57.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: " من حلف، فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 611 ط السلفية) ومسلم (3 / 1268 - 1269 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(4) الزواجر 2 / 198، ونحوه للقرطبي في تفسيره 3 / 58.(39/406)
أَقْسَامُ الْمَيْسِرِ
9 - قَسَّمَ عَدَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَيْسِرَ إِلَى مَيْسِرِ لَهْوٍ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مَالٌ، وَمَيْسِرِ قِمَارٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَالٌ، وَمِمَّنِ اشْتُهِرَ عَنْهُ هَذَا التَّقْسِيمُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الإِْمَامُ مَالِكُ وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ (1) .
قَال الإِْمَامُ مَالِكُ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ: مَيْسِرُ اللَّهْوِ فَمِنْهُ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلاَهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ، وَهُوَ مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَسُئِل الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: مَا الْمَيْسِرُ؟ فَقَال: كُل مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْسِرِ:
حُكْمُ مَيْسِرِ اللَّهْوِ
10 - مَيْسِرُ اللَّهْوِ كَاللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ دُونَ أَنْ يُصَاحِبَهُ مَالٌ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَعِبَ ف 4 - 5) .
__________
(1) مختصر فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 526، 530، 531، والفروسية لابن القيم / 174.
(2) تفسير القرطبي 3 / 52، ومجموع فتاوى ابن تيمية 32 / 242.(39/406)
حُكْمُ مَيْسِرِ الْقِمَارِ
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَيْسِرِ الْقِمَارِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ إِنْ شُرِطَ فِيهِ مَالٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَال لِمَنْ غَلَبَ مِنَ اللاَّعِبَيْنِ، فَهُوَ الْقِمَارُ الْمُحَرَّمُ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنْهُمْ: وَالْمُحَرَّمُ الْعَقْدُ، وَأَخْذُ الْمَال، لأَِنَّهُ غَصْبٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (1) .
تَصَدُّقُ مَنْ طَلَبَ الْمُقَامَرَةَ
12 - مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَيْسِرِ تَصَدُّقُ مَنْ طَلَبَ الْمُقَامَرَةَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ فَقَال فِي حَلِفِهِ: وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَال لِصَاحِبِهِ تَعَال أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ (3) : قَال الْعُلَمَاءُ: أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ تَكْفِيرًا لِخَطِيئَتِهِ فِي كَلاَمِهِ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَال الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ فَلْيَتَصَدَّقْ بِمِقْدَارِ مَا أَمَرَ أَنْ يُقَامِرَ بِهِ.
__________
(1) البدائع 5 / 127، تكملة فتح القدير 8 / 132، والقوانين الفقهية 105، والقليوبي 4 / 319، والمغني لابن قدامة 9 / 472، والزواجر لابن حجر 2 / 200.
(2) حديث: " من حلف فقال في حلفه واللات والعزى. . . ". سبق تخريجه ف 8.
(3) شرح صحيح مسلم 11 / 118.(39/407)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ - وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ - أَنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ بَل يَتَصَدَّقُ بِمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: " فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ " (1) .
الْكَسْبُ النَّاشِئُ عَنِ الْمَيْسِرِ
13 - مَا يَكْسِبُهُ الْمُقَامِرُ هُوَ كَسْبٌ خَبِيثٌ، وَهُوَ مِنَ الْمَال الْحَرَامِ مِثْل كَسْبِ الْمُخَادِعِ وَالْمُقَامِرِ، وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ مِنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا وَإِلاَّ إِلَى الْفُقَرَاءِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَسْبٌ ف 17، حِسْبَةٌ ف 34) .
شِرَاءُ وَبَيْعُ أَدَوَاتِ الْمَيْسِرِ
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ بَيْعَ آلاَتِ اللَّهْوِ بَاطِلٌ لاَ يَنْعَقِدُ وَفِي حُكْمِ آلاَتِ اللَّهْوِ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) رواية: " فليتصدق بشيء ". أخرجها مسلم (3 / 1268 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 127، 130.(39/407)
ثَمَنُ الْخَمْرِ حَرَامٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ حَرَامٌ وَالْكُوبَةُ حَرَامٌ وَإِنْ أَتَاكَ صَاحِبُ الْكَلْبِ يَلْتَمِسُ ثَمَنَهُ فَامْلأَْ يَدَيْهِ تُرَابًا، وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ (1) قَال الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا بَيَانُ بُطْلاَنِ كُل حِيلَةٍ يُحْتَال بِهَا تَوَصُّلاً إِلَى مُحَرَّمٍ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ بَيْعَهَا صَحِيحٌ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 19)
حُكْمُ السَّلاَمِ عَلَى لاَعِبِ الْمَيْسِرِ
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ السَّلاَمِ عَلَى الْفُسَّاقِ الْمُجَاهِرِينَ بِفِسْقِهِمْ حَيْنَ انْشِغَالِهِمْ بِالْفِسْقِ، كَلاَعِبِ الْقِمَارِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّلاَمَ عَلَيْهِمْ لاَ يُكْرَهُ إِذَا نَوَى أَنْ يَشْغَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ (2) .
__________
(1) حديث: " ثمن الخمر حرام. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 81 ط وزارة الأوقاف العراقية الطبعة الثانية) ، والدارقطني في السنن (3 / 7 ط دار المحاسن القاهرة) من حديث ابن عباس، واللفظ للطبراني.
(2) البدائع 5 / 127، وحاشية ابن عابدين 5 / 267، وتكملة فتح القدير 8 / 132، وحاشية الدسوقي 1 / 199، والفروع لابن مفلح 6 / 525.(39/408)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَلاَمٌ ف 25) .
شَهَادَةُ لاَعِبِ الْمَيْسِرِ
16 - مَيْسِرُ الْقِمَارِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى مَالٍ فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَلَوْ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ.
أَمَّا مَيْسِرُ اللَّهْوِ، فَهُوَ صَغِيرَةٌ فَلاَ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ إِلاَّ مَعَ الإِْصْرَارِ (1) .
قَال الْمِرْغِينَانِيُّ: إِنْ قَامَرَ بِالشِّطْرَنْجِ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ لاَ تَسْقُطُ لأَِنَّهُ مُتَأَوَّلٌ فِيهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَعِبٌ ف 6) .
عُقُوبَةُ لاَعِبِ الْمَيْسِرِ
17 - عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ الْعَمَل عَلَى مَنْعِ الْمَعَاصِي، وَمِنْهَا الْمَيْسِرُ، وَعَلَيْهِ تَعْزِيرُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لأَِنَّ التَّعْزِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا، وَلاَ كَفَّارَةَ (2) .
انْظُرْ: (تَعْزِيرٌ ف 1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 132، وشرح المحلي للمنهاج 4 / 319 - 320، والفروع لابن مفلح 6 / 573.
(2) القليوبي 4 / 319.(39/408)
مَيْسَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَيْسَرَةُ فِي اللُّغَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا: ضِدُّ الْعُسْرِ، وَمِثْلُهُ: الْمَيْسِرُ وَالْيُسْرُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1) .
وَالْمَيْسَرَةُ وَالْيَسَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغِنَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُسْرُ:
2 - الْعُسْرُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْيُسْرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (4) .
__________
(1) سورة الانشراح / 5 - 6.
(2) سورة البقرة / 280.
(3) المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) سورة الانشراح / 5 - 6.(39/409)
وَالْعُسْرَةُ: تَعَسُّرُ وُجُودِ الْمَال، وَأَعْسَرَ فُلاَنٌ: أَضَاقَ، وَيَوْمٌ عَسِيرٌ: يَتَصَعَّبُ فِيهِ الأَْمْرُ وَيَشْتَدُّ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (1) وَعَسَرَنِي الرَّجُل: طَالَبَنِي بِشَيْءٍ حَيْنَ الْعُسْرَةِ، وَمِنْهُ قِيل لِلْفَقْرِ: عُسْرٌ.
وَأَعْسَرَ الرَّجُل - بِالأَْلِفِ - افْتَقَرَ، وَعَسَرَ بِالْفَتْحِ: قَل سَمَاحُهُ فِي الأُْمُورِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْعُسْرِ وَالْمَيْسَرَةِ الضِّدِّيَّةُ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ ذَا مَيْسَرَةٍ، وَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالدَّيْنِ دُونَ مُمَاطَلَةٍ أَوْ تَسْوِيفٍ (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) فَإِنْ
__________
(1) سورة التوبة / 117.
(2) المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 371 - 375، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 474 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 146 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 418 وما بعدها، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 363.
(4) حديث: " لي الواجد يحل. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 45 - 46 ط حمص) ، والنسائي (7 / 316 ط المكتبة التجارية) ، من حديث الشريد بن سويد الثقفي وحسنه ابن حجر في الفتح (5 / 62) .(39/409)
امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مَعَ الإِْمْكَانِ كَانَ ظَالِمًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هَل يَحْبِسُهُ أَوْ يُلاَزِمُهُ؟
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَارٌ ف 15) .
4 - أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَدِينُ عَاجِزًا عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَال بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي، أَوْ عِنْدَ الْغَرِيمِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِنْظَارُهُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) وَلِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ الأَْسْلَمِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ قَال ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ قُلْتُ سَمِعْتُكَ يَا رَسُول اللَّهِ تَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُول مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ قَال لَهُ بِكُل يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْل أَنْ يَحِل
__________
(1) حديث: " مطل الغني ظلم ". أخرجه البخاري (4 / 464 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1197 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة البقرة / 280.(39/410)
الدَّيْنُ فَإِذَا حَل الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُل يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَال: قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ (3) .
(ر: إِعْسَارٌ ف 15) .
مِيعَادٌ
انْظُرْ: أَجَلٌ.
__________
(1) حديث بريدة: " من أنظر معسرآ فله بكل. . . ". أخرجه أحمد (5 / 360 ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 135 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح.
(2) حديث: " من أنظر معسرًا أو وضع عنه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2302 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي اليسر.
(3) حديث: " حوسب رجل ممن كان قبلكم. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1196 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي مسعود.(39/410)
مِيقَاتٌ
انْظُرْ: مَوَاقِيتُ
مِيلٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ(39/411)
مَيِّتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَالْمَيِّتُ، (بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ) : مَنْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَمَوْتَى.
يُقَال: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا فَهُوَ مَيِّتٌ بِالتَّثْقِيل وَالتَّخْفِيفِ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَال: أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْحَيُّ فَمَيِّتٌ بِالتَّثْقِيل لاَ غَيْرُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) ، أَيْ سَيَمُوتُونَ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَيِّتُ: الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيُّ:
2 - الْحَيُّ لُغَةً: يُقَال: حَيِيَ يَحْيَى حَيَاةً مِنْ
__________
(1) سورة الزمر / 30.
(2) المعجم الوسيط، المصباح المنير، لسان العرب.
(3) قواعد الفقه للبركتي.(39/411)
بَابِ تَعِبَ فَهُوَ حَيٌّ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَال: أَحْيَاهُ اللَّهُ وَاسْتَحْيَيْتُهُ - بِيَاءَيْنِ - إِذَا تَرَكْتَهُ حَيًّا فَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَيُّ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ ظَاهِرًا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ التَّضَادُّ.
ب - الْمُحْتَضَرُ:
3 - الْمُحْتَضَرُ: هُوَ مَنْ فِي النَّزْعِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ يُقَال حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَاحْتَضَرَهُ: أَشْرَفَ فَهُوَ فِي النَّزْعِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْتَضَرِ وَالْمَيْتِ أَنَّ الاِحْتِضَارَ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَوْتِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتِ:
أ - تَقْبِيل وَجْهِ الْمَيِّتِ
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْبِيل وَجْهِ الْمَيِّتِ لِخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ (4) وَلِمَا ثَبَتَ
__________
(1) القاموس المحيط، لسان العرب.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير.
(4) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون بعد موته ". أخرجه أبو داود (3 / 513 ط حمص) والترمذي (3 / 306 ط التجارية الكبرى) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال المنذري في مختصر السنن (4 / 308) : في إسناده عاصم بن عُبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.(39/412)
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّل وَجْهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لأَِهْل الْمَيِّتِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ (2) .
ب - تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَغْمِيضِ عَيْنَيِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَال إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ (3) .
وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحُ، وَقُولُوا خَيْرًا
__________
(1) أثر: " أن أبا بكر رضي الله عنه قبل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 145 ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) البناية شرح الهداية 9 / 325، 326، ونهاية المحتاج 3 / 18، 19، والقليوبي 1 / 344، ومطالب أولي النهى 1 / 841، والمغني 2 / 470.
(3) حديث: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ". أخرجه مسلم (2 / 634 ط عيسى الحلبي) .(39/412)
فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَال أَهْل الْمَيِّتِ (1) .
وَلأَِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ فَلَمْ يُغْمَضْ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ.
وَيَقُول مَنْ يُغْمِضُ الْمَيِّتَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ ".
وَقَال أَحْمَدُ: تُغْمِضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ، وَقَال: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ وَأَنْ تَقْرَبَاهُ (2) .
ج - إِخْرَاجُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ
6 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِخْرَاجُ النُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ عَلاَمَاتُ الْمَوْتِ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ
__________
(1) حديث: " إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 468 ط عيسى الحلبي) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 261 ط دار الجنان) : إسناده حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 572، والخرشي 2 / 122، وحاشية الدسوقي 1 / 414، وحاشية الجمل 2 / 139، ومطالب أولي النهى 1 / 839، والمغني 2 / 451 - 452.
(3) الدر المختار 1 / 572.(39/413)
لأَِجْل الْمَلاَئِكَةِ، وَقَال ابْنُ حَبِيْبٍ: يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تَحْضُرَ الْحَائِضُ وَلاَ الْكَافِرَةُ وَلاَ يَكُونُ عِنْدَهُ وَقُرْبَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَقْرُبَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ (2) لِحَدِيثِ: لاَ تَدْخُل الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ (3) .
(ر: احْتِضَارٌ ف 3) .
د - تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (4) .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُلَقَّنُ.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَلْقِينٌ ف 5 احْتِضَارٌ ف 7) .
هـ - غَسْل الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَيِّتَ
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 414، والحطاب 2 / 218.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 839.
(3) حديث: " لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنب ". أخرجه أحمد (1 / 83 ط الميمنية) ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (2 / 52 ط دار المعارف مصر) .
(4) حديث: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ". أخرجه مسلم (2 / 631 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(39/413)
جَوَازِ أَنْ يَغْسِل الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَيِّتَ بِلاَ كَرَاهَةٍ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِل الطَّهَارَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ غَسْل الْجُنُبِ لِلْمَيْتِ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ طُهْرَهُ وَلاَ يُكْرَهُ تَغْسِيل الْحَائِضِ لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ طُهْرَهَا (2) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْل لأَِنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إِذَا غَسَّلَتْ (3) .
و شَدُّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ شَدِّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ بِعِصَابَةِ عَرِيضَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلَهُ الْهُوَامُ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ وَيَدْخُل الْمَاءُ عِنْدَ غَسْلِهِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَلْيِينِ مَفَاصِل الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ بِرِدِّ سَاعِدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَسَاقِهِ إِلَى فَخِذِهِ وَفَخِذِهِ إِلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ تُمَدُّ وَتَلِينُ أَصَابِعُهُ بِأَنْ تُرَدَّ إِلَى بَطْنِ كَفِّهِ ثُمَّ تُمَدُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 304، وحاشية الجمل 2 / 149، والقليوبي 1 / 345، ومطالب أولي النهى 1 / 846، والمغني 2 / 452.
(2) الخرشي 2 / 137، 138.
(3) بدائع الصنائع 1 / 304.(39/414)
تَسْهِيلاً لِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنَّ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ بَقِيَّةُ حَرَارَةٍ فَإِذَا لُيِّنَتِ الْمَفَاصِل حِينَئِذٍ لاَنَتْ وَإِلاَّ فَلاَ يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا (1) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ تَكُونُ وَلَوْ بِنَحْوِ دُهْنٍ إِنْ تَوَقَّفَ التَّلْيِينُ عَلَيْهِ لِيَسْهُل غُسْلُهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَرْكِ تَلْيِينِ الْمَفَاصِل إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ وَصَيَّرَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُثْلَةِ (3) .
ز - تَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ لأَِنَّهَا أَشَرَفُ الْجِهَاتِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ مِثْل تَوْجِيهِهِ فِي الْقَبْرِ وَجَازَ الاِسْتِلْقَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَدَمَاهُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلاً لِيَتَوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ، وَقِيل:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 572، وحاشية الدسوقي 1 / 414، والخرشي 2 / 122، وحاشية الجمل 2 / 140، ومطالب أولي النهى 1 / 839، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 318.
(2) حاشية الجمل 2 / 140.
(3) المغني 2 / 456.(39/414)
يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الأَْصَحِّ وَإِنْ شُقَّ عَلَيْهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلاَهُ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسُهُ لَهَا، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ لاَ قَبْلَهُ لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ ذَلِكَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضْعُهُ عَلَى يَمِينِهِ لِضِيقِ مَكَانٍ أَوْ لِعِلَّةٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْسَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ لِلْقِبْلَةِ بِأَنْ يُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلاً، كَأَنْ يُوضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ مُرْتَفِعٌ لِيَتَوَجَّهَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الاِسْتِلْقَاءَ أَفَضْل، فَإِنْ تَعَذَّرَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُضِعَ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْسَرِ (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ قَوْلاَنِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 570، وبدائع الصنائع 1 / 299.
(2) جواهر الإكليل 1 / 109، والشرح الصغير 1 / 562.
(3) مغني المحتاج 1 / 330، 331.(39/415)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَل عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَيُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلاً، لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.
وَقَال الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا فَعَلَى جَنْبِهِ، وَإِلاَّ فَعَلَى ظَهْرِهِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لاَ يُوَجَّهُ قَبْل تَيَقُّنِ مَوْتِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الأَْوْلَى التَّوْجِيهُ قَبْل ذَلِكَ (1) .
ج - سَتْرُ بَدَنِ الْمَيِّتِ
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حَيْنَ الْغُسْل عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَرُ وَيُغَطَّى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حَيْنَ الْغُسْل، وَأَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي السَّتْرِ هُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ الْغَلِيظَةِ فَقَطْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَقِيل مُطْلَقًا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَسْتُرَ
__________
(1) الإنصاف 2 / 465 - 466، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 306.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 574.(39/415)
الْغَاسِل الْمَيِّتَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَيِّتِ سَيِّدًا أَوْ زَوْجًا لَكِنْ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَيُجْعَل طَرَفُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَطَرَفُهُ الآْخَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ لِئَلاَّ يَنْكَشِفَ، وَاحْتُرِزَ بِالثَّوْبِ الْخَفِيفِ عَنِ الثَّقِيل لأَِنَّ الثَّقِيل يَحْمِيهِ فَيُغَيِّرُهُ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُجِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ مَاتَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ (2) .
أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُسْتَرُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ مِنْهُ. وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلاَ وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ وَيُغْسَل الْمَيِّتُ نَدْبًا فِي قَمِيصٍ لأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهِ وَجَبَ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلاَ تَنْظُرَنَّ
__________
(1) شرح الخرشي 2 / 117.
(2) حديث عائشة رضي الله عنها: " سجي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 276 ط السلفية) ومسلم (2 / 651 ط عيسى الحلبي) .
(3) القليوبي 1 / 322، ومغني المحتاج 1 / 331، 332.(39/416)
إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ (1) وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ سِنُّهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَلاَ بَأْسَ بِغَسْلِهِ مُجَرَّدًا (2) .
وَقَال الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّل فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يُنْزَل الْمَاءُ فِيهِ وَلاَ يَمْنَعُ أَنْ يَصِل إِلَى بَدَنِهِ وَيُدْخِل يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ فَيَمُرَّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ وَأَدْخَل يَدَهُ مِنْهُ (3) .
ط - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ وَقَبْل غَسْلِهِ
12 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْل غَسْلِهِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ (يس) وَكَذَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: قِرَاءَةٌ ف 17، 18) .
__________
(1) حديث: " لا تبرز فخذك. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 501 - 502 ط حمص) ، وقال أبو داود: هذا الحديث فيه نكارة. وذكره ابن حجر في التلخيص (1 / 278) وذكر علة تضعيفه.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 853.
(3) المغني مع الشرح الكبير 2 / 315.
(4) رد المحتار 1 / 574، وجواهر الإكليل 1 / 113.
(5) الإنصاف 2 / 465.(39/416)
ي - تَغْسِيل الْمَيِّتِ
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيل الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمَنْ يُغَسِّلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِهِ، وَمَا يَتَّصِل بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيل الْمَيِّتِ) .
ك - تَكْفِينُ الْمَيِّتِ
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْفِينٌ) .
ل - حَمْل الْمَيِّتِ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْل الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَعَدَدِ حَامِلِيهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 11 - 13) .
م - دَفْنُ الْمَيِّتِ
16 - دَفْنُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ. انْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَأَفْضَل مَكَانٍ لِدَفْنِهِ، وَالأَْحَقَّ بِدَفْنِهِ، وَكَيْفِيَّتَهُ وَوَقْتَهُ، وَمَا يَتَّصِل بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ) .
ن - نَبْشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَمِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ(39/417)
نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنُ الأَْرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ. وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الأَْعْذَارِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ ف 21، وَنَبْشٌ) .
س - نَقْل الْمَيِّتِ
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْل الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطِ. يُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 4، وَنَبْشٌ) .
ع - قَذْفُ الْمَيِّتِ
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَرْجِعُ لِمَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِسَبَبِ قَذْفِ الْمَيِّتِ وَهُمُ الأُْصُول وَالْفُرُوعُ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ سَفَلُوا، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَحْجُوبًا أَوْ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِقِتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ كَوْنِهِ وَلَدَ بِنْتٍ. وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ(39/417)
أَوْ عَفْوِهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ لِلْقَاذِفِ لِلُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ الْمَيِّتِ جُزْءًا مِنْهُمْ أَوْ كَوْنُهُمْ جُزْءًا مِنْهُ.
وَلَوْ قَال: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْل حَدِّ قَاذِفِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الإِْرْثِ مَانِعٌ كَرِقٍّ وَقَتْلٍ وَكُفْرٍ إِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِحَدِّهِ لِلِحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَحِقُّ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ فَهُمْ: وَلَدُ الْمَقْذُوفِ وَيَشْمَل الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَبُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَلاَ.
فَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا كَانَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل وَلأَِبِيهِ وَإِنْ عَلاَ أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لأَِنَّهُ عَيْبٌ يَلْزَمُهُمْ، وَلَيْسَ لِلإِْخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ قِيَامٌ مَعَ هَؤُلاَءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلاَءِ أَحَدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَلِلأَْخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ الْقِيَامُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَقْذُوفِ وَارِثٌ فَلَيْسَ لِلأَْجْنَبِيِّ أَنْ يَقُومَ بِحَدِّهِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 171.
(2) جواهر الإكليل 2 / 289، وشرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 8 / 90.(39/418)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَطَلَبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَوْ عَفَا وَارِثُ الْمَقْذُوفِ مُقَابِل مَالٍ يَأْخُذُهُ سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبِ الْمَال، وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَلِلْبَاقِي أَنْ يَسْتَوْفُوا الْحَدَّ عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ عَارٌ، وَالْعَارُ يَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَال وَالْقِصَاصِ.
وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: رِجَال الْعَصَبَاتِ فَقَطْ لأَِنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ.
وَالرَّابِعُ: رِجَال الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلسُّلْطَانِ.
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزًا لِلإِْرْثِ، وَلأَِنَّ الْقَذْفَ لاَ يَمْنَعُ الإِْرْثَ بِخِلاَفِ الْقَتْل.
وَلَوْ قَذَفَ وَلَدٌ أَبَاهُ فَمَاتَ الأَْبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلاَفَ فِيمَنْ يَرِثُ الْحَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلآْخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ فَلِلاِبْنِ الآْخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ الْجَمِيعُ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي فَلِلاِبْنِ(39/418)
الآْخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا إِذَا قُذِفَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ إِذَا كَانَتِ الأُْمُّ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ - مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً - حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الاِبْنُ وَكَانَ مُسْلِمًا حُرًّا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لأَِنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ وَلأَِنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنَا وَلاَ يَسْتَحِقُّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِطَرِيقِ الإِْرْثِ وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ وَلاَ تُعْتَبَرُ حَصَانَةُ أُمِّهِ لأَِنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَذْفِ مَيْتَةٍ، وَكَذَلِكَ تُقَاسُ الْجَدَّةُ عَلَى الأُْمِّ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لاَحِقًا لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.
وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ وَلِلْوَرَثَةِ طَلَبُهُ.
وَالْحَقُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، حَتَّى
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 326، ومغني المحتاج 3 / 372.(39/419)
لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ. وَقَال الْقَاضِي: لَهُمْ سِوَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَال فِي الْمُغْنِي: هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَرِثُهُ الإِْمَامُ أَيْضًا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ. وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ حُدَّ لِلْبَاقِي كَامِلاً عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (1) .
ف - حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَقَصُّ ظُفُرِهِ
20 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ حَلْقِ شَعْرِ الْمَيِّتِ أَوْ تَسْرِيحِهِ أَوْ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا سَائِرُ شَعْرِ الْبَدَنِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الإِْبِطِ وَالْعَانَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 4، 5، 6، حَلَقَ ف 14) .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 9) .
ص - تَغْسِيل السِّقْطِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ
21 - السِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ قَبْل تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ غُسِّل
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 10 / 226 وما بعدها، والإنصاف 10 / 219 وما بعدها(39/419)
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِينٌ ف 22) .
قِ - إِدْخَال الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ فِيهِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِيهِ تَحْرِيمًا وَقِيل تَنْزِيهًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَال وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جَنَائِزُ ف 38) .
ر - الصَّلاَةُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهِ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 37) .
ش - طَهَارَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ
24 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَل نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ خَبَثٍ أَوْ حَدَثٍ؟ فَقِيل: إِنَّهَا نَجَاسَةُ خَبَثٍ وَهُوَ(39/420)
الأَْظْهَرُ، فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ قَبْل غَسْلِهِ نَجَّسَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَل مَيِّتًا قَبْل غَسْلِهِ وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَطْهُرُ الْمَيِّتُ بِالْغُسْل كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِ.
أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَوْ بَعْدَ غَسْلِهِ فَلَوْ وَقَعَ كَافِرٌ فِي بِئْرٍ بَعْدَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْبِئْرَ.
وَقِيل: هِيَ نَجَاسَةُ حَدَثٍ قَال فِي الْفَتْحِ:
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا (1) ، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا (2) .
__________
(1) حديث: " سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 390) ، ومسلم (1 / 282) واللفظ لمسلم، وليس فيهما قوله: (حيًا أو ميتًا) . وورد موقوفًا بتمامه من حديث ابن عباس أخرجه سعيد بن منصور كما في فتح الباري (3 / 127) ، وورد مرفوعًا من حديث ابن عباس بهذا السياق عند الدارقطني (2 / 70) ، وصحح ابن حجر كونه موقوفًا على ابن عباس في تغليق التعليق (2 / 461 ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث: " لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم لا ينجس حيًا ولا ميتًا ". أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 385 ط دائرة المعارف) ، والدارقطني (2 / 70 ط الفنية المتحدة) ، ورجح ابن حجر في التغليق (2 / 461) وقفه على ابن عباس.(39/420)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الآْدَمِيَّ لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ، كَرَامَةً لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْل كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالآْدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْل حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْل الْغُسْل يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ، وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْل لاَ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ، لأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِل وَزَوَال الْعَقْل، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لاَ يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غَسْلُهُ كُلُّهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْبَلْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الآْدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) ، وَقَضِيَّةُ تَكْرِيمِهِمْ أَنْ لاَ يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَلِخَبَرِ لاَ تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا قَال عِيَاضُ: وَلأَِنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسُهُ، إِذْ لاَ مَعْنَى لِغَسْل الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرَةِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 573، وبدائع الصنائع 1 / 299.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) الخرشي 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 78، والمغني مع الشرح 1 / 40.(39/421)
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) فَالْمُرَادُ نَجَاسَةُ الاِعْتِقَادِ أَوْ أَنَّا نَجْتَنِبُهُمْ كَالنَّجَاسَةِ لاَ نَجَاسَةَ الأَْبَدَانِ، وَلِهَذَا رَبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ (2) ، وَقَدْ أَحَل اللَّهُ طَعَامَ أَهْل الْكِتَابِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ فِي غَيْرِ أَجْسَادِ الأَْنْبِيَاءِ لأَِنَّ أَجْسَادَ الأَْنْبِيَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي طَهَارَةِ مَيْتَةِ الآْدَمِيِّ وَنَجَاسَتِهَا فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الآْدَمِيِّ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ لأَِنَّ الْخَبَرَ: الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ (3) .
__________
(1) سورة التوبة / 28.
(2) حديث: " ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 555 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الخرشي 1 / 89، ونهاية المحتاج 1 / 221 - 222، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 40 - 41.(39/421)
حُكْمُ مَا أُبِينَ مِنَ الآْدَمِيِّ
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُبِينَ مِنَ الآْدَمِيِّ يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْقَوْل بِطَهَارَتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الآْدَمِيِّ غَيْرَ الْمَنْتُوفِ طَاهِرٌ بِخِلاَفِ الْمَنْتُوفِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِمَا يَحْمِل مِنْ دُسُومَةٍ.
وَكَذَلِكَ عَظْمُ الْمَيِّتِ وَعَصَبُهُ فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ سِنُّ الْمَيِّتِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ لاَ دَمَ فِيهَا وَالْمُنَجَّسُ هُوَ الدَّمُ.
وَكَذَلِكَ ظُفُرُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الدُّسُومَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مَا أُبِينَ مِنَ الآْدَمِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَال حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ فِي الْمَذْهَبِ فَمَا أُبِينَ مِنْهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِلْحَاقِ مَا انْفَصَل مِنَ الآْدَمِيِّ بِمَيْتَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ أَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 138.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 54.
(3) مغني المحتاج 1 / 80.(39/422)
حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لأَِنَّهَا أَجَزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ وَلأَِنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لأَِنَّهَا لاَ حُرْمَةَ لَهَا (1) .
ت - غَسْل مَا أُبِينَ مِنَ الآْدَمِيِّ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
26 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ غُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رُءُوسٍ، وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَل (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ رَأْسُ آدَمِيٍّ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَل يُدْفَنُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلاَ رَأْسٍ فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُغَسَّل دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَسَدِ مَا عَدَا الرَّأْسِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغْسَّل عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلاَ يُصَلَّى
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 41.
(2) المهذب 1 / 141، والمغني مع شرح الكبير 1 / 41.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 576.(39/422)
عَلَيْهِ أَيْ يُكْرَهُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْغُسْل وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلاَ حُكْمَ لِلْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَرْكِ الصَّلاَةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُل خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الصَّلاَةُ عَلَى غَائِبٍ، قَال فِي التَّوْضِيحِ لأَِنَّا لاَ نُخَاطَبُ بِالصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، وَحُضُورُ جُلِّهِ كَحُضُورِ كُلِّهِ، وَحُضُورُ الأَْقَل بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (1) . (ر: تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 26) .
ث - تَنَازُعُ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ الْمَاءَ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمُحْدِثٌ وَكَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لأَِحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لأَِنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لأَِحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لأَِنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِالْمَاءِ مِنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْمُحْدِثُ وَيَقْتَدِيَانِ بِهِ، لأَِنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْمَرْأَةُ لاَ تَصْلُحُ إِمَامًا.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 426.(39/423)
وَقِيل فِي السِّرَاجِ: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لأَِنَّ غُسْلَهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَهُوَ لاَ يَحْصُل بِالتُّرَابِ.
وَعَنِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الأَْوَّل أَصَحُّ، وَفِي السِّرَاجِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ فَقَطْ كَانَ أَوْلَى بِهِ لأَِنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ لِلْمَيْتِ حَيْثُ كَانَ كُل وَاحِدٍ لاَ يَكْفِيهِ نَصِيبُهُ، وَلاَ يُمَكَّنُ الْجُنُبُ وَلاَ غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِل بِالْكُل لأَِنَّهُ مَشْغُولٌ بِحِصَّةِ الْمَيِّتِ، وَكَوْنُ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ لاَ يُبِيحُ اسْتِعْمَال حِصَّةِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنِ الْجُنُبُ أَوْلَى، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ شَخْصٌ حَيٌّ مُحْدِثٌ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَيِّ لِحَقِيِّةِ الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَى الْحَيِّ الْعَطَشُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ حِفْظًا لِلنَّفُوسِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ يُقَدَّمُ الْحَيُّ وَلَوْ لَمْ يَخَفْ عَطَشًا لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِالشَّرِكَةِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 169.
(2) الخرشي 1 / 199 - 200.(39/423)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُنَاكَ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَحَقَّ بِهِ لأَِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَذَلَهُ لِلآْخَرِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.
وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا لَهُمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءً.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لأَِنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَاءِ وَيَغْتَسِلاَنِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَحَيٌّ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى لأَِنَّهُ لَيْسَ لِطَهَارَتِهِ بَدَلٌ وَلِطَهَارَةِ الْمَيِّتِ بَدَلٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَكَانَ صَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَحَقَّ بِالْمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لأَِنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْل حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لاَ يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لأَِحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ.
__________
(1) المهذب 1 / 42، والمجموع 2 / 273.(39/424)
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ فَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ لأَِنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِل، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ بِغُسْل الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ وَلاَ يَحْصُل بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يَقْصِدُ بِغُسْلِهِ إِبَاحَةَ الصَّلاَةِ وَيَحْصُل ذَلِكَ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْحَيُّ أَوْلَى لأَِنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْل مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْخَلاَّل.
وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ لِلأَْحْيَاءِ، لأَِنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَجِدُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ لأَِنَّ فِي تَرْكِهِ إِتْلاَفَهُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لأَِنَّ
مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ (1) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 277 - 278.(39/424)
نَائِحَة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّائِحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَبْكِي عَلَى الْمَيِّتِ وَتُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ النَّائِحَةَ تُعَزَّرُ وَتُحْبَسُ حَتَّى تُحْدِثَ تَوْبَةً (3) ، حَكَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ صَوْتَ بُكَاءٍ، فَدَخَل وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَمَال عَلَيْهِمْ ضَرْبًا حَتَّى بَلَغَ النَّائِحَةَ، فَضَرَبَهَا حَتَّى سَقَطَ خِمَارُهَا، فَقَال: اضْرِبْ فَإِنَّهَا نَائِحَةٌ وَلاَ حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّهَا لاَ تَبْكِي لِشَجْوِكُمْ، إِنَّهَا تُهْرِيقُ دُمُوعَهَا عَلَى أَخْذِ دَرَاهِمِكُمْ، وَإِنَّهَا تُؤْذِي مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ،
__________
(1) المغرب للمطرزي.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 34، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 343، والزواجر 1 / 161.
(3) فتح القدير 4 / 318 ط الأميرية.(40/5)
وَأَحْيَاءَكُمْ فِي دُورِهِمْ، إِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَأْمُرُ بِالْجَزَعِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (1) .
. وَقَال الشَّيْزَرِيُّ: يَتَفَقَّدُ الْمُحْتَسِبُ الْمَآتِمَ وَالْمَقَابِرَ، فَإِذَا سَمِعَ نَادِبَةً أَوْ نَائِحَةً عَزَّرَهَا وَمَنَعَهَا؛ لأَِنَّ النُّوَاحَ حَرَامٌ (2) . قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّائِحَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا فِي النَّارِ " (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ (ر: نِيَاحَة) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 160 ط دار المعارف.
(2) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 110 ط دار الثقافة ـ بيروت.
(3) حديث: " النائحة ومن حولها في النار ". أورده بهذا اللفظ الشيزري فِي نهاية الرتبة في طلب الحسبة (ص 110 - ط دار الثقافة) ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، ولم نهتد لمن أخرجه بهذا اللفظ، ولكن أخرج الطبراني (12 / 426 - 427 ط العراق) مرفوعا: " النائحة ومن حوله وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 191 ط القدسي) وذكر أن في إسناده راويين لم ير من ذكرهما.(40/5)
نَاب
انْظُرْ: سِن
نَار
انْظُرْ: إِحْرَاق
نَازِلَة
انْظُرْ: قُنُوت، جَائِحَة(40/6)
نَاضّ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاضُّ - فِي اللُّغَةِ - اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ الْفِعْل نَضَّ، يُقَال: نَضَّ الْمَاءُ: سَال، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَاءِ: مَا لَهُ مَادَّةٌ وَبَقَاءٌ، وَنَضَّ الثَّمَنُ: حَصَل وَتَعَجَّل، وَالنَّضُّ: الدِّرْهَمُ الصَّامِتُ، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَتَاعِ: مَا تَحَوَّل وَرِقًا أَوْ عَيْنًا، وَأَهْل الْحِجَازِ يُسَمُّونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ نَضًّا وَنَاضًّا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ نَاضًّا إِذَا تَحَوَّل عَيْنًا بَعْدَ مَا كَانَ مَتَاعًا؛ لأَِنَّهُ يُقَال: مَا نَضَّ بِيَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، أَيْ مَا حَصَل، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ نَاضِّ الْمَال (1) ، وَهُوَ مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، عَيْنًا أَوْ وَرِقًا. (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) حديث عمر رضي الله تعالى عنه " كان يأخذ الزكاة من ناض المال ". أورده ابن الأثير في النهاية 5 / 72 ط دار الفكر
(2) لسان العرب، والمصباح المنير
(3) حاشية الدسوقي 3 / 535، وحاشية الجمل 2 / 268، وكشاف القناع 3 / 506.(40/6)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاضِّ مِنْ أَحْكَامٍ:
اشْتِرَاطُ النَّضُوضِ لِوُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ:
2 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا كَانَ التَّاجِرُ مُدِيرًا - وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي كَأَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ - أَنْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَال، وَلَوْ قَل كَدِرْهَمٍ لاَ أَقَل، فَإِذَا نَضَّ لَهُ دِرْهَمٌ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ فِي آخِرِ الْحَوْل يُقَوِّمُ عُرُوضَ تِجَارَتِهِ، وَيُخْرِجُ عَمَّا قَوَّمَهُ عَيْنًا لاَ عَرَضًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنِضَّ لَهُ فِي أَوَّل الْحَوْل أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ (1) .
وَذَكَرَ أَشْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنِضَّ لَهُ نِصَابٌ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّهُ يُزَكِّي وَلَوْ لَمْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ (2) .
فَإِنْ لَمْ يَنِضَّ لِلتَّاجِرِ شَيْءٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، قَال سَحْنُونٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً كَانَ يُدِيرُ مَالَهُ لِلتِّجَارَةِ لاَ يَنِضُّ لَهُ شَيْءٌ، فَاشْتَرَى بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُ حِنْطَةً، فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُهُ الَّذِي يُقَوَّمُ فِيهِ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ حِنْطَةً فَقَال: أَنَا أُؤَدِّي إِلَى الْمَسَاكِينِ رُبْعَ عُشْرِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ كَيْلاً وَلاَ أُقَوِّمُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: قَال لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ يُدِيرُ مَالَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلاَ يَنِضُّ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 473، 474، والحطاب 2 / 320.
(2) الحطاب 2 / 320.(40/7)
لَهُ شَيْءٌ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ فَهَذَا لاَ يُقَوِّمُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ زَكَاةَ وَلاَ يُقَوِّمُ حَتَّى يَنِضَّ لَهُ بَعْضُ مَالِهِ، قَال مَالِكٌ: وَمَنْ كَانَ يَبِيعُ بِالْعَيْنِ وَالْعَرَضِ فَذَلِكَ الَّذِي يُقَوِّمُ (1) .
وَفِي الْحَطَّابِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِالنَّضُوضِ، وَأَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ، قَال الرَّجْرَاجِيُّ فِي الْمُدِيرِ إِذَا كَانَ يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ ذَرِيعَةً لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبِ، وَيُؤْخَذُ بِزَكَاةِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَال، وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ كَانَ يَبِيعُ الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ وَلاَ يَنِضُّ لَهُ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ عَيْنٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ (2) .
وَالتَّاجِرُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَكَانَ مُدِيرًا وَقَدْ نَضَّ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ وَلَوْ دِرْهَمًا فَقِيل: إِنَّهُ يُقَوِّمُ عُرُوضَهُ وَدُيُونَهُ وَيُزَكِّيهَا مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ لِحَوْلٍ مِنْ إِسْلاَمِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَسْتَقْبِل بِثَمَنِ مَا بَاعَ بِهِ مِنْ عُرُوضِ الإِْدَارَةِ حَوْلاً بَعْدَ قَبْضِهِ إِذَا كَانَ نِصَابًا؛ لأَِنَّهُ كَالْفَائِدَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ (3) .
وَفِي الْمَوَّاقِ بِالنِّسْبَةِ لِمَال الْقِرَاضِ، قَال ابْنُ
__________
(1) المدونة 1 / 254 - 255.
(2) الحطاب 2 / 321.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 477.(40/7)
رُشْدٍ: إِنْ كَانَ الْعَامِل حَاضِرًا مَعَ رَبِّ الْمَال، فَكَانَا جَمِيعًا مُدِيرَيْنِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنِضَّ الْمَال وَيَتَفَاصَلاَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمَال بِيَدِهِ أَحْوَالاً (1) .
وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعَامِل وَرَبِّ الْمَال مُدِيرًا يَكْفِي النَّضُوضُ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ أَدَارَ الْعَامِل فَقَطْ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ.
وَقَال اللَّقَانِيُّ: يُشْتَرَطُ النَّضُوضُ فِيمَنْ لَهُ الْحُكْمُ (2) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ النَّضُوضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ضَمِّ رِبْحِ التِّجَارَةِ إِلَى الأَْصْل أَوْ عَدَمِ ضَمِّهِ.
قَالُوا: يَضُمُّ رِبْحَ التِّجَارَةِ الْحَاصِل أَثْنَاءَ الْحَوْل إِلَى الأَْصْل فِي الْحَوْل، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَنِضَّ، فَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْل آخِرِ الْحَوْل وَلَوْ بِلَحْظَةٍ ثَلاَثَمِائَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْجَمِيعَ آخِرَ الْحَوْل، سَوَاءٌ أَحَصَل الرِّبْحُ بِزِيَادَةٍ فِي نَفْسِ الْعَرَضِ كَسَمْنِ الْحَيَوَانِ أَمْ بِارْتِفَاعِ الأَْسْوَاقِ.
أَمَّا إِذَا نَضَّ - أَيْ صَارَ الْكُل نَاضًّا - دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال الَّذِي هُوَ نِصَابٌ، وَأَمْسَكَهُ إِلَى آخِرِ الْحَوْل، أَوِ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا قَبْل تَمَامِهِ فَيُفْرِدُ الرِّبْحَ بِحَوْلِهِ وَيُزَكِّي الأَْصْل بِحَوْلِهِ، وَهَذَا فِي الأَْظْهَرِ، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ نَاضًّا بِالْبَيْعِ
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 2 / 325.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 477.(40/8)
أَوْ بِإِتْلاَفِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِثَلاَثِمِائَةٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ الْحَوْل، أَوِ اشْتَرَى بِهَا عَرَضًا، وَهُوَ يُسَاوِي ثَلاَثَمِائَةٍ فِي آخِرِ الْحَوْل فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْ مِائَتَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى أَخْرَجَ عَنِ الْمِائَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّهُ يُزَكِّي الرِّبْحَ بِحَوْل الأَْصْل، كَمَا يُزَكِّي النِّتَاجَ بِحَوْل الأُْمَّهَاتِ.
هَذَا إِذَا كَانَ النَّاضُّ مَنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاضُّ الْمَبِيعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال فَهُوَ كَبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ فَيَضُمُّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيل عَلَى الْخِلاَفِ فِيمَا هُوَ مِنِ الْجِنْسِ.
وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دُونَ نِصَابٍ: كَأَنِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ حَوْل الشِّرَاءِ، وَاعْتَبَرْنَا النِّصَابَ آخِرَ الْحَوْل فَقَطْ زَكَّاهُمَا إِنْ ضَمَمْنَا الرِّبْحَ النَّاضَّ إِلَى الأَْصْل، وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الْمَرْجُوحِ، وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل - وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ - فَإِنَّهُ يُزَكِّي مِائَةً وَالرِّبْحَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَزَكَّى مِائَةَ الأَْصْل قَبْلَهَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْل التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ النَّضُوضَ لاَ يَقْطَعُهُ؛ لِكَوْنِهِ نِصَابًا.
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي جَمِيعِ الْحَوْل أَوْ فِي طَرَفَيْهِ فَابْتِدَاءُ حَوْل الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ بَاعَ وَنَضَّ(40/8)
فَإِذَا تَمَّ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ (1) .
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الشَّرِكَةِ:
3 - الشَّرِكَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخُ الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَرِطُ لِفَسْخِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ مَال الشَّرِكَةِ نَاضًّا، أَيْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَإِذَا كَانَ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضًا فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ، وَتَبْقَى قَائِمَةٌ إِلَى أَنْ يَنِضَّ الْمَال، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةِ الْعَقْدِ ف 56، 57) .
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ:
4 - إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال الْمُضَارَبَةِ نَاضًّا - أَيْ صَارَ عَيْنًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال غَيْرَ نَاضٍّ بِأَنْ كَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 399، وشرح المحلي مع القليوبي 2 / 29، 30، والجمل على شرح المنهج 2 / 268، وروضة الطالبين2 / 269 - 270.
(2) البدائع 6 / 109، 112، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 535، ومغني المحتاج 2 / 319، 320، وكشاف القناع 3 / 506، 521، والمغني 5 / 64.(40/9)
عُرُوضًا مَثَلاً فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ جَازَ (1) .
وَإِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل تَنْضِيضَهُ فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل نَضُوضَ الْمَال فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الأَْصْلَحِ مِنْ تَعْجِيل التَّنْضِيضِ أَوْ تَأْخِيرِهِ فَيَحْكُمُ بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى نَضُوضِهِ جَازَ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَيَكْفِي مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَاسْتَظْهَرَ الْعَدَوِيُّ كِفَايَةَ وَاحِدٍ عَارِفٍ يَرْضَيَانِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُ الْعَامِل تَنْضِيضُ رَأْسِ الْمَال إِنْ كَانَ عِنْدَ الْفَسْخِ عَرَضًا وَطَلَبَ الْمَالِكُ تَنْضِيضَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ، وَلَوْ كَانَ الْمَال عِنْدَ الْفَسْخِ نَاضًّا لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال أَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فَكَالْعُرُوضِ.
فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ التَّنْضِيضَ لَمْ يَجِبْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَال لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَحَظُّهُ فِي التَّنْضِيضِ فَيَجِبُ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُ الْعَامِل التَّنْضِيضُ إِذَا لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ إِذْ لاَ فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ وَالْمَال عَرَضٌ فَرَضِيَ رَبُّ الْمَال أَنْ يَأْخُذَ بِمَالِهِ مِنَ الْعَرَضِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 535، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 64.
(2) الشرح الكبير 3 / 535، 536.
(3) مغني المحتاج 2 / 320.(40/9)
فَلَهُ ذَلِكَ، فَيُقَوَّمُ الْعَرَضُ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ حِصَّةَ الْعَامِل؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ مِنَ الْعَامِل الْبَيْعَ، وَقَدْ صَدَّقَهُ عَلَى الرِّبْحِ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَظٍّ يَكُونُ لِلْعَامِل فِي بَيْعِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةً عَلَى قَطْعِ رِبْحِ عَامِلٍ، كَشِرَائِهِ خَزًّا فِي الصَّيْفِ لِيَرْبَحَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي رِبْحِهِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَفَعَ السِّعْرُ بَعْدَ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمَالِكِ وَدَفْعِهِ حِصَّةَ الْعَامِل لَمْ يُطَالِبْهُ الْعَامِل بِشَيْءٍ، كَمَا لَوِ ارْتَفَعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لأَِجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَال بِأَخْذِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ وَطَلَبَ الْبَيْعَ أَوْ طَلَبَ الْبَيْعَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْمُضَارِبَ بَيْعُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ؛ لأَِنَّ عَلَى الْعَامِل رَدَّ الْمَال نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ، وَإِنْ نَضَّ الْعَامِل رَأْسَ الْمَال جَمِيعَهُ وَطَلَبَ رَبُّ الْمَال أَنْ يَنِضَّ الْبَاقِي لَزِمَ الْعَامِل أَنْ يَنِضَّ لَهُ الْبَاقِيَ كَرَأْسِ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دَرَاهِمَ فَصَارَ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ بِأَنْ كَانَ دَنَانِيرَ فَصَارَ دَرَاهِمَ فَكَعَرَضٍ إِنْ رَضِيَهُ رَبُّ الْمَال وَإِلاَّ لَزِمَ الْعَامِل إِعَادَتُهُ كَمَا كَانَ (1) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَجْهَيْنِ إِذَا طَلَبَ رَبُّ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 521.(40/10)
الْمَال الْبَيْعَ وَأَبَى الْعَامِل.
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الْعَامِل عَلَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الْمَال نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ.
وَالثَّانِي: لاَ يُجْبَرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنَ الرِّبْحِ؛ لأَِنَّهُ بِالْفَسْخِ زَال تَصَرُّفُهُ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَال، فَأَشْبَهَ الْوَكِيل إِذَا اشْتَرَى مَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ قَبْل رَدِّهِ (1) .
وَإِنْ طَلَبَ الْعَامِل الْبَيْعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ أُجْبِرَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ لأَِنَّ حَقَّ الْعَامِل فِي الرِّبْحِ وَلاَ يَظْهَرُ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ رَضِيَهُ مَالِكُهُ كَذَلِكَ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ (2) .
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي إِتْمَامِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ انْفِسَاخِهَا:
5 - مِمَّا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ مَوْتُ رَبِّ الْمَال أَوْ عَامِل الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَا جُنُونُ أَحَدِهِمَا، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَيَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ جُنُونِهِ كَالْوَكَالَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 65.
(2) المغني 5 / 64، وكشاف القناع 3 / 520.
(3) بدائع الصنائع 6 / 112، والدر المختار على حاشية ابن عابدين 4 / 489، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 66.(40/10)
وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَال عَرَضًا أَوْ نَاضًّا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِل عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لأَِنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، إِلاَّ أَنَّ رَأْسَ الْمَال إِذَا كَانَ مَتَاعًا فَلِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إِذَا مَاتَ وَالْمَال عُرُوضٌ بَاعَهَا وَصِيُّهُ، وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَال وَالْمَال نَقْدٌ تَبْطُل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ كَانَ الْمَال عَرَضًا تَبْطُل فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ رَبِّ الْمَال، وَلاَ تَبْطُل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ فَلَهُ بَيْعُهُ بِعَرَضٍ وَنَقْدٍ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لاَ يَنْفَسِخُ عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَقَارِضَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ (3) .
قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ مَاتَ الْعَامِل قَبْل النَّضُوضِ فَلِوَارِثِهِ الأَْمِينِ أَنْ يُكَمِّلَهُ عَلَى حُكْمٍ مَا كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112.
(2) الدر المختار 4 / 489.
(3) التفريع لابن الجلاب 3 / 196.(40/11)
مُوَرِّثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ أَمِينًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمِينٍ كَالأَْوَّل فِي الأَْمَانَةِ وَالثِّقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَرَثَةُ بِأَمِينٍ سَلَّمُوا الْمَال لِرَبِّهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ أَوْ جُنَّ وَالْمَال عَرَضٌ فَلِلْعَامِل التَّنْضِيضُ وَالتَّقَاضِي بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَرَثَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْجُنُونِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الْعَاقِدِ كَمَا فِي حَال الْحَيَاةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَامِل فَإِنَّ وَرَثَتَهُ لاَ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ دُونَ إِذْنِ الْمَالِكِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِمْ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنِ الإِْذْنِ فِي الْبَيْعِ تَوَلاَّهُ أَمِينٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَلاَ يُقَرِّرُ وَرَثَةُ الْمَالِكِ الْعَامِل عَلَى الْقِرَاضِ، كَمَا لاَ يُقَرِّرُ الْمَالِكُ وَرَثَةَ الْعَامِل عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَرَضِ، فَإِنْ نَضَّ الْمَال وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال جَازَ تَقْرِيرُ الْجَمِيعِ، فَيَكْفِي أَنْ يَقُول الْوَرَثَةُ - أَيْ وَرَثَةُ الْمَالِكِ لِلْعَامِل - قَرَّرْنَاكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِ، أَوْ يَقُول الْمَالِكُ لِوَرَثَةِ الْعَامِل: قَرَرْتُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مُوَرِّثُكُمْ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِمْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَقَدْ يُسْتَعْمَل التَّقْرِيرُ لإِِنْشَاءِ عَقْدٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ السَّابِقِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَأَيُّ الْمُتَقَارِضَيْنِ مَاتَ أَوْ جُنَّ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 536.
(2) أسنى المطالب2 / 390، ومغني المحتاج 2 / 319، 320.(40/11)
انْفَسَخَ الْقِرَاضُ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَانْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ كَالتَّوْكِيل، فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الْجُنُونُ بِرَبِّ الْمَال فَأَرَادَ الْوَارِثُ أَوْ وَلِيُّهُ إِتْمَامَهُ وَالْمَال نَاضٌّ جَازَ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَال وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ رَأْسَ الْمَال، وَحِصَّةُ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ مُشَاعَةً، وَهَذِهِ الإِْشَاعَةُ لاَ تَمْنَعُ لأَِنَّ الشَّرِيكَ هُوَ الْعَامِل وَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ، فَإِنْ كَانَ الْمَال عَرَضًا وَأَرَادُوا إِتْمَامَهُ: فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ؛ لأَِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَال لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِل أَنْ يَبِيعَ وَلاَ يَشْتَرِيَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ، فَظَاهِرُ هَذَا بَقَاءُ الْعَامِل عَلَى قِرَاضِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا إِتْمَامٌ لِلْقِرَاضِ لاَ ابْتِدَاءٌ لَهُ؛ وَلأَِنَّ الْقِرَاضَ إِنَّمَا مُنِعَ فِي الْعُرُوضِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ إِلَى رَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْوْقَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا لأَِنَّ رَأْسَ الْمَال غَيْرُ الْعُرُوضِ وَحُكْمَهُ بَاقٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ لِلْعَامِل أَنْ يَبِيعَهُ لِيُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَال وَيُقَسِّمَ الْبَاقِيَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْقِرَاضَ قَدْ بَطَل بِالْمَوْتِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ قِرَاضٍ عَلَى عُرُوضٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْيَسُ، لأَِنَّ الْمَال لَوْ كَانَ نَاضًّا كَانَ ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ رَبِّ الْمَال.(40/12)
وَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا بِخَسَارَةٍ أَوْ تَلَفٍ كَانَ رَأْسُ الْمَال الْمَوْجُودِ مِنْهُ حَال ابْتِدَاءِ الْقِرَاضِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ هَاهُنَا وَبِنَاءَهُمَا عَلَى الْقِرَاضِ لَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ وَحِصَّتُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ الْعُرُوضُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَال نَاقِصًا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْقِرَاضِ.
فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْعَامِل أَوْ جُنَّ وَأَرَادَ ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ مَعَ وَارِثِهِ أَوْ وَلِيِّهِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا جَازَ كَمَا قُلْنَا فِيمَا إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَال، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا لَمْ يَجُزِ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ عَلَى الْعُرُوضِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعُرُوضُ وَيُجْعَل رَأْسُ الْمَال قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعَمَل قَدْ مَاتَ أَوْ جُنَّ وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ أَصْلاً يَبْنِي عَلَيْهِ وَارِثُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا جَازَ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ فِيهِ إِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ شِرَاءٌ وَلاَ بَيْعٌ؛ لأَِنَّ رَبَّ الْمَال إِنَّمَا رَضِيَ بِاجْتِهَادِ مُوَرِّثِهِ (1) .
__________
(1) المغني 5 / 66، 67.(40/12)
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي تَعَدُّدِ الْمُضَارَبَةِ:
6 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَال لَعَامَل الْقِرَاضِ مَالاً ثَانِيًا بَعْدَ الْمَال الأَْوَّل الَّذِي كَانَ يُضَارِبُ فِيهِ الْعَامِل، فَإِنْ كَانَ الْمَال الأَْوَّل نَاضًّا أَيْ صَارَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ - وَذَلِكَ بِبَيْعِ السِّلَعِ الَّتِي اشْتَرَاهَا وَقَبَضَ ثَمَنَهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ - فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَال الثَّانِي بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَال الأَْوَّل قَدْ نَضَّ مُسَاوِيًا، لِرَأْسِ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ وَلاَ خَسَارَةٍ، بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال أَلْفًا وَنَضَّ أَلْفًا، فَإِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ أَوْ خَسَارَةٍ فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ قَدْ يَضِيعُ عَلَى الْعَامِل رِبْحُهُ، وَإِنْ نَضَّ بِخَسَارَةٍ قَدْ يُجْبِرُ الْقِرَاضُ الثَّانِي خَسَارَةَ الأَْوَّل.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ جُزْؤُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْعَامِل فِي الْمَال الثَّانِي كَالرِّبْحِ فِي الْمَال الأَْوَّل، كَالثُّلُثِ مِنْ رِبْحِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
فَإِنِ اخْتَلَفَ جُزْءُ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل فِي الثَّانِي عَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا لَهُ فِي الأَْوَّل فَلاَ يَجُوزُ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ ذَكَرَهُمَا خَلِيلٌ.
إِلاَّ أَنَّ الدَّرْدِيرَ وَالدُّسُوقِيَّ قَالاَ: الْحَقُّ أَنَّهُ إِذَا نَضَّ الأَْوَّل بِمُسَاوٍ جَازَ الدَّفْعُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّفَقَ جُزْؤُهُمَا (أَيِ الرِّبْحُ) أَوِ اخْتَلَفَ إِنْ شَرَطَا الْخَلْطَ،(40/13)
وَإِلاَّ مُنِعَ مُطْلَقًا اتَّفَقَ جُزْؤُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَال إِلَى الْمُضَارِبِ أَلْفَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ لَمْ يَخْلِطْهُمَا الْمُضَارِبُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّهُ أَفْرَدَ كُل وَاحِدٍ بِعَقْدٍ فَكَانَا عَقْدَيْنِ، فَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ فِي الْخَلْطِ قَبْل تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي الْمَال الأَْوَّل جَازَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ جَازَ إِنْ كَانَ الْمَال الأَْوَّل قَدْ نَضَّ وَصَارَ الْمَال كُلُّهُ مُضَارَبَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ فِي الْمَال الأَْوَّل وَلَمْ يَنِضَّهُ وَأَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ فَلاَ يَجُوزُ الْخَلْطُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ الأَْوَّل اسْتَقَرَّ، فَكَانَ رِبْحُهُ وَخُسْرَانُهُ مُخْتَصًّا بِهِ (2) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 174، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 525.
(2) كشاف القناع 3 / 516.(40/13)
ناظر
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاظِرُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ النَّظَرِ، وَالنَّظَرُ هُوَ: تَقْلِيبُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ لإِِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَرُؤْيَتِهِ، وَنَظَرْتُ فِي الأَْمْرِ: تَدَبَّرْتُ وَفَكَّرْتُ فِيهِ (1) . وَالنَّاظِرُ عَلَى الْوَقْفِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الَّذِي يَلِي الْوَقْفَ وَحِفْظَهُ وَحِفْظَ رِيعِهِ، وَتَنْفِيذَ شَرْطِ وَاقِفِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَيِّمُ:
2 - الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَنْ قَامَ بِالأَْمْرِ قِيَامًا وَقَوْمًا: اهْتَمَّ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ.
وَالْقَيِّمُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَنْ يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ لِتَنْفِيذِ وَصَايَا مَنْ لَمْ يُوصِ مُعَيَّنًا لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِينَ مِنْ أَطْفَالٍ وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَحِفْظِ أَمْوَال الْمَفْقُودِينَ مِمَّنْ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) كشاف القناع 4 / 269.(40/14)
لَيْسَ لَهُمْ وَكِيلٌ. وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ: مُقَدَّمُ الْقَاضِي.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَامُ لِرِعَايَةِ وَحِفْظِ أَمْوَال وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنَّ الْقَيِّمَ يَتِمُّ تَعْيِينُهُ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ، أَمَّا النَّاظِرُ فَقَدْ يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ وَقَدْ يُعَيِّنُهُ الْوَاقِفُ (1) .
ب - الْمُتَوَلِّي:
3 - الْمُتَوَلِّي فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَوَلَّى الأَْمْرَ إِذَا تَقَلَّدَهُ وَقَامَ بِهِ.
وَيُقَال: تَوَلَّيْتُ فَلاَنًا: اتَّبَعْتُهُ وَرَضِيتُ بِهِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَال الْوَقْفِ وَالْقِيَامُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْخَيْرِيَّةِ: وَالْقَيِّمُ وَالْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ (2) ، أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ مُتَوَلِّيًا وَنَاظِرًا عَلَيْهِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فَيُرَادُ بِالنَّاظِرِ الْمُشْرِفُ.
__________
(1) غريب القرآن للأصفهاني، والمعجم الوسيط، وجواهر الإكليل 2 / 98، والقليويي وعميرة 3 / 178، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.
(2) غريب القرآن للأصفهاني، وَالمعجم الوسيط، والمصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتلي، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.(40/14)
ج - الْوَصِيُّ:
4 - الْوَصِيُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الَّذِي يُوصِي وَيُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى مَنْ يُوصَى إِلَيْهِ، وَالْوَصِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْجَمْعُ أَوْصِيَاءُ.
يُقَال: أَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ: جَعَلْتُهُ لَهُ، وَأَوْصَيْتُهُ بِوَلَدِهِ: اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ (1) .
وَالْوَصِيُّ اصْطِلاَحًا: هُوَ مَنْ جُعِل لَهُ التَّصَرُّفُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فِيمَا كَانَ لِلْمُوصِي التَّصَرُّفُ فِيهِ: مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ، وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ، وَالْوِلاَيَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَمَنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُمْ، وَالنَّظَرِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْوَصِيِّ: أَنَّ النَّاظِرَ هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ الْوَقْفِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَنْفِيذَ الْوَصَايَا وَنَحْوِهَا، فَالْوَصِيُّ أَعَمُّ.
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للأصفهاني، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، ومغني المحتاج 3 / 73، وحاشية ابن عابدين 5 / 414، 447.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 414، 447، وجواهر الإكليل 2 / 99، ومغني المحتاج 3 / 73 - 74، والمغني لابن قدامة 6 / 134، 135.(40/15)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ أَحْكَامِ النَّاظِرِ، وَهَل يُعَيِّنُهُ الْوَاقِفُ أَوِ الْحَاكِمُ؟ وَمَا هِيَ شُرُوطُهُ الَّتِي تَجِبُ تَوَفُّرُهَا حَتَّى يَكُونَ مُؤَهَّلاً لإِِدَارَةِ أَمْوَال الْوَقْفِ؟ وَمَا هِيَ صَلاَحِيَّتُهُ فِي التَّصَرُّفِ بِمَال الْوَقْفِ؟ وَمَنْ يَحِقُّ لَهُ عَزْل النَّاظِرِ عِنْدَمَا يَفْقِدُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ أَهْلِيَّتِهِ؟ وَهَل يَجُوزُ تَعَدُّدُ النَّاظِرِينَ لِمَال وَقْفٍ وَاحِدٍ.
وَتَفَاصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقَف) .
نافلة
انْظُرْ: نفل(40/15)
ناقصة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاقِصَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَقَصَ، يُقَال: نَقَصَ الشَّيْءُ يَنْقُصُ نَقْصًا وَنُقْصَانًا وَهُوَ الْخُسْرَانُ فِي الْحَظِّ، وَانْتَقَصَ: ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ تَمَامِهِ (1) .
وَالنَّاقِصَةُ: اصْطِلاَحًا تُطْلَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى كُل مَسْأَلَةٍ نَقَصَتْ فُرُوضُهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا النَّاقِصَةَ عَلَى: الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لاَ عَوْل فِيهَا وَلاَ رَدَّ وَفِيهَا عَاصِبٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ النَّاقِصَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ: الرَّدُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَقَدْ سُمِّيَتْ مَسْأَلَةُ النَّاقِصَةِ بِالْقَاصِرَةِ وَالْعَادِلَةِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المبسوط 29 / 160 - 161، وحاشية ابن عابدين 5 / 501 ط بولاق، وشرح الزرقاني 8 / 215، وحاشية الجمل 4 / 36، وكشاف القناع 4 / 430، ومطالب أولي النهى 4 / 580، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 31 ط المنار.
(3) المبسوط 29 / 160، وحاشية ابن عابدين 5 / 501.(40/16)
مَرْجِعُ نُقْصَانِ الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ:
2 - نُقْصَانُ الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ يَرْجِعُ إِلَى نُقْصَانِ الأَْسْهُمِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَأُصُول الْمَسَائِل بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ ثَلاَثٍ:
الأُْولَى: عَادِلَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مَعَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَخٍ لأُِمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَلِلأَْخِ لأُِمٍّ السُّدُسُ.
الثَّانِيَةُ: نَاقِصَةٌ (أَوْ قَاصِرَةٌ أَوْ عَادِلَةٌ أَوْ مَسْأَلَةُ الرَّدِّ) وَهِيَ الَّتِي قَصُرَتْ فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا: مَاتَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ: فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى السُّدُسُ زَائِدًا عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ.
الثَّالِثَةُ: عَائِلَةٌ وَهِيَ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا: مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ وَأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَهُنَا زَادَتْ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثُلُثًا (1) .
مَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ
__________
(1) المبسوط 29 / 160، 161، والفتاوى الهندية 6 / 468، وشرح الزرقاني 8 / 215، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 36، والمغني لابن قدامة 6 / 287.(40/16)
تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي مَدْلُولِهَا.
فَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ شَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَنْقُصَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ زَادَتْ فَهِيَ عَائِلَةٌ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فَهِيَ عَادِلَةٌ.
الثَّانِي: عَدَمُ وُجُودِ عَاصِبٍ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ وُجِدَ بَيْنَهُمْ عَاصِبٌ أَخَذَ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بِالْعُصُوبَةِ وَلاَ رَدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمْ مَنْ مَاتَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى السُّدُسُ زَائِدًا عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا عَوْلٌ وَلاَ رَدٌّ، وَفِيهَا عَاصِبٌ (3) ، كَزَوْجٍ وَأَبٍ (4) .
حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ رَدِّ مَا بَقِيَ
__________
(1) الاختيار 5 / 99، والفتاوى الهندية 6 / 468، ومواهب الجليل 6 / 414 ط دار الفكر، وَحاشية الدسوقي 4 / 465 ط دار الفكر، وحاشية البيجوري على ابن قاسم 2 / 77 ط الحلبي، والإقناع لشرف الدين المقدسي 3 / 93 ط دار المعرفة.
(2) المبسوط 29 / 160 - 161، والفتاوى الهندية 6 / 468، وشرح الزرقاني 8 / 215، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 36، والمغني لابن قدامة 6 / 287.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 580.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 596.(40/17)
مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ أَسْهُمِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 63 - 73) .
ناقوس
انْظُرْ: أَهْل الْكِتَابِ، معابد(40/17)
نبّاش
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبَّاشُ فِي اللُّغَة مِنَ النَّبْشِ، وَهُوَ: اسْتِخْرَاجُ الشَّيْءِ الْمَدْفُونِ، وَنَبْشُ الْمَسْتُورِ وَعَنْهُ: أَبْرَزُهُ.
وَالنَّبَّاشُ هُوَ مَنْ يُفَتِّشُ الْقُبُورَ عَنِ الْمَوْتَى لِيَسْرِقَ أَكْفَانَهُمْ وَحُلِيَّهُمْ. وَالنِّبَاشَةُ حِرْفَةُ نَبْشِ الْقُبُورِ المعجم الوسيط. وَالنَّبَّاشُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّارِقُ:
2 - السَّارِقُ فِي اللُّغَةِ مَنْ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ خُفْيَةً مِنَ السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الشَّخْصِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ فِي خَفَاءٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ خُفْيَةً ظُلْمًا (2) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 60، وفتح القدير 5 / 137، والحاوي الكبير 17 / 184.
(2) المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، ومغني المحتاج 4 / 158.(40/18)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّبَّاشِ وَالسَّارِقِ: أَنَّ النَّبَّاشَ أَخَصُّ مِنَ السَّارِقِ.
الطَّرَّارُ:
3 - الطَّرَّارُ فِي اللُّغَةِ، الَّذِي يَقْطَعُ أَوْعِيَةَ النَّفَقَاتِ وَيَأْخُذُهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ، أَوِ الْجَيْبَ أَوِ الصُّرَّةَ، وَيَقْطَعُهَا وَيَسُل مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْخَادِمِيُّ بِأَنَّهُ أَخْذُ مَال الْيَقْظَانِ فِي غَفْلَةٍ مِنْهُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الطَّرَّارِ وَبَيْنَ النَّبَّاشِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَأْخُذُ الشَّيْءَ خُفْيَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، غَيْرَ أَنَّ الطَّرَّارَ يَأْخُذُ الأَْمْوَال، وَالنَّبَّاشَ يَأْخُذُ الأَْكْفَانَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبَّاشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّبَّاشِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
اعْتِبَارُ النَّبَّاشِ سَارِقًا:
4 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ النَّبَّاشَ مُرْتَكِبٌ مُحَرَّمًا، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) المغني 8 / 256، وفتح القدير 5 / 150.
(3) منافع الدقائق في شرح مجامع لحقائق، لأبي سعيد الخادمي، ص 75 ط: الآستانة.(40/18)
تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ السَّارِقِينَ مِنَ الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَنَّ النَّبَّاشَ يُعْتَبَرُ سَارِقًا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ السَّارِقِينَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا سَرَقَ مِنْ أَكْفَانِ الْمَوْتَى مَا يَبْلُغُ نِصَابَ السَّرِقَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَنَ مَالٌ مُتَقَوَّمٌ سُرِقَ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ وَهُوَ الْقَبْرُ، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْتَ الْمُغْلَقَ فِي الْعُمْرَانِ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِمَا فِيهِ عَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّ الْقَبْرَ يُعْتَبَرُ عَادَةً حِرْزًا لِكَفَنِ الْمَيِّتِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1) حَيْثُ إِنَّ اسْمَ السَّرِقَةِ يَشْمَل النَّبَّاشَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّهَا قَالَتْ: " سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا " (2) . وَعَنْ يَحْيَى النَّسَائِيِّ قَال:
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة / 38.
(2) أثر عائشة رضي الله عنها أخرجه البيهقي في معرفة السنن (12 / 409 - ط دار الوعي حلب) وأخرجه ابن أبي شيبة (10 / 34 ط الدار السلفية) موقوفا على إبراهيم، والشعبي ونصه (يقطع سارق أمواتنا كما يقطع سارق أحيائنا) .(40/19)
كَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي النَّبَّاشِ فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّهُ سَارِقٌ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ " (1) قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالاً كَامِل الْمِقْدَارِ مِنْ حِرْزٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ فَتُقْطَعُ يَدُهُ كَمَا لَوْ سَرَقَ لِبَاسَ الْحَيِّ، لأََنَّ الآْدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيْتًا؛ وَلأَِنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنَ النَّبَّاشِ وَهَذَا الثَّوْبُ - الْكَفَنُ - كَانَ مَالاً قَبْل أَنْ يَلْبَسَهُ الْمَيِّتُ فَلاَ تَخْتَل صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِ بِلُبْسِ الْمَيِّتِ، فَأَمَّا الْحِرْزُ فَلأَِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا مُنْذُ وُلِدُوا إِحْرَازَ الأَْكْفَانِ بِالْقُبُورِ وَلاَ يُحْرِزُونَهَا بِأَحْصَنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَكَانَ حِرْزًا مُتَعَيِّنًا لَهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ يَبْقَى فِي إِحْرَازِهِ شُبْهَةٌ، لَمَّا كَانَ لاَ يُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهُ عَادَةً (2) . وَلأَِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ الْمُخْتَفِي (3) قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَأَهْل الْحِجَازِ
__________
(1) حديث: " من حرق حرقناه. . . ". أخرجه البيهقي في معرفة السنن (12 / 409، 410 ط دار الوعي حلب) من حديث البراء - رضي الله عنه - ثم قال: في الإسناد بعض من يجهل.
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 159، 161، والبحر الرائق 5 / 60، وفتح القدير 5 / 137، والدسوقي 4 / 340، والحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 196، وكشاف القناع 6 / 138
(3) حديث: " أنه أمر بقطع المختفي ". لم نقف عليه مرفوعا ولكن ورد موقوفا على عمر بن عبد العزيز ولفظه عن معمر قال: (بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع نباشا) أخرجه ابن أبي شيبة (10 / 34 ط الدار السلفية) .(40/19)
يُسَمُّونَ النَّبَّاشَ: الْمُخْتَفِي؛ إِمَّا لاِخْتِفَائِهِ بِأَخْذِ الْكَفَنِ، وَإِمَّا لإِِظْهَارِهِ الْمَيِّتَ فِي أَخْذِ كَفَنِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُظْهِرُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَطَعَ نَبَّاشًا بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ مَجْمَعُ الْحَجِيجِ، وَلاَ يَخْفَى مَا جَرَى فِيهِ عَلَى عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ؛ وَلأَِنَّ جَسَدَ الْمَيِّتِ عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا سَتَرَهَا؛ وَلأَِنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَا وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ، فَكَانَ كَفَنُ الْمَيِّتِ أَحَقَّ بِالْقَطْعِ لأَِمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ (1) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل وَالشُّرُوطِ.
5 - فَذَهَبُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
__________
(1) الدسوقي 4 / 340، وكشاف القناع 6 / 138، ومغني المحتاج 4 / 169، والمبسوط للسرخسي 9 / 160، والحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها.(40/20)
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا بِالْقَطْعِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْكَفَنُ فِي مَقَابِرِ الْبَلَدِ الأَْنِيسَةِ، بَل تُقْطَعُ يَدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ قَرِيبًا مِنَ الْعُمْرَانِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ. فَالْقَبْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ حَيْثُ كَانَ إِذَا كَانَ مَطْمُومًا الطَّمَّ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ؛ وَلأَِنَّ النُّفُوسَ تَهَابُ الْمَوْتَى عَادَةً (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ الْكَفَنُ إِمَّا فِي بَيْتٍ مُحَرَّزٍ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ مِنْ مَقَابِرِ الْبَلَدِ الأَْنِيسَةِ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ كَائِنَةٍ بِطَرَفِ الْعِمَارَةِ بِحَيْثُ يَنْدُرُ تَخَلُّفُ الطَّارِقِينَ عَنْهَا فِي زَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ النَّبْشُ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ عَلَيْهَا حُرَّاسٌ مُرَتَّبُونَ فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْبَيْتِ الْمُحَرَّزِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُنْقَطِعَةً عَنِ الأَْمْصَارِ، أَوْ فِي مَفَازَةٍ ضَائِعَةٍ وَلاَ حُرَّاسَ عَلَيْهَا، فَلاَ يَجِبُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ قَطْعُ النَّبَّاشِ؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ عِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحِرْزٍ؛ وَلأَِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفَنَ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ (2) .
6 - وَذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 340، وكشاف القناع 6 / 138، ومغني المحتاج 4 / 196.
(2) الحاوي لكبير للماوردي 17 / 189، ومغني المحتاج 4 / 169.(40/20)
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَشْرُوعًا، أَمَّا غَيْرُ الْمَشْرُوعِ كَأَنْ كُفِّنَ رَجُلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ لَفَائِفَ أَوْ كُفِّنَتِ امْرَأَةٌ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ ثِيَابٍ فَسُرِقَ الزَّائِدُ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَطْعَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِاعْتِبَارِهِ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا، كَمَا لَوْ وُضِعَ مَعَ الْكَفَنِ غَيْرُهُ أَوْ تُرِكَ مَعَ الْمَيِّتِ طِيبٌ مَجْمُوعٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَلاَ قَطْعَ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَتَرْكُهُ فِي الْقَبْرِ مَعَ الْمَيِّتِ تَضْيِيعٌ لِلْمَال وَسَفَهٌ فَلاَ يَكُونُ مُحَرَّزًا بِالْقَبْرِ.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا لَوْ تُرِكَ الْمَيِّتُ فِي تَابُوتٍ فَسُرِقَ التَّابُوتُ فَلاَ يُقْطَعُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ حَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الدَّفْنِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِرِ الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ تَغَالَى فِي الْكَفَنِ بِحَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَلاَّ يُخَلَّى مِثْلُهُ بِلاَ حَارِسٍ لَمْ يُقْطَعْ سَارِقُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا، فَمَنْ سَرَقَ مِنْ كَفَنِ شَخْصٍ كُفِّنَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ مَا زَادَ عَلَى الْكَفَنِ الشَّرْعِيِّ يُقْطَعُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْجَلاَّبِ وَالتَّلْقِينِ (2) .
__________
(1) الحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 196، وكشاف القناع 6 / 138 - 139، وَالدسوقي 4 / 340.
(2) الدسوقي 4 / 340.(40/21)
7 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ قَطْعَ النَّبَّاشِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِهِ: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ عَمِيقًا عَلَى مَعْهُودِ الْقُبُورِ وَمَطْمُومًا الطَّمَّ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْرُ عَمِيقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَطْمُومًا الطَّمَّ الْمُعْتَادَ فَلاَ قَطْعَ فِيهِ (1) .
كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ فِي الْقَطْعِ مِنْ أَجْل الْكَفَنِ أَنْ يُخْرِجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ بَعْدَ تَجْرِيدِهِ مِنَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنَ اللَّحْدِ إِلَى فَضَاءِ الْقَبْرِ وَتَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ، لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ قَطْعَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ حِرْزِهِ.
أَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ مَعَ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُجَرِّدْهُ عَنْهُ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ قَطْعَ فِيهِ، لاِسْتِبْقَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَالثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لإِِخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ حِرْزِهِ (2) .
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا فِي الْقَطْعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفَنَ وَالْمَيِّتُ فِيهِ، فَإِنْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ أَوْ ذَهَبَ بِهِ سَيْلٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ فَلاَ قَطْعَ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ فَنِيَ الْمَيِّتُ وَبَقِيَ الْكَفَنُ قُطِعَ؛ لأََنَّ الْقَبْرَ مَا زَال حِرْزًا لِلْكَفَنِ.
__________
(1) الحاوي الكبير 17 / 190، وكشاف القناع 6 / 138، 139.
(2) مغني المحتاج 4 / 169، والحاوي 17 / 187، 190، وكشاف القناع 6 / 138.(40/21)
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَطْعِ: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ مُحْتَرَمًا لِيَخْرُجَ قَبْرٌ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُحْتَرَمًا لِيَخْرُجَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ (1) .
8 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ النَّبَّاشَ سَارِقًا فِي اعْتِبَارِ الْبَحْرِ حِرْزًا لِلْكَفَنِ حَتَّى يَجِبَ قَطْعُ سَارِقِهِ، وَذَلِكَ إِذَا أُلْقِيَ الْمَيِّتُ مَعَ كَفَنِهِ فِيهِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَبْرُ وَالْبَحْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَأَمَّا الْبَحْرُ فَظَاهِرٌ كَوْنُهُ حِرْزًا لِلْكَفَنِ مَا دَامَ الْمَيِّتُ فِيهِ، أَمَّا الْغَرِيقُ فِي الْبَحْرِ أَوْ نَحْوِهِ فَلاَ قَطْعَ عَلَى سَارِقِ مَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْبَحْرُ لَيْسَ حِرْزًا لِكَفَنِ الْمَيِّتِ الْمَطْرُوحِ فِيهِ فَلاَ يُقْطَعُ آخِذُهُ؛ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَأُخِذَ كَفَنُهُ، فَإِنْ غَاصَ فِي الْمَاءِ فَلاَ قَطْعَ عَلَى آخِذِهِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ طَرْحَهُ فِي الْمَاءِ لاَ يُعَدُّ إِحْرَازًا، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ وَغَيَّبَهُ الرِّيحُ بِالتُّرَابِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 169 - 170، وكشاف القناع 6 / 138 - 139، وانظر الحاوي الكبير 17 / 189.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 340.
(3) مغني المحتاج 4 / 170.(40/22)
9 - الْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي " (1) وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْل الْمَدِينَةِ؛ وَلأَِنَّ نَبَّاشًا رُفِعَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَعَزَّرَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ وَلأَِنَّ أَطْرَافَ الْمَيِّتِ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ كَفَنِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ الْقَطْعُ فِي أَكْفَانِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُحَرَّزٍ مَمْلُوكٍ، وَهَذِهِ الأَْوْصَافُ مُخْتَلَّةٌ (2) .
قَال فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً، وَلاَ لِلْوَارِثِ؛ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَل فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الاِنْزِجَارُ؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ نَفْسَهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ. وَيَشْمَل هَذَا الْحُكْمُ مَا إِذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَا
__________
(1) حديث: " لا قطع على المختفي " أورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 367 ط المجلس العلمي) وقال: غريب. ثم ذكر أن ابن أبي شيبة أخرج موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهم: (ليس على النباش قطع) وهو في المصنف (10 / 36 ط الدار السلفية) .
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 156 - 159، والبحر الرائق 5 / 60، وانظر الحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها، وفتح القدير مع الحواشي 5 / 137 وما بعدها.(40/22)
إِذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ، وَمَا إِذَا سَرَقَ مِنَ الْقَبْرِ ثَوْبًا غَيْرَ الْكَفَنِ؛ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَلَوْ سَرَقَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ الْمَيِّتِ مَالاً آخَرَ غَيْرَ الْكَفَنِ لاَ يُقْطَعُ؛ لِتَأَوُّلِهِ بِالدُّخُول إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ، وَكَذَا لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ فِيهِ الْمَيِّتُ؛ لِتَأَوُّلِهِ بِالدُّخُول لِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الْكُل؛ لِوُجُودِ الإِْذْنِ بِالدُّخُول فِيهِ عَادَةً (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ لِتَحَقُّقِ قُصُورٍ فِي نَفْسِ مَالِيَّةِ الْكَفَنِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال مَا تَجْرِي فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالضِّنَةُ، وَالْكَفَنُ يَنْفِرُ عَنْهُ كُل مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَفَنٌ بِهِ مَيِّتٌ إِلاَّ نَادِرًا مِنَ النَّاسِ؛ وَلأَِنَّهُ شُرِعَ الْحَدُّ لِلاِنْزِجَارِ وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَأَمَّا مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ فَلاَ يُشْرَعُ فِيهِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَل الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ الاِنْزِجَارَ حَاصِلٌ طَبْعًا كَمَا قُلْنَا فِي عَدَمِ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ (2) .
خَصْمُ النَّبَّاشِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْخَصْمِ فِي سَرِقَةِ الْكَفَنِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَصْمَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْمَالِكُ الأَْوَّل لِلْكَفَنِ.
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الحقائق 5 / 60 والمبسوط 9 / 159 - 160، وفتح القدير 5 / 137.
(2) فتح القدير 5 / 138.(40/23)
فَإِذَا كَانَ الْكَفَنُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَالْوَرَثَةُ هُمُ الْخَصْمُ فِي سَرِقَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ سَرَقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ وَلَدُ بَعْضِهِمْ لَمْ يُقْطَعْ فَلَوْ نُبِشَ قَبْرُ الْمَيِّتِ وَأُخِذَ مِنْهُ الْكَفَنُ وَهُوَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ طَالَبَ بِهِ الْوَرَثَةُ مَنْ أَخَذَهُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَلَوْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ أَوْ ذَهَبَ بِهِ سَيْلٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ اقْتَسَمُوهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَفَنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ سَيِّدٍ مِنْ مَالِهِ فَالْخَصْمُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمُطَالَبَةِ هُوَ مَالِكُ الْكَفَنِ الأَْوَّل الأَْجْنَبِيُّ أَوِ السَّيِّدُ؛ لأَِنَّ نَقْل الْمِلْكِ إِلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْلَكُ ابْتِدَاءً فَكَانَ الْمُكَفِّنُ مُعِيرًا عَارِيَةً لاَ رُجُوعَ فِيهَا كَإِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلدَّفْنِ.
وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَالإِْمَامُ هُوَ الْخَصْمُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَصْمُ فِي سَرِقَةِ الْكَفَنِ الْوَرَثَةُ؛ لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَرَثَةٌ فَالْخَصْمُ نَائِبُ الإِْمَامِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. وَلَوْ كَانَ الْكَفَنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَالْخَصْمُ فِي سَرِقَتِهِ الْوَرَثَةُ أَيْضًا، لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 169، 170.
(2) مغني المحتاج 4 / 169، وانظر الحاوي الكبير 17 / 188 وما بعدها.(40/23)
وَأَمَّا لَوْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ مَثَلاً وَبَقِيَ الْكَفَنُ فَهُوَ لِمَنْ تَبَرَّعَ بِهِ دُونَ الْوَرَثَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: كَمَا قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ؛ لأَِنَّ تَمْلِيكَ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَهُوَ إِبَاحَةٌ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا زَالَتْ تَعَيَّنَ لِرَبِّهِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 6 / 138.(40/24)
نَبْش
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبْشُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَبَشْتُ الأَْرْضَ نَبْشًا: كَشَفْتُهَا، وَنَبَشْتُ السِّرَّ: أَفْشَيْتُهُ، يُقَال: نَبَشْتُ الأَْرْضَ وَالْقَبْرَ وَالْبِئْرَ، وَنَبَشْتُ الْمَسْتُورَ، وَنَبَشْتُ عَنْهُ: أَبْرَزْتُهُ، وَالنَّبْشُ: هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْمَدْفُونِ، وَمِنْهُ النَّبَّاشُ: الَّذِي يَنْبُشُ الْقُبُورَ عَنِ الْمَوْتَى لِيَسْرِقَ أَكْفَانَهُمْ وَحُلِيَّهُمْ.
وَالنِّبَاشَةُ: حِرْفَةُ نَبْشِ الْقُبُورِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبْشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّبْشِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ:
2 - الأَْصْل أَنَّ نَبْشَ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى عِنْدَ أَهْل
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، والمعجم الوسيط.
(2) مغني المحتاج 1 / 367.(40/24)
الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ الأَْرْضِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكٍ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ (1) .
ثَانِيًا: نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى لِضَرُورَةٍ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَمِنْ هَذِهِ الأَْغْرَاضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْقَبْرِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ وَقَعَ فِيهِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مَالٌ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْقَبْرِ وَدُفِنَ مَعَ الْمَيِّتِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخْرِجَ الْمَال، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْمَال الَّذِي يُنْبَشُ الْقَبْرُ مِنْ أَجْل اسْتِخْرَاجِهِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، بَل يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَلَوْ دِرْهَمًا كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، أَوْ خَاتَمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 108 - 117، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، ودليل الفالحين 4 / 564، والمغني لابن قدامة 2 / 511، 552، 553، 554، والمجموع للنووي 5 / 303.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 / 366، والمغني لابن قدامة 2 / 552، 553، والمجموع للنووي 5 / 303.(40/25)
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا النَّبْشِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ أَمْ لاَ؟
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ - فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْمَال فِيهِ - وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ، وَإِنْ كَانَ الْمَال مِنَ التَّرِكَةِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، مَا لَمْ يُسَامِحْ مَالِكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ ذَلِكَ حَرُمَ النَّبْشُ كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ اعْتِمَادُهُ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَنِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: مَا لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْتَاطُ لَهُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ الْعَبَّادِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ النَّبْشُ سَوَاءٌ طَلَبَ مَالِكِهِ أَمْ لاَ، وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ إِلاَّ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَمَا إِذَا سَقَطَ فِي الْقَبْرِ مَتَاعٌ، أَوْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 / 366، والمجموع للنووي 5 / 300 - 303، والمغني لابن قدامة 2 / 553، وكشاف القناع 2 / 145.
(2) المجموع للنووي 5 / 300 - 303، وتحفة المحتاج مع الحاشيتين 3 / 204، ومغني المحتاج 1 / 366.(40/25)
وَلَوْ كَانَ الْمَال دِرْهَمًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يُنْبَشُ الْقَبْرُ مِنْ أَجْلِهَا إِذَا نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ نَحْوُ ثَوْبٍ أَوْ خَاتَمٍ أَوْ دَنَانِيرَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَال لِغَيْرِ الْمَيِّتِ أُخْرِجَ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أُخْرِجَ إِنْ كَانَ نَفِيسًا وَلَمْ يُسَامِحْ فِيهِ الْوَرَثَةُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ عَدَمَ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ غَيْرُ الْوَارِثِ عَلَى أَخْذِ عِوَضِهِ وَلاَ شَيْءَ لِوَارِثِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ الْمَال غَيْرَ نَفِيسٍ، أَيْ غَيْرَ ذِي بَالٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالٌ لَهُ قِيمَةٌ عُرْفًا أَوْ رَمَاهُ رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي أَخْذِهِ، وَلِمَا رُوِيَ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ خَاتَمَهُ فِي قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال: خَاتَمِي، فَدَخَل وَأَخَذَهُ وَكَانَ يَقُول: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (4) ، وَقَال أَحْمَدُ: إِذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101.
(2) جواهر الإكليل 1 / 117، والخرشي وبهامشه حاشية العدوي 2 / 144 - 145.
(3) جواهر الإكليل 1 / 117، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 144 - 145.
(4) حديث: " أن المغيرة بن شعبة وضع خاتمه. . . ". أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (60 / 29 ط دار الفكر) وَقَال النووي في المجموع (5 / 300 ط المنيرية) : حديث المغيرة ضعيف غريب. ثم نقل عن أبي أحمد الحاكم أنه قال: لا يصح هذا الحديث.(40/26)
مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ يُنْبَشَ (1) .
ب - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ بَلَعَهُ الْمَيِّتُ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ بَلَعَ مَال غَيْرِهِ وَلاَ مَال لَهُ وَمَاتَ هَل يُشَقُّ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَال حُرْمَةِ الأَْعْلَى وَهُوَ الآْدَمِيُّ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الأَْدْنَى وَهُوَ الْمَال؛ وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوِ ابْتَلَعَ الْمَال إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلاَتِ اتِّفَاقًا فَكَذَا مَيِّتًا.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي؛ وَلأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَةُ الآْدَمِيِّ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ صِيَانَةِ الْمَال لَكِنَّهُ أَزَال احْتِرَامَهُ بِتَعَدِّيهِ، قَالُوا: وَهَذَا الْقَوْل أَوْلَى، وَلَوْ تَرَكَ مَالاً فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَلَعَهُ، وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ فِي جَوْفِهِ مَالٌ لِغَيْرِهِ بِلاَ تَعَدٍّ مِنْهُ لاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لاَ يُشَقُّ الْحَيُّ مُطْلَقًا لإِِفْضَائِهِ إِلَى الْهَلاَكِ لاَ لِمُجَرَّدِ الاِحْتِرَامِ (2) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ شِقِّ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 102 ط دار إحياء التراث العربي.(40/26)
بِطْنِ الْمُبْتَلِعِ يَخْتَلِفُ قَبْل الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ، أَمْ يَسْتَوِي فِيهِ الأَْمْرَانِ، وَالأَْقْرَبُ إِلَى مَفْهُومِ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ أَيْ يُشَقُّ بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال الْمَبْلُوعِ حَتَّى بَعْدَ دَفْنِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ نَبْشِ قَبْرِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ كَمَا لَوْ دُفِنَ مَعَهُ الْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُ الْمَيِّتِ عَنْ مَالٍ ابْتَلَعَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَاتَ وَهُوَ فِي بَطْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذَا كَثُرَ فَبَلَغَ نِصَابَ زَكَاةٍ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ بَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْمَال نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مَا ابْتَلَعَهُ مَال نَفْسِهِ فَرَجَّحَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ لإِِخْرَاجِ الْمَال لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ فِي حَال حَيَاتِهِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا بَلَعَ مَال نَفْسِهِ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ كَمَال الأَْجْنَبِيِّ (2) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَال الَّذِي ابْتَلَعَهُ لِغَيْرِهِ فَمَاتَ وَدُفِنَ، وَطَلَبَهُ مَالِكُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ بَدَلَهُ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَيُشَقُّ جَوْفُهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 117.
(2) تحفة المحتاج 3 / 204، وقليوبي وعميرة 1 / 352، والمجموع للنووي 5 / 300، 303، ومغني المحتاج 1 / 366.(40/27)
وُجُوبًا لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال ثُمَّ يُدْفَعُ لِمَالِكِهِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَهُ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ دُفِعَ لِصَاحِبِ الْمَال بَدَلُهُ فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ نَبْشُهُ وَشَقُّ جَوْفِهِ؛ لِقِيَام بَدَلِهِ مَقَامَهُ، وَصَوْنًا لِلْمَيِّتِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطْلُبْ صَاحِبُ الْمَال مَالَهُ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ، بَل يَجِبُ قِيمَةُ الْمَال الْمَبْلُوعِ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا " (1) ، قَالُوا: وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ وَشَقَّ الْجَوْفِ فِي الْحَيَاةِ لاَ يَجُوزُ لاِسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ وَغَيْرِهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا بَلَعَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَقِيَتْ مَالِيَّتُهُ كَخَاتَمٍ مَثَلاً وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغُرِّمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ غُرْمُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ الْمَيِّتُ؛ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ وَنَحْوِهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَشُقَّ جَوْفُهُ وَأُخِذَ
__________
(1) حديث: " كسر عظم الميت ككسره حيا ". أخرجه أبو داود (3 / 544 - ط حمص) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 7 / 437 ط مؤسسة الرسالة) ونقل علي القاري في المرقاة (2 / 380) عن ابن القطان أنه قال: " إسناده حسن ".
(2) تحفة المحتاج 3 / 204، وقليوبي وعميرة 1 / 352، والمجموع للنووي 5 / 300 - 303، ومغني المحتاج 1 / 366.(40/27)
الْمَال، فَدُفِعَ لِرَبِّهِ وَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ الْمَال لِرَبِّهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْمَال، وَإِنْ بَلَعَ مَال الْغَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِ فَلاَ يُضْمَنُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ طَلَبَ لِرَبِّهِ عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لِلْمَيِّتِ بِنَبْشٍ أَوْ شَقٍّ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ مَالِكَ الْمَال هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالإِْذْنِ لَهُ فَهُوَ كَمَالِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا بَلِيَ جَسَدُهُ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَال وَظُهُورُهُ وَتَخَلُّصُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ نَبْشُهُ وَإِخْرَاجُ الْمَال مِنَ الْقَبْرِ وَدَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إِنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ " (2) ، وَلأَِنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَال (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145 - 146.
(2) حديث: " هذا قبر أبي رغال. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 464 ط حمص) ، وقال أبو الطيب: فيه بجير بن أبي بجير مجهول (عون المعبود 8 / 346 ط دار الفكر) .
(3) كشاف القناع 2 / 145 - 146، والمغني لابن قدامة 2 / 552.(40/28)
وَإِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ لَمْ يُنْبَشْ قَبْرُهُ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ الْمَال وَيُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل - إِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا تُرِكَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمَال مِنَ الضَّيَاعِ وَنَفْعَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ (2) .
ج - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل كَفَنٍ مَغْصُوبٍ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَبْشِ قَبْرِ الْمَيِّتِ مِنْ أَجْل كَفَنٍ مَغْصُوبٍ كُفِّنَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْبَشُ الْقَبْرُ إِذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ بِكَفَنٍ مَغْصُوبٍ بِشُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ رَبُّ الْكَفَنِ مِنْ أَخْذِ قِيمَتِهِ.
الثَّانِي: عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ رَبُّ الْكَفَنِ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ مِنَ الْوَارِثِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَطُول الْمُدَّةُ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مِنْهَا
__________
(1) كشاف القناع 2 / 146.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 552.(40/28)
فَسَادُ الْكَفَنِ وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ، وَيُعْطَى رَبُّ الْكَفَنِ قِيمَتَهُ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَرْجِيحِ نَبْشِ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل كَفَنٍ مَغْصُوبٍ أَقْوَالٌ:
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ دُفِنَ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مَسْرُوقٍ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يُنْبَشُ كَمَا لَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ نَبْشُهُ بَل يُعْطَى صَاحِبُ الثَّوْبِ قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّ الثَّوْبَ صَارَ كَالْهَالِكِ؛ وَلأَِنَّ خَلْعَهُ أَفْحَشُ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْعَبْدَرِيُّ، وَهُوَ قَوْل الدَّارِمِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَكَانَ فِي نَبْشِهِ هَتْكٌ لِحُرْمَتِهِ لَمْ يُنْبَشْ وَإِلاَّ نُبِشَ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ لأَِنْفُسِهِمَا بَعْدَ حِكَايَتِهِمَا عَنِ الأَْصْحَابِ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ.
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كُفِّنَ الرَّجُل فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101 - 102، وجواهر الإكليل 1 / 117، والخرشي مع العدوي 2 / 144 - 145.(40/29)
ثَوْبٍ حَرِيرٍ، قَال الرَّافِعِيُّ: هُوَ كَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ تَجْرِي فِي نَبْشِهِ هَذِهِ الأَْوْجُهُ - الثَّلاَثَةُ - وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِعَدَمِ النَّبْشِ بِخِلاَفِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّ نَبْشَهُ لِحَقِّ مَالِكِهِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ اللَّهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ وَطَالَبَ بِهِمَا مَالِكُهُمَا فَيَجِبُ النَّبْشُ وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، لِيَصِل الْمُسْتَحِقُّ إِلَى حَقِّهِ.
وَيُسَنُّ لِصَاحِبِهِمَا التَّرْكُ.
وَمَحَل النَّبْشِ فِي الثَّوْبِ إِذَا وُجِدَ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ النَّبْشُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا وَلاَ يُدْفَنُ عُرْيَانًا، وَهُوَ مَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ وَطَلَبَهُ مَالِكُهُ لَمْ يُنْبَشِ الْقَبْرُ، وَغُرِّمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 299، ومغني المحتاج 1 / 366.
(2) مغني المحتاج 1 / 366.(40/29)
وَنَحْوِهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ الْكَفَنُ الْمَغْصُوبُ فَدُفِعَ لِمَالِكِهِ إِنْ لَمْ يَبْذُل لَهُ قِيمَةَ الْكَفَنِ مُتَبَرِّعٌ، سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلاَ يُنْبَشُ حِينَئِذٍ؛ لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ (1) .
وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُنْبَشُ إِذَا كَانَ الْكَفَنُ بَاقِيًا بِحَالِهِ، لِيُرَدَّ إِلَى مَالِكِهِ عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بَالِيًا فَقِيمَتُهُ مِنْ تَرَكَتِهِ (2) .
د - نَبْشُ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ بِأَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ إِذَا دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَطَلَبَ مَالِكُهَا نَبْشَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِقِيمَتِهَا؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ فِي الأَْرْضِ يَدُومُ ضَرَرُهُ وَيَكْثُرُ، وَلِيَفْرَغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شُغِل بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ لِلْمَالِكِ تَرْكُ النَّبْشِ حَتَّى يَبْلَى الْمَيِّتُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ إِخْرَاجِهِ وَمُسَاوَاةِ الْقَبْرِ بِالأَْرْضِ، لِيَزْرَعَ فَوْقَهُ مَثَلاً؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ وَظَاهِرِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَرَكَ حَقَّهُ فِي بَاطِنِهَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ النَّبْشِ عَدَمَ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ الْمَالِكُ عَلَى أَخْذِ الْعِوَضِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ النَّبْشُ وَلَوْ تَغَيَّرَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 554.(40/30)
الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِيَصِل الْمُسْتَحِقُّ إِلَى حَقِّهِ (1) .
هـ - نَبْشُ قَبْرِ الْحَامِل مِنْ أَجْل الْحَمْل:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَبْشِ قَبْرِ الْحَامِل مِنْ أَجْل حَمْلِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ دُفِنَتِ امْرَأَةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ تُرْجَى حَيَاتُهُ - بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ - نُبِشَ قَبْرُهَا وَشُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ الْجَنِينُ تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يَجِبُ شَقُّ جَوْفِهَا قَبْل الدَّفْنِ، أَمَّا إِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ فَلاَ يُنْبَشُ قَبْرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُفِنَتْ تُرِكَتْ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ تُدْفَنُ (2) .
ثَانِيهِمَا: اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ شَقِّ بَطْنِ الْحَامِل، فَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ مَاتَتْ حَامِلٌ بِمَنْ يُرْجَى حَيَاتُهُ حَرُمَ شَقُّ بَطْنِهَا مِنْ أَجْل الْحَمْل مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، لِمَا فِيهِ مَنْ هَتْكِ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لإِِبْقَاءِ حَيَاةٍ مَوْهُومَةٍ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ وَالظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ لاَ يَعِيشُ (3) ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 / 366، وتحفة المحتاج 3 / 204، والمغني لابن قدامة 2 / 554، وكشاف القناع 2 / 145.
(2) مغني المحتاج 1 / 367، وتحفة المحتاج 3 / 205.
(3) جواهر الإكليل 1 / 117، وابن عابدين 1 / 602، وكشاف القناع 2 / 146، والمغني لابن قدامة 2 / 551 - 552.(40/30)
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ " (1) .
ثَالِثًا: نَبْشُ الْقَبْرِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ كَدَفْنِهِ قَبْل الْغُسْل أَوِ التَّكْفِينِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ أَوْ دَفْنِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - دَفْنُهُ قَبْل الْغُسْل:
10 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلاَ تَيَمُّمٍ.
فَذَهَب الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ الْقَبْرُ لِلْغُسْل بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ؛ وَلأَِنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا (2) ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ
__________
(1) حديث: " كسر عظم الميت. . " سبق تخريجه ف 5.
(2) ورد فيها حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 119 ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه.(40/31)
غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ لِغُسْلِهِ، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ فَيُسْتَدْرَكُ عِنْدَ قُرْبِهِ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَتَنٍ أَوْ تَقَطُّعٍ، وَإِلاَّ تُرِكَ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنْبَشُ مَا بَقِيَ مِنْهُ جُزْءٌ (1) .
ب - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ بِغَيْرِ كَفَنٍ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ السَّتْرُ، وَقَدْ حَصَل التُّرَابُ مَعَ مَا فِي النَّبْشِ مِنَ الْهَتْكِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ؛ لأَِنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ الْغُسْل (2) .
ج - نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ مِنْ أَجْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ مِنْ أَجْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ مَعَ إِمْكَانِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1 / 366، والمغني لابن قدامة 2 / 553.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، وتحفة المحتاج 3 / 205، والمغني لابن قدامة 2 / 554.(40/31)
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ أَسْوَدَ - رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ قَال: مَا فَعَل ذَلِكَ الإِْنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا - قِصَّتُهُ - قَال: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، قَال: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ " (1) .
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ دُفِنَ قَبْل فِعْل وَاجِبٍ فَيُنْبَشُ لِفِعْلِهِ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَيِّتُ، فَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ فَلاَ نَبْشَ بِحَالٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُصَل عَلَى الْمَيِّتِ أُخْرِجَ لَهَا مَا لَمْ يَفُتْ، بِأَنْ خِيفَ التَّغَيُّرُ، فَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ (3) . .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (جَنَائِز ف 37) .
د - نَبْشُ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) حديث: " أن أسود - رجلا أو امرأة. . . " أَخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 205 ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وتحفة المحتاج 3 / 204 - 205، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، والمغني لابن قدامة 2 / 553.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 2 / 142.(40/32)
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ وَتَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ، إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ التَّفَسُّخُ فَيُتْرَكُ وَلاَ يُنْبَشُ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ لاَ يُنْبَشُ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ صَوْنًا لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ مِنَ الْهَتْكِ (2) .
رَابِعًا: نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل نَقْل الْمَيِّتِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل نَقْل الْمَيِّتِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ - مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ - فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ: أَنَّهُ لاَ يَسَعُهَا ذَلِكَ. فَتَجْوِيزُ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلاَفٌ بَيْنِ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ، وَأَمَّا نَقْل يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا السَّلاَمُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا (3) .
__________
(1) تحفة المحتاج 3 / 204 - 205، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، والمغني لابن قدامة 2 / 553.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101 - 102.
(3) فتح القدير 2 / 101 - 102، وحاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1 / 366.(40/32)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ لِنَقْل الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ فِي بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا، كَمُجَاوَرَةِ صَالِحٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ، أَوْ لإِِفْرَادِهِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ عَمَّنْ دُفِنَ مَعَهُ، فَيَجُوزُ نَبْشُهُ لِذَلِكَ (1) ، لِقَوْل جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ أَوَّل قَتِيلٍ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ - وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآْخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ " (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ نَبْشِ الْقَبْرِ لِنَقْل الْمَيِّتِ إِلَى بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ الشَّهِيدَ إِذَا دُفِنَ بِمَصْرَعِهِ، فَلاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ لِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ مَصْرَعِهِ، حَتَّى لَوْ نُقِل مِنْهُ رُدَّ إِلَيْهِ؛ لأََنَّ دَفْنَ الشَّهِيدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِل فِيهِ سُنَّةٌ (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ: " ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ " (4) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 86، 142.
(2) حديث جابر رضي الله عنه: " دفن مع أبي رجل. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 214 - 215 ط السلفية) .
(3) كشاف القناع 2 / 86، 142.
(4) حديث: " ادفنوا القتلى في مصارعهم " أخرجه النسائي (4 / 79 ط التجارية الكبرى) وعبد الرزاق في المصنف (5 / 278 ط المجلس العلمي) من حديث جابر بن عبد الله رَضي الله عنهم.(40/33)
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَمْ يَزَل الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَقْبُرُونَ فِي الصَّحَارِي (1) .
خَامِسًا: نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِدَفْنِ آخَرَ مَعَهُ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَبْشُ قَبْرِ مَيِّتٍ بَاقٍ لِمَيِّتٍ آخَرَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل، وَمَتَى عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا جَازَ نَبَشَهُ وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ وَالْهَوَاءِ، وَهُوَ فِي الْبِلاَدِ الْحَارَّةِ أَسْرَعُ مِنْهُ فِي الْبِلاَدِ الْبَارِدَةِ.
وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَيْ أَنَّهُ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا رَجَعَ إِلَى قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ.
فَإِنْ حَفَرَ فَوَجَدَ فِيهَا عِظَامًا دَفَنَهَا فِي مَكَانِهَا، وَأَعَادَ التُّرَابَ كَمَا كَانَ وَلَمْ يَجُزْ دَفْنُ مَيِّتٍ آخَرَ عَلَيْهِ.
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا صَارَ الْمَيِّتُ رَمِيمًا الزِّرَاعَةُ وَالْحِرَاثَةُ وَغَيْرُهُمَا فِي مَوْضِعِ الدَّفْنِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ شُرُوطَ وَاقِفٍ، أَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ بَلِيَ الْمَيِّتُ وَصَارَ تُرَابًا جَازَ دَفْنُ غَيْرِهِ فِي قَبْرِهِ وَزَرْعُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة (3 / 441 - ط هجر) .
(2) كشاف القناع 2 / 143 - 144، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 144.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 167.(40/33)
سَادِسًا: نَبْشُ قُبُورِ الْكُفَّار لِغَرَضٍ صَحِيحٍ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِنَبْشِ قُبُورِ الْكُفَّارِ طَلَبًا لِلْمَال، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) فَقَالُوا بِجَوَازِ نَبْشِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِمَالٍ فِيهَا كَقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ (2) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. . . وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ " (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ دُفِنَ كَافِرٌ فِي الْحَرَمِ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْحَرَمِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ نَبْشُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِيُتَّخَذَ مَكَانَهَا مَسْجِدٌ (5) ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ بِنَبْشِهَا وَجَعَلَهَا مَسْجِدًا (6) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 225، وكشاف القناع 2 / 144.
(2) أبو رغال كان دليلا للحبشة الذين توجهوا إلى مكة لهدم الكعبة فمات في الطريق ويرجم قبره، (انظر كشاف القناع 2 / 144) .
(3) حديث أبي رغال، سبق تخريجه ف 5.
(4) مغني المحتاج 1 / 367.
(5) كشاف القناع 2 / 144.
(6) حديث: " موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 524 ط السلفية) ومسلم (1 / 373 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(40/34)
نَبَهْرَجة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبَهْرَجُ وَالنَّبَهْرَجَةُ لَفْظَانِ مُعَرَّبَانِ، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: الْبَهْرَجُ الدِّرْهَمُ الْمُبْطَل السِّكَّةِ، وَكُل مَرْدُودٍ عِنْدَ الْعَرَبِ بَهْرَجٌ وَنَبَهْرَجٌ، وَالْبَهْرَجُ الْبَاطِل وَالرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّبَهْرَجَةُ الدِّرْهَمُ الزَّيْفُ الرَّدِيءُ، أَوْ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مَا ضُرِبَ فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ (1) .
الألفاظ ذات الصلة:
أ - الْجِيَاد:
2 - الْجِيَادُ جَمْعُ جَيِّدٍ، وَالدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ: مَا كَانَتْ مِنِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ: تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ وَتُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَال (2) .
وَالصِّلَة بَيْنَهُمَا التَّضَادُّ.
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 4 / 218، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) لسان العرب، وابن عابدين 4 / 218.(40/34)
ب - السَّتُّوقَةُ:
3 - السَّتُّوقَةُ: دَرَاهِمُ صُفْرٌ مُمَوَّهَةٌ بِالْفِضَّةِ نُحَاسُهَا أَكْثَرُ مِنْ فِضَّتِهَا (1) .
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: السَّتُّوقَةُ: مَا غَلَبَ عَلَيْهِ غِشُّهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ الْغِشُّ الزَّائِدُ فِي كُلٍّ، وَالسَّتُّوقَةُ أَرْدَأُ مِنَ النَّبَهْرَجِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبَهْرَجَةِ:
التَّعَامُل بِالنَّبَهْرَجَةِ:
4 - النَّبَهْرَجَةُ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّرَاهِمِ: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا هُوَ الْفِضَّةَ فَهِيَ كَالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ؛ لأَِنَّ الْغِشَّ فِيهَا مُسْتَهْلَكٌ فَتُجْرَى فِيهَا أَحْكَامُ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ، فَيَجُوزُ التَّعَامُل بِهَا مَغْشُوشَةً وَإِنْ جُهِل قَدْرُ غِشِّهَا، وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ مَا غَلَبَتْ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ تَنَاوَلَهُ اسْمُ الدِّرْهَمِ مُطْلَقًا، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ.
وَإِنْ غَلَبَ الْغِشُّ فَلَيْسَ كَالْفِضَّةِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً أَوْ نَوَى التِّجَارَةَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ - وَهِيَ الَّتِي غَلَبَتْ فِضَّتُهَا - وَجَبَتْ فِيهَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 218.
(2) التعريفات للجرجاني.(40/35)
الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً لاَ مَنْوِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنِ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصَابُ الْفِضَّةِ أَوْ تَكُونَ مَنْوِيَّةً لِلتِّجَارَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (زُيُوف ف 6 - 8) .
بَيْعُ النَّبَهْرَجَةِ بِالْجِيَادِ:
5 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ وَالنَّبَهْرَجَةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زُيُوف ف 9) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 245.
(2) البحر الرائق 2 / 245.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 183.(40/35)
نبوّة
التَّعْريِفُ:
1 - النُّبُوَّةُ لُغَةً مِنْ (نَبَا يَنْبُو) أَوْ مِنَ (النَّبَأِ) ، فَنَبَا الشَّيْءُ بِمَعْنَى ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ " النَّبِيُّ " وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الأَْرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنَّبِيُّ أَيْضًا الْعَلَمُ مِنْ أَعْلاَمِ الأَْرْضِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، أَيْ كَالْجَبَل وَنَحْوِهِ.
قَال بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ " النَّبِيِّ " لأَِنَّهُ أَرْفَعُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَيْضًا لأَِنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ.
وَقَال ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنْ أَخَذْتَ " النَّبِيَّ " مِنَ النُّبُوَّةِ وَالنَّبَاوَةِ، وَهِيَ الاِرْتِفَاعُ مِنَ الأَْرْضِ؛ لاِرْتِفَاعِ قَدْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، فَأَصْلُهُ غَيْرُ الْهَمْزِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مِنَ " النَّبَأِ " بِالْهَمْزِ، فَقَدْ لاَحَظَ مَعْنَى الإِْنْبَاءِ، وَهُوَ الإِْخْبَارُ، تَقُول الْعَرَبُ: أَنْبَأْتُ فَلاَنًا نُبُوءَةً، أَيْ أَخْبَرْتُهُ خَبَرًا، فَمِنْهُ " النَّبِيُّ " وَأَصْلُهُ " النَّبِيءُ " فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ مُنَبِّأٌ أَوْ مُخْبِرٌ، ثُمَّ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ.(40/36)
قَال الْفَرَّاءُ: النَّبِيُّ هُوَ مَنْ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ، فَتُرِكَ هَمْزُهُ.
وَقَال الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فِي النَّبِيِّينَ وَالأَْنْبِيَاءِ طَرْحُ الْهَمْزِ، وَقَدْ هَمَزَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا، وَالأَْجْوَدُ تَرْكُ الْهَمْزِ (1) .
وَالنُّبُوَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهَا صِفَةٌ فِي النَّبِيِّ، وَقَال طَائِفَةٌ لَيْسَتْ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً فِي النَّبِيِّ، بَل هِيَ مُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الإِْلَهِيِّ بِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النُّبُوَّةَ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً فِي النَّبِيِّ، وَصِفَةً إِضَافِيَّةً هِيَ مُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الإِْلَهِيِّ بِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرِّسَالَةُ:
2 - الرِّسَالَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِْرْسَال، يُقَال: أَرْسَلْتُ إِلَى فُلاَنٍ، أَيْ وَجَّهْتُ إِلَيْهِ، وَأَرْسَلْتُهُ فِي رِسَالَةٍ، فَهُوَ مُرْسَلٌ وَرَسُولٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب المحيط، وفتح الباري 6 / 361.
(2) كتاب النبوات لابن تيمية ص 389 دار الكتب العلمية - بيروت.
(3) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.(40/36)
وَالرِّسَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الشَّخْصِ مُرْسَلاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ لِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ أَخَصُّ مِنَ النُّبُوَّةِ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ:
3 - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل إِذَا أَرْسَل رَسُولاً وَكَلَّفَ النَّاسَ بِتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ، لاَ يَتِمُّ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّسُول مِنَ الآْيَاتِ وَالدَّلاَئِل وَالْقَرَائِنِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَصِدْقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَكْفِي الْعَاقِل إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِنَادٌ وَجُحُودٌ لِيَقْتَنِعَ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِهَا مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى كُل شَيْءٍ؛ لِكَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ خَارِجَةً عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، مَعَ تَحَدِّيهِ لَهُمْ بِهَا، وَنِسْبَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَتِهَا وَالإِْتْيَانِ بِمِثْلِهَا (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَمَا أَعْطَاهُ مُعْجِزَةَ الْعَصَا وَبَيَاضِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (2) ، وَقَال تَعَالَى فِي حَقِّ
__________
(1) انظر مثلا كتاب النبوات ص (148، 153، 156) ، وأعلام النبوة ص 56 وما بعدها للماوردي، والمواقف للعضد ص 339 غيرها.
(2) سورة القصص / 32.(40/37)
رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (1) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآْيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2) .
شَرَائِعُ النُّبُوَّاتِ السَّابِقَةِ:
4 - مَا لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الأَْنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، فَلَيْسَ شَرْعًا لَنَا اتِّفَاقًا، وَلَسْنَا مُطَالَبِينَ شَرْعًا بِالْبَحْثِ عَمَّا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَيِّ مَسْأَلَةٍ وَاقِعَةٍ.
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْل الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَال: " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ
__________
(1) سورة النساء / 174.
(2) حديث: " ما من الأنبياء نبي. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 3، 13 / 247 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 134 ط عيسى الحلبي) .(40/37)
أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) .
5 - وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، أَوْ حَكَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ عَنْهُ مِنَ السُّنَنِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أُصُول الدِّينِ، كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَالْحِسَابِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا اتِّفَاقًا؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (2) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (3) وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (4) .
6 - أَمَّا مَا نُقِل فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْكِيًّا عَنِ الأَْنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا إِشْعَارٌ بِرَدِّهِ أَوْ نَسْخِهِ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا.
__________
(1) حديث: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب. . . " أخرجه أحمد (3 / 387 ط الميمنية) مطولا وذكره ابن حجر في الفتح (13 / 334 ط السلفية) وقال: رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا. وقوله: " أمتهوكون " أي متحيرون (لسان العرب) .
(2) سورة الشورى / 13.
(3) سورة الأنعام / 90.
(4) سورة النحل / 123.(40/38)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُقَرِّرُهُ (1) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ف 3) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
حُكْمُ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيًا لَهَا:
7 - مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَيْ آخِرُهُمْ، فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (2) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا خَاتَمُ
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 245 ط بولاق، والبحر المحيط للزركشي 6 / 39 الكويت، وزارة الأوقاف، وروضة الناظر لابن قدامة مع شرحها للشيخ عبد القادر بدران 1 / 400 - 402 القاهرة، المكتبة السلفية، وتفسير القرطبي 8 / 211، والبداية والنهاية لابن كثير 2 / 153، 154 القاهرة، المكتبة التجارية، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 172 مكتبة أنصار السنة بالقاهرة، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 / 33.
(2) فتح الباري (13 / 86 المكتبة السلفية - القاهرة 1370 هـ) والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 / 272، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الأذرعي عند قول مؤلفها: " وخاتم الأنبياء ".
(3) سورة الأحزاب / 40.(40/38)
النَّبِيِّينَ " (1) وَقَال أَيْضًا: " فُضِّلْتُ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ بِسِتٍّ. . . . " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " (2) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بِعْدِي " (3) .
وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَمِنْ هُنَا يَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّسَالَةِ، أَوْ قَال بِجَوَازِ اكْتِسَابِهَا بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَتَهْذِيبِ النَّفْسِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَكَذَا إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ (4) . قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: لاَ خِلاَفَ فِي
__________
(1) حديث: " أنا خاتم النبيين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 558 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1791 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " فضلت على الأنبياء بست. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 371 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " سيكون في أمتي كذابون. . " أخرجه أبو داود (4 / 452 ط حمص) والترمذي (4 / 499 ط المكتبة التجارية) من حديث ثوبان رضي الله عنه وقال الترمذي: حسن صحيح.
(4) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 278، والذخيرة 2 / 23 و 12 / 28 بيروت، دار الغرب الإسلامي 1993 م.(40/39)
تَكْفِيرِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ. قَال: وَتُقْبَل تَوْبَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
وَقَال عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ: قَال أَهْل السُّنَّةِ بِتَكْفِيرِ كُل مُتَنَبِّئٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الإِْسْلاَمِ كَزَرَادِشْتَ، وَيُورَاسِفَ، وَمَانِي، وَدِيصَانَ، وَمَرْقِيُونَ، وَمَزْدَكَ، أَوْ بَعْدَهُ، كَمُسَيْلِمَةَ، وَسَجَاحَ، وَالأَْسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ الْعَنْسِيِّ، وَسَائِرِ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُتَنَبِّئِينَ (2) .
8 - وَمَنْ صَدَّقَ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ يَكُونُ مُرْتَدًّا؛ لِكُفْرِهِ، كَذَلِكَ (3) لإِِنْكَارِهِ الأَْمْرَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ.
وَنَقَل الْقَرَافِيُّ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ ذِمِّيًّا اسْتُتِيبَ إِنْ أَعْلَنَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل (4) ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْتَل الْمُتَنَبِّئُ أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ أَعْلَنَهُ.
وَمَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ (5) قَال الْقَرَافِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي كُفْرِهِ.، وَقَال عَبْدُ الْقَاهِرِ: قَال أَهْل السُّنَّةِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 281، والشفا في حقوق المصطفى مع شرحه للشيخ علي القاري 5 / 470 - 478 بتحقيق محمد حسنين مخلوف. القاهرة، مطبعة المدني.
(2) الفَرق بين الفِرق لعبد القاهر البغدادي ص 302، بيروت، دار المعرفة 1415 هـ.
(3) شرح المحلي على المنهاج للنووي 4 / 175، القاهرة، عيسى الحلبي، الذخيرة 12 / 22.
(4) الذخيرة 12 / 23.
(5) الذخيرة 12 / 27(40/39)
بِتَكْفِيرِ مَنِ ادَّعَى لِلأَْئِمَّةِ الإِْلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، كَالسَّبَئِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ وَالْخَطَّابِيَّةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ (1) .
نَبِيذ
انْظُرْ: أَشْرِبَة
__________
(1) الفرق بين الفرق ص 302.(40/40)
نَبِيّ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبِيُّ لُغَةً فَعِيلٌ مِنَ الإِْنْبَاءِ، وَهُوَ الإِْخْبَارُ، وَالنَّبِيءُ فَعِيلٌ مَهْمُوزٌ؛ لأَِنَّهُ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ أَيْ أَخْبَرَ، وَالإِْبْدَال وَالإِْدْغَامُ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ (1) .
وَالنَّبِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ: النَّبِيُّ كُل مَنْ نَزَل عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَكَانَ مُؤَيَّدًا بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ النَّاقِضَةِ لِلْعَادَاتِ (2) .
وَلَيْسَ كُل مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ شَيْئًا يَكُونُ نَبِيًّا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل (3) وَقَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أرْضِعِيهِ (4)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وفتح الباري 6 / 361، والنبوات لابن تيمية ص 271، 355، 358، دار الكتاب العربي، بيروت ط 2، 1411 هـ.
(2) تفسير القرطبي 12 / 80 القاهرة، دار الكتب المصرية، وأعلام النبوة للماوردي ص 38 القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1391 هـ، والنبوات لابن تيمية ص 301، وكشاف القناع 1 / 6، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب (1 / 35) ، ط دار الفلاح، 1403 هـ.
(3) سورة النحل / 68.
(4) سُورَة الْقَصَصِ / 7.(40/40)
وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (1) قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لأَِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُحَدَّثِينَ الْمُلْهَمِينَ الْمُخَاطَبِينَ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَلَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ مَعْصُومِينَ مُصَدَّقِينَ فِي كُل مَا يَقَعُ لَهُمْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّسُول:
2 - الرَّسُول فِي اللُّغَةِ: الْمُرْسَل، وَيُسْتَعْمَل لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: إِنَّا رَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ (3) وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رُسُلٍ وَأَرْسُلٍ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرَّسُول إِنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ (5) .
وَالرَّسُول أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ، قَال الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: كُل رَسُولٍ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (6) .
عَدَدُ الأَْنْبِيَاءِ وَالرُّسُل عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ:
3 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بَعْضَ
__________
(1) سورة المائدة / 111.
(2) النبوات ص 273.
(3) سورة الشعراء / 16.
(4) المعجم الوسيط.
(5) التعريفات للجرجاني.
(6) التعريفات للجرجاني.(40/41)
الرُّسُل بِأَسْمَائِهِمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَسُولاً ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (1) ، وَذَكَرَ سَبْعَةً آخَرِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى هُمْ: آدَمُ وَإِدْرِيسُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَذُو الْكِفْل وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ.
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ رُسُلاً آخَرِينَ، وَذَلِكَ حَيْثُ قَال: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْل وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (2) ، وَقَال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (3) .
آخِرُ الأَْنْبِيَاءِ:
4 - آخِرُ الأَْنْبِيَاءِ بَعْثَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَمْرٌ إِجْمَاعِيٌّ، وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَل الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَل النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 83 - 86.
(2) سورة النساء / 164.
(3) سورة غافر / 78.(40/41)
وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ! ! قَال: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ " (1) .
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل:
5 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل فِي قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل (2) ، وَالْمُرَادُ بِالْعَزْمِ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ وَالْحَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ، وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَنْ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الرُّسُل، أَوْ أَنَّهُمْ جَمِيعُ الرُّسُل مَا عَدَا يُونُسَ بْنَ مَتَّى، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ (3) ، وَقِيل: إِنَّ آدَمَ أَيْضًا لَيْسَ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْل فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (4) .
الثَّانِي: أَنَّهُمْ بَعْضُ الرُّسُل، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ:
__________
(1) حديث: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 558 ط السلفية) ومسلم (4 / 1791 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سورة الأحقاف / 35.
(3) سورة القلم / 48.
(4) سورة طه / 115.(40/42)
أَشْهَرُهَا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (1) .
ذِكْرُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ نَبِيًّا:
مِمَّنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ:
أ - الْخَضِرُ:
6 - الْخَضِرُ هُوَ صَاحِبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَقَدْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الأَْنْبِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ (2) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْخَضِرُ نَبِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: هُوَ عَبْدٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَالآْيَةُ - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (3) تَشْهَدُ بِنُبُوَّتِهِ، قَال: وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (4) يَقْتَضِي أَنَّهُ نَبِيٌّ (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 4 / 172، وتفسير القرطبي 16 / 220، 221، وشرح العقيدة الطحاوية ص 311.
(2) جواهر الإكليل 2 / 282، والذخيرة للقرافي 12 / 30، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1 / 54 القاهرة، ط دار الحديث 1414 هـ، وتفسير القرطبي 11 / 16، 39.
(3) سورة الكهف / 65.
(4) سورة الكهف / 82.
(5) تفسير ابن كثير 3 / 99، والبداية والنهاية 1 / 299، 398.(40/42)
ب - لُقْمَانُ:
7 - لُقْمَانُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ، وَقَدْ قَال بِنُبُوَّتِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَ جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا يُنْقَل كَوْنُهُ نَبِيًّا عَنْ عِكْرِمَةَ (1) .
ج - ذُو الْكِفْل:
8 - ذُو الْكِفْل هُوَ الَّذِي قَال اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فِي سُورَةِ الأَْنْبِيَاءِ: وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْل كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (2) ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: الظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَقْرُونًا مَعَ هَؤُلاَءِ السَّادَةِ الأَْنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَال: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَدْ زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلاً صَالِحًا، وَحَكَمًا مُقْسِطًا عَادِلاً، قَال: وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (3) .
د - عُزَيْرٌ:
9 - قَال ابْنُ كَثِيرٍ: الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 443 وانظر البداية والنهاية 2 / 125، وجواهر الإكليل 2 / 282، والذخيرة للقرافي 12 / 30.
(2) سورة الأنبياء / 85 - 86.
(3) البداية والنهاية 1 / 225.
(4) البداية والنهاية 2 / 46.(40/43)
الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالأَْنْبِيَاءِ:
10 - الأَْنْبِيَاءُ مُكَلَّفُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، فَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ أُمَمِهِمْ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ مِنْهَا:
أ - تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ:
11 - اخْتَصَّ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ " (1) ، وَجَاءَ فِي نَعْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْكُل الْهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُل الصَّدَقَةَ (2) .
وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ: أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا جَائِزٌ إِلاَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَحِل لَهُ، قَال: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْحِل أَيْضًا فِي سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ (3) .
__________
(1) حديث: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 753 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث.
(2) حديث: " أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 203 ط السلفية) ومسلم (2 / 756 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة. ولفظه في البخاري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم ".
(3) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 204، 101.(40/43)
ب - أَمْوَالُهُمْ لاَ تُورَثُ عَنْهُمْ بَل تَكُونُ صَدَقَةً بَعْدَهُمْ:
12 - دَل عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ: " لاَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ " (1) ، وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ " (2) ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ الأَْنْبِيَاءَ أَنْ يُورِّثُوا دُنْيَا، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِمَنْ يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الدُّنْيَا وَوَرَّثُوهَا لِوَرَثَتِهِمْ.
وَفِي قَوْلٍ: إِنَّ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَلَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ.
وَهَذَا قَوْل ابْنِ عَطِيَّةَ، كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، قَال: وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نُورَثُ مِنْ بَابِ تَعْبِيرِ الْوَاحِدِ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (3) ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث: " لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما. . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 406 ط السلفية) ومسلم (3 / 1382 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم ". أخرجه أبو داود (4 / 58 ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 49 ط الحلبي) من حديث أبي الدرداء، وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل.
(3) تفسير القرطبي 11 / 81، 82، وتفسير ابن كثير 3 / 111، والذخيرة للقرافي 13 / 14، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 214، والعواصم من القواصم لابن العربي ص 14 نشر محب الدين الخطيب.(40/44)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ (1) وَقَال حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ (2) .
ج - لاَ يُدْفَنُ نَبِيٌّ إِلاَّ حَيْثُ قُبِضَ:
13 - يُدْفَنُ النَّبِيُّ حَيْثُ قُبِضَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: " مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ". فَحُفِرَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَانِهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الثَّابِتَةُ عَلَى الأُْمَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأَْنْبِيَاءِ:
أ - وُجُوبُ الإِْيمَانِ بِنُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَةِ الرُّسُل مِنْهُمْ:
14 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنِ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِنُبُوَّتِهِ وَاصْطَفَاهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَالإِْيمَانُ بِهِمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ:
__________
(1) سورة النمل / 16.
(2) سورة مريم / 5 - 6.
(3) حديث: " ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه ". أخرجه مالك في الموطأ (1 / 231 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التجريد (ص 255 ط القدسي) : هذا الحديث وإن لم يوجد على نسقه في إسناد واحد فإنه صحيح محفوظ بأسانيد ثابتة من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.(40/44)
إِيمَانٌ مُجْمَلٌ: بِأَنْ يُؤْمِنَ بِكُل نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ إِجْمَالاً، سَوَاءٌ مَنْ عَلِمَ اسْمَهُ أَوْ جَهِلَهُ.
وَإِيمَانٌ مُفَصَّلٌ: وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ نُوحًا بِعَيْنِهِ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ الْمَقْطُوعِ بِنُبُوَّتِهِمْ.
وَيَشْمَل الأَْمْرَيْنِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِل إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (1) .
فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ عَلَى الإِْجْمَال، أَوْ شَكَّ فِي نُبُوَّةِ بَعْضِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ.
أَمَّا مَنْ شَكَّ فِي بَعْضِ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نَبُّوتِهِمْ كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ فَلاَ يَكْفُرُ؛ لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِنُبُوَّتِهِمْ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ عَدَدُ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عَلَى الْقَطْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُول: آمَنْتُ بِجَمِيعِ الأَْنْبِيَاءِ أَوَّلُهُمْ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَلاَ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَأَنَّ الرُّسُل مِنْهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ، لأَِنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 136.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 254، والمنهاج للنووي وشرحه للمحلي 4 / 175، وانظر: الإيمان لابن تيمية ص 268، وشرح العقيدة الطحاوية ص 311.(40/45)
ب - طَاعَةُ الأَْنْبِيَاءِ وَمُتَابَعَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ:
15 - يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ طَاعَةُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ الأَْنْبِيَاءُ وَالرُّسُل قَبْل مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُ كُل رَسُولٍ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، فَرِسَالَةُ نُوحٍ إِلَى قَوْمِهِ، وَرِسَالَةُ هُودٍ إِلَى عَادٍ، وَرِسَالَةُ صَالِحٍ إِلَى ثَمُودَ، وَرِسَالَةُ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيل خَاصَّةً، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الإِْسْرَائِيلِيِّينَ مُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَاتِّبَاعِهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (1) ، وَقَال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا (2) ، وَقَال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (3) ، وَقَال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (4) ، وَقَال: وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُمْ (5) ، وَقَال تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل (6) .
__________
(1) سورة الأعراف / 59.
(2) سورة هود / 50.
(3) سورة النمل / 45.
(4) سورة هود / 84.
(5) سورة الصف / 5.
(6) سورة آل عمران / 49.(40/45)
أَمَّا رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَامَّةٌ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ سَمِعَ بِدَعْوَتِهِ إِلاَّ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالإِْيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ وَالدُّخُول فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (1) ، وَقَال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (2) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي. . . " فَذَكَرَ مِنْهَا: " كَانَ كُل نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُل أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ " (3) ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِيَانَتِهِ وَيَكْتَفِيَ بِهَا، بَل عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِْيمَانُ بِهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَرَّتَيْنِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحَبَشَةِ وَأَسْلَمُوا (4) : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا (5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
__________
(1) سورة الأنبياء / 107.
(2) سورة سبأ / 28.
(3) حديث: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. . . " أخرجه مسلم (1 / 370 - 371 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) تفسير القرطبي 13 / 296.
(5) سورة القصص / 52 - 54.(40/46)
ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ " (1) .
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا بِالرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ لاِسْتِمْدَادِ الأَْحْكَامِ مِنْهَا وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا، إِلاَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ فَنَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ (ر: نُبُوَّة، شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3) .
ج - وُجُوبُ تَوْقِيرِ الأَْنْبِيَاءِ:
16 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَوْقِيرُ الأَْنْبِيَاءِ وَهُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَإِكْرَامُ ذِكْرِهُمْ وَتَجَنُّبُ أَيِّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَمِنْ هُنَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " (2) أَيْ لِمَا يُوحِي بِهِ التَّفْضِيل عَلَيْهِ مِنْ غَضٍّ لِمَقَامِهِ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: حُقُوقُ الأَْنْبِيَاءِ فِي تَعْزِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ مَحَبَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ
__________
(1) حديث: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 190 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 134 - 135 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 450 ط السلفية) من حديث ابن مسعود.(40/46)
النُّفُوسِ وَالْمَال وَالأَْهْل، وَإِيثَارُ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَةُ سُنَنِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ (1) .
د - التَّسْلِيمُ وَالصَّلاَةُ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ:
17 - لَقَدْ أُمِرْنَا بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ذِكْرُ السَّلاَمِ عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ، وَفِي خِتَامِ السُّورَةِ عَمَّ الْمُرْسَلِينَ بِالسَّلاَمِ فَقَال: وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (2) وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ ذَكَرَ السَّلاَمَ عَلَى يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ سورة مريم / 15 33. وَقَال تَعَالَى: قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى (3) ، وَمِنْ هُنَا لَمْ يُوجَدْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلاَمِ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ، لأَِنَّ مِثْل قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآْخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (4) يَدُل عَلَى ذَلِكَ، قِيل: فِي الآْخِرِينَ الْمُرَادُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيل: هُمْ جَمِيعُ الأُْمَمِ بَعْدَهُ، وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ دَلِيل الْمَشْرُوعِيَّةِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 336.
(2) سورة الصافات / 181.
(3) سورة النمل / 59.
(4) سورة الصافات / 108 - 109.(40/47)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ " (1) .
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا بِخُصُوصِهِمْ نَصٌّ خَاصٌّ يَصِحُّ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشِّفَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، أَنَّهُ لاَ تُشْرَعُ الصَّلاَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ.
وَلَكِنْ قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِحْبَابِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَِنَّ أَكْثَرَهُمْ وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ يَدْخُلُونَ فِي الصَّلاَةِ الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ: " كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ " دُخُولاً أَوَّلِيًّا، حَتَّى لَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِهَا وَاسْتِحْبَابِهَا عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ اسْتِقْلاَلاً (2) .
__________
(1) حديث: " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (23 / 116 ط الحلبي) من حديث قتادة مرسلا، وذكر السخاوي في القول البديع (ص 52، 53) شواهد له مشيرا إلى تقويته بها.
(2) تفسير القرطبي 15 / 90، 142، وشرح الشفا 3 / 830، والأذكار للنووي ص 99 دمشق، دار الملاح، وانظر جلاء الأفهام لابن القيم ص 312 ط المنيرية.(40/47)
وَقَدْ نَقَل ابْنُ كَثِيرٍ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ نَاسًا مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَمَسُوا الدُّنْيَا بِعَمَل الآْخِرَةِ، وَإِنَّ نَاسًا مِنَ الْقُصَّاصِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي الصَّلاَةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلاَتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً (1) .
هـ - حُكْمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ:
18 - لاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الإِْيمَانِ، وَلاَ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَكَافِرٌ بِالأَْنْبِيَاءِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِبَعْضِ الأَْنْبِيَاءِ وَكَافِرٌ بِبَعْضِهِمُ الآْخَرِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الإِْيمَانِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِإِيمَانِهِ بِمَنْ آمَنَ بِهِ عَنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْكُفْرِ حَقِيقَةً، دَل عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (2) . ذَلِكَ لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلاَ يَنْفَعُ مَنْ آمَنَ
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 517.
(2) سورة النساء / 150 - 151.(40/48)
بِاللَّهِ أَوْ بِبَعْضِ رُسُلِهِ إِيمَانُهُ إِذَا كَفَرَ بِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل الَّذِي أَوْحَى إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَكَفَرَ بِسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ.
وَمَنْ سَمَّى أَتْبَاعَ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ وَنَاقَضَ الْقُرْآنَ (1) .
قَال ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ لأَِنَّ الإِْيمَانَ وَاجِبٌ بِكُل نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْل الأَْرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي يَتَبَيَّنُ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ، إِذْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُول اللَّهِ لآَمَنُوا بِنَظِيرِهِ وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلاً وَأَقْوَى بُرْهَانًا (2) .
وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَلاَّ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَنْ يُبْعَثُ بَعْدَهُ وَنُصْرَتِهِ (3) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَال أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 6.
(2) تفسير ابن كثير 1 / 572.
(3) تفسير القرطبي 4 / 124، 125، وتفسير ابن كثير 1 / 377، 378.
(4) سورة آل عمران / 81 - 82.(40/48)
، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) فَبِالأَْحْرَى أَتْبَاعُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ يَلْزَمُهُمُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِْيمَانُ بِهِ، وَإِلاَّ فَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ حَقًّا.
وَيَدْخُل فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا مَنْ قَال: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُرْسِل إِلَى جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَلاَ يَلْزَمُ أَتْبَاعَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ اتِّبَاعُهُ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ دَرَجَاتٌ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (3) وَقَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (4) . وَقَال
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا. . . . " أخرجه أحمد (3 / 387 ط الميمنية) وذكره ابن حجر في فتح الباري (13 / 334 ط السلفية) وقال: رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا.
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1 / 139، 161، 176 مطبعة المجد.
(3) سورة الإسراء / 55.
(4) سورة البقرة / 253.(40/49)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) .
وَمَنْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ رَسُولاً فَهُوَ أَفْضَل مِمَّنْ لَمْ يُرْسَل، قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنَّ مَنْ أُرْسِل فُضِّل عَلَى غَيْرِهِ بِالرِّسَالَةِ وَاسْتَوَوْا فِي النُّبُوَّةِ.
وَأَفْضَل الرُّسُل أُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَفْضَلُهُمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمْ، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ " (2) . وَقَال: " لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ " (3) وَقَال: " لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى " (4)
__________
(1) حديث: " أنا سيد الناس يوم القيامة " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 371 ط السلفية) ومسلم (1 / 186 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) حديث: " لا تخيروا بين الأنبياء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 70 ط السلفية) ومسلم (4 / 1845 ط عيسى الحلبي) من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) حديث: " لا تفضلوا بين أنبياء الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 450 - 451 ط السلفية) ومسلم (4 / 1844 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) حديث: " لا تخيروني على موسى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 70 ط السلفية) ومسلم (4 / 1844 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(40/49)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " (1) . فَقِيل: هَذَا كَانَ قَبْل أَنْ تَنْزِل عَلَيْهِ آيَاتُ التَّفْضِيل، وَقَبْل أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. فَعَلَى هَذَا: التَّفْضِيل الآْنَ جَائِزٌ.
وَقِيل: إِنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيل التَّوَاضُعِ.
وَقِيل: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى أَنْ يُذْكَرَ بَعْضُهُمْ بِمَا لاَ يَنْبَغِي، وَيَقِل احْتِرَامُهُ عِنْدَ الْمُمَارَاةِ.
وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَفْضُول، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فُضِّل مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَقَال شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ التَّفْضِيل إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفَخْرِ وَالْحَمِيَّةِ وَهَوَى النَّفْسِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الاِنْتِقَاصِ لِلْمَفْضُول.
وَاخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَفَاضُل فِيهَا، وَالتَّفْضِيل فِي زِيَادَةِ الأَْحْوَال وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ وَالأَْلْطَافِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ". سبق تخريجه ف 16.
(2) تفسير القرطبي 3 / 261، 263، وتفسير ابن كثير 3 / 47 و 1 / 304، وفتح الباري 6 / 452، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1 / 49، 55، والصارم المسلول ص 566.(40/50)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ أَفْضَل عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ، وَمِنْ جَمِيعِ الأَْوْلِيَاءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ إِلَى أَنْ قَال: وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (1) فَقَوْلُهُ: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَرَدَ بَعْدَ ذِكْرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَبِيًّا، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَقَال تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (2) . قَال الطَّحَاوِيُّ: وَلاَ نُفَضِّل أَحَدًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، وَنَقُول: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَل مِنْ جَمِيعِ الأَْوْلِيَاءِ.
وَاخْتُلِفَ هَل الأَْنْبِيَاءُ أَفْضَل أَمِ الْمَلاَئِكَةُ؟ فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خَوَاصَّ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الأَْنْبِيَاءُ أَفْضَل مِنْ كُل الْمَلاَئِكَةِ، وَعَوَّامَ بَنِي آدَمَ وَهُمُ الأَْتْقِيَاءُ أَفْضَل مِنْ عَوَامِّ الْمَلاَئِكَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ خِلاَفِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَرُوِيَ التَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْقَاطِعِ، وَتَفْوِيضِ عِلْمِ مَا لَمْ يَحْصُل لَنَا الْجَزْمُ بِعِلْمِهِ
__________
(1) سورة الأنعام / 83 - 86.
(2) سورة النمل / 15.(40/50)
إِلَى عَالِمِهِ.
وَأَطْلَقَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ الْقَوْل بِأَنَّ أَهْل السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِتَفْضِيل الأَْنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ، قَال: عَلَى خِلاَفِ قَوْل الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْل مَعَ أَكْثَرِ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَفْضِيل الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ (1) .
التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ:
21 - لاَ بَأْسَ بِالتَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَاسْتَحَبَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ " (2) ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ. قَال: وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُل عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 354، والفرق بين الفرق ص 343، وتفسير القرطبي 6 / 26، وتفسير فتح القدير للشوكاني 1 / 542 والكشاف وبذيله الإنصاف لابن المنير 1 / 460، وشرح العقيدة الطحاوية 2 / 741.
(2) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء ". أخرجه أبو داود (5 / 237 ط حمص) ، وأحمد (4 / 345 ط الميمنية) ، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (3 / 88 ط الحلبي) أن راويه عن الصحابي فيه جهالة
(3) تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 66 بتصحيح وتعليق عبد الحكيم شرف الدين. والحديث الذي عناه ابن القيم هو حديث ابن عمر مرفوعا: " إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن " أخرجه مسلم (3 / 1682 ط الحلبي) .(40/51)
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ بَاسِمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " (1) .
وَقِيل: يُكْرَهُ التَّسَمِّي بِأَسْمَائِهِمْ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلَعَل مَنْ قَال ذَلِكَ قَصَدَ صِيَانَةَ أَسْمَائِهِمْ عَنِ الاِبْتِذَال (2) ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَسْمِيَة ف 11) .
حُكْمُ مَنْ آذَى نَبِيًّا أَوِ انْتَقَصَهُ:
22 - مَنْ آذَى نَبِيًّا مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ سَبَّهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ، فَقَدْ كَفَرَ، وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (3) فَفِي انْتِقَاصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْآنِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ مِنْهُمْ. قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِي نُبُوَّتِهِ مِنْهُمْ وَالْكَافِرِ بِهِ كَالْحُكْمِ
__________
(1) حديث: " ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". أخرجه مسلم (4 / 1807 ط عيسى الحلبي) .
(2) تحفة المودود ص 61، وكشاف القناع 3 / 26.
(3) سورة الأنعام / 86.(40/51)
فِيمَنِ اتُّفِقَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، إِذْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَال الْمَقُول فِيهِ، لاَ سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ. قَال: وَأَمَّا إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِمْ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ، لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْل هَذَا، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ (1) .
حُكْمُ تَصْوِيرِ الأَْنْبِيَاءِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ كُل ذِي رُوحٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَتَصْوِيرُ الأَْنْبِيَاءِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ بِهِمْ وَتَطَوُّرَ الأَْمْرِ إِلَى عِبَادَةِ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ النَّصَارَى.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِيهِمْ: " إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2) .
__________
(1) الشفا وشرحه 5 / 492 - 503، وانظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 567، وجواهر الإكليل 2 / 280 - 282، 360، والذخيرة للقرافي 12 / 20، 27، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1 / 55، ومغني المحتاج 4 / 133 - 135.
(2) حديث: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 524 ط السلفية) ومسلم (1 / 376) من حديث عائشة رضي الله عنها، واللفظ للبخاري.(40/52)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُل حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بِأَيْدِيهِمَا الأَْزْلاَمُ، فَقَال: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَْزْلاَمِ قَطُّ " (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَصْوِير ف 26) .
نَبِيُّ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
24 - النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَشَرَّفَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَرَسُولاً إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَخَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى النُّبُوَّاتِ بِهِ، فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَتَتَعَلَّقُ بِهِ وَلأَِفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
25 - مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا بِهِ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالأُْمَّةُ مُكَلَّفَةٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِمَّا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى اقْتِدَاءِ الأُْمَّةِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ، مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلُّوا كَمَا
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 387 ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(40/52)
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " (1) ، وَقَوْلِهِ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " (2) ، وَقَوْلِهِ: " لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغَبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " (3) .
وَالدَّلِيل كَذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ (4) .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِي هَذَا الْمَال إِلاَّ صَنَعْتُهُ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَبَّ عَلَى الرُّكْنِ فَقَال: إِنِّي لأََعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111 ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 ط الحلبي) والبيهقي (5 / 125 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للبيهقي.
(3) حديث: " لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 104 ط السلفية) ومسلم (2 / 1020 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، واللفظ للبخاري.
(4) سورة الأحزاب / 21.(40/53)
قَبَّلْتُكَ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَحَدَ أَصْحَابِهِ نَزَل عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَوْتَرَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ، فَقَال: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَال: خَشِيتُ الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَال ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ قَال: بَلَى وَاللَّهِ. قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ. (1) .
ب - خَصَائِصُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
26 - اخْتَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَصَائِصَ وَمَقَامَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ لَيْسَتْ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْخَصَائِصُ أَنْوَاعٌ:
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لاَ تَتَعَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لاَ يُورَثُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: الْمَزَايَا الأُْخْرَوِيَّةُ كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ وَكَوْنِهِ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثَالِثًا: الْفَضَائِل الدُّنْيَوِيَّةُ كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ حَدِيثًا.
رَابِعًا: الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري 1 / 377، والمغني لعبد الجبار 17 / 257، وقد نقلا الإجماع على هذه القاعدة، والإحكام للآمدي 1 / 265 ونقل فيها خلافا، وتيسير التحرير 3 / 120، وفتح الباري 11 / 94.(40/53)
لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاص ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - الإِْيمَانُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
27 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتِمُّ الإِْيمَانُ إِلاَّ بِهِ.
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " (2) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَم ف 16 - 20) .
د ـ مَحَبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
28 - يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ
__________
(1) سورة التغابن / 8.
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 52 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(40/54)
وَرَسُولَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا سِوَاهُمَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُل إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (1) قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي هَذَا حَضٌّ وَتَنْبِيهٌ وَدَلاَلَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى إِلْزَامِ مَحَبَّتِهِ، وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ مَالُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الآْيَةِ (2) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (3) ، وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، لأََنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ". فَقَال عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآْنَ
__________
(1) سورة التوبة / 24.
(2) الشفا 3 / 535 - 538.
(3) حديث: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 58 ط السلفية) ومسلم (1 / 67 ط الحلبي) من حديث أنس رضي الله عنه.(40/54)
وَاللَّهِ لأََنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الآْنَ يَا عُمَرُ " (1) .
وَمِنْ حُبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ سُنَّتِهِ وَاتِّبَاعُهَا وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَمِنْهُ حُبُّ آلِهِ الأَْتْقِيَاءِ الأَْبْرَارِ، وَحُبُّ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ (2) ، كَمَا فِي حَدِيثِهِ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا " (3) ، وَقَال: " اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ " (4) .
__________
(1) حديث عمر رضي الله عنه: " يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 523 ط السلفية) من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه.
(2) الشفا وشرحه 3 / 561 - 583، وانظر: دليل الفالحين شرح رياض الصالحين لابن علان 1 / 459 الكويت - دار البيان، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 150، بيروت - دار الخير، والصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 426.
(3) حديث: " اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ". أخرجه الترمذي (5 / 657 ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 88 ط السلفية) من غير قوله: " وأحب من يحبهما ".
(4) حديث: " الله الله في أصحابي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مغفل وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.(40/55)
وَمِمَّا يُنْشِئُ مَحَبَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ إِحْسَانُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْقَاذُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ (1) .
هـ - النَّصِيحَةُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
29 - يَجِبُ النُّصْحُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " (2) ، قَال الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبَذْل الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَمُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْخَفَّافُ: النَّصِيحَةُ لَهُ حِمَايَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا وَنَشْرُهَا. أهـ، وَقَال مِثْلُهُ أَبُو بَكْرٍ الآْجُرِّيُّ، وَأَضَافَ: النَّصِيحَةُ لَهُ الْتِزَامُ التَّوْقِيرِ وَالإِْجْلاَل، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ وَمَحَبَّةِ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ وَانْحَرَفَ عَنْهَا وَبُغْضُهُ
__________
(1) الشفا 3 / 591 - 596.
(2) حديث: " الدين النصيحة. . " أخرجه مسلم (1 / 74 ط الحلبي) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.(40/55)
وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَصِيحَة) .
وَ - تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرُهُ:
30 - تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ، لِعُلُوِّ مَقَامِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ بَشَرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (2) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: تُعَزِّرُوهُ: أَيْ تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ، وَالتَّعْزِيرُ: التَّفْخِيمُ وَالتَّوْقِيرُ، وَقِيل: تُعَزِّرُوهُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ. ثُمَّ قَال: وَتُوَقِّرُوهُ: أَيْ تُسَوِّدُوهُ. وَالْهَاءُ فِيهِمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّعْزِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ كُل مَا يُؤْذِيهِ، وَالتَّوْقِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُل مَا فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَسَكِينَةٌ مِنَ الإِْجْلاَل وَالإِْكْرَامِ، وَأَنْ يُعَامَل مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ بِمَا يَصُونُهُ عَنْ كُل مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ (4) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) شرح الشفا 3 / 602 - 605.
(2) سورة الفتح / 8 - 9.
(3) تفسير القرطبي 16 / 266.
(4) الصارم المسلول ص 427.(40/56)
تَوْقِيرُهُ فِي نِدَائِهِ وَتَسْمِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
31 - أُمِرَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَال نِدَائِهِمْ لَهُ فَقَال تَعَالَى: لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا (1) أَيْ لاَ تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُول اللَّهِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا أَحْمَدُ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: وَكَيْفَ لاَ يُخَاطِبُونَهُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْرَمَهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ بِمَا لَمْ يُكْرِمْ بِهِ أَحَدًا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، فَلَمْ يَدْعُهُ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ قَطُّ (3) ، بَل يَقُول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ (4) ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (5) ، يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ (6) مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ (7) ، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (8)
__________
(1) سورة النور / 63.
(2) النبوات لابن تيمية ص 270، وتفسير القرطبي 16 / 267، 306، 12 / 322، والشفا للقاضي عياض 3 / 616.
(3) الصارم المسلول ص 427 - 428.
(4) سورة الأحزاب / 28.
(5) سورة الأحزاب / 1.
(6) سورة المائدة / 67.
(7) سورة البقرة / 33.
(8) سورة هود / 46.(40/56)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا (1) يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ (2) يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ (3) .
وَتَوْقِيرُهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّنَا عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلاَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا، بَل لاَ بُدَّ مِنْ قَرْنِهِ بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ.
(انْظُرِ الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
غَضُّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَتَوْقِيرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
32 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُرِئَ كَلاَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى كُل حَاضِرٍ أَلاَّ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيَّا، وَكَلاَمُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثَال كَلاَمِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا قُرِئَ كَلاَمُهُ وَجَبَ عَلَى كُل حَاضِرٍ أَنْ لاَ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ
__________
(1) سورة هود / 76.
(2) سورة الأعراف / 144.
(3) سورة المائدة / 110.(40/57)
فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَوْقِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ لاَزِمٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمُعَامَلَةِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ، وَتَعْظِيمِ أَهْل بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَال: وَيَنْبَغِي مُرَاعَاةُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عِنْدَ قَبْرِهِ (1) .
تَوْقِيرُ آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِرُّهُمْ وَحُبُّهُمْ:
33 - قَال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْل بَيْتِهِ " وَقَال أَيْضًا: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِل مِنْ قَرَابَتِي ".
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ فَقَال تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (2) ، وَقَال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (3) ،
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 307، والشفا للقاضي عياض 3 / 643، 644، 660. أحكام القرآن لابن العربي 4 / 146.
(2) سورة الفتح / 29.
(3) سورة الفتح / 18.(40/57)
وَقَال: وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (1) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْنْصَارِ: " إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، فَجَعَل لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (2) .
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مِنْ تَوْقِيرِهِ وَبِرِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرُ أَصْحَابِهِ وَبِرُّهُمْ وَمَعْرِفَةُ حَقِّهِمْ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَالإِْمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُمْ، وَالإِْضْرَابُ عَنْ أَخْبَارِ الْمُؤَرِّخِينَ الْقَادِحَةِ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ يُذْكَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِسُوءٍ (3) .
ز - الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ:
34 - الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 100.
(2) حديث: " إن الله اختار لي. . . " أخرجه الطبراني في الأوسط (1 / 282 ط مكتبة المعارف) من حديث عويم بن ساعدة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 17) : وفيه من لم أعرفه.
(3) الشفا للقاضي عياض 3 / 670، 682 - 685، وشرح العقيدة الطحاوية ص 467.
(4) سورة الأحزاب / 56.(40/58)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوَاطِنَ وَاسْتِحْبَابِهَا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى.
وَفِي صِيغَةِ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَوْقَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
ح - سُؤَال الْوَسِيلَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ الدُّعَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِفْعَةِ مَقَامِهِ فِي الآْخِرَةِ، وَذَلِكَ بِسُؤَال الْوَسِيلَةِ لَهُ، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الأَْذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ " (1) .
وَالصِّيغَةُ الْمَنْدُوبَةُ لِذَلِكَ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. . . ". أخرجه مسلم (1 / 288 ط عيسى الحلبي) .(40/58)
الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الإِْقَامَةِ أَيْضًا (2) .
ط - التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى الإِْيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، وَيُرِيدُ: أَنِّي أَسْأَلُكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّل إِلَيْكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوَسُّل ف 8 - 14) .
ي - طَلَبُ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
37 - طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ جَائِزٌ، كَمَا شَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُغِيثٍ زَوْجِ بَرِيرَةَ عِنْدَمَا خُيِّرَتْ لَمَّا عَتَقَتْ بَيْنَ الْبَقَاءِ مَعَهُ وَبَيْنَ مُفَارَقَتِهِ، فَشَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لِتَرْضَى بِالْبَقَاءِ مَعَهُ، فَقَالَتْ: " لاَ حَاجَةَ
__________
(1) حديث جابر بن عبد الله: " من قال حين يسمع النداء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 94 ط السلفية) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 428 ط ثالثة، وتفسير ابن كثير 2 / 53، وفتح القدير على الهداية 1 / 250 ط مكة، المكتبة التجارية، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 422، والمهذب للشيرازي تحقيق محمد الزحيلي 1 / 204 - بيروت، دار القلم.(40/59)
لِي فِيهِ " (1) .
وَكَذَلِكَ يَتَشَفَّعُ بِهِ بَنُو آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْجِيل الْحِسَابِ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَبْدُ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُول: اللَّهُمَّ شَفِّعْ فِينَا نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَانْظُرْ (شَفَاعَة ف 6 - 8)
ك - الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالأَْنْبِيَاءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ الْحَلِفِ بِالأَْنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 47 - 51) .
ل - التَّبَرُّكُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِآثَارِهِ:
39 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِآثَارِهِ، وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ.
__________
(1) حديث: " لا حاجة لي فيه " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 408 ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(40/59)
قَال ابْنُ رَجَبٍ: وَالتَّبَرُّكُ بِالآْثَارِ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلاَ يَفْعَلُهُ التَّابِعُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِمْ فَدَل عَلَى أَنَّ هَذَا لاَ يُفْعَل إِلاَّ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل التَّبَرُّكِ بِالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ وَالنَّوَوِيُّ: يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَبَرُّك ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
م - التَّسَمِّي بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ:
40 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسَمِّي بِاسْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.
وَمِنْهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا فِي الأَْمْرَيْنِ.
وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْمِهِ " مُحَمَّدٍ " وَكُنْيَتِهِ " أَبِي الْقَاسِمِ ".
وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالاِسْمِ فِي حَال حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ
__________
(1) الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة، لابن رجب الحنبلي ص 46، وفتح الباري 3 / 130 - 131 - 144، وشرح صحيح مسلم للنووي (5 / 161، 7 / 143 / 44) .(40/60)
(تَسْمِيَة ف 11، وَكُنْيَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
ن - وُجُوبُ طَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
41 - أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (1) وَقَال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَاعَة ف 6) .
س - اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَفْعَالِهِ الْجِبِلِّيَّةِ:
42 - يَجِبُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الأُْمَّةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ.
أَمَّا أَفْعَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِبِلِّيَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اتِّبَاع ف 3 - 4) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ع - اجْتِهَادُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
43 - الأَْحْكَامُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ فِيهَا الأُْصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا كُلُّهَا مُوحَى بِهَا إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بِدَلاَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (3)
__________
(1) سورة الأنفال / 20.
(2) سورة النساء / 80.
(3) سورة النجم / 3 - 5.(40/60)
الثَّانِي: أَنَّ مِنْهَا - وَهُوَ الأَْكْثَرُ - مَا هُوَ وَحْيٌ، سَوَاءٌ كَانَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ف - حُكْمُ مَنْ تَنَقَّصَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ أَوْ آذَاهُ:
44 - وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَعْظِيمُ جُرْمِ تَنَقُّصِ النَّبِيِّ أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِهِ، وَلَعْنُ فَاعِلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (3) ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
__________
(1) تيسير التحرير 1 / 189، 4 / 183، 236، القاهرة، مصطفى الحلبي، وإحكام الأحكام للآمدي 3 / 43، 44، 4 / 222، 282 - القاهرة مكتبة المعارف، والرسالة للإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ص 92، وأصول البزدوي وشرح البخاري 3 / 926 - 933. .
(2) سورة الأحزاب / 57.
(3) سورة التوبة / 65 - 66.(40/61)
تَكْفِيرِ مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 15 وَمَا بَعْدَهَا، سَب ف 11 - 18، اسْتِخْفَاف 5 - 7) .
ص - حُكْمُ مَنْ تَرَكَ التَّأَدُّبَ فِي الْكَلاَمِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
45 - قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَمًّا وَلاَ عَيْبًا وَلاَ سَبًّا وَلاَ تَكْذِيبًا، وَلَكِنْ أَتَى مِنَ الْكَلاَمِ بِمُجْمَلٍ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ مُشْكِلٍ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَهُوَ السَّلاَمَةُ أَمِ الشَّرُّ، فَقَدِ اخُتِلَفَ فِيهِ فَقِيل: يُقْتَل تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيل: يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، لِكَوْنِ قَوْلِهِ مُحْتَمَلاً، وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ.
وَكَذَا لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ يَدْخُل فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَوْ سَبَّ بَنِي هَاشِمٍ (2) .
ق - حُكْمُ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
46 - مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَمِّدًا فَقَدِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 527 - 529، والشفا في حقوق المصطفى وشرحه 4 / 76 - 192، وجواهر الإكليل 1 / 269، وحاشية ابن عابدين 3 / 290 - 291، والذخيرة للقرافي 12 / 18.
(2) شرح الشفا 5 / 192 - 242.(40/61)
قَال: " إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " (1) ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِذَلِكَ السُّوءَ أَوْ قَصَدَ خَيْرًا كَمَنْ يَضَعُ الأَْحَادِيثَ لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَقَدْ قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِكُفْرِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِفْسَادٌ لِلدِّينِ مِنَ الدَّاخِل.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى السَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ يَشْمَلُهُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (2) ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّل بِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " (3) .
__________
(1) حديث: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 160 ط السلفية) ومسلم في مقدمة صحيحه (1 / 10 ط عيسى الحلبي) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 179، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 4 / 75، وفتح الباري 1 / 202 و 3 / 162.
(3) حديث: " من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 202 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(40/62)
نَتْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّتْرُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَ النُّونِ - كَمَا ضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ - فِي اللُّغَةِ: جَذْبُ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ أَوْ بِجَفَاءٍ، وَبَابُهُ قَتَل، وَاسْتَنْتَرَ مِنْ بَوْلِهِ: اجْتَذَبَهُ وَاسْتَخْرَجَ بَقِيَّتَهُ مِنَ الذَّكَرِ عِنْدَ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى النَّتْرِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِنْجَاءُ:
2 - الاِسْتِنْجَاءُ لُغَةً: الْقَطْعُ، مِنْ نَجَا (2) ، وَقِيل: مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ يَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ بِهَا (3) .
__________
(1) القليوبي 1 / 41، والدسوقي 1 / 110، والقاموس المحيط، وانظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 386 ط الحلبي، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة (نتر) .
(2) المصباح المنير.
(3) انظر: لسان العرب ماد (نجا) ، وأسنى المطالب 1 / 44 ط المكتبة الإسلامية.(40/62)
وَاصْطِلاَحًا: إِزَالَةُ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَنْ مَخْرَجِهِ (1) .
وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمُ اسْتِطَابَةً، وَهِيَ: طَلَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَيَكُونُ بِالْمَاءِ وَالْحَجَرِ.
كَمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ - أَيْضًا - اسْتِنْقَاءً وَهُوَ: طَلَبُ النَّقَاوَةِ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمَّا الاِسْتِجْمَارُ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِمَارِ وَهُوَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْرِ وَالاِسْتِنْجَاءِ هِيَ أَنَّ النَّتْرَ مُقَدِّمَةٌ لِلاِسْتِنْجَاءِ.
ب - الاِسْتِبْرَاءُ:
3 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ بِاسْتِفْرَاغِ مَا فِي الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأَْخْبَثَيْنِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْرِ وَالاِسْتِبْرَاءِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُل نَتْرٍ اسْتِبْرَاءٌ، وَلَيْسَ كُل اسْتِبْرَاءٍ نَتْرًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 18 ط دار الكتاب العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 110 ط دار الفكر، وأسنى المطالب 1 / 44، وكشاف القناع 1 / 58 ط عالم الكتب.
(2) بدائع الصنائع 1 / 18، وحاشية ابن عابدين 1 / 230 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 110 - 111، وأسنى المطالب 1 / 44، وكشاف القناع 1 / 58.
(3) لسان العرب.
(4) مواهب الجليل 1 / 282 ط دار الفكر.(40/63)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّتْرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
مَحَل النَّتْرِ وَمَوْضِعُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَحَل النَّتْرِ هُوَ الذَّكَرُ وَمَوْضِعَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (1) مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِبْرَاءِ الْمَرْأَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، بَل تَصْبِرُ قَلِيلاً، ثُمَّ تَسْتَنْجِي (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فِي حَقِّهَا أَنْ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى عَانَتِهَا، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ السَّلْتِ وَالنَّتْرِ، وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيَفْعَل مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ احْتِيَاطًا (3) .
حُكْمُ النَّتْرِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّتْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ النَّتْرِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَالْمَالِكِيَّةِ (5) ، وَاخْتَارَهُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي ص 24، وحاشية الدسوقي 1 / 109، 110، وأسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 141، 142، والإنصاف 1 / 102 ط دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 1 / 65، والأم 1 / 22 ط دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 230.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 109، 110، وأسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 141، 142.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 230.
(5) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن 1 / 152، 153 ط دار الباز، ومواهب الجليل 1 / 282، وحاشية الدسوقي 1 / 109، 110.(40/63)
الْقَاضِي حُسَيْنٌ (1) وَالْبَغَوِيُّ (2) وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَصَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْوُجُوبَ عَلَى مَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ (3) .
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: " اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ " (4) .
وَبِحَدِيثِ: " إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاَثًا وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الأَْمْرِ بِنَتْرِ الذَّكَرِ (5) .
ب - الْقَوْل الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ النَّتْرِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ (6) وَالْحَنَابِلَةِ (7) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 142.
(2) شرح السنة 1 / 375 ط المكتب الإسلامي.
(3) نهاية المحتاج 1 / 142.
(4) حديث: " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. . . . " الحديث. أخرجه الدارقطني في السنن (1 / 128 ط الفنية المتحدة) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: الصواب مرسل، ثم ذكر له شاهدا عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ
(5) حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا. . ". الحديث. أخرجه ابن ماجه (1 / 118 ط عيسى الحلبي) من حديث يزداد بن فساءة رضي الله عنه وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 97 دار الجنان) : يقال يزداد لا تصح له صحبة وزمعة ضعيف.
(6) أسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 141، 142، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة 1 / 41 ط عيسى الحلبي.
(7) الإنصاف 1 / 102، وكشاف القناع 1 / 65.(40/64)
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ انْقِطَاعِ الْبَوْل عَدَمُ عَوْدِهِ (1) .
أَثَرُ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِ النَّتْرِ:
6 - يَنْبَنِي عَلَى الاِخْتِلاَفِ السَّابِقِ فِي حُكْمِ النَّتْرِ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ نَدْبُ النَّتْرِ وَاسْتِحْبَابُهُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ نَتْرَ ذَكَرِهِ وَاسْتَنْجَى عَقِيبَ انْقِطَاعِ الْبَوْل ثُمَّ تَوَضَّأَ فَاسْتِنْجَاؤُهُ صَحِيحٌ وَوُضُوؤُهُ كَامِلٌ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ آخَرَ، قَالُوا: وَالاِسْتِنْجَاءُ يَقْطَعُ الْبَوْل فَلاَ يَبْطُل اسْتِنْجَاؤُهُ وَوُضُوؤُهُ إِلاَّ أَنْ يَتَيَقَّنَ خُرُوجَ شَيْءٍ (2) .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل - وَهُوَ وُجُوبُ النَّتْرِ - فَإِنَّ اسْتِنْجَاءَهُ يَكُونُ فَاسِدًا وَوُضُوءَهُ بَاطِلاً وَكَذَلِكَ صَلاَتُهُ (3) .
كَيْفِيَّةُ النَّتْرِ وَشَرْطُهُ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ نَتْرَ الذَّكَرِ يَكُونُ بِإِصْبَعَيْنِ يُمِرُّهُمَا مِنْ أَصْلِهِ إِلَى رَأْسِ الذَّكَرِ، وَحَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ إِبْهَامَ يُسْرَاهُ وَمُسَبِّحَتَهَا لِذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَضَعُ إِصْبَعَهُ الْوُسْطَى تَحْتَ الذَّكَرِ وَالإِْبْهَامَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 49، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة 1 / 41.
(2) المجموع 2 / 94 ط المكتبة العالمية.
(3) شرح صحيح مسلم 3 / 205.(40/64)
فَوْقَهُ (1) ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ النَّتْرِ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِعَصْرِ الذَّكَرِ (2) .
أَمَّا شَرْطُ النَّتْرِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ قُوَّةَ السَّلْتِ وَالنَّتْرِ تُوجِبُ اسْتِرْخَاءَ الْعُرُوقِ بِمَا فِيهَا فَلاَ تَنْقَطِعُ الْمَادَّةُ وَيَضُرُّ بِالْمَثَانَةِ، وَرُبَّمَا أَبْطَل الإِْنْعَاظَ أَوْ أَضْعَفَهُ، وَهُوَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ (4) .
عَدَدُ مَرَّاتِ النَّتْرِ:
8 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (5) عَلَى أَنَّ عَدَدَ مَرَّاتِ نَتْرِ الذَّكَرِ ثَلاَثٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: " إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاَثًا " (6) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَصْرِ الذَّكَرِ دُونَ تَحْدِيدِ مَرَّاتٍ لاِسْتِبْرَائِهِ مِنَ الْبَوْل (7) ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 282، وأسنى المطالب 1 / 49، وكشاف القناع 1 / 65.
(2) حاشية الطحطاوي ص 24.
(3) حاشية الطحطاوي ص 24، وحاشية الدسوقي / 109، 1، 110، وأسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج / 141، 1، 142، والمغني لابن قدامة 1 / 155 ط الرياض.
(4) حاشية العدوي 1 / 152، 153، وحاشية الرهوني على الزرقاني 1 / 164 ط دار الفكر، والإنعاظ: انتشار الذكر (المصباح) .
(5) مواهب الجليل 1 / 282، وأسنى المطالب 1 / 49، والإنصاف 1 / 102، وكشاف القناع 1 / 65.
(6) مواهب الجليل 1 / 282، وحديث: " إذا بال أحدكم. . . . " سبق تخرجه ف 5.
(7) حاشية الطحطاوي ص 24.(40/65)
النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَجْرَى الْبَوْل شَيْءٌ يَخَافُ خُرُوجَهُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْصُل لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَدْنَى عَصْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَنَحْنُحٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَشْيِ خُطُوَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ لَحْظَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ السَّلْتِ وَالنَّتْرِ خَفِيفًا لاَ بِقُوَّةٍ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ انْقِطَاعُ الْمَادَّةِ ثَلاَثًا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ (2) .
__________
(1) المجموع 2 / 94، وانظر: أسنى المطالب 1 / 49.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 109، 110.(40/65)
نَتَفَ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّتْفُ فِي اللُّغَةِ: نَزْعُ الشَّعْرِ وَالشَّيْبِ وَالرِّيشِ، يُقَال: نَتَفْتُ الشَّعْرَ وَالرِّيشَ أَنْتِفُهُ نَتْفًا - وَبَابُهُ ضَرَبَ - نَزَعْتُهُ بِالْمِنْتَافِ أَوْ بِالأَْصَابِعِ، وَالنُّتَافُ وَالنُّتَافَةُ: مَا انْتَتَفَ وَسَقَطَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَنْتُوفِ، وَنُتَافَةُ الإِْبِطِ: مَا نُتِفَ مِنْهُ، وَالآْلَةُ: مِنْتَافٌ، وَالنُّتْفَةُ: مَا تَنْزِعُهُ بِأَصَابِعِكَ مِنْ نَبْتٍ وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ نُتَفٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَلْقُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْحَلْقِ: إِزَالَةُ شَعْرِ الإِْنْسَانِ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَدِيدِ، يُقَال: حَلَقَ شَعْرَهُ حَلْقًا وَحِلاَقًا: أَزَالَهُ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والمغرب.(40/66)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَلْقِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
ب - الاِسْتِحْدَادُ:
3 - الاِسْتِحْدَادُ: هُوَ حَلْقُ الْعَانَةِ خَاصَّةً بِاسْتِعْمَال الْحَدِيدِ وَهُوَ الْمُوسَى.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالاِسْتِحْدَادِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ فِي كُلٍّ.
ج - الْحَفُّ:
4 - الْحَفُّ: هُوَ أَخْذُ شَعْرِ الْوَجْهِ، يُقَال: حَفَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا حَفًّا: زَيَّنَتْهُ بِأَخْذِ شَعْرِهِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَفِّ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا إِزَالَةَ الشَّعْرِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّتْفِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنَّتْفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) لسان العرب، ونيل الأوطار 1 / 122.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب.(40/66)
نَتْفُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إِزَالَةُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ قَبْل التَّحَلُّل بِنَتْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالإِْبِطِ وَالْعَانَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ شُعُورِ الْبَدَنِ، حَتَّى يَحْرُمَ نَتْفُ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَصَى وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ مَشَطَ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَأَدَّى إِلَى نَتْفِ شَيْءٍ مِنَ الشَّعْرِ، حَرُمَ وَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فَلاَ يَحْرُمُ وَلَكِنْ يُكْرَهُ، وَإِنْ مَشَطَ فَانْتَتَفَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ سَقَطَ شَعْرٌ فَشَكَّ هَل انْتَتَفَ بِالْمُشْطِ أَمْ كَانَ مُنْسَلًّا فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَدَلِيل تَحْرِيمِ النَّتْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (2) ، وَقِيسَ النَّتْفُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَعَبَّرَ النَّصُّ بِالْحَلْقِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ فِي إِزَالَةِ الشَّعْرِ (3) .
نَتْفُ رِيشِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ رِيشَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ حَتَّى عَجَزَ عَنِ الاِمْتِنَاعِ عَمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهُ فَعَلَيْهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، والدسوقي 2 / 60، وحاشية الجمل 2 / 511 - 512، وتحفة المحتاج 2 / 170، والروضة 3 / 135، وكشاف القناع 2 / 421 - 422.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) تحفة المحتاج 4 / 170، كشاف القناع 2 / 422.(40/67)
فِدْيَةٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ نَتْفُ كُل الرِّيشِ، بَل يُشْتَرَطُ نَتْفُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الاِمْتِنَاعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَلَمْ تُعْلَمْ سَلاَمَتُهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَتَفَ رِيشَهُ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ إِلاَّ بِهِ وَأَمْسَكَهُ عِنْدَهُ حَتَّى نَبَتَ بَدَلُهُ وَأَطْلَقَهُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ مِنَ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الإِْحْرَامِ لَمْ يَخْل حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ النَّتْفِ أَوْ يَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بَعْدَ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ النَّتْفِ، فَالْكَلاَمُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالتَّلَفِ.
فَأَمَّا ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لاَ يَسْتَخْلِفَ مَا نَتَفَ مِنْ رِيشِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ يُقَوَّمَ قَبْل نَتْفِ رِيشِهِ، فَإِذَا قِيل: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بَعْدَ نَتْفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 216.
(2) الدسوقي 2 / 76.(40/67)
رِيشِهِ فَإِذَا قِيل: تِسْعَةٌ، عُلِمَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَيُنْظَرُ فِي الطَّائِرِ الْمَنْتُوفِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعُشْرُ شَاةٍ عِنْدَ الْمُزَنِيِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ (1) .
وَإِنِ اسْتُخْلِفَ مَا نُتِفَ مِنْ رِيشِهِ وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْل نَتْفِ رِيشِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالنَّتْفِ قَبْل حُدُوثِ مَا اسْتُخْلِفَ، لأَِنَّ الرِّيشَ الْمَضْمُونَ بِالنَّتْفِ غَيْرُ الَّذِي اسْتُخْلِفَ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنِ اخْتِلاَفِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ جَنَى عَلَى سِنٍّ فَانْقَلَعَتْ فَأَخَذَ دِيَتَهَا، ثُمَّ نَبَتَتْ مِنْ جَدِيدٍ، هَل يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ أَمْ لاَ؟ وَإِذَا امْتَنَعَ الطَّائِرُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَل اسْتُخْلِفَ رِيشُهُ أَمْ لَمْ يُسْتَخْلَفْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ (2) .
7 - أَمَّا ضَمَانُ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 337 ط دار الكتب العلمية.
(2) المصدر السابق.(40/68)
أَحَدُهَا: أَنْ يَتْلَفَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ النَّتْفِ فَيَطِيرَ مُتَحَامِلاً لِنَفْسِهِ وَيَسْقُطَ مِنْ شِدَّةِ الأَْلَمِ فَيَمُوتَ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَقْصِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَبْل النَّتْفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّتْفِ: إِمَّا حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُعْلَمَ هَل مَاتَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ كُلَّهُ وَيَضْمَنَ نَفْسَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ نَتْفِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضْمَنَ إِلاَّ قَدْرَ نَقْصِهِ، لأَِنَّ ظَاهِرَ مَوْتِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أَنَّهُ فِي حَادِثٍ غَيْرِهِ.
وَإِنْ صَارَ الطَّائِرُ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ لِيَنْظُرَ مَا يَؤُول إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ، فَإِنْ عَاشَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ وَصَارَ مَطْرُوحًا كَالْكَسِيرِ الزَّمِنِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ وَفِدَاءُ جَمِيعِهِ، لأَِنَّ الصَّيْدَ بِامْتِنَاعِهِ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَقَدْ أَتْلَفَهُ (1) .
وَإِنْ عَاشَ مُمْتَنِعًا وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل النَّتْفِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 338.(40/68)
أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ نَقْصِهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا (أَيْ طَوِيل الرِّيشِ) مُمْتَنِعًا وَمَنْتُوفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَإِنْ غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ النَّتْفِ فَلاَ يُعْلَمُ هَل امْتَنَعَ أَوْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلاَّ أَنَّ جِنَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ حَتَّى يُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ، وَفِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ فَإِنْ مَاتَ بِالنَّتْفِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ أَوْ فِدَاءُ مِثْلِهِ، لأَِنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ: كَأَنْ يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ فَيَكُونُ عَلَى الْجَانِي الأَْوَّل أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً لأَِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ضَامِنًا.
وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ مِثْل أَنْ يَقْتُلَهُ مُحْرِمٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الأَْوَّل بِالنَّتْفِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ وَبَرَأَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنِ الاِمْتِنَاعِ، وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ قَتَل صَيْدًا حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِشَاةٍ كَانَ عَلَى الأَْوَّل شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَعَلَى الأَْوَّل قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ(40/69)
الأَْوَّل بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ وَلاَ بَرَأَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَاتِلاً لِلصَّيْدِ بِالتَّوْجِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ وَيُخْرِجَ حَشْوَتَهُ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا وَمَنْتُوفًا، لأَِنَّهُ بِالنَّتْفِ جَارِحٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ بِالتَّوْجِيهِ قَاتِلٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جَارِحًا مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ فَقَدِ اسْتَوَيَا فَيَكُونَانِ قَاتِلَيْنِ وَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَلاَ يُعْلَمُ هَل مَاتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنَايَةِ أَوْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّ حُدُوثَ سَبَبِهِ بَعْدَ الأَْوَّل مَظْنُونٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ الْيَقِينِ، وَلأَِنَّ الأَْوَّل قَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِمَّا ضَمِنَهُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ، وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ رَمَى طَيْرًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا لاَ يَمْتَنِعُ مَعَهُ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي نَتْفِ الرِّيشِ (1) .
8 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ أَوْ شَعْرَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَعَادَ مَا نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ النَّقْصَ زَال، أَشْبَهَ مَا لَوِ انْدَمَل الْجُرْحُ، فَإِنْ صَارَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ وَنَحْوِهِ فَكَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَارَ بِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ جَزَاءُ
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 338 - 339.(40/69)
جَمِيعِهِ لأَِنَّهُ عَطَّلَهُ فَصَارَ كَالتَّالِفِ، وَإِنْ نَتَفَهُ فَغَابَ وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ (1) .
نَتْفُ شَعْرِ الْوَجْهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَتْفِ شَعْرِ وَجْهِ الْمَرْأَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّمْصِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِلَعْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَنَمُّص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
نَتْفُ شَعْرِ الإِْبِطِ:
10 - إِنَّ نَتْفَ شَعْرِ الإِْبِطِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ - أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ -: الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِْبِطِ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (3) وَلاَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 467.
(2) حديث لعنه صلى الله عليه وسلم الواشمات والمستوشمات والمتنمصات. أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 372 ط السلفية) ومسلم (3 / 1678 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) حديث: " الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة -: الختان والاستحداد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 334 ط السلفية) ومسلم (1 / 221 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(40/70)
خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ نَتْفَ الإِْبِطِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْل السُّنَّةِ يَحْصُل بِإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ حَلْقٍ أَوْ نُورَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوْلَى وَالأَْفْضَل إِزَالَتُهُ بِالنَّتْفِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (فِطْرَة ف 10) .
نَتْفُ الشَّيْبِ:
11 - لاَ بَأْسَ بِنَتْفِ الشَّيْبِ إِلاَّ إِذَا قُصِدَ لِلتَّزَيُّنِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (لِحْيَة ف 14) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 261.(40/70)
نِثَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النِّثَارُ لُغَةً مِنْ نَثَرَ الشَّيْءَ يَنْثُرُهُ وَيَنْثِرُهُ نَثْرًا وَنِثَارًا: رَمَاهُ مُتَفَرِّقًا (1) وَالنِّثَارُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِ - لُغَةً - اسْمٌ لِلْفِعْل كَالنَّثْرِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنْثُورِ كَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ (2) .
قَال اللَّيْثُ: النِّثَارُ بِالْكَسْرِ: نَثْرُكَ الشَّيْءَ بِيَدِكَ تَرْمِي بِهِ مُتَفَرِّقًا مِثْل نَثْرِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ، وَكَذَلِكَ نَثْرُ الْحَبِّ إِذَا بُذِرَ.
وَالنُّثَارُ بِالضَّمِّ، فُتَاتُ مَا يَتَنَاثَرُ حَوَالَيِ الْخِوَانِ مِنَ الْخُبْزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُل شَيْءٍ (3) .
وَنَثَرَ الْمُتَوَضِّئُ وَاسْتَنْثَرَ بِمَعْنَى اسْتَنْشَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَجْعَل الاِسْتِنْشَاقَ إِيصَال الْمَاءِ. . وَالاِسْتِنْثَارَ إِخْرَاجَ مَا فِي الأَْنْفِ مِنْ مُخَاطٍ وَغَيْرِهِ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) المصباح المنير، معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 389 ط عيسى الحلبي.(40/71)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّوْزِيعُ:
2 - التَّوْزِيعُ لُغَةً: الْقِسْمَةُ وَالتَّفْرِيقُ (2) ، يُقَال: وَزَّعْتُ الْمَال تَوْزِيعًا: قَسَّمْتُهُ أَقْسَامًا، وَتَوَزَّعْنَاهُ اقْتَسَمْنَاهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النِّثَارِ وَالتَّوْزِيعِ هِيَ أَنَّ كُل نِثَارٍ تَوْزِيعٌ، وَلَيْسَ كُل تَوْزِيعٍ نِثَارًا أَوْ نَثْرًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى جَوَازِ نَثْرِ الدَّرَاهِمِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَإِبَاحَةِ الْتِقَاطِهِ (4) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهِيَةِ النِّثَارِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 371 ط الحلبي، وشرح المنهج مع حاشية الجمل 4 / 277 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(3) المصباح المنير.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 345، ومواهب الجليل 4 / 6، ونهاية المحتاج 6 / 371، والإنصاف 8 / 340، 341.(40/71)
وَالْتِقَاطِهِ (1) ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النُّهْبَةُ لاَ تَحِل (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا (3) .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: النُّهْبَةُ جَائِزَةٌ إِذَا أَذِنَ صَاحِبُهَا فِيهَا، فَإِذَا وَضَعَ الرَّجُل مِقْدَارًا مِنَ السُّكَّرِ أَوْ عَدَدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَال: مَنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ قَال: مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ فَكُل مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ، وَلاَ يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا نَثَرَ السُّكَّرَ فَحَضَرَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ النَّثْرِ قَبْل أَنْ يَنْتَهِبَ الْمَنْثُورَ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا هَل لَهُ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَإِذَا نَثَرَ السُّكَّرَ وَوَقَعَ عَلَى ذَيْل رَجُلٍ أَوْ كُمِّهِ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6، والإنصاف 8 / 340، 341، ونهاية المحتاج 6 / 371.
(2) حديث: " النهبة لا تحل ". أخرجه الحاكم (2 / 134 ط دائرة المعارف) وابن ماجه (2 / 1299 ط عيسى الحلبي) من حديث ثعلبة بن الحكم، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 286 ط دار الجنان) .
(3) حديث: " من انتهب نهبة فليس منا ". أخرجه الترمذي (3 / 431 ط الحلبي) من حديث عمران بن حصين، وقال: حسن صحيح.(40/72)
فَإِنْ كَانَ بَسَطَ ذَيْلَهُ أَوْ كُمَّهُ لِيَقَعَ عَلَيْهِ السُّكَّرُ لاَ يَكُونُ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ، وَلَوْ أَخَذَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الذَّيْل وَالْكُمِّ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ ذَيْلَهُ أَوْ كُمَّهُ فَالسُّكَّرُ لِلآْخِذِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الذَّيْل وَالْكُمِّ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُل إِلَى غَيْرِهِ سُكَّرًا أَوْ دَرَاهِمَ لِيَنْثُرَهُ عَلَى الْعَرُوسِ فَأَرَادَ أَنْ يَحْبِسَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا فَفِيمَا إِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ دَرَاهِمَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الدَّرَاهِمَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَنْثُرَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَإِذَا نَثَرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَفِيمَا إِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ سُكَّرًا لَهُ أَنْ يَحْبِسَ قَدْرَ مَا يَحْبِسُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ هَكَذَا اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحِل الْتِقَاطُ النَّثْرِ لِلْعِلْمِ بِرِضَا مَالِكِهِ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى، وَقِيل: أَخْذُهُ مَكْرُوهٌ لأَِنَّهُ دَنَاءَةٌ. نَعَمْ إِنْ عُلِمَ أَنَّ النَّاثِرَ لاَ يُؤْثِرُ بِهِ وَلَمْ يَقْدَحْ أَخْذُهُ فِي مُرُوءَتِهِ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ أَوْلَى (2) ، وَلاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ مُلْتَقِطِ النِّثَارِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 345، 346 بتصرف.
(2) نهاية المحتاج 6 / 371.
(3) أسنى المطالب 4 / 347 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 3 / 239 وما بعدها.(40/72)
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ أَخْذُ النِّثَارِ مِنَ الْهَوَاءِ بِإِزَارٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوِ الْتَقَطَهُ أَوْ بَسَطَ حِجْرَهُ لَهُ فَوَقَعَ فِيهِ مَلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ حِجْرَهُ لَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَصْدُ تَمَلُّكٍ وَلاَ فِعْلٍ، نَعَمْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَلَوْ سَقَطَ مَنْ حِجْرِهِ قَبْل أَنْ يَقْصِدَ أَخْذَهُ أَوْ قَامَ فَسَقَطَ بَطَل اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَلَوْ نَفَضَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى الأَْرْضِ أَيْ فَيَبْطُل اخْتِصَاصُهُ بِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا يُنْثَرُ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوهُ عَلَى وَجْهِ مَا يُؤْكَل دُونَ أَنْ يُنْتَهَبَ فَانْتِهَابُهُ حَرَامٌ لاَ يَحِل وَلاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ مُخْرِجَهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي أَكْلِهِ عَلَى وَجْهِ مَا يُؤْكَل، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْكُل مِنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى وَجْهِ الأَْكْل فَقَدْ أَخَذَ حَرَامًا وَأَكَل سُحْتًا.
وَأَمَّا مَا يُنْثَرُ عَلَيْهِمْ لِيَنْتَهِبُوهُ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ، وَتَأَوَّل أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الاِنْتِهَابِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ انْتِهَابُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي انْتِهَابِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَصَل فِي حِجْرِهِ شَيْءٌ مِنْهُ - أَيْ مِنَ النِّثَارِ - فَهُوَ لَهُ، وَكَذَا مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ فَهُوَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا مُطْلَقًا، وَقِيل: لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِالْقَصْدِ (3) .
__________
(1) شرح المنهج وحاشية الجمل 4 / 278، ونهاية المحتاج 6 / 371، ومغني المحتاج 3 / 239 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل 4 / 6 بتصرف.
(3) الإنصاف 8 / 340، 341.(40/73)
نَجَاسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَال: تَنَجَّسَ الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ (1) .
وَالنَّجَاسَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ أَوْ فِيهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُل مَا يَشِينُ (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي على المنهاج 1 / 68، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 122.
(3) الشرح الكبير 1 / 32.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني.(40/73)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ (1) .
فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَل لأَِدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهِيَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَخْبَاثٍ.
ب - الاِسْتِنْجَاءُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلاَصُ مِنَ الشَّيْءِ. يُقَال: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا (2) .
وَالاِسْتِنْجَاءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْل أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.
وَالاِسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لاَ عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ: أَنَّ الاِسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَل وَتَطْهِيرِهِ. (ر: اسْتِنْجَاء ف 1) .
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 30.
(2) لسان العرب.(40/74)
مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ:
4 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الأَْعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ. وَقَالُوا: كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل فَهُوَ مُغَلَّظٌ، كَالْغَائِطِ وَالْبَوْل وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأََ الْفَمَ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلاَ أَوْ لاَ، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالأَْوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ سَائِلاً، فَهَذِهِ الأَْعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً.
وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لاَ يُؤْكَل.
أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لاَ دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالإِْنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ (1) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 45 - 46، وبدائع الصنائع 1 / 60.
(2) سورة النحل / 80.(40/74)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ تَمْيِيزِ الأَْعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:
أ - الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.
ب - وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.
ج - وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.
د - وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلاَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ، وَكُل مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لاَ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلاَ يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الأَْعْيَانِ الطَّهَارَةُ.
وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الأَْعْيَانُ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ.
فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.
وَالْحَيَوَانُ - أَيِ الْحَيُّ - كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.
وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ، وَالآْدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لاَ تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.
وَالْمُنْفَصِل عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ - أَيِ الْحَيِّ - وَإِمَّا لَهُ
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 1 / 11.(40/75)
اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْل فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ (1) .
تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ:
5 - مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.
وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.
وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُل فِي الأَْعْضَاءِ يُزِيل الطَّهَارَةَ (2) . سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، فَلاَ تَحِل مَثَلاً صَلاَةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ مُرِيدُ الصَّلاَةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ (3) فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ
__________
(1) حاشية البرلسي مع القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 1 / 68 - 69، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 168، وروضة الطالبين 1 / 13، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 60، ومغني المحتاج 1 / 77.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 58، 205 ط بولاق.
(3) حديث: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس. . " أخرجه الطبراني في الكبير (5 / 38 ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث رفاعة الزرقي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 104 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح.(40/75)
النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (1) فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (2) .
وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَل وَإِنْ قَل مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا. فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ مِنَ الصَّلاَةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِل. وَعَلَى هَذَا فَقَلِيل الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلاَةِ بِالاِتِّفَاقِ.
وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا، وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَال عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَبِالْغُسْل فِي غَيْرِهِ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لاَ تَتَجَاوَزُ مَحَل حُلُول مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ، وَالْحُكْمِيَّةَ
__________
(1) حديث: " اغسلي عنك الدم وصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332 ط السلفية) ومسلم (1 / 262 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 43 ط مطبعة حجازي - القاهرة.
(3) مراقي الفلاح ص 45، 52، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 132، وابن عابدين 1 / 215 ط الثالثة.(40/76)
هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُول الْمَنِيِّ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لاَ وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ مُوجِبِهِ.
وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ (2) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالأَْعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.
وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لاَ يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الأَْكْبَرُ وَالأَْصْغَرُ، أَمَّا الأَْكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالأَْصْغَرُ هُوَ الْبَوْل وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ.
وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ
__________
(1) القليوبي 1 / 17، 69.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 31، 33، وجواهر الإكليل 1 / 5.(40/76)
بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.
وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالأَْحْدَاثِ وَالأَْخْبَاثِ، وَلاَ يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (1) وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَال هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، وَبِالْغُسْل فِي الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ) .
وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيل الْخَبَثَ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 32، 40، والشرح الصغير 1 / 25، 36، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 34 ط دار الفكر.
(3) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 8 المكتب الإسلامي، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 38، نشر مكتبة الفلاح، والمغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 714 ط دار الكتاب.(40/77)
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ (2) ، وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ (الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.
فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الأَْدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لاَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ فَمُخَفَّفٌ، وَلاَ نَظَرَ لِلأَْدِلَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ) ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا نَجُسَ بِمُلاَقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْل صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث: " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 227 ط السلفية) ومسلم (1 / 419 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". أخرجه أبو داود (1 / 64 ط حمص) والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.(40/77)
غَيْرَ لَبَنٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا (1) .
طَهَارَةُ الآْدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ (3) ، وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ (4) .
وَأَمَّا الآْدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِل يُحْكَمُ بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْغَسْل، وَأَنَّهُ لاَ تَصِحُّ صَلاَةُ حَامِلِهِ (5) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 82، ومغني المحتاج 1 / 83، 85.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) حديث: " أنزل النبي صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد ". أخرجه أبو داود (3 / 421 ط حمص) من حديث الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وقال المنذري في مختصر السنن (4 / 244) : إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص.
(4) الاختيار شرح المختار 1 / 17، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30، والمغني لابن قدامة 1 / 43 ط دار الكتاب العربي.
(5) الاختيار شرح المختار 1 / 15 ط حجازي، وبدائع الصنائع 1 / 299، وحاشية ابن عابدين 1 / 141.(40/78)
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ الآْدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.
قَال عِيَاضٌ: لأَِنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ، إِذْ لاَ مَعْنَى لِغَسْل الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ وَلِصَلاَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سُهَيْل بْنِ بَيْضَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ (2) ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ذَلِكَ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (4) وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لاَ يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
__________
(1) حديث صلاته عليه الصلاة والسلام على سهيل بن بيضاء في المسجد. أخرجه مسلم (2 / 668 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) حديث: " قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون بعد الموت ". أخرجه أبو داود (3 / 513 ط حمص) والترمذي (3 / 306 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 64 - 65 ط دار الفكر، والشرح الكبير 1 / 53، 54.
(4) سورة الإسراء / 70.(40/78)
نَجَسٌ سورة التوبة / 28. فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الاِعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لاَ نَجَاسَةُ الأَْبْدَانِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الآْدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ (2) وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْل كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الآْدَمِيَّةِ وَفِي حَال الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ (3) . .
7 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لأَِنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلأَِنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ (4) .
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30.
(2) حديث: " إن المؤمن لا ينجس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 391 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 282 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 46.
(4) الاختيار شرح المختار 1 / 15، ومراقي الفلاح ص 49، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 54، والإقناع للشربيني 1 / 30، المغني لابن قدامة 1 / 46.(40/79)
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لأَِنَّهَا لاَ حُرْمَةَ لَهَا بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهَا (1) .
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
أ - الْكَلْبُ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ، لِقَوْلِهِمْ: الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُل حَيٍّ وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15 - 19، شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.
ف 44) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 45 - 46.(40/79)
ب - الْخِنْزِيرُ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (1) . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُل عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَال الْحَيَاةِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي كُل حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج ـ - سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالأَْسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ، وَنَجَاسَةِ
__________
(1) سورة الأنعام / 154.(40/80)
سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيل بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا، إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الأَْهْلِيُّ وَالْبَغْل، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 31 - 34، ومراقي الفلاح ص 5 ط الحلبي، والاختيار شرح المختار 1 / 18 ط حجازي، وفتح القدير 1 / 74 - 76.
(2) القوانين الفقهية ص 27 ط دار القلم - بيروت - الأولى.
(3) روضة الطالبين 1 / 13 ط المكتب الإسلامي.(40/80)
الأَْوَّل: الآْدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ (1) .
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:
أ - مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:
11 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لاَ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُْخْرَى شِفَاءً " وَفِي رِوَايَةٍ: " وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ (2) ، وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَل لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 41، 44.
(2) حديث: " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 359 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والرواية الأخرى أخرجها أبو داود (4 / 183 ط حمص) .
(3) مراقي الفلاح ص 7، 10 ط الحلبي، والاختيار شرح المختار 1 / 14، وفتح القدير 1 / 57، والشرح الكبير للدسوقي 1 / 48 - 49، ومغني المحتاج 1 / 23 - 24، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 39 - 40.(40/81)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الإِْنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ، وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلاَ تَأْكُل الْعَذِرَةَ (1) .
ب - مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لاَ يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (2) ، وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لاَ يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.
وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَل وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لاَ يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ. وَقِيل: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ وَهُوَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 39، 40.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". سبق تخريجه ف 5.(40/81)
الصَّحِيحُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِل بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ تَطُول حَيَاتُهُ بِبَرٍّ كَحُوتٍ، أَوْ تَطُول حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَال فِي مَيْتَةِ مَا تَطُول حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْل الْمُدُنِ وَالأَْمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ وَحَلاَلٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 14 ط مصطفى الحلبي 1936، وفتح القدير 1 / 57.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 48 - 49، دار الفكر، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 49، 2 / 115، والشرح الصغير 1 / 45، 2 / 115، وجواهر الإكليل 1 / 8، 216، وشرح الزرقاني 1 / 21، 22.(40/82)
وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْل الْبَطِّ وَالأَْوِزِّ وَنَحْوِهِمَا حَلاَلٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لاَ تَحِل قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ الْمَاءَ الْقَلِيل إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ، لأَِنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لاَ تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ. وَيُفَارِقُ السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلاَ يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ (2) .
ج - مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ،
__________
(1) المهذب 1 / 257، وشرح المنهاج وحاشيتا عميرة والقليوبي عليه 4 / 257، وروضة الطالبين 3 / 275 ط المكتب الإسلامي.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 40 دار الكتاب العربي.(40/82)
وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة) .
د - مَا انْفَصَل مِنَ الْحَيَوَانِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَل مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا - عَلَى الْمَشْهُورِ - وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُل مَا لاَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لاَ يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودفان. . ". أخرجه أحمد (2 / 97 ط الميمنية) من حديث ابن عمر مرفوعا، وأخرجه البيهقي (1 / 254) موقوفا على ابن عمر. وقال ابن حجر في الفتح (9 / 621) : أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعا، وقال: إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضا الموقوف إلا أنه قال: إن له حكم الرفع.
(2) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه أبو داود (3 / 277 ط حمص) والترمذي (4 / 74 ط الحلبي) من حديث أبي واقد الليثي، وقال الترمذي: حسن غريب.(40/83)
الْخَانِيَةِ: لاَ، وَفِي الأَْشْبَاهِ: الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ (1) .
(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.
وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ. وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيل بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيل بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ (2) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ، فَالْمُنْفَصِل مِنَ الآْدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 137 - 138 ط: الثالثة المطبعة الأميرية الكبرى 1323 هـ، والاختيار شرح المختار 1 / 15 مطبعة حجازي.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 51، 52، والشرح الصغير 1 / 49 - 51، وحاشية الدسوقي 1 / 49 - 54.(40/83)
شَعْرَ الْمَأْكُول أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالإِْجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (1) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ (2) .
وَقَالُوا: دَخَل فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُول شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُول رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلأَِنَّ أُصُول الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِل شَعْرًا وَلاَ رِيشًا.
وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ.
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30.
(3) مغني المحتاج 1 / 78.(40/84)
وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ.
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12) .
هـ - جِلْدُ الْحَيَوَانِ:
15 - جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ.
أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ - إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 56، 57.(40/84)
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.
وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لاَ تُطَهِّرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَتَفْصِيل مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10، وَدِبَاغَة ف 9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23) .
حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:
أ - الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ بَلْغَمًا لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأََ الْفَمَ لِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ، وَلِهَذَا لاَ يَنْقُضُ النَّازِل مِنَ الرَّأْسِ بِالإِْجْمَاعِ، هُوَ لِلُزُوجَتِهِ لاَ تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيل غَيْرُ نَاقِضٍ، بِخِلاَفِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ
__________
(1) حَدِيث " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدّ بَعْضه عَلَى بَعْض ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 513 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/85)
لأَِنَّهُ مَحَل النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ - وَهُوَ مَا سَال مِنْ فَمِهِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ - طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلاَ يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لاَزَمَ وَإِلاَّ فَلاَ، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَال مِنْ أَنْفِهِ (2) .
وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ الاِسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَل عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح ص 18 ط الْحَلَبِيّ، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 9 ط الْحَلَبِيّ.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 50، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 8، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 64 - 65.
(3) حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 51، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 44، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9.(40/85)
نَجِسٌ، بِخِلاَفِ النَّازِل مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الآْدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ - أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَل قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَال: أَوْ يَفْعَل هَكَذَا (2) ، وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ تَحْتَ قَدَمِهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.
وَرِيقُ مَأْكُول اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلاَتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُمَا.
الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 16 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ، وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 32، وقليوبي مَعَ الْمِنْهَاجِ 1 / 69 وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 174.
(2) حَدِيث أَنَس: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَة فِي الْقِبْلَةِ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 507 - 508 ط السَّلَفِيَّة) .(40/86)
الطَّيْرِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلاَتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُل عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الآْدَمِيِّ (1) .
ب - الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:
17 - يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ، لأَِنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَال فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ. . . وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ (3) .
وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْل أَبِي يُوسُفَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَال الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 733 - 734.
(2) الْمُهَذَّب 1 / 53 - 54، وَمِنْهَاج الطَّالِبِينَ مَعَ شَرْحِ الْمَحَلِّيّ 1 / 70، وَالإِْقْنَاعِ لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 31، وَمَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل 1 / 53، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 175، 176.
(3) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس. . ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (1 / 127 ط الْفَنِّيَّة الْمُتَّحِدَة) مِنْ حَدِيثِ عَمَّار بْن يَاسِر، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.
(4) فَتْح الْقَدِير 1 / 141، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 16، 18، 30 ط الْحَلَبِيّ، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 8، 9 ط حِجَازِيّ.(40/86)
يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ (1) .
فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ (2) .
18 - أَمَّا الْقَلْسُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ - فَهُوَ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي زَوَال الطَّهَارَةِ (5) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 51، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 94، وَالْخَرَشِيُّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1 / 86، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 63 ط دَار الْفِكْرِ.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51، وَالْخَرَشِيُّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1 / 86.
(4) حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " مَنْ أَصَابَهُ قَيْء أَوْ رُعَاف أَوْ قَلْس أَوْ مَذْي، فَلْيَتَوَضَّأْ. . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَة (1 / 385 - 386 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَضِعْف إِسْنَاده الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 223 ط دَار الْجِنَان) .
(5) فَتْح الْقَدِير 1 / 26، 27، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 176، 734.(40/87)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا (1) .
ج -
الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:
19 - الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِلَى فِيهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلاِجْتِرَارِ (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لأَِنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَل إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلاَ يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ مَعِدَةَ مُبَاحِ الأَْكْل طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ (4) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 94، وَالْخَرَشِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1 / 86.
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 30، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ.
(3) الإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 31.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 233، والقليوبي عَلَى الْمِنْهَاجِ 1 / 72، وَالاِخْتِيَار لِتَعْلِيل الْمُخْتَار 1 / 31، وَالأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيمِ 1 / 202، وَمَوَاهِبَ الْجَلِيل 1 / 94، 95 ط دَار الْفِكْرِ، وَالْمُغْنِي 2 / 88 ط مَكْتَبَة الرِّيَاضِ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.(40/87)
د - عَرَقُ الْحَيَوَانِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - اللَّبَن:
21 - اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُول اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حِل أَكْل الْحَيَوَانِ، فَمَا حَل أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
و الإِْنْفَحَةُ:
22 - الإِْنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَل الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ الإِْنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ(40/88)
الْعُشْبَ (1) .
وَالإِْنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ اللَّبَنِ.
وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَل ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَل، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلاَ تُؤْكَل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَطْعِمَة ف 85) .
ز - الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الدَّمِ، لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَال: " تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير وَالْقَامُوس الْمُحِيط.
(2) الْبَدَائِع 5 / 43، وَالْخَرَشِيّ عَلَى خَلِيل 1 / 85، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 227، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 11 / 89.
(3) حَدِيث أَسْمَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 330 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 240 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.(40/88)
يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْل وَالدَّمِ (1) وَكَذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ لأَِنَّهُمَا مِثْلُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ دَمَ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَقَالُوا بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ (2) . فَإِنِ انْفَصَل الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ الدَّمُ نَجِسًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ دَمِ الإِْنْسَانِ الَّذِي لاَ يَسِيل عَنْ رَأْسِ جُرْحِهِ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ دَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَفِيهِ حَرَجٌ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِذَا انْفَصَل عَنِ الْحَيَوَانِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فِي
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْل. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 17.
(2) حَدِيث: " زَمَّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلِمٌ يُكَلِّمُ. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (4 / 78 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَأَحْمَد (5 / 431 ط الميمنية) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن ثَعْلَبَة، وَاللَّفْظ لِلنِّسَائِيِّ، وَقَال السُّيُوطِيّ: صَحِيحٌ (فَيْض الْقَدِير 4 / 65 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) .
(3) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 8، 30، 31، وَمَرَاقِي الْفَلاَح 17، 30 ط الْحَلَبِيّ.
(4) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، وَالْخَرَشِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1 / 87.(40/89)
الْعُرْفِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنِ انْفَصَل مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعَ أَحَدِهِمَا فَلاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا دَمُ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ يَنْفَصِل مِنْهُ كَدَمِ الدَّمَامِيل وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ الْفَصْدِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، انْتَشَرَ بِعَرَقٍ أَمْ لاَ.
وَيُعْفَى عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْل وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَشُقُّ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَحَل الْعَفْوِ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمٌ أَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَا لاَ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ، أَيْ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلاَةِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْهُ وَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْرُ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ هُوَ مَا لاَ يَفْحُشُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنَ الدَّمِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ
__________
(1) الإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 82، 83.(40/89)
يُعْفَ عَنْهُ، وَلاَ يُعْفَى عَنِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَحُشَ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَيُعْفَى عَنْ دَمِ بَقٍّ وَقَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً (1) . (ر: عَفُوف 7 وَمَا بَعْدَهَا، مَعْفُوَّات ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
ح - دَمُ الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ (2) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ فِي مَنْعِ الْعِبَادَاتِ تَنْظُرُ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 190، 191.
(2) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَمَرَاقِي الْفَلاَح 30، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 104، وَالْمُهَذَّبِ 1 / 53، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 731.
(3) حَدِيث عَائِشَة: " إِنَّمَا ذَلِكَ عَرَق وَلَيْسَ بِحَيْض. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 331 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 262 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.(40/90)
مُصْطَلَحَاتِ: (اسْتِحَاضَة ف 25 وَمَا بَعْدَهَا، حَيْض ف 33 وَمَا بَعْدَهَا، نِفَاس) .
ط - الْمِسْكُ وَالزَّبَادُ وَالْعَنْبَرُ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ، فَيُؤْكَل بِكُل حَالٍ، وَكَذَا نَافِجَتُهُ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَل مِنَ الْمَذْبُوحَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ كَوْنِهَا بِحَال لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ فَسَدَتْ أَوْ لاَ.
وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لاِسْتِحَالَتِهِ إِلَى الطِّيبِيَّةِ.
وَكَذَا الْعَنْبَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى، قَال فِي خِزَانَةِ الرِّوَايَاتِ نَاقِلاً عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَفِي الْمِنْهَاجِيَّةِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمَسَائِل: الْمِسْكُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا لَكِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَكَذَا الْعَنْبَرُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - طَاهِرٌ، وَفِي فَأْرَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي حَيَاةِ الظَّبْيَةِ وَجْهَانِ: الأَْصَحُّ الطَّهَارَةُ كَالْجَنِينِ، فَإِنِ انْفَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا فَنَجِسَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَاللَّبَنِ، وَطَاهِرَةٌ فِي وَجْهٍ كَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ.
وَالزَّبَادُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ أَوْ عَرَقُ
__________
(1) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر 76، وَالْفَتَاوَى الْخَانِيَة عَلَى هَامِشِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 24، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 139 - 140، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 33، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 141، 147.(40/90)
سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَيُعْفَى عَنْ قَلِيل شَعَرٍ فِيهِ عُرْفًا فِي مَأْخُوذٍ جَامِدٍ، وَفِي مَأْخُوذٍ مِنْهُ مَائِعٍ.
وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ نَبَاتٌ بَحْرِيٌّ عَلَى الأَْصَحِّ، نَعَمْ مَا يَبْتَلِعُهُ مِنْهُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ثُمَّ يُلْقِيهِ نَجِسٌ لأَِنَّهُ مِنَ الْقَيْءِ وَيُعْرَفُ بِسَوَادِهِ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَحِل أَكْلِهِ، وَهُوَ الدَّمُ الْمُنْعَقِدُ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالْغَزَال وَاسْتَحَال إِلَى صَلاَحٍ، وَكَذَا فَأْرَتُهُ وَهِيَ وِعَاؤُهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ تَطَيَّبَ بِذَلِكَ (2) وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا تَطَيَّبَ بِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ سُرَّةُ الْغَزَال، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَفِي الإِْقْنَاعِ نَجِسٌ، لأَِنَّهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ أَكْبَرَ مِنَ الْهِرِّ، وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ (4) .
__________
(1) الْقَلْيُوبِيّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 1 / 72، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 17، وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ 1 / 26، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 224.
(2) حَدِيث أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطِيبُ بِالْمِسْكِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 849 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(3) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 65، 66، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 52، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، وَحَاشِيَة الزُّرْقَانِيّ 1 / 27.
(4) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 103، 104، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 237 - 238، 6 / 308.(40/91)
ي - الْبَوْل وَالْعَذِرَةُ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْل وَعَذِرَةِ الآْدَمِيِّ وَبَوْل وَرَوْثِ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْل وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ بَوْل وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَكَذَا خُرْءُ الطَّيْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى طَهَارَتِهِمَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا (4) ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) حَدِيث: " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَة الْمَسْجِد ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 324 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (1 / 236 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) حَدِيث: " اسْتَنْزَهُوا مِنَ الْبَوْل ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ (1 / 128 ط الْفَنِّيَّة الْمُتَّحِدَة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَال: الصَّوَابُ مُرْسَل، ثُمَّ ذَكَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ مُقَارِبٍ، وَقَال
(3) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس: مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْل. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العرنيين بِشُرْب أَبْوَال الإِْبِل أُخْرِجُهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 335 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1296 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/91)
نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلِصَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ (1) ، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ بَوْل وَرَوْثُ الْحَيَوَانِ مَأْكُول اللَّحْمِ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتِ الْحُبُوبُ الَّتِي تَدُوسُهَا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا لاَ تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، أَمَّا رَوْثُهُ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لاَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ.
وَأَمَّا خُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ فَهُوَ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخُرْءُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ إِلاَّ الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الأَْهْلِيَّ وَالأَْوِزَّ فَنَجَاسَةُ خُرْئِهَا غَلِيظَةٌ لِنَتْنِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَوْل الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ رَوْثُهُ، وَكَذَا ذَرْقُ الطَّيْرِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جِيءَ لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ
__________
(1) حَدِيث صَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ أُخْرِجُهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 524 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 373 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/92)
بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ الرَّوْثَةَ وَقَال: هَذَا رِكْسٌ (1) ، وَالرِّكْسُ النَّجَسُ.
وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَال الإِْبِل فَكَانَ لِلتَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ إِلاَّ خَالِصَ الْخَمْرِ، وَلأَِنَّ أَبْوَال مَأْكُول اللَّحْمِ وَأَرْوَاثَهَا مِمَّا اسْتَحَال بِالْبَاطِنِ، وَكُل مَا اسْتَحَال بِالْبَاطِنِ نَجِسٌ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ذَرْق ف 3 - 5، رَوْث ف 2 - 3) .
ك - الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ، لِلأَْمْرِ بِغَسْل الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَال: يَغْسِل ذَكَرَهُ
__________
(1) حَدِيثُ: " هَذَا رَكْس ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 256 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 80، 81، وَالْفَتَاوَى الْخَانِيَة بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 19، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 46 - 48، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 30 - 33 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 30، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 51، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 47، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى الْمَنْهَجِ 1 / 174، وَالْمَجْمُوعِ 2 / 550، وَالْمُغْنِي 1 / 731 - 832، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 234، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.(40/92)
وَيَتَوَضَّأُ (1) ، وَلأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ سَبِيل الْحَدَثِ لاَ يَخْلُقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْل.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْوَدْيِ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَوْ طَهَارَتِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَذْي ف 4، وَمَنِيّ ف 5، وَوَدْي) .
ل - رُطُوبَةُ الْفَرْجِ:
28 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِيِّ كَسَائِرِ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ.
أَمَّا رُطُوبَةُ الْفَرْجِ الْخَارِجِيِّ فَطَاهِرَةٌ اتِّفَاقًا.
وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ مُبَاحِ الأَْكْل نَجِسَةٌ، أَمَّا مِنْ مُبَاحِ الأَْكْل فَطَاهِرَةٌ مَا لَمْ يَتَغَذَّ بِنَجِسٍ، وَرُطُوبَةُ فَرْجِ الآْدَمِيِّ نَجِسَةٌ عَلَى الرَّاجِحِ خِلاَفًا لِمَنْ قَال بِطَهَارَتِهِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " يَغْسِل ذِكْره وَيَتَوَضَّأُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 379 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 247 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 112، 208، 233.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9 وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 105.(40/93)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنَ الآْدَمِيِّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فِي الأَْصَحِّ بَل طَاهِرَةٌ لأَِنَّهَا كَعَرَقِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، لأَِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مَحَل النَّجَاسَةِ يَنْجُسُ بِهَا ذَكَرُ الْمُجَامِعِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ طَاهِرَةٌ لِلْحُكْمِ بِطَهَارَةِ مَنِيِّهَا، فَلَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا.
وَقَالُوا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلاَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْفَادَاتِ - إِنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ نَجِسَةٌ، وَقَال الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ فِي حَال الْجِمَاعِ نَجِسٌ لأَِنَّهُ لاَ يَسْلَمُ مِنَ الْمَذْيِ (2) .
حُكْمُ الْخَمْرِ:
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ كَالْبَوْل وَالدَّمِ، لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ (3) ، وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ الْقَذِرُ أَوِ النَّتِنُ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 81، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 228 - 229، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 315 - 316.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 195، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 237، وَالإِْنْصَاف 1 / 341.
(3) سُورَة الْمَائِدَة / 90(40/93)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ إِلَى طَهَارَتِهَا تَمَسُّكًا بِالأَْصْل، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي الآْيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة ف 30 - 32 وَمَا بَعْدَهَا، وَتَخْلِيل ف 13 - 14) .
مَا تُلاَقِيهِ النَّجَاسَةُ:
أ - تَلاَقِي الْجَافَّيْنِ أَوِ الطَّاهِرِ الْجَافِّ بِالنَّجِسِ الْمَائِعِ أَوِ الْمُبْتَل وَعَكْسِهِ:
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ابْتَل فِرَاشٌ أَوْ تُرَابٌ نَجِسَانِ مِنْ عَرَقِ نَائِمٍ أَوْ بَلَل قَدَمٍ وَظَهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ وَالْقَدَمِ تَنَجَّسَا وَإِلاَّ فَلاَ، كَمَا لاَ يَنْجُسُ ثَوْبٌ جَافٌّ طَاهِرٌ لُفَّ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ رَطْبٍ لاَ يَنْعَصِرُ الرَّطْبُ لَوْ عُصِرَ، وَلاَ يَنْجُسُ ثَوْبٌ رَطْبٌ بِنَشْرِهِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ يَابِسَةٍ فَتَنَدَّتْ مِنْهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِيهِ، وَلاَ بِرِيحٍ هَبَّتْ عَلَى نَجَاسَةٍ فَأَصَابَتِ الثَّوْبَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ أَيِ الثَّوْبِ، وَقِيل: يَنْجُسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولاً لاِتِّصَالِهَا بِهِ.
وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ وَمَقْعَدَتُهُ مَبْلُولَةٌ فَالصَّحِيحُ طَهَارَةُ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ فَلاَ تُنَجِّسُ الثِّيَابَ الْمُبْتَلَّةَ (1) .
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 85، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 231، 221 - 223، 5 / 468، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 41، 45.(40/94)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ زَال عَيْنُ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَل بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِنْ مُضَافٍ وَبَقِيَ بَلَلُهُ، فَلاَقَى جَافًّا، أَوْ جَفَّ وَلاَقَى مَبْلُولاً لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلاَقِي مَحَلِّهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ وَهُوَ لاَ يَنْتَقِل، وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُضَافَ قَدْ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلاَقَاةِ فَالْبَاقِي نَجِسٌ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا لاَقَى الْمَحَل الْمَبْلُول جَافًّا، أَوْ لاَقَى الْمَحَل الْجَافَّ شَيْءٌ مَبْلُولٌ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلاَقَاةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْيَانَ الطَّاهِرَةَ إِذَا لاَقَاهَا شَيْءٌ نَجِسٌ وَأَحَدُهُمَا رَطْبٌ وَالآْخَرُ يَابِسٌ فَيُنَجَّسُ الطَّاهِرُ بِمُلاَقَاتِهَا (2) .
ب - وُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِي مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ:
31 - إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي سَمْنٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُنْتَفَعُ بِالْبَاقِي، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: " أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ (3)
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 80، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 13، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 165، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 50.
(2) الْمُهَذَّب 1 / 55، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 184، 188، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 83.
(3) حَدِيث مَيْمُونَة: " أَلْقَوْهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سُمْنَكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 343 ط السَّلَفِيَّة) .(40/94)
أَمَّا إِذَا كَانَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ مَائِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ فَقَال: " إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَائِعَ كَالْمَاءِ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ بِمَا يَنْجُسُ بِهِ الْمَاءُ.
32 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي إِمْكَانِ تَطْهِيرِ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ.
وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ (2) .
__________
(1) حَدِيث: " إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلَّفُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تُقَرِّبُوهُ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (4 / 181 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَال التِّرْمِذِيّ فِي الْجَامِعِ (4 / 257 ط الْحَلَبِيّ) : حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، ثُمَّ نَقَل عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ خَطَّأَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 222، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 147، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 108، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 32، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، 10، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 56، 57، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 58 - 59 وَالْمِنْهَاج وقليوبي عَلَيْهِ 1 / 76، وَالْمُهَذَّب 1 / 57، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 1 / 36، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 188، وَالإِْنْصَاف 1 / 67.(40/95)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَائِع ف 3 - 4، وَطَهَارَة ف 15) .
ج - الْمِيَاهُ الَّتِي تُلاَقِي النَّجَاسَةَ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 17 - 23) .
د - الْمَاءُ الْمُنْفَصِل عَنْ مَحَل التَّطْهِيرِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَاءِ الَّذِي أُزِيل بِهِ حَدَثٌ أَوْ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ بَقَاؤُهُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ أَوْ فَقْدُهُ الطَّهُورِيَّةَ، وَمِنْ حَيْثُ نَجَاسَتُهُ أَوْ عَدَمُ نَجَاسَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 9 - 12) .
هـ - تَنَجُّسُ الآْبَارِ:
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْبِئْرَ الصَّغِيرَةَ - وَهِيَ مَا دُونَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ - يَنْجُسُ مَاؤُهَا بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ(40/95)
الأَْرْوَاثِ كَقَطْرَةِ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ، وَلِكَيْ تَطْهُرَ يُنْزَحُ مَاؤُهَا كَمَا تُنْزَحُ بِوُقُوعِ خِنْزِيرٍ فِيهَا وَلَوْ خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يُصِبْ فَمُهُ الْمَاءَ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَتُنْزَحُ بِمَوْتِ كَلْبٍ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَمُتْ وَخَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَصِل فَمُهُ الْمَاءَ لاَ يَنْجُسُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ نَجِسِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.
كَمَا تُنْزَحُ أَيْضًا بِمَوْتِ شَاةٍ أَوْ مَوْتِ آدَمِيٍّ فِيهَا، لِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ بِمَوْتِ زِنْجِيٍّ وَأَمْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَتُنْزَحُ بِانْتِفَاخِ حَيَوَانٍ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا لاِنْتِشَارِ النَّجَاسَةِ، فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا نُزِحَ مِنْهَا وُجُوبًا مِائَتَا دَلْوٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَل كَثِيرًا فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَاجِبَ بِمِائَتَيْ دَلْوٍ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، وَأَفْتَى بِهِ لَمَّا شَاهَدَ آبَارَ بَغْدَادَ كَثِيرَةَ الْمِيَاهِ لِمُجَاوَرَةِ دِجْلَةَ.
وَإِنْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ دَجَاجَةٌ أَوْ هِرَّةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا فِي الْجُثَّةِ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَاقِعِ مِنْهَا، رُوِيَ التَّقْدِيرُ بِالأَْرْبَعِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّجَاجَةِ، وَمَا قَارَبَهَا يُعْطَى حُكْمَهَا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ.
وَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا كَعُصْفُورٍ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، لِقَوْل(40/96)
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ سَاعَتِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى ثَلاَثِينَ لاِحْتِمَال زِيَادَةِ الدَّلْوِ الْمَذْكُورِ فِي الأَْثَرِ عَلَى مَا قُدِّرَ بِهِ مِنَ الْوَسَطِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزُوحُ طَهَارَةً لِلْبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَا وَالْبَكَرَةِ وَيَدِ الْمُسْتَسْقَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ، لأَِنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ كَانَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، كَطَهَارَةِ دَنِّ الْخَمْرِ بِتَخَلُّلِهَا، وَطَهَارَةِ عُرْوَةِ الأَْبْرِيقِ بِطَهَارَةِ الْيَدِ إِذَا أَخَذَهَا كُلَّمَا غَسَل يَدَهُ.
وَلاَ تُنَجَّسُ الْبِئْرُ بِالْبَعْرِ وَهُوَ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَالرَّوْثِ - لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيِ لِلْبَقَرِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ آبَارِ الأَْمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ فِي الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِشُمُول الضَّرُورَةِ، فَلاَ تُنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ أَوْ أَنْ لاَ يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَالْقَلِيل مَا يَسْتَقِلُّهُ وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ.
وَلاَ يُنَجَّسُ الْمَاءُ بِخُرْءِ حَمَامٍ وَعُصْفُورٍ، وَلاَ بِمَوْتِ مَا لاَ دَمَ لَهُ فِيهِ كَسَمَكٍ وَضُفْدَعٍ، وَلاَ بِوُقُوعِ آدَمِيٍّ وَمَا يُؤْكَل لَحْمُهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةً، وَلاَ بِوُقُوعِ بَغْلٍ(40/96)
وَحِمَارٍ وَسِبَاعِ طَيْرٍ وَوَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنْ وَصَل لُعَابُ الْوَاقِعِ إِلَى الْمَاءِ أَخَذَ حُكْمَهُ، وَوُجُودُ حَيَوَانٍ مَيِّتٍ فِيهَا يُنَجِّسُهَا مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمُنْتَفِخٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا إِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَقْتُ وُقُوعِهِ (1) .
36 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ فِي بِئْرٍ فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا وَجَبَ نَزْحُهُ حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ وَيَعُودَ كَهَيْئَتِهِ أَوَّلاً طَاهِرًا مُطَهِّرًا، فَإِنْ زَال بِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلَى أَصْلِهِ، فَيَصِيرُ طَهُورًا خِلاَفًا لاِبْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال الْبُنَانِيُّ: الأَْرْجَحُ أَنَّهُ يَطْهُرُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالأَْجْهُورِيُّ، وَقَال عَبْدُ الْبَاقِي: لاَ يَطْهُرُ، وَرَجَّحَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ نُدِبَ النَّزْحُ بِقَدْرِ الْمَاءِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَالْحَيَوَانِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَأَمَّا إِنْ وَقَعَ حَيًّا أَوْ طُرِقَ مَيِّتًا وَأُخْرِجَ فَلاَ نَزْحَ وَلاَ كَرَاهَةَ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ بِمَاءٍ لاَ مَادَّةَ لَهُ كَالْجُبِّ لاَ يُشْرَبُ مِنْهَا وَلاَ يُتَوَضَّأُ، وَيُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ، بِخِلاَفِ مَا لَهُ مَادَّةٌ.
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 21، 22، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 16 - 17 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 68 - 74، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 141 - 148.(40/97)
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ قَال مَالِكٌ فِي ثِيَابٍ أَصَابَهَا مَاءُ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ وَتَسَلَّخَتْ: يُغْسَل الثَّوْبُ وَتُعَادُ الصَّلاَةُ فِي الْوَقْتِ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ: وَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل أَوِ الْكَثِيرِ لَهُ مَادَّةٌ أَوْ لاَ كَالصَّهَارِيجِ - وَكَانَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَيْ دَمٌ يَجْرِي مِنْهُ إِذَا جُرِحَ - فَإِنَّهُ يُنْدَبُ النَّزْحُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَيَوَانِ مَنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ، وَبِقَدْرِ الْمَاءِ مِنْ قِلَّةٍ وَكَثْرَةٍ، إِلَى ظَنِّ زَوَال الْفَضَلاَتِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ حَال خُرُوجِ رُوحِهِ فِي الْمَاءِ.
وَيُنْقِصُ النَّازِحُ الدَّلْوَ لِئَلاَّ تَطْفُوَ الدُّهْنِيَّةُ فَتَعُودَ لِلْمَاءِ ثَانِيًا، وَالْمَدَارُ عَلَى ظَنِّ زَوَال الْفَضَلاَتِ.
فَلَوْ أُخْرِجَ الْحَيَوَانُ مِنَ الْمَاءِ قَبْل مَوْتِهِ، أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيِّتًا، أَوْ كَانَ جَارِيًا أَوْ مُسْتَبْحِرًا كَغَدِيرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، أَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ بَحْرِيًّا كَحُوتٍ، أَوْ بَرِّيًّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَعَقْرَبٍ وَذُبَابٍ، لَمْ يُنْدَبِ النَّزْحُ، فَلاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لاَ يُكْرَهُ بَعْدَ النَّزْحِ. هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِالْحَيَوَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا تَنَجَّسَ لأَِنَّ مَيْتَتَهُ نَجِسَةٌ (1) .
__________
(1) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 43 - 45، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 41 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 18، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 46، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص 40، وَحَاشِيَة الرهوني 1 / 58، 59.(40/97)
37 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُول النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ كَانَ قَلِيلاً وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنْجُسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ أَيْضًا بِالنَّزْحِ، بَل يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلاً لاَ تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ صُبَّ فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ وَيَزُول التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ تَغَيَّرَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا وَتَفَتَّتَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَقَدْ يَبْقَى عَلَى طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَنْزَحُ دَلْوًا إِلاَّ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ نَزَحَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ طَهُورٌ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقِنِ النَّجَاسَةِ وَلاَ مَظْنُونِهَا، وَلاَ يَضُرُّ احْتِمَال بَقَاءِ الشَّعْرِ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْل النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَخْلُو كُل دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لَكِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلاَنِ (1) .
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 25 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 63 - 67.(40/98)
38 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَال إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَال فِيهَا إِنْسَانٌ؟ قَال: تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ، قُلْتُ: مَا حَدُّهُ؟ قَال: لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا، وَقِيل لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغَدِيرُ يُبَال فِيهِ، قَال: الْغَدِيرُ أَسْهَل وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَقَال فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ وَاقِفٌ لاَ يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي، يَعْنِي أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْل فِيهِ إِذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْل الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، قَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ خِرْقَةٌ أَصَابَهَا بَوْلٌ. قَال: تُنْزَحُ، وَقَال فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ: لاَ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَإِذَا كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلاَصِقَةً لِبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْمَاءِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، قَال أَحْمَدُ: يَكُونُ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلاَ رِيحًا، وَقَال الْحَسَنُ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ فَلاَ تَزُول بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نِفْطًا، فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَإِذَا نَزَحَ مَاءَ الْبِئْرِ النَّجِسَ فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لأَِنَّ أَرْضَ الْبِئْرِ مِنْ(40/98)
جُمْلَةِ الأَْرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَجُسَتْ جَوَانِبُ الْبِئْرِ فَهَل يَجِبُ غَسْلُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ لأَِنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَأَشْبَهَ رَأْسَ الْبِئْرِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ لِلْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِذَلِكَ فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَحَل الاِسْتِنْجَاءِ وَأَسْفَل الْحِذَاءِ (1) .
صَلاَةُ حَامِل النَّجَاسَةِ وَمَنْ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى حَامِلاً بَيْضَةً مَذِرَةً صَارَ مُحُّهَا دَمًا جَازَ لأَِنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَالشَّيْءُ مَا دَامَ فِي مَعْدِنِهِ لاَ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَمَل قَارُورَةً مَضْمُومَةً فِيهَا بَوْلٌ فَلاَ تَجُوزُ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهِ.
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسُهُ خَيْمَةً نَجِسَةً تَبْطُل صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ يُعَدُّ حَامِلاً لِلنَّجَاسَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلاَةٍ وَلَوْ نَفْلاً مُبْطِلٌ لَهَا وَيَقْطَعُهَا - وَلَوْ مَأْمُومًا - إِنِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَّسِعَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا بِأَنْ يَبْقَى
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 37، 38 دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 211، 269، 270، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 112، 113.(40/99)
مِنْهُ مَا يَسَعُ وَلَوْ رَكْعَةً، وَأَنْ يَجِدَ لَوْ قَطَعَ مَا يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا فِيهِ النَّجَاسَةُ مَحْمُولاً لِغَيْرِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَقْطَعُ لِعَدَمِ بُطْلاَنِهَا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَبِيٌّ نَجِسُ الثِّيَابِ أَوِ الْبَدَنِ بِمُصَلٍّ - وَالصَّبِيُّ مُسْتَقِرٌّ بِالأَْرْضِ - فَالصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَمَل حَيَوَانًا طَاهِرًا فِي صَلاَتِهِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (2) ، وَلأَِنَّ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي، وَإِنْ حَمَل قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ وَقَدْ سَدَّ رَأْسَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ لاَ تَخْرُجُ مِنْهَا كَمَا لَوْ حَمَل حَيَوَانًا طَاهِرًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ حَمَل نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا حَمَل النَّجَاسَةَ فِي كُمِّهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَمَل قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 65 - 70 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 11، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 37 - 41.
(2) حَدِيث: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أمامة بِنْت زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 590 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة الأَْنْصَارِيّ.
(3) الْمُهَذَّب 1 / 68، وَالْمَجْمُوع 3 / 150.(40/99)
مَسْدُودَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ.
وَقَالُوا إِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَال لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ (1) ، وَلأَِنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ زَمَنِهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ (2) .
تَوَقِّي النَّجَاسَاتِ:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.
وَلاَ يَجُوزُ كَذَلِكَ إِلْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَلاَ يَجُوزُ إِدْخَال النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ دُخُول مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ،
__________
(1) حَدِيث خَلْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْلَيْهِ لِمَا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِيهِمَا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 426 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 260 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) ، وَقَال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِم.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 289 - 292، وَالإِْنْصَاف 1 / 487 - 488، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 1 / 715 - 716 دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.(40/100)
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِنَجِسٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ (1) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَوَقِّي النَّجَاسَةِ فِي الأَْبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ الصَّلاَةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقِّي الْمَلاَعِنِ الثَّلاَثِ، وَهِيَ الْبَوْل وَالْبَرَازُ فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ مَوْرِدِ مَاءٍ أَوْ ظِلٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّل (3) ، وَكَذَلِكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ (4)
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 116، 3 / 223، 284، وَحَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 46، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 125، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 21، 2 / 3، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 27، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 344، وقليوبي 4 / 176، وَالزَّوَاجِر 1 / 26، وَالْمُغْنِي 1 / 148، وَرَوض الطَّالِب 2 / 62، وَالْفُرُوعُ 1 / 188، 193.
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 59 - 60، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 43 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 38، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 200، وَالْمُهَذَّب 1 / 66 - 68، وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 169، 170، وَشَرْح الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 180، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 713 - 714 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(3) حَدِيث: " اتَّقَوُا الْمَلاَعِن الثَّلاَثَة: الْبِرَازُ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَة الطَّرِيقِ، وَالظِّل ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 29 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 167 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَقَال الْحَاكِم: صَحِيح، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 239، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 14، وَشَرْح الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 40، 41، وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 72، وَالْمُهَذَّب 1 / 33، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 156، 157 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 65، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 106، 107، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 69.(40/100)
تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَاتِ وَاجِبٌ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَطْهِيرُ الدُّبَّاءِ إِذَا اسْتُعْمِل فِيهِ الْخَمْرُ:
42 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَنَحْوِهَا مِنَ الآْنِيَةِ قَبْل اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلاَ إِشْكَال فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ. وَإِنِ اسْتُعْمِل فِيهَا الْخَمْرُ ثُمَّ انْتُبِذَ فِيهَا يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلاَثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لاَ يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلاَفِ الْعَتِيقِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَل ثَلاَثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل غَسْل مَا لاَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ.
__________
(1) سُورَة الْمُدَّثِّر / 4
(2) حَدِيث: " تَحْتَهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 23.(40/101)
وَقِيل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُمْلأَُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ (1)
بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ لأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الاِنْتِفَاعَ بِهِ لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَل لاَ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ (2)
كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْل أَنْ تُدْبَغَ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ (3) وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لأَِنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْل الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ (4)
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لأَِنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالاً فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلاَفِ الْهَوَامِّ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 48.
(2) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 202 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.
(3) حَدِيث: " لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمِيتَةِ بِإِهَاب. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (4 / 0 37 - 371 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (4 / 222 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عكيم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيَ، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(4) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 203 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.(40/101)
الْمُؤْذِيَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا (1) ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ (2)
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا (3) .
وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلأَِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَل عَلَيْهِ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا (4)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 357 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.
(2) حَدِيث: " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْب صَيْد ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 426 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 1198 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُود الأَْنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدُونِ الاِسْتِثْنَاءِ فِيهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 569 ط الْحَلَبِيّ) مَعَ الاِسْتِثْنَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَال التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لاَ يَصْحُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1206 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.
(4) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 360 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ، وَكِتَاب الْخَرَاج لأَِبِي يُوسُف ص 210 ط السَّلَفِيَّة.(40/102)
وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الأَْدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلاَ يَجُوزُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لأَِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلاِسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلاَفِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَل التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ (2)
وَفِي أَسْهَل الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْل مَالِكٍ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلاَ بَاطِنِهِ (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لاَ كَالسِّرْجِينِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، لِخَبَرِ
__________
(1) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 357، 359.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 60 وَمَا بَعْدَهَا.
(3) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 55.(40/102)
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ (1) وَقَال كَذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (2) وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالْخَل وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالآْجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْل لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لإِِمْكَانِ طُهْرِهِ (3)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَال أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلاَ تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لأَِنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
__________
(1) حَدِيث: " نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 426 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1198 / 3 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمِيتَةَ وَالْخِنْزِيرِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 424 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1207 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 11. هـ(40/103)
الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (1) وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَلاَ يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (2)
الاِنْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:
44 - ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقُول وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَال: لاَ. هُوَ حَرَامٌ (3)
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ
__________
(1) حَدِيث: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُوم. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 758 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 414 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1207 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) بِدُونِ ذِكْر " إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا "
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 87 - 88 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 156.
(3) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمِيتَةَ وَالْخِنْزِيرِ " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.(40/103)
الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عَمَلَهُمْ لاَ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلأَِنَّ غَيْرَهُ لاَ يَعْمَل عَمَلَهُ (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْل وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلاَبٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلاَبِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْل مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْل عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لاَ فِيهِ، فَلاَ يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلاَ يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لاَ يُهْدَمُ لإِِضَاعَةِ الْمَال، وَفِي غَيْرِ أَكْل وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الآْدَمِيِّ أَكْل وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلاَ يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الاِدِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيل بِهِ النَّجَاسَةَ،
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 231 الطَّبْعَة الثَّالِثَة 1323 هـ الْمَطْبَعَة الأَْمِيرِيَّة الْكُبْرَى، وَفَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 202، 357 - 359 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ(40/104)
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْل الآْدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَل بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَل الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْل بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَال النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَال الإِْنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْل الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ (2)
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الاِسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ (3)
وَفِي إِبَاحَةِ الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ،
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 60 - 61، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 10، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 54 - 55.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 44.
(3) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.(40/104)
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ (1) ، وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلاَ هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَمَسُّهُ وَلاَ تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.
وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَال: يُجْعَل مِنْهُ الأَْسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.
وَنُقِل عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَال: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟ ! ! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْل أَحْمَدَ: كُل انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لاَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلاَ إِشْكَال فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ (2) وَلأَِنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.
فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ
__________
(1) الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُود. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 6 / 378 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (4 / 2286 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
(2) حَدِيث: " وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تقربُوهُ ". سَبَقَ تَخْرِيجه (ف 31) .(40/105)
تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلاَ الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ (1) .
وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لأَِنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيل مِنْهُ وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ (2) .
اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْل الْغَسْل، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْل الْغَسْل جَازَ، وَلاَ يَكُونُ آكِلاً وَشَارِبًا حَرَامًا. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ الأَْوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْع الْمَيِّتَة. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.
(2) الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 11 / 86 - 88 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.(40/105)
وَيَأْكُل مِنْهَا قَبْل الْغَسْل، وَلَوْ شَرِبَ أَوْ أَكَل كَانَ شَارِبًا وَآكِلاً حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.
وَالصَّلاَةُ فِي سَرَاوِيل الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ نَجِسَةٌ لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْل وَمَا حَاذَى الْفَرْجَ، أَوْ لاَ كَعِمَامَتِهِ وَالشَّال، جَدِيدًا أَوْ لاَ، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلاَفِ نَسْجِهِ أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَل فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الشَّكِّ - وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ - خِلاَفًا لاِبْنِ عَرَفَةَ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلاَةِ بِهِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً.
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 347.(40/106)
وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَل مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلاً فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الأَْصْل وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالأَْصْل فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ. . حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلاً بِالأَْصْل، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا. . وَنَحْوِ ذَلِكَ (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِل حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ، وَآنِيَةُ مَنْ لاَبَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ.
وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لأَِنَّ الأَْصْل طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهَا (3) .
الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالاِخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:
46 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِي 1 / 61 - 62.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 29.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 53.(40/106)
بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ ثَلاَثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُل أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِل كُلٌّ ثَلاَثًا طَهُرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الاِخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَال عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لأَِنَّ الأَْثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لاَ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15) .
الاِسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ وَلاَ بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا يَصِحُّ الاِسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ نَجِسٍ وَلاَ مُتَنَجِّسٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28) .
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 229، 230، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 60، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 163 وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 1 / 75.(40/107)
التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8) .
سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ:
49 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لاَ تَتَنَجَّسُ وَلاَ تَحْرُمُ (1) .
(ر: أَطْعِمَة ف 11) .
وَفِي هَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَل مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ (2) ، وَلَوْ جَعَل الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ جَازَ (3) ، وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لاَ يُسْتَعْمَل فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَادَاتِ وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ (4) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ قَال عَنْهُ الأَْصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 217، وَالْخَرَشِيّ 1 / 88، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 8 / 149.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 52.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 61.
(4) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 35، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 61.(40/107)
الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِل طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَل فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ (1) ، وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلاَبَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهِ، لأَِنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلاَبَتُهُ بِحَيْثُ لاَ يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ (2) .
وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ (3) . وَلأَِنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّل فِيهَا، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تُطَهِّرُ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِل أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلاَ يَحْرُمَ، وَلاَ يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لأَِنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيل فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيل فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْخُل أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ وَيَقُول: مِكْتَل عَرَّةٍ مِكْتَل بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 17.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 18 الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ.
(3) حَدِيث: " كُنَّا نُكْرَيْ أَرْض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (6 / 139 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَقَال: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.(40/108)
عَذِرَةُ النَّاسِ (1) .
وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْل الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ بِالنَّجَاسَةِ (2) ، أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، وَلاَ يَحِل حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِل فِي الإِْنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلاَ مُحَرَّمٍ، بَل يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيل لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لاَ يُحَرِّمُ الزَّرْعَ (3) .
إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:
55 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ (4) ، كَمَا أَجَازُوا سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ (5) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي التَّدَاوِي بِالاِحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالإِْقْطَارِ فِي الإِْحْلِيل، ذَلِكَ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ، فَإِذَا
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 72 - 73 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 256.
(3) الإِْنْصَاف 10 / 368، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 11 / 82.
(4) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 1 / 61، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 279 الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ، والقليوبي عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ 1 / 76.
(5) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 35.(40/108)
حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَل مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ سُئِل أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَال: لاَ يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَلاَ يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ (2) ، قَال: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيل لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لاَ يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيل لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِْبِل الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ
__________
(1) الْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 8 / 157 ط الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1318 هـ.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 88 دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.(40/109)
تَرِدُهَا النَّاقَةُ (1) .
دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:
أ - النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:
51 - الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلاَ حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يُعَارِضُ النَّصَّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلاَ بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.
وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلاَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا (2) .
وَقَالُوا: كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْل وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ (3)
__________
(1) حَدِيث: " فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 44) .
(2) الاِخْتِيَار شُرِحَ الْمُخْتَار 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936.
(3) حَدِيث: " إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ ". قَال ابْن الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ (1 / 107 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) : هَذَا الْحَدِيثُ لاَ يُعَرِّفُ وَإِنَّمَا الْمَنْقُول أَنَّهَا هِيَ كَانَتْ تَفْعَل ذ وَأَصِلُهُ فِي مُسْلِم (1 / 238) .(40/109)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ (1) وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ لأَِنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالاِكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ لاَ يَدُل عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ خِلاَفًا لَهُمَا.
0 وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالإِْخْثَاءُ وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي الرَّوْثَةِ: هِيَ رِجْسٌ (2) ، وَالإِْخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلأَِنَّهُ اسْتَحَال إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالآْدَمِيِّ.
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 17.
(2) حَدِيث: " هِيَ رِجْس ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 256 ط السَّلَفِيَّة) وَابْن مَاجَهْ (1 / 114 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَفَظَ الْبُخَارِيّ: " هَذَا رَكْس " بِالْكَاف.(40/110)
وَكَذَلِكَ بَوْل الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا، لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل (1) ، وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا.
وَكَذَلِكَ بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلاَ أَوْ لاَ، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ بَوْل الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُل فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ، وَيُغْسَل بَوْل الْجَارِيَةِ (2) فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْل، قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الأَْسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ (3) أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَل عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.
وَالْبَطُّ الأَْهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلاَقَاةِ
__________
(1) حَدِيث: " اسْتَنْزَهُوا مِنَ الْبَوْل. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 26.
(2) حَدِيث: " يَنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 263 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (2 / 509 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَصَحَّحَ إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 / 187 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) .
(3) حَدِيث: " تَوَضَّأَ وَانَضْح فَرَجك ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 247 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(4) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 32، 33 - 35 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936.(40/110)
شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا (1) .
وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْل وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الأَْصْل وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ (2) .
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ.
الأَْوَّل: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْل سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَل النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْل بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ مُنْقِيَةٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ (3) .
ب - النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:
52 - الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ، لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 83.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 60.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 83 1 - 89 1، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 97، 101.(40/111)
وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لاَ تَمْنَعُ الصَّلاَةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لأَِنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُل فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيل: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيل: رُبُعُ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْل، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الاِسْتِفْحَاشِ (1) .
وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالإِْخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الاِخْتِلاَفِ فِيهِ (2) .
وَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَبَوْل الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ وَلُعَابُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا - أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ - فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا
__________
(1) الاِخْتِيَار شُرِحَ الْمُخْتَار 1 / 30 - 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936.
(2) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936.(40/111)
فَصَحُّوا (1) . فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الإِْبِل نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا - وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (2) .
وَيَدْخُل فِي الطَّاهِرِ بَوْل الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لأَِنَّهُ يَبْيَضُّ بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيل بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ لأَِنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ لأَِنَّهَا لاَ تُخَالِطُ النَّاسَ فَلاَ بَلْوَى (3) .
وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْل الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ بِاللَّبَنِ، بِخِلاَفِ الأُْنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل، ذَلِكَ لأَِنَّ بَوْل
__________
(1) حَدِيث: " أَمْر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُخْرِجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالهَا " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 335 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1296 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) حَدِيث: " إِنِ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10 / ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثٍ أَمْ سَلَمَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (5 / 86 ط الْقُدْسِيّ) : رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار، وَرِجَال أَبِي يُعْلَى رِجَال الصَّحِيحِ خَلاَ حَسَّان بْن مخارق وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْن حِبَّانَ.
(3) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 33 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936.(40/112)
الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ مَحَل إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَل الإِْصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِل، أَمَّا الأُْنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْل مَحَل الإِْصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْغَسْل بِالسَّيَلاَنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ (1) . وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالأُْنْثَى.
وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلاَ يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ وَلاَ رِيحٌ كَفَى فِي تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيل زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.
وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَال عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لأَِنَّ بَقَاءَهُ يَدُل عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ الْمَحَل لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا سَهُل فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلاَلَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَال النَّوَوِيُّ:
__________
(1) حَدِيث: " يَغْسِل مِنْ بَوْل الْجَارِيَة وَيَرُشُّ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 262 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (1 / 158 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 166 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي السَّمْحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَال الْحَاكِم: صَحِيحٌ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.(40/112)
فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لاَ يَضُرُّ لاِغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ (1) .
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْل سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَل النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْل بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ مُنْقِيَةٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ (2) .
ج ـ - النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:
53 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِل مَفَاصِل الأَْصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 85.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 183 - 189، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 97، 101(40/113)
عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلاَةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.
وَيُعْفَى عَنْ بَوْل الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلاً فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ لإِِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْل الْهِرَّةِ إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ.
وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لاَ يَتَنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيل: يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولاً لاِتِّصَالِهَا بِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْل إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ الإِْبَرِ بِحَيْثُ لاَ يُرَى وَلَوْ مَلأََ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ، وَمِثْل هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ.(40/113)
وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِل مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لاَ يُمْكِنُهُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.
وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لأَِنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلاَ عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ مِسَاحَةٍ.
وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الإِْبِل وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الإِْنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.
وَالْقَلِيل الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.
وَأَمَّا رَوْثُ الْحِمَارِ وَخَثْيُ الْبَقَرِ وَالْفِيل فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى، سَوَاءٌ كَانَ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا (1) .
54 - وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مَا يَأْتِي: أ - سَلَسُ الأَْحْدَاثِ كَبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ وَدْيٍ أَوْ مَنِيٍّ إِذَا سَال شَيْءٌ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي لاَ يُمِكُنُ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 210، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 84، 85، 188 - 190.(40/114)
التَّحَوُّل عَنْهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ إِذَا حَصَل شَيْءٌ مِنْهَا وَلَوْ كُل يَوْمٍ مَرَّةً.
ب - بَلَل الْبَاسُورِ إِذَا أَصَابَ يَدَ صَاحِبِهِ أَوْ ثَوْبِهِ كُل يَوْمٍ وَلَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا يَدُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْ غَسْلِهَا إِلاَّ إِذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي إِرْجَاعِهِ بِأَنْ يَزِيدَ عَنْ مَرَّتَيْنِ كُل يَوْمٍ، وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَوْمِ وَلَمْ يُكْتَفَ فِي الْيَدِ إِلاَّ بِمَا زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لأَِنَّ الْيَدَ لاَ يَشُقُّ غَسْلُهَا إِلاَّ عِنْدَ الْكَثْرَةِ بِخِلاَفِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.
ج - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ أَوْ بَدَنَ الْمُرْضِعَةِ مِنْ بَوْل أَوْ غَائِطِ رَضِيعِهَا - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيدَهَا - إِذَا اجْتَهَدَتْ فِي التَّحَرُّزِ عَنْهُمَا حَال نُزُولِهِمَا، وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهَا إِعْدَادُ ثَوْبٍ لِلصَّلاَةِ.
د - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ أَوْ بَدَنَ الْجَزَّارِ وَنَازِحِ الْمَرَاحِيضِ وَالطَّبِيبِ الَّذِي يُعَالِجُ الْجُرُوحَ، وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُمْ إِعْدَادُ ثَوْبٍ لِلصَّلاَةِ.
هـ - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ الْمُصَلِّي أَوْ بَدَنَهُ أَوْ مَكَانَهُ مِنْ دَمِهِ أَوْ دَمِ غَيْرِهِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَلَوْ خِنْزِيرًا، إِذَا كَانَتْ مِسَاحَتُهُ لاَ تَزِيدُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ، وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْل، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْوَزْنِ، وَمِثْل الدَّمِ فِي ذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ.
و مَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ أَوْ مَكَانَهُ مِنْ بَوْل أَوَرَوْثِ خَيْلٍ أَوْ بِغَالٍ أَوْ حَمِيرٍ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُبَاشِرُ(40/114)
رَعْيَهَا أَوْ عَلْفَهَا أَوْ رَبْطَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ.
ز - أَثَرُ ذُبَابٍ أَوْ نَامُوسٍ أَوْ نَمْلٍ صَغِيرٍ يَقَعُ عَلَى النَّجَاسَةِ وَيَرْفَعُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِرِجْلِهِ أَوْ فَمِهِ، ثُمَّ يَقَعُ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ، أَمَّا أَثَرُ النَّمْل الْكَبِيرِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ لِنُدْرَتِهِ.
ح - أَثَرُ دَمِ مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ بَعْدَ مَسْحِهِ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا، فَيُعْفَى عَنْهُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ فَيَغْسِلَهُ.
ط - مَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ أَوْ رِجْلَهُ مِنْ طِينِ الْمَطَرِ أَوْ مَائِهِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ مَا دَامَ مَوْجُودًا فِي الطُّرُقِ وَلَوْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ، فَيُعْفَى عَنْهُ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ: أَوَّلاً: أَنْ لاَ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمُخَالِطَةُ أَكْثَرَ مِنَ الطِّينِ أَوِ الْمَاءِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا.
ثَانِيًا: أَنْ لاَ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ بِدُونِ مَاءٍ أَوْ طِينٍ.
ثَالِثًا: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الإِْصَابَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ أَوِ الْمَاءِ، كَأَنْ يَعْدِل عَنْ طَرِيقٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى طَرِيقٍ فِيهَا ذَلِكَ.
ي - الْمِدَّةُ السَّائِلَةُ مِنْ دَمَامِل أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ سَالَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ بِعَصْرِهَا وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، لأَِنَّ كَثْرَتَهَا مَظِنَّةُ الاِحْتِيَاجِ إِلَى الْعَصْرِ، فَيُعْفَى عَمَّا سَال عَنْهَا وَلَوْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَأَمَّا الدُّمَّل الْوَاحِدُ فَيُعْفَى(40/115)
عَمَّا سَال مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَصْرٍ احْتِيجَ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُصِرَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلاَ يُعْفَى إِلاَّ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ.
ك - خُرْءُ الْبَرَاغِيثِ وَلَوْ كَثُرَ، وَإِنْ تَغَذَّتْ بِالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَخُرْؤُهَا نَجِسٌ وَلَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ.
وَأَمَّا دَمُهَا فَإِنَّهُ كَدَمِ غَيْرِهَا لاَ يُعْفَى عَمَّا زَادَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
ل - الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَعِدَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ أَصْفَرَ مُنْتِنًا فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ إِذَا لاَزَمَ.
م - الْقَلِيل مِنْ مَيْتَةِ الْقُمَّل فَيُعْفَى مِنْهُ عَنْ ثَلاَثَةٍ فَأَقَل.
ن - أَثَرُ النَّجَاسَةِ عَلَى السَّبِيلَيْنِ بَعْدَ إِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ بِمَا يُزِيلُهَا مِنْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَيُعْفَى عَنْهُ، وَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يَنْتَشِرْ كَثِيرًا، فَإِنِ انْتَشَرَ تَعَيَّنَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ، كَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ قُمَّل الْمَرْأَةِ (1) .
وَقَالُوا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ رَمَادَ نَجِسٍ طَاهِرٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلاً قَوِيًّا أَوْ لاَ.
وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ نَجِسٌ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ وَالتُّونُسِيُّ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 71 - 78.(40/115)
وَالْمَازِرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ عَرَفَةَ، قَال بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ طَهَارَةَ دُخَانِ النَّجَاسَةِ كَالرَّمَادِ (1) .
وَقَالُوا: يُعْفَى عَمَّا تَعَلَّقَ بِذَيْل ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ الْغُبَارِ النَّجِسِ (2) .
55 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ أُمُورٍ: مِنْهَا مَا لاَ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ الْمُعْتَدِل مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ مُغَلَّظَةً.
وَمِنْهَا الأَْثَرُ الْبَاقِي بِالْمَحَل بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ، فَيُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِصَاحِبِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء ف 23) .
وَمِنْهَا طِينُ الشَّارِعِ الْمُخْتَلِطُ بِالنَّجَاسَةِ الْمُحَقَّقَةِ، فَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الطِّينِ أَوْ ظَنَّ كَانَ طَاهِرًا، لاَ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْهُ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلاً: أَنْ لاَ تَظْهَرَ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ.
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمَارُّ مُحْتَرِزًا عَنْ إِصَابَتِهَا، بِحَيْثُ لاَ يُرْخِي ذَيْل ثِيَابِهِ وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِرَشَاشٍ نَحْوَ سِقَاءٍ.
ثَالِثًا: أَنْ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ وَهُوَ مَاشٍ أَوْ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، 58.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 74.(40/116)
رَاكِبٌ، أَمَّا إِذَا سَقَطَ عَلَى الأَْرْضِ فَتَلَوَّثَتْ ثِيَابُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ.
رَابِعًا: أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ فِي ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ.
وَمِمَّا يُعْفَى عَنْهُ عِنْدَهُمُ الدَّمُ الْبَاقِي عَلَى اللَّحْمِ وَعِظَامِهِ، فَقِيل: إِنَّهُ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَلِيمِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
وَمِنْهَا دُخَانُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَعَنْ يَسِيرِهِ عُرْفًا.
وَمِنْهَا بُخَارُ النَّجَاسَةِ إِنْ تَصَاعَدَ بِوَاسِطَةِ نَارٍ فَنَجِسٌ، لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَفْصِلُهَا النَّارُ بِقُوَّتِهَا لَكِنْ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَ كَالْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَنِيفِ فَطَاهِرٌ.
وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ غُبَارَ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ.
وَمِنْهَا الْمَاءُ السَّائِل مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمَعِدَةِ، كَأَنْ خَرَجَ مُنْتِنًا بِصُفْرَةٍ فَنَجِسٌ، لاَ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْهَا فَطَاهِرٌ.
وَقِيل: إِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَنَجِسٌ وإِلاَّ فَطَاهِرٌ، فَإِنِ ابْتُلِيَ بِهِ شَخْصٌ لِكَثْرَتِهِ مِنْهُ قَال فِي الرَّوْضَةِ:(40/116)
فَالظَّاهِرُ الْعَفْوُ (1) .
56 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لأَِجْل مَحَلِّهَا فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: مَحَل الاِسْتِنْجَاءِ، فَيُعْفَى فِيهِ عَنْ أَثَرِ الاِسْتِجْمَارِ بَعْدَ الإِْنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ.
الثَّانِي: أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ إِذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ فَدَلَّكَهَا بِالأَْرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، فَفِيهِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا: يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالأَْرْضِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الأُْولَى كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يَجِبُ غَسْلُهُ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَالثَّالِثَةُ: يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْبَوْل وَالْعَذِرَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
الثَّالِثُ: إِذَا جَبَّرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَانْجَبَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ، لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ بَاطِنَةٌ يَتَضَرَّرُ بِإِزَالَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ دِمَاءَ الْعُرُوقِ.
وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْيَسِيرُ مَا يَعُدُّهُ الإِْنْسَانُ فِي نَفْسِهِ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ إِذَا أَصَابَ غَيْرَ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ.
وَمِمَّا يُعْفَى عَنْهُ يَسِيرُ سَلَسِ بَوْلٍ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَفُّظِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79 - 81، 192، وَالْمَنْثُور فِي الْقَوَاعِدِ 3 / 266.(40/117)
وَمِنْهَا دُخَانُ نَجَاسَةٍ وَغُبَارُهَا وَبُخَارُهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِفَةٌ.
وَمِنْهَا قَلِيل مَاءٍ تَنَجَّسَ بِمَعْفُوٍّ عَنْهُ.
وَمِنْهَا النَّجَاسَةُ الَّتِي تُصِيبُ عَيْنَ الإِْنْسَانِ وَيَتَضَرَّرُ بِغَسْلِهَا.
وَمِنْهَا الْيَسِيرُ مِنْ طِينِ الشَّارِعِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ (1) .
__________
(1) الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 725 - 729، وَالْمُغْنِي 1 / 411 - 412 ط دَار الْفِكْرِ، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 102 - 103، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 192.(40/117)
نَجْشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّجْشِ فِي اللُّغَةِ الاِسْتِثَارَةُ وَالإِْثَارَةُ، وَالنَّجْشُ - بِسُكُونِ الْجِيمِ - مَصْدَرٌ وَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي سِلْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بَل لِيَغِرَّ غَيْرَهُ فَيُوقِعَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَاعِل نَاجِشٌ وَنَجَّاشٌ مُبَالَغَةً، وَلاَ تَنَاجَشُوا: لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّوْمُ:
2 - السَّوْمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ سَوْمًا عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي وَاسْتَامَهَا طَلَبَ بَيْعَهَا (3) .
__________
(1) مُحِيط الْمُحِيطِ، وَالْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.(40/118)
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَرْضُ الْبَائِعِ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ مَا وَيَطْلُبُهَا مَنْ يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِثَمَنٍ دُونَهُ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالنَّجْشِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ وَالْمُسَاوِمَ يَرْغَبُ فِيهِ.
ب - الْمُزَايَدَةُ:
3 - الْمُزَايَدَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّنَافُسُ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِ السِّلْعَةِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْبَيْعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخَرِ زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُزَايَدَةِ وَالنَّجْشِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ وَالْمُزَايِدَ يَرْغَبُ فِي الشِّرَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّجْشَ حَرَامٌ وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَتَاج الْعَرُوسِ، وَمُعْجَم مَقَايِيس اللُّغَة، وَالْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ.
(2) الْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة 290، وَفَتْح الْقَدِير 6 / 108، وَالدُّسُوقِيّ 3 / 159، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 37.(40/118)
حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ (1) وَلِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّجْشِ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ السِّلْعَةِ فَالْمَنْعُ اتِّفَاقًا، وَإِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْقِيمَةِ بَل سَاوَاهَا بِزِيَادَتِهِ أَوْ كَانَتْ زِيَادَتُهُ أَنْقَصَ مِنْهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى ظَاهِرِ كَلاَمِ الْمَازِرِيِّ، وَجَائِزٌ عَلَى ظَاهِرِ كَلاَمِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَمَنْدُوبٌ عَلَى كَلاَمِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَعَلَى تَأْوِيل كَلاَمِ الإِْمَامِ وَالْمَازِرِيِّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ.
فَإِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ فَسَكَتَ حَتَّى حَصَل الْبَيْعُ فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ كَلاَمَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُشْتَرَطُ هُنَا الْعِلْمُ بِخُصُوصِ هَذَا النَّهْيِ لأَِنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ تُلْقُوا الرُّكْبَان ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 361 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1155 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) حَدِيث: " نَهَى عَنِ النَّجْشِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 355 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1156 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68، وَالْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 5 / 239، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 92، وَالْمُغْنِي 43 / 278، وَحَوَاشِي الشرواني وَابْن قَاسِم 4 / 315.(40/119)
وَتَحْرِيمُهَا مَعْلُومٌ لِكُل أَحَدٍ (1) ، وَقَدْ أَشَارَ السُّبْكِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحُرْمَةَ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ لِلْقُضَاةِ فَمَا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى اعْتِرَافِ مُتَعَاطِيهِ بِالْعِلْمِ بِخِلاَفِ الْخَفِيِّ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ قَصَّرَ فِي التَّعْلِيمِ (2) .
بَيْعُ النَّجْشِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَيْعَ النَّجْشِ صَحِيحٌ لأَِنَّ النَّجْشَ فِعْل النَّاجِشِ لاَ الْعَاقِدِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْبَيْعِ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجْشِ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 128) .
خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي بَيْعِ النَّجْشِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِالثَّمَنِ، لأَِنَّ الْفَسَادَ فِيهِ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لاَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلاَ فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ (5) .
__________
(1) حَاشِيَة الشرواني وَابْن قَاسِم 4 / 315.
(2) الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 92.
(3) الْمُغْنِي 4 / 278، الْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 5 / 239، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 4 / 316.
(4) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68، وَالْمُغْنِي 4 / 278.
(5) فَتْح الْقَدِير 6 / 108 ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ.(40/119)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنْ فَاتَ فَالْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثَمَنَ النَّجْشِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْبَائِعُ فَلاَ كَلاَمَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِتَفْرِيطِهِ حَيْثُ لَمْ يَتَأَمَّل وَلَمْ يُرَاجِعْ أَهْل الْخِبْرَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لَهُ الْخِيَارُ لِلتَّدْلِيسِ كَالتَّصْرِيَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَيْعِ النَّجْشِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ (3) .
نُجُومٌ
انْظُرْ: تَنْجِيمٌ
نُحَاسٌ
انْظُرْ: مَعْدِنٌ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 37.
(3) الْمُغْنِي 4 / 234 - 235.(40/120)
نَحْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّحْرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَحَرَ يَنْحَرُ نَحْرًا: أَصَابَ نَحْرَهُ، وَنَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا: طَعَنَهُ فِي مَنْحَرِهِ حَيْثُ يَبْدُو الْحُلْقُومُ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبَرْكَتِيُّ: هُوَ قَطْعُ عُرُوقِ الإِْبِل الْكَائِنَةِ فِي أَسْفَل عُنُقِهَا عِنْدَ صُدُورِهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَقْرُ:
2 - الْعَقْرُ فِي اللُّغَةِ: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْعَرَبُ فِي الْقَتْل وَالإِْهْلاَكِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي النَّحْرِ خَاصَّةً.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(2) سُورَة الْكَوْثَرِ / 2
(3) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَركَتِي.(40/120)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الإِْصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّحْرِ وَالْعَقْرِ، أَنَّ الْعَقْرَ أَعَمُّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّحْرِ:
أ - صِفَةُ الذَّكَاةِ بِالنَّحْرِ:
3 - مِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ النَّحْرُ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْحَرَ الْبَعِيرُ وَيُذْبَحَ مَا سِوَاهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (2) قَال مُجَاهِدٌ: أُمِرْنَا بِالنَّحْرِ وَأُمِرَ بَنُو إِسْرَائِيل بِالذَّبْحِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي قَوْمٍ مَاشِيَتُهُمُ الإِْبِل فَسَنَّ النَّحْرَ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل مَاشِيَتُهُمْ الْبَقَرُ فَأُمِرُوا بِالذَّبْحِ (3) ، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ بَدَنَةً وَضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ (4) .
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ نَحْرَ الإِْبِل (ر: ذَبَائِح ف 11) .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 43، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 315.
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 67
(3) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 5 / 575 ط الرِّيَاض، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 3 / 419، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 285، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 1 / 588، ط دَار الْعَرَبِ الإِْسْلاَمِيّ.
(4) حَدِيث: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْر بَدَنَة وَضُحًى بِكَبْشَيْنِ شَطْر مِنْ حَدِيثٍ فِي الْحَجّ أَنَّهُ لَمَّا دَخَل مَكَّة أَمْرهمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْع بَ (فَتْح الْبَارِي 3 / 554 ط السَّلَفِيَّة) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ (الْفَتْح 10 / 9) أَنَّهُ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.(40/121)
ب - ذَبْحُ مَا يُنْحَرُ أَوْ نَحْرُ مَا يُذْبَحُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ أَوْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ حَل الْمَذْبُوحُ لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ عَنْ آل مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً (1) ، وَلأَِنَّهُ ذَكَاةٌ فِي مَحَل الذَّكَاةِ فَجَازَ أَكْلُهُ كَالْحَيَوَانِ الآْخَرِ (2) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْرِرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ (3) ، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ (4) .
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْر عَنْ آل مُحَمَّد فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَة. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 361 ط حِمْص) وَابْن مَاجَّة (2 / 1047 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَذَكَره ابْن حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (3 551 - ط السَّلَفِيَّة) ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقُوَاهُ بِهِ.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 41، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 288، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 541، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 11 / 47 - 48.
(3) حَدِيث: " أُمَرِّرُ الدَّمَ بِمَا شِئْت ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 250 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (7 / 225 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَالْحَاكِم (4 / 240 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) مِنْ حَدِيثِ عُدَيّ بْن حَاتِم وَقَال الْحَاكِم: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِم.
(4) قَوْل أَسْمَاء: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 9 / 640 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1541 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .(40/121)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ أَوْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ لِلضَّرُورَةِ، لأَِنَّهُ وَقَعَ فِي مِهْوَاةٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ وَحَل أَكْلُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ لَمْ تُؤْكَل (1) .
ج - أَيَّامُ النَّحْرِ:
5 - أَيَّامُ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ هِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَلَيْسَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ بِمِنًى فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامِ الذَّبْحِ فَإِنْ نَحَرَ الْهَدَايَا لَيْلاً يُعِيدُهَا لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ لَيْلَةَ النَّحْرِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيَّامُ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ هِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةُ، لِحَدِيثِ: كُل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ (3) .
(ر: أَيَّام التَّشْرِيقِ ف: 4) .
__________
(1) الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ 3 / 107، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 1 / 589، وَالْمُدَوَّنَة 2 / 65، وَالْمُقَدَّمَات لاِبْن رُشْد 1 / 324.
(2) الْمُدَوَّنَة 2 / 73، وَالْمُقْنِع 3 / 535، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 106.
(3) حَدِيث: " كُلّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْح ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد (4 / 82 ط الميمنية) وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (4 / 25 ط الْقُدْسِيّ) : رَوَاهُ أَحْمَد والطبراني فِي الأَْوْسَطِ، وَرِجَال أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ثِقَات.(40/122)
د - شَرَائِطُ النَّحْرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النَّحْرِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ (ذَبَائِح ف 11، 16، 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - مُسْتَحَبَّاتُ النَّحْرِ:
7 - يُسْتَحَبُّ فِي النَّحْرِ أَنْ تَكُونَ الإِْبِل قَائِمَةً عَلَى ثَلاَثٍ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَإِنْ أَضْجَعَهَا جَازَ، وَالأَْوَّل أَفْضَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُوَجِّهُ النَّاحِرُ مَا يُرِيدُ نَحْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَقِفُ بِجَانِبِ الرِّجْل الْيُمْنَى غَيْرِ الْمَعْقُولَةِ مُمْسِكًا مِشْفَرَهُ الأَْعْلَى بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَطْعَنُهُ فِي لَبَّتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى مُسَمِّيًا (1)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ الإِْبِل عَلَى ثَلاَثٍ عِنْدَ النَّحْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " مَعْقُولَةً عَلَى ثَلاَثَةٍ " (3) ، وَأَحَادِيثُ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 41، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 111، وَالْمُقْنِعِ 1 / 470 ط السَّلَفِيَّة، وَالْمُغْنِي 8 / 586، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 540، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 7، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 319. .
(2) سُورَة الْحَجّ / 36
(3) أَثَر ابْن عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السِّنِّ الْكُبْرَى (5 / 237 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) .(40/122)
مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا (1) .
نِحْلَةٌ
انْظُرْ: هِبَةٌ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَة مَعْقُولَة. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 371 ط حَمَّصَ) وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجْرِ الْعَسْقَلاَنِيِّ فِي فَتْحِ الْبَارِي (3 / 353 ط السَّلَفِيَّة) وَسَكَتَ عَنْهُ.(40/123)
نُخَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّخَاعُ لُغَةً عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي دَاخِل الْعُنُقِ يَنْقَادُ فِي فَقَارِ الصُّلْبِ حَتَّى يَبْلُغَ عَجْبَ الذَّنَبِ (1) وَضَمُّ النُّونِ لُغَةُ قَوْمٍ مِنَ الْحِجَازِ وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُخُّ:
2 - الْمُخُّ لُغَةً يَعْنِي الْعَظْمُ وَالدِّمَاغُ وَشَحْمَةُ الْعَيْنِ وَفَرَسٌ وَخَالِصُ كُل شَيْءٍ، وَفِي التَّهْذِيبِ نَقِيُّ عِظَامِ الْقَصَبِ. (4) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: هُوَ الْوَدَكُ الَّذِي فِي الْعَظْمِ.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ.
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَانْظُرِ الْقَامُوسَ الْمُحِيطَ.
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 288 ط الأَْمِيرِيَّة، وَفَتْح الْبَارِي 9 / 641 ط السَّلَفِيَّة.
(4) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَلِسَان الْعَرَبِ.(40/123)
وَقَدْ يُسَمَّى الدِّمَاغُ مُخًّا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَاعِ وَالْمُخِّ، هِيَ أَنَّ الْمُخَّ أَعَمُّ مِنَ النُّخَاعِ.
ب - الْفِقْرَةُ:
3 - الْفِقْرَةُ - بِالْكَسْرِ وَتُفْتَحُ - مَا انْتَضَدَ مِنْ عِظَامِ الصُّلْبِ مِنْ لَدُنِ الْكَاهِل إِلَى الْعَجْبِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَاعِ وَالْفِقْرَةِ أَنَّ الْفِقْرَةَ هِيَ وِعَاءُ النُّخَاعِ وَحَافِظَتُهُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّخَاعِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنُّخَاعِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ وَمِنْهَا:
أَوَّلاً: فِي الذَّبَائِحِ:
4 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ النَّخْعِ فِي الذَّبْحِ (3) وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إِذَا ذُبِحَتْ (4) وَالنَّخْعُ هُوَ بُلُوغُ السِّكِّينِ فِي
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) عُمْدَة الْقَارِئ 21 / 122 - ط المنيرية
(4) حَدِيث: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْخَعَ الشَّاه إِذَا ذُبِحَتْ ". وَرَدَ بِلَفْظ: " نَهَى رَسُول اللَّهِ عَلَى عَنِ الذَّبِيحَةِ أَنَّ تَفَرُّس قَبْل أَنْ تَمُوتَ ". أَخْرَجَهُ ابْن عَدِيٍّ فِي الْكَامِل (4 / 13 وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (9 / 280 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، وَقَدْ فَسَّرَ فِي رِوَايَةِ ابْن عَدِيٍّ بِقَوْلِهِ فِيهَا: يَعْنِي أَنَّ تَنَخُّع. وَقَال الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف.(40/124)
الذَّبْحِ النُّخَاعَ (1) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّخْعِ فِي الذَّبْحِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ذَبَائِح ف 36، 42) .
ثَانِيًا: فِي الشِّجَاجِ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنْوَاعِ الشِّجَاجِ مَا تَصِل بِهِ الشَّجَّةُ إِلَى النُّخَاعِ كَالْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَبَيَّنُوا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لِكُلٍّ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاج ف 4 - 11، دِيَات ف 66، 67، مُنَقِّلَة، هَاشِمَة) .
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 296 ط دَار الْفِكْرِ.(40/124)
نُخَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّخَامَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِ الإِْنْسَانِ أَوْ خَيْشُومِهِ، مِنَ الْبَلْغَمِ وَالْمَوَادِّ عِنْدَ التَّنَحْنُحِ (1) .
وَالنُّخَاعَةُ هِيَ النُّخَامَةُ كَمَا قَال الْمُطَرِّزِيُّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهَا الْفَضْلَةُ الْغَلِيظَةُ تَنْزِل مِنَ الدِّمَاغِ أَوْ تَصْعَدُ مِنَ الْبَاطِنِ (2) .
وَنَقَل الْبَعْلِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَطَالِعِ أَنَّ النُّخَامَةَ مَا يُلْقِيهِ الرَّجُل مِنَ الصَّدْرِ وَهُوَ الْبَلْغَمُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُخَاطُ:
2 - الْمُخَاطُ: هُوَ السَّائِل مِنَ الأَْنْفِ خَاصَّةً (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ
__________
(1) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي. وَانْظُرِ الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْقَلْيُوبِيّ عَلَى شَرْح الْمَحَلِّيّ 2 / 55.
(3) الْمَطْلَع عَلَى أَبْوَاب الْمُقْنِع ص 148.
(4) الْمِصْبَاح الْمُنِير، لِسَان الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط.(40/125)
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَامَةِ وَالْمُخَاطِ هِيَ أَنَّ النُّخَامَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُخَاطِ.
ب - الْقَلْسُ:
3 - الْقَلْسُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ - مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِقَيْءٍ فَإِذَا غَلَبَ فَهُوَ الْقَيْءُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَامَةِ وَالْقَلْسِ أَنَّ النُّخَامَةَ أَعَمُّ مِنَ الْقَلْسِ مِنْ حَيْثُ مَكَانُ خُرُوجِهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّخَامَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنُّخَامَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
النُّخَامَةُ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النُّخَامَةَ طَاهِرَةٌ إِنْ نَزَلَتْ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ خَرَجَتْ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَا صَعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ (2) .
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(2) ابْن عَابِدِينَ 1 / 94، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 1 / 326، وَشَرحَ الزُّرْقَانِيّ 1 / 26 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9 وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 469، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 294، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.(40/125)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لأَِنَّهَا تُخْلَقُ مِنَ الْبَدَنِ كَنُخَامَةِ الصَّدْرِ وَالرَّأْسِ وَلأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ النُّخَامَةَ - وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - بِطَرَفِ رِدَائِهِ (1) .
وَلِهَذَا لاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِصُعُودِهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الْمَعِدَةِ (2) .
ابْتِلاَعُ النُّخَامَةِ فِي الصَّوْمِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ابْتِلاَعِ النُّخَامَةِ فِي الصَّوْمِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَفَسَادِ الصَّوْمِ بِهِ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ صَوْمٍ ف 79) .
التَّنَخُّمُ فِي الْمَسْجِدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إِلْقَاءُ النُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى جُدْرَانِهِ وَعَلَى حَصِيرِهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ كُل قَذِرٍ وَقَذَارَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجِسًا كَالنُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا (3) .
__________
(1) حَدِيث: " أَخَذَ النُّخَامَة. . . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 513 - ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ قَوْله: وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 94، الاِخْتِيَار 1 / 10، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 489 والزرقاني 1 / 26، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 125.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 202 وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 443، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 110، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 3 / 393.(40/126)
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا (1) .
وَكَتْبُ الْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِ الْبُصَاقِ يَدُل دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنَّهَا تَزُول بِالدَّفْنِ وَتَبْقَى بِعَدَمِهِ (2) .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَائِطِهِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا وَتَطْيِيبُ مَوْضِعِهَا لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (3) .
وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَل حَصَاةً فَحَكَّهَا فَقَال: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ قِبَل وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى (4) وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى إِلْقَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَانَ إِلْقَاؤُهَا فَوْقَ الْحَصِيرِ أَهْوَنَ مِنْ إِلْقَائِهَا تَحْتَهُ لأَِنَّ الْحَصِيرَ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً.
__________
(1) حَدِيث: " الْبُزَاق فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَة وَكَفَّارَتهَا دَفْنهَا ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 511 - ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 390 ط - ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة وَنِيل الأَْوْطَار 2 / 357.
(3) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 3 / 393، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 202.
(4) حَدِيث: " رَأَى نُخَامَة فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ. . . . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 509 - ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 389 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالسِّيَاقُ لِلْبُخَارِيِّ.(40/126)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصِيرٌ فِيهِ يَدْفِنُهُ فِي التُّرَابِ وَلاَ يَتْرُكُهُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَصْقَ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ مَعَ حَكِّهِ. وَعَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ مُحْصِبًا فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْصُقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ، وَتَحْتَ قَدَمِهِ وَيَدْفِنُهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِهِ فَلاَ يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ بِحَالٍ: سَوَاءٌ كَانَ مَعَ نَاسٍ أَوْ وَحْدَهُ (2) .
نَخِيلٌ
انْظُرْ: زَكَاة
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 110، وَانْظُرْ مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 202.
(2) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 203.(40/127)
نَدْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّدْبُ بِفَتْحِ النُّونِ مَصْدَرٌ لِفِعْل نَدَبَ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ إِلَى الْفِعْل: وَمِنْهُ نَدْبُ الْمَيِّتِ، بِمَعْنَى: تَعْدِيدُ مَحَاسِنِهِ (1) .
وَالنَّدْبُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: هُوَ مَأْمُورٌ لاَ يَلْحَقُ بِتَرْكِهِ ذَمٌّ مِنْ حَيْثُ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَدَلٍ، وَقِيل: هُوَ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ، وَلاَ عِقَابَ فِي تَرْكِهِ (2) .
وَقِيل هُوَ: خِطَابٌ بِطَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَيُسَمَّى مَنْدُوبًا (3) .
2 - وَعَلَى هَذَا: فَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالتَّطَوُّعُ وَالنَّفْل وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ: أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَسُمِّيَ مَنْدُوبًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ نَدَبَ إِلَيْهِ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) رَوْضَة النَّاظِر 1 / 112، 131 وَبِهَامِشِهِ نُزْهَة الْخَاطِر ط مَكْتَبَة الْمَعَارِفِ بِالرِّيَاضِ.
(3) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.(40/127)
وَبَيَّنَ ثَوَابَهُ وَفَضِيلَتَهُ، مِنْ نَدَبَ الْمَيِّتَ: عَدَّدَ مَحَاسِنَهُ.
وَسُمِّيَ مُسْتَحَبًّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ يُحِبُّهُ وَيُؤْثِرُهُ.
وَسُمِّيَ نَفْلاً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْفَرْضِ وَيَزِيدُ بِهِ الثَّوَابُ.
وَسُمِّيَ تَطَوُّعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَاعِلَهُ يَفْعَلُهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمَرَ حَتْمًا (1) .
وَقِيل: النَّدْبُ أَيِ الْمَنْدُوبُ: هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ (2) .
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْدُوبِ مِنْ أَحْكَامٍ:
كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيِّونَ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ اسْتِدْعَاءٌ وَطَلَبٌ: وَالْمَنْدُوبُ مُسْتَدْعًى وَمَطْلُوبٌ، فَيَدْخُل فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ.
وَقَال قَوْمٌ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الأَْمْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال:
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 84، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي، وَشَرْح الْمَنْهَجِ وَحَاشِيَته لِلشَّيْخِ سُلَيْمَان الْجُمَل 1 / 478، وَتُحْفَة الْمِنْهَاج لاِبْنِ حَجَر الهيثمي 2 / 219.
(2) قَوَاعِد الْفِقْهِ، وَابْن عَابِدِينَ 1 / 70.(40/128)
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) ، وَالْمَنْدُوبُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
نَدْبُ الْمَيِّتِ:
4 - يَحْرُمُ نَدْبُ الْمَيِّتِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ، وَهِيَ: مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الطَّبَائِعِ الْحَسَنَةِ، كَقَوْلِهِمْ: وَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلاَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) ، لِحَدِيثِ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُول: وَاجَبَلاَهُ! وَاسَيِّدَاهُ! أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلاَّ وُكِل بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ؟ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نِيَاحَةٌ) .
40
__________
(1) سُورَة النُّور / 63
(2) نُزْهَة الْخَاطِر 1 / 114 - 115، وَالْمُسْتَصْفَى 1 / 75.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 356، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 3 / 139، وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 163.
(4) حَدِيث: " مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُول: وَاجْبُلاَهُ! وَاسَيِّدَاه. . . . ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 318 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ. وَقَال: حَسَن غَرِيب.(40/128)
نَدْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّدْرَةُ فِي اللُّغَةِ: نَدَرَ الشَّيْءُ نُدُورًا - مِنْ بَابِ قَعَدَ - سَقَطَ أَوْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَذَّ، وَمِنْهُ: نَادِرُ الْجَبَل، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَبْرُزُ، وَنَدَرَ فُلاَنٌ مِنْ قَوْمِهِ: خَرَجَ، وَنَدَرَ الْعَظْمُ مِنْ مَوْضِعِهِ: زَال، وَالاِسْمُ: النَّدْرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ نَادِرًا.
وَالنَّدْرَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ، وَنَدَرَ فُلاَنٌ فِي عِلْمٍ وَفَضْلٍ: تَقَدَّمَ وَقَل وُجُودُ نَظِيرِهِ، وَنَدَرَ الْكَلاَمُ نَدَارَةً - بِالْفَتْحِ - فَصُحَ وَجَادَ.
وَأَنْدَرَ: أَتَى بِنَادِرٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: النَّادِرُ مَا قَل وُجُودُهُ وَإِنْ لَمْ يُخَالِفِ الْقِيَاسَ، فَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ شَاذٌّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُطْلَقُ النَّدْرَةُ - بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.(40/129)
الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ لِتَصْفِيَةٍ، وَهَذَا تَفْسِيرُ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَالِبُ:
2 - الْغَالِبُ لُغَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَلَبَةِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَهْرُ، يُقَال: غَلَبَهُ: إِذَا قَهَرَهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْكَثْرَةُ أَيْضًا، يُقَال: غَلَبَ عَلَى فُلاَنٍ الْكَلاَمُ، أَيْ هُوَ أَكْثَرُ خِصَالِهِ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَيَيْنِ.
مَعْنَى الْقَهْرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنِ اشْتَرَى مِنَ الْمَغْنَمِ فِي بِلاَدِ الرُّومِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ (3) .
وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ، قَال الْمَوَّاقُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تُخْرَجُ مِنْ غَالَبِ عَيْشِ الْبَلَدِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّدْرَةِ وَالْغَالِبِ: التَّضَادُّ.
ب - الشَّاذُّ:
3 - الشَّاذُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ شَذَّ يَشِذُّ وَيَشَذُّ شُذُوذًا: إِذَا انْفَرَدَ عَنْ غَيْرِهِ، وَشَذَّ: نَفَرَ.
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 489.
(2) لِسَان الْعَرَبِ.
(3) الْمُغْنِي 8 / 446.
(4) التَّاج وَالإِْكْلِيل للمواق 2 / 367.(40/129)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: الشَّاذُّ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قِلَّةِ وُجُودٍ وَكَثْرَتِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّادِرَ مَا قَل وُجُودُهُ وَإِنْ لَمْ يُخَالِفِ الْقِيَاسَ، وَالشَّاذُّ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ (1) .
أَوَّلاً: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّدْرَةِ (بِمَعْنَى الْقِلَّةِ) مِنْ أَحْكَامٍ:
تَقْدِيمُ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ أَحْيَانًا:
4 - قَال الْقَرَافِيُّ: الأَْصْل اعْتِبَارُ الْغَالِبِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى النَّادِرِ وَهُوَ شَأْنُ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ كَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ وَالْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْحَال وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَكَمَنْعِ شَهَادَةِ الأَْعْدَاءِ وَالْخُصُومِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمُ الْحَيْفُ.
5 - وَقَدْ يُلْغِي الشَّارِعُ الْغَالِبَ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَيُقَدِّمُ النَّادِرَ عَلَيْهِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أ - إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْل الْعَقْدِ وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوْ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَهُ وَهُوَ النَّادِرُ، فَإِنَّ غَالِبَ الأَْجِنَّةِ لاَ تُوضَعُ إِلاَّ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنَّمَا الَّذِي يُوضَعُ فِي السِّتَّةِ سَقْطٌ فِي الْغَالِبِ، فَأَلْغَى
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالتَّعْرِيفَاتِ للجرجاني.(40/130)
الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ، وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ، وَجَعَلَهُ مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ، لِحُصُول السِّتْرِ عَلَيْهِمْ وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ (1) .
ب - الْغَالِبُ عَلَى النِّعَال مُصَادَفَةُ النَّجَاسَاتِ لاَسِيَّمَا نَعْلٌ مَشَى بِهَا سَنَةً، وَجَلَسَ بِهَا فِي مَوَاضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ سَنَةً وَنَحْوَهَا، فَالْغَالِبُ فِيهَا النَّجَاسَةُ، وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا مِنَ النَّجَاسَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِالصَّلاَةِ فِي النِّعَال، كُل ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَتَوْسِعَةٌ عَلَى الْعِبَادِ (2) .
ج - الْحُصْرُ وَالْبُسُطُ الَّتِي قَدِ اسْوَدَّتْ مِنْ طُول مَا قَدْ لُبِسَتْ، يَمْشِي عَلَيْهَا الْحُفَاةُ وَالصِّبْيَانُ، وَمَنْ يُصَلِّي وَمَنْ لاَ يُصَلِّي، الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهَا لِلنَّجَاسَةِ.
وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى حَصِيرٍ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُول مَا لُبِسَ بَعْدَ نَضْحِهِ بِالْمَاءِ (3) ،. وَالنَّضْحُ لاَ يُزِيل النَّجَاسَةَ بَل يَنْشُرُهَا، فَقَدَّمَ الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ (4) .
__________
(1) الْفُرُوق للقرافي 4 / 104.
(2) الْفُرُوق 4 / 105.
(3) حَدِيث صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ قَدِ اسْوَدَّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 488 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 457 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك.
(4) الْفُرُوق 4 / 106.(40/130)
د - فِي بَابِ الصَّلاَةِ الْغَالِبُ مُصَادَفَةُ الْحُفَاةِ النَّجَاسَةَ وَلَوْ فِي الطُّرُقَاتِ وَمَوَاضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ الشَّرْعُ صَلاَةَ الْحَافِي كَمَا جَوَّزَ لَهُ الصَّلاَةَ بِنَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْل رِجْلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَمْشِي حَافِيًا وَلاَ يَعِيبُ ذَلِكَ فِي صَلاَتِهِ، لأَِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَعْلِهِ (1) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَفَاءَ أَخَفُّ فِي تَحَمُّل النَّجَاسَةِ مِنَ النِّعَال، فَقَدَّمَ الشَّارِعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ (2) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ وَغَيْرِهَا: وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلِصَاحِبِ الشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ فِي شَرْعِهِ مَا شَاءَ وَيَسْتَثْنِي مِنْ قَوَاعِدِهِ مَا شَاءَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ قَصَدَ إِثْبَاتَ حُكْمِ الْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ أَنْ يَنْظُرَ هَل ذَلِكَ الْغَالِبُ مِمَّا أَلْغَاهُ الشَّرْعُ أَمْ لاَ وَحِينَئِذٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْغَالِبِ كَيْفَ كَانَ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَخِلاَفُ الإِْجْمَاعِ (3) . 50
__________
(1) حَدِيث صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَعْلِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 494 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 391 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك.
(2) الْفُرُوق 4 / 106.
(3) الْفُرُوق 4 / 107.(40/131)
إِلْغَاءُ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ مَعًا:
6 - قَدْ يُلْغِي الشَّارِعُ النَّادِرَ وَالْغَالِبَ مَعًا رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أ - شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الأَْمْوَال إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ جِدًّا: الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّرْعُ صِدْقَهُمْ وَلاَ قَضَى بِكَذِبِهِمْ، بَل أَهْمَلَهُمْ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَرَحْمَةً بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْل فَقَبِلَهُمْ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ.
ب - شَهَادَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ فِي أَحْكَامِ الأَْبْدَانِ: الْغَالِبُ صِدْقُهُنَّ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُنَّ لاَ سِيَّمَا مَعَ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ أَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صِدْقَهُنَّ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَلاَ حَكَمَ بِكَذِبِهِنَّ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) .
ج - حَلِفُ الْمُدَّعِي الطَّالِبِ وَهُوَ مِنْ أَهْل الْخَيْرِ وَالصَّلاَحِ: الْغَالِبُ صِدْقُهُ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ، وَلَمْ يَقْضِ الشَّارِعُ بِصِدْقِهِ فَيَحْكُمَ لَهُ بِيَمِينِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
د - شَهَادَةُ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الأَْبْدَانِ: الْغَالِبُ صِدْقُهُ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ، وَلَمْ يَحْكُمِ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ لُطْفًا بِالْعِبَادِ وَلُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ،وَلَمْ يُكَذِّبْهُ.
هـ - حُكْمُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَدْلٌ مُبَرِّزٌ
__________
(1) الْفُرُوق 4 / 109.(40/131)
مِنْ أَهْل التَّقْوَى وَالْوَرَعِ: الْغَالِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا حَكَمَ بِالْحَقِّ وَالنَّادِرُ خِلاَفُهُ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِبُطْلاَنِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا (1) .
إِلْحَاقُ النَّادِرِ بِالْغَالِبِ:
7 - ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ عُنْوَانَ (النَّادِرُ هَل يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ) وَقَسَّمَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَلْحَقُ قَطْعًا، كَمَنْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ الأَْبْكَارِ قَطْعًا فِي الاِسْتِئْذَانِ.
الثَّانِي: مَا لاَ يَلْحَقُ قَطْعًا كَالإِْصْبَعِ الزَّائِدَةِ لاَ تَلْحَقُ بِالأَْصْلِيَّةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ قَطْعًا، وَنِكَاحُ مَنْ بِالْمَشْرِقِ مَغْرِبِيَّةً لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ.
الثَّالِثُ: مَا يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّادِرِ مِنَ الْفَرْجِ.
الرَّابِعُ: مَا لاَ يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَالأَْشْيَاءِ الَّتِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
النَّادِرُ إِذَا لَمْ يَدُمْ يَقْتَضِي الْقَضَاءَ:
8 - مَثَّل الزَّرْكَشِيُّ لِذَلِكَ بِالْمَرْبُوطِ عَلَى خَشَبَةٍ بِأَنَّهُ يُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَالْمُشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي سَفَرِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ وَاسْتَثْنَى صُورَةَ الصَّلاَةِ فِي حَالَةِ
__________
(1) الْفُرُوق 4 / 109، 110.
(2) الْمَنْثُور فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيّ 3 / 243، 244.(40/132)
الْمُسَايَفَةِ (الْحَرْبِ) أَرْكَانُهَا مُخْتَلَّةٌ وَلاَ قَضَاءَ وَهِيَ عَلَى خِلاَفِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ هُوَ نَادِرٌ لاَ يَدُومُ وَلاَ بَدَل فِيهِ، وَلَكِنَّهُ رُخْصَةٌ مُتَلَقَّاةٌ (1) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا (2)
النَّادِرُ إِذَا دَامَ يُعْطَى حُكْمَ الْغَالِبِ:
9 - مَثَّل الزَّرْكَشِيُّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ لاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ مَعَ الْحَدَثِ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا إِلاَّ أَنَّهُ يَدُومُ، وَيَجُوزُ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ تَلْحَقِ الْمُسَافِرَ مَشَقَّةٌ، وَمِنْهُ أَثَرُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لأَِنَّهُ يَدُومُ (3) .
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ:
إِحْدَاهَا: الشُّعُورُ الَّتِي فِي الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَتْ، وَكَثَافَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً إِلاَّ أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ دَامَتْ، وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِالْغَالِبِ حَتَّى يَكْفِيَ غَسْل الظَّاهِرِ.
الثَّانِيَةُ: فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ مِنَ الاِسْتِحَاضَةِ قَوْلاَنِ، كَالْمَذْيِ لأَِنَّهَا نَادِرَةٌ، كَذَا قَال النَّوَوِيُّ، وَاسْتَشْكَل الْخِلاَفَ لأَِنَّهَا تَدُومُ وَالنَّادِرُ إِذَا دَامَ الْتَحَقَ بِالْغَالِبِ، وَكَانَ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ.
__________
(1) الْمَنْثُور 3 / 244.
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 239
(3) الْمَنْثُور 3 / 244، 245.(40/132)
الثَّالِثَةُ: دَمُ الْبَوَاسِيرِ نَادِرٌ، وَإِذَا وَقَعَ دَامَ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ حَتَّى يَجُوزَ الاِسْتِنْجَاءُ مِنْهُ بِالْحَجَرِ فِي الأَْظْهَرِ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ آخَرُ لِلإِْنْسَانِ وَنَقَضْنَا بِالْخَارِجِ مِنْهُ، فَهَل يُجْزِئُ فِيهِ الْحَجَرُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ، لأَِنَّهُ نَادِرٌ، وَالاِقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ فَلاَ يَكُونُ فِي مَعْنَى السَّبِيلَيْنِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ دَامَ (1) .
النَّدْرَةُ فِي السَّلَمِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ:
10 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا نَدَرَ وُجُودُهُ كَلَحْمِ الصَّيْدِ بِمَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ فِيهِ لاِنْتِفَاءِ الْوُثُوقِ بِتَسْلِيمِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ السَّلَمُ حَالًّا، وَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِمَوْضِعٍ يَنْدُرُ فِيهِ صَحَّ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَال الشَّبْرَامَلَّسِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الصِّحَّةِ خِلاَفًا لِصَاحِبِ الاِسْتِقْصَاءِ.
وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ كَذَلِكَ فِيمَا لَوِ اسْتَقْصَى وَصْفَهُ الْوَاجِبَ ذِكْرُهُ فِي السَّلَمِ عَزَّ وُجُودُهُ كَاللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْحَجْمِ وَالْوَزْنِ وَالشَّكْل وَالصَّفَاءِ، وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الأُْمُورِ نَادِرٌ.
__________
(1) الْمَرْجِع السَّابِق.(40/133)
كَمَا لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي جَارِيَةٍ وَلَوْ قَلَّتْ صِفَاتُهَا كَزِنْجِيَّةٍ وَأُخْتِهَا أَوْ وَلَدِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ شَاةٍ وَسَخْلَتِهَا لِنُدْرَةِ اجْتِمَاعِهِمَا مَعَ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي أَوِزَّةٍ وَأَفْرَاخِهَا أَوْ دَجَاجَةٍ كَذَلِكَ وَلَوْ مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ - خِلاَفًا لِلأَْذْرَعِيِّ - إِذْ يَعِزُّ وُجُودُ الأُْمِّ وَأَوْلاَدِهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ كَاللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ كِبَرًا خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يُوجَدُ فِي وَقْتِ حُلُولِهِ إِلاَّ نَادِرًا كَالسَّلَمِ فِي الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهِ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ غَالِبًا عِنْدَ وُجُوبِهِ (3) .
الْقِرَاضُ فِي نَادِرِ الْوُجُودِ:
11 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِرَبِّ الْقِرَاضِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِل شِرَاءَ نَوْعٍ يَنْدُرُ وُجُودُهُ كَالْخَيْل الْبُلْقِ وَالْيَاقُوتِ الأَْحْمَرِ، وَالْخَزِّ الأَْدْكَنِ، لأَِنَّ النَّادِرَ قَدْ لاَ يَجِدُهُ، قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ:
__________
(1) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 4 / 198، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 110.
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 3 / 215.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 303.(40/133)
أَفْهَمُ كَلاَمَ النَّوَوِيِّ أَنَّ النَّوْعَ إِذَا لَمْ يَنْدُرُ وُجُودُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ كَانَ يَنْقَطِعُ كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لاِنْتِفَاءِ التَّعْيِينِ، قَال: وَكَذَا إِنْ نَدَرَ وَكَانَ بِمَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ غَالِبًا، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، لَكِنْ لَوْ نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ صَحَّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل شِرَاءَ مَا يَتَعَذَّرُ لِقِلَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ وَقَعَ وَفَاتَ الْقِرَاضُ بِالْعَمَل فَإِنَّهُ يُفْسَخُ، وَفِيهِ قِرَاضُ الْمِثْل (2) .
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا شَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لاَ يَعُمُّ وُجُودُهُ كَالْيَاقُوتِ الأَْحْمَرِ وَالْخَيْل الْبُلْقِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، لأَِنَّهَا مُضَارَبَةٌ خَاصَّةٌ لاَ تَمْنَعُ الرِّبْحَ بِالْكُلِّيَّةِ فَصَحَّتْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَتَّجِرَ إِلاَّ فِي نَوْعٍ يَعُمُّ وُجُودُهُ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِنَوْعٍ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَالْوَكَالَةِ (3) .
النَّدْرَةُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ:
12 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ إِذَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ فِي كَمْ مِنَ الأَْيَّامِ تُصَدَّقُ إِذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تُصَدَّقُ فِي
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 311، 312.
(2) الشَّرْح الصَّغِير 3 / 688.
(3) الْمُغْنِي 5 / 68، 69.(40/134)
أَقَل مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُصَدَّقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَل كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيْضِ، وَحَيْضُهَا أَقَل الْحَيْضِ ثَلاَثَةً، وَطُهْرُهَا أَقَل الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَثَلاَثُ مَرَّاتٍ ثَلاَثَةٌ يَكُونُ تِسْعَةً، وَطُهْرَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلاَثِينَ، فَلِهَذَا صَدَقَتْ فِي تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ يَوْمًا، لأَِنَّهَا أَمِينَةٌ، فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ يَجِبُ قَبُول خَبَرِهَا.
لَكِنِ السَّرَخْسِيُّ قَال: لاَ مَعْنَى لِمَا قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، لأَِنَّهُ لاَ احْتِمَال لِتَصْدِيقِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلاَّ بَعْدَ أُمُورٍ كُلُّهَا نَادِرَةٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الإِْيقَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَل مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا أَقَل مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَمِنْهَا أَنْ لاَ تُؤَخِّرَ الإِْخْبَارَ عَنْ سَاعَةِ الاِنْقِضَاءِ.
وَالأَْمِينُ إِذَا أَخْبَرَ بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ إِلاَّ بِأُمُورٍ هِيَ نَادِرَةٌ لاَ يُصَدَّقُ، كَالْوَصِيِّ إِذَا قَال أَنْفَقْتُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لاَ يُصَدَّقُ، وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفَقَةً فَتُسْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُحْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُتْلَفَ، فَلاَ يُصَدَّقُ لِكَوْنِ هَذِهِ الأُْمُورِ نَادِرَةً فَكَذَلِكَ هُنَا (1) .
__________
(1) الْمَبْسُوط لِلسَّرَخْسِيِّ 3 / 217، 218.(40/134)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يَنْدُرُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا كَالشَّهْرِ لِجَوَازِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوَّل لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ وَهِيَ طَاهِرٌ، فَيَأْتِيهَا الْحَيْضُ وَيَنْقَطِعُ قَبْل الْفَجْرِ، ثُمَّ يَأْتِيهَا لَيْلَةَ السَّادِسَ عَشَرَ وَيَنْقَطِعُ قَبْل الْفَجْرِ أَيْضًا، ثُمَّ يَأْتِيهَا آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ بَعْدَ الْغُرُوبِ، لأَِنَّ الْعِبْرَةَ بِالطُّهْرِ فِي الأَْيَّامِ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ بُدَّ مِنْ سُؤَال النِّسَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ شَهِدْنَ لَهَا بِذَلِكَ، أَيْ شَهِدْنَ أَنَّ النِّسَاءَ يَحِضْنَ لِمِثْل هَذَا، فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْهُ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ لاَ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهَا لاَ غَالِبًا وَلاَ نَادِرًا فَلاَ تُصَدَّقُ، وَلاَ يُسْأَل النِّسَاءُ فِي ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّدْرَةِ (بِمَعْنَى الْمَعْدِنِ) مِنْ أَحْكَامٍ:
13 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ النَّدْرَةِ الْخُمْسُ كَالرِّكَازِ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِدُهَا حُرًّا أَمْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَبِيًّا أَمْ بَالِغًا، وَسَوَاءٌ بَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لاَ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَيَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الرِّكَازِ، لأَِنَّ الرِّكَازَ عِنْدَهُ: مَا وُجِدَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 2 / 422، 423.(40/135)
فِضَّةٍ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ مُخَلَّصًا، سَوَاءٌ دُفِنَ فِيهَا أَوْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الدَّفْنِ.
وَعِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ رُبْعَ الْعُشْرِ لأَِنَّ ابْنَ نَافِعٍ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الْمَعْدِنِ، لأَِنَّ الرِّكَازَ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ مُخْتَصٌّ بِمَا دَفَنَهُ آدَمِيٌّ، وَيَكُونُ مَصْرِفُهَا مَصْرِفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ.
وَقَال ابْنُ سُحْنُونٍ: إِنْ قَلَّتِ النَّدْرَةُ عَنِ النِّصَابِ فَلاَ تُخَمَّسُ.
وَالنَّدْرَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ تَدْخُل فِي الْمَعْدِنِ أَوِ الرِّكَازِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (رِكَازٍ ف 10، مَعْدِنٍ ف 6) .
نَدَمٌ
انْظُرْ: تَوْبَةٌ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 1 / 489، 490.(40/135)
نَذْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّذْرُ لُغَةً: هُوَ النَّحْبُ، وَهُوَ مَا يَنْذِرُهُ الإِْنْسَانُ فَيَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ نَحْبًا وَاجِبًا، يُقَال: نَذَرَ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ كَذَا، يَنْذِرُ، وَيَنْذُرُ، نَذْرًا وَنُذُورًا، كَمَا يُقَال: أُنْذِرُ وَأَنْذِرُ نَذْرًا، إِذَا أَوْجَبْتَ عَلَى نَفْسِكَ شَيْئًا تَبَرُّعًا، مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَالنَّذْرُ اصْطِلاَحًا: إِلْزَامٌ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْقَوْل شَيْئًا غَيْرَ لاَزِمٍ عَلَيْهِ بِأَصْل الشَّرْعِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَرْضُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الإِْيجَابُ، يُقَال: فَرَضَ الأَْمْرَ: أَوْجَبَهُ، وَفَرَضَ عَلَيْهِ:
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع عَنْ مَتْن الإِْقْنَاع 6 / 273، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 249، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 354، وَالاِخْتِيَار 4 / 76 - 77، وَالْبَدَائِع 5 / 82.(40/136)
كَتَبَهُ عَلَيْهِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُثَابُ الشَّخْصُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْفَرْضِ: أَنَّ النَّذْرَ أَوْجَبَهُ الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْفَرْضُ وَجَبَ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ.
ب - التَّطَوُّعُ:
3 - التَّطَوُّعُ فِي اللُّغَةِ: التَّبَرُّعُ، يُقَال تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ تَبَرَّعَ بِهِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ طَاعَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالنَّذْرِ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ الْتِزَامٌ بِالْفِعْل، بِخِلاَفِ التَّطَوُّعِ فَلاَ الْتِزَامَ فِيهِ.
ج - الْيَمِينُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْحَلِفُ. لأَِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا ضَرَبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينَهُ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ (5) .
وَالْيَمِينُ اصْطِلاَحًا: تَحْقِيقُ أَمْرٍ غَيْرِ ثَابِتٍ، مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلاً، نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، مُمْكِنًا أَوْ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 102، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 83.
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 411.
(5) الْمِصْبَاح الْمُنِير.(40/136)
مُمْتَنِعًا، مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَال أَوِ الْجَهْل بِهِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ النَّذْرِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا كَانَ طَاعَةً مِنْهُ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِآيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (3) وَمِنْهَا مَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ الأَْبْرَارِ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (4) .
وَمَا قَالَهُ جَل شَأْنُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 320.
(2) الْهِدَايَة وَفَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة 4 / 26 - 27، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 66 - 67 وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883، 2888، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج ووالإكليل 3 / 318، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي عَلَيْهِ 3 / 55، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300 - 301، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، 221 - 222، وَالْمُغْنِي 9 / 1 - 2، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) سُورَة الإِْنْسَانِ / 7(40/137)
وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (1) وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2) وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ تَرَى؟ قَال: اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (3) .
وَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 75 - 77
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 581 ط السَّلَفِيَّة) .
(3) حَدِيث: " إِنِّي نَذَرْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ. . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 284 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1277 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَالرِّوَايَة الأُْولَى لِمُسْلِم وَالثَّانِيَة لِلْبُخَارِيِّ.(40/137)
السِّمَنُ (1) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ (الْحَفِيدُ) اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْقُرَبِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ (2) .
حُكْمُ النَّذْرِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ النَّذْرِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ النَّذْرَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ تَفْصِيلٌ فِي نَوْعِ النَّذْرِ الَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِقُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ - وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا كَانَ وَمَضَى - مُسْتَحَبٌّ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ.
وَقَال ابْنُ الرِّفْعَةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي نَذْرِ
__________
(1) حَدِيث: " خَيْر أُمَّتِي قَرْنِيّ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 7 / 3 ط السَّلَفِيَّة) .
(2) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَالْمُغْنِي 9 / 1.(40/138)
التَّبَرُّرِ دُونَ غَيْرِهِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول. أَمَّا الْكِتَابُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الأَْبْرَارِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (4)
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ يُتَوَسَّل بِهِ إِلَى الْقُرَبِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، وَلِلْوَسَائِل حُكْمُ الْمَقَاصِدِ، فَيَكُونُ النَّذْرُ قُرْبَةً (5) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَوْعٍ مِنَ الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ الَّتِي لَهُ رُخْصَةُ تَرْكِهَا، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ، وَهِيَ نَيْل الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالسَّعَادَةِ الْعُظْمَى فِي
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 66، وَالْمُقْدِمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ 1 / 404، 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل عَلَى مُخْتَصَرِ سَيِّدِي خَلِيل 3 / 319، وَزَاد الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ 4 / 490، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 354.
(2) سُورَة الإِْنْسَانِ / 7
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 5) .
(5) زَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 491.(40/138)
دَارِ الْكَرَامَةِ، وَطَبْعُهُ لاَ يُطَاوِعُهُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، بَل يَمْنَعُهُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِي التَّرْكِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عَنْ رُخْصَةِ التَّرْكِ، وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ وَذَلِكَ يَحْصُل بِالنَّذْرِ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحْصِيل خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ التَّرْكِ، فَيَحْصُل مَقْصُودُهُ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي نَوْعِ النَّذْرِ الَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ.
إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي النَّذْرِ الْمُكَرَّرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَى النَّاذِرِ فِعْلُهُ كَصَوْمِ كُل خَمِيسٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلَى النَّاذِرِ فِي أَوْقَاتٍ قَدْ يَثْقُل عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِيهَا، فَيَفْعَلُهُ بِالتَّكْلِيفِ مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ وَخَالِصِ نِيَّةٍ.
وَهُوَ قَوْل الْبَاجِيِّ وَابْنِ شَاسٍ فِي النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ، لأَِنَّهُ لَمْ تَتَمَحَّضْ فِيهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَل سَلَكَ النَّاذِرُ فِيهِ سَبِيل الْمُعَاوَضَاتِ وَأَبَاحَهُ ابْنُ رُشْدٍ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ النَّذْرَ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883.(40/139)
حُصُول غَرَضٍ عَاجِلٍ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَل ذَلِكَ الْغَرَضَ لأَِجْل النَّذْرِ، فَإِقْدَامُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ مُحَرَّمٌ. وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ.
وَنَقَل الْقَوْل بِكَرَاهَةِ النَّذْرِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنْ فُقَهَائِهِمْ: الأَْصَحُّ اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِنَذْرِ اللَّجَاجِ (1) لأَِنَّهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيل، بِخِلاَفِ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَى طَاعَةٍ، وَالْوَسَائِل تَأْخُذُ حُكْمَ الْغَايَاتِ، وَلأَِنَّ النَّاذِرَ يُثَابُ عَلَى نَذْرِهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ.
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ. قَال الْبُهُوتِيُّ: النَّذْرُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ مَكْرُوهٌ وَلَوْ عِبَادَةً. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مُبَاحٌ (2) .
__________
(1) نَذْر اللَّجَاجِ هُوَ: أَنْ يَمْنَعَ النَّاذِر نَفْسه مِنْ فِعْلٍ أَوْ يَحُثَّهَا عَلَيْهِ بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَة بِالْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَيُقَال فِيهِ: يَمِين اللَّجَاج وَالْغَضَب، وَيَمِين الْغَلْق، وَنَذَرَ الْغَلْق (رَوْضَة الطَّال وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219) .
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404 - 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319 - 320، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 93 - 94، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 218، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 490 - 491، وَالْمُغْنِي 9 / 1 وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273، وَالإِْنْصَاف 11 / 117.(40/139)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ، وَقَال: إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيل (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْهُ: نَهْيُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ حُصُول غَرَضٍ مُعَجَّلٍ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَل ذَلِكَ الْغَرَضَ لأَِجْل النَّذْرِ فَيَكُونُ الإِْقْدَامُ عَلَى النَّذْرِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مُحَرَّمًا. وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَعَدَمُ فِعْلِهِمْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 499 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1261 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 319 - 320، وَالْمُغْنِي 9 / 1، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(3) الْمُغْنِي 9 / 1، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.(40/140)
صِيغَةُ النَّذْرِ:
7 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ فِي صِيغَةِ النَّذْرِ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ التَّعْبِيرُ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرًا بِالاِلْتِزَامِ بِالْمَنْذُورِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي النَّذْرِ هُوَ اللَّفْظُ، إِذْ هُوَ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ النَّاقِل لِذَلِكَ الْمَنْدُوبِ الْمَنْذُورِ إِلَى الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ، فَلاَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ النِّيَّةُ وَحْدَهَا بِدُونِهِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْكِتَابَةُ الْمَقْرُونَةُ بِنِيَّةِ النَّذْرِ، أَوْ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ الدَّالَّةِ أَوِ الْمُشْعِرَةِ بِالْتِزَامِ كَيْفِيَّةِ الْعُقُودِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ فَصَرَّحَ فِي صِيغَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ أَوِ الْكِتَابِيَّةِ بِلَفْظِ (النَّذْرِ) أَنَّهُ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَيَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي صِيغَةِ النَّذْرِ إِذَا خَلَتْ مِنْ لَفْظِ (النَّذْرِ) كَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُل نَذْرًا، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ أَمْ لاَ؟ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ، إِذَا أَتَى بِصِيغَةٍ تُفِيدُ الْتِزَامَهُ بِذَلِكَ، رُوِيَ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 66، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 317، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 293، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.(40/140)
هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذْ قَال فِي رَجُلٍ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْكَعْبَةِ لِلَّهِ. هَذَا نَذَرَ فَلْيَمْشِ، وَقَال بِمِثْل قَوْلِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ (1) .
وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ: إِنَّ عَدَمَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ فِي الصِّيغَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي لُزُومِ النَّذْرِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالأَْقَاوِيل الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ النَّذْرِ النَّذْرَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ النَّذْرِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ مَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ النَّذْرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ " عَلَيَّ " فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلإِْيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا قَال عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ، فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَال: هُوَ عَلَيَّ نَذْرٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ النَّذْرَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2862، 2869، 2874، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 317 - 318، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 333، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 0 22 - 221، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 492، وَالْمُغْنِي 9 / 33، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318 وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422.
(3) الْمُغْنِي 9 / 24.(40/141)
بْنِ مُحَمَّدٍ (1)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ شَيْءٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاذِرِ إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِجِهَةِ الْوُجُوبِ (2) .
أَقْسَامُ النَّذْرِ:
8 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّذْرَ تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةً: فَالْحَنَفِيَّةُ قَسَّمُوا النَّذْرَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: النَّذْرُ الْمُسَمَّى، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ النَّاذِرُ بِمَا نَذَرَ مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلاَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَهَذَا النَّذْرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ أَوْ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ بِأَنْ يُوجِبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ.
وَقَدْ يَكُونُ نَذْرًا مُقَيَّدًا بِحُصُول شَيْءٍ أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، بِأَنْ يُوجِبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطِ حُصُول شَيْءٍ هُوَ مِنْ فِعْل النَّاذِرِ، وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا، أَوْ مِنْ فِعْل غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، أَوْ مِنْ فِعْل اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فِيهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ مَخْرَجَهُ مِنَ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 317 - 318، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَالْمُغْنِي 9 / 33.
(2) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422.(40/141)
الأَْعْمَال (1) .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ الإِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: نَذْرٌ مُطْلَقٌ، وَنَذْرٌ مُقَيَّدٌ، أَوْ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَبِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مَخْرَجٌ مِنَ الأَْعْمَال وَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا، نَذْرٌ مُسَمًّى وَنَذْرٌ مُبْهَمٌ بِمَفْهُومِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ الْغَرَضِ مِنَ النَّذْرِ إِلَى قِسْمَيْنِ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالْقُرْبَةِ، وَهُوَ يَتَنَوَّعُ بِاعْتِبَارِ إِطْلاَقِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ عَلَى شَرْطٍ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّوْعُ الأَْوَّل: نَذْرٌ مُطْلَقٌ يَلْتَزِمُ فِيهِ النَّاذِرُ النَّذْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَرْطٍ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نَذْرُ الْمُجَازَاةِ، وَهُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ فِيهِ النَّاذِرُ قُرْبَةً فِي مُقَابِل حُدُوثِ نِعْمَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ بَلِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاذِرُ فِيهِ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ وَيَحُثُّهَا عَلَيْهِ، بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ، وَيُقَال فِيهِ: يَمِينُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ،
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26 - 27، بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، 2883، 2887، 2888.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 56، 99.(40/142)
وَيَمِينُ الْغَلَقِ وَنَذْرُ الْغَلَقِ.
كَمَا قَسَّمُوا النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ إِلَى أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: نَذْرُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا يُعَدُّ طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالطَّاعَةُ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ: النَّوْعُ الأَْوَّل: الْوَاجِبَاتُ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانِ وَعَدَمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْمَقْصُودَةُ وَهِيَ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ بِإِيقَاعِهَا عِبَادَةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالٌ وَأَخْلاَقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا، وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَيُنَال الثَّوَابُ فِيهَا: كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوِ الْقَتْل أَوْ تَرْكِ الصَّلاَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، كَالأَْكْل(40/142)
وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ قَسَّمَ النَّذْرَ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَنَذْرُ الْوَاجِبِ، وَنَذْرُ الْمُسْتَحِيل، وَمُثِّل لِهَذَا الأَْخِيرِ بِمَنْ نَذَرَ صَوْمَ أَمْسِ. وَهِيَ فِي مُجْمَلِهَا لاَ تَخْرُجُ عَمَّا عَرَفْتَ بِهِ قَبْلاً.
وَقَدْ قَسَّمَ الْبُهُوتِيُّ النَّذْرَ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ هِيَ: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ، وَنَذْرُ الْمُبَاحِ، وَنَذْرُ الْمَكْرُوهِ - وَقَدْ مَثَّل لَهُ بِنَذْرِ الطَّلاَقِ أَوْ تَرْكِ السُّنَّةِ - وَنَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَنَذْرُ التَّبَرُّرِ (2) .
وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ كُل قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ النَّذْرِ: أ - نَذْرُ اللَّجَاجِ:
9 - نَذْرُ اللَّجَاجِ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاذِرُ فِيهِ نَفْسَهُ مِنْ فِعْل شَيْءٍ أَوْ يَحْمِلُهَا عَلَيْهِ، بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ بِالْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْل النَّاذِرِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنًا، أَوْ لَمْ أَضْرِبْهُ، فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. أَوْ إِنْ لَمْ أَكُنْ صَادِقًا فَعَلَيَّ صَوْمٌ (3) .
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 293، 298، 300، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 220، 224.
(2) الْمُغْنِي 9 / 2 - 6، وَالْكَافِي 4 / 417 - 422، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274 - 276.
(3) شَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 92، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294.(40/143)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ فِي هَذَا النَّوْعِ.
أ - فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، أَوْ يُكَفِّرُ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - إِذْ رَجَعَ إِلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُول بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ - وَمَحَل هَذَا التَّخْيِيرِ إِذَا كَانَ النَّاذِرُ لاَ يُرِيدُ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْل النَّوَوِيِّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ
__________
(1) الْهِدَايَة وَالْعِنَايَة وَفَتْح الْقَدِير 4 / 27 - 28، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 69، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 9 21، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493، وَالْكَافِي 4 / 417، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " لاَ نُذُرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتَهُ كَفَّارَة يَمِين " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 103 ط الْحَلَبِيّ) وَأَعُلْهُ بِأَنَّ الزُّهْرِيّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي سَلَمَة.(40/143)
يَمِينٍ (1) ، وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ كَالْيَمِينِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَقُّقِ الشَّرْطِ أَنْ يُخَيَّرَ النَّاذِرُ فِيهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، أَوْ بِالْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَل الْحَدِيثُ كَفَّارَةَ هَذَا النَّذْرِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ يُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْتِزَامُ قُرْبَةٍ، وَيُشْبِهُ الْيَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَقْصُودَهُ مَقْصُودُ الْيَمِينِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مُوجِبِهِمَا، وَلاَ سَبِيل كَذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِهِمَا، فَتَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ تَخْيِيرَ النَّاذِرِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّذْرِ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ أَجْمَعُ لِلصِّفَتَيْنِ مَعًا، فَإِنِ اعْتُبِرَ نَذْرًا خَرَجَ النَّاذِرُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِاخْتِيَارِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ يَمِينًا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِاخْتِيَارِ التَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِكُل حَالٍ مِنْهُمَا (3) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ، فَيَتَخَيَّرُ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نُذُرَ فِي غَضَب، وَكَفَّارَتَهُ كَفَّارَة يَمِين ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (7 / 28 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا ضَعِيفًا وَأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(3) الْكَافِي 4 / 417.(40/144)
النَّاذِرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ، وَيَمِيل إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيل وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ وَهُوَ الْمَنْذُورُ - فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ، كَالْعَبْدِ إِذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلاَهُ بِالْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَدَاءِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ لأَِنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (1) 11 - وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا سُمِّيَ فِي هَذَا النَّذْرِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (3) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ الأَْبْرَارِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (4) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ الآْيَتَيْنِ أَفَادَتَا
__________
(1) الْهِدَايَة وَالْعِنَايَة 4 / 27.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883، وَالْهِدَايَة وَالْعِنَايَة وَفَتْح الْقَدِير 4 / 27، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 405، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 3 / 92، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219.
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) سُورَة الإِْنْسَانِ(40/144)
وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَوِ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ، كَمَا أَفَادَتْ إِثْمَ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (1) وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أَسْلَمْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي (2) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ أَنَّهَا أَفَادَتْ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِنْ كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَذْرُ اللَّجَاجِ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْل مَا تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ وَلَيْسَ الْكَفَّارَةَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَالْمُتَصَرِّفُ أَوْقَعَهُ نَذْرًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ إِيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لاَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ فَقْره (5) .
(2) حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّابِ: " نَذَرَتْ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. . . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 687 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَأَصْله فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِقْرَة - (5) .
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2885.(40/145)
كَمَا قَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدِ الْتَزَمَ عِبَادَةً فِي مُقَابَلَةِ شَرْطٍ، فَتَلْزَمُهُ عِنْدَ وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ (1) .
وَأَضَافُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَال عِنْدَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا (2) .
12 - وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّاذِرَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَيَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ هَذَا بِالْكَفَّارَةِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ (4) وَوَجْهُ
__________
(1) زَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493.
(2) الْهِدَايَة وَفَتْح الْقَدِير 4 / 27، 28.
(3) التَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 316، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 92، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 492، وَالْكَافِي 4 / 417.
(4) سُورَة الْمَائِدَة / 89(40/145)
الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ أَنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ بِمَفْهُومِهِ السَّابِقِ يَمِينٌ، لأَِنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَنَذْرُ اللَّجَاجِ كَذَلِكَ، فَتَجِبُ فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (1) . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْهُمَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ أَفَادَا أَنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ تُجْزِئُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرُ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: حَدِيثُ عُقْبَةَ يُفِيدُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي النَّذْرِ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ النَّاذِرُ، وَلاَ كَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ جَزْمًا، فَتَعَيَّنَ حَمْل النَّذْرِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ (3) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى الاِمْتِنَاعُ عَنِ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَب. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ فَقْره (10) .
(2) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر كَفَّارَة الْيَمِينِ " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1265 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(3) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219(40/146)
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَحْصِيلُهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا النَّذْرِ، لأَِنَّ النَّاذِرَ إِنْ قَال: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ، فَقَدْ قَصَدَ الاِمْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيل الشَّرْطِ، وَإِنْ قَال: إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيل الشَّرْطِ، وَكُل ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْحِنْثِ، فَكَانَ هَذَا النَّذْرُ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَزِمَ النَّاذِرَ كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ (1)
ب - نَذْرُ الطَّاعَةِ:
13 - يُقْصَدُ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ الْتِزَامُ مَا يُعَدُّ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، أَوْ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ رَغِبَ فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَسَوَاءٌ نَذَرَ هَذَا مُطْلَقًا، أَوْ مُقَيَّدًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ.
أَوَّلاً: نَذْرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ:
14 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ: مَا شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2884.(40/146)
وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا. فَمَنْ نَذَرَ أَيًّا مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ، أَوْ فِي مُقَابِل نِعْمَةٍ اسْتَجْلَبَهَا، أَوْ نِقْمَةٍ اسْتَدْفَعَهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (2) الدَّال عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا.
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (3) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّ نَذْرَهُ هَذَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نَذَرَ مِثْل ذَلِكَ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ، فَدَل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ.
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 67 - 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864 - 2865، وَالْمُقدمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 55، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 494، 509، وَالْمُغْنِي 9 / 2، وَالْكَافِي 4 / 422، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 277.
(2) سُورَة الْحَجّ / 29
(3) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيع اللَّهَ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (5) .(40/147)
وَقَالُوا: إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ وَفَاءِ النَّاذِرِ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، سَوَاءٌ الْتَزَمَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، أَوِ الْتَزَمَهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةٍ حَدَثَتْ أَوْ نِقْمَةٍ ذَهَبَتْ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الإِْجْمَاعَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ (1)
ثَانِيًا: نَذْرُ الْقُرَبِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ:
15 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الْقُرَبِ: مَا لَمْ يُشْرَعْ عِبَادَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالٌ وَأَخْلاَقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا، وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِثْل: بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْتِزَامِهَا بِالنَّذْرِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِزَامُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعُمُومِ الآْيَاتِ الدَّالَّةِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَالْمُغْنِي 9 / 2.(40/147)
عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ وَبِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) فَقَدْ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِذَا كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمَنِ الْتَزَمَ قُرْبَةً مِنَ الْقُرَبِ السَّابِقَةِ بِالنَّذْرِ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ قَدْ رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْقُرَبِ وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَالْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ هَذِهِ الْقُرَبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَلْزَمَ النَّاذِرُ نَفْسَهُ أُضْحِيَةً أَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا أَوِ اعْتِكَافًا أَوْ عُمْرَةً، فَإِنَّ هَذِهِ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَتْ مِنَ الْفُرُوضِ (3)
__________
(1) الْحَدِيثَانِ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُمَا ف 5.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 235، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 509.
(3) الْمُغْنِي 9 / 3.(40/148)
وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ قُرْبَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّرِ فَتَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْتِزَامِهِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ، وَالَّذِي هُوَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْقُرَبَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ، فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ، إِذِ النَّذْرُ إِيجَابُ الْعَبْدِ، فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الإِْيجَابِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا إِيجَابَهُ فِي مِثْل مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّذْرِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْقُرَبَ لَيْسَتْ عَلَى أَوْضَاعِ الْعِبَادَاتِ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ (3)
ج - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ:
16 - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ: الْتِزَامُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ كَنَذْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ نَذْرِ الْقَتْل، أَوِ الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) الْمَصْدَر السَّابِق.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 4 286 - 2865، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 67، وَرَوْضَة الطالِبين 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 235.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2865، الاِخْتِيَار 4 / 77، وَالدَّرّ الْمُخْتَار 3 / 67، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 235.(40/148)
حَال الْحَدَثِ أَوْ ذَبْحِ الْوَلَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ. وَقَيَّدَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمَ انْعِقَادِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ قُرْبَةٍ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ جِهَةُ قُرْبَةٍ: كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ النَّذْرَ بِهِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ صَامَهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ قَال بِانْعِقَادِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ يَمِينًا، وَأَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ - وَالْحَال هَذِهِ - أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ كَالْحَانِثِ. قَال الطَّحَاوِيُّ: إِذَا أَضَافَ النَّذْرَ إِلَى الْمَعَاصِي كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُل فُلاَنًا كَانَ يَمِينًا، وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ بِهِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 93، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 55، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 223، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 494 - 495، وَالْمُغْنِي 9 / 3، وَالْكَافِي 4 / 419، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (5) .(40/149)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (1) ، وَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ (2) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الأَْحَادِيثِ هُوَ أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَ الْمَرْءُ بِالنَّذْرِ مَا يُعَدُّ مَعْصِيَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَمَا أَفَادَتْ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ بِمِثْل هَذَا النَّذْرِ، فَهَذَا هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهَا عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُدَامَةَ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ حِل الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ (3)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْمَعْقُول مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَحِل فِي حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا بِطَرِيقِ النَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ (4) ، وَبِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ هُوَ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَوُجُوبُ فِعْل الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ (5)
17 - وَإِذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُجْمِعِينَ عَلَى عَدَمِ حِل الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ النَّاذِرَ إِنْ وَفَّى بِهِ أَثِمَ وَلاَ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (10) .
(2) حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ: إِلاَّ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَة. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1263 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(3) الْمُغْنِي 9 / 3.
(4) الْمَصْدَر السَّابِق.
(5) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864.(40/149)
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَلَمْ يَفِ بِهَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) وَبِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: النَّذْرُ نَذْرَانِ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ وَفِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ وَلاَ وَفَاءَ فِيهِ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ (3)
__________
(1) رَدَّ الْمُحْتَارَ 3 / 68، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 423، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَالْمُغْنِي 9 /، 3، وَالْكَافِي 4 / 419، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 276
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (10) .
(3) حَدِيث: " النَّذْر نَذْرَانِ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. . . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (7 / 29 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10 / 70 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَضَعْف النَّسَائِيّ أَحَد رُوَاته.(40/150)
فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ بِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل مَعْصِيَةٍ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عَنْ يَمِينِهِ هَذَا، فَكَذَلِكَ - قِيَاسًا - إِذَا نَذَرَهَا (1)
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ، فَمَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ إِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ مَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (4) وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 5، وَالْكَافِي 4 / 419.
(2) الْمُغْنِي 9 / 4 - 5، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 276.
(3) حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِرٍ: " نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بِبَتّ اللَّه. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 79 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1264 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(4) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِك شَيْئًا. . . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 116 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: هَذَا حَدِيث حَسَن.(40/150)
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَلَمْ يَفِ بِهَا فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَل عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِل، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِل وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (3)
__________
(1) حَدِيث: فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِك شَيْئًا. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 597 - 598 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (4 / 302 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِم.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 55، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 423، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 495، وَالْمُغْنِي 9 / 4.
(3) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: بَيَّنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ. . . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 586 ط السَّلَفِيَّة) .(40/151)
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ أُسِرَتْ فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَرَكِبَتِ الْعَضْبَاءَ، وَنَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ، وَنَهَى عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ طَاعَةً وَلاَ مَعْصِيَةً مِنَ الْوُقُوفِ وَتَرْكِ الاِسْتِظْلاَل وَتَرْكِ الْكَلاَمِ، وَلَمْ يَأْمُرِ النَّاذِرَ بِكَفَّارَةٍ. كَمَا لَمْ يَأْمُرْ مَنْ نَذَرَتْ نَحْرَ الْعَضْبَاءِ بِكَفَّارَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ لأََمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا إِسْرَائِيل وَهَذِهِ الأَْنْصَارِيَّةَ بِالتَّكْفِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ (2) وَبِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ
__________
(1) حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ " أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ أَسَرَّتْ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1263 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْه اللَّهِ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 582 ط حِمْص) وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (2 / 185 ط الميمنية) .(40/151)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (1)
فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَذْرٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ مِثْل ذَلِكَ فَلاَ يَحِل لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةً فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامُ طَاعَةٍ، وَهَذَا الْتِزَامُ مَعْصِيَةٍ، وَلأَِنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَلاَ يُوجِبُ شَيْئًا عَقْلاً، كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ (2)
د - نَذْرُ الْمُبَاحِ:
18 - نَذْرُ الْمُبَاحِ: هُوَ نَذْرُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَصِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِهَا إِنْ قِيل بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
__________
(1) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 5) .
(2) الْمُغْنِي 9 / 4، الْكَافِي 4 / 419.
(3) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303.(40/152)
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَلاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالأَْوْلَى، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَل عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِل وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِل وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (2) وَبِحَدِيثِ: لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ (3) ، وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسُئِل نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ (4) .
وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَال: مَا
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224.
(2) حَدِيث: " مَرّه فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِل. . . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(3) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث أَنَس: " نَذَرَتِ امْرَأَة أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. . . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 111 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.(40/152)
بَال هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ. قَال: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ (1) فَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرٌ لاَ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَنَذْرُ الْمَشْيِ أَوِ الْوُقُوفِ أَوْ تَرْكِ الاِسْتِظْلاَل أَوِ الْكَلاَمِ لَيْسَ نَذْرًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْل هَذَا النَّذْرِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذِهِ الأُْمُورِ بِالنَّذْرِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ بِالْقُعُودِ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ بِالرُّكُوبِ، وَمَنْ نَذَرَ تَرْكَ الاِسْتِظْلاَل بِأَنْ يَسْتَظِل، وَمَنْ تَرَكَ الْكَلاَمَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُبَاحَ لاَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لاِسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، بَل يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ، وَإِلَيْهِ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ. . . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 78 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1264 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864.(40/153)
ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (1)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْهَا جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلاَ، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدِ الْتَزَمَتْ بِمُقْتَضَى هَذَا النَّذْرِ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ، وَأَنْ تُغَنِّيَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ رَدَّهُ اللَّهُ سَالِمًا مِنَ الْغَزْوِ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءُ عِنْدَ قُدُومِ الْغَائِبِ أَبَاحَهُ الْفُقَهَاءُ (3) ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْتَزَمَتْهُ بِالنَّذْرِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، وَأَنَّ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَفِيَ بِهِ إِنْ شَاءَ.
__________
(1) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318، وَالْمُغْنِي 9 / 5، وَالْكَافِي 4 / 418، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " إِنْ كُنْت نَذَرْت فَاضْرِبِي. . . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (5 / 620 - 621 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(3) الْبَحْر الرَّائِق 8 / 215، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 409، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 2 / 339، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 429، وَالْمُغْنِي 12 / 40، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 211، وَإِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 6 / 151، 154.(40/153)
وَقَالُوا: إِنَّ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الْمَرْءَ لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ بَرَّ بِفِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَذَرَهُ، لأََنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ (1) .
مَا يُوجِبُهُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمُبَاحِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ لِلْمُبَاحِ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ، وَفِيمَا إِذَا كَانَتْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أَمْ لاَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَلَمْ يَفِ بِهِ فَلاَ تَلْزَمُهُ كَثْرَةٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ الْمُبَاحِ بِالأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ.
وَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ (3) . وَكَذَلِكَ فَإِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ لاَ يُوجِبُ عَلَى النَّاذِرِ فِعْل مَا نَذَرَهُ فَلاَ يُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً، كَنَذْرِ الْمُسْتَحِيل (4) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ نَذْرٌ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 9.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 67، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 59، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224، وَالْمُغْنِي 9 / 5 وَالْكَافِي 4 / 418.
(3) الْمُغْنِي 9 / 4.
(4) الْمَصْدَر السَّابِق 9 / 5 - 6.(40/154)
تَعَالَى، فَلاَ يَلْزَمُ فِي تَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ كَفَّارَةٌ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَلَمْ يَفِ بِهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهَذَا وَجْهٌ مُرَجَّحٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال: لِتَمْشِ وَتَرْكَبْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (3) ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا (4) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ
__________
(1) حَاشِيَة الشبراملسي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ 8 / 224.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 496، وَالْمُغْنِي 9 / 5 وَالْكَافِي 4 / 418، وَالإِْنْصَاف 11 / 121.
(3) حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِرٍ: (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَة. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .(40/154)
النَّاذِرَتَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ قَدِ الْتَزَمَتَا بِمُبَاحٍ، وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَمَرَهُمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ عَلَى أَنْ تُكَفِّرَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي. وَذَكَرَ إِحْدَى خِصَال هَذِهِ الْكَفَّارَةِ - وَهُوَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ - فِي الْحَدِيثِ الأَْوَّل.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ، مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ تَرَكَهُ وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ (1) .
وَقَالُوا إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) وَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَفِي نَذْرِ الْمُبَاحِ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ (3) .
هـ - نَذْرُ الْوَاجِبِ:
20 - الْوَاجِبُ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ عِدَّةٍ، فَهُوَ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ أَفْرَادِهِ إِلَى وَاجِبٍ مُعَيَّنٍ وَوَاجِبٍ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 4 - 5.
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتَهُ. . . . ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 10) .
(3) الْكَافِي 4 / 418.(40/155)
مُخَيَّرٍ، وَبِحَسَبِ الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ إِلَى وَاجِبٍ مُوَسَّعٍ فِي وَقْتِهِ وَوَاجِبٍ مُضَيَّقٍ فِي وَقْتِهِ، وَبِحَسَبِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَى وَاجِبٍ عَلَى الأَْعْيَانِ وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْوَاجِبُ يُرَادِفُهُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا عِنْدُ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَرْضُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا وَالْوَاجِبُ هُوَ مَا كَانَ دَلِيلُهُ ظَنِّيًّا (1) .
وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ نَذْرِ الْوَاجِبِ: مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الأَْعْيَانِ، أَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ.
أَوَّلاً: نَذْرُ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ:
21 - نَذْرُ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ هُوَ نَذْرُ مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ عَيْنًا بِالنَّصِّ: كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعَدَمِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَعَدَمِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ وَمَا شَابَهَهَا لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ بِهَا وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ. سَوَاءٌ عُلِّقَ ذَلِكَ عَلَى حُصُول نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، أَوِ الْتَزَمَهُ النَّاذِرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ النَّذْرَ، وَمِثْل هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْتِزَامُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِالنَّذْرِ، كَأَحَدِ خِصَال الْكَفَّارَةِ (2) .
__________
(1) إِرْشَاد الْفُحُول للشوكاني ص 6.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 / 463، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 3 / 93، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 223 - 224 وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.(40/155)
وَقَدِ اسْتُدِل لِعَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِالْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ بِالْمَعْقُول.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلاَ مَعْنَى لاِلْتِزَامِهِ بِالنَّذْرِ، لأَِنَّ إِيجَابَ الْوَاجِبِ لاَ يُتَصَوَّرُ (1) ، وَقَالُوا: إِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ لاَ تَأْثِيرَ لِلنَّذْرِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ تَأْثِيرَ لِلنَّذْرِ فِيهَا لِوُجُوبِ تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى النَّاذِرِ بِالشَّرْعِ دُونَ النَّذْرِ (2) وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ وَالْمَنْذُورُ لَزِمَ النَّاذِرَ عَيْنًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ قَبْل النَّذْرِ وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ كَنَذْرِ الْمُحَال (3) .
ثَانِيًا: نَذْرُ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ:
22 - الْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، بِحَيْثُ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَإِذَا تَرَكُوا الْقِيَامَ بِهِ أَثِمُوا جَمِيعًا بِالتَّرْكِ، وَذَلِكَ مِثْل تَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَغَسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَالْجِهَادِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ الَّتِي لاَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ،
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 64 / 357.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404.
(3) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 223 - 224، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 495، وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَالْكَافِي 4 / 421، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.(40/156)
وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْتِزَامِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَى النَّاذِرِ أَدَاؤُهُ قَبْل النَّذْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْتِزَامِ النَّاذِرِ لَهُ بِالنَّذْرِ إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ قَبْل ذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، لأَِنَّ إِيجَابَ الْوَاجِبِ لاَ يُتَصَوَّرُ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَالطَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ لاَ تَأْثِيرَ لِلنُّذُورِ فِيهَا لِوُجُوبِ فِعْلِهَا بِالشَّرْعِ بِدُونِ نَذْرٍ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ، لِعَدَمِ تَصَوُّرِ انْعِقَادِهِ أَوِ الْوَفَاءِ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ
__________
(1) الإِْحْكَام فِي أُصُول الأَْحْكَامِ لِلآْمِدِي 1 / 141 - 142، 147.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 3 / 463، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882.(40/156)
عَلَى الْمُسْتَحِيل (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِزَامُ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول، فَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (3) . وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ فِيهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ الْتِزَامٌ بِمَا فِيهِ طَاعَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ صِحَّةَ هَذَا النَّذْرِ، وَوُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَوَجْهُهُ أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إِذَا نَذَرَ الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الإِْمَامَ أَوْ تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ وَالْمَوَاثِيقَ تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرُ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الأَْمْرِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ وَاجِبًا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ
__________
(1) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 / 463، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224، وَزَادَ المحتاج4 / 495.
(3) الْحَدِيث تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (5) .(40/157)
الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ (1) .
هَذَا، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّذْرِ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ، بَل بَيَّنُوا حُكْمَ نَذْرِ الْوَاجِبِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّصْحِيحِ.
فَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، لَكِنَّهُ نَقَل عَنِ الْمُغْنِي احْتِمَالاً وَنَقَل عَنِ الْكَافِي أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ فِي الْوَاجِبِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ، فَيُكَفِّرُ إِنْ لَمْ يَفْعَل، وَعِنْدَ الأَْكْثَرِ: لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ. لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ، ثُمَّ نَقَل عَنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ وَمُوجِبُهُ مُوجِبُهَا إِلاَّ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ (2) .
و نَذْرُ الْمُسْتَحِيل:
23 - نَذْرُ الْمُسْتَحِيل: نَذْرُ مَا يُحِيل الْعَقْل أَوِ الشَّرْعُ تَحَقُّقَهُ، وَمِثَال الأَْوَّل: نَذْرُ صِيَامِ أَمْسِ، وَمِثَال الثَّانِي: نَذْرُ صِيَامِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، أَوْ صِيَامِ اللَّيْل.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ مِثْل هَذَا
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(2) الإِْنْصَاف 11 / 118 - 119، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.(40/157)
النَّذْرِ، وَلاَ يُوجِبُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ كَفَّارَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُهُ أَوِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْل أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ، وَإِذَا كَانَ لاَ يَلْزَمُ فِي الْحِنْثِ فِي هَذَا الْيَمِينِ كَفَّارَةٌ فَبِالأَْوْلَى لاَ يَلْزَمُ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمُسْتَحِيل كَفَّارَةٌ.
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْكَافِي قَائِلاً: وَيُحْتَمَل أَنْ يُوجِبَ الْكَفَّارَةَ كَيَمِينِ الْغَمُوسِ (1) .
ز - النَّذْرُ الْمُبْهَمُ:
24 - النَّذْرُ الْمُبْهَمُ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ مَخْرَجُهُ مِنَ الأَْعْمَال، وَذَلِكَ كَقَوْل النَّاذِرِ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ الأَْعْمَال الَّتِي الْتَزَمَهَا بِهَذَا النَّذْرِ، أَصَوْمٌ هِيَ أَمْ صَلاَةٌ أَمْ حَجٌّ أَمْ غَيْرُهَا (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا النَّذْرِ، أَمُنْعَقِدٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ أَوْ لاَ يَلْزَمُ، وَمَا يَجِبُ إِنْ قِيل بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ مُنْعَقِدٌ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2863، وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَالْكَافِي 4 / 421، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي عَلَيْهِ 3 / 59.(40/158)
وَصَحِيحٌ، وَهُوَ كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ وَلاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ بِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّهُ تَجِبُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَالْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَال بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.
وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى النَّاذِرِ الْوَفَاءَ بِهَذَا النَّذْرِ لَزِمَهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ مِمَّا يَجُوزُ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ وَيُتْرَكُ تَعْيِينُهَا إِلَيْهِ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ: أَنَّ النَّاذِرَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ، وَمِمَّنْ رَأَى وُجُوبَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُبْهَمًا الْحَنَابِلَةُ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِيمَا يَجِبُ بِهَذَا النَّذْرِ. إِذْ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2887، 2888، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي 3 / 59، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 3 / 92، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 406، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 296، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 10 / 70، وَالْمُغْنِي 9 / 3، وَالْكَافِي 4 / 418.(40/158)
مُبْهَمًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِيهِ فَحُكْمُهُ هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلاَةً أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَال، وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلاَ تُجْزِئُ النَّاذِرَ كَفَّارَةٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى فِيهِ صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ نَوَى إِطْعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدَ مَا يُطْعِمُهُ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُل مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، لأََنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَمَا نَوَاهُ يَنْصَرِفُ إِلَى خِصَال الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ صَدَقَةٌ فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ صَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ صَلاَةٌ لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ، لأَِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الأَْمْرُ، وَالنَّذْرُ مُعْتَبَرٌ بِهِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فِيمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2887 - 2888.
(2) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر كَفَّارَة الْيَمِينِ ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 12) .(40/159)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (1) وَكَذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفَادَتَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ مَخْرَجُهُ مِنَ الأَْعْمَال - نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَفَادَتِ الرِّوَايَةُ الأُْولَى مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ أَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ وَمُوجِبُهُ هُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، فَإِنْ صَحَّ النَّذْرُ وَأَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالنَّذْرُ الْمُبْهَمُ لَمْ يُعَيِّنْ فِيهِ مَا يُوفِي بِهِ فَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَفَّارَةٌ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةَ:
__________
(1) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَة يَمِين " أَخْرَجَهُ التزمذي (4 / 106 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يَسِمْهُ فَكَفَّارَته كَفَّارَة يَمِين. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 614 ط حَمَّصَ) وَأَشَارَ ابْن حَجْرٍ فِي الْفَتْحِ (11 / 587) إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ عَلَى ابْن عَبَّاسٍ.(40/159)
لاَ نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (1) .
وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ وَهُوَ نَذْرٌ بَاطِلٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
نَذْرُ التَّصَدُّقِ بِكُل مَا يَمْلِكُ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ عَلَى سِتَّةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَهُوَ قَوْل الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَثَمَّةَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ لَغْوٌ، لأَِنَّهُ لَوْ قَال: مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ مَالِي فِي سَبِيل اللَّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ آتِيًا بِصِيغَةِ الْتِزَامٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ (3) وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (4) .
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 3.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ وَحَاشِيَة الشبراملسي وَالرَّشِيدِيِّ عَلَيْهِ 8 / 221.
(3) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 297
(4) سُورة الإِْسْرَاء / 26(40/160)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (1) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَمْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالصَّدَقَةِ وَالإِْنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الإِْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِيمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ الْمَرْءُ، فَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالٍ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِلشَّارِعِ، وَالْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ نَذْرٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْهَا مَا رَوَاهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - فِي حَدِيثِ تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ - وَأَنَّهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ (2) .
وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْل بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ، مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ
__________
(1) سُورَة الأَْنْعَام / 141
(2) حَدِيث: " أَمْسَكَ عَلَيْك بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَك. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 386 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (4 / 2127 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .(40/160)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِرَارًا - وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلاَمَهُ هَذَا - ثُمَّ أَخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَصَابَتْهُ لأََوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُول: هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذْ عَنَّا مَالَكَ لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ فَإِنَّ نَذْرَهُ هَذَا يَمِينٌ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُوسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَقَتَادَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (3) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ كَحُكْمِ
__________
(1) حَدِيث: (يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُول: هَذِهِ صَدَقَة. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 310 ط حَمَّصَ) ، وَأَشَارَ الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (2 / 254) إِلَى إِعْلاَلِهِ بِرَاوٍ فِيهِ.
(2) الْمُغْنِي 9 / 7.
(3) الْحَدِيث سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 12) .(40/161)
الْيَمِينِ، فَمَنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ كَفَّارَةٌ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِ هَذَا الْمَال. وَقَدْ مَال إِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ حُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَى حُسَيْنُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَكَ، وَإِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ (2) ، وَمِمَّا رَوَاهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ
__________
(1) شَرْح الزُّرْقَانِيّ وَحَاشِيَة الْبُنَانِيّ 3 / 95، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدْوَى 3 / 63، 64، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 321، وَالْمُغْنِي 9 / 7، وَالْكَافِي 4 / 422، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 287.
(2) حَدِيث: " يُجَزِّئُ عَنْك الثُّلْث. . . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (3 / 453 - ط الميمنية) وَابْن حِبَّانَ فِي الصَّحِيحِ (الإِْحْسَان 8 / 164 - 165 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة) .(40/161)
مَالِي كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً، قَال: لاَ، قُلْتُ: فَنِصْفُهُ. قَال: لاَ، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ؛ قَال: نَعَمْ، قَلْتُ: فَإِنِّي سَأُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ (1) فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِهِ كَمَا هُوَ مَنْطُوقُ الْحَدِيثَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا لَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: يَتَصَدَّقُ بِهَذَا الْمَال عَلَى بَنَاتِهِ، وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَل عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَال هَؤُلاَءِ: فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِلْزَامُ النَّاذِرِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُل مَا لَهُ هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ
__________
(1) حَدِيث: " سَأُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 614 - ط حِمْص)
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 297، وَالْمُغْنِي 9 / 8، وَالْبَدَائِع 6 / 2872 - 2873 ط مَطْبَعَة الإِْمَام.(40/162)
فَلاَ يَعْصِهِ (1) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَهُ بِهَذَا النَّذْرِ، وَمَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ، أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِكُل مَالِهِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ جَمِيعُ الأَْمْوَال لأَِنَّ الْمَال اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّل كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ فَيَتَنَاوَل جَمِيعَ الأَْمْوَال كَالْمِلْكِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ بِرُبْعِ الْعُشْرِ (أَيْ مِقْدَارِ الزَّكَاةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل رَبِيعَةَ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْل رَبِيعَةَ هَذَا (3) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَاضِرٍ قَال: حَلَفَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: مَالِي فِي سَبِيل اللَّهِ وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ إِنْ لَمْ تَفْعَل كَذَا. فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الْحَدِيث تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 5) .
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2873.
(3) الْمُغْنِي 9 / 7.(40/162)
عَنْهُمَا: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: مَالِي فِي سَبِيل اللَّهِ فَيُتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ، إِنِ الْتَزَمَ فِيهِ النَّاذِرُ التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ، مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَلاَ يَجِبُ فِي الشَّرْعِ إِلاَّ التَّصَدُّقُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ (1) .
الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ قَال: مَالِي صَدَقَةٌ، لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالأَْمْوَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مِمَّا يَمْلِكُ، أَيْ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَلاَ يَدْخُل فِي هَذِهِ الأَْمْوَال مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السَّكَنِ وَالأَْثَاثِ وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لاَ يُقْصَدُ بِهَا التِّجَارَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّذْرَ الَّذِي يُلْزِمُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُل بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنَ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةً السَّبَبُ الدَّال عَلَى إِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالإِْيجَابُ الْمُضَافُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَْمْرِ - وَهُوَ الزَّكَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 7.(40/163)
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (1) وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ (2) وَنَحْوِ ذَلِكَ - قَدْ تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَال دُونَ نَوْعٍ، فَكَذَا فِي النَّذْرِ (3) . 50
حُكْمُ نَذْرِ الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا:
أ - نَذْرُ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا: 26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ نَذَرَ صَلاَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يُحَدِّدْ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا فِيهَا وَلَمْ يَنْوِهِ، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً مُطْلَقَةً يُجْزِئُهُ صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ أَقَل صَلاَةٍ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ مِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ، فَوَجَبَ حَمْل النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ النَّذْرَ الَّذِي يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 103
(2) سُورَة الْمَعَارِجِ / 24 - 25
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2873.
(4) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 320، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 306، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 423، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279.(40/163)
مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ، فَلَزِمَ نَاذِرَ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا أَقَل مَا يَقَعُ اسْمُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ الإِْتْيَانُ بِهِمَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ هَذَا الزَّائِدَ لَمْ يُوجِبْهُ شَرْعٌ وَلاَ لُغَةٌ (2) .
وَأَضَافُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي الْفَرْضِ، فَلاَ تُجْزِئُ فِي النَّذْرِ كَالسَّجْدَةِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً مُطْلَقَةً أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً.
وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (4) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ أَقَل الصَّلاَةِ رَكْعَةٌ، فَإِنَّ الْوِتْرَ صَلاَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَهُوَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ (5) .
ب - نَذْرُ الصِّيَامِ مُطْلَقًا:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ نَذَرَ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 423.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279، وَالْكَافِي 4 / 423.
(4) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 306، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 433.
(5) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 43.(40/164)
صِيَامًا مُطْلَقًا وَلَمْ يُحَدِّدْ عَدَدَ مَا يُصَامُ وَلاَ نَوَاهُ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا يَلْزَمُهُ صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَوْمٌ مُفْرَدٌ أَقَل مِنْ يَوْمٍ، فَيَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا مُطْلَقًا صِيَامُهُ، لأَِنَّهُ الْيَقِينُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ هُوَ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ أَقَل مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصِّيَامِ، فَهُوَ اللاَّزِمُ الْمُتَيَقَّنُ وَلاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا شَرْعٌ وَلاَ لُغَةٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ نَذْرَ الصِّيَامِ مُطْلَقًا نَذْرٌ مُبْهَمٌ، لِعَدَمِ بَيَانِ عَدَدِ مَا يُصَامُ، وَالنَّذْرُ الْمُبْهَمُ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ قَدْ نَذَرَ الصِّيَامَ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 320، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 257، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 305، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 233، وَالْمُغْنَى 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 324، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 233، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279.
(3) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57.
(4) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888.(40/164)
نِيَّةٌ فِي عَدَدِ مَا يُصَامُ فِي النَّذْرِ، فَإِنَّ هَذَا الصِّيَامَ يَنْصَرِفُ إِلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَدْنَى مَا يُوجِبُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ صِيَامٍ هُوَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَكَانَتْ هِيَ الْوَاجِبَةَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ (2) .
نَذْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ الدَّهْرِ لَزِمَهُ صِيَامُهُ، وَلَمْ يَدْخُل فِي نَذْرِهِ رَمَضَانُ؛ لأَِنَّ صِيَامَ أَيَّامِهِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ لِلْفَرِيضَةِ، كَمَا لاَ يَدْخُل فِي نَذْرِهِ أَيَّامُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ، فَلاَ تُصَامُ عَنْ نَذْرِهِ، وَلاَ يَقْضِي هَذِهِ الأَْيَّامَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُقْبَل صَوْمًا، وَلِهَذَا لِلنَّاذِرِ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَفْطَرَهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَصُومَ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ: كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل وَالْوِقَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْيَمِينِ، مُقَدِّمًا ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ؛ لأَِنَّ هَذَا الصِّيَامَ وَاجِبٌ بِأَصْل الشَّرْعِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الصِّيَامِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، كَتَقْدِيمِ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ عَلَى الْمَنْذُورَةِ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ هَذَا لِعُذْرٍ أَوْ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71.(40/165)
لِغَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ مَا أَفْطَرَهُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الزَّمَنَ مُسْتَغْرَقٌ بِالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ لِتَرْكِ الصِّيَامِ بِلاَ عُذْرٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفِدْيَةِ، فَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ كُل يَوْمٍ أَفْطَرَهُ، أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُطْعِمُ عَنْ كُل يَوْمٍ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ التَّفْرِيطِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لِلْفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ فِيهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا مَا لاَ يَجِدُ لَهُ قَضَاءً، فَأَشْبَهَ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُ قَضَاءً، إِذْ قَدْ جَاءَ أَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ.
وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُل يَوْمٍ، سَوَاءٌ الْبُرُّ أَوِ الشَّعِيرُ أَوِ التَّمْرُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ لِكُل يَوْمٍ (1) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، والكفاية على الهداية للمرغيناني 2 / 276، ومواهب الجليل 2 / 433، 449، المجموع 6 / 259، وروضة الطالبين 3 / 318، ونهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 496، والمغني 3 / 78، 9، وكشاف القناع 6 / 279.(40/165)
نَذْرُ صِيَامِ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ:
29 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصُومَهُ مِنْ بِدَايَةِ شَهْرٍ هِلاَلِيٍّ أَوْ أَنْ يَصُومَهُ بِالْعَدَدِ، فَإِنْ صَامَهُ مِنْ بِدَايَةِ شَهْرٍ هِلاَلِيٍّ، وَتَابَعَ فِي صِيَامِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ وَإِنْ خَرَجَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، وَإِنْ صَامَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ الْهِلاَلِيِّ، أَوْ صَامَ شَهْرًا بِالْعَدَدِ أَجْزَأَهُ صِيَامُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا احْتِيَاطًا، وَإِنِ احْتَمَل لَفْظُ الشَّهْرِ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، فَأَيُّهُمَا فَعَل النَّاذِرُ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُهُ إِنْ صَامَ شَهْرًا بِالْعَدَدِ أَنْ يَصُومَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّهْرَ الْهِلاَلِيَّ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ فِي صِفَةِ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يُجْزِئُهُ فِيهِ التَّفْرِيقُ، أَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِيَامِهِ التَّتَابُعُ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ - وَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّتَابُعَ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي صِيَامِهِ فَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ(40/166)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَنْبَنِي عَلَى التَّتَابُعِ بَل عَلَى التَّفْرِيقِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيْنَ كُل يَوْمَيْنِ مِنَ الْوَقْتِ مَا لاَ يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَهُوَ اللَّيْل، فَكَانَ لِلصَّائِمِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّتَابُعِ (2) ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَعَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ هَذَا النَّاذِرَ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثِينَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صِيَامَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُتَابِعَ فِي صِيَامِهِ، اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ أَمْ لاَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ التَّفْرِيقُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2892 - 2893، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 451، وحاشية الدسوقي 1 / 538 - 540، وروضة الطالبين 3 / 310، ونهاية المحتاج 8 / 225 - 226، والمغني 9 / 27، والكافي 4 / 425.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 28.
(3) المغني 9 / 27، والكافي 4 / 425
(4) المغني 9 / 27 - 28، والكافي 4 / 425، وكشاف القناع 6 / 281، والإنصاف 11 / 143.(40/166)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لأَِيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ فَلاَ يُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ صِيَامَهُ إِلاَّ أَنْ يَصُومَهُ مُتَتَابِعًا، وَبِأَنَّ إِطْلاَقَ الشَّهْرِ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ فَلاَ يُصَامُ إِلاَّ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا نَوَى التَّتَابُعَ فِي صِيَامِهِ (1) .
نَذْرُ صِيَامِ شَهْرٍ يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ غُرَّةَ رَمَضَانَ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ غُرَّةَ رَمَضَانَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَإِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ؛ لإِِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَادِمَ غَدًا أَوْ نَحْوَهُ فَيَنْوِي الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل، وَيُجْزِئُ صِيَامُهُ هَذَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ لِلنَّذْرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ قِيَاسُ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِكْرِمَةَ فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ: إِذْ قَالاَ: يُجْزِئُ حَجُّهُ لَهُمَا جَمِيعًا، أَيْ لِلْفَرْضِ وَالنَّذْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ
__________
(1) الكافي 4 / 425، والمغني 9 / 27، وكشاف القناع 6 / 281.(40/167)
فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ لَهُمَا جَمِيعًا (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا النَّاذِرَ أَنْ يَصُومَ عَنْ فَرْضِهِ وَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ عَنِ النَّذْرِ وَلاَ كَفَّارَةٌ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى النَّذْرِ فَلَيْسَ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِهِ مُخْلِصًا لَهُ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي حَال الصِّحَّةِ وَالإِْقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ، وَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّذْرِ حُكْمٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ (2) ، وَأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ قَيَّدَ صِيَامَهُ بِالْيَوْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْقُدُومُ مِنَ الْغَائِبِ فِي زَمَنٍ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ؛ لأَِنَّ يَوْمَ الْقُدُومِ قَدْ شُغِل بِصَوْمٍ مَفْرُوضٍ فَلاَ يُقْبَل أَنْ يُصَامَ لِغَيْرِهِ (3) وَأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ نَذَرَ صَوْمًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ صَامَ فِيهِ فَوَفَّى مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَإِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ وَصِيَامَهُ فِي رَمَضَانَ يُجْزِئُهُ عَنْ صِيَامِ الْفَرِيضَةِ وَلاَ يُجْزِئُهُ عَنِ الصِّيَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2875، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 539، ونهاية المحتاج 8 / 216، وزاد المحتاج 4 / 501، والمغني 9 / 20، والكافي 4 / 427 - 428.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2875.
(3) نهاية المحتاج 8 / 227.
(4) المغني 9 / 20، والكافي 4 /. 428.(40/167)
الْمَنْذُورِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ صِيَامَ النَّذْرِ، وَيُكَفِّرَ لِتَأْخِيرِ صِيَامِهِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ قِيَاسُ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعُرْوَةَ فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ إِذْ قَالُوا: يَبْدَأُ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ يَحُجُّ لِنَذْرِهِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ نَذْرٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا فَانْعَقَدَ مُوجِبًا الصِّيَامَ، كَمَا لَوْ وَافَقَ شَعْبَانَ، وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَنْ أَفْطَرَ هَذَا الشَّهْرَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ عَنْ نَذْرٍ (2) .
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ قُدُومِ غَائِبٍ فَصَادَفَ قُدُومُهُ أَوَّل يَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُهُ عَنِ النَّذْرِ وَلاَ عِنِ الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِرَمَضَانَ الْحَاضِرِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلنَّذْرِ؛ لأَِنَّ الْمَنْذُورَ مُعَيَّنٌ بِوَقْتٍ، وَقَدْ فَاتَ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 20 - 21، والكافي 4 / 427 - 428، وكشاف القناع 6 / 238.
(2) المغني 9 / 20، والكافي 4 / 428.
(3) مواهب الجليل 2 / 393، وشرح الخرشي على مختصر خليل 2 / 238.(40/168)
نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ يَوْمًا يَحْرُمُ صِيَامُهُ:
31 - مَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ يَوْمًا يَحْرُمُ صِيَامُهُ بِأَنْ كَانَ يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، أَوْ كَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ صَادَفَ قُدُومُهُ وَقْتَ حَيْضِ النَّاذِرَةِ أَوْ نِفَاسِهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِذْ قَال فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَال زُفَرُ: مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ نَذَرَتْ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ حَاضَتْ فِيهِ: لاَ يَلْزَمُهَا شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ.
وَعَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ بِهَذَا النَّذْرِ هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2863، 2865، ومواهب الجليل 2 / 452 - 453، وكفاية الطالب الرباني 3 / 55، والمقدمات 1 / 404، وروضة الطالبين 3 / 314، ونهاية المحتاج 8 / 27، وزاد المحتاج / 501، والمغني 9 / 22، والكافي 4 / 429.(40/168)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الصِّيَامَ قَدْ قُيِّدَ بِيَوْمِ غَائِبٍ وَلَمْ يُوجَدِ الْقُدُومُ فِي زَمَانٍ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ صِيَامٌ، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ فَرْعُ وُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ (1) ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْمَنْذُورَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فِي ذَاتِهِ إِلاَّ أَنَّهُ وَقَعَ مَعْصِيَةً اتِّفَاقًا؛ لِوُقُوعِ الْقُدُومِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ فِي يَوْمٍ يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَنَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لاَ يَحِل لِلنَّاذِرِ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ (2) فَكَانَ هَذَا النَّذْرُ مُعْتَبَرًا بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَلاَ يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَال بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِيمَنْ نَذَرَتْ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 227، وزاد المحتاج 4 / 501.
(2) حديث: " لا وفاء لنذر في معصية " تقدم تخريجه (ف 16)
(3) بدائع الصنائع 6 / 2865، والمغني 9 / 22.(40/169)
حَاضَتْ فِيهِ، وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْيَّامِ الَّتِي نَذَرَ صِيَامَهَا وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَال بِهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ هَذَا النَّاذِرَ قَدْ فَاتَهُ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الصِّيَامَ نِسْيَانًا، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لأََنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ مِنْ صَوْمِهِ فَكَانَ كَالْمُكْرَهِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الْمَنْذُورَ هُنَا - وَهُوَ الصِّيَامُ عِنْدَ قُدُومِ غَائِبٍ - مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ، فَإِذَا صَادَفَ يَوْمُ قُدُومِ الْغَائِبِ يَوْمًا يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ كَانَ إِفْطَارُهُ فِيهِ لِعُذْرٍ، وَهُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ مِنْ صِيَامِهِ، فَكَانَ بِمَثَابَةِ مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا لاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِفِطْرِهِ فَكَذَلِكَ النَّاذِرُ (3) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ، قَدْ نَذَرَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ، كَمَا لَوْ وَقَعَ النَّذْرُ بِالصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْيَّامِ الَّتِي تَصَادَفَ قُدُومُ الْغَائِبِ فِيهَا (4) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 68، وبدائع الصنائع 6 / 2863 - 2865، وفتح القدير 4 / 26، والمغني 9 / 22، والكافي 4 / 429.
(2) المغني 9 / 22.
(3) الكافي 4 / 429.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2865.(40/169)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصُومُ هَذَا الْيَوْمَ وَإِنَّمَا يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْل الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَال فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ: إِنَّهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْفِطْرِ، ثُمَّ يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ هَذَا النَّاذِرَ قَدِ الْتَزَمَ بِنَذْرٍ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا فَكَانَ نَذْرُهُ مُنْعَقِدًا، كَمَا لَوْ وَافَقَ يَوْمًا لاَ يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْغَائِبُ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ صَوْمَهُ، إِلاَّ أَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ، وَقَدْ فَاتَهُ الصِّيَامُ بِالْعُذْرِ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِفَوَاتِهِ كَمَا لَوْ فَاتَهُ بِمَرَضٍ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَفْطَرَ مَا نَذَرَ صَوْمَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ انْعِقَادُ نَذْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ النَّذْرُ
__________
(1) المغني 9 / 21 - 22، والكافي 4 / 429، وكشاف القناع 6 / 280.
(2) المغني 9 / 22.(40/170)
زَمَنٌ يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ لِصَوْمِهِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا تَطَوُّعًا وَنَذَرَ إِتْمَامَهُ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ الَّذِي الْتَزَمَهُ النَّاذِرُ بِالنَّذْرِ صَوْمٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ كَرَمَضَانَ، كَمَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ، وَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَتِهِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ النَّاذِرَ إِنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ الْمُحَرَّمَ صِيَامُهُ، صَحَّ صَوْمُهُ وَأَجْزَأَهُ عَمَّا نَذَرَ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي صَوْمِ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَنْذُورَ إِنْ تَعَيَّنَ وُقُوعُهُ فِي يَوْمٍ يَحْرُمُ صِيَامُهُ فَهُوَ قُرْبَةٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ، وَمَا كَانَ فِيهِ جِهَةُ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ وَفَّى بِمَا نَذَرَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَفَعَلَهَا (5) .
__________
(1) المغني 9 / 22، وكشاف القناع 6 280.
(2) الكافي 4 / 429.
(3) رد المحتار 3 / 68، وفتح القدير 4 / 26، والمغني / 22.
(4) رد المحتار 3 / 68، وفتح القدير 4 / 26.
(5) المغني 9 / 22.(40/170)
صِفَةُ صِيَامِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ (مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ التَّتَابُعِ أَوْ عَدَمُهُ) :
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ صِيَامِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ، وَأَطْلَقَ الصِّيَامَ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ صِيَامُهَا مُتَتَابِعَةً، أَوْ يُجْزِئُهُ صِيَامُهَا مُفَرَّقَةً عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ فِي صِيَامِهَا التَّتَابُعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ. . إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَا أَفْطَرَهُ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ يَلْزَمُ النَّاذِرَ قَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يَصُومُ السَّنَةَ وَيَقْضِي رَمَضَانَ وَيَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَيَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَيْسَ فِيهَا رَمَضَانُ وَلَيْسَ فِيهَا يَوْمَا الْعِيدَيْنِ وَلاَ أَيَّامُ مِنًى، أَوْ أَيَّامُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَإِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، فَيَرَوْنَ أَنَّ لِلنَّاذِرِ إِنِ اخْتَارَ التَّفْرِيقَ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلاَل، وَكُل شَهْرٍ اسْتَوْعَبَهُ بِالصَّوْمِ فَنَاقِصُهُ كَالْكَامِل، وَإِنِ انْكَسَرَ(40/171)
شَهْرٌ أَتَمَّهُ ثَلاَثِينَ، وَإِنِ اخْتَارَ التَّتَابُعَ صَامَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، وَقَضَى رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَأَيَّامَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، هَذَا هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَثَمَّةَ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّاذِرَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إِلاَّ بِصِيَامِ ثَلاَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ الأَْصْحَابِ: أَنَّ النَّاذِرَ إِذَا صَامَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ إِلَى مِثْلِهِ أَجْزَأَهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَامَ سَنَةً، وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ بِأَنَّ السَّنَةَ الْمُتَفَرِّقَةَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا سَنَةٌ، فَيَتَنَاوَلُهَا نَذْرُ النَّاذِرِ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالأَْهِلَّةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَهَا بِالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْل النَّذْرِ عَلَى سَنَةٍ لَيْسَ فِيهَا رَمَضَانُ، وَلاَ الأَْيَّامُ الَّتِي لاَ يَجُوزُ صِيَامُهَا فَجُعِل نَذْرُهُ عَلَى مَا يَنْعَقِدُ فِيهِ النَّذْرُ (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 2 / 104، 4 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 452، والدسوقي 1 / 539 - 540، وروضة الطالبين 3 / 311، ونهاية المحتاج 8 / 226، وزاد المحتاج 4 / 499، والمغني 9 / 25، والكافي 4 / 427.
(2) المغني 9 / 25.(40/171)
وَقَالُوا: إِنَّ الصَّوْمَ لاَ يَنْبَنِي عَلَى التَّتَابُعِ بَل عَلَى التَّفْرِيقِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيْنَ كُل يَوْمَيْنِ مَا لاَ يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَهُوَ اللَّيْل، فَكَانَ لِلصَّائِمِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّتَابُعِ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ لَمْ يَلْتَزِمْ بِالتَّتَابُعِ فِي نَذْرِهِ صِيَامَ السَّنَةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ فِي صِيَامِهَا، فَلَهُ أَنْ يَصُومَ سَنَةً هِلاَلِيَّةً، أَوْ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ إِنْ صَامَ أَيًّا مِنْهُمَا أَنَّهُ صَامَ سَنَةً، وَوَفَّى بِمَا نَذَرَ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يُتَابِعَ فِي صِيَامِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى هَذَا لاَ يَدْخُل فِي صِيَامِ هَذِهِ السَّنَةِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَالْعِيدَانِ.
وَفِي دُخُول أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي أَيَّامِ السَّنَةِ الَّتِي يَلْزَمُ صِيَامُهَا نَذْرًا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُ صِيَامُ هَذِهِ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ السَّنَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَلْزَمُ صِيَامُهَا لِلنَّهْيِ عَنْهَا.
وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ وَفْقًا لِهَذَا الْمَذْهَبِ أَنْ يَصُومَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، سِوَى رَمَضَانَ وَالأَْيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا، فَإِنِ ابْتَدَأَهَا النَّاذِرُ مِنْ أَوَّل شَهْرٍ أَتَمَّ أَحَدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 28.
(2) نهاية المحتاج 8 / 226، وزاد المحتاج 4 / 499.(40/172)
عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلاَل إِلاَّ شَهْرَ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهُ بِالْعَدَدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصُمْ مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَهَا مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ أَتَمَّ ذَلِكَ الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ، وَالْبَاقِي بِالْهِلاَل.
وَيَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال أَنْ يَقْضِيَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَالأَْيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْ صِيَامِهَا (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ بِأَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَتَابِعَةِ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ أَنْ يَصُومَهَا كَذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ سَنَةً فَانْصَرَفَ إِلَى سَنَةٍ كَامِلَةٍ (2) .
الْفِطْرُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي صِيَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مَنْذُورٍ عَلَى وَجْهِ التَّتَابُعِ:
أ - فِطْرُ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ:
33 - إِذَا أَفْطَرَ النَّاذِرُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي صِيَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مَنْذُورٍ عَلَى وَجْهِ التَّتَابُعِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 25، والكافي 4 / 427، وكشاف القناع 6 / 279.
(2) المغني 9 / 25، وكشاف القناع 6 / 279.
(3) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2893، وروضة الطالبين 3 / 312، والمغني 9 / 26، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281 - 282.(40/172)
وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاَءِ مِنْ لُزُومِ اسْتِئْنَافِ الصِّيَامِ بَعْدَ هَذَا الْفِطْرِ الْقِيَاسُ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْقِيَاسُ فَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الإِْيجَابُ؛ لأَِنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، لِمَا يَلْحَقُ النَّاذِرَ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالإِْفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْيَمِينِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ، فَتَلْزَمُ النَّاذِرَ كَمَا الْتَزَمَ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاذِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا الْتَزَمَهُ اسْتَقْبَل الصِّيَامَ، كَمَا فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل (1) .
كَمَا أَنَّ النَّاذِرَ قَدْ تَرَكَ التَّتَابُعَ الْمَنْذُورَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، مَعَ إِمْكَانِ الإِْتْيَانِ بِهِ فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ. كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا فَصَامَ قَبْلَهُ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الصِّيَامِ قَبْل فِطْرِهِ لَبَطَل التَّتَابُعُ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَذَلِكَ لِتَخَلُّل الْفِطْرِ فِيهِ (3) .
ب - فِطْرُ النَّاذِرِ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ:
34 - الْعُذْرُ الَّذِي يَقْتَضِي الْفِطْرَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893.
(2) المغني 9 / 26، والكافي 4 / 426.
(3) كشاف القناع 6 / 281.(40/173)
الْمَنْذُورِ صِيَامُهَا عَلَى وَجْهِ التَّتَابُعِ قَدْ يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الصِّيَامِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَوْ مُرَخِّصًا فِي الْفِطْرِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ صِيَامَ بَعْضِ الأَْيَّامِ فِيهَا كَيَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّاذِرَ إِنْ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ بَعْدَ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّ النَّاذِرَ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ، وَقَدِ الْتَزَمَ فِي نَذْرِهِ التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ، فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ آتِيًا بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ لِيَأْتِيَ بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِطْرَ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، لاِسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ شَرْعًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْضِيهَا مُتَوَالِيَةً مُتَّصِلَةً بِمَا صَامَهُ عَمَلاً بِمَا شَرَطَهُ مِنَ التَّتَابُعِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَى النَّاذِرِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.
فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِعَدَمِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ الْفِطْرِ قَوْلَيْنِ: الْقَوْل الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2893.(40/173)
الْقَضَاءُ لِقَبُول زَمَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِلصَّوْمِ فِي ذَاتِهِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَتِ النَّاذِرَةُ رَمَضَانَ لأَِجْلِهِمَا. وَقَال النَّوَوِيُّ: بَل الأَْظْهَرُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْقَوْل الأَْخِيرَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ أَيَّامَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ لَمَّا لَمْ تَقْبَل الصَّوْمَ، وَلَوْ لِعُرُوضِ ذَلِكَ الْمَانِعِ، لَمْ يَشْمَلْهَا النَّذْرُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْفِطْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ فِطْرٌ لِعُذْرٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَيَّرُوا مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لإِِتْيَانِهَا بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوِ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامٍ قَبْل فِطْرِهَا، وَتُكَفِّرُ لِمُخَالَفَتِهَا مَا نَذَرَتْهُ، إِذِ الْكَفَّارَةُ تَلْزَمُ لِتَرْكِهَا الْمَنْذُورَ وَإِنْ كَانَتْ عَاجِزَةً عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ: فَعَلَى الأَْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فِطْرَ النَّاذِرِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَقْطَعُهُ، وَيَبْنِي النَّاذِرُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهِ.
وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ فِطْرِهِ الْقَوْلاَنِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.(40/174)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّاذِرَ إِنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ يَجِبُ مَعَهُ الْفِطْرُ بِأَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ، إِلاَّ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ؛ لإِِتْيَانِهِ بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ، وَبَيْنَ الْبِنَاءِ عَلَى صِيَامِهِ قَبْل الْفِطْرِ، وَتَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَفَّارَةٌ لِمُخَالَفَتِهِ فِيمَا نَذَرَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الْمَنْذُورَ.
فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِسَبَبٍ يُبِيحُهُ كَالسَّفَرِ: فَعَلَى الْقَوْل الأَْظْهَرِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْفِطْرَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْفِطْرَ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ لأَِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ يَقْتَضِي الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الَّذِي يَجِبُ مَعَهُ الْفِطْرُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَيَّامِ فِطْرِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 310 - 312، ونهاية المحتاج 8 / 225 - 226، والمغني 9 / 25 - 26، وكشاف القناع 6 / 282.(40/174)
الْفِطْرُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي صِيَامٍ مُعَيَّنٍ مَنْذُورٍ:
35 - مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جُمُعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ حُكْمَ مَا صَامَهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَا إِذَا كَانَ فِطْرُهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - حُكْمُ فِطْرِ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ فِطْرِ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي خِلاَل الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّ فِطْرَهُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامٍ قَبْل فِطْرِهِ، وَيَقْضِي مَا أَفْطَرَهُ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، قَدْ فَوَّتَ الْبِرَّ بِاخْتِيَارِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلاَ يَسْتَأْنِفُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893، وشرح الخرشي 2 / 251، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 428 - 429، 452، وروضة الطالبين 3 11، ونهاية المحتاج 8 255، وزاد المحتاج 4 / 497، والمغني 9 / 29، والكافي 4 / 426.(40/175)
التَّتَابُعَ كَانَ لِلْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ؛ لاَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ مَثَلاً كَانَتْ أَيَّامُ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةً فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً، فَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاؤُهُ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ تَعْيِينِ الْوَقْتِ الَّذِي يُصَامُ فِيهِ، وَلَمْ يَجِبِ التَّتَابُعُ بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يُبْطِلْهُ الْفِطْرُ فِي أَثْنَائِهِ، كَشَهْرِ رَمَضَانَ (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ لَوْ أُلْزِمَ بِاسْتِئْنَافِ الصِّيَامِ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصِّيَامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْهُ النَّاذِرُ، وَلَوْ أَتَمَّ صِيَامَهُ وَقَضَى مَا أَفْطَرَهُ لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّوْمِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّ فِطْرَهُ يَقْطَعُ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497.
(2) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893.
(3) روضة الطالبين 3 / 311، والمغني 9 / 29، والكافي 4 / 426.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 29.(40/175)
التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ هِيَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يُكَفِّرَ لِتَأْخِيرِ النَّذْرِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ الْمُعَيَّنَةَ أَوِ الشَّهْرَ الْمُعَيَّنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ عَلَى أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لاَ مُفَرَّقَةٍ، وَالنَّاذِرُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا نَذَرَ، فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يَكُونُ آتِيًا بِمَا نَذَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ لِيَأْتِيَ بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ صِيَامَ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ يَجِبُ مُتَتَابِعًا بِالنَّذْرِ؛ لأَِنَّ النَّاذِرَ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ فَوَّتَهَا بِفِطْرِهِ فَيَبْطُل الصِّيَامُ بِسَبَبِ فِطْرِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُتَتَابِعًا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ وَيُكَفِّرَ لِتَأْخِيرِهِ النَّذْرَ (2) .
ب - حُكْمُ فِطْرِ النَّاذِرِ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ فِي صِيَامٍ مُعَيَّنٍ
__________
(1) المغني 9 / 28 - 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) المغني 9 / 28 - 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.(40/176)
مَنْذُورٍ فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ بَعْدَ فِطْرِهِ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامٍ قَبْل الْفِطْرِ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى هَذَا النَّاذِرِ قَضَاءُ الأَْيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ فِيمَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ السَّفَرِ خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلنَّذْرِ.
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال بِاسْتِحْبَابِ الْقَضَاءِ، وَلَيْسَ الْوُجُوبَ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، رَجَّحَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 428، وشرح الخرشي 2 / 251، وروضة الطالبين 3 / 310، 311، ونهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497، والمغني 9 / 25، 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) رد المحتار 3 / 71، والمراجع السابقة.(40/176)
صَوْمًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الأَْيَّامِ، فَإِنَّهُ إِنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ كَانَتْ أَيَّامُهُ مُتَجَاوِرَةً، فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ يَجِبُ مُتَتَابِعًا، فَكَذَلِكَ الْفِطْرُ فِي الصِّيَامِ الْمَعَيَّنِ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الصَّوْمَ الْمَنْذُورَ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ، وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعُذْرٍ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا الصِّيَامُ الْمُعَيَّنُ الْمَنْذُورُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ لِعُذْرٍ يَقْتَضِي الْفِطْرَ قَدْ تَرَكَهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ فَقَطْ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يَقْبَل الصَّوْمَ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفِطْرُ لِمَعْنًى فِيهَا، فَوَجَبَ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَتِ الْحَائِضُ أَوِ النُّفَسَاءُ فِي رَمَضَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893.
(2) المغني 9 / 29.
(3) الكافي 4 / 426.(40/177)
لأَِجْلِهِمَا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ قَضَاءٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَالأَْظْهَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي حَقِّ مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ أَيَّامَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ لَمَّا لَمْ تَقْبَل الصِّيَامَ لِعُرُوضِ ذَلِكَ الْمَانِعِ لَمْ يَشْمَلْهَا النَّذْرُ فَلاَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْكَفَّارَةُ فَرْعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ الْمُعَيَّنَةَ قَدْ فَاتَتْ بِفَوَاتِ زَمَنِهَا (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (4) ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّاذِرَ بِتَعْيِينِهِ وَقْتَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497.
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 428، 452، وشرح الخرشي 2 / 251، وروضة الطالبين 3 / 310، 311، ونهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497.
(3) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497، وروضة الطالبين 3 / 310، ومواهب الجليل 2 / 428 - 429.
(4) المغني 9 / 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.(40/177)
قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، وَذَلِكَ لِتَتَابُعِ الأَْيَّامِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَنْذُورِ صِيَامُهَا، فَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَائِهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِفِطْرِهِ، وَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ لِتَرْكِهِ صِفَةَ نَذْرِهِ، فَقَدْ أَلْزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْتَ عُقْبَةَ كَفَّارَةً عَنْ نَذْرِهَا الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ حِينَ عَجَزَتْ عَنِ الْوَفَاءِ بِصِفَةِ نَذْرِهَا (1) ، رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا (2) .
فَقْدُ النَّاذِرِ شُرُوطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنِ صِيَامُهَا:
38 - مَنْ نَذَرَ صِيَامًا مُعَيَّنًا وَقْتَ أَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الصِّيَامِ، ثُمَّ فَقَدَ هَذِهِ الشُّرُوطَ أَوْ بَعْضَهَا خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنِ صِيَامُهَا بِالنَّذْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ خِلاَلَهَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ أَوْ بِسَبَبِ الْجُنُونِ.
فَإِنْ فَقَدَ النَّاذِرُ شَرْطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) تقدم تخريجه ف 17.(40/178)
39 - وَإِنْ فَقَدَ النَّاذِرُ شَرْطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ بِسَبَبِ الْجُنُونِ، فَلِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي ذَلِكَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ الْجُنُونُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَ صِيَامَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ اسْتَغْرَقَهَا جُنُونُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصِّيَامِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَجْنُونَ فِي خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلصِّيَامِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ؛ لأَِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُقْضَى فِيهِ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ النَّذْرُ، فَإِيقَاعُ الصِّيَامِ فِيهِ إِيقَاعٌ لَهُ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَ صِيَامَهَا بِالنَّذْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ (4) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 1 / 526، ونهاية المحتاج 8 / 225، والمغني 9 / 29، والكافي 4 / 430، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) المغني 9 / 29، والكافي 4 / 430، وكشاف القناع 6 / 271.
(3) الشرح الكبير للدردير 1 / 526.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2894، والمغني 9 / 29.(40/178)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْمَجْنُونَ مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ حَالَةَ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ، فَلَزِمَهُ قَضَاءُ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (1) وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَقْتَ أَنْ كَانَ مُكَلَّفًا، ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ، وَيَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ (2) .
وَأَضَافُوا بِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عِنْدَ النَّذْرِ هُوَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ بِالإِْيجَابِ الْمُبْتَدَأُ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لاَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا (3) .
نَذْرُ الاِعْتِكَافِ وَمَا يُوجِبُهُ عَلَى النَّاذِرِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ نَذْرِ الاِعْتِكَافِ بِاخْتِلاَفِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنَيْنِ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ: 40 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَيَّنَهُ فِي النَّذْرِ مَسْجِدًا مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ (وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَا
__________
(1) المغني 9 / 29.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2894.
(3) المصدر السابق.(40/179)
عَيَّنَهُ فِيهِ غَيْرَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ تَعْيِينِ ذَلِكَ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي النَّذْرِ أَمْ لاَ.
أ - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
41 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَيُّنِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ بِحَيْثُ لاَ يُجزِئُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، أَوْ عَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيمَا سِوَاهُ، قَال بِهِ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 547، والتاج والإكليل 2 / 460، والمجموع 6 / 479، 481، والمغني 3 / 215.(40/179)
بِنَذْرِكَ (1) ، فَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ مِنَ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَوْ كَانَ يُجْزِئُ الاِعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ لَبَيَّنَهُ لَهُ، كَمَا بَيَّنَ لِمَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا نَذَرَهُ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَال: شَأْنُكَ إِذَنْ (2) ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهُ بِمَا دُونَهُ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك. . . " تقدم تخريجه (ف 5) .
(2) حديث: " إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة. . . " أخرجه أبو داود (3 / 602 ط حمص) ، وصححه ابن دقيق العيد كما في التلخيص لابن حجر (4 / 436 - ط دار الكتب العلمية)
(3) المجموع 6 / 479، والمغني 3 / 215.(40/180)
عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ بِالنَّذْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا قُيِّدَ بِهِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّهُ مَحَلٌّ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً، فَلاَ يَدْخُل الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3889
(2) المصدر السابق.
(3) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، والمجموع 6 / 481، وروضة الطالبين 2 / 398.
(4) المصادر السابقة.(40/180)
تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، بَل إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ، فَكَانَ مُلْغًى وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (1) .
ب - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
42 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَعَيُّنِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلاَ يُجْزِيهِ الاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى؛ لأَِنَّهُ دُونَهُمَا فِي الْفَضْل، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَال بِهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(2) التاج والإكليل 2 / 460، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 547، والمجموع 6 / 482، والمغني 3 / 215.(40/181)
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ: وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِشَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ (3) فَتَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ لِلاِعْتِكَافِ، وَيَجُوزُ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ دُونَهُ فِي الْفَضْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (5) وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ مَسْجِدَ
__________
(1) حديث: وصلاة في مسجدي هذا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1012 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة. . . " أخرجه ابن ماجة (1 / 451 ط عيسى الحلبي) ، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات (1 / 250 ط دار الجنان) .
(3) دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1014 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ لمسلم
(4) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(5) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمجموع 6 / 482، وروضة الطالبين 2 / 398.(40/181)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَجِبُ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل فِيهِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَمَوْضِعُ الاِعْتِكَافِ لَيْسَ قُرْبَةً؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعٌ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا فَلاَ يَدْخُل الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ النَّذْرِ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ النَّاذِرُ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ فِي النَّذْرِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّذْرَ مُوجِبٌ لِلْقُرْبَةِ وَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَِحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ بِالنَّذْرِ مَلْغِيٌّ، وَيَلْزَمُ النَّذْرُ بِالْقُرْبَةِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ لاِعْتِكَافِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ، وَلاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ، قَال بِهَذَا زُفَرُ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ (4) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ، وَقَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ
__________
(1) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(4) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمغني 3 / 215.(40/182)
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهَا أَفْضَل، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (2) .
وَأَضَافُوا: بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ عَيَّنَهَا الشَّارِعُ لِلْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهِ (3)
ج - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى:
43 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِيهِ، وَلَكِنْ ثَمَّةَ خِلاَفٌ فِي تَعَيُّنِهِ بِالنَّذْرِ لِهَذَا الاِعْتِكَافِ، أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، وَجَازَ لَهُ
__________
(1) المغني 3 / 215.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) المصدر السابق.(40/182)
أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، قَال بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَال: " يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: صَل هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: شَأْنُكَ إِذَنْ " (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى زَادَ فَقَال: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هَهُنَا لأََجْزَأَ عَنْكَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ (3) ، فَقَدْ بَيَّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَنَّهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 547، والتاج والإكليل 2 / 460، والمجموع 6 / 482، والمغني 3 / 215.
(2) حديث: " صل هاهنا ". تقدم تخريجه (ف 41) .
(3) حديث: " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا. . . . ". أخرجه أبو داود (3 / 603 ط حمص) من حديث عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(40/183)
يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لأََخْرُجَنَّ فَلأَُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتِ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: صَلاَةٌ فِيهِ أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (1) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَجْزَأَتْهُ صَلاَتُهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَذْرِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل.
، وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِشَدِّ الرِّحَال
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1014 - ط الحلبي) .(40/183)
إِلَيْهَا، فَيَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَلَوْ كَانَ دُونَهُ فِي الْفَضْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لاَ يَجِبُ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ (3) وَبِأَنَّ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ أَمْرٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَِحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِ النَّاذِرِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَأُلْغِيَ تَخْصِيصُ النَّذْرِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْغَايَةَ مِنَ النَّذْرِ هِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً وَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِ إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَهَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةٌ، فَلاَ
__________
(1) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(2) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمجموع 6 / 482، وروضة الطالبين 2 / 398 - 399.
(3) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(4) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.(40/184)
يَدْخُل مَكَانُهَا تَحْتَ النَّذْرِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لاِعْتِكَافِهِ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ قَال بِهِ زُفَرُ (2) .
وَاسْتُدِل بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُقَيَّدًا بِمَوْضِعٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِذَلِكَ (3) .
وَقَال: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (4) .
د - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) المصدر السابق.(40/184)
وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوْ لاَ يَتَعَيَّنُ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ لاِعْتِكَافِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ لَهُمْ أَنَّهُ يُخَيَّرُ سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال أَوْ لَمْ يَحْتَجْ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى (2) فَالْمَسْجِدُ الْمُعَيَّنُ فِي النَّذْرِ لَوْ كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَلَزِمَ النَّاذِرَ الْمُضِيُّ إِلَيْهِ وَاحْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ؛ لِقَضَاءِ نَذْرِهِ فِيهِ، وَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَدِّ الرِّحَال وَالسَّفَرِ إِلاَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا عَدَمُ تَعَيُّنِ غَيْرِهَا بِالنَّذْرِ، لِلنَّهْيِ عَنْ شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهَا.
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 461، 3 / 344، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 3 / 73، وشرح الزرقاني على خليل 3 / 105، والمجموع 6 / 479، 481، وروضة الطالبين 2 / 399، والمغني 3 / 214، كشاف القناع 2 / 352.
(2) حديث: " لا تشد الرحال. . . " سبق تخريجه (ف 42) .(40/185)
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا، فَلاَ يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ (1) كَمَا أَنَّهُ لاَ مَزِيَّةَ لِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ عَلَى بَعْضٍ بِاسْتِثْنَاءِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا بِالتَّعْيِينِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَعَيْنُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ لَيْسَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّذْرِ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ النَّذْرُ (3) .
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ مُلْغًى، وَبَقِيَ النَّذْرُ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْل زُفَرَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
__________
(1) المغني 3 / 214، والكافي 1 / 368، 369.
(2) المجموع 6 / 479.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 26.(40/185)
سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال أَوْ لَمْ يَحْتَجْ (1) وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ حَقِيقَتُهُ الاِنْكِفَافُ فِي سَائِرِ الأَْمَاكِنِ وَالتَّقَلُّبِ، كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ انْكِفَافٌ عَنْ أَشْيَاءَ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَنِسْبَةُ الاِعْتِكَافِ إِلَى الْمَكَانِ كَنِسْبَةِ الصَّوْمِ إِلَى الزَّمَانِ، وَلَوْ عَيَّنَ النَّاذِرُ يَوْمًا لِصَوْمِهِ تَعَيَّنَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلْيَتَعَيَّنِ الْمَسْجِدُ بِالتَّعْيِينِ أَيْضًا (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ (3) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنْ أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (4) .
ثَانِيًا: نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ عَيَّنَ زَمَانًا
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمجموع 6 / 481، وروضة الطالبين 2 / 399.
(2) المجموع 6 / 481.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) المصدر السابق.(40/186)
مُعَيَّنًا لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ هَذَا الزَّمَانُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لاَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ، وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، فَلاَ يَعْتَكِفُ فِي غَيْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ بِالاِعْتِكَافِ أَوِ التَّأَخُّرُ عَنْهُ، قَال بِهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ إِيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ نَفْلاً، وَقَدْ أَوْجَبَ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْل مَجِيئِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لِلاِعْتِكَافِ تَعَيَّنَ لِلنَّذْرِ، وَوَجَبَ الاِعْتِكَافُ فِيهِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا لِعِبَادَتِهِ فِيهِ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَقْتُ لِلْعِبَادَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنَ اعْتِكَافٍ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَذَلِكَ لأَِدَائِهِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، ورد المحتار 2 / 131، والمقدمات الممهدات 1 / 261، والمجموع 6 / 482، والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2890.
(3) الكافي 1 / 369.(40/186)
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُؤَدِّيًا مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ زَمَانًا لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي زَمَانٍ غَيْرِهِ قَبْل هَذَا الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ أَوْ بَعْدَهُ، قَال بِهَذَا أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ وُجُوبَ الاِعْتِكَافِ ثَابِتٌ قَبْل الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ النَّذْرُ، فَكَانَ أَدَاؤُهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيل عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْل الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الإِْمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ؛ لِقَوْل الْحَقِّ سُبْحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ (3) ؛ وَلأَِنَّ الْعِبَادَةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ، فَإِذَا نَذَرَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 214، وفتح القدير 2 / 104، ورد المحتار 2 / 131، والمجموع 6 / 482.
(3) سورة الحج / 77(40/187)
الرُّخْصَةَ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلْحَال وَهُوَ النَّذْرُ، وَإِنَّمَا الأَْجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ فِي التَّأْخِيرِ، فَإِذَا عَجَّل فَقَدْ أَحْسَنَ فِي إِسْقَاطِ الأَْجَل فَيَجُوزُ؛ وَهَذَا لأَِنَّ صِيغَةَ النَّذْرِ لِلإِْيجَابِ، وَالأَْصْل فِي كُل لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانٍ اعْتِبَارُهُ فِيهِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ وَلاَ تَغْيِيرُهُ إِلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، إِلاَّ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى إِبْطَال صِيغَةِ النَّذْرِ وَلاَ إِلَى تَغْيِيرِهَا وَلاَ دَلِيل سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، فَقَدْ يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، كَمَا فِي بَابِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الأَْدَاءِ كَمَا فِي الْحَجِّ وَالأُْضْحِيَّةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كَمَا فِي وَقْتِ الإِْقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَوْل فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلاً، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال صِيغَةِ الإِْيجَابِ الْمَوْجُودَةِ لِلْحَال مَعَ الاِحْتِمَال، فَبَقِيَتِ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً، وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى إِبْطَال الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2890 - 2891.(40/187)
ثَالِثًا: وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ:
46 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ كُلٍّ مِنْهَا.
أ - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي حُكْمِ هَذَا النَّذْرِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ عَدَمِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ صَحَّ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا، فَيَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي
__________
(1) زاد المحتاج 1 / 544، والمغني 3 / 187، 214 والكافي 1 / 368.(40/188)
الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) .
وَبِأَنَّ الاِعْتِكَافَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الإِْقَامَةُ، وَكُل إِقَامَةٍ فِي مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ اعْتِكَافٌ وَعُكُوفٌ، فَإِذًا لاَ شَكَّ فِي هَذَا، فَالاِعْتِكَافُ يَقَعُ عَلَى مَا قَل مِنَ الأَْزْمَانِ أَوْ كَثُرَ، إِذْ لَمْ يَخُصَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ وَلاَ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الاِعْتِكَافِ، وَالصَّوْمُ الْمُشْتَرَطُ فِيهِ لاَ يَصِحُّ فِي أَقَل مِنْ يَوْمٍ، أَمَّا اللَّيْل فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلصِّيَامِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنَ النَّاذِرِ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الاِعْتِكَافِ تَبَعًا، فَلَمْ يُصَادِفِ النَّذْرُ مَحَلَّهُ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك ". سبق تخريجه (ف 5) .
(2) زاد المحتاج 1 / 544، والمغني 3 / 187، 214، والكافي 1 / 368، والمحلي 5 / 179.
(3) الدر المختار 2 / 130، والبحر الرائق 2 / 323، 328، وبدائع الصنائع / 1059.
(4) البحر الرائق 2 / 323، وبدائع الصنائع 3 / 1059.(40/188)
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ تَشْتَرِطُ الصَّوْمَ لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الاِعْتِكَافِ الصَّوْمَ، وَلاَ يَجُوزُ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ فَلاَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ إِذِ انْعِقَادُ صَوْمِ النَّهَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيْل (2) .
ب - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَدْخُل إِلَى مُعْتَكَفِهِ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَحُكِيَ قَوْلاً لِمَالِكٍ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 458، وبداية المجتهد 1 / 314، والمغني 3 / 187، والكافي 1 / 368.
(2) بداية المجتهد 1 / 229، 230.
(3) البحر الرائق 2 / 328، وبدائع الصنائع 3 / 1059، والمقدمات الممهدات 1 / 259، ومواهب الجليل 2 / 459، وبداية المجتهد 1 / 315، وروضة الطالبين 2 / 401، والمغني 3 / 213، والكافي 1 / 370، وكشاف القناع 2 / 354.(40/189)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْيَوْمِ، فَقَدْ قَال الْخَلِيل: الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا دَخَل اللَّيْل فِي الاِعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ ضِمْنًا، وَلِهَذَا خَصَصْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الأَْيَّامِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُعْتَكِفَ لَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ مَعَ اعْتِكَافِهِ فَإِنَّ اللَّيْل كُلَّهُ وَقْتٌ لِتَبْيِيتِ الصِّيَامِ، فَأَيُّ وَقْتٍ نَوَى فِيهِ الْمُعْتَكِفُ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل أَجْزَأَهُ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَدْخُل إِلَى مُعْتَكَفِهِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ لِيَوْمِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بِغُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الاِعْتِكَافِ وَلاَ يُجْزِئُهُ الدُّخُول إِلَى مُعْتَكَفِهِ قَبْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1059.
(2) المغني 3 / 213.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 259.(40/189)
طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الاِعْتِكَافِ إِلاَّ إِذَا نَوَى اعْتِكَافَ يَوْمٍ بِلاَ لَيْلَةٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى اللَّيْل وَالنَّهَارِ مَعًا، فَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَهُ أَنْ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ لِيَوْمِ اعْتِكَافِهِ، حَتَّى يَكُونَ آتِيًا بِمَا نَذَرَهُ مِنَ اعْتِكَافِ الْيَوْمِ الَّذِي عَيَّنَهُ (2) .
ج - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ لِيَوْمِ بِدَايَةِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 1 / 259، ومواهب الجليل 2 / 458، 459، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 315، وروضة الطالبين 2 / 401، والمجموع 6 / 496.
(2) بداية المجتهد 1 / 315.
(3) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1061، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 314، وروضة الطالبين 2 / 401، والمغني 3 / 210، والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.(40/190)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الشَّهْرِ، وَأَوَّل الشَّهْرِ هُوَ غُرُوبُ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ لَهُ، وَلِهَذَا تَحِل الدُّيُونُ الْمُعَلَّقَةُ بِهِ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَدْخُل قَبْل الْغُرُوبِ لِيَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّيَالِيَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلأَْيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لاَ لِلأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ، إِلاَّ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ، فَلَيْلَةُ عَرَفَةَ تَابِعَةٌ لِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ تَابِعَةٌ لِيَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَيَالِي أَيَّامِ الأَْضْحَى تَبَعٌ لِنَهَارِ مَا مَضَى، وَذَلِكَ رِفْقًا بِالنَّاسِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّل أَيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ. قَال بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 211، وكشاف القناع 2 / 354.
(2) البحر الرائق 2 / 329.
(3) بداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 210.(40/190)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَل مُعْتَكَفَهُ (1) .
وَقَالُوا: لأَِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ كُل مَنْ شَهِدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَصِيَامُ هَذَا الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ مِنْ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ أَوَّل أَيَّامِهِ، فَكَذَلِكَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ بِالنَّذْرِ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ أَوَّل أَيَّامِهِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الاِعْتِكَافِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ (3) ، وَوَقْتُ الصِّيَامِ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الاِعْتِكَافِ قَبْل شَرْطِهِ (4) .
د - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله كله إذا أراد أن يعتكف. . . " أخرجه مسلم (2 / 831 ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني 3 / 211.
(3) حديث: " لا اعتكاف إلا بصيام ". أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 440 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وعنه البيهقي (4 / 317 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وذكر البيهقي أن في إسناده راويا ضعيفا.
(4) المغني 3 / 211.(40/191)
الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ هَؤُلاَءِ - عَدَا الْحَنَفِيَّةِ - أَنْ يَبِيتَ الْمُعْتَكِفُ لَيْلَةَ الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ، لِيُحْيِىَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلَى الْمُصَلَّى. وَقَال سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَْوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَال: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1059، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 315، والمجموع 6 / 491، وروضة الطالبين 2 / 401، ومغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 211، والكافي 1 / 369، 376، وكشاف القناع 2 / 354.(40/191)
فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْعَشْرَ - بِغَيْرِ هَاءٍ - هِيَ عَدَدُ اللَّيَالِي، وَأَوَّل اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ أَنْ يَكُونَ فِي مُعْتَكَفِهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ بَعْدَ صَلاَةِ صُبْحِ يَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، قَال بِهِ إِسْحَاقُ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُل رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَل مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ (4) .
__________
(1) حديث: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 271 ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 211.
(3) بداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 212، والكافي 1 / 369، عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري لصديق بن حسن القنوجي 3 / 510.
(4) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 283 - 284 ط السلفية) .(40/192)
رَابِعًا: حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ بِحَسَبِ مَا إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي النَّذْرِ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِيهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي اعْتِكَافِ مَنْذُورٍ شُرِطَ فِيهِ التَّتَابُعُ:
51 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، أَوْ نَوَى التَّتَابُعَ فِي اعْتِكَافِهَا، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ التَّتَابُعِ، وَدَخَل اللَّيْل فِي اعْتِكَافِ هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَلَزِمَهُ مَا بَيْنَ الأَْيَّامِ مِنَ اللَّيَالِي، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي الاِعْتِكَافِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، فَلَزِمَ الْمُعْتَكِفَ بِالْتِزَامِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ مَقْصُودٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الأَْيَّامِ الْمَنْذُورِ اعْتِكَافُهَا، عَقِبَ الإِْتْيَانِ بِبَعْضِهَا (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إِلاَّ أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُل لِضَرُورَةِ حُصُول التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1061، 1062، والتاج والإكليل 2 / 459، وروضة الطالبين 2 / 399، 401، ومغني المحتاج 1 / 455، والمغني 3 / 213، والكافي 1 / 370.
(2) مغني المحتاج 1 / 455.
(3) المغني 3 / 213، والبدائع 3 / 1060.(40/192)
ب - حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي اعْتِكَافٍ مَنْذُورٍ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ:
52 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَانٍ دُونَ اشْتِرَاطِ تَتَابُعٍ فِي اعْتِكَافِهِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّتَابُعِ فِيهِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي اعْتِكَافِهِ هَذَا الزَّمَانَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ يَحْصُل فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ، اقْتَضَى التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَتَابِعًا، وَقِيَاسًا عَلَى مُدَّةِ الإِْيلاَءِ وَالْعُنَّةِ وَالْعِدَّةِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مُتَتَابِعًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ كَذَلِكَ مُتَتَابِعًا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ بِالنَّذْرِ، وَالإِْطْلاَقُ فِي الاِعْتِكَافِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّتَابُعِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الاِعْتِكَافَ يَدُومُ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ، فَكَانَ مُتَّصِل
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، بدائع الصنائع 3 / 1061، 1063، والتاج والإكليل 2 / 459، وروضة الطالبين 2 / 399، ومغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 212، والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.
(2) مغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 212، وكشاف القناع 2 / 355.(40/193)
الأَْجْزَاءِ، وَمَا كَانَ مُتَّصِل الأَْجْزَاءِ لاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ (1) .
وَأَضَافَ هَؤُلاَءِ: بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ، وَمَبْنَاهَا عَلَى الاِتِّصَال؛ لأَِنَّهَا لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ، وَاللَّيَالِي قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّتَابُعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، إِلاَّ أَنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَفِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ لاَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي اعْتِكَافِهِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلنَّاذِرِ التَّتَابُعَ فِي اعْتِكَافِهِ هَذَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ مَعْنًى يَصِحُّ فِيهِ التَّفْرِيقُ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ كَالصِّيَامِ (4) .
وَبِأَنَّ لَفْظَ النَّذْرِ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَلَمْ يَنْوِ النَّاذِرُ التَّتَابُعَ فِي الاِعْتِكَافِ، فَيَجْرِي اللَّفْظُ عَلَى إِطْلاَقِهِ وَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ التَّتَابُعُ فِي الاِعْتِكَافِ كَمَا فِي الصَّوْمِ (5) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329.
(2) بدائع الصنائع 3 / 1062، والمغني 3 / 212.
(3) بدائع الصنائع 3 / 1061، وروضة الطالبين 2 / 399، ومغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 212، والكافي 1 / 370، والإنصاف 3 / 370.
(4) المغني 3 / 212.
(5) بدائع الصنائع 3 / 1062.(40/193)
خَامِسًا: حُكْمُ الْتِزَامِ الْمُعْتَكِفِ بِالصِّيَامِ أَثْنَاءَ اعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ:
53 - مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الاِعْتِكَافِ، فَلَزِمَ بِالنَّذْرِ، عَمَلاً بِالْتِزَامِهِ، كَالْتِزَامِهِ التَّتَابُعَ فِي الاِعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
54 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ مُطْلَقًا، دُونَ الْتِزَامِ الصِّيَامِ مَعَهُ بِالنَّذْرِ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، أَمْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ مَعَ اعْتِكَافِهِ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا عَنِ اشْتِرَاطِ الصِّيَامِ مَعَهُ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، فَلاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِصَوْمٍ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَنَافِعٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (2) .
__________
(1) المبسوط 3 / 116، والمقدمات 1 / 257، ونهاية المحتاج 8 / 235، وزاد المحتاج 1 / 545، والمغني 3 / 185، والكافي 1 / 368.
(2) بدائع الصنائع 3 / 1059، الدر المختار ورد المحتار 2 / 130، والمبسوط 3 / 115، ومواهب الجليل 2 / 460، والمقدمات الممهدات 1 / 257، 258، وبداية المجتهد 1 / 315، والمغاني 3 / 185 - 186، الكافي 1 / 368، ومغني المحتاج 1 / 453، وروضة الطالبين 2 / 393.(40/194)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (1)
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ الاِعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِصَوْمٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ جَعَل عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال لَهُ: اعْتَكِفْ وَصُمْ (2) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: " مَنِ اعْتَكَفَ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث: " اعتكف وصم ". أخرجه أبو داود (2 / 837 - 838 ط حمص) ، والبيهقي في السنن (4 / 316 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وذكر البيهقي أن في إسناده راويا ضعيفا.
(3) حديث: " لا اعتكاف إلا بصيام " سبق تخريجه (ف 49) .(40/194)
فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ " (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ صِيَامٌ مَعَ اعْتِكَافِهِ، وَأَنَّ اعْتِكَافَهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ صِيَامٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ لُبَابَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَْفْضَل عِنْدَهُمْ أَنْ يَصُومَ النَّاذِرُ مَعَ اعْتِكَافِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ وَيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ (3) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَاهُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
__________
(1) أثر عائشة رضي الله عنها: " من اعتكف فعليه الصيام ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4 / 317 ط دائرة المعارف) وأثر ابن عباس رضي الله عنهم ا " لا اعتكاف إلا بصوم " أخرجه البيهقي كذلك (4 / 318) .
(2) المقدمات الممهدات 1 / 257، وبداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 185 - 186، ومغني المحتاج 1 / 453، وروضة الطالبين 2 / 393.
(3) حديث: " ليس على المعتكف صيام. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 439 ط دائرة المعارف) ، والبيهقي في السنن الكبرى (4 / 319 ط دائرة المعارف العثمانية) وصوب البيهقي وقفه على ابن عباس.(40/195)
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) .
وَأَضَافُوا أَنَّ الاِعْتِكَافَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَاللَّيْل لَيْسَ زَمَانًا لِلصِّيَامِ، وَكُل عِبَادَةٍ صَحَّ بَعْضُهَا بِغَيْرِ صَوْمٍ فَإِنَّ جَمِيعَهَا يَصِحُّ بِغَيْرِهِ (2) وَقَالُوا أَيْضًا: بِأَنَّ اللَّيْل يَدْخُل عَلَى الْمُعْتَكِفِ فَيَكُونُ فِيهِ مُعْتَكِفًا وَهُوَ غَيْرُ صَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الاِعْتِكَافِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْل (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ إِيجَابَ الصَّوْمِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ حُكْمٌ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي إِيجَابِهِ نَصٌّ وَلاَ إِجْمَاعٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ (4) .
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ:
55 - مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَال هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك ". سبق تخريجه (ف 5) .
(2) الكافي 1 / 368، والمغني 3 / 186.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 258.
(4) المغني 3 / 186.(40/195)
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى (2) كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَوْل النَّاذِرِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِزَامِ الإِْحْرَامِ، يَسْتَعْمِلُهُ النَّاذِرُونَ لاِلْتِزَامِ الإِْحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَل فِيهِ وَجْهُ الْكِنَايَةِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ، إِذْ هُوَ كِنَايَةُ الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ، وَالإِْحْرَامُ يَكُونُ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَحَدُهُمَا، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْلْفَاظِ فَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الإِْحْرَامِ بِهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ، وَلاَ عُرْفَ هُنَاكَ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَاشِيًا؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 331 - 332، وكفاية الطالب الرباني 3 / 67، وروضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج 8 228، وزاد المحتاج 4 / 503، والمغني 9 / 12، والكافي 4 / 423، وكشاف القناع 6 / 282.
(2) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . . " سبق تخريجه (ف 42) .(40/196)
وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، كَصِفَةِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ (1) وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدِ الْتَزَمَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِلْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا (2) وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لاَ يُجْزِئُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَشْيَ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ النَّاذِرُ الْمَشْيَ إِلَيْهِ حُمِل عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِيهِ لِنَذْرِهِ (3) وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (4)
حُكْمُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ عَجَزَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2867.
(2) نهاية المحتاج 8 / 229، زاد المحتاج 4 / 503
(3) المغني 9 / 12، والكافي 4 / 423، وكشاف القناع 6 / 282.
(4) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " سبق تخريجه (ف 5) .(40/196)
عَنِ الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ فَرَكِبَ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَفْتَى بِهِ عَطَاءٌ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا عَنِ الْمَشْيِ، وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً اسْتِحْسَانًا، وَقَال مَالِكٌ: مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ مَاشِيًا فَعَجَزَ فِي مَشْيِهِ فَلْيَرْكَبْ فِيمَا عَجَزَ، فَإِذَا اسْتَرَاحَ نَزَل وَعَرِفَ أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ مِنَ الأَْرْضِ، ثُمَّ يَعُودُ ثَانِيَةً فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْشِيَ عِدَّةَ أَيَّامِ رُكُوبِهِ، إِذْ قَدْ يَرْكَبُ مَوَاضِعَ رُكُوبِهِ أَوَّلاً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ثَانِيَةً إِنْ كَانَ قَوِيًّا أَنْ يَمْشِيَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ، وَلَكِنْ يَمْشِي مَا رَكِبَ فَقَطْ، وَيُهْرِقُ دَمًا لِتَفْرِيقِ مَشْيِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ حَجُّهُ عَنْ نَذْرِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْمُرَادُ بِالْعُذْرِ أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ، كَنَظِيرِهِ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْعَجْزِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْمَرَضِ، وَقَيَّدَ الْبُلْقِينِيُّ وُجُوبَ الدَّمِ بِمَا إِذَا رَكِبَ(40/197)
بَعْدَ إِحْرَامِهِ مُطْلَقًا أَوْ قَبْلَهُ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مَشْيًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ إِذْ لاَ خَلَل فِي النُّسُكِ يُوجِبُ دَمًا، وَإِنْ رَكِبَ بِلاَ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَيْهِ دَمٌ مَعَ عِصْيَانِهِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، لِتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهَا لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ: " يَمْشِي، فَإِذَا أَعْيَى رَكِبَ وَيُهْدِي جَزُورًا " (3) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِذَا رَكِبَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَخَل بِوَاجِبٍ فِي الإِْحْرَامِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866 - 2867، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 333 - 334، وكفاية الطالب الرباني 3 / 68 - 69، وبداية المجتهد 1 / 425 ونهاية المحتاج 8 / 218، 230، وزاد المحتاج 4 / 504، والمغني 9 / 12.
(2) حديث: " إن أختي نذرت أن تمشي إلى بيت الله. . . . " سبق تخريجه (ف 17) .
(3) أثر علي: فيمن نذر أن يمشي إلى البيت. . . أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8 / 450 ط المجلس العلمي) ، والبيهقي في السن الكبرى (10 / 81 ط دائرة المعارف العثمانية) .(40/197)
فَلَزِمَهُ هَدْيُهُ كَتَارِكِ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ " الْحَفِيدُ " عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (3) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَدْ عَجَزَ عَمَّا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ، وَهُوَ الْمَشْيُ، فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَائِمًا فَصَلَّى مِنْ قُعُودٍ لِعَجْزِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً وَلاَ قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ (4)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِذَا رَكِبَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَسَأَل النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال:
__________
(1) زاد المحتاج 4 / 504، والمغني 9 / 12.
(2) بداية المجتهد 1 / 425، ونهاية المحتاج 8 / 230، وزاد المحتاج 4 / 503، 504.
(3) سورة البقرة / 286.
(4) نهاية المحتاج 8 / 230، وبدائع الصنائع 6 / 2870.
(5) المغني 9 / 12، وكشاف القناع 6 / 283.(40/198)
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا " (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (2)
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ بُقْعَةٍ مِنْهَا: 57 - مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى بُقْعَةٍ مِنْهَا: كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ أَبِي قُبَيْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَعُ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى بُقْعَةٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مَاشِيًا، وَهُوَ الْمَذَهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ، شَبِيهٌ بِمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْبَيْتِ
__________
(1) حديث عقبة بن عامر وحديث ابن عباس سبق تخريجهما (ف 17) .
(2) حديث: " كفارة النذر كفارة اليمين ". سبق تخريجه (ف 12) .
(3) روضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج 8 / 229، والمغني 9 / 15، والكافي 4 / 423، وكشاف القناع 6 / 282.(40/198)
الْحَرَامِ؛ لأَِنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَحَلٌّ لِلنُّسُكِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ إِحْرَامُ الْمَكِّيِّ بِالْحَجِّ مِنْهُ (1) وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ جَعْلَهُ وَصْفًا لِلْعِبَادَةِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَائِمًا (2) وَأَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ يُقْصَدُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ الْمَشْيُ إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَيُحْمَل النَّذْرُ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ، وَيُلْغَى مَا يُخَالِفُهُ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ بِلاَ خِلاَفٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْكَعْبَةَ أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى، صَحَّ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، وَإِنْ ذَكَرَ الْحَرَمَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (4) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلُزُومِ مَشْيِ النَّاذِرِ إِلَى
__________
(1) المغني 9 / 15، والكافي 4 / 423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 229.
(3) كشاف القناع 6 / 292.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2867 - 2868.(40/199)
ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِمَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ فِي " نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ".
وَاسْتُدِل لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْحَرَمِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لاَ يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إِلَى مَكَانٍ مَا؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ؛ إِذْ هُوَ مُجَرَّدُ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةً، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ بِسَائِرِ الأَْلْفَاظِ، إِلاَّ أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَى النَّاذِرِ الإِْحْرَامَ فِي لَفْظِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ لِلْعُرْفِ؛ إِذْ جَرَى عُرْفُ النَّاسِ عَلَى اسْتِعْمَال هَذِهِ الأَْلْفَاظِ كِنَايَةً عَنِ الْتِزَامِ الإِْحْرَامِ، وَلَمْ يَتَعَارَفُوا عَلَى اسْتِعْمَال غَيْرِهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ، فَيُقَال: مَشَى إِلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ، وَلاَ يُقَال: مَشَى إِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْكِنَايَةُ يُتَّبَعُ فِيهَا عَيْنُ اللَّفْظِ لاَ الْمَعْنَى، بِخِلاَفِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى اللاَّزِمُ الْمَشْهُورُ فِي مَحَل الْحَقِيقَةِ؛ لأَِنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالاِصْطِلاَحِ كَالأَْسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، فَيُتَّبَعُ فِيهَا الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَال اللَّفْظِ، بِخِلاَفِ الْمَجَازِ (1) وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنْ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى الْحَرَمِ، وَلُزُومِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2868.(40/199)
مَشْيِ النَّاذِرِ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ مَكَّةَ، لأَِنَّ الْحَرَمَ يَشْتَمِل عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى مَكَّةَ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (1) وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلاَفِ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَيْتِ اللَّهِ، حَيْثُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ أَوِ الْعُمْرَةُ مَاشِيًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ (الْكَعْبَةِ، مَكَّةَ، وَبَيْتِ اللَّهِ) يُسْتَعْمَل عِنْدَ اسْتِعْمَال الآْخَرِ، فَيُقَال: فُلاَنٌ مَشَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَإِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُقَال: مَشَى إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلِهَذَا فَلاَ يَلْزَمُ بِنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى هَذِهِ شَيْءٌ (2) وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّل مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي الإِْحْرَامِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.(40/200)
النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْحِجْرِ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِخِلاَفِ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ مِنًى أَوْ عَرَفَةَ، أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ ذِي طُوًى، أَوِ الْحَرَمِ أَوْ جِبَال الْحَرَمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْحِجْرِ أَوْ إِلَى الْحَطِيمِ أَوْ زَمْزَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ (2) وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَعْبَةِ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَحْتَوِي عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْبَيْتُ لاَ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِخِلاَفِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ: كَمِنًى أَوْ عَرَفَةَ أَوْ ذِي طُوًى أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ نَحْوِهَا، فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِهَا بَيْتٌ يُحَجُّ إِلَيْهِ أَوْ يُزَارُ (3)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866.
(2) التاج والإكليل 3 / 332، وشرح الزرقاني على خليل وحاشية البناني 3 / 98.
(3) التاج والإكليل 3 / 332، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 3 / 98.(40/200)
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدَيْهِمَا:
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوِ الْمَشْيِ إِلَى مَسْجِدَيْهِمَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّل مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ لأَِنَّهُ لاَ قُرْبَةَ فِي الْمَشْيِ، وَلاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَلْغُو نَذْرُ مَشْيٍ وَذَهَابٍ وَمَسِيرٍ لِلْمَدِينَةِ أَوْ إِيلِيَاءَ فَلاَ يَلْزَمُ ذَهَابُهُ لَهُمَا لاَ مَاشِيًا وَلاَ رَاكِبًا، وَمَحَل عَدَمِ لُزُومِ الإِْتْيَانِ لاَ مَاشِيًا وَلاَ رَاكِبًا لِلْبَلَدَيْنِ إِنْ لَمْ يَنْوِ أَوْ يَنْذُرْ صَلاَةً بِمَسْجِدَيْهِمَا أَوْ يُسَمِّهِمَا - أَيِ الْمَسْجِدَيْنِ لاَ الْبَلَدَيْنِ - فَإِنْ نَوَى صَلاَةً فِيهِمَا أَوْ سَمَّاهُمَا لَزِمَهُ الإِْتْيَانُ فَيَرْكَبُ وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَتَاهُ رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالنَّذْرِ الْقُرْبَةُ وَالطَّاعَةُ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 67، والبدائع 6 / 2866، ومغني المحتاج 4 / 363.
(2) شرح الزرقاني 3 / 105، والشرح الكبير 2 / 173.(40/201)
وَتَحْصِيل هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِنَّمَا تُقْصَدُ لِلصَّلاَةِ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَذْرُهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَيْهَا؛ لاِشْتِرَاكِهَا فِي عِظَمِ الْفَضِيلَةِ وَزِيَادَةِ ثَوَابِ الصَّلاَةِ فِيهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ، فَيَلْزَمُ الْمَشْيُ إِلَيْهِمَا بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1)
نَذْرُ حَجِّ الْبَيْتِ هَذَا الْعَامَ مِمَّنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ غَيْرُ هَذِهِ الْحَجَّةِ؛ إِذْ تُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَعَنْ نَذْرِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَدَّمَهَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا نَوَى نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ (2)
__________
(1) كشاف القناع 6 / 283، والمغني 9 / 16.
(2) الدر المختار ورد المحتار 3 / 68، والدسوقي 2 / 169، وروضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 8 / 230، والمغني 9 / 20، 21، والكافي 4 / 428.(40/201)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ: " يُجْزِئُ لَهُمَا جَمِيعًا " (1) وَلأَِنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَدْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ أَتَى بِهَا فِيهِ، فَتُجْزِئُ عَنْ نَذْرِهِ وَعَنْ فَرْضِهِ، كَمَا لَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَحُجَّ لِنَذْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا نَوَى نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَى غَيْرَ الْفَرْضِ فَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ (3) وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ نَوَى الْفَرْضَ بِنَذْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَطْلَقَ؛ إِذْ لاَ يَنْعَقِدُ نُسُكٌ مُحْتَمَلٌ.
__________
(1) المغني 9 / 21.
(2) المغني 9 / 21.
(3) المغني 9 / 20، 21، والكافي 4 / 428، والمحلي 7 / 267، وأسنى المطالب 1 / 586، ومغني المحتاج 4 / 365.(40/202)
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ وَحَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِبَادَتَانِ تَجِبَانِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ حَجَّتَيْنِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ مِنْ عَامِ النَّذْرِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَنَوَى أَدَاءَ نَذْرِهِ وَفَرِيضَتِهِ، أَجْزَأَهُ لِنَذْرِهِ لاَ لِفَرْضِهِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَرِيضَةِ قَابِلاً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَلَوْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَلاَ نَذْرًا انْصَرَفَ لِلْفَرْضِ كَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ (2)
نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ الْمَنْذُورِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: 60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
__________
(1) المغني 9 / 21، ومغني المحتاج 4 / 365، وأسنى المطالب 1 / 586.
(2) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 3 / 70، والدسوقي 2 / 169، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 335، وشرح الزرقاني على مختصر الخليل 3 / 101.(40/202)
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، قَال بِهِ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَالصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلاَةٍ، وَالصَّلاَةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاَةٍ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (3) وَبِأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَدَاءَ الصَّلاَةِ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنْ أَدَّاهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71، وروضة الطالبين 3 / 325، ونهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506، والمغني 9 / 17، والكافي 4 / 424، والدسوقي 2 / 173.
(2) حديث: " الصلاة في المسجد الحرام بمائة. . " ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 7 ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن.
(3) حديث: " صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة. . . " سبق تخريجه (ف 42) .(40/203)
يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (1) وَبِأَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ (2) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَدْ نَذَرَ بِزِيَادَةِ قُرْبَةٍ، فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَدَّى الصَّلاَةَ فِي غَيْرِهِ كَانَ آتِيًا بِغَيْرِ مَا نَذَرَ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ، وَثَوَابُ الْعَمَل فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَل فِي مَكَّةَ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُجْزِئُهُ كَذَلِكَ الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ؛ لأَِنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْكَعْبَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) المصدر السابق.
(3) فتح القدير 4 / 26.(40/203)
وَعَنِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ مَوْضِعٌ اخْتَارَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعٌ كَهَذَا لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ، ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (3) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَلَيْسَتِ الْقُرْبَةُ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَوْضِعٌ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ النَّذْرُ بِهِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ (4) وَبِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ
__________
(1) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 331، 344، 345، وشرح الزرقاني 2 / 105 - 106، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 3 / 72، وحاشية الدسوقي 2 / 173.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 3 / 72.
(3) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2889.(40/204)
الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، بَل إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ، فَكَانَ تَخْصِيصُ الْمَكَانِ مُلْغًى، وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (1)
ب - نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى: 61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَفِيمَا إِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوْ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لِلصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ، وَقَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالتَّعْيِينِ، وَالأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ تُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَيَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2)
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 2 / 71.
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 344 - 345، وشرح الزرقاني 3 / 105، وروضة الطالبين 3 / 325، ونهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506 - 507، والمغني 9 / 17، والكافي 4 / 424.(40/204)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل هَهُنَا، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، فَقَال: شَأْنُكَ إِذًا (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هَهُنَا لأََجْزَأَ عَنْكَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ (2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لأََخْرُجَنَّ فَلأَُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: صَلاَةٌ فِيهِ أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (3)
__________
(1) حديث: " إني نذرت لله إن فتح الله. . . " سبق تخريجه (ف 41) .
(2) حديث " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا. . . ". تقدم تخريجه (ف 43) .
(3) حديث: " صلاة فيه أفضل. . . تقدم تخريجه (ف 43)(40/205)
وَبِأَنَّ مَسْجِدَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى بِاتِّفَاقٍ (1) ؛ وَذَلِكَ لأَِفْضَلِيَّةِ الصَّلاَةِ فِيهِمَا عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، تُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَلَوْ كَانَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فِي الْفَضْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَلاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلاَ تُجْزِيهِ الصَّلاَةُ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ فَضْلاً مِنْهُ كَمَسْجِدِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، قَال بِهِ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَاسْتَدَل لِلْقَوْل الثَّانِي (وَهُمْ جُمْهُورُ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 345.
(2) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير. . . " سبق تخريجه (ف 42) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889، وفتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(4) المصادر السابقة.(40/205)
الْحَنَفِيَّةِ) ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ (وَهُوَ زُفَرُ) ، بِمَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ (وَهِيَ نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
نَذْرُ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ: 62 - اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ كَالْمَدِينَةِ، أَوِ الأَْمْصَارِ أَوِ الثُّغُورِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَحُكْمُ الذَّبْحِ بِهَا عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرَهَا لَزِمَهُ الذَّبْحُ وَإِيصَال مَا أَهْدَاهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فِي النَّذْرِ، وَتَفْرِقَةُ الْهَدْيِ وَلَحْمِ الذَّبِيحَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ كُفَّارًا، فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ ذَلِكَ؛ لِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ الْمَنْذُورِ إِلَيْهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ بِالنَّذْرِ مَا لاَ يَجُوزُ النَّذْرُ لَهُ: كَالصَّنَمِ أَوِ الْكَنِيسَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَظِّمُهُ الْكُفَّارُ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ تَعْظِيمُهُ: كَالْقَبْرِ، أَوِ الْحَجَرِ، أَوِ الشَّجَرِ، قَال بِهِ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَال:
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 341، وحاشية البناني على شرح الزرقاني 3 / 103، وروضة الطالبين 3 / 327، ونهاية المحتاج 8 / 232 - 233، وزاد المحتاج 4 / 506، والمغني 9 / 19، والكافي 4 / 424 - 425، والحاوي الكبير 5 / 488 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 250 ط دار المعرفة.(40/206)
" نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: هَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، قَدْ ضَمَّنَ نَذْرَهُ نَفْعَ فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، بِإِيصَال اللَّحْمِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ قُرْبَةٌ فَتَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ (2) وَبِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُفَرِّقَ النَّاذِرُ لَحْمَ الْهَدْيِ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَذَرَ الذَّبْحَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ نَذَرَ تَفْرِقَةَ اللَّحْمِ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ (3) وَبِأَنَّ نَذْرَ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ فِيهِ إِطْعَامُ مَسَاكِينِ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَاقُ إِلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِطْعَامُ مَسَاكِينِ أَيِّ بَلَدٍ طَاعَةٌ (4) يَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِمَا
__________
(1) حديث ثابت بن الضحاك: " نذر رجل على عهد رسول الله. . . " أخرجه أبو داود (3 / 607 - ط حمص) ، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 439 - ط دار الكتب العلمية) .
(2) المغني 9 / 19.
(3) الكافي 4 / 425.
(4) حاشية البناني على شرح الزرقاني 3 / 103.(40/206)
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (1) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ قَدِ الْتَزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا نَذَرَ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَذْرُ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، وَلاَ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ إِلاَّ فِي الْحَرَمِ، وَمَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، فَلاَ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ بِنَذْرِهِ أَوْ يُذَكِّيَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ (3) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (4) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي حَل ذَبْحُ الْهَدْيِ فِيهِ، هُوَ الْحَرَمُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ نَفْسَ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْبُقْعَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهِيَ الْحَرَمُ؛ لأَِنَّ الدَّمَ لاَ يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ (5)
__________
(1) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . . " سبق تخريجه (ف 5) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506.
(3) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2871، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 340 - 341، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 3 / 103.
(4) سورة الحج / 33.
(5) فتح القدير للشوكاني 3 / 452، وبدائع الصنائع 6 / 2871.(40/207)
وَقَالُوا: إِنَّ الْهَدْيَ إِنَّمَا يَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ لِمَكَّةَ، وَسَوْقُ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الضَّلاَل (1) وَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُهْدَى إِلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَإِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهَا لاَ تُسَمَّى بِهَذَا الاِسْمِ (2) وَأَضَافُوا إِنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ لِغَيْرِ مَكَّةَ مَعْصِيَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ نَذْرُهَا أَوِ الْوَفَاءُ بِهَا (3) ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ (4)
نَذْرُ الْهَدْيِ دُونَ تَعْيِينِهِ: 63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِذَا نَذَرَ هَدْيًا دُونَ تَعْيِينِهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا فَلاَ يُجْزِيهِ مِنَ الْهَدْيِ إِلاَّ مَا يُجْزِي فِي الأُْضْحِيَّةِ (ر: أُضْحِيَّة ف 22 - 38) إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَاةٌ؛ لأَِنَّهَا الأَْقَل، هَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَفْضَل الْهَدْيِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ بَدَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَشَاةٌ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ،
__________
(1) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 340 - 341.
(2) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2871.
(3) مواهب الجليل 3 / 340.
(4) حديث: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " سبق تخريجه (ف 5) .(40/207)
وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنَ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ يُحْمَل عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ صُرِفَ الْمُطْلَقُ إِلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ؛ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ اسْمُ الْهَدْيِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ وَالْحَال هَذِهِ صَلاَةٌ شَرْعِيَّةٌ، لاَ لُغَوِيَّةٌ (2) وَبِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَإِطْلاَقُ الْهَدْيِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ هُوَ مِنْ قَبِيل الْمَجَازِ (3)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقَل مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسٍ مَا يُهْدَى، وَيَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِكُل مِنْحَةٍ، حَتَّى الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ وَكُل مَا يُتَمَوَّل؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (4) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَقَل مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) البحر الرائق 3 / 75، ورد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2871، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 343، وشرح الزرقاني 3 / 104، وروضة الطالبين 3 / 329، ونهاية المحتاج 8 / 232، والمغني 9 / 18، والكافي 4 / 423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 232، والمغني 9 / 18، والكافي 4 / 423.
(3) البحر الرائق 3 / 75.
(4) روضة الطالبين 3 / 329.(40/208)
وَلَوْ كَانَ دَجَاجَةً أَوْ بَيْضَةً أَوْ كُل مُتَمَوَّلٍ يُسَمَّى هَدْيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال فِي شَأْنِ التَّبْكِيرِ فِي الرَّوَاحِ إِلَى الْجُمُعَةِ: مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً (1) ، فَمَنْ تَقَرَّبَ بِمِثْل ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَهْدَى، فَيُجْزِئُ مِثْل ذَلِكَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلِقِ لِلْهَدْيِ (2)
نَذْرُ طَاعَةٍ لاَ يُطِيقُهَا النَّاذِرُ أَوْ عَجَزَ عَنْهَا بَعْدَ قُدْرَتِهِ:
64 - مَنْ نَذَرَ طَاعَةً فَلَمْ يُطِقْ أَدَاءَهَا ابْتِدَاءً، أَوْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَا نَذَرَهُ، وَمَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ أَبَدًا فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي وَقْتٍ مُحَدَّدٍ فَجَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَهُوَ لاَ يُطِيقُ أَدَاءَ مَا نَذَرَ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (3)
__________
(1) حديث: " من راح في الساعة الرابعة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 366 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) روضة الطالبين 3 / 329، والمهذب 1 / 250.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 404، ومواهب الجليل 3 / 320.(40/208)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2) الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ الْوَفَاءَ بِهِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِأَدَاءِ خَلَفِهِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا فَعَجَزَ عَنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عَمَّا نَذَرَهُ مِنْهُ (3) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْتِزَامَ النَّاذِرِ مَا لاَ يُطِيقُ بِالنَّذْرِ مَعْصِيَةٌ؛ لأَِنَّ الْوَفَاءَ بِهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِهْلاَكِ النَّاذِرِ، وَمِثْل هَذَا لاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) وَبِأَنَّ الْوَفَاءَ بِعَيْنِ الْمَنْذُورِ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ إِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ، فَأَمَّا عِنْدُ التَّعَذُّرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا، وَذَلِكَ بِأَدَاءِ خَلَفِهِ؛ لأَِنَّ الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْصْل، كَمَا هُوَ الْحَال فِي اسْتِعْمَال التُّرَابِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالأَْشْهُرِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ (5)
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . " سبق تخريجه (ف 5) .
(3) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2885.
(4) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2864.
(5) بدائع الصنائع 6 / 2885.(40/209)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوِ اعْتِكَافًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَعَجَزَ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرَبِ فِيهِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لِلتَّأْخِيرِ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ نَذَرَ صَدَقَةً فَأَعْسَرَ بِهَا سَقَطَ عَنْهُ النَّذْرُ مَا دَامَ مُعْسِرًا فَإِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا، وَإِنْ نَذَرَ حَجًّا فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَمَنَعَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ قَبْل الإِْحْرَامِ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لاَ قَضَاءَ لَوْ كَانَ مَعْضُوبًا وَقْتَ النَّذْرِ أَوْ طَرَأَ الْعَضْبُ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَال حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا امْتَنَعَ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بَعْدَ الاِسْتِطَاعَةِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ يَجِبَانِ شَرْعًا مَعَ الْعَجْزِ، وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، فَلاَ أَثَرَ لِعَجْزِ النَّاذِرِ عَنْهُمَا فِي وُجُوبِهِمَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا إِنْ عَيَّنَ وَقْتًا لِلأَْدَاءِ، بِخِلاَفِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الاِسْتِطَاعَةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ أَوِ الْحَجَّةُ الْمَنْذُورَةُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَانِعٌ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ؛ لاِسْتِقْرَارِهِ فِي ذِمَّتِهِ بِتَمَكُّنِهِ هَذَا،
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 8 / 231، وزاد المحتاج 4 / 505.(40/209)
بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ النَّاذِرُ مِنْ أَدَائِهِ، بِأَنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْل تَمَكُّنِهِ مِنَ الأَْدَاءِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، لأَِنَّ الْمَنْذُورَ نُسُكٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ النَّاذِرُ مِنْهُ (1)
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ - وَهُمُ الْحَنَابِلَةُ - أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَدَاءَ الصِّيَامِ أَوِ الصَّلاَةِ أَوِ الاِعْتِكَافِ أَوِ الطَّوَافِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلَمْ يُطِقْ أَدَاءَهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهُ عَجْزًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِذَا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ مَرْجُوَّ الزَّوَال، انْتَظَرَ زَوَالَهُ، وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ نَذَرَ حَجًّا لَزِمَهُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَعْضُوبًا، إِلاَّ أَنَّهُ يُنِيبُ عَنْهُ فِي حَال الْعَضْبِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَإِنْ أَطَاقَ الْبَعْضَ أَتَى بِهِ وَكَفَّرَ لِلْبَاقِي.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ صِيَامًا فَعَجَزَ عَنْهُ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ كَفَّارَةِ النَّذْرِ إِطْعَامٌ عَنْ كُل يَوْمٍ مَنْذُورٍ صِيَامُهُ أَمْ لاَ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُل يَوْمٍ نَذَرَ صِيَامَهُ مِسْكِينًا، كَمَا هُوَ الْحَال فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلاَمِ الآْدَمِيِّينَ يُحْمَل عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ شَيْءٌ غَيْرُ
__________
(1) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 3 / 322، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 8 / 231، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 4 / 505.(40/210)
الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ نَذْرٌ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، كَسَائِرِ النُّذُورِ، وَلأَِنَّ مُوجِبَ النَّذْرِ مُوجِبُ الْيَمِينِ إِلاَّ مَعَ إِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُخْتٍ لَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا " (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُةُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ (3) وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ، وَمُوجِبُ النَّذْرِ هُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، إِلاَّ مَعَ إِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزًا عَنْهُ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 9 - 11، وَالْكَافِي 4 / 428 - 429، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 6 / 282.
(2) حَدِيثُ: " مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 17) .
(3) حَدِيثُ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 24) .(40/210)
فَيَلْزَمُ فِيهِ مَا يَلْزَمُ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ (1)
الْمَوْتُ قَبْل فِعْل الطَّاعَةِ الْمَنْذُورَةِ: مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَمَاتَ قَبْل فِعْلِهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا نَذَرَهُ حَجًّا أَوْ صِيَامًا أَوِ اعْتِكَافًا أَوْ صَلاَةً أَوْ صَدَقَةً، أَوْ غَيْرَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَوَّلاً: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْل أَدَائِهِ: مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَمَاتَ قَبْل أَدَائِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْل تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ، أَوْ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ. أ - مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْل تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ: 65 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ قَبْل تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، بِأَنْ مَاتَ قَبْل حَجِّ النَّاسِ مِنْ سَنَةِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلاَ يُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ وَصَّى بِهِ حُجَّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بِمَالِهِ (أَيْ بِمَال
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 10، وَالْكَافِي 4 / 428.(40/211)
الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ) . قَال بِهِ: ابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالنَّذْرِ قَدْ مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ، فَسَقَطَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ (2) وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلاَةِ (3) وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الاِخْتِيَارِ، وَذَلِكَ فِي الإِْيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَالإِْيصَاءَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، وَلأَِنَّ الْحَجَّ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الْحَجُّ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ تَبَرُّعًا، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (4)
__________
(1) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 72 - 74، تُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ 1 / 650، وَشَرْحُ مِنَحِ الْجَلِيل 1 / 450 - 451، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 3 / 3، وَالْمَجْمُوعُ 2 / 494، 7 / 109، 8 / 497، وَالْمُغْنِي 3 / 242، الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ 2 / 271.
(2) الْمَجْمُوعُ 7 / 109.
(3) الْمُغْنِي 3 / 242.
(4) الْعِنَايَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ 2 / 84.(40/211)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (3) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ
__________
(1) الْمُغْنِي 3 / 242، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، 393.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11.
(3) حَدِيثُ: " أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (11 / 584 ط السَّلَفِيَّةِ) .(40/212)
كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَى هَذَا النَّاذِرِ، حَتَّى اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَالدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ الْمَنْذُورَ دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَرَكَ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (2)
ب - مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ: 66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، بِأَنْ يُخْرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُؤَدَّى بِهِ ذَلِكَ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَال بِهِ
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (4 / 64، ط السَّلَفِيَّةِ.
(2) الْمُغْنِي 3 / 243، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336.(40/212)
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ مَالاً يُحَجُّ مِنْهُ النَّذْرُ، فَلاَ يَلْزَمُ الْوَارِثَ الْحَجُّ عَنْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَْنْصَارِيُّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ (3) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 7 / 109، 112، 114، 116، 8 / 494، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 4 / 505، وَالْمُغْنِي 3 / 242، 244، 9 / 30، 31، وَالْكَافِي 4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، 393.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11.
(3) حَدِيثُ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ 11 / 583 ط السَّلَفِيَّةِ.(40/213)
لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ " (1) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَال: هَل كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال فَمَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: قَضَيْتُهُ عَنْهَا، قَال: فَاللَّهُ خَيْرُ غُرَمَائِكِ، حُجِّي عَنْ أُمِّكِ " (3) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: " إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ " (4)
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(2) حَدِيثُ: " إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ. . . ". سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(3) أَثَرُ: " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ. . . " أَخْرَجَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى (7 / 63 ط الْمُنِيرِيَّةِ) .
(4) حَدِيثُ: " إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلَيُّهُ " أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (الْمُصَنَّفُ فِي الْجُزْءِ الْمَطْبُوعِ بِاسْمِ الْجُزْءِ الْمَفْقُودِ ص 65 ط دَارِ عَالَمِ الْكُتُبِ) وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (11 / 584 ط السَّلَفِيَّةِ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ) .(40/213)
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي حَال الْحَيَاةِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (1)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ دَيْنٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ مَال تَرِكَتِهِ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ حُجَّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، قَال بِهِ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 7 / 109، وَالْمُغْنِي 3 / 243.
(2) الْمَجْمُوعِ 7 / 109.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 119، 239، وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 320، تُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ1 / 650 - 651، وَشَرْحُ الْخِرَشِيِّ 2 / 296، وَشَرْحُ مِنَحِ الْجَلِيل 1 / 450، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 3 / 3، وَالْمَجْمُوعُ 7 / 112، 116، وَالْمُنْتَقَى 2 / 270.(40/214)
أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، قَال عَبْدُ اللَّهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَنَا أَفْعَل ذَلِكَ لَتَصَدَّقْتُ وَأَهْدَيْتُ " (1) وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلاَةِ (2) وَبِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ إِجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، لِيَتَحَقَّقَ أَدَاءُ الْمُكَلَّفِ لَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، فَيَظْهَرُ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْل الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ لاَ يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَل إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلاَ أَمْرٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ، بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ بِغَيْرِ امْتِثَالٍ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَذَا يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجِبَ الْعِصْيَانِ، فَلَيْسَ فِعْل الْوَارِثِ الْفِعْل الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَال حَيَاتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هِيَ الأَْفْعَال، لأَِنَّهَا الَّتِي تُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَالاِمْتِثَال، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِالْمَال الَّذِي هُوَ
__________
(1) أَثَرُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. . " عَزَاهُ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ فِي الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ (بِهَامِشِ السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ 4 / 257) إِلَى التَّمْهِيدِ لاِبْنِ جَرِيرٍ
(2) الْمُغْنِي 3 / 242.(40/214)
مُتَعَلَّقُ الأَْفْعَال تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (1)
ثَانِيًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ قَبْل أَدَائِهِ: 67 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يُصَامُ عَنْهُ أَوْ يُطْعَمُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ فَلاَ يُصَامُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَكَانَ كُل يَوْمٍ مِسْكِينًا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا أَوْصَى النَّاذِرُ بِهِ، وَتُخْرَجُ فِدْيَةُ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَلاَ يَلْزَمُ الْوَارِثَ إِخْرَاجُ الْفِدْيَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فَقَطْ، فَإِنْ تَبَرَّعَ وَلِيُّهُ بِهَا عَنْهُ جَازَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ النَّاذِرُ لِلصِّيَامِ صَحِيحًا مُقِيمًا عِنْدَ النَّذْرِ، فَإِنْ نَذَرَ الصِّيَامَ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ وَاسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ لَيْسَتْ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ أَدَاءِ الصَّوْمِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لاَ يَلْتَزِمُ بِالصِّيَامِ حَتَّى يُقِيمَ، فَإِنْ بَرَأَ الْمَرِيضُ يَوْمًا وَاحِدًا،
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85.(40/215)
أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَلَوْ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَصُمْ أَيٌّ مِنْهُمَا فَقَدْ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوِ الإِْقَامَةِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلنَّذْرِ، إِذِ الصَّحِيحُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ لَزِمَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ مِنَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ بِقَدْرِ مَا صَحَّ وَأَقَامَ مِنْ أَيَّامٍ، لأَِنَّهُ أَدْرَكَ مِنَ الأَْيَّامِ مَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ فِيهِ بِمَا نَذَرَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا أَدْرَكَ، فَيُخْرِجُ الْوَلِيُّ الْفِدْيَةَ عَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ إِنْ أَوْصَى النَّاذِرُ بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَصُومَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، إِذَا أَوْصَى أَنْ يُوَفَّى عَنْهُ، وَالْقَوْل بِالإِْطْعَامِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْهِ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ فَلاَ يُصَامُ وَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ (1)
__________
(1) رَدُّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 118 - 119، وَالْهِدَايَةُ وَالْعِنَايَةُ وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 357، وَالْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ 3 / 90 - 91، وَالْفُرُوقُ 3 / 187، وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَيْهِ 1 / 53، 2 / 18، وَالْحَطَّابُ 6 / 408، وَالْمَجْمُوعُ 8 / 497، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 3 / 333، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 526، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 59، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 8 / 26، وَالْمُنْتَقَى 2 / 62 - 63.(40/215)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُل يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ (1) وَحَكَى الإِْمَامُ مَالِكٌ وَالْمَاوَرْدِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ "، بَعْدَ أَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامٍ مَنْذُورٍ مَاتَتْ أُمُّهَا قَبْل أَدَائِهِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا (2) ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " لاَ تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا
__________
(1) حَدِيثُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. . . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (2 / 175 ط دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) .
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامٍ مَنْذُورٍ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 804 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .(40/216)
عَنْهُمْ " (1) ، بَعْدَ أَنْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَنَّهُ قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (2) ، وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلاَفِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُل عَلَى إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الاِعْتِبَارِ، وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي الْقِيَاسِ: أَنْ لاَ يَكُونَ حُكْمُ الأَْصْل مَنْسُوخًا، لأَِنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَال اعْتِبَارِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لاَسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْل ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) - قَال الإِْمَامُ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْمَدِينَةِ، أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ، أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ الأَْمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ آخِرًا (4) وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ لاَ تَدْخُلُهَا بَعْدَ
__________
(1) أَثَرُ عَائِشَةَ: " لاَ تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا عَنْهُمْ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 257 ط دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ) .
(2) حَدِيثُ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (الْفَتْحُ 4 / 192 ط السَّلَفِيَّةِ) ، وَمُسْلِمٌ (2 / 803 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 84.
(4) الْمَصْدَرُ السَّابِقُ.(40/216)
الْمَوْتِ كَالصَّلاَةِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهَا شَاقَّةً عَلَى بَدَنِهِ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا، لأَِنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ، فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي (1) وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الاِخْتِيَارِ، وَذَلِكَ فِي الإِْيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لأَِنَّ الصَّوْمَ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ تَبَرُّعًا (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَصُومُهُ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِصِحَّتِهِ، وَتَابَعَهُ فِي الْقَوْل بِصِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) الْمَبْسُوطِ 3 / 89، وَالْفُرُوقِ 3 / 187، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَالْمُغْنِي 3 / 143، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 334، وَالْمُنْتَقَى 2 / 63.
(2) الْعِنَايَةُ 2 / 84.(40/217)
النَّوَوِيَّ قَال: إِنَّمَا يُصَامُ عَنِ النَّاذِرِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ يَصُمْ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْل إِمْكَانِ الصِّيَامِ فَلاَ يُصَامُ وَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ، وَقَال: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَارِثَ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَالِيٍّ، أَوْ كَانَ مَالِيًّا وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ مَالاً يُقْضَى مِنْهُ النَّذْرُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْوَارِثِ قَضَاؤُهُ عَنْهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ لِتَفْرَغَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَالأَْوْلَى - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَجْزَأَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ، فَإِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً وَجَبَ صِيَامُ النَّذْرِ عَنْهُ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ أَحْوَطُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَجَبَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ تَرِكَتِهِ إِلَى مَنْ يَصُومُ عَنْهُ عَنْ كُل يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ فِدْيَةٌ، وَيُجْزِئُ صَوْمُ غَيْرِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ (1)
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 370 - 373، 8 / 497، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 526، وَالْمُغْنِي 3 / 143، 9 / 30، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 59، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 8 / 25، 11 / 97.(40/217)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: إِنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَأَنْجَاهَا اللَّهُ، وَمَاتَتْ قَبْل أَنْ تَصُومَ، فَجَاءَتْ ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهَا إِمَّا أُخْتُهَا أَوِ ابْنَتُهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَال: صُومِي عَنْهَا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ
__________
(1) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 804 - ط الْحَلَبِيِّ)
(2) حَدِيثُ: " إِنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ وَهِيَ فِي الْبَحْرِ. . . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 256 ط دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ) .(40/218)
قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ صَوْمُ شَهْرٍ، وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَقَال: أَمَّا رَمَضَانُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَيُصَامُ عَنْهُ " (2) وَبِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي لاَ تَقْبَل النِّيَابَةَ، إِلاَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُل الْعِبَادَةَ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ، لِكَوْنِ النَّذْرِ لَمْ يَجِبْ بِأَصْل الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ (3)
ثَالِثًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ قَبْل فِعْلِهِ: 68 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ لَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةٍ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 804 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(2) أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " سُئِل عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ صَوْمُ شَهْرٍ. . . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 257 ط دَارِ الْمَعَارِفِ) .
(3) الْمُغْنِي 3 / 144، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335.(40/218)
وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَعْتَكِفُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَال بِهِ الأَْوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِكَافَ الْوَلِيِّ عَنِ الْمَيِّتِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ فِعْلُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ، وَالأَْوْلَى أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُ الْوَارِثِ أَجْزَأَ النَّاذِرَ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ، إِذِ النَّذْرُ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَلأَِنَّ مَا يَقْضِيهِ الْوَارِثُ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّعِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتِ اعْتِكَافًا فَمَاتَتْ وَلَمْ تَعْتَكِفْ، فَسَأَل إِخْوَتُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: " اعْتَكِفْ عَنْهَا وَصُمْ " (3)
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 372، 541، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527، وَالْمُغْنِي 9 / 30، 32، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335، 336.
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . " سَبَقَ تَخَرُّجُهُ (ف 66)
(3) أَثَرُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتِ اعْتِكَافًا. . . ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ (4 / 353 ط الْمَجْلِسِ الْعِلْمِيِّ) .(40/219)
وَأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الصِّيَامِ وَالاِعْتِكَافِ كَفٌّ وَمَنْعٌ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ يُطْعَمُ عَنْهُ، وَلاَ يُعْتَكَفُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إِنْ أَوْصَى النَّاذِرُ بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَى إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْوَارِثُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ إِيجَابُ الاِعْتِكَافِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي حَال الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ، وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ لَيْسَ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الاِعْتِكَافِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا ثُمَّ مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ جَمِيعِ الأَْيَّامِ الَّتِي نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِيهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُطْعَمُ عَنْهُ بِعَدَدِ مَا صَحَّ مِنْ أَيَّامٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336.(40/219)
فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَيُطْعِمُ الْوَلِيُّ وَفْقًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ مُدًّا (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ فَرْعٌ عَنِ الصَّوْمِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ بِالنَّذْرِ تُجْزِئُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، فَكَذَلِكَ الاِعْتِكَافُ يُجْزِئُ فِيهِ ذَلِكَ إِذَا أَوْصَى بِهِ (2) . وَبِأَنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الاِخْتِيَارِ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي الإِْيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَلأَِنَّ الاِعْتِكَافَ عَنِ الْمَيِّتِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَصَارَ الاِعْتِكَافُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ (3)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، فَلاَ يُعْتَكَفُ عَنْهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الاِعْتِكَافُ بِالْفِدْيَةِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي
__________
(1) الدُّرُّ الْمُخْتَارُ 2 / 119، وَالْمَبْسُوطُ 3 / 123 - 124، وَالْمَجْمُوعُ 6 / 372، 541، وَالْمُنْتَقَى 3 / 230.
(2) الْمَبْسُوطُ 3 / 123 - 124.
(3) الْعِنَايَةُ 2 / 84.(40/220)
الأُْمِّ وَغَيْرِهِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّارِعِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ الاِعْتِكَافِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، وَلاَ تُجْزِئُهُ الْفِدْيَةُ عَنْ هَذَا الاِعْتِكَافِ، لِعَدَمِ وُرُودِ مَا يَدُل عَلَى إِجْزَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ (2)
رَابِعًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَبْل أَدَائِهَا: 69 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ مَنْذُورَةٌ، لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ مَنْذُورَةٌ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَوْ غَيْرِهِ فِعْلُهَا عَنْهُ، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ، بِاسْتِثْنَاءِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُحَجُّ أَوْ يُعْتَمَرُ عَنْهُ إِنْ قِيل بِجَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِيهِمَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ تُنَفَّذُ عِنْدَهُمْ وَصِيَّتُهُ بِالاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ حَكَى الْعَيْنِيُّ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 372، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 257.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527.(40/220)
عَنِ الْمَيِّتِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: حُكِيَ فِي الصَّلاَةِ الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَنِ الْمَيِّتِ، وَنَقَل ابْنُ بَطَّالٍ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَرْضًا وَلاَ سُنَّةً، لاَ عَنْ حَيٍّ وَلاَ عَنْ مَيِّتٍ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلاَ مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ (3) وَبِأَنَّ الصَّلاَةَ عِبَادَةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ، فَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ (4) وَبِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ بَدَل لَهَا بِحَالٍ، فَلاَ يَقُومُ فِيهَا فِعْل النَّائِبِ مَقَامَ فِعْل الْمَنُوبِ عَنْهُ (5)
__________
(1) الْهِدَايَةُ وَالْعِنَايَةُ وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 118، وَالْفُرُوقُ 3 / 187، وَتَهْذِيبُ الْفُرُوقِ لاِبْنِ الشَّاطِّ 3 / 219، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل 2 / 543، 544، وَالْمَجْمُوعُ 6 / 372، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527، وَالْمُغْنِي 9 / 30 - 31، وَالْكَافِي 4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 60، 23 / 210.
(2) أَثَرُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 67) .
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 84.
(4) الْمُهَذَّبُ مَعَ شَرْحِهِ الْمَجْمُوعِ 6 / 367، وَالْكَافِي 4 / 430.
(5) الْمُغْنِي 9 / 30.(40/221)
وَبِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الاِبْتِلاَءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالأَْفْعَال الْمَخْصُوصَةِ، وَبِفِعْل النَّائِبِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمَشَقَّةُ عَلَى نَفْسِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ فِيهَا مُطْلَقًا (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ مَنْذُورَةٌ أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَال بِهِ الأَْوْزَاعِيُّ وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَارِثَ يُصَلِّي عَنِ الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلاَةٍ نَذَرَ أَدَاءَهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ صِلَةٌ لَهُ وَإِبْرَاءٌ لِذِمَّتِهِ مِنْهَا (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ
__________
(1) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 65.
(2) مَوَاهِبُ الْجَلِيل 2 / 543، وَإِعَانَةُ الطَّالِبِينَ 2 / 244، وَالْمُغْنِي 9 / 30، وَالْكَافِي 4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 23 / 210، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 1 / 90.(40/221)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَقْضِيهِ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ (1) وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَالصِّيَامِ عَنْهُ وَنَحْوِهَا، إِذْ جَاءَ فِيهَا قَوْل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (2) ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْل أَدَائِهِ، فَيُجْزِئُهُ قَضَاءُ وَلِيِّهِ عَنْهُ ذَلِكَ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءَ، فَقَال: صَلِّي عَنْهَا " (3) وَأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ بِالنَّصِّ، فَيَجُوزُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلأَِنَّ كُلًّا مِنْهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيُقْضَى عَنْهُ كَبَقِيَّةِ دُيُونِهِ وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ (4)
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 66) .
(2) حَدِيثُ: " فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(3) أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّهُ أَمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءَ فَقَال: صَلِّي عَنْهَا ". ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ (فَتْحُ الْبَارِي 11 / 583 ط السَّلَفِيَّةِ) وَلَمْ يَعْزُهُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى أَيِّ مَصْدَرٍ.
(4) الْكَافِي 4 / 430.(40/222)
خَامِسًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ قَبْل أَدَائِهَا: 70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْل أَدَائِهَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْل أَدَائِهَا أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَقَالُوا: إِنَّ أَدَاءَ الْوَلِيِّ هَذَا النَّذْرَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ، وَتَبْرِئَةً لِذِمَّةِ الْمَيِّتِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلاً قَال لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَل لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ (3) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 411، وَالْمُغْنِي 9 / 30 - 31، وَالْكَافِي 4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 11 / 84، 96.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11
(3) حَدِيثُ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (3 / 254، ط السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (2 / 696، ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .(40/222)
أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْضِهِ عَنْهَا. فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ مَنْذُورَةٌ، فَلاَ تُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ تُؤَدَّى مِنْهَا، فَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا كَانَتْ وَصِيَّةً وَأُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَدَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ أَوْ مِنْ تَرِكَةِ
__________
(1) حَدِيثُ " أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (3 / 302 - ط حِمْصَ) .
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 66) .(40/223)
الْمَيِّتِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الاِبْتِلاَءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَال الْمَحْبُوبِ لِلنَّفْسِ بِإِيصَالِهِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَهَذَا الْمَال مُتَعَلِّقٌ بِفِعْل الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِالْمَال الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهَا تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (2)
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَالْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 64، 65، وَتُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ 1 / 482، وَالْمُنْتَقَى 2 / 62، 63.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَالْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 65.(40/223)
نَرْدٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّرْدُ فِي اللُّغَةِ: لُعْبَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَضَعَهُ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ، وَلِهَذَا يُقَال: النَّرْدَشِيرُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ - الشِّطْرَنْجُ: 2 - فِي اللُّغَةِ: الشِّطْرَنْجُ مُعَرَّبٌ بِالْفَتْحِ، وَقِيل: بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَهُوَ فَارِسِيٌّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لُعْبَةٌ، غَيْرَ أَنَّ النَّرْدَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ وَالشِّطْرَنْجَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّدْبِيرِ (3)
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَالْقَامُوسُ الْمُحِيطُ، وَحَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 5 / 252 - 253.
(2) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 4 / 428.
(3) تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 10 / 215، 216.(40/224)
حُكْمُ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ: 3 - اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ (1) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ (2) وَلِقَوْلِهِ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (3) وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلأَِنَّهُ إِنْ قَامَرَ بِهِ فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ عَبَثٌ وَلَهْوٌ (4) قَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ (5) وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ التَّحْرِيمَ بِأَنَّ مُعْتَمَدَهُ الْحَزْرُ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَيْهِ 5 / 252 و 253، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 167، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة فِي مَذْهَب عَالَمِ الْمَدِينَةِ لاِبْن شاس 3 / 535 ط الأُْولَى، دَار الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 428، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَته للشرواني 10 / 216، وَرَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 343 - وَالْمُغْنِي 9 / 170، 171.
(2) حَدِيث: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ شَيِّر فَكَأَنَّمَا. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (4 / 1770 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثٍ بُرَيْدَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُوله " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 230 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) تَكْمِلَة فَتْحِ الْقَدِير 10 / 64، وَتَبْيِينِ الْحَقَائِقِ للزيلعي 6 / 30
(5) حَدِيث: " لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَث. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 29 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (6 / 223 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) مِنْ حَدِيثِ عُقْبَة بْن عَامِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/224)
وَالتَّخْمِينُ الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَةٍ مِنَ السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ.
قَال الرَّافِعِيُّ: وَيُقَاسُ عَلَى الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ كُل مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ: فَكُل مَا مُعْتَمَدُهُ الْحِسَابُ كَالْمِنْقَلَةِ: حُفَرٌ أَوْ خُطُوطٌ يُنْقَل مِنْهَا وَإِلَيْهَا حُصِيَ بِالْحِسَابِ، لاَ يَحْرُمُ، وَكُل مَا مُعْتَمَدُهُ التَّخْمِينُ يَحْرُمُ، النَّرْدُ وَنَحْوُهُ، وَالنَّرْدُ مَوْضُوعُهُ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَانِ: أَيِ الْحَصَى فَهُوَ كَالأَْزْلاَمِ وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ (1)
نِزَاعٌ
انْظُرْ: دَعْوَى.
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 10 / 216، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 428، وَرَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 343.(40/225)
نُزُولٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النُّزُول لُغَةً: مَصْدَرُ نَزَل، يُقَال: نَزَل نُزُولاً هَبَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَيُقَال: نَزَل فُلاَنٌ عَنِ الأَْمْرِ وَالْحَقِّ: تَرَكَهُ، وَبِالْمَكَانِ وَفِيهِ: حَل، وَعَلَى الْقَوْمِ حَل ضَيْفًا، وَيُقَال نَزَل بِهِ مَكْرُوهٌ أَصَابَهُ، وَالْحَاجُّ: أَتَى مِنًى، وَعَلَى إِرَادَةِ زَمِيلِهِ وَافَقَهُ فِي الرَّأْيِ (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّزُول: نُزُول خَطِيبِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتِهِ: 2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ نُزُول الْخَطِيبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) حَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 628، 4 / 26 ط دَارَ إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمُحَرِّرِ 2 / 173 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَالاِخْتِيَار 5 / 92، 93 ط دَار الْمَعْرِفَة، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 410، 412 ط دَار الْفِكْرِ، كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 424، 425 ط عَالَم الْكُتُبِ.(40/225)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَزَل الْخَطِيبُ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَضَى الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثُمَّ نَزَل فَصَلَّى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنَّ الإِْمَامَ يَأْخُذُ فِي النُّزُول بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتِهِ وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِْقَامَةِ، وَيَبْتَدِرُ الإِْمَامُ لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِ الْمُقِيمِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنَ الْخُطْبَةِ نَزَل عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، وَيَنْزِل مُسْرِعًا مُبَالَغَةً فِي الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَالصَّلاَةِ، وَالإِْسْرَاعُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ تَقْبُحُ (1)
نُزُول وَفْدِ الْكَافِرِينَ فِي الْمَسْجِدِ: 3 - قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَالأَْوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ الإِْمَامُ فِي دَارٍ مُهَيَّأَةٍ لِذَلِكَ أَوْ فِي فُضُول مَسَاكِنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَلَهُ إِنْزَالُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ (2) وَاحْتَجَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ ثَقِيفٍ أَنْزَلَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ قَبْل إِسْلاَمِهِمْ " (3) ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَدْ كَانَ
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 85، وَالْمُدَوَّنَة 1 / 150 / 151، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 2 / 32، وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 38.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 / 311.
(3) حَدِيث: " أَنَّ وَفْد ثَقِيف لِمَا قَدَّمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 420 ط حِمْص) عَنِ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي العاص. وَقَال الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (4 / 244 ط دَار الْمَعْرِفَة) قَدْ قِيل إِنَّ الْحَسَن الْبَصْرِيّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُثْمَان بْن أَبِي العاص(40/226)
أَبُو سُفْيَانَ يَدْخُل مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ (1)
نُزُول الرَّاكِبِ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ: 4 - الْمُسَافِرُ الَّذِي يَسْجُدُ لِلتِّلاَوَةِ فِي صَلاَتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُجْزِئُهُ الإِْيمَاءُ لِلسُّجُودِ تَبَعًا لِلصَّلاَةِ وَلاَ يَلْزَمُهُ النُّزُول، أَمَّا الْمُسَافِرُ الَّذِي يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُومِئُ بِالسُّجُودِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ الإِْيمَاءُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودِ التِّلاَوَةِ فِقْرَة 17) .
نُزُول الْخَطِيبِ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ: 5 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ نُزُول الْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الْكُلْفَةِ. وَأَوْجَبَهُ الْحَنَفِيَّةُ لِوُجُوبِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 8 / 532 ط الرِّيَاض.(40/226)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ السُّجُودِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ النُّزُول عِنْدَهُمْ لِلسُّجُودِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَرَاهَةِ السُّجُودِ أَوْ حُرْمَتِهِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودِ التِّلاَوَةِ ف 21) .
نُزُول الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ فِي حَقِّ الصَّائِمِ: 6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ إِنْزَال الْمَنِيِّ مُبْطِلٌ لِلصَّوْمِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَوْم ف 41 - 44، وَاسْتِمْنَاء ف 8 - 10) .(40/227)
نَسَاءٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسَاءُ فِي اللُّغَةِ التَّأْخِيرُ، يُقَال: نَسَأَ اللَّهُ أَجَلَهُ - مِنْ بَابِ نَفَعَ - وَنَسَأَ اللَّهُ فِي أَجْلِهِ، أَنْسَأَهُ وَأَنْسَأَ فِيهِ: إِذَا أَخَّرَهُ (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: النَّقْدُ: 2 - النَّقْدُ فِي اللُّغَةِ: تَمْيِيزُ الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجُ الزَّيْفِ مِنْهَا، وَقَبْضُ الدَّرَاهِمِ وَأَخْذُهَا، وَإِعْطَاؤُهَا، وَهُوَ خِلاَفُ النَّسَاءِ، يُقَال: نَقَدْتُ لَهُ الدَّرَاهِمَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ: أَعْطَيْتُهُ حَالاً فَانْتَقَدَهَا: أَيْ قَبَضَهَا (3)
وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 2 / 501 ط. دَارُ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 21.
(3) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.(40/227)
عَنْهُمَا فِي شَأْنِ جَمَلِهِ: قَال: فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ (1) ، أَيْ أَعْطَانِيهِ نَقْدًا مُعَجَّلاً.
وَالنَّقْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَيْضًا: لِخِلاَفِ النَّسِيئَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَاءِ وَالنَّقْدِ: التَّضَادُّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّسَاءِ: النَّسَاءُ فِي الْعُقُودِ: 3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل عَقْدٍ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُل فِي الْبَدَلَيْنِ يَحْرُمُ فِيهِ النَّسَاءُ، وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَيْنًا بِعَيْنٍ " (3) وَقَوْلِهِ: يَدًا بِيَدٍ (4) وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ آكَدُ. فَإِذَا حَرُمَ التَّفَاضُل فَالنَّسَاءُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ فَالتَّفَاضُل فِيهِ جَائِزٌ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ تَجُوزُ النَّسِيئَةُ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُل فِي الْجِنْسَيْنِ إِلاَّ
__________
(1) حَدِيث جَابِر: " فَنَقَدَنِي ثَمَنه " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 314 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1221 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) لِسَان الْعَرَبِ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) حَدِيث: " عَيْنًا بِعَيْن ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1210 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضِمْن حَدِيث طَوِيل.
(4) حَدِيث: " يَدًا بِيَد ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1213 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكَرَة نفيع بْن الْحَارِث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/228)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ قَال: مَا يَتَقَارَبُ الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِيهِمَا، وَيَرُدُّهُ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) فَأَمَّا النَّسَاءُ: فَكُل جِنْسَيْنِ يَجْرِي فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْمَكِيل بِالْمَكِيل وَالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ - عِنْدَ مَنْ يُعَلِّل بِهِ - فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ نَسَاءً بِلاَ خِلاَفٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) ، وَفِي لَفْظٍ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا: يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةٌ فَلاَ، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةٌ فَلاَ (3) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ مُثَمَّنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ
__________
(1) حَدِيث: " بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَد. . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3 / 532 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ، وَأَصْله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3 / 1211) .
(2) حَدِيث: " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَد " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1211 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 646 ط حِمْص) " مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.(40/228)
بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ (1) لأَِنَّ الشَّارِعَ أَرْخَصَ فِي السَّلَمِ، وَالأَْصْل فِي رَأْسِ الْمَال الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَلَوْ حَرَّمَ النَّسَاءَ فِي السَّلَمِ لاَنْسَدَّ بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِبَا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .
بَيْعُ الشَّرِيكِ وَالْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ نَسَاءً: 4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِحْتِيَاطُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ فِي مَال الْغَيْرِ: كَالْوَكِيل وَالْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِيكِ فِي مَال التِّجَارَةِ الْبَيْعُ نَسَاءً بِلاَ إِذْنٍ مِنْ مَالِكِ رَأْسِ مَال الْقِرَاضِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَفِي الْمُوَكَّل بِالتَّوْكِيل فِي الْبَيْعِ، وَالشَّرِيكِ فِي مَال التِّجَارَةِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ جَازَ.
وَيَجِبُ أَنْ لاَ يُبَالَغَ فِي الأَْجَل فَإِنْ قُدِّرَ لَهُ مُدَّةٌ فِي الأَْجَل اتَّبَعَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ فِي الْمُدَّةِ: فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ حُمِل عَلَيْهِ، وَإِلاَّ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْشْهَادُ فِي
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 4 / 11 - 12، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 22 - 24، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 3 / 411، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 4 / 87 - 88، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص / 166 ط: دَارَ الْقَلَم.
(2) الْمُغْنِي 4 / 12، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 3 / 410.(40/229)
الْبَيْعِ نَسَاءً، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ نَسَاءً مِنْ ثِقَةٍ مَلِيءٍ.
وَإِنْ أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَال لِمَنْ ذَكَرَ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل، لأَِنَّ مُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ الْحُلُول، لأَِنَّهُ الْمُعْتَادُ غَالِبًا (1) وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَكِيل وَبَيْنَ عَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَقَالُوا: إِذَا أَطْلَقَ الإِْذْنَ بِلاَ قَيْدٍ بِالنَّسَاءِ أَوِ النَّقْدِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً، وَفِي جَوَازِ بَيْعِ عَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ نَسَاءً رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ لأَِنَّهُمَا نَائِبَانِ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا الْبَيْعُ نَسَاءً بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ فِيهِ كَالْوَكِيل، لأَِنَّ النَّائِبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالاِحْتِيَاطِ، وَفِي الْبَيْعِ نَسَاءً تَغْرِيرٌ بِالْمَال، وَقَرِينَةُ الْحَال تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلاَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال لَهُ: بِعْ حَالاً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِيكِ فِي التِّجَارَةِ الْبَيْعُ نَسَاءً، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالتِّجَارَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التِّجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ، وَالرِّبْحُ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ.
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 6 / 93، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 224، 214، 315، وَالْمَحَلِّيّ شَرْح الْمِنْهَاجِ 2 / 56، 335، 341، وَالْمُغْنِي 5 / 39 - 40 وَمَا بَعْدَهَا.(40/229)
وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فَإِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيل الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ كَانَ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْبَيْعِ تَدُل عَلَى أَنَّ حَاجَةَ الْمُوَكِّل إِلَى الثَّمَنِ نَاجِزَةٌ فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ بِخِلاَفِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ فَلَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ وَقَرِينَةِ حَالِهِ تَدُل عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي صِفَاتِ الْبَيْعِ وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهَا (1) فَإِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَمَهْمَا فَاتَ مِنَ الثَّمَنِ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ أَنْ يُفَرِّطَ بِبَيْعِ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ أَوْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ فَعَل مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الأَْجْنَبِيِّ (2) أَمَّا الْوَكِيل: إِنْ عَيَّنَ الشِّرَاءَ لَهُ بِنَقْدٍ أَوْ حَالاً لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِل عَلَى الْحُلُول، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ الْحُلُول، وَيُخَالِفُ الْمُضَارَبَةَ بِوَجْهَيْنِ:
أَوَّلاً: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ لاَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالثَّمَنِ فِي الْحَال، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي الْوَكَالَةِ دَفْعَ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ.
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 39 - 40.
(2) الْمُغْنِي 5 / 40.(40/230)
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ فَيَعُودُ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي التَّقَاضِي عَلَيْهِ، وَالْوَكَالَةُ بِخِلاَفِهِ فَلاَ يَرْضَى بِهِ الْمُوَكِّل، وَلأَِنَّ الضَّرَرَ فِي تَوَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُضَارِبِ، لأَِنَّهُ يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، لِكَوْنِ الرِّبْحِ وِقَايَةً لِرَأْسِ الْمَال، وَفِي الْوَكَالَةِ يَعُودُ عَلَى الْمُوَكِّل فَانْقَطَعَ الإِْلْحَاقُ. كَانَ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهَا نَقْدًا بِدُونِ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً لَمْ يُنَفَّذْ بَيْعُهُ لأَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُوَكِّلِهِ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِثَمَنِ النَّسِيئَةِ دُونَ النَّقْدِ (1) وَإِنْ بَاعَهَا نَقْدًا بِمَا تُسَاوِي نَسِيئَةً، أَوْ عَيَّنَ لَهُ ثَمَنَهَا فَبَاعَهَا بِهِ نَقْدًا قَال الْقَاضِي: يَصِحُّ الْبَيْعُ لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النَّسِيئَةِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرَضٌ كَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِحِفْظِهِ فِي الْحَال أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ التَّلَفِ أَوِ الْمُتَغَلِّبِينَ أَوْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْحُلُول فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، لأَِنَّ حُكْمَ الْحُلُول لاَ يَتَنَاوَل الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إِلاَّ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي الْمَصْلَحَةِ كَالْمَنْطُوقِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوِ الْمُمَاثَلَةِ (2) وَمَتَى كَانَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ غَرَضٌ مُخْتَصٌّ بِهِ
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 134 - 135.
(2) الْمُغْنِي 5 / 134 - 135.(40/230)
لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ وَلاَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِعَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ فِي التِّجَارَةِ وَلِلْوَكِيل فِي الْبَيْعِ الْبَيْعُ نَسَاءً عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، إِذَا كَانَتِ النَّسِيئَةُ لأَِجَلٍ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، لأَِنَّ مُطْلَقَ الْوَكَالَةِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ وَالتَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ، فَيَتَقَيَّدُ الْوَكِيل الْمُطْلَقُ بِمَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ حَالاً أَوْ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ (2) ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل تَأْجِيل الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ لِلْعَامِل فِي الْقِرَاضِ تَأْجِيلُهُ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ الإِْقَالَةَ بِخِلاَفِ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ (3)
نِسَاءٌ
انْظُرِ: امْرَأَةً.
__________
(1) الْمَصْدَر السَّابِق.
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 4 / 270، 5 / 68 - 69، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 3 / 345.
(3) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 68.(40/231)
نَسَبٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسَبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَسَبَ، يُقَال: نَسَبْتُهُ إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا: عَزَوْتُهُ إِلَيْهِ، وَانْتَسَبَ إِلَيْهِ: اعْتَزَى. وَالاِسْمُ: النِّسْبَةُ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ تُضَمُّ.
قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: يَكُونُ النَّسَبُ مِنْ قِبَل الأَْبِ وَمِنْ قِبَل الأُْمِّ (1) وَالنَّسَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الْقَرَابَةُ وَهِيَ الاِتِّصَال بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ بِالاِشْتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ (2) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الاِنْتِسَابُ لأَِبٍ مُعَيَّنٍ (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ - الْعَصَبَةُ: 2 - الْعَصَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَرَابَةُ الذُّكُورُ الَّذِينَ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالصِّحَاح.
(2) نَيْل الْمَآرِب بِشَرْحِ دَلِيل الطَّالِبِ 2 / 55، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 4، وَالتَّفْرِيع 2 / 338، وَهِدَايَة الرَّاغِبِ 422.
(3) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 100.(40/231)
يُدْلُونَ بِالذُّكُورِ، وَهُوَ جَمْعُ عَاصِبٍ (1) وَالْعَصَبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ هُمُ: الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَآبَائِهِ وَأَوْلاَدِهِمْ (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْعَصَبَةِ أَنَّ النَّسَبَ أَعَمُّ.
ب - الْوَلاَءُ: 3 - الْوَلاَءُ فِي اللُّغَةِ: النُّصْرَةُ، لَكِنَّهُ خُصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلاَءِ الْعِتْقِ (3) وَالْوَلاَءُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: ثُبُوتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِالْعِتْقِ أَوْ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ (4) وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلإِْرْثِ.
ج - الرَّحِمُ: 4 - الرَّحِمُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْوَلَدِ ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ وَالْوَصْلَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَلاَءِ رَحِمًا، فَالرَّحِمُ خِلاَفُ الأَْجْنَبِيِّ (5) وَالرَّحِمُ اصْطِلاَحًا: كُل قَرِيبٍ، وَفِي عُرْفِ الْفَرْضِيِّينَ: كُل قَرِيبٍ لَيْسَ ذَا فَرْضٍ مُقَدَّرٍ وَلاَ عَصَبَةٍ (6) وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلإِْرْثِ.
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 7 / 19، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 23.
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالصِّحَاح.
(4) نَيْل الْمَآرِب 2 / 55، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 4، وَنِيل الأَْوْطَار 6 / 70.
(5) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(6) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 486، 504، وَالْعَذْب الْفَائِض 2 / 15.(40/232)
د - الْمُصَاهَرَةُ: 5 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الأَْصْهَارُ أَهْل بَيْتِ الْمَرْأَةِ، وَقَال: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَل الصِّهْرَ مِنَ الأَْحْمَاءِ وَالأَْخْتَانِ جَمِيعًا، يُقَال: صَاهَرْتُ إِلَيْهِمْ: إِذَا تَزَوَّجْتَ فِيهِمْ، وَأَصْهَرْتُ بِهِمْ: إِذَا اتَّصَلْتَ بِهِمْ وَتَحَرَّمْتَ بِجِوَارٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ تَزَوُّجٍ (1) وَاصْطِلاَحًا تُطْلَقُ الْمُصَاهَرَةُ عَلَى قَرَابَةِ النِّكَاحِ (2)
فَقَرَابَةُ الزَّوْجَةِ هُمُ الأَْخْتَانُ، وَقَرَابَةُ الزَّوْجِ هُمُ الأَْحْمَاءُ، وَالأَْصْهَارُ يَقَعُ عَامًّا لِذَلِكَ كُلِّهِ (3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْمُصَاهَرَةِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ.
هـ - الرَّضَاعُ: 6 - الرَّضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصُّ الثَّدْيِ (4) وَاصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِحُصُول لَبَنِ الْمَرْأَةِ أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (5) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ.
__________
(1) الصِّحَاح، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 4، 246، وَالتَّفْرِيع لاِبْن الْجَلاَّب 2 / 44، 338.
(3) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 13 / 60.
(4) الْقَامُوس الْمُحِيط.
(5) ابْن عَابِدِينَ 2 / 403، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 162.(40/232)
و - الْقُعْدُدُ: 7 - الْقُعْدُدُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَرِيبُ مِنَ الآْبَاءِ إِلَى الْجَدِّ الأَْكْبَرِ. يُقَال: فُلاَنٌ سَوَاءٌ مَعَ فُلاَنٍ فِي الْقُعْدُدِ مِنْ فُلاَنٍ، أَيْ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَدْنَى جَدٍّ، وَيُقَال: فُلاَنٌ أَقْعَدُ مِنْ فُلاَنٍ أَيْ: أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: يَرِثُ الْوَلاَءَ الأَْقْعَدُ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ صَاحِبِ الْوَلاَءِ (1) وَيَجْرِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ كَالشَّهَادَةِ لأَِحَدٍ بِأَنَّهُ عَاصِبٌ لِمَيِّتٍ فَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ قُرْبَهُ مِنَ الْمَيِّتِ فِي الْجَدِّ الَّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِيهِ ابْنُ عَمٍّ بِدَرَجَةٍ أَوْ دَرَجَتَيْنِ (2) وَيَقُول الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ وَلِيِّ الدَّمِ: عَفْوُ بَعْضِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ مَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي عَفَا أَبْعَدَ فِي الْقُعْدُدِ (3) ، وَيَقُولُونَ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلاَءِ: إِنَّ الْوَلاَءَ لِلأَْقْعَدِ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ صَاحِبِ الْوَلاَءِ (4) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْقُعْدُدِ أَنَّ النَّسَبَ أَعَمُّ مِنَ الْقُعْدُدِ.
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمُوَطَّأ 2 / 514، وَشَرْح السجلماسي عَلَى نُظُمِ الْعَمَل الْفَاسِيّ 2 / 114 طَبْع حَجَر فِي فَاسَ 1291
(2) الْمُدَوَّنَة 8 / 89، وَالْكِفَايَة 2 / 182.
(3) شَرْح التاودي 1 / 408.
(4) شَرْح السجلماسي عَلَى نُظُمِ الْعَمَل الْفَاسِيّ 2 / 114.(40/233)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّسَبِ: حُكْمُ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ: 8 - النَّسَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى الاِحْتِيَاطِ فَيَحْرُمُ عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَفْيُ وَلَدٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ، لِحَدِيثِ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ، وَلِعَظِيمِ التَّغْلِيظِ عَلَى فَاعِل ذَلِكَ وَقَبِيحِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ كَانَا مِنَ الْكَبَائِرِ (2)
حُقُوقُ النَّسَبِ: 9 - فِي النَّسَبِ عِدَّةُ حُقُوقٍ، فَفِيهِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ (3) حَتَّى يَجِدَ أَبًا يَرْعَاهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ حَقٌّ لِلأُْمِّ، لأَِنَّهَا تُعَيَّرُ بِوَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ (4) كَمَا أَنَّ فِيهِ حَقَّ الأَْبِ أَيْضًا (5) ، وَكَذَلِكَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ
__________
(1) حَدِيث: " أَيّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 695 - 696 ط حِمْص) ، وَالنَّسَائِيّ (6 / 179 - 180 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لأَِبِي دَاوُد وَأَشَارَ الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (3 / 182) إِلَى إِعْلاَلِهِ بِجَهَالَة رَاوٍ فِيهِ.
(2) الْمَجْمُوع 1 / 32، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 106 ط الْمَكْتَبَة الإِْسْلاَمِيَّة، وَابْن عَابِدِينَ 2 / 592.
(3) حَاشِيَة الْجُمَل 5 / 436، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 393.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 616.
(5) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 342، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 270(40/233)
فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل (1) وَالنَّسَبُ لاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ (2)
أَسْبَابُ النَّسَبِ: 10 - لِلنَّسَبِ سَبَبَانِ هُمَا: النِّكَاحُ وَالاِسْتِيلاَدُ.
السَّبَبُ الأَْوَّل: النِّكَاحُ: 11 - يَنْقَسِمُ النِّكَاحُ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ وَيَلْحَقُ بِهِمَا الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ.
فَأَمَّا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوَاجًا صَحِيحًا لِقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (3) ، وَالْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ: الزَّوْجِيَّةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يُتَصَوَّرَ الْحَمْل مِنَ الزَّوْجِ عَادَةً، وَذَلِكَ بِبُلُوغِ الذَّكَرِ تِسْعَ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَ سَنَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَشْرَ
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ 4 / 322، 323.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 4 / 173.
(3) حَدِيث: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 371 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (2 / 1080 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.(40/234)
سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) (ر: بُلُوغ ف 21) . وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ إِنْ كَانَ طِفْلاً دُونَ التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ بِالاِتِّفَاقِ، كَمَا لاَ يَلْحَقُ بِالْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ إِذَا كَانَ يُنْزِل وَإِلاَّ فَلاَ (2) (ر: جُب ف 9) . أَمَّا مَسْلُول الْخُصْيَتَيْنِ إِذَا بَقِيَ ذَكَرُهُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، عَنِ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَإِلاَّ فَلاَ (3)
ب - أَنْ تَلِدَهُ الزَّوْجَةُ خِلاَل مُدَّةِ الْحَمْل: وَأَقَلُّهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَقْصَاهَا خَمْسُ سَنَوَاتٍ، عَلَى التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَمْل ف 7) .
ج - إِمْكَانُ تَلاَقِي الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوْ جَرَى عَقْدُ الزَّوَاجِ وَكَانَ الزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَيْنِ أَحَدُهُمَا
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 465، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 61، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1546، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 460، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 8 / 357، وَالْمُغْنِي 7 / 427، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 269.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(3) الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 50، وَالْمُغْنِي 7 / 480، وَالْمُدَوَّنَة 2 / 445.(40/234)
بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1)
جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: إِذَا ادَّعَتِ الْوَلَدَ زَوْجَةٌ مَغْرِبِيَّةٌ مَثَلاً عَلَى زَوْجٍ لَهَا مَشْرِقِيٍّ مَثَلاً وَكُلٌّ مِنْهُمَا بِبَلَدِهِ لَمْ يَغِبْ عَنْهَا غَيْبَةً يُمْكِنُهُ الْوُصُول فِيهَا لِلآْخَرِ عَادَةً فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلاَ لِعَانٍ لاِسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مِنْهُ عَادَةً (2) وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: الْوَلَدُ لاَحِقٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِالزَّوْجِ مُطْلَقًا مَتَى أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ فِيهِ (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: الزَّوْجَةُ تَكُونُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِهَا حَتَّى إِذَا وَلَدَتْ لِلإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا، لَحِقَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَطْءِ، لأَِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الاِسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ (4) وَقَالُوا كَذَلِكَ: لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ وَمَضَتْ ثَلاَثَةُ أَقْرَاءٍ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 460، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 396، 3 / 373، وَالْمُغْنِي 7 / 430، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 269.
(2) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 381، وَالدُّسُوقِيّ 2 / 460.
(3) حَاشِيَة الْجُمَل 5 / 436.
(4) الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 61، ط دَار الْفِكْرِ بَيْرُوت، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 413.(40/335)
مِنْهُ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ لِقُوَّةِ فِرَاشِ النِّكَاحِ (1)
وَجَاءَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنَ الزَّوْجِ مِثْل مَا لَوْ أَتَتْ بِهِ لِدُونِ نِصْفِ سَنَةٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا وَعَاشَ، أَوْ أَتَتْ بِهِ لأََكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أَبَانَهَا، أَوْ فَارَقَهَا حَامِلاً فَوَضَعَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ آخَرَ بَعْدَ نِصْفِ سَنَةٍ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهَا زَمَنَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَمَاعَةِ حَاكِمٌ أَوْ لاَ، ثُمَّ أَبَانَهَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ بِالْمَجْلِسِ أَوْ كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ مَسَافَةٌ لاَ يَقْطَعُهَا فِي الْمَدَّةِ الَّتِي وَلَدَتْ فِيهَا، كَمَشْرِقِيٍّ تَزَوَّجَ مَغْرِبِيَّةً ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، لأَِنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ وَمُدَّةِ الْحَمْل، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَكْمُل لَهُ عَشْرٌ مِنَ السِّنِينَ، أَوْ قُطِعَ ذَكَرُهُ مِنْ أُنْثَيَيْهِ لَمْ يَلْحَقْهُ، أَيْ لَمْ يَلْحَقِ الْوَلَدُ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل كُلِّهَا (2) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَلْحَقُهُ، لأَِنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ كَافٍ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَلْتَقِيَا (3)
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: اكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِقِيَامِ الْفِرَاشِ بِلاَ دُخُولٍ كَتَزَوُّجِ الْمَغْرِبِيِّ بِمَشْرِقِيَّةٍ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا (4)
__________
(1) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(2) نَيْل الْمَآرِب 2 / 269.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1546، وَابْن عَابِدِينَ 3 / 630.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 630.(40/335)
النِّكَاحُ الْفَاسِدُ: 12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إِذَا اتَّصَل بِهِ دُخُولٌ حَقِيقِيٌّ، لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ إِحْيَاءً لِلْوَلَدِ (1)
بَدْءُ اعْتِبَارِ مُدَّةِ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: 13 - نَصَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ النَّسَبِ تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ كَمَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، لأَِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُؤْخَذُ مِنَ الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُول وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِدَاعٍ إِلَيْهِ وَالإِْقَامَةُ بِاعْتِبَارِهِ، أَيْ إِقَامَةُ النِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِدَاعٍ إِلَيْهِ فَلاَ يُقَامُ مَقَامَهُ (2)
الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ: 14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ يُثْبِتُ النَّسَبَ، لأَِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَا إِنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ ظَنِّ الْوَاطِئِ، بِخِلاَفِ الزِّنَا فَلاَ ظَنَّ فِيهِ.
فَإِذَا وَطِئَ امْرَأَةً لاَ زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةِ مِنْهُ كَأَنْ
__________
(1) الْهِدَايَة 2 / 470، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1553 وَمَا بَعْدَهَا، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 633، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 278، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 457، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 42، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 7 / 345.
(2) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 3 / 245 نَشْر دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ.(40/236)
ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ، أَوْ أَمَتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَوَجَدَ مِنْهَا شُبْهَةً أَيْضًا أَمْ لاَ (1)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَعَزَاهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْهُمْ - إِنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ، أَوْ مِلْكٍ أَوْ شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ، فَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ فِيهِ كَالزِّنَا. وَقَال أَحْمَدُ: كُل مَنْ دَرَأْتُ عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءٍ أَلْحَقْتُ الْوَلَدَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَفَارَقَ وَطْءَ الزِّنَا فَإِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ الْحِل فِيهِ، وَإِنْ وَطِئَ ذَاتَ زَوْجٍ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ زَوْجُهَا، فَاعْتَزَلَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، لَحِقَ الْوَاطِئَ وَانْتَفَى عَنِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ.
وَعَلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ يَلْحَقُ الزَّوْجَ، لأَِنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ (2)
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 607، والقليوبي 4 / 350، وَالشَّرْقَاوَيَّ 2 / 219، 328، 329، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 490، وَالْمُغْنِي 7 / 431، 432.
(2) الْمُغْنِي 7 / 431، 432.(40/236)
الاِشْتِرَاكُ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ: 15 - الاِشْتِرَاكُ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ يُثْبِتُ النَّسَبَ، بِأَنْ وَطِئَا امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، كَأَنْ وَجَدَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فِي فِرَاشِهِ فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ، أَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَطَلَّقَ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِتَعَذُّرِ إِلْحَاقِهِ بِهِمَا وَنَفْيِهِ عَنْهُمَا (1)
ثُبُوتُ النَّسَبِ بِاسْتِدْخَال الْمَنِيِّ: 16 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَنِيٍّ دَخَل فَرْجَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ كَحَمَّامٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَلْحَقُ الْوَلَدُ بِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِهِ بِأَنْ مَضَى مِنْ يَوْمِ تَزَوُّجِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: اسْتِدْخَال الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُل يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ (3)
ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالزِّنَا أَوْ عَدَمُهُ: 17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالزِّنَا مُطْلَقًا، فَلَمْ يُثْبِتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ أَحَدٌ مِنْ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 489، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 4 / 431.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 630.
(3) الرَّوْضَة 8 / 365، والقليوبي وَعَمِيرَة 3 / 243.(40/237)
أَهْل الْعِلْمِ بِالزِّنَا نَسَبًا، وَقَال الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) ، وَالْعَاهِرُ الزَّانِي، وَلأَِنَّ الزَّانِيَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْفِعْل آثِمٌ بِهِ (2)
السَّبَبُ الثَّانِي: الاِسْتِيلاَدُ: 18 - الاِسْتِيلاَدُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْوَلَدِ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ، يُقَال: فُلاَنٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إِنْ صَيَّرَهَا أُمَّ وَلَدِهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِيلاَدِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إِذَا أَقَرَّ السَّيِّدُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ اشْتَرَطُوا إِقْرَارَهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيلاَد ف 8) .
أَدِلَّةُ ثُبُوتِ النَّسَبِ: أ - الْفِرَاشُ: 19 - الْفِرَاشُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ مَا افْتُرِشَ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لأَِنَّ الرَّجُل يَفْتَرِشُهَا (3) ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِمَالِكِ الْفِرَاشِ.
__________
(1) حَدِيث: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 11) .
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 633، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 283، 314، وَالأُْمّ 5 / 166، 7 / 346، وَالشَّرْقَاوَيَّ عَلَى التَّحْرِيرِ 2 / 328، 329، والقليوبى وَعَمِيرَة 3 / 243، وَالْمُغْنِي 7 / 345.
(3) مَتْن اللُّغَة، وَالْمَغْرِبِ للمطرزي، وَالنِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالأَْثَرِ.(40/237)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُسْتَعْمَل كَلِمَةُ الْفِرَاشِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، كَمَا تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى كَوْنِ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِلْوِلاَدَةِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: مَعْنَى الْفِرَاشِ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْمَرْأَةُ لِلْوِلاَدَةِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ (1) ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ بِأَنَّهُ الْعَقْدُ (2) وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْفِرَاشِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (3) وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَال سَعْدٌ: هَذَا يَا رَسُول اللَّهِ: ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَال عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُول اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَال: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ (4)
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ شُرِحَ كَنْز الدَّقَائِق 3 / 43، وَالتَّعْرِيفَات للجرجاني.
(2) حَاشِيَة الشلبي بِهَامِش الزيلعي 3 / 39.
(3) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتَحَ الْبَارِي 12 / 127) ، وَمُسْلِم (2 / 1081 - ط الْحَلَبِيّ) .
(4) حَدِيث: " اخْتَصَمَ سَعْد بْن أَبَى وَقَّاص. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 411 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (2 / 1080 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.(40/238)