وَاللَّمْسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مُلاَقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ لِطَلَبِ مَعْنًى فِيهِ كَحَرَارَةِ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ صَلاَبَةٍ أَوْ رَخَاوَةٍ أَوْ عِلْمِ حَقِيقَةٍ لِيَعْلَمَ هَل هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ لاَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ هِيَ أَنَّ اللَّمْسَ أَخَصُّ مِنَ الْمَسِّ.
ج - الْمُبَاشَرَةُ
3 - الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ بَاشَرَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ: تَمَتَّعَ بِبَشَرَتِهَا وَبَاشَرَ الأَْمْرَ: تَوَلاَّهُ بِبَشَرَتِهِ وَهِيَ يَدُهُ وَبَاشَرَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ: أَيْ جَامَعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2) ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُبَاشَرَةُ أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ مَعَ الاِنْتِشَارِ وَلَوْ بِلاَ بَلَلٍ (3) .
وَالْمَسُّ أَعَمُّ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسِّ:
مَسُّ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ الْمُصْحَفَ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ طَهَارَةً كَامِلَةً مِنَ الْحَدَثَيْنِ الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ (4) ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 119.
(2) سورة البقرة / 187.
(3) بدائع الصنائع 1 / 30، وحاشية ابن عابدين 1 / 99.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 38 - 39، والهداية مع الفتح 1 / 168، والمدونة 1 / 112، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 374، ونهاية المحتاج 1 / 123 وما بعدها، وشرح روض الطالب 1 / 60 - 61، والمجموع شرح المهذب 1 / 69، والمغني 1 / 147، والإنصاف 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 134، والفروع 1 / 188.(37/276)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ أَيْ مَسَّ الْمَكْتُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ آيَةً عَلَى نُقُودِ دِرْهَمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ جِدَارٍ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، كَمَا يَحْرُمُ مَسُّ غِلاَفِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِل بِهِ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ.
وَلاَ يَحْرُمُ مَسُّ الْغِلاَفِ الْمُنْفَصِل عَنِ الْقُرْآنِ كَالْكِيسِ وَالصُّنْدُوقِ، وَيَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِنَحْوِ عُودٍ أَوْ قَلَمٍ أَوْ غِلاَفٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَيُكْرَهُ لَمْسُهُ بِالْكُمِّ وَالْحَائِل كَالْخَرِيطَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْخَرِيطَةِ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ تَحْرُمُ كِتَابَةُ آيَةٍ عَلَى وَرَقَةٍ، لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مَسُّ الْمَكْتُوبِ بِالْيَدِ، أَمَّا الْقَلَمُ فَهُوَ وَاسِطَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَالثَّوْبِ الْمُنْفَصِل الَّذِي يَمَسُّ بِهِ الْقُرْآنَ، لأَِنَّ الْمُفْتَى بِهِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِغِلاَفٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ بِصُرَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ، سَوَاءٌ كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا مَعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً، وَيُمْنَعُ غَيْرُ الطَّاهِرِ مِنْ حَمْل الْمُصْحَفِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ كُرْسِيٍّ تَحْتَهُ، وَيَحْرُمُ الْمَسُّ وَلَوْ كَانَ الْمَسُّ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ، وَإِنْ قَصَدَ حَمْل الْمُصْحَفِ مَعَ الأَْمْتِعَةِ حَرُمَ الْحَمْل،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 38 - 39.(37/276)
وَإِنْ قَصَدَ الأَْمْتِعَةَ بِالْحَمْل جَازَ.
وَيَجُوزُ الْمَسُّ وَالْحَمْل لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ بَالِغٍ وَإِنْ كَانَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْمَانِعِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ سَوَاءٌ حَمَلَهُ بِعَلاَّقَتِهِ أَوْ فِي كُمِّهِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُ بِعَلاَّقَتِهِ وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْمَذْهَبِ وَضَعِيفٌ وَسَوَاءٌ مَسَّ نَفْسَ الأَْسْطُرِ أَوْ مَا بَيْنَهَا أَوِ الْحَوَاشِيَ أَوِ الْجِلْدَ فَكُل ذَلِكَ حَرَامٌ.
وَفِي مَسِّ الْجِلْدِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا شَاذًّا بَعِيدًا أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مَسُّ الْجِلْدِ وَلاَ الْحَوَاشِي وَلاَ مَا بَيْنَ الأَْسْطُرِ وَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ نَفْسُ الْمَكْتُوبِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ.
وَفِي مَسِّ الْعَلاَّقَةِ وَالْخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ إِذَا كَانَ الْمُصْحَفُ فِيهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا يَحْرُمُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ لأَِنَّهُ مُتَّخَذٌ لِلْمُصْحَفِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَالْجِلْدِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي مَسِّ الصُّنْدُوقِ.
وَأَمَّا حَمْل الصُّنْدُوقِ وَفِيهِ الْمُصْحَفُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ.
__________
(1) المدونة 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 374.(37/277)
وَكَذَا يَحْرُمُ تَحْرِيكُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
وَأَمَّا إِذَا تَصَفَّحَ أَوْرَاقَهُ بِعُودٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا يَجُوزُ وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ وَرَجَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ لأَِنَّهُ حَمَل الْوَرَقَةَ وَهِيَ بَعْضُ الْمُصْحَفِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَحْرُمُ مَسُّ كِتَابَتِهِ وَجِلْدِهِ وَبَعْضِهِ وَحَوَاشِيهِ لِشُمُول اسْمِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ آيَةً مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ مَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ لأَِنَّهُ مِنْ جَسَدِهِ فَأَشْبَهَ يَدَهُ، وَيَجُوزُ مَسُّهُ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ، وَحَمْلُهُ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِعَاءٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَقْصُودًا بِالْحَمْل، وَكِتَابَتِهِ وَلَوْ لِذِمِّيِّ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ، وَحَمْلُهُ بِحِرْزٍ سَاتِرٍ طَاهِرٍ، وَإِنِ احْتَاجَ الْمُحْدِثُ إِلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، تَيَمَّمَ وَجَازَ مَسُّهُ (2) وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الأَْوْلَى لأَِنَّ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) ،
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 / 69 - 70 ونهاية المحتاج 1 / 123 - 124، وشرح روض الطالب 1 / 60 - 61، ورحمة الأمة ص 13.
(2) المغني 1 / 147، والإنصاف 1 / 223، وكشاف القناع 1 / 134، والفروع 1 / 188.
(3) سورة الواقعة / 77 - 80.(37/277)
دَلَّتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ. وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، فَدَل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِالتَّنْزِيل. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَيْدِينَا فَلاَ يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلاَّ بِصَارِفٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ مَسِّهِ (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ (2) وَلأَِنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا الْحَدَثُ، وَكِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (3) ".
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ بِغَيْرِ مَسٍّ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ، حَدَثٌ، ف 26، 27) .
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْدِثِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 156، والمغني 1 / 147، والمجموع 2 / 72.
(2) حديث ابن عمر: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 276) وقال: رواه الطبراني في الكبير والصغير ورجاله موثقون.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 147، وشرح السنة للبغوي 2 / 48، ونيل الأوطار 1 / 207 وحديث: عمرو بن حزم " أن لا تمس القرآن إلا على طهر ". أخرجه الدارقطني (1 / 121) وقال: مرسل ورواته ثقات.(37/278)
التَّرْجَمَاتُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّهَا عَلَى أَقْوَالٍ.
تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَةٌ ف 7) .
مَسُّ الصَّبِيِّ الْمُصْحَفَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْقُرْآنِ أَوْ لَوْحٍ فِيهِ قُرْآنٌ لِلضَّرُورَةِ مِنْ أَجْل التَّعَلُّمِ وَالْحِفْظِ وَلأَِنَّ الصِّبْيَانَ لاَ يُخَاطَبُونَ بِالطَّهَارَةِ وَلَكِنْ أُمِرُوا بِهِ تَخَلُّقًا وَاعْتِيَادًا (1) .
وَقَال مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسُّ الصِّبْيَانِ لِلْمَصَاحِفِ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَائِزًا، وَقِيل: إِنَّ الصَّغِيرَ لاَ يَمَسُّ الْمُصْحَفَ الْكَامِل وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُسَيَّبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُمْنَعُ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ مِنْ مَسٍّ وَحَمْل مُصْحَفٍ أَوْ لَوْحٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، وَقَال النَّوَوِيُّ: أُبِيحَ حَمْل الصِّبْيَانِ الأَْلْوَاحَ لِلضَّرُورَةِ لِلْحَاجَةِ وَعُسْرِ الْوُضُوءِ لَهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَفِي مَسِّ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ أَلْوَاحَهُمُ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ فَلَوِ اشْتَرَطْنَا الطَّهَارَةَ
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 1 / 150، والفتاوى الهندية 1 / 39.
(2) مواهب الجليل 1 / 304 - 305، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 126.
(3) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 62، ونهاية المحتاج 1 / 627، والمجموع شرح المهذب 2 / 75.(37/278)
أَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِهِ، قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَفِي مَسِّ الصِّبْيَانِ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ: لاَ يَجُوزُ وَهُوَ وَجْهٌ.
قَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ مَسُّ صَبِيٍّ لَوْحًا كُتِبَ فِيهِ قُرْآنٌ، قَال ابْنُ رَزِينٍ وَهُوَ أَظْهَرُ (1) .
كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْدِثِ الْكِتَابَةُ وَمَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يُفْرَشُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَكَذَا عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْجُدْرَانِ لِمَا يُخَافُ مِنْ سُقُوطِ الْكِتَابَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كَتْبُهُ عَلَى الرَّاجِحِ أَيْ لَيْسَ لِلنَّاسِخِ أَنْ يَكْتُبَ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ مُحْدِثًا، وَقِيل: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُل سَاعَةٍ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَإِذَا كَتَبَ الْمُحْدِثُ أَوِ الْجُنُبُ مُصْحَفًا نُظِرَ إِنْ حَمَلَهُ أَوْ مَسَّهُ فِي حَال كِتَابَتِهِ حَرُمَ، وَإِلاَّ
__________
(1) المغني 1 / 148، والفروع 1 / 189، وكشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 223.
(2) تبيين الحقائق 1 / 58، وبدائع الصنائع 1 / 156، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 195.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 305.(37/279)
فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ وَلاَ مَاسٍّ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ يَحْرُمُ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُونَ الْمُحْدِثِ.
وَإِذَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي لَوْحٍ فَلَهُ حُكْمُ الْمُصْحَفِ فَيَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَالِغِ الْمُحْدِثِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ لأَِنَّهُ لاَ يُرَادُ لِلدَّوَامِ بِخِلاَفِ الْمُصْحَفِ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَ عَلَى اللَّوْحِ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ كُتِبَ لِلدِّرَاسَةِ حَرُمَ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ (1) ، وَيُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ وَالثِّيَابِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَإِذَا كَتَبَ قُرْآنًا عَلَى حَلْوَى فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى خَشَبَةٍ كُرِهَ إِحْرَاقُهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي الإِْنْصَافِ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ.
وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَقِيل: هُوَ كَالتَّقْلِيبِ بِالْعُودِ. وَقِيل لاَ يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ التَّقْلِيبُ بِالْعُودِ. وَلِلْمَجْدِ
__________
(1) المجموع 2 / 72، وشرح روض الطالب 1 / 61 - 62.
(2) المراجع السابقة.(37/279)
احْتِمَالٌ بِالْجَوَازِ لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ (1) .
مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَلاَ بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا لِلْمُحْدِثِ وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لاَ تِلاَوَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا، خِلاَفًا لاِبْنِ عَرَفَةَ الْقَائِل بِمَنْعِ مَسِّ تِلْكَ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا الآْيَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَوَالِيَةٌ مَعَ قَصْدِ الآْيَاتِ بِالْمَسِّ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِحُرْمَةِ حَمْل التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَحِل مَسُّهُ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لإِِخْلاَلِهِ بِالتَّعْظِيمِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لاَ يَحْرُمُ، لأَِنَّهُ
__________
(1) الإنصاف 1 / 225 - 226، والفروع 1 / 191، وكشاف القناع 1 / 135 - 137.
(2) بدائع الصنائع 1 / 33، والفتاوى الهندية 1 / 39.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125.(37/280)
لَيْسَ بِمُصْحَفٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِجَوَازِ مَسِّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ (2) ، وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ (3) .
مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يَفْعَل (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا قَال فِيهِ آيَةً (5) "،
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 80، ونهاية المحتاج 1 / 125 - 126، والمجموع 2 / 69، وشرح روض الطالب 1 / 61.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتابه فيه آية ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 32) ومسلم (3 / 1394) من حديث ابن عباس.
(3) كشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 225، والمغني 1 / 148، والفروع 1 / 190.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، فتح القدير 1 / 150، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، والمجموع شرح المهذب 2 / 70، ونهاية المحتاج 1 / 126، والإنصاف 1 / 225، والمغني 1 / 148.
(5) سبق تخريجه ف 7.(37/280)
وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ (1) .
مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَنِ، وَلاَ بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا كُتُبُ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ جَوَازَ مَسِّهَا وَحَمْلِهَا مَعَ الْحَدَثِ، وَقَال الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ: يُكْرَهُ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ آخَرُونَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ جَازَ، وَالأَْوْلَى أَنْ لاَ يَفْعَل إِلاَّ بِطَهَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ (4) .
__________
(1) المغني 1 / 148.
(2) بدائع الصنائع 1 / 33، والفتاوى الهندية 1 / 39، وفتح القدير لابن الهمام 1 / 150.
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، ومواهب الجليل 1 / 304، وحاشية الدسوقي 1 / 125 - 126.
(4) المجموع شرح المهذب 1 / 72، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61.(37/281)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِجَوَازِ مَسِّ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ (2) ، وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.
مَسُّ الْمُحْدِثِ لِلنُّقُودِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (4) ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْل وَفِيهِ آيَةُ {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} (5) ، وَلَمْ
__________
(1) المغني 1 / 148، والإنصاف 1 / 225، وكشاف القناع (1 / 135) .
(2) سبق تخريجه ف 7.
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125 - 126، ونهاية المحتاج 1 / 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61 والمجموع شرح المهذب 2 / 70 والفروع 1 / 190، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 224.
(4) سبق تخريجه ف 7.
(5) سورة آل عمران / 64.(37/281)
يَأْمُرْ حَامِلَهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ تُقْصَدُ بِإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِيهَا قِرَاءَتُهُ فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْقُرْآنِ (1) ، وَلأَِنَّ الدَّرَاهِمَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَلأَِنَّ فِي الاِحْتِرَازِ مِنْهَا مَشَقَّةً أَشْبَهَتْ أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ (2) وَقَال فِي الْفُرُوعِ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ الدَّرَاهِمِ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صُرَّةٍ فَلاَ بَأْسَ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ شَيْءٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ لَوْحٍ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ آيَةً تَامَّةً، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ يُكْرَهُ لَهُمْ مَسُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عِنْدَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ فِيهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، لأَِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَرَقَ (4) .
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ الْكَافِرِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61، والمجموع 2 / 70.
(2) شرح روض الطالب 1 / 61، والفروع 1 / 190، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135.
(3) الفروع 1 / 190، والإنصاف 1 / 224.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 39، والمغني 1 / 148.(37/282)
الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِذَا اغْتَسَل لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَال بِالْغُسْل، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لاَ فِي يَدِهِ (2) .
مَسُّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيل:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورَ فِي الْجُمْلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ مَانِعَ مِنْ مَسِّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الأُْخْرَى الْمُبَدَّلَةِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ لأَِنَّ الْكُل كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا بُدِّل مِنْهَا، وَمَا بُدِّل مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُبَدَّلَةٍ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَحَمْلُهُمَا وَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 164، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125 - 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 62، والمجموع شرح المهذب 2 / 74، وكشاف القناع 1 / 135.
(2) بدائع الصنائع 1 / 165.
(3) تبيين الحقائق 1 / 57 وفتح القدير 1 / 149، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 195، والفتاوى الهندية 1 / 39، والبحر الرائق 1 / 210 وما بعدها.
(4) شرح الزرقاني 1 / 93، وحاشية الدسوقي 1 / 125.(37/282)
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ، وَالثَّانِي: قَالاَ - وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا -: يَجُوزُ لأَِنَّهَا مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، قَال الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ وَلاَ يَحْرُمُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَهُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ إِنْ وُجِدَتْ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: يَجُوزُ مَسُّ الْمَنْسُوخِ تِلاَوَتُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (2) .
مَسُّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ مَسِّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ بِمَعْنَى اسْتِعْمَالِهِ بِأَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 74 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْمَسُّ وَالإِْنْزَال لِلصَّائِمِ
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى فَسَادِ الصَّوْمِ بِالإِْنْزَال بِالْمَسِّ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالإِْنْزَال عَنِ الْمَسِّ وَلاَ يَفْسُدُ بِالإِْنْزَال عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ (4) .
__________
(1) المجموع 2 / 72، وشرح روض الطالب 1 / 61.
(2) كشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 225.
(3) بدائع الصنائع 2 / 191، والمبسوط 4 / 122 - 123، والمدونة 1 / 456 - 457، والمجموع 7 / 269، والمغني 3 / 499.
(4) بدائع الصنائع 2 / 261.(37/283)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل أَوْ بَاشَرَ فَسَلِمَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْزَل فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: قَوْل أَشْهَبَ - وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقْوَال - لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُنْزِل، وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَيُكَفِّرُ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالنَّظَرِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ أَمْذَى مِنْ مَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَقَال أَشْهَبُ: وَالْمَسُّ بِالْيَدِ أَيْسَرُ مِنْهَا، وَالْقُبْلَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَبَثِ بِالْفَرْجِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَقَال فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: إِنْ أَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ وَيَقْضِي (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ الْمَسُّ فِي الصِّيَامِ لأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ إِذْ لَوْ أَنْزَل بِهِ أَفْطَرَ وَفَسَدَ صَوْمُهُ وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ مُضَاجَعَةٍ بِلاَ حَائِلٍ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا مَسَّ أَوْ قَبَّل فَأَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: لَوْ هَاجَتْ شَهْوَتُهُ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى وَلَمْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَقَال أَيْضًا: إِذَا قَبَّل أَوْ لَمَسَ فَأَمْنَى فَسَدَ
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 404 - 405، والمدونة 1 / 195، وشرح الزرقاني 2 / 199، ومواهب الجليل 2 / 416.
(2) نهاية المحتاج 6 / 195، والإقناع للخطيب الشربيني 2 / 69، والمجموع 6 / 322.(37/283)
صَوْمُهُ، هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ. وَوَجْهٌ فِي الْفُرُوعِ احْتِمَالاً بِأَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ (1) .
أَثَرُ الْمَسِّ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ كُلُّهُ بِالدُّخُول أَوِ الْمَوْتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْمَسِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
أَثَرُ الْمَسِّ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا وَيَجُوزُ لَهَا الزَّوَاجُ بِأُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ قَبَّلَهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ (2) .
أَمَّا الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِهِ فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَسَّ وَالْمُبَاشَرَةَ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُحَرِّمُ أُصُول مَنْ مَسَّهَا أَوْ قَبَّلَهَا وَلاَ فُرُوعَهَا، زَوْجَةً كَانَتْ أَمْ أَجْنَبِيَّةً (3) لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (4) .
__________
(1) الإنصاف 3 / 301، وكشاف القناع 2 / 319، والمغني 3 / 312 - 313.
(2) فتح القدير 3 / 129 - 130، وحاشية ابن عابدين 2 / 280 - 383، وحاشية الدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، وقليوبي 3 / 241، والمغني 6 / 579.
(3) المصادر السابقة ونهاية المحتاج 6 / 193 - 195.
(4) سورة النساء / 24.(37/284)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَلاَ تَحِل لَهُ أُصُولُهَا وَلاَ فُرُوعُهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهَا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ، وَمَنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الأَْسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِهَا، وَإِنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الاِحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الآْلَةُ ثُمَّ شَرَطَ الْحُرْمَةَ بِالنَّظَرِ أَوِ الْمَسِّ أَنْ لاَ يُنْزِل، فَإِنْ أَنْزَل لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الشَّهْوَةَ حَال الْمَسِّ، فَلَوْ مَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَسِّ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسَّ بِالإِْنْزَال غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْوَطْءِ، وَالْمَسُّ الْمُفْضِي إِلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لاَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالإِْنْزَال هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ تَبِينَ بِالإِْنْزَال فَإِنْ أَنْزَل لَمْ تَثْبُتْ وَإِلاَّ ثَبَتَتْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (1) ، قَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 22.
(2) بدائع الصنائع 2 / 260 - 261، وحاشية ابن عابدين 2 / 281 - 283، وفتح القدير 3 / 129 - 131.(37/284)
أَثَرُ الْمَسِّ فِي الظِّهَارِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنْ مَسٍّ أَوْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ تَقْبِيلٍ قَبْل التَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) .
دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْل التَّمَاسِّ، وَالتَّمَاسُّ يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْل التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ وَلأَِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ (مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ (3) ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (4)
الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (5) ، فَلاَ يَحْرُمُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 87، وبدائع الصنائع 3 / 234، وحاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني 7 / 348، والمبسوط 4 / 207.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) مغني المحتاج 3 / 357، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني 7 / 383.
(4) سورة المجادلة / 3.
(5) سورة البقرة / 237.(37/285)
مَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيل فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلاَ يُخِل بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ (1) .
مَسُّ الذَّكَرِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ
18 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَنَّ مَسَّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) .
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَنْقُضُ مَسُّهُ إِلاَّ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَلاَ يَنْقُضُ بِظَهْرِ الْكَفِّ لأَِنَّ ظَاهِرَ الْكَفِّ لَيْسَ بِآلَةِ الْمَسِّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَسَّهُ بِفَخِذِهِ (3) .
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ بَطْنِ الْكَفِّ وَظَاهِرِهِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ (مُصْطَلَحُ وُضُوءٌ) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 87، والفتاوى الهندية 1 / 456، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني لابن قدامة 7 / 383.
(2) المدونة 1 / 8، ومواهب الجليل 1 / 299، وحاشية الدسوقي 1 / 121، والمجموع 2 / 34، 35، وشرح روض الطالب 1 / 57 - 58، والمغني 1 / 178، والإنصاف 1 / 202، والفروع 1 / 179.
(3) المدونة 1 / 8، والمجموع 1 / 34 - 41، وكفاية الأخيار 1 / 22.
(4) المغني 1 / 179، والفروع 1 / 179.(37/285)
مَسُّ الأَْجْنَبِيِّ أَوِ الأَْجْنَبِيَّةِ
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ الرَّجُل شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا (1) غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجُوزِ وَمَسِّ يَدِهَا لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا مَسَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ (3) ، وَلأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ مَسُّ وَجْهِ أَجْنَبِيَّةٍ وَإِنْ حَل نَظَرُهُ بِنَحْوِ خِطْبَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ، وَلاَ لِسَيِّدَةِ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ عَبْدِهَا وَعَكْسُهُ وَإِنْ حَل النَّظَرُ (5) .
مَسُّ الْمَرْأَةِ لِلْعِلاَجِ
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 290، وبدائع الصنائع 6 / 259، وتبيين الحقائق 6 / 18، ومغني المحتاج 3 / 132، ونهاية المحتاج 6 / 195 - 196، والمجموع 1 / 34 - 41، والمغني 1 / 338.
(2) بدائع الصنائع 6 / 259، وتكملة فتح القدير 8 / 98، وتبيين الحقائق 6 / 18.
(3) حديث: عائشة " ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه مسلم (3 / 1489) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) الشرح الصغير 1 / 290، ومغني المحتاج 3 / 132، والمغني 1 / 338، والمجموع 1 / 26.
(5) نهاية المحتاج 6 / 192.(37/286)
الْمَرِيضَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَمَسَّ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ، وَمَسِّهِ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ وَلاَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ جَازَ لِلطَّبِيبِ الذِّمِّيِّ ذَلِكَ، وَتُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ الْكَافِرَةُ مَعَ وُجُودِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ لأَِنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ وَمَسَّهَا أَخَفُّ مِنَ الرَّجُل.
وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَمَسَّ مِنَ الْمَرِيضِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَمَسِّهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ (1) ، وَقَدِ اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا لِذَلِكَ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُبَاحَانِ أَيِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ بِحَضْرَةِ مَانِعِ خَلْوَةٍ كَمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ لِحِل خَلْوَةِ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ، وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَأْمَنَ الاِفْتِنَانَ وَلاَ يَكْشِفَ إِلاَّ قَدْرَ الْحَاجَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ: يَحْرُمُ النَّظَرُ دُونَ الْمَسِّ كَأَنْ أَمْكَنَ لِطَبِيبٍ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ بِالْمَسِّ فَقَطْ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلِطَبِيبٍ نَظَرُ وَمَسُّ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَلَمْسِهِ نَصَّ عَلَيْهِ (3) ، حَتَّى فَرْجِهَا وَبَاطِنِهِ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَلِيَكُنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 261، والفواكه الدواني 2 / 410، ومغني المحتاج 3 / 133، ونهاية المحتاج 6 / 196 - 197، وكفاية الأخيار 2 / 29، والمغني 3 / 113، والإنصاف 8 / 22.
(2) نهاية المحتاج 6 / 195، والإقناع للشربيني 2 / 69.
(3) الإنصاف 8 / 22، وكشاف القناع 5 / 13.(37/286)
لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ، وَيَسْتُرُ مِنْهَا مَا عَدَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لأَِنَّهَا عَلَى الأَْصْل فِي التَّحْرِيمِ، وَكَالطَّبِيبِ مَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ أَوْ مَرِيضَةٍ فِي وُضُوءٍ وَاسْتِنْجَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَتَخْلِيصِهَا مِنْ غَرَقٍ وَحَرْقٍ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَا لَوْ حَلَقَ عَانَةَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ حَلْقَ عَانَتِهِ، وَكَذَا لِمَعْرِفَةِ بَكَارَةٍ وَثُيُوبَةٍ وَبُلُوغٍ، وَأَمَّا الْمَسُّ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَمَسِّ يَدِهَا لِيَعْرِفَ مَرَضَهَا فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بِحَالٍ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 13.(37/287)
مَسْعَى
انْظُرْ: سَعْيٌ
مُسْقِطَاتٌ
انْظُرْ: إِسْقَاطٌ(37/287)
مِسْكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِسْكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ، وَثَوْبٌ مُمَسَّكٌ: مَصْبُوغٌ بِهِ، وَدَوَاءٌ مُمَسَّكٌ: فِيهِ مِسْكٌ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ قَال: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْمَشْمُومَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْبُنَانِيُّ نَقْلاً عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْمِسْكُ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّةِ الْغَزَال فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ، فَيَمْرَضُ الْغَزَال إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَنْبَرُ:
2 - الْعَنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مَادَّةٌ صُلْبَةٌ لاَ طَعْمَ لَهَا وَلاَ رِيحَ إِلاَّ إِذَا سُحِقَتْ أَوْ أُحْرِقَتْ، يُقَال: إِنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْعَنْبَرَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) حاشية البناني على هامش الزرقاني 1 / 27.
(3) المعجم الوسيط.(37/288)
أَيْ رَمَى بِهِ - إِلَى السَّاحِل (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِسْكِ:
أ - طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَأَكْلُهُ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ، يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ بِكُل حَالٍ فِي الأَْطْعِمَةِ وَالأَْدْوِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا فَقَدْ تَغَيَّرَ، وَاسْتَحَال أَصْلُهُ إِلَى صَلاَحٍ، فَيَصِيرُ طَاهِرًا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمِسْكَ أَطْيَبُ الطِّيبِ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ (3) .
وَأَمَّا نَافِجَةُ الْمِسْكِ (4) فَطَاهِرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
__________
(1) الفروع لابن مفلح 1 / 251، ونهاية المحتاج 1 / 224، وابن عابدين 1 / 140، والاختيار 1 / 115، وأسنى المطالب 1 / 11.
(2) حديث: " أن المسك أطيب الطيب ". أخرجه مسلم (4 / 1766) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) ابن عابدين 1 / 139، 140، وفتح القدير 1 / 141، والأشباه والنظائر لابن نجيم 76، والفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 24، وحاشية الدسوقي 1 / 52، وجواهر الإكليل 1 / 29، وحاشية الزرقاني 1 / 27، 52، وأسنى المطالب 1 / 11، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 25، وروضة الطالبين 3 / 130، ومطالب أولي النهى 6 / 308.
(4) النافجة بكسر الفاء، وقيل بفتحها، وفتح الجيم: جلدة يتجمع فيها المسك (ابن عابدين 1 / 140، وفتح القدير 1 / 67، والقاموس المحيط هامش مادة نفج) .(37/288)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى طَهَارَتِهَا مُطْلَقًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَل مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيل: إِنْ كَانَتْ بِحَال لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ مَيْتَةٌ طَاهِرَةٌ إِجْمَاعًا لاِنْتِقَالِهَا عَنِ الدَّمِ، كَالْخَمْرِ لِلْخَل (2) .
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ فَطَاهِرَةٌ وَتَكُونُ كَالرِّيشِ، وَإِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ مَيْتَةٍ فَنَجِسَةٌ كَاللَّبَنِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ (وِعَاؤُهُ) طَاهِرَانِ، لأَِنَّهُ مُنْفَصِلٌ بِطَبْعِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ (4)
ب - زَكَاةُ الْمِسْكِ
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْمِسْكِ (5) .
ج - بَيْعُ الْمِسْكِ وَفَأْرَتِهِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وفتح القدير 1 / 67، والفتاوى الهندية 1 / 24، والأشباه والنظائر لابن نجيم 76.
(2) حاشية الزرقاني 1 / 27.
(3) أسنى المطالب 1 / 11، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 25، وروضة الطالبين 1 / 17.
(4) كشاف القناع 1 / 57.
(5) روضة الطالبين 2 / 260، وكشاف القناع 2 / 225.(37/289)
الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل فِيهِ فَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لِجَهْل الْمَقْصُودِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الْمِسْكِ مَعْلُومًا صَحَّ الْبَيْعُ، هَذَا إِذَا خَالَطَهُ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُونًا بِغَيْرِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ (2) ، صَحَّ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُهَا لاَ الْمِسْكُ وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ مَعَهَا، أَوْ دُونَهَا، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ.
أَمَّا لَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ رَدِّهِ إِلَيْهَا، أَوْ رَأَى الْفَأْرَةَ فَارِغَةً، ثُمَّ مُلِئَتْ مِسْكًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَأَى أَعْلاَهُ مِنْ رَأْسِهَا جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّهُ بَيْعُ غَائِبٍ.
وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ وَفَأْرَتَهُ كُل رَطْلٍ أَوْ قِيرَاطٍ مَثَلاً بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَعْرِفَ وَزْنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لِلْفَأْرَةِ قِيمَةٌ، وَإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الْبَيْعَ اشْتَمَل عَلَى اشْتِرَاطِ بَذْل مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وأسنى المطالب 2 / 20، 21، والجمل 3 / 60، 41، 39، والإقناع 2 / 10، ونهاية المحتاج 3 / 404، ومطالب أولي النهى 3 / 300.
(2) الغالية: مركب من مسك وعنبر وعود وكافور، والند: تركيب من عود هندي ومسك وعنبر وقد يعمل منهما (أسنى المطالب 1 / 21، والآداب الشرعية 2 / 420، 426) .
(3) مراجع الشافعية السابقة.(37/289)
فِي فَأْرَتِهِ مَا لَمْ يُفْتَحْ وَيُشَاهَدْ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ كَاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّدَفِ، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى نَافِجَةَ مِسْكٍ، وَأَخْرَجَ الْمِسْكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِرُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، لأَِنَّ الإِْخْرَاجَ يُدْخِل فِيهِ عَيْبًا (2) .
د - السَّلَمُ فِي الْمِسْكِ
6 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمِسْكِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَيَّنُ وَزْنُ فُتَاتِ الْمِسْكِ، وَلاَ يَجُوزُ كَيْلاً لأَِنَّ الْكَيْل لاَ يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ؛ لأَِنَّ يَسِيرَهُ مَالِيَّةٌ كَثِيرَةٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَيَصِفُهُ، وَيَضْبِطُهُ بِاللَّوْنِ، وَالْبَلَدِ وَمَا يُخْتَلَفُ بِهِ (3) .
هـ - ضَمَانُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الْمَغْصُوبِ
7 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ نَقْصَ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَوْ نَحْوِهِ كَعَنْبَرٍ، لأَِنَّ قِيمَتَهُ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى قُوَّةِ رَائِحَتِهِ، وَضَعْفِهَا، وَلأَِنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ (4) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 30.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 63.
(3) ابن عابدين 4 / 207، ونهاية المحتاج 4 / 191 ط. المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 4 / 14، / 16، 27، ومطالب أولي النهى 3 / 212، والمغني 4 / 318.
(4) مطالب أولي النهى 4 / 25.(37/290)
و - اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَيُّبِ بِالْمِسْكِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ (1) ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ (2) ".
وَفِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشَمِّهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ ف 74 - 78) .
ز - اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
9 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِكُل مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا آخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِل، قَال: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَال: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، تَقُول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ (3) .
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وروضة الطالبين 3 / 129، وما بعدها، ونهاية المحتاج 1 / 224، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 224، وفتح القدير 2 / 225، 227.
(2) حديث: " المسك أطيب الطيب ". سبق تخريجه ف 3.
(3) حديث: " خذي فرصة من مسك. . ". أخرجه البخاري " فتح الباري " (1 / 414) ، ومسلم (1 / 260) واللفظ للبخاري.(37/290)
تَأْخُذَ الْمِسْكَ، وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنٍ، وَيُقَال لَهَا الْكُرْسُفُ أَوِ الْفِرْصَةُ (1) ، وَتُدْخِلُهَا الْفَرْجَ، لِيَقْطَعَ رَائِحَةَ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ (2) .
ح - إِفْطَارُ الصَّائِمِ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْمِسْكِ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَمَّ الْمِسْكَ وَلَوْ ذَاكِرًا، أَوْ شَمَّ هَوَاءً تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ أَوْ شَبَهِهِ فَلاَ يُفْطِرُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُل الْحَلْقَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا لَوْ وَصَل إِلَى الْحَلْقِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ بِاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْشِقُ صَانِعَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ وَكَافُورٍ، وَكَبُخُورٍ، وَعَنْبَرٍ (5) .
__________
(1) الكرسف: القطن، وفي اصطلاح الفقهاء ما يوضع على فم الفرج، والفرصة بكسر الراء القطعة من كل شيء، وقيل: القطعة من مسك (رسائل ابن عابدين 1 / 84، وعمدة القاري 2 / 114) .
(2) رسائل ابن عابدين 1 / 84، وعمدة القاري 2 / 113، ومغني المحتاج 1 / 74، وفتح الباري 1 / 416، وكشاف القناع 1 / 153، ومطالب أولي النهى 1 / 182.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 97.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 525.
(5) كشاف القناع 2 / 330.(37/291)
مُسْكِرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسْكِرُ فِي اللُّغَةِ: مَا أَزَال الْعَقْل، يُقَال: أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَزَال عَقْلَهُ، فَهُوَ مُسْكِرٌ، وَالاِسْمُ مِنْهُ: السُّكْرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَنَاوُل الشَّيْءِ الْمُسْكِرِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهِ، قَل أَمْ كَثُرَ، إِذَا كَانَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا، مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرٌ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (3) ، لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ (4) ". وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (5) ".
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 4 / 187.
(3) مغني المحتاج 4 / 187، وجواهر الإكليل 2 / 195 والمغني 8 / 306.
(4) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 41) ومسلم (3 / 1585) .
(5) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1587) .(37/291)
وَيُحَدُّ شَارِبُهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسْكِرُ، حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَلِحَدِيثِ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ (1) "، وَقِيسَ بِهِ النَّبِيذُ وَغَيْرُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالشَّارِبِ: الْمُتَعَاطِي شُرْبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا تَعَاطَاهُ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا، وَسَوَاءٌ أَتَنَاوَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ أَمْ إِبَاحَتَهُ، لِضَعْفِ أَدِلَّةِ الإِْبَاحَةِ، وَقَال أَبُو ثَوْرٍ: مَنْ شَرِبَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ حُدَّ، وَمَنْ شَرِبَهُ مُتَأَوِّلاً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِلاَ وَلِيٍّ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَقَذَفَ زَبَدَهُ، أَوْ طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّا بِغَيْرِ طَبْخٍ فَهَذَا حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَحُدَّ شَارِبُهُ، أَمَّا إِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَا وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُمَا، أَوْ نَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ، فَكُل ذَلِكَ حَلاَلٌ، نَقِيعًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا إِلاَّ مَا بَلَغَ السُّكْرَ أَوْ كَانَ بِلَهْوٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَةٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: " من شرب الخمر فاجلدوه ". أخرجه الترمذي (4 / 48) ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 347) عن الذهبي أنه صححه.
(2) مغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 306، وجواهر الإكليل 2 / 195 - 196.
(3) رد المحتار 5 / 289 وما بعده.(37/292)
مَسْكَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا فِي اللُّغَةِ: الْبَيْتُ وَالْمَنْزِل، وَسَكَنَ فُلاَنٌ مَكَانَ كَذَا أَيِ اسْتَوْطَنَهُ، وَاسْمُ الْمَكَانِ مَسْكَنٌ، وَالْجَمْعُ مَسَاكِنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَأْوَى:
2 - الْمَأْوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَوَى يَأْوِي أَوْيًا وَمَأْوًى، وَالْمَأْوَى لِكُل حَيَوَانٍ: سَكَنُهُ، أَيِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {جَنَّةُ الْمَأْوَى} (3) وَأَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَوْيًا: أَقَامَ وَرُبَّمَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَقِيل: أَوَى مَنْزِلَهُ وَآوَاهُ.
__________
(1) سورة الأحقاف / 25.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط.
(3) سورة النجم / 15.(37/292)
غَيْرُهُ يُؤْوِيهِ إِيوَاءً (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (2) .
وَالْمَسْكَنُ أَخَصُّ مِنَ الْمَأْوَى.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْكَنِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْكَنِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
بَيْعُ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ كَسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِطَاعَةِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَسْكَنَ لاَ يُبَاعُ لِلْحَجِّ إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ الشَّخْصِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ مُطْلَقًا، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 32)
بَيْعُ مَسْكَنِ الْمُفْلِسِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ مَسْكَنِ الْمُفْلِسِ لِتَقْسِيمِ ثَمَنِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لاَ غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا، فَلَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِهِ كَثِيَابِهِ وَقُوتِهِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، ولسان العرب.
(2) سورة الكهف / 10.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 492، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 95.(37/293)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ - وَبِقَوْلِهِمَا يُفْتَى - إِلَى أَنَّهُ يُبَاعُ مَسْكَنُهُ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلُهُ، لأَِنَّ تَحْصِيل السَّكَنِ بِالْكِرَاءِ يَسْهُل (1) .
فَإِنْ كَانَ لَهُ دَارَانِ يَسْتَغْنِي بِسُكْنَى إِحْدَاهُمَا عَنِ الأُْخْرَى فَتُبَاعُ الأُْخْرَى، وَكَذَا إِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَاسِعًا لاَ يَسْكُنُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ بِيعَ وَاشْتُرِيَ لَهُ مَسْكَنٌ مِثْلَهُ وَرُدَّ الْفَضْل عَلَى الْغُرَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ عَيْنُ مَال بَعْضِ الْغُرَمَاءِ أَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ أَعْيَانَ أَمْوَالٍ أَفْلَسَ بِأَثْمَانِهَا وَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا فَلَهُمْ أَخْذُهَا (2) .
مَسْكَنُ الْمُعْتَدَّةِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَإِنَّهُ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّكْنَى عَلَى مُطَلِّقِهَا، أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ وَهِيَ غَيْرُ حَامِلٍ وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ فَسْخٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لِكُلٍّ مِنْهُنَّ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 12 - 15) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 89 - 90، ومغني المحتاج 2 / 154، وحاشية ابن عابدين 5 / 95.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 493.(37/293)
مَسْكَنُ الزَّوْجَةِ
6 - السُّكْنَى لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ السُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا فَوُجُوبُ السُّكْنَى لِلَّتِي هِيَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .(37/294)
مَسْكُوكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْكُوكُ فِي اللُّغَةِ: الْمَضْرُوبُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، أَيِ الْمُعَلَّمَةُ بِالسِّكَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّبْرُ:
2 - التِّبْرُ لُغَةً: هُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَسْكُوكٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَإِنْ ضُرِبَ فَدَنَانِيرٌ، قَال ابْنُ فَارِسٍ: التِّبْرُ مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرَ مَصُوغٍ، وَقَال الزَّجَّاجُ: التِّبْرُ كُل جَوْهَرٍ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ.
وَالتِّبْرُ اصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل ضَرْبِهِمَا أَوْ لِلأَْوَّل فَقَطْ (2) .
ب - السِّكَّةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي السِّكَّةِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهَا حَدِيدَةٌ مَنْقُوشَةٌ تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَتُطْلَقُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) لسان العرب، وحاشية ابن عابدين 2 / 30، وجواهر الإكليل 2 / 171.(37/294)
عَلَى الْمَسْكُوكِ مِنَ النَّقْدَيْنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْكُوكِ:
أ - حُكْمُ السَّكِّ
4 - سَكُّ النُّقُودِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ التَّعَامُل بِهَا وَهِيَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لأَِنَّ النَّقْدَ لاَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُعَامَلاَتِ الْيَوْمِيَّةِ إِلاَّ إِذَا خَلَصَ مِنَ الْغِشِّ، فَلاَ تَصْلُحُ نِقَارُ الْفِضَّةِ وَسَبَائِكُ الذَّهَبِ لِذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِهِمَا إِلاَّ بِالسَّكِّ وَالتَّصْفِيَةِ، وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الثَّابِتَ بِالذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَلَزِمَ سَكُّهَا، لأَِنَّهَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا.
وَالْمَطْبُوعُ بِالسِّكَّةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَوْثُوقُ بِسِلاَمَةِ طَبْعِهِ الْمَأْمُونُ مِنْ تَبْدِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ أَوْلَى بِالْوُثُوقِ فَصَارَ سَكُّ النُّقُودِ مِنْ وَظِيفَةِ الإِْمَامِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ مِنَ الأَْفْرَادِ سَكُّ النُّقُودِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً، لأَِنَّهُ مِنْ شَأْنِ الإِْمَامِ، وَفِي سَكِّ غَيْرِهِ افْتِيَاتٌ عَلَيْهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِمُ ف 7) .
ب - كَسْرُ الْمَسْكُوكِ 5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الْمَسْكُوكِ:
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ أَهْل الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) لسان العرب.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 183 المطبعة البهية المصرية، ومغني المحتاج 1 / 390، والأحكام السلطانية للماوردي ص 155.(37/295)
مَكْرُوهٌ، لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَيُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَرَاهِمُ ف 8) .
ج - زَكَاةُ الْمَسْكُوكِ الْمَغْشُوشِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَغْشُوشِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهُ نِصَابًا، فَإِذَا بَلَغَهُ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ دَرَجَةِ الْجَوْدَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْمَسْكُوكِ الْفِضَّةِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَضْرُوبِ، فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةٌ، وَلاَ تُزَكَّى زَكَاةَ الْعُرُوضِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ الْغِشَّ فَلاَ يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْفِضِّيَّةِ بَل حُكْمُ الْعُرُوضِ، فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ وَبَلَغَتْ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ (3) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ إِنْ كَانَتْ مَسْكُوكُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ رَائِجَةً كَرَوَاجِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ فَإِنَّهَا تُعَامَل كَالْكَامِلَةِ، فَتَكُونُ فِيهَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 140، والأحكام السلطانية للماوردي 155.
(2) مغني المحتاج 1 / 390، والمغني 3 / 7.
(3) تبيين الحقائق 1 / 279، وحاشية ابن عابدين 2 / 31.(37/295)
الزَّكَاةُ إِنْ بَلَغَ وَزْنَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ نِصَابًا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ تَرُجْ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ حُسِبَ الْخَالِصُ فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زُكِّيَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ حُكْمَ إِخْرَاجِ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ عَنِ الْمَسْكُوكِ فِي الزَّكَاةِ فَقَالُوا: جَازَ إِخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وَإِخْرَاجُ وَرِقٍ عَنْ ذَهَبٍ بِلاَ أَوْلَوِيَّةٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ بِاعْتِبَارِ صَرْفِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتِ إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ حَال كَوْنِ صَرْفِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَنْ تَقْيِيدِهِ بِمُسَاوَاةِ الصَّرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ كَوْنُ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَبِاعْتِبَارِ قِيمَةٍ لِلسِّكَّةِ فِي النِّصَابِ الْمُزَكَّى إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ غَيْرَ مَسْكُوكٍ، فَمَنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَسْكُوكٌ وَصَرَفَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَسْكُوكَةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى وَزْنِ الْعَشَرَةِ مِنَ الْفِضَّةِ غَيْرِ الْمَسْكُوكَةِ قِيمَةَ سِكَّتِهَا عِنْدَ أَهْل الْمَعْرِفَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ غَيْرُ الْمَسْكُوكِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ النِّصَابِ كَمَا فِي الْمِثَال، بَل وَلَوْ كَانَ إِخْرَاجُ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ عَنِ الْمَسْكُوكِ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَخَلِيلٌ لاَ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الصِّيَاغَةِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ، فَمَنْ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ وَزْنُهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا لِصِيَاغَتِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الأَْرْبَعِينَ لاَ الْخَمْسِينَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 456.(37/296)
وَفِي إِلْغَاءِ قِيمَةِ الصِّيَاغَةِ فِي غَيْرِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَمَنْ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ وَزْنُهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا لأَِجْل الصِّيَاغَةِ وَأَرَادَ أَنْ يُزَكِّيَهُ بِدَرَاهِمَ فَهَل يُلْغِي قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ وَيُخْرِجُ صَرْفَ دِينَارٍ أَوْ يَعْتَبِرُهَا وَيُخْرِجُ صَرْفَ دِينَارٍ وَرُبْعٍ، تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَبِي عِمْرَانَ وَابْنِ الْكَاتِبِ لِعَدَمِ نَصِّ الْمُتَقَدِّمِينَ (1) .
د - التَّعَامُل بِالْمَسْكُوكِ الْمَغْشُوشِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّعَامُل بِالْمَسْكُوكِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا كَانَ مَغْشُوشًا
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، مَعَ تَقْيِيدِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ لاَ تُبَاعَ لِمَنْ يَغُشُّ بِهَا النَّاسَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ خَافِيًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِمُ ف 9) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 140.(37/296)
مِسْكِينٌ
:
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِسْكِينُ فِي اللُّغَةِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، قَال الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ: وَتُفْتَحُ مِيمُهُ: مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ مَا لاَ يَكْفِيهِ، أَوْ أَسْكَنَهُ الْفَقْرُ، أَيْ قَلَّل حَرَكَتَهُ، وَالذَّلِيل وَالضَّعِيفُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْمِسْكِينِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ مَنْ يَجِدُ مُعْظَمَ الْكِفَايَةِ أَوْ نِصْفَهَا مِنْ كَسْبٍ أَوْ غَيْرِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَقِيرُ:
2 - الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَنِيِّ، وَالْفَقِيرُ أَيْضًا الْمُحْتَاجُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ مَنْ يَمْلِكُ
__________
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 59، والدسوقي 1 / 492، ومغني المحتاج 3 / 108، وكشاف القناع 2 / 282.
(3) لسان العرب مادة " فقر ".(37/297)
دُونَ نِصَابٍ مِنَ الْمَال النَّامِي أَوْ قَدْرَ نِصَابٍ غَيْرَ نَامٍ مُسْتَغْرَقٍ فِي حَاجَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لاَ يَكْفِيهِ قُوتَ عَامٍ
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَنْ لاَ مَال وَلاَ كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: مَنْ لاَ يَجِدُ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَجِدُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْكِفَايَةِ دُونَ نِصْفِهَا مِمَّا لاَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِسْكِينِ مِنْ أَحْكَامٍ:
دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْمِسْكِينِ وَشُرُوطُهُ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ يُعْتَبَرُ مَصْرِفًا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (3) .
وَيُشْتَرَطُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لَهُ شُرُوطٌ، تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 157 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 8، والدسوقي 1 / 492، ومغني المحتاج 3 / 106، وكشاف القناع 2 / 271، 272.
(2) الاختيار 1 / 118 ط. دار المعرفة، وحاشية ابن عابدين 2 / 59 ط. بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 492 ط. دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 311، وكشاف القناع 2 / 270، 271.
(3) سورة التوبة / 60(37/297)
دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ فِي أَدَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْعْذَارِ، كَفَّرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي الإِْطْعَامِ، وَكَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ مَا يُعْطَى لِكُل مِسْكِينٍ، وَتَكْرَارُ الإِْعْطَاءِ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ ف 77، 78) .
وَدَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ يَكُونُ بِإِطْعَامِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ الْوَاجِبُ إِطْعَامُهُمْ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْكَفَّارَاتِ.
فَالإِْطْعَامُ قَدْ يَكُونُ لَسِتِّينَ مِسْكِينًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (2) .
(ر: مُصْطَلَحَ ظِهَارٍ ف 8) وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا عَلَى
__________
(1) الاختيار 3 / 165، ونيل المآرب 2 / 262، والقوانين الفقهية 248، وروضة الطالبين 8 / 305، 306.
(2) سورة المجادلة / 3 - 4.(37/298)
اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
(ر: مُصْطَلَحَ صَوْمٍ ف 68) .
وَقَدْ يَكُونُ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) (ر: مُصْطَلَحَ كَفَّارَةٍ ف 8) .
وَقَدْ يَكُونُ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ كَمَنْ فَعَل مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ شَيْئًا لِعُذْرٍ، أَوْ دَفْعِ أَذًى، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ يَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْرَامٍ ف 148) .
وَقَدْ يَكُونُ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، وَالْمُرْضِعُ وَالْحُبْلَى إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلاَدِهِمَا وَأَفْطَرُوا فَعَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَكَانَ كُل يَوْمٍ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
(ر: مُصْطَلَحَ فِدْيَةٍ ف 10) .
وَقَدْ يَكُونُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ كَمَا فِي فِدْيَةِ الْمُحْرِمِ لِقَتْل الصَّيْدِ إِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْرَامٍ ف 160، 163)
__________
(1) سورة المائدة / 89(37/298)
إِعْطَاءُ الْغَنِيمَةِ لِلْمَسَاكِينِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمَسَاكِينِ سَهْمًا فِي خُمْسِ مَال الْغَنِيمَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (1)) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذَا السَّهْمِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خُمْسُ الْخُمْسِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُلُثُ الْخُمْسِ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ سُدْسُ الْخُمْسِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُمْسٌ ف 7 - 12) .
وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفٌ وَاحِدٌ هَاهُنَا (2) .
الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
لأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَالْمِسْكِينُ مِمَّا تَحْصُل الْقُرْبَةُ بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 236، والاختيار 4 / 131، والقليوبي 3 / 189، والمغني 6 / 413.
(3) الاختيار 3 / 45، والقوانين الفقهية 376، والوجيز 1 / 245، ومطالب أولي النهى 4 / 282، والمغني 5 / 619، 620.(37/299)
إِثْبَاتُ الْمَسْكَنَةِ:
7 - إِذَا عُرِفَ لِرَجُلٍ مَالٌ فَادَّعَى تَلَفَهُ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةِ، قَال صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ: وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، وَادَّعَى الْفَقْرَ أَوِ الْمَسْكَنَةَ، قُبِل قَوْلُهُ، وَلاَ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْفَقْرُ (1) .
__________
(1) المجموع 6 / 195، والإنصاف 3 / 245، وحاشية الدسوقي 1 / 492، وجواهر الإكليل 1 / 138.(37/299)
مَسِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّيْل لُغَةً: مَعْرُوفٌ، جَمْعُهُ سُيُولٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي الأَْصْل، مِنْ سَال الْمَاءُ يَسِيل سَيْلاً مِنْ بَابِ بَاعَ، وَسَيَلاَنًا إِذَا طَغَى وَجَرَى، ثُمَّ غَلَبَ الْمَسِيل فِي الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ الْجَارِي فِي الأَْوْدِيَةِ، وَالْمَسِيل مَجْرَى السَّيْل، وَالْجَمْعُ مَسَايِل وَمُسُلٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَرُبَّمَا قِيل مُسْلاَنٌ مِثْل رَغِيفٍ وَرُغْفَانٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَمِنْ صُوَرِ الْمَسِيل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيل الْمَاءِ عَلَى أَسْطِحَةِ دَارٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيل مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيل أَحْكَامٌ مِنْهَا:
مَسِيل الْمَاءِ مِنْ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَرَافِقَ وَحُقُوقَ الْعَقَارِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي 2 / 317، ومجلة الأحكام العدلية المادة 144.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 394، وحاشية ابن عابدين 4 / 118.(37/300)
مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ، تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا وَأَنَّهَا حُقُوقٌ مُقَرَّرَةٌ عَلَى مَحَالِّهَا وَمِنْهَا الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلُهُ وَلَهُ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ يَأْتِي بَيَانُهَا.
أ - التَّصَرُّفُ فِي الْمَسِيل:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَسِيل بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسِيل وَهِبَتُهُ لِجَهَالَتِهِ، إِذْ لاَ يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ مِنَ الْمَاءِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمَسِيل، أَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَدَّ مَا يَسِيل فِيهِ الْمَاءُ، أَوْ بَاعَ أَرْضَ الْمَسِيل مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَقِّ التَّسْيِيل فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حُدُودَهُ (1) .
وَأَمَّا بَيْعُ حَقِّ التَّسْيِيل وَهِبَتُهُ دُونَ رَقَبَةِ الْمَسِيل فَلاَ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْمَشَائِخِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الأَْرْضِ، أَوْ عَلَى السَّطْحِ، لأَِنَّهُ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَبَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ مَالٌ بَل بِالْهَوَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَسِيل الْمَاءُ عَنْ أَرْضِهِ كَيْلاَ يُفْسِدَهُ فَيُمِرَّهُ عَلَى أَرْضٍ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ الَّذِي يَأْخُذُهُ (2) .
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مَسِيل مَاءٍ فِي دَارِ رَجُلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 118.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 118 - 119، والفتاوى الخانية على هامش الهندية 3 / 105.(37/300)
فَلاَ بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ مَسِيل مَاءِ الْمَطَرِ أَوْ مَاءِ الْوُضُوءِ، وَكَذَا يَنْبَغِي بَيَانُ مَوْضِعِ مَسِيل الْمَاءِ أَنَّهُ فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ أَوْ فِي مُؤَخَّرِهِ (1) .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ لاَ يَدْخُل مَسِيل الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ ذُكِرَ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ يَدْخُل وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَمَنِ اشْتَرَى مَنْزِلاً فِي دَارٍ أَوْ مَسْكَنًا فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسِيل فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُل حَقٍّ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ.
وَلَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مَسِيلٌ لِدَارٍ لَهُ أُخْرَى بِجَنْبِهَا وَقَال بِكُل حَقٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ دَارًا وَلآِخَرَ فِيهَا مَسِيل مَاءٍ، فَرَضِيَ صَاحِبُ الْمَسِيل بِبَيْعِ الدَّارِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهُ رَقَبَةُ الْمَسِيل كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ جَرْيِ الْمَاءِ فَقَطْ فَلاَ قِسْطَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَبَطَل حَقُّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ (2) .
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا مَسِيل مَاءٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَمْسَكَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ بِنَاءَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 211.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 30.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 80.(37/301)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَسِيل وَيَنْبُعُ فِي مِلْكٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ الَّتِي يَنْبُعُ فِيهَا يُرْسِلُهُ مَتَى شَاءَ وَيَحْبِسُهُ مَتَى شَاءَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي سَانِيَةٍ إِلَى أَرْضِهِمْ لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الآْخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْقُلَل أَوِ الْخَشَبِ أَوْ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَى سَبِيل اشْتَرَاكِهِمْ أَوَّل إِجْرَائِهِمْ لَهُ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ شِرْبَ يَوْمٍ مِنْ كُل شَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ مِنْ قَنَاةٍ أَوْ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مِنْ نَهْرٍ، أَيَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لاَ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: قَال مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ، قَال: وَهَذَا الَّذِي قَال مَالِكٌ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ. قَال: وَقَال مَالِكٌ: إِذَا قُسِمَتِ الأَْرْضُ وَتُرِكَ الْمَاءُ فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ بِغَيْرِ مَاءٍ، ثُمَّ بَاعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَال لِي: هَذَا الْمَاءُ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ وَالأَْرْضُ أَيْضًا لاَ شُفْعَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الْمَاءِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ بَيْنَ النَّفَرِ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا فَبَاعَ أَحَدُهُمْ مَاءَهُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، فَقَال مَالِكٌ: فَفِي هَذَا الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ لَمْ تُقْسَمْ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ آخَرُ بَعْدَهُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ الْبَائِعُ الأَْوَّل مَعَهُمْ فِي الْمَاءِ بِحِصَّتِهِ
__________
(1) العقد المنظم 2 / 131 - 132.(37/301)
مِنَ الأَْرْضِ؟ قَال: لاَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنَ الأَْرْضِ وَتَرَكَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ شُرَكَائِهِ حِصَّتَهُ مِنَ الأَْرْضِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ لِمَكَانِ مَا بَقِيَ لَهُ فِي الْمَاءِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَسَمُوا أَرْضًا وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَاءٌ يَسْقُونَ بِهِ وَكَانَ لَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فَبَاعَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمُ الْمَاءُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ مَعَ شُرَكَائِهِ فِي الشُّفْعَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الأَْرْضِ؟ قَال: لاَ (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ أَوِ الصُّلْحِ عَلَى إِخْرَاجِ مِيزَابٍ (2) ، وَعَلَى إِلْقَاءِ الثَّلْجِ فِي مِلْكِهِ - أَيِ الْمُصَالَحِ مَعَهُ - عَلَى مَالٍ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لَكِنْ مَحَلُّهُ فِي الْمَاءِ الْمَجْلُوبِ مِنْ نَهْرٍ وَنَحْوِهِ إِلَى أَرْضِهِ، وَالْحَاصِل إِلَى سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا مَسِيل غُسَالَةِ الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى مَالٍ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ، وَقَال: إِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ (4) ، فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ إِذَا بَيَّنَ قَدْرَ الْجَارِي إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ، وَبَيَّنَ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ إِذَا كَانَ عَلَى
__________
(1) المدونة 6 / 192.
(2) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 402.
(3) نهاية المحتاج 4 / 402.
(4) مغني المحتاج 2 / 191.(37/302)
الأَْرْضِ وَالْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْبِنَاءِ فَلَيْسَ كُل النَّاسِ يَبْنِي، وَغَسْل الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي لاَ بُدَّ مِنْهُ لِكُل النَّاسِ أَوِ الْغَالِبِ وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْبِنَاءِ، فَمَنْ بَنَى حَمَّامًا وَبِجَانِبِهِ أَرْضٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ حَقَّ مَمَرِّ الْمَاءِ فَلاَ تَوَقُّفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، بَل الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الأَْرْضِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَلَعَل مُرَادَ الْمُتَوَلِّي مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ يَحْصُل الْبَيَانُ فِي قَدْرِ مَا يَصُبُّ (1) ، وَقَال الإِْسْنَوِيُّ: وَشَرْطُ الْمُصَالَحَةِ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَصْرِفٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِلاَّ بِمُرُورِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ (2) .
وَمَحَل الْجَوَازِ فِي الثَّلْجِ إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لاَ فِي سَطْحِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ أَوْ مِنْهُ الْمَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، لأَِنَّ الْمَطَرَ يَقِل بِصِغَرِهِ وَيَكْثُرُ بِكِبَرِهِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَحَمَّل قَلِيل الْمَاءِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِقَدْرِ مَاءِ الْمَطَرِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 402.
(2) مغني المحتاج 2 / 191، ونهاية المحتاج 4 / 402.(37/302)
ثُمَّ إِنْ عُقِدَ عَلَى الأَْوَّل بِصِيغَةِ الإِْجَارَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِ الإِْجْرَاءِ وَبَيَانِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَعُمْقِهِ وَقَدْرِ الْمُدَّةِ إِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَحْفُورًا وَإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لاَ يَمْلِكُ الْحَفْرَ (1) .
وَأَمَّا بَيْعُ مَسِيل الْمَاءِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَقَدَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ مَسِيل الْمَاءِ وَجَبَ بَيَانُ الطُّول وَالْعَرْضِ، وَفِي الْعُمْقِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَل يَمْلِكُ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ أَمْ لاَ؟ قَال الرَّافِعِيُّ وَإِيرَادُ النَّاقِلِينَ يَمِيل إِلَى تَرْجِيحِ الْمِلْكِ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: لاَ يَجِبُ بَيَانُ الْعُمْقِ لأَِنَّهُ مَلَكَ الْقَرَارَ، قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَإِنْ عَقَدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَهَل يَنْعَقِدُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً؟ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَصَرَّحَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا سَوَاءٌ وَجَّهَ الْعَقْدَ إِلَى الْحَقِّ أَوِ الْعَيْنِ، قَال عَمِيرَةُ: قَدْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لاَ يُمْلَكُ عَيْنًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَظْهَرُ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ لَفْظَ مَسْأَلَةِ الْمَاءِ مَثَلاً يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَيْنِ بِخِلاَفِ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ رَأْسَ الْجِدَارِ لِلْبِنَاءِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ، أَوْ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 317، ومغني المحتاج 2 / 191.(37/303)
صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَال كَوْنِ الْمَاءِ مِنْ سَطْحِهِ، أَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَال كَوْنِهِ عَنْ أَرْضِهِ، جَازَ الصُّلْحُ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاؤُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَطْحٍ مَعْلُومًا لَهُمَا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ مِسَاحَةِ السَّطْحِ أَوِ الأَْرْضِ الَّتِي يَنْفَصِل مَاؤُهَا، لأَِنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَالأَْرْضِ وَكِبَرِهِمَا، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَتُهُمَا.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى السَّطْحِ أَوْ إِلَى الأَْرْضِ، دَفْعًا لِلْجَهَالَةِ، وَلاَ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الإِْجَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ لِدَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى تَأْبِيدِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ مُدَّةً كَنِكَاحٍ. لَكِنْ قَال ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَوَاعِدِ فِي السَّابِعَةِ وَالثَّمَانِينَ: لَيْسَ بِإِجَارَةٍ مَحْضَةٍ؛ لِعَدَمِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا غَيْرُ مَاءِ الْمَطَرِ فَكَانَتْ بَيْعًا تَارَةً وَإِجَارَةً تَارَةً أُخْرَى، فَاعْتُبِرَ فِيهَا تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ أَوِ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا أَوْ عَارِيَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَمَّا فِي السَّطْحِ فَلِتَضَرُّرِهِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الأَْرْضِ فَلأَِنَّهُ يَجْعَل لِغَيْرِ صَاحِبِ الأَْرْضِ رَسْمًا، فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهَا بَعْدُ. وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ(37/303)
إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ. وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ.
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِهِ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ بِئْرِهِ مُدَّةً - وَلَوْ مُعَيَّنَةً - لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ الْمَاءَ، لأَِنَّ الْمَاءَ الْعِدَّ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْبِئْرِ كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ خُمُسٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ أَيْ لِلْجُزْءِ الْمُسَمَّى مِنَ الْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا لِكُل مِنْهُمَا فِيهِ (1) .
ب - إِرْثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ
4 - الْمَسِيل مِنَ الْحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُولِهِ التَّوَارُثَ لأَِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلاَفَةٌ قَهْرِيَّةٌ بِحُكْمِ الشَّارِعِ وَلَيْسَتْ مِنْ قَبِيل التَّمَلُّكِ الاِخْتِيَارِيِّ فَلَمْ تُشْتَرَطْ فِيهَا الْمَالِيَّةُ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، لأَِنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ التَّمَلُّكَ فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَمَا يَجُوزُ التَّوَارُثُ فِيهِ يَجُوزُ الإِْيصَاءُ بِهِ، فَمَثَلاً إِذَا أَوْصَى صَاحِبُ شِرْبٍ لآِخَرَ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِهِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 402 - 403.(37/304)
جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَقْيُ أَرْضِهِ، وَيَنْتَهِي حَقُّهُ فِي ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ، لأَِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَنَافِعَ وَهِيَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُنْتَفِعِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ (1) .
اعْتِبَارُ الْقِدَمِ فِي حَقِّ الْمَسِيل
5 - يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمَسِيل - لَكِنِ الْقِدَمُ غَيْرُ مُنْشِئٍ لِلْحَقِّ (2) وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ تَفْصِيلٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ:
أَنْ يَتْرُكَ الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلَهُ كَالْمِيزَابِ عَلَى وَجْهِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ.
أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُول غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الأَْصْل فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَال إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ حُقُوقٍ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ إِزَالَةُ مَنْشَأِ هَذَا الضَّرَرِ، فَمَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيل مَاءٍ قَذِرٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 189 - 190، تبيين الحقائق 6 / 41 - 43، وحاشية ابن عابدين 4 / 113، وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 457، ومغني المحتاج 3 / 4 ولم ينص على حق المسيل وإنما ذكر الحقوق اللازمة.
(2) العقد المنظم للأحكام 2 / 127، وفتاوى قاضيخان 3 / 213.(37/304)
الضَّرَرَ لاَ يَكُونُ قَدِيمًا لِوُجُوبِ إِزَالَتِهِ (1) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَتَى وَجَدَ سَيْل مَائِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوْ وَجَدَ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ سَبَبَهُ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ وَضْعُهُ بِحَقِّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُل الأَْزْمِنَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقِدَمُ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ عَشْرِ سَنَوَاتٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِمُضِيِّ عِشْرِينَ سَنَةٍ عِنْدَ أَصْبَغٍ، وَعَنْ سَحْنُونٍ فِي مَصَبِّ مَاءٍ أَوْ مَسِيلٍ يَكْفِي مُضِيُّ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ عَلَيْهِ، قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ: وَبِالأَْوَّل مَضَى الْعَمَل (3) .
وَقَدْ فَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا:
فَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: لِدَارٍ مَسِيل مَطَرٍ عَلَى دَارِ الْجَارِ مِنَ الْقَدِيمِ وَإِلَى الآْنِ، فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ قَائِلاً: لاَ أَدَعُهُ يَسِيل بَعْدَ ذَلِكَ (4) .
قَال فِي الْخَانِيَةِ: وَهَذَا جَوَابُ الاِسْتِحْسَانِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 393، 395، 401 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 412، ومجلة الأحكام العدلية بشرح الأتاسي المادة 1224، وانظر المادة (6) و (7) ، بدائع الصنائع 6 / 189 وما بعدها، والمعيار المعرب 9 / 41 - 42 - 43، 10 / 275 العقد المنظم للأحكام 2 / 127 - 128، وانظر الموسوعة الفقهية 3 / 11 ف 7.
(2) كشاف القناع 3 / 412.
(3) المعيار 9 / 41 - 43 العقد المنظم للأحكام 2 / 127 - 128.
(4) مجلة الأحكام العدلية المادة 1229 بشرح الأتاسي.(37/305)
فِي الْمِيزَابِ وَمَسِيل مَاءِ السَّطْحِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيل مَاءٍ فِي دَارِهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى جَوَابِ الاِسْتِحْسَانِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ نَحْوَهُ قَال الْبُهُوتِيُّ: فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ أَوَّلاً، فَقَوْل صَاحِبِ الْمَسِيل وَنَحْوِهِ إِنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ مَعَ يَمِينِهِ عَمَلاً بِظَاهِرِ الْحَال، فَإِنْ زَال فَلِرَبِّهِ إِعَادَتُهُ لأَِنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَقِّهِ فِيهِ فَلاَ يَزُول حَتَّى يُوجَدَ مَا يُخَالِفُهُ (2) .
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْمَادَّةِ (1230) : (دُورٌ فِي طَرِيقٍ لَهَا مَيَازِيبٌ مِنْ قَدِيمٍ مُنَصَّبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ تَمْتَدُّ إِلَى عَرْصَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَسْفَلِهِ جَارِيَةٍ مِنَ الْقَدِيمِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ سَدُّ ذَلِكَ الْمَسِيل الْقَدِيمِ، فَإِنْ سَدَّهُ يُرْفَعُ السَّدُّ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ وَيُعَادُ إِلَى وَضْعِهِ الْقَدِيمِ) لأَِنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّدِّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ عَرْصَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي تُنْصَبُ إِلَيْهِ الْمَيَازِيبُ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (25) أَنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِالضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (26) أَنَّهُ
__________
(1) فتاوى قاضيخان 3 / 213.
(2) كشاف القناع 3 / 412.(37/305)
يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَلاَ سَبِيل إِلَى رَفْعِ الْمَيَازِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ لأَِنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلاَ عَنِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الضَّرَرُ حَيْثُ كَانَ مَسِيل الْمَاءِ إِلَى الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّرِيقِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَا يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ (1) .
وَقَال فِي الْمَادَّةِ (1232) مِنَ الْمَجَلَّةِ (حَقُّ مَسِيلٍ لِسِيَاقٍ مَالِحٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِمُشْتَرِيهَا إِذَا بَاعَهَا مَنْعُ جَرْيِهِ بَل يَبْقَى كَمَا فِي السَّابِقِ) قَال شَارِحُهَا: نَعَمْ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقْتَ الْبَيْعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لأَِنَّهُ عَيْبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ بِحَقٍّ لاَزِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ (2) .
نَفَقَةُ إِصْلاَحِ الْمَسِيل
6 - قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي إِجْرَاءِ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنَّ نَفَقَةَ السَّطْحِ عَلَى صَاحِبِهِ (3) .
قِسْمَةُ الْمَسِيل وَدُخُولُهُ فِي الْمَقْسُومِ
7 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَسِيل مَاءٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَأَبَى الآْخَرُ، فَإِنْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1230 و 1232 بشرح الأتاسي.
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 173.
(3) الإفصاح 1 / 381.(37/306)
كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ يَسِيل مِنْهُ مَاؤُهُ سِوَى هَذَا قُسِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ إِلاَّ بِضَرَرٍ لَمْ يُقْسَمْ (1) .
وَأَمَّا دُخُول الْمَسِيل فِي الْعَقَارِ الْمَقْسُومِ فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1165) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ حَقَّ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيل فِي الأَْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَقْسُومِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى كُل حَالٍ فِي أَيِّ حِصَّةٍ وَقَعَ يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِهَا، سَوَاءٌ قِيل: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَل.
قَال شَارِحُهَا الأَْتَاسِيُّ: احْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فِي الأَْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ عَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَوِ الْمَسِيل فِي الْحِصَّةِ الأُْخْرَى فَحُكْمُهُ كَمَا فِي الْمَادَّةِ الآْتِيَةِ (1166) ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: (سَوَاءٌ قِيل بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا) هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ (كَمَا فِي (الْهِنْدِيَّةِ) .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الأَْصْل: إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ بَيْنَ قَوْمٍ مِيرَاثًا اقْتَسَمُوهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَصَابَ كُل إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَرَاحٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَهُ مَسِيل مَائِهِ وَكُل حَقٍّ لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لاَ يَدْخُلاَنِ (كَذَا فِي الْمُحِيطِ) .
وَنَقَل شَارِحُ الْمَجَلَّةِ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَازِيًا لِلذَّخِيرَةِ مَا نَصُّهُ: وَذَكَرَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ فِي قِسْمَةِ الأَْرَاضِيِ وَالْقُرَى: أَنَّ الطَّرِيقَ وَمَسِيل الْمَاءِ يَدْخُلاَنِ فِي الْقِسْمَةِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 207.(37/306)
وَالْمَرَافِقِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَمَسِيل الْمَاءِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَكُونَا فِي أَنْصِبَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِكُل وَاحِدٍ إِحْدَاثُ هَذِهِ الْحُقُوقِ فِي أَنْصِبَائِهِ حَتَّى لاَ تَفْسُدَ الْقِسْمَةُ.
وَعَلَيْهِ مَحْمَل كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيل لاَ يَدْخُلاَنِ، عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَادَّةِ (فِي الأَْرَاضِي الْمُجَاوِرَةِ) . (1)
وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1166) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ حِينَ الْقِسْمَةِ كَوْنَ طَرِيقِ الْحِصَّةِ أَوْ مَسِيلِهَا فِي الْحِصَّةِ الأُْخْرَى فَالشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَمِثْلُهُ - بَل أَوْلَى - مَا إِذَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ قَبْلَهَا فَاشْتَرَطَا تَرْكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: (إِذَا شُرِطَ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَادَّةِ وَهُوَ (إِذَا كَانَ طَرِيقُ حِصَّتِهِ فِي حِصَّةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ حِينَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَابِل التَّحْوِيل إِلَى طَرَفٍ آخَرَ يُحَوَّل سَوَاءٌ قِيل حِينَ الْقِسْمَةِ: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَل، أَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ قَابِلٍ التَّحْوِيل إِلَى طَرَفٍ آخَرَ فَيُنْظَرُ إِنْ قِيل حِينَ الْقِسْمَةِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا فَالطَّرِيقُ دَاخِلٌ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكُرِ التَّعْبِيرُ الْعَامُّ كَقَوْلِهِمْ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1165 بشرح الأتاسي، والفتاوى الهندية 5 / 211.(37/307)
تَنْفَسِخِ الْقِسْمَةُ (1) ، وَالْمَسِيل فِي هَذَا الْخُصُوصِ كَالطَّرِيقِ بِعَيْنِهِ.
الْمَسِيل الْوَاقِعُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ
8 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1168) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ: (إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ حَقُّ مَسِيلٍ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفِي قِسْمَةِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا يُتْرَكُ الْمَسِيل عَلَى حَالِهِ) (2) .
إِحْدَاثُ الْمَسِيل فِي مِلْكٍ عَامٍّ أَوْ مِلْكٍ خَاصٍّ
9 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1231) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُجْرِيَ مَسِيل مَحَلِّهِ الْمُحْدَثِ إِلَى دَارِ آخَرَ، الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ إِحْدَاثُ مَسِيل مَحَلِّهِ إِلَى دَارِ آخَرَ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ قَدِيمًا.
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّل مَسِيلَهُ إِلَى دَارِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُضِرًّا أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنِهِ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (96) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1226) (لِلْمُبِيحِ صَلاَحِيَةُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِبَاحَتِهِ وَالضَّرَرُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا بِالإِْذْنِ وَالرِّضَا. .) . (3)
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1167، وانظر الفتاوى الهندية 5 / 211 لإيرادها تفصيلات وتفريعات وكذا شرح المجلة للشيخ الأتاسي.
(2) انظر مجلة الأحكام العدلية بشرح الشيخ الأتاسي المادة المذكورة.
(3) انظر مجلة الأحكام العدلية بشرح الأتاسي المادة المذكورة.(37/307)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: (وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ: الْمَرَافِقُ الَّتِي لاَ ضَرَرَ فِيهَا لاَ يُمْنَعُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَ إِحْدَاثَهَا لأَِنَّهُ يَنْتَفِعُ هُوَ وَغَيْرُهُ لاَ يَسْتَضِرُّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَرَافِقِ الَّتِي فِيهَا يَسِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْجَارِ هَل يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَغَرْزِ الرَّجُل خَشَبَةَ حَائِطِهِ فِي جِدَارِ جَارِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَال الْجَارِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ ضَرَرٍ فَكَيْفَ مَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ.
أَمَّا إِنْ أَحْدَثَ الرَّجُل فِي طَرِيقٍ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهِ فَلاَ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمُتَمَلَّكَةِ كَمَا فِي النَّازِلَةِ، وَلاَ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْمَحَجَّاتِ وَلاَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُتَمَلَّكَةِ بِإِذْنٍ وَلاَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالإِْذْنِ فَلاَ إِذْنَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ.
ثُمَّ قَال: رَجُلٌ لَهُ مَسْكَنٌ نَازَعَهُ جَارُهُ فِي مِرْحَاضٍ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ.
وَسَاقَ تَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قَال: إِنْ كَانَ مَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 402 - 403.(37/308)
ذُكِرَ مِنَ الْمَجْرَى مُضِرَّةٌ بِالطَّرِيقِ بِسَبَبِ الْمِرْحَاضِ فَالْحُكْمُ الْمَنْعُ مِنْ كُل مَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهَا لأَِنَّ الطَّرِيقَ قَدِيمَةٌ وَمَصَالِحَهَا عَامَّةٌ وَالإِْحْدَاثَاتُ الْمُضِرَّةُ بِهَا تُرْفَعُ عَنْهَا وَإِنْ قَدُمَتْ، فَيُتْرَكُ الْكُرْسِيُّ فِي دَارِ صَاحِبِه وَالْمَجْرَى إِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُدُوثُ مَضَرَّةٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ، وَيُمْنَعُ مَالِكُ الْمَجْرَى مِنْ إِجْرَاءِ مِرْحَاضِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تُفْضِي إِلَى طَرِيقِ النَّاسِ (1) .
وَقَال فِي الْبَهْجَةِ: إِذَا تَنَازَعَا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يُثْبِتَا خِلاَفَهُ (2) .
مُشَاعٌ
انْظُرْ: شُيُوعٌ
__________
(1) المعيار المعرب للونشريسي 10 / 277 - 278.
(2) البهجة 2 / 338.(37/308)
مُشَافَهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشَافَهَةُ لُغَةً: مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ: مُفَاعَلَةٍ الدَّال غَالِبًا عَلَى الْمُشَارَكَةِ الْحَاصِلَةِ أَوِ الْمُتَوَقَّعَةِ، مِنْ شَفَهَهُ يُشَافِهُهُ إِذَا خَاطَبَهُ مُتَكَلِّمًا مَعَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمُجَادَلَةُ:
2 - أَصْل الْجَدَل الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بِمَا يَشْغَل عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُشَافَهَةِ التَّلاَزُمُ، فَالْمُجَادَلَةُ لاَ تَتِمُّ غَالِبًا إِلاَّ مُشَافَهَةً.
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 231 ط. دار المعرفة. بيروت، والوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 244 ط. مطبعة الآداب.
(3) المصباح المنير.
(4) قواعد الفقه للبركتي.(37/309)
ب - الْمُنَاجَاةُ:
2 - الْمُنَاجَاةُ مِنْ نَاجَيْتُ فُلاَنًا مُنَاجَاةً إِذَا سَارَرْتَهُ، وَتَنَاجَى الْقَوْمُ: نَاجَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاجَاةِ وَالْمُشَافَهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي النَّفْسِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ إِلاَّ أَنَّ الْمُنَاجَاةَ خَاصَّةٌ بِحَدِيثِ السِّرِّ وَالْمُشَافَهَةَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُشَافَهَةِ:
شُمُول خِطَابِ الشَّارِعِ
4 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فِي الْخِطَابِ الْوَارِدِ مِنَ الْمُشَرِّعِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيل " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "، " يَا بَنِي آدَمَ " {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُشَافَهَةٌ لِلْمُسْتَمِعِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ هَل يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ أَوْ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ كُل الأُْمَّةِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الأَْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؟ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَتَنَاوَل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية في غريب الحديث 5 / 25.(37/309)
بِلَفْظِهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَةَ الْخِطَابِ دُونَ سِوَاهُمْ، وَأَنَّ شُمُول الْحُكْمِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُسْتَفَدْ - فِي الْحَقِيقَةِ - مِنْ صِيغَةِ الْخِطَابِ وَلَفْظِهِ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ أَدِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ مُجْمَلُهَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَهْل زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الأُْمَّةِ حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ الْجَمِيعَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْقَضَاءُ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي
5 - الإِْنْهَاءُ بِالْمُشَافَهَةِ أَوِ الْقَضَاءُ بِالْمُشَافَهَةِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِمَا شَافَهَهُ بِهِ قَاضٍ آخَرُ أَوْ يُنَفِّذُهُ، وَشَرْطُ الاِعْتِدَادِ بِهِ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ.
وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 54) .
تَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ بِالْمُشَافَهَةِ
6 - تَنْعَقِدُ وِلاَيَةُ الْقَاضِي بِالْمُشَافَهَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَكَذَلِكَ عَزْلُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 25. وَتَوْلِيَةٌ ف 10) .
__________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول ص 128.(37/310)
الْمُشَافَهَةُ فِي الْعُقُودِ
7 - الأَْصْل فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَكُونَ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِالْمُشَافَهَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَنِ الإِْرَادَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ وَالإِْشَارَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 10 وَمَا بَعْدَهَا، تَعْبِيرٌ ف 3، وَصِيغَةٌ ف 10) .
الإِْجَازَةُ بِالْمُشَافَهَةِ
8 - الإِْجَازَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَقُول الشَّيْخُ لِلرَّاوِي - مُشَافَهَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُرَاسَلَةً: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلاَنِيَّ أَوْ مَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ أَحَادِيثَ سَمِعْتَهَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى أَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الإِْجَازَةِ الْمُشَافَهَةُ بِهَا، لاِنْتِفَاءِ الاِحْتِمَالاَتِ فِيهَا، وَتَتْلُوهَا - مِنْ حَيْثُ الدَّرَجَةُ - الْمُرَاسَلَةُ لأَِنَّ الرَّسُول يَضْبِطُ وَيَنْطِقُ، وَبَعْدَهُمَا تَأْتِي الْمُكَاتَبَةُ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ لاَ تَنْطِقُ وَإِنْ كَانَتْ تُضْبَطُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالإِْجَازَةِ وَالْعَمَل بِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْمَنْعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَل وَقَال بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْل الْعِلْمِ: مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمُ الْقَوْل بِتَجْوِيزِ الإِْجَازَةِ وَإِبَاحَةِ الرِّوَايَةِ(37/310)
بِهَا، وَوُجُوبِ الْعَمَل بِالْمَرْوِيِّ بِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَازَةٌ ف 15، 26) .
مُشَافَهَةُ الْمَرْأَةِ
9 - يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ أَنْ تُشَافِهَ الرُّفْقَةَ الْمَأْمُونَةَ مِنَ الرِّجَال الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تُرَافِقَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَأَنْ يُشَافِهُوهَا حَسْبَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ تُشَافِهَ الرِّجَال وَأَنْ يُشَافِهُوهَا فِي حَالاَتِ الإِْفْتَاءِ وَالاِسْتِفْتَاءِ، وَالدَّرْسِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَأَكَّدُ حَاجَتُهَا إِلَيْهِ كَالْعِلاَجِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَافَهَ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ (1) ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَل ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَشَافَهَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْفَتْ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَرَاوَغَتْ فِي الْحِوَارِ وَتَمَادَتْ فِي الإِْنْكَارِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا وَهَدَّدَهَا قَائِلاً: (لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأَُجَرِّدَنَّكِ) فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ فِي قَوْلِهِ أَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا.
__________
(1) ومثال ذلك ما أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ، ومسلم (3 / 1138) من حديث عائشة " أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".(37/311)
وَالضَّابِطُ فِي إِبَاحَةِ الْمُشَافَهَةِ هُوَ عَدَمُ الْفِتْنَةِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَوْرَةٌ ف 3) ، وَمُصْطَلَحَ اخْتِلاَطٌ ف 4) .
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشريعة لابن القيم ص 11 ط. المؤسسة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1961 م.(37/311)
مُشَاهَدَةٌ
انْظُرْ: رُؤْيَةٌ
مُشَاوَرَةٌ
انْظُرْ: شُورَى
مُشْتَرَكٌ
انْظُرِ: اشْتِرَاكٌ(37/312)
مُشْتَهَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشْتَهَاةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ: يُقَال اشْتَهَى الشَّيْءَ: اشْتَدَّتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُشْتَهَاةُ مِنَ النِّسَاءِ هِيَ مَنْ وَصَلَتْ تِسْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَنُقِل عَنِ الْمِعْرَاجِ: أَنَّ بِنْتَ خَمْسٍ لاَ تَكُونُ مُشْتَهَاةً اتِّفَاقًا وَبِنْتَ تِسْعٍ فَصَاعِدًا مُشْتَهَاةٌ اتِّفَاقًا، وَفِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَالتِّسْعِ اخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ - أَيْ لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً - (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَهَاةَ هِيَ الَّتِي يُلْتَذُّ بِهَا الْتِذَاذًا مُعْتَادًا لِغَالِبِ النَّاسِ (3) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَحْدِيدَ الْمُشْتَهَاةِ وَضَبْطَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تُشْتَهَى هِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 281، 283.
(3) جواهر الإكليل 1 / 20.
(4) المجموع 2 / 28.
(5) كشاف القناع 1 / 129.(37/312)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَهَاةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَهَاةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَثَرُ لَمْسِ الْمُشْتَهَاةِ عَلَى الْوُضُوءِ
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ الْمُشْتَهَاةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف 12، 13، وَلَمْسٌ ف 4) .
الْغُسْل مِنْ جِمَاعِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ
3 - قَال الْحَصْكَفِيُّ: جِمَاعُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ لاَ يُوجِبُ الْغُسْل وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَإِنْ غَابَتْ فِيهَا الْحَشَفَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَصِيرَ مُفْضَاةً بِالْوَطْءِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِنْزَالٌ، لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِلاَّ غَسْل الذَّكَرِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ فَقِيل: يَجِبُ الْغُسْل مُطْلَقًا، وَقِيل: لاَ يَجِبُ مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الإِْيلاَجُ فِي مَحَل الْجِمَاعِ مِنَ الصَّغِيرَةِ وَلَمْ يَفُضَّهَا - أَيْ لَمْ يَجْعَلْهَا مُخْتَلِطَةَ السَّبِيلَيْنِ - فَهِيَ مِمَّنْ تُجَامَعُ فَيَجِبُ الْغُسْل، وَالْوُجُوبُ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا زَالَتِ الْبَكَارَةُ لأَِنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْكَبِيرَةِ فَفِي الصَّغِيرَةِ بِالأَْوْلَى (1) .
وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْجِ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 112، 99.(37/313)
مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ ف 10) .
أَثَرُ مُبَاشَرَةِ الْمُشْتَهَاةِ فِي انْتِشَارِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَنْتَشِرُ بِوَطْءِ الْمُشْتَهَاةِ أَوْ مَسِّهَا بِشَهْوَةٍ، وَقَالُوا بِنْتُ سِنِّهَا دُونَ تِسْعٍ لَيْسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ وَبِهِ يُفْتَى وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ سَمِينَةً أَوْ لاَ، وَلِذَا قَال فِي الْمِعْرَاجِ: بِنْتُ خَمْسٍ لاَ تَكُونُ مُشْتَهَاةً اتِّفَاقًا وَبِنْتُ تِسْعٍ فَصَاعِدًا مُشْتَهَاةٌ اتِّفَاقًا وَفِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَالتِّسْعِ اخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ. وَلاَ فَرْقَ فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْوَطْءِ بِالزِّنَا وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً غَيْرَ مُشْتَهَاةٍ فَدَخَل بِهَا فَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ جَازَ لِلأَْوَّل التَّزَوُّجُ بِبِنْتِهَا، لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ، أَمَّا أُمُّهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَكَذَا تُشْتَرَطُ الشَّهْوَةُ فِي الذَّكَرِ فَلَوْ جَامَعَ صَبِيٌّ غَيْرُ مُرَاهِقٍ امْرَأَةَ أَبِيهِ لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَيْ لاَ تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ، لأَِنَّ مَنْ لاَ يَشْتَهِي لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِجِمَاعِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي وَصَل إِلَى حَدِّ الْمُرَاهَقَةِ وَهُوَ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَيَشْتَهِي وَتَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنْ مِثْلِهِ فَهُوَ كَالْبَالِغِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كَمَا تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالْوَطْءِ الْحَلاَل فَإِنَّهَا تَنْتَشِرُ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ بِشُرُوطٍ هِيَ:
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 281، 282، والفتاوى الهندية 1 / 274 - 275.(37/313)
1
- بُلُوغُ الْوَاطِئِ.
2 - أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ يُتَلَذَّذُ بِهَا.
3 - أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ دَارِئًا لِلْحَدِّ، أَمَّا الْوَطْءُ الْحَرَامُ الَّذِي لاَ يَدْرَأُ الْحَدَّ كَالزِّنَا فَفِيهِ خِلاَفٌ فِي نَشْرِ الْحُرْمَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ نَشْرِ الْحُرْمَةِ. وَمُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ كَالْوَطْءِ فِي نَشْرِ الْحُرْمَةِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ مُحَرَّمًا بِحَائِلٍ غَيْرِ صَفِيقٍ إِنْ أَحَسَّ بِالْحَرَارَةِ أَوْ بِدُونِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ، وَهُوَ يُسَمَّى نِكَاحًا، فَدَخَل فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) .
وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّحْرِيمِ حَيَاةُ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ، فَلَوْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ أَوْ أَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ حَشَفَةَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ مِثْلِهِمَا يَطَأُ وَيُوطَأُ فَلاَ يَتَعَلَّقُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْءِ صَغِيرٍ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
وَعَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ مِثْلِهِمَا يَطَأُ وَيُوطَأُ فَلَوْ عَقَدَ ابْنُ تِسْعٍ عَلَى امْرَأَةٍ وَأَصَابَهَا وَفَارَقَهَا، حَلَّتْ لَهُ: بِنْتُهَا إِذْ لاَ تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الإِْصَابَةِ، فَوُجُودُهَا كَعَدِمِهَا وَكَذَا عَكْسُهُ كَمَا لَوْ أَصَابَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 240، 251.
(2) سورة النساء / 22.(37/314)
ابْنُ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ مَنْ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ، وَفَارَقَهَا، فَبَلَغَتْ، وَاتَّصَلَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتِ، حَلَّتْ تِلْكَ الْبِنْتُ لِمُصِيبِ أُمِّهَا حَال صِغَرِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، وَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تَحْرِيمَ بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ وَمُبَاشَرَةٍ وَنَظَرٍ إِلَى فَرْجٍ لِشَهْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ (1) .
حَضَانَةُ الْمُشْتَهَاةِ
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِلْحَاضِنِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَابْنِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ وَابْنِ الْخَال وَابْنِ الْخَالَةِ أَنْ لاَ تَبْلُغَ الْبِنْتُ الْمَحْضُونَةُ حَدًّا يُشْتَهَى بِمِثْلِهَا.
فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْحَدَّ، فَلاَ تُسَلَّمُ إِلَى الْحَاضِنِ الْمَذْكُورِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَضَانَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَحْضُونُ ذَكَرًا وَالْحَاضِنُ أُنْثَى غَيْرَ مَحْرَمٍ كَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِنَّ فَتَسْتَمِرُّ حَضَانَتُهُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يَشْتَهِي مِثْلُهُ فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ سَقَطَ حَقُّهَا فِي حَضَانَتِهِ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ (2) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَةٌ ف 9 - 14) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 94 - 95.
(2) كفاية الأخيار 2 / 152، 154، وكشاف القناع 5 / 497، والفتاوى الهندية 1 / 542.(37/314)
اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْفَرْجِ الْمَزْنِيِّ بِهِ مُشْتَهًى لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ الْمَزْنِيُّ بِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا أَيْ يَشْتَهِيهِ ذَوُو الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ مِنَ النَّاسِ بِأَنْ كَانَ فَرْجَ آدَمِيٍّ حَيٍّ، وَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ، وَتَعَافُهُ النَّفْسُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدِّ الزِّنَا (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ مَيِّتَةً، لأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ آدَمِيَّةٍ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحَيَّةِ، وَلأَِنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبًا وَأَكْثَرُ إِثْمًا، لأَِنَّهُ انْضَمَّ إِلَى الْفَاحِشَةِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ (2) .
وَاحْتِرَازًا كَذَلِكَ عَنْ وَطْءِ صَغِيرَةٍ غَيْرِ مُشْتَهَاةٍ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (3) لاَ عَلَى الرَّجُل الْفَاعِل وَلاَ عَلَى الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ وَلاَ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ غَيْرَ بَالِغٍ، قَال
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 141 - 142، وجواهر الإكليل 2 / 283، ومغني المحتاج 4 / 144 - 146، وكفاية الأخيار 2 / 182، والمغني لابن قدامة 8 / 181.
(2) مغني المحتاج 4 / 145، والمغني لابن قدامة 8 / 181.
(3) رد المحتار على الدر المختار 3 / 141، والقوانين الفقهية ص347، والمغني لابن قدامة 8 / 181 - 182، ومغني المحتاج 4 / 146.(37/315)
الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ صَغِيرَةً لَمْ تَبْلُغْ تِسْعًا، لأَِنَّهَا لاَ يُشْتَهَى مِثْلُهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْخَل أُصْبُعَهُ فِي فَرْجِهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا لاَ حَدَّ عَلَيْهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ وَطْؤُهَا وَمَكَّنَتِ الْمَرْأَةُ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ فَوَطِئَهَا أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْهُمَا فَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِتِسْعِ، وَلاَ عَشْرٍ، لأَِنَّ التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْقِيفِ وَلاَ تَوْقِيفَ فِي هَذَا وَكَوْنُ التِّسْعِ وَقْتًا لإِِمْكَانِ الاِسْتِمْتَاعِ غَالِبًا لاَ يَمْنَعُ وُجُودَهُ قَبْل، كَمَا أَنَّ الْبُلُوغَ يُوجَدُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا غَالِبًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُودِهِ قَبْلَهُ (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 181 - 182.(37/315)
مُشْرِفٌ
انْظُرْ: إِشْرَافٌ
مُشْرِكٌ
انْظُرْ: إِشْرَاكٌ
الْمُشَرِّكَةُ
انْظُرْ: عُمَرِيَّةٌ(37/316)
مَشْرُوبٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ(37/316)
مَشْرُوعِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشْرُوعِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ لِمَشْرُوعٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ، وَالْمَشْرُوعُ مَا سَوَّغَهُ الشَّرْعُ، وَالشِّرْعَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الدِّينُ، وَالشَّرْعُ وَالشَّرِيعَةُ مِثْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ النَّاسِ لِلاِسْتِقَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُضُوحِهَا وَظُهُورِهَا وَشَرَعَ اللَّهُ لَنَا كَذَا يَشْرَعُهُ، أَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ (1) .
وَقَال التَّهَانَوِيُّ: وَتُطْلَقُ الْمَشْرُوعِيَّةُ عَلَى مَا تَكْتَسِبُهُ الأَْفْعَال أَوِ الأَْشْيَاءُ مِنْ أَحْكَامٍ كَالْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُ وُجُودًا حِسِّيًّا، وَمَعَ هَذَا لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّحَّةُ:
2 - الصِّحَّةُ لُغَةً: فِي الْبَدَنِ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أَفْعَالُهُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي فَقِيل صَحَّتِ الصَّلاَةُ إِذَا أُسْقِطَتْ، الْقَضَاءُ، وَصَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَصَحَّ الْقَوْل إِذَا طَابَقَ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 222.(37/317)
الْوَاقِعَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّحَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْفِعْل مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ وَبِإِزَائِهِ الْبُطْلاَنُ (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِطْلاَقُ الصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عِبَارَةُ عَمَّا وَافَقَ الشَّرْعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةُ عَمَّا أَجْزَأَ وَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
الْحُكْمُ:
3 - الْحُكْمُ هُوَ الْقَضَاءُ لُغَةً.
وَاصْطِلاَحًا: إِذَا قُيِّدَ بِالشَّرْعِيِّ فَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا.
هَذَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُْصُول، أَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ أَثَرُ الْخِطَابِ وَلَيْسَ عَيْنَ الْخِطَابِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ هِيَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي، وانظر التعريفات للجرجاني.
(3) المستصفى 1 / 94.
(4) مسلم الثبوت 1 / 54، وجمع الجوامع 1 / 35، وإرشاد الفحول ص 6.(37/317)
الْجَوَازُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْجَوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ، وَمِنْهُ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ جَعَلْتُهُ جَائِزًا نَافِذًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا لاَ مَنْعَ فِيهِ عَنِ الْفِعْل وَالتَّرْكِ شَرْعًا (2) .
أَدِلَّةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
5 - قَال الْقَرَافِيُّ: أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْحْكَامِ مَحْصُورَةٌ شَرْعًا تَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّارِعِ وَهِيَ نَحْوُ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ قَال: فَأَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْبَرَاءَةُ الأَْصْلِيَّةُ وَإِجْمَاعُ أَهْل الْمَدِينَةِ وَالاِسْتِحْسَانُ وَالاِسْتِصْحَابُ وَفِعْل الصَّحَابِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْخَلَل فِي التَّصَرُّفَاتِ وَأَثَرُهُ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى كَمَا شُرِعَتْ دُونَ نُقْصَانٍ أَوْ خَلَلٍ حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً، وَكُل عِبَادَةٍ تَفْقِدُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا أَوْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الشَّرْعِيُّ مِنَ الثَّوَابِ الأُْخْرَوِيِّ وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي الدُّنْيَا.
__________
(1) المصباح، والمعجم الوسيط، وفتح القدير 3 / 203 ط. الأميرية.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) الفروق 1 / 128.(37/318)
وَكُل مَا لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ فَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلاَتِ.
فَالْجُمْهُورُ يُلْحِقُونَ الْمُعَامَلاَتِ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِعْلَهَا عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَشْرُوعَةِ يُلْحِقُ بِهَا الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمُ اصْطِلاَحٌ خَاصٌّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل مِنَ الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْبَاطِل فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ.
أَمَّا مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ، وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لاَ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ الرِّبَوِيِّ مَثَلاً، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيْعٌ، وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْفَضْل، فَكَانَ فَاسِدًا لِمُلاَزَمَتِهِ لِلزِّيَادَةِ وَهِيَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَوْ حُذِفَتِ الزِّيَادَةُ لَصَحَّ الْبَيْعُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَمُصْطَلَحِ (بُطْلاَنٌ ف 10 - 12) .
__________
(1) جمع الجوامع 1 / 105 - 107، والتلويح 1 / 218، وكشف الأسرار 1 / 259، وحاشية الدسوقي 3 / 54، ونهاية المحتاج 3 / 429، والمنثور 3 / 7.(37/318)
دُخُول الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
7 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّل الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} (1) .
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لاَ عَنْ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ فِعْل شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ وَتَفْصِيلاَتٍ (3) تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْسْبَابُ الْمَشْرُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لاَ لِلْمَفَاسِدِ
8 - قَال الشَّاطِبِيُّ: الأَْسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لاَ لِلْمَصَالِحِ، كَمَا أَنَّ الأَْسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لاَ لِلْمَفَاسِدِ، مِثَال ذَلِكَ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لأَِنَّهُ سَبَبٌ لإِِقَامَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَإِخْمَادِ الْبَاطِل عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لإِِتْلاَفِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَلاَ نَيْلٍ مِنْ عِرْضٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى
__________
(1) سورة المائدة / 101.
(2) حديث: " وسكت عن أشياء. . ". أخرجه الدارقطني في سننه (4 / 298) ، وضعفه ابن رجب في " شرح الأربعين النووية " ص 200.
(3) الموافقات 1 / 161 - 176، والبحر المحيط 1 / 167 - 168.(37/319)
ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ، وَالطَّلَبُ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوعٌ لإِِقَامَةِ ذَلِكَ الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقِتَال كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .
الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ
انْظُرْ: مُزْدَلِفَةُ
__________
(1) الموافقات 1 / 237.(37/319)
مَشَقَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشَقَّةُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْجُهْدِ وَالْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالثِّقَل، يُقَال: شَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَهُ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَْنْفُسِ} (2) مَعْنَاهُ: إِلاَّ بِجُهْدِ الأَْنْفُسِ، وَالشِّقُّ: الْمَشَقَّةُ، وَقَال فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَشَقَّ الأَْمْرُ عَلَيْنَا يَشُقُّ مِنْ بَابِ قَتَل أَيْضًا فَهُوَ شَاقٌّ، وَشَقَّ عَلَيَّ الأَْمْرُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً أَيْ ثَقُل عَلَيَّ (3) وَالْمَشَقَّةُ اسْمٌ مِنْهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَرَجُ:
2 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَحَرِجَ صَدْرُهُ حَرَجًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: ضَاقَ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 / 491.
(2) سورة النحل / 7.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، والصحاح في اللغة.(37/320)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَرَجُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ هِيَ: أَنَّ الْحَرَجَ أَخَصُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ب - الرُّخْصَةُ:
3 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ يُقَال: رَخُصَ السِّعْرُ إِذَا تَرَاجَعَ وَسَهُل الشِّرَاءُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ: كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ، وَجَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالرُّخْصَةِ: هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ سَبَبٌ لِلرُّخْصَةِ.
ج - الضَّرُورَةُ:
4 - الضَّرُورَةُ اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ (4) .
وَفِي الشَّرْعِ: بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ (5) .
وَالصِّلَةُ هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 159.
(2) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 301، والتعريفات للجرجاني والمستصفى للغزالي 1 / 98 - 99.
(4) المصباح المنير، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 319، والأشباه للسيوطي ص 85.
(5) المنثور في القواعد 2 / 319، والأشباه للسيوطي ص 85.(37/320)
د - الْحَاجَةُ
5 - الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مَعَ مَحَبَّتِهِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جُهْدٍ فَهِيَ دُونَ الْمَشَقَّةِ وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشَقَّةِ:
أَوَّلاً: أَوْجُهُ الْمَشَقَّةِ
6 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَرُخَصٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَعْتَمِدُ عَلَى نَوْعِ الْمَشَقَّةِ وَدَرَجَتِهَا.
وَلاَ تَخْلُو جَمِيعُ التَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ أَصْلاً، بَل إِنَّ التَّكْلِيفَ مَا سُمِّيَ بِهَذَا إِلاَّ لأَِنَّهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، فَلاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَوْجُهَ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةٌ.
الْوَجْهُ الأَْوَّل: مَشَقَّةُ مَا لاَ يُطَاقُ
7 - وَهِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي لاَ يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى حَمْلِهَا أَصْلاً، فَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَرِدِ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَصْلاً، إِذْ لاَ قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) المفردات للراغب الأصبهاني.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 10، 11، والأشباه للسيوطي ص 85.(37/321)
الْعَادَةِ فَلاَ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ جَازَ عَقْلاً، فَتَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَ تَكَلُّفُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ مُوقِعًا فِي عَنَاءٍ وَتَعَبٍ لاَ يُجْدِي، كَالْمُقْعَدِ إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالإِْنْسَانُ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقُّ الْحَمْل إِذَا تَحَمَّل فِي نَفْسِ الْمَشَقَّةِ سُمِّيَ الْعَمَل شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ حَمْلِهِ مَشَقَّةٌ (1) .
الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ:
8 - الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ وَيُمْكِنُ احْتِمَالُهَا، لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النَّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الأَْفْعَال الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالإِْتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 107، 119 - 120، ومسلم الثبوت 1 / 123، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 7.(37/321)
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَكُونَ مُخْتَصَّةً وَلَكِنْ إِذَا نَظَرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الأَْعْمَال وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا صَارَتْ شَاقَّةً وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِل بِهَا، وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِل وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّل الإِْنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ (1) .
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (3) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (6) ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (7)
__________
(1) الموافقات 2 / 120، ومسلم الثبوت 1 / 123، وقواعد الأحكام 2 / 7.
(2) سورة الأعراف / 157.
(3) سورة البقرة / 286.
(4) سورة البقرة / 286.
(5) سورة الحج / 78.
(6) سورة النساء / 28.
(7) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 86) ومسلم (4 / 1813) واللفظ لمسلم.(37/322)
وَإِنَّمَا قَالَتْ: مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا لأَِنَّ تَرْكَ الإِْثْمِ لاَ مَشَقَّةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلاَ لِلتَّخْفِيفِ وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
كَمَا يُسْتَدَل عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمِمَّا عُلِمَ مِنْهُ دِينُ الأُْمَّةِ بِالضَّرُورَةِ: كَرُخَصِ السَّفَرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُل الْمُحَرَّمَاتِ فِي الاِضْطِرَارِ (1) ، فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُل قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الاِنْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الأَْعْمَال، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلاَ تَخْفِيفٌ وَهُوَ يَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ (2) ، فَإِنَّهُ لاَ يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لاَ تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً كَمَا لاَ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، لأَِنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لاَ يَقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَل فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 122.
(2) الموافقات 2 / 122 - 123.(37/322)
الْمَشَقَّةِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَل يُؤَدِّي الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الاِنْقِطَاعِ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ وَإِلَى وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلاَ يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً وَإِنْ سُمِّيَتْ كُلْفَةً (1) .
فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفَ الثَّابِتَ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَل مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ (2) .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الزِّيَادَةُ فِي الْفِعْل عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ:
9 - وَهُوَ إِذَا كَانَ الْفِعْل خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْل التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لأَِنَّ الْعَرَبَ تَقُول: كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِهِ، وَتَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ: إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحَمَلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتُهُ: إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلاَّ تَكَلُّفًا، فَمِثْل
__________
(1) الموافقات 2 / 123.
(2) الموافقات 2 / 123 - 124.(37/323)
هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الاِعْتِبَارِ، لأَِنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ وَدُخُول أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (1) .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا بِمَا قَبْلَهُ:
10 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الإِْنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا تَهْوَى الأَْنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ شَرِيعَةٍ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَإِذًا مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ (2) .
ثَانِيًا: الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُنَظِّمَةُ لأَِحْكَامِ الْمَشَقَّةِ:
11 - وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) يَعْنِي أَنَّ الصُّعُوبَةَ تَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّسْهِيل، وَيَلْزَمُ التَّوْسِيعُ فِي وَقْتِ الْمُضَايَقَةِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَجْرِ وَغَيْرِ
__________
(1) الموافقات 2 / 121.
(2) الموافقات 2 / 121 - 153.(37/323)
ذَلِكَ، وَمَا جَوَّزَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
وَتُعْتَبَرُ الْمَشَقَّةُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ الأَْحْوَال، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبِ الأَْعْمَال، فَلَيْسَ لِلْمَشَقَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّخْفِيفَاتِ ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، وَلاَ حَدٌّ مَحْدُودٌ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَاعْتَبَرَ السَّفَرَ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ مَظَانِّ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ. وَلَيْسَتْ أَسْبَابُ الرُّخَصِ بِدَاخِلَةٍ تَحْتَ قَانُونٍ أَصْلِيٍّ، وَلاَ ضَابِطٍ مَأْخُوذٍ بِالْيَدِ، بَل هِيَ إِضَافِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل مُخَاطَبٍ فِي نَفْسِهِ (1) .
وَالأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ( x662 ;) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ (4) ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَحَبُّ الأَْدْيَانِ
__________
(1) الموافقات 1 / 314، 3 / 155، ومجلة الأحكام العدلية ص 18، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 51، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 76.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) سورة الحج / 78.
(4) حديث: " بعثت بالحنيفية السمحاء ". أخرجه أحمد (5 / 266) من حديث أبي أمامة.(37/324)
إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ (1) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ (2) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُول اللَّهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (3) .
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.
هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ (4) .
وَبِمَعْنَى قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ قَوْل الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ " وَمَعْنَاهَا: إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ، فَعَكْسُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " إِذَا اتَّسَعَ الأَْمْرُ ضَاقَ "، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَال
__________
(1) حديث: " أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة ". أخرجه أحمد (1 / 236) من حديث ابن عباس، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (1 / 94) .
(2) حديث: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 525) .
(3) حديث عائشة: " ما خير رسول الله. . ". سبق تخريجه في التعليق على ف 8.
(4) غمز عيون البصائر 1 / 271، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 77.(37/324)
دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
وَمِنْهَا قَبُول شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (1)
الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْمَشَاقُّ ضَرْبَانِ:
12 - أَحَدُهُمَا: مَشَقَّةٌ لاَ تَنْفَكُّ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَكَمَشَقَّةِ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلاَ سِيَّمَا فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَكَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُول النَّهَارِ، وَكَمَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ الَّتِي لاَ انْفِكَاكَ عَنْهَا غَالِبًا، وَكَمَشَقَّةِ الاِجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشَقَّةُ فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ وَلاَ سِيَّمَا فِي حَقِّ الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً عَلَى مُقِيمِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِهَا لِلسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَالْجُنَاةِ مِنَ الأَْجَانِبِ وَالأَْقَارِبِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ (2) ، وَلِمِثْل هَذَا قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (3) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 271، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 77.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 84، والأشباه للسيوطي ص 83، ومجلة الأحكام العدلية ص 18، وشرح مجلة الأحكام للأتاسي 1 / 51 وغمز عيون البصائر 1 / 273.
(3) سورة النور / 2.(37/325)
يَدَهَا (1) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَحَمُّل هَذِهِ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) فَهَذِهِ الْمَشَاقُّ كُلُّهَا لاَ أَثَرَ لَهَا فِي إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ (3) .
13 - الضَّرْبُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ تَنْفَكُّ عَنْهَا الْعِبَادَاتُ غَالِبًا وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فَادِحَةٌ كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالأَْطْرَافِ وَمَنَافِعِ الأَْطْرَافِ، فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لأَِنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالأَْطْرَافِ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ ثُمَّ تَفُوتُ أَمْثَالُهَا (4) .
النَّوْعُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ خَفِيفَةٌ كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي إِصْبَعٍ أَوْ أَدْنَى صُدَاعٍ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لاَ أَثَرَ لَهُ وَلاَ الْتِفَاتَ إِلَيْهِ لأَِنَّ تَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لاَ أَثَرَ لَهَا (5) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَشَاقُّ وَاقِعَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَشَقَّتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْخِفَّةِ وَالشِّدَّةِ فَمَا دَنَا
__________
(1) حديث: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 513) ، ومسلم (3 / 1315) من حديث عائشة.
(2) سورة التوبة / 128.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 7.
(4) قواعد الأحكام 2 / 7 - 8.
(5) قواعد الأحكام 2 / 7 - 8.(37/325)
مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، وَمَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبِ التَّخْفِيفَ.
كَمَرِيضٍ فِي رَمَضَانَ يَخَافُ مِنَ الصَّوْمِ زِيَادَةَ مَرَضٍ أَوْ بُطْءَ الْبُرْءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَهَكَذَا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ وَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَوَجَعِ الضُّرُوسِ الْيَسِيرِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالْعُلْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالدُّنْيَا، وَتُضْبَطُ مَشَقَّةُ كُل عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَخْفِيفِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي مَشَقَّةِ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ كَزِيَادَةِ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ وَفِي إِبَاحَةِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ: أَنْ يَحْصُل بِتَرْكِهَا مِثْل مَشَقَّةِ الْقُمَّل الْوَارِدِ فِيهِ الرُّخْصَةُ، وَأَمَّا أَصْل الْحَجِّ فَلاَ يُكْتَفَى بِتَرْكِهِ بِذَلِكَ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَشَقَّةٍ لاَ يُحْتَمَل مِثْلُهَا كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال، وَعَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَفِي إِبَاحَةِ تَرْكِ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ: أَنْ يَحْصُل بِهِ مَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ وَإِلَى الاِضْطِجَاعِ أَشَقُّ، لأَِنَّهُ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ.
وَالْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 8، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص81.(37/326)
مَا يَعْظُمُ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا يَخِفُّ وَلاَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَتَوَسَّطُ فَيُرَدَّدُ فِيهِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا كَانَ أَوْلَى بِمَنْعِ الْوُجُوبِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا كَانَ أَوْلَى بِأَنْ لاَ يَمْنَعَ الْوُجُوبَ.
وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ، فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ، كَيْلاَ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.
مِثَالُهُ: تَرْخِيصُ الشَّرْعِ فِي الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال تُقَامُ مَعَ الْخَبَثِ الَّذِي يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَعَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ كَانَ عُذْرُهُ كَعُذْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ (1) .
أَمَّا الصَّلاَةُ فَيَنْتَقِل فِيهَا الْقَائِمُ إِلَى الْقُعُودِ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُشَوِّشُ عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالأَْذْكَارَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّرُورَةُ وَلاَ الْعَجْزُ عَنْ تَصْوِيرِ الْقِيَامِ اتِّفَاقًا، وَيُشْتَرَطُ فِي الاِنْتِقَال مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الاِضْطِجَاعِ عُذْرًا أَشَقَّ مِنْ عُذْرِ الاِنْتِقَال مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، لأَِنَّ الاِضْطِجَاعَ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ وَلاَ سِيَّمَا وَالْمُصَلِّي مُنَاجٍ رَبَّهُ (2) .
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 8 - 9، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 81.
(2) قواعد الأحكام 2 / 9.(37/326)
وَأَمَّا الأَْعْذَارُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ فَخَفِيفَةٌ، لأَِنَّ الْجَمَاعَاتِ سُنَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ، وَالْجُمُعَاتِ بَدَلٌ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالأَْعْذَارُ فِيهِ خَفِيفَةٌ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يَشُقُّ الصَّوْمُ مَعَهُ لِمَشَقَّةِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَهَذَانِ عُذْرَانِ خَفِيفَانِ، وَمَا كَانَ أَشَدَّ مِنْهُمَا كَالْخَوْفِ عَلَى الأَْطْرَافِ وَالأَْرْوَاحِ كَانَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْفِطْرِ.
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَارَةً بِأَعْذَارٍ خَفِيفَةٍ، وَمَنَعَهُ تَارَةً عَلَى قَوْلٍ بِأَعْذَارٍ أَثْقَل مِنْهَا، وَالأَْعْذَارُ عِنْدَهُ رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْمَشَقَّةِ.
الرُّتْبَةُ الأُْولَى: مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالأَْعْضَاءِ، وَمَنَافِعِ الأَْعْضَاءِ فَيُبَاحُ بِهَا التَّيَمُّمُ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَقَّةٌ دُونَ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ فِي الرُّتْبَةِ كَالْخَوْفِ مِنْ حُدُوثِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فَهَذَا مُلْحَقٌ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا عَلَى الأَْصَحِّ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: خَوْفُ إِبْطَاءِ الْبُرْءِ وَشِدَّةُ الضَّنَى فَفِي إِلْحَاقِهِ بِالرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ خِلاَفٌ وَالأَْصَحُّ الإِْلْحَاقُ.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: خَوْفُ الشَّيْنِ إِنْ كَانَ بَاطِنًا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَالْمُخْتَارُ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ التَّيَمُّمَ(37/327)
بِمَشَاقَّ خَفِيفَةٍ دُونَ هَذِهِ الْمَشَاقِّ (1) .
14 - وَلاَ تَخْتَصُّ الْمَشَاقُّ بِالْعِبَادَاتِ بَل تَجْرِي فِي الْمُعَامَلاَتِ مِثَالُهُ: الْغَرَرُ فِي الْبُيُوعِ وَهُوَ أَيْضًا ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ كَبَيْعِ الْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فِي قُشُورِهَا فَيُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَفِيهِ اخْتِلاَفٌ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ لاِرْتِفَاعِهِ عَمَّا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ لاِنْحِطَاطِهِ عَمَّا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ تَارَةً يَعْظُمُ الْغَرَرُ فِيهِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الأَْصَحِّ كَبَيْعِ الْجَوْزِ الأَْخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ (2) .
15 - وَإِذَا كَانَتِ الْمَشَاقُّ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الشِّدَّةِ وَإِلَى مَا هُوَ فِي أَدْنَاهَا، وَإِلَى مَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، فَكَيْفَ تُعْرَفُ الْمَشَاقُّ الْمُتَوَسِّطَةُ الْمُبِيحَةُ الَّتِي لاَ ضَابِطَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ رَبَطَ التَّخْفِيفَاتِ بِالشَّدِيدِ وَالأَْشَدِّ وَالشَّاقِّ وَالأَْشَقِّ، مَعَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّدِيدِ وَالشَّاقِّ مُتَعَذِّرَةٌ لِعَدَمِ الضَّابِطِ؟ وَأَجَابَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِقَوْلِهِ: لاَ وَجْهَ لِضَبْطِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ إِلاَّ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 9 - 10.
(2) المرجع السابق.(37/327)
بِالتَّقْرِيبِ، فَإِنَّ مَا لاَ يُحَدُّ ضَابِطُهُ لاَ يَجُوزُ تَعْطِيلُهُ وَيَجِبُ تَقْرِيبُهُ، فَالأَْوْلَى فِي ضَابِطِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ أَنْ تُضْبَطَ مَشَقَّةُ كُل عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ بِهَا، وَلَنْ يُعْلَمَ التَّمَاثُل إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ الْوُقُوفُ عَلَى تَسَاوِي الْمَشَاقِّ، فَإِذَا زَادَتْ إِحْدَى الْمَشَقَّتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى عُلِمَا أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَتَا، فَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَقَّةُ الدُّنْيَا مِنْهُمَا كَانَ ثُبُوتُ التَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْثَال ذَلِكَ أَنَّ التَّأَذِّي بِالْقَمْل مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ فِي حَقِّ النَّاسِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ تَأَذِّيهِ بِالأَْمْرَاضِ بِمِثْل مَشَقَّةِ الْقَمْل (1) .
كَذَلِكَ سَائِرُ الْمَشَاقِّ الْمُبِيحَةِ لِلُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ الْمَشَاقُّ الْمُبِيحَةُ لِلتَّيَمُّمِ بِأَدْنَى مَشَقَّةٍ أُبِيحَ بِمِثْلِهَا التَّيَمُّمُ، وَفِي هَذَا إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مَشَقَّةَ الزِّيَادَةِ الْيَسِيرَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل وَمَشَقَّةَ الاِنْقِطَاعِ مِنْ سَفَرِ النُّزْهَةِ خَفِيفَةٌ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا الأَْمْرَاضُ، وَأَمَّا الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ مَشَقَّتُهُ بِمَشَقَّةِ الصِّيَامِ فِي الْحَضَرِ، فَإِذَا شَقَّ الصَّوْمُ مَشَقَّةً تُرْبِي عَلَى مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ فَلْيَجُزِ الإِْفْطَارُ بِذَلِكَ.
وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَقَادِيرُ الإِْغْرَارِ فِي
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 12 - 13.(37/328)
الْمُعَامَلاَتِ، وَمِنْهَا تَوَقَانُ الْجَائِعِ إِلَى الطَّعَامِ وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، وَمِنْهَا التَّأَذِّي بِالرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، كَذَلِكَ التَّأَذِّي بِالْمَشْيِ فِي الْوَحْل (1) .
ضَابِطُ الْمَشَقَّةِ
16 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ عَامَّةً، وَوُقُوعُهَا كَثِيرًا، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهَا نَادِرًا لَمْ تُرَاعَ الْمَشَقَّةُ، وَالْمَشَقَّةُ يَخْتَلِفُ ضَابِطُهَا بِاخْتِلاَفِ أَعْذَارِهَا، كَمَا فِي التَّيَمُّمِ، إِذْ يُعْدَل عَنِ الْمَاءِ إِذَا خِيفَ إِتْلاَفُ عُضْوٍ أَوْ بُطْءُ الْبُرْءِ أَوْ شَيْنٌ فَاحِشٌ (2) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ قِيل مَا ضَابِطُ الْفِعْل الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ؟ قُلْتُ: إِذَا اتَّحَدَ الْفِعْلاَنِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالأَْرْكَانِ - وَكَانَ أَحَدُهُمَا - شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لأَِجْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لاَ عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، إِذْ لاَ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ لأَِنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلاَ تَوْقِيرًا، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّل مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَهُ لأَِجْل كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 13.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 171 - 172.(37/328)
يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّل مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لأَِجْلِهِ.
وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّل الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا (1) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الأَْعْمَال إِذَا كَانَ الدُّخُول فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مُحَرَّمٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً - بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ - مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَالأَْعْضَاءِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَالْمَشَقَّةُ الدِّينِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الاِعْتِبَارِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِدْخَال الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ (2) .
فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ وَلاَ الْعَمَل الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ مَطْلُوبًا، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الاِشْتِغَال بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ اعْتُبِرَ جَانِبُهَا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 31.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 153 - 154.(37/329)
وَأُهْمِل جَانِبُ الْخَاصَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الأَْعْمَال الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلاَفِ تِلْكَ الأَْعْمَال فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلاَةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلاَةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال التَّكْلِيفِ وَلَكِنْ كُل عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ، تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ (1) .
الْمَوَاطِنُ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ وَالأَْحْكَامُ الْمَنُوطَةُ بِهَا:
17 - شَرَعَ الإِْسْلاَمُ أَنْوَاعًا مِنَ الرُّخَصِ لِظُرُوفٍ تُوجِدُ لِلْمُكَلَّفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تُثْقِل كَاهِلَهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَسْبَابَ التَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الأَْعْذَارِ وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لأَِصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَكُل مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ خَفَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَْعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ هِيَ: السَّفَرُ - الْمَرَضُ - الْحَمْل - الإِْرْضَاعُ - الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ -
__________
(1) الموافقات 2 / 155 - 156.(37/329)
الإِْكْرَاهُ - النِّسْيَانُ - الْجَهْل - الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى - النَّقْصُ.
أ - السَّفَرُ:
18 - السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ، وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَيُعْتَبَرُ السَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَمُصْطَلَحَاتِ: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ، وَصَوْمٌ، وَتَطَوُّعٌ، وَتَيَمُّمٌ) .
ب - الْمَرَضُ:
19 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الاِعْتِدَال وَالاِعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ (2) .
وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظِّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لأَِنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ.
وَلِلْمَرِيضِ رُخَصٌ كَثِيرَةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 32) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص / 77، كشف الأسرار 4 / 376، وتيسير التحرير 2 / 258 - 303.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 216.(37/330)
ج - الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ:
20 - لَقَدْ خَفَّفَ الشَّارِعُ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرَمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً (1) .
5 - جَوَازُ الْفِطْرِ لِلْحَامِل وَالْمُرْضِعِ فِي رَمَضَانَ
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِل وَالْمُرْضِعَ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ بِشَرْطِ أَنْ تَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ أَوِ الضَّرَرَ أَوِ الْهَلاَكَ وَالْمَشَقَّةَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِمَا كَالْمَرِيضِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَمْل مَرَضٌ حَقِيقَةً، وَالرَّضَاعُ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ وَلَيْسَ مَرَضًا حَقِيقَةً (2) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 375 - 376، والقوانين الفقهية ص 82، والمجموع 6 / 58، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، وكشاف القناع 2 / 309، والمغني والشرح الكبير 3 / 79.
(2) المغني والشرح الكبير 3 / 2، وجواهر الإكليل 1 / 153، وبدائع الصنائع 2 / 97، وكشاف القناع 2 / 313، وحاشية البجيرمي على الإقناع 2 / 346، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 68.(37/330)
هـ - الإِْكْرَاهُ:
22 - الإِْكْرَاهُ هُوَ حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لاَ يَرْضَاهُ، وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا يُطْلَبُ مِنْهُ.
وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الإِْكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُخَفَّفَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَتُخَفِّفُ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يُنْتَجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ بِحُدُودِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ ف 6 و 12) .
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُبَاحٌ بِالإِْكْرَاهِ بَل يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
و النِّسْيَانُ:
23 - النِّسْيَانُ هُوَ جَهْلٌ ضَرُورِيٌّ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ، لاَ بِآفَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ (3) .
وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفَّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4) فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، فَفِي
__________
(1) المبسوط للسرخسي 24 / 39، والمهذب 2 / 78، والأم 2 / 210، والمغني 8 / 261، كشف الأسرار 4 / 383.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 207.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 364، 365 ط كراتشي.
(4) سورة البقرة / 286.(37/331)
أَحْكَامِ الآْخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسُ وَيُرْفَعُ عَنْهُمُ الإِْثْمُ مُطْلَقًا (1) ، فَالنِّسْيَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ: مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَقُول الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفَّفًا، لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلاَ يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نِسْيَانٌ) .
ز - الْجَهْل:
24 - الْجَهْل هُوَ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.
وَيُعْتَبَرُ الْجَهْل عُذْرًا مُخَفَّفًا فِي أَحْكَامِ الآْخِرَةِ، فَلاَ إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَل الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جَهْلٌ ف 5)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 206.
(2) حديث: " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان ". أخرجه الحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 103، وتيسير التحرير 2 / 426.
(4) سورة الإسراء / 15.(37/331)
ح - الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:
25 - يَدْخُل فِي الْعُسْرِ الأَْعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 38) .
ط - النَّقْصُ:
26 - النَّقْصُ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ، إِذِ النَّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْكَمَال وَيُنَاسِبُ النَّقْصَ التَّخْفِيفُ فِي التَّكْلِيفَاتِ، فَمَنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَفُوِّضَ أَمْرُ أَحْوَالِهِمَا إِلَى الْوَلِيِّ وَتَرْبِيَتِهِ، وَحَضَانَتِهِ إِلَى النِّسَاءِ رَحْمَةً بِهِ وَلَمْ يُجْبِرُهُنَّ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الرِّجَال كَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْجِزْيَةِ وَتَحَمُّل الْعَقْل وَإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَبِيدِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الأَْحْرَارِ لِكَوْنِهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 81 - 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 80.(37/332)
مُشْكِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشْكِل لُغَةً: الْمُخْتَلِطُ وَالْمُلْتَبِسُ، يُقَال: أَشْكَل الأَْمْرُ: الْتَبَسَ وَاخْتَلَطَ، وَكُل مُخْتَلِطٍ مُشْكِلٌ، وَالإِْشْكَال: الأَْمْرُ الَّذِي يُوجِبُ الْتِبَاسًا فِي الْفَهْمِ، وَالشَّكْل: الْمِثْل (1) .
وَالْمُشْكِل عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: اسْمٌ لِمَا يُشْتَبَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي أَشْكَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُعْرَفُ الْمُرَادُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَْشْكَال (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُتَشَابِهُ:
2 - الْمُتَشَابِهُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ اشْتَبَهَتِ الأُْمُورُ وَتَشَابَهَتْ: إِذَا الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلاَ يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلاً كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُشْكِل
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 81 - 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 80.
(2) كشف الأسرار لعلاء الدين البخاري 1 / 52 ط. دار الكتاب العربي.
(3) المصباح المنير.
(4) التعريفات للجرجاني، وانظر كشف الأسرار 1 / 55.(37/332)
وَالْمُتَشَابِهِ يَخْفَى مَعْنَاهُ ابْتِدَاءً.
ب - الْمُجْمَل:
3 - الْمُجْمَل هُوَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يُدْرَكُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنَ الْمُجْمَل، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِتَزَاحُمِ الْمَعَانِي الْمُتَسَاوِيَةِ، أَوْ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ، أَوْ لاِنْتِقَالِهِ مِنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُشْكِل وَالْمُجْمَل أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعُ خَفَاءٍ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - حُكْمُ الْمُشْكِل بِمَعْنَاهُ الأُْصُولِيِّ: اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِيمَا هُوَ الْمُرَادُ ثُمَّ الإِْقْبَال عَلَى الطَّلَبِ وَالتَّعَامُل فِيهِ إِلَى أَنْ يُبَيَّنَ الْمُرَادُ فَيُعْمَل بِهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) أصول السرخسي 1 / 168.(37/333)
مَشْهُورٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْل شَهَرَ، وَمِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْمَادَّةِ: الإِْبْرَازُ: يُقَال شَهَرْتُ الرَّجُل بَيْنَ النَّاسِ: أَبَرَزْتُهُ حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الإِْفْشَاءُ، يُقَال: شَهَرْتُ الْحَدِيثَ شَهْرًا وَشُهْرَةً: أَفْشَيْتُهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ مَا كَانَ رُوَاتُهُ بَعْدَ الْقَرْنِ الأَْوَّل فِي كُل عَهْدٍ قَوْمًا لاَ يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْمُحَدِّثِينَ: هُوَ مَا لَمْ يَجْمَعُ شُرُوطَ الْمُتَوَاتِرِ وَلَهُ طُرُقٌ مَحْصُورَةٌ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ (3) .
أَمَّا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَشَهْرُهُمَا: مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، فَالدَّلِيل هُوَ الْمُرَاعَى عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ لاَ كَثْرَةُ الْقَائِل.
__________
(1) المصباح المنير مادة: شهر.
(2) التوضيح بهامش التلويح 2 / 2.
(3) اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر للمناوي 1 / 147.(37/333)
وَقِيل: إِنَّ الْمَشْهُورَ هُوَ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ وَلاَ بُدَّ أَنْ تَزِيدَ نَقَلْتُهُ عَلَى ثَلاَثَةٍ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا كَانَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الأَْقْوَال لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمُشْعِرُ بِغَرَابَةِ مُقَابِلِهِ لِضَعْفِ مُدْرِكِهِ قَال الْفَيُّومِيُّ: وَمَدَارِكُ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ طَلَبِ الأَْحْكَامِ وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَل بِالنُّصُوصِ وَالاِجْتِهَادِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمُتَوَاتِرُ
2 - التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ التَّتَابُعُ أَوْ مَعَ فَتَرَاتٍ (3) ، وَالْمُتَوَاتِرُ هُوَ اسْمُ الْفَاعِل.
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَل الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ (4) ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى.
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
ب - خَبَرُ الآْحَادِ
3 - هُوَ مَا لَمْ يَجْمَعْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ (5) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالآْحَادِ أَنَّ خَبَرَ الآْحَادِ أَعَمُّ مِنَ الْمَشْهُورِ.
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 83.
(2) مغني المحتاج 1 / 12، والمصباح المنير.
(3) القاموس المحيط.
(4) إرشاد الفحول ص 46.
(5) شرح نخبة الفكر 1 / 169، وحاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 129.(37/334)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - دِلاَلَةُ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
4 - قَال صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَحْبُوبِيُّ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَهُوَ عِلْمٌ تَطْمَئِنُّ بَهِ النَّفْسُ وَتَظُنُّهُ يَقِينًا (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: الْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
5 - قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ إِلاَّ بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْل الْمَحْكُومِ بِهِ إِمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، كَمَا يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الْفُتْيَا فَحَرَامٌ إِجْمَاعًا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلاَ لِلْعَامِل الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَل بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نَظَرٍ بَل عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ الْعَمَل بِآخِرِهِمَا إِنْ عَلِمَهُ وَإِلاَّ فَبِالَّذِي رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنْ قَالَهُمَا فِي حَالَةٍ وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعْلَمْ أَقَالَهُمَا فِي وَقْتٍ أَمْ فِي وَقْتَيْنِ، وَجَهِلْنَا السَّابِقَ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا فَيُعْمَل بِهِ (3) .
__________
(1) التوضيح بهامش التلويح 2 / 3 ط. صبيح.
(2) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والأمام للقرافي ص 20، 21.
(3) المجموع 1 / 68، ونهاية المحتاج 1 / 42.(37/334)
مَشُورَةٌ
انْظُرْ: شُورَى(37/335)
مَشْيٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشْيُ لُغَةً السَّيْرُ عَلَى الْقَدَمِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَرِيعٍ، يُقَال: مَشَى يَمْشِي مَشْيًا: إِذَا كَانَ عَلَى رِجْلَيْهِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ بَطِيئًا، فَهُوَ مَاشٍ، وَالْجَمْعُ مُشَاةٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ:
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّعْيُ:
2 - مِنْ مَعَانِي السَّعْيِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ (2) .
وَالسَّعْيُ فِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَمِنْهَا: الإِْسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: السَّعْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الْمَشْيَ أَعَمُّ مِنَ
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير، والمغرب.
(3) المفردات في غريب القرآن.(37/335)
السَّعْيِ (1) .
ب - الرَّمَل
3 - الرَّمَل - بِفَتْحِ الْمِيمِ - فِي اللُّغَةِ الْهَرْوَلَةُ (2) ، قَال صَاحِبُ النِّهَايَةِ: رَمَل يَرْمُل رَمَلاً وَرَمَلاَنًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ وَهَزَّ مَنْكِبَيْهِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَال: الرَّمَل - بِفَتْحِ الرَّاءِ - هُوَ إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الرَّمَل أَخَصُّ مِنَ الْمَشْيِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشْيِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَشْيِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
إِمْكَانِيَّةُ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِي الْخُفِّ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ:
4 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مِمَّا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ (5) .
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 2 / 214.
(2) المصباح المنير.
(3) النهاية لابن الأثير 2 / 265 ولسان العرب.
(4) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 127 - 128.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 32 والقوانين الفقهية ص 43، وشرح المحلي 1 / 59، والمغني لابن قدامة 1 / 294.(37/336)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
الْمَشْيُ فِي الصَّلاَةِ
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا مَشَى فِي صَلاَتِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَشْيًا غَيْرَ مُتَدَارَكٍ
بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ، ثُمَّ وَقَفَ قَدْرَ رُكْنٍ، ثُمَّ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ مَشَى قَدْرَ صُفُوفٍ كَثِيرَةٍ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، إِلاَّ إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلاَةُ فِيهِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلاَةُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ مَشَى مَشْيًا مُتَلاَحِقًا بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفَّيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْل الْقَلِيل غَيْرُ مُفْسِدٍ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ مُتَوَالِيًا، وَعَلَى أَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي الْمَكَانِ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لإِِصْلاَحِهَا، وَالْمَسْجِدُ مَكَانٌ وَاحِدٌ حُكْمًا، وَمَوْضِعُ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْمَسْجِدِ، هَذَا إِذَا كَانَ قُدَّامَهُ صُفُوفٌ.
أَمَّا لَوْ كَانَ إِمَامًا فَمَشَى حَتَّى جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ لاَ تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْمُعْتَبَرُ مَوْضِعُ سُجُودِهِ، إِنْ جَاوَزَهُ فَسَدَتْ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَهَذَا التَّفْصِيل كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَاشِي فِي
__________
(1) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص 450 وانظر الفتاوى الهندية 1 / 103 وحاشية ابن عابدين 1 / 421.(37/336)
الصَّلاَةِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، بِأَنْ مَشَى قُدَّامَهُ أَوْ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا أَوْ إِلَى وَرَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ أَوِ اسْتِدْبَارٍ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فَقَدْ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ سَوَاءٌ مَشَى قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا أَوْ لَمْ يَمْشِ، لأَِنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ لِغَيْرِ إِصْلاَحِ الصَّلاَةِ وَحْدَهُ مُفْسِدٌ (1) .
وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي رَجُلٍ رَأَى فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَمَشَى إِلَى تِلْكَ الْفُرْجَةِ فَسَدَّهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَلَوْ مَشَى إِلَى صَفٍّ غَيْرِ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَسَدَّ فُرْجَةً فِيهِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِمَشْيِ الْمُصَلِّي صَفَّيْنِ لِسُتْرَةٍ يَقْرُبُ إِلَيْهَا، أَوْ دَفْعِ مَارٍّ أَوْ لِذَهَابِ دَابَّةٍ أَوْ لَسَدِّ فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَشْيُ بِجَنْبٍ أَوْ قَهْقَرَى: بِأَنْ يَرْجِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، بِشَرْطِ أَلاَ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، فِيمَا عَدَا مَسْأَلَةَ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ إِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ مُتَوَسِّطَتَيْنِ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ تَوَالَتْ لاَ إِنْ تَفَرَّقَتْ، أَمَا الْمَشْيُ خُطْوَتَيْنِ فَلاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ، كَمَا تَبْطُل بِالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ مُطْلَقًا.
__________
(1) غنية المتملي ص 451، وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 421.
(2) غنية المتملي ص 450 - 451.
(3) الشرح الصغير 1 / 354.(37/337)
وَاخْتَلَفُوا فِي مُسَمَّى الْخُطْوَةِ هَل هُوَ نَقُل رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ أَوْ نَقْل الرِّجْل الأُْخْرَى إِلَى مُحَاذَاتِهَا، قَال ابْنُ أَبِي الشَّرِيفِ: كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ (1) .
وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِحَّةُ صَلاَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ إِمَامِهِ جَائِزٌ، كَمَا إِذَا كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الإِْمَامِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ وَرَاءَ الإِْمَامِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الصَّلاَةِ فَمَشَى الْمَأْمُومُ حَتَّى وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ، أَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا فَكَبَّرَ آخَرُ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ أَدَارَهُ الإِْمَامُ عَنْ يَمِينِهِ.
وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْيَ الْكَثِيرَ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفٍ أَوْ هَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
التَّنَفُّل مَاشِيًا
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّل مَاشِيًا وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ التَّنَفُّل مَاشِيًا، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ سَائِرَةً إِلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيل، وَكَذَا الْقَصِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 190، ومغني المحتاج 1 / 199.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 223 - 224، المغني 2 / 215 - 216، وكشاف القناع 1 / 397 - 398.(37/337)
يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ عَلَى الصَّحِيحِ بَل لَهَا فِيهِ حُكْمُ الْفَرِيضَةِ فِي كُل شَيْءٍ إِلاَّ الْقِيَامَ، وَقَال الإِْصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّاكِبِ وَالْمَاشِي فِي الْحَضَرِ مُتَرَدِّدًا فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، وَاخْتَارَ الْقَفَّال الْجَوَازَ بِشَرْطِ الاِسْتِقْبَال فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِ الاِسْتِقْبَال لِمُتَنَفِّلٍ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي سَفَرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2) ، قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ، وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ (3) ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَوِيل السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَأَلْحَقَ الْمَاشِي بِالرَّاكِبِ لأَِنَّ الصَّلاَةَ أُبِيحَتْ لِلرَّاكِبِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ عَنِ الْقَافِلَةِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي (4) .
وَلاَ تَجُوزُ صَلاَةُ الْمَاشِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (5) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 210.
(2) سورة البقرة / 115.
(3) حديث ابن عمر: " كان يصلي في السفر على ظهر راحلته. . . "
(4) كشاف القناع 1 / 302.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 469، والشرح الصغير 1 / 298 - 299.(37/338)
آدَابُ الْمَشْيِ إِلَى صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ يَمْشِيَ إِلَى الصَّلاَةِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَإِنْ سَمِعَ الإِْقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا، سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَمْ لاَ (1) ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ ائْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الإِْسْرَاعُ لإِِدْرَاكِ الصَّلاَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِلاَ هَرْوَلَةٍ وَهِيَ مَا دُونَ الْجَرْيِ، وَتُكْرَهُ الْهَرْوَلَةُ لأَِنَّهَا تُذْهِبُ الْخُشُوعَ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَجِبُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ ف 22) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِقَاصِدِ الْجُمُعَةِ
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ (4) لِخَبَرِ:
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان يصلي في السفر على ظهر راحلته. . . ". رواه البخاري (الفتح 2 / 574) .
(2) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون. . . ". رواه البخاري (الفتح 2 / 390) ، ومسلم (1 / 420) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(3) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 445.
(4) غنية المتملي ص566، وحاشية الدسوقي 1 / 381، ونهاية المحتاج 2 / 325، وروضة الطالبين 2 / 45، كشاف القناع 2 / 42.(37/338)
00 مَنْ غَسَّل يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَل، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِْمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُل خُطْوَةٍ عَمَل سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا (1) ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، لأَِنَّهُ عَبْدٌ ذَاهِبٌ لِمَوْلاَهُ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ التَّوَاضُعَ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلاَ بَأْسَ بِرُكُوبِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، لَكِنَّ الإِْيَابَ لاَ بَأْسَ بِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُنْدَبُ الْمَشْيُ فِي الرُّجُوعِ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْقَضَتْ (4) .
وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ سَيَّرَ دَابَّتَهُ بِسُكُونٍ كَالْمَاشِي مَا لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَيُشْبِهُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفَضْل لِمَنْ يُجْهِدُهُ الْمَشْيُ لِهَرَمٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ بُعْدِ مَنْزِلِهِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ مَا يَنَالُهُ مِنَ التَّعَبِ الْخُشُوعَ وَالْخُضُوعَ فِي الصَّلاَةِ عَاجِلاً (5) .
اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ
9 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ
__________
(1) حديث: " من غسل يوم الجمعة واغتسل. . . ". رواه أبو داود (1 / 246) ، والترمذي (2 / 368) من حديث أوس بن أوس الثقفي واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(2) حاشية الدسوقي 1 / 381.
(3) كشاف القناع 2 / 42.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 381.
(5) نهاية المحتاج 2 / 326.(37/339)
الْجُمُعَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلاَ عَلَى الْمُقْعَدِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَلاَ عَلَى الأَْعْمَى وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَقَالُوا: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ مُلْحَقٌ بِالْمَرِيضِ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْمَطَرُ الشَّدِيدُ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَلَمْ يَنُصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، قَال ابْنُ شَاسٍ: وَيَلْتَحِقُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا (2) . وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَرَضَ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَتَضَرَّرِ الْمَرِيضُ بِإِتْيَانِ الْمَسْجِدِ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولاً، أَوْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِأَنْ يُرْكِبَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ، أَوْ يَتَبَرَّعَ بِقَوْدِ أَعْمًى لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الأَْعْمَى إِذَا وَجَدَ قَائِدًا وَلَوْ بِأُجْرَةٍ وَلَهُ مَالٌ وَإِلاَّ فَقَدْ أَطْلَقَ الأَْكْثَرُونَ مِنْهُمْ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَ الأَْعْمَى يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ لَزِمَهُ (4) .
وَفِي الْوَحْل الشَّدِيدِ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ. وَالْجَمَاعَةِ (5) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 144.
(2) عقد الجواهر الثمينة 1 / 232.
(3) روضة الطالبين 2 / 34، 36، وكشاف القناع 1 / 495.
(4) روضة الطالبين 2 / 36.
(5) روضة الطالبين 2 / 35.(37/339)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا مَطَرٌ يَبُل الثِّيَابَ، أَوْ وَحْلٌ يَشُقُّ الْمَشْيُ إِلَيْهَا فِيهِ (1)
الْمَشْيُ لِقَاصِدِ صَلاَةِ الْعِيدِ
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْعِيدِ الْمَشْيُ إِنْ قَدَرَ، لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا (2) ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ، فَإِنْ ضَعُفَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَهُ الرُّكُوبُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 13)
الْمَشْيُ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ مَاشِيًا، وَالْمَشْيُ أَفَضْل مِنَ الرُّكُوبِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 14) .
الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْنِ (4)
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: يُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ وَالْمَشْيُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 340.
(2) أثر علي بن أبي طالب: " من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا. . . ". رواه الترمذي (2 / 410) ، وقال: حديث حسن.
(3) غنية المتملي 566، وحاشية الزرقاني 2 / 75، وروضة الطالبين 2 / 56، ومطالب أولي النهى 1 / 797.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 167.(37/340)
فِي طَرِيقٍ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ حَتَّى إِذَا لَمْ يَصِل إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ إِلاَّ بِوَطْءِ قَبْرٍ تَرَكَهُ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى:
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُوطَأُ الْقَبْرُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ الْقَبْرَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو لَهُمْ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَبْرَ مُحَرَّمٌ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسَنَّمًا وَالطَّرِيقُ دُونَهُ، فَأَمَّا إِذَا عَفَا فَوَاسِعٌ (2) .
وَقَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْمَشْيِ بِالنَّعْل بَيْنَ الْقُبُورِ (3) ، وَقَالُوا: الْقَبْرُ مُحَرَّمٌ تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ فَيُكْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَالاِتِّكَاءُ وَوَطْؤُهُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ بِأَنْ لاَ يَصِل إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إِلاَّ بِوَطْئِهِ (4) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ ذَلِكَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: لأََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْقُبُورِ وَالْمَشْيِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 606، والفتاوى الهندية 1 / 166.
(2) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس 1 / 272.
(3) روضة الطالبين 2 / 136.
(4) مغني المحتاج 1 / 354.
(5) حديث: " لأن يجلس أحدكم على جمرة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 667) من حديث أبي هريرة.(37/340)
بَيْنَهَا بِنَعْلٍ لِخَبَرِ حَتَّى بِالتُّمُشْكِ - نَوْعٌ مِنَ النِّعَال - وَقَالُوا: لاَ يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَهَا بِخُفٍّ لِمَشَقَّةِ نَزْعِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ، وَيُسَنُّ خَلْعُ النَّعْل إِذَا دَخَل الْمَقْبَرَةَ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَال: بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلاَنِ فَقَال: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، وَيْحَكَ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ فَنَظَرَ الرَّجُل فَلَمَّا عَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا (1) ، وَاحْتِرَامًا لأَِمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ خَوْفَ نَجَاسَةٍ وَشَوْكٍ وَحَرَارَةِ أَرْضٍ وَبُرُودَتِهَا فَلاَ يُكْرَهُ - الْمَشْيُ بِنَعْلٍ بَيْنَ الْقُبُورِ - لِلْعُذْرِ (2) .
الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ مُطْلَقًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ الْوَاجِبَيْنِ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ غَيْرُ الْوَاجِبَيْنِ فَالْمَشْيُ فِيهِمَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
__________
(1) حديث: بشير بن الخصاصية: " بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 555) ، والحاكم (1 / 373) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 911.(37/341)
أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 25، سَعْيٌ ف 14) -
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَال - وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا - عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا، وَقَالُوا: مَذْهَبُنَا مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلأَِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إِيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَال: عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ كَالرُّكْنِ وَالْحَجَرِ وَالْحَطِيمِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِنْ نَوَى نُسُكًا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ النُّسُكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مَشَى مِنْ حَيْثُ نَوَى الْمَشْيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَحِلًّا مَخْصُوصًا فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ وَأَجْزَأَ الْمَشْيُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْمَسَافَةِ، وَيَسْتَمِرُّ مَاشِيًا لِتَمَامِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ أَوْ تَمَامِ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعْيُهُ بَعْدَ الإِْفَاضَةِ، وَلَزِمَ الرُّجُوعُ فِي عَامٍ قَابِلٍ لِمَنْ رَكِبَ فِي الْعَامِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ الْمَشْيَ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ فِيهِ إِنْ عَلِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَجِبُ مَشْيُ جَمِيعِ
__________
(1) الهداية 2 / 90 ط. الحلبي.(37/341)
الْمَسَافَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى نَاوِيًا الْكَعْبَةَ أَوْ إِتْيَانَهُ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِتْيَانِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يَجِبُ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْكَعْبَةَ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَقِيل: يُحْمَل عَلَيْهَا.
فَإِنْ نَذَرَ الإِْتْيَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَشْيٌ وَلَهُ الرُّكُوبُ.
وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ أَوْ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَالأَْظْهَرُ وُجُوبُ الْمَشْيِ، وَالثَّانِي: لَهُ الرُّكُوبُ وَإِنْ قَال: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي الأَْصَحِّ، وَالثَّانِي: يَمْشِي مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ.
وَإِذَا وَجَبَ الْمَشْيُ فَرَكِبَ لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي الأَْظْهَرِ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَالثَّانِي: لاَ دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَائِمًا فَصَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَكِبَ بِلاَ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لأَِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ هَيْئَةً الْتَزَمَهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرَفُّهِهِ بِتَرْكِهَا، وَالثَّانِي: لاَ يُجْزِئُهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا الْتَزَمَهُ بِالصِّفَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يَقُل فِي حَجٍّ وَلاَ
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 2 / 255 - 257.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 292.(37/342)
عُمْرَةٍ وَلاَ غَيْرِهِ أَوْ قَال غَيْرَ حَاجٍّ وَلاَ مُعْتَمِرٍ لَزِمَهُ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ فِي عُمْرَةٍ حَمْلاً لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ وَإِلْغَاءً لإِِرَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانِ النَّذْرِ أَيْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَمَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ إِلَى أَنْ يَتَحَلَّل، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِحْرَامٌ قَبْل مِيقَاتِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَكَانًا بِعَيْنِهِ لِلْمَشْيِ مِنْهُ أَوِ الإِْحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (1) ، وَمَنْ نَوَى بِنَذْرِهِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِتْيَانَهُ لاَ حَقِيقَةَ الْمَشْيِ فَيَلْزَمُهُ الإِْتْيَانُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِحُصُولِهِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
وَإِنْ رَكِبَ نَاذِرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى أَحَدِ الْمَشَاعِرِ، وَنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَحَدِ الْمَسَاجِدِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نَذْرٌ) .
الْوَاجِبُ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ كَمَال الدِّيَةِ، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَل مَشْيُهُ وَرِجْلُهُ سَلِيمَةٌ وَجَبَتِ الدِّيَةُ (3) ،
__________
(1) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه. . . ". رواه البخاري (الفتح 11 / 581) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 479 - 480.
(3) بدائع الصنائع 7 / 311، وروضة الطالبين 9 / 306 - 309، والمغني 8 / 32.(37/342)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَلاَ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ حَتَّى تَنْدَمِل فَإِنِ انْجَبَرَ وَعَادَ مَشْيُهُ فَلاَ دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ مَشْيُهُ بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى عَصًا، أَوْ صَارَ يَمْشِي مُحْدَوْدِبًا، وَلَوْ كُسِرَ صُلْبُهُ وَشُلَّتْ رِجْلُهُ قَال الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ دِيَةٌ لِفَوَاتِ الْمَشْيِ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الظَّهْرِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَتِ الرِّجْل سَلِيمَةً لاَ يَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ مَنْفَعَةٌ فِي الرِّجْل فَإِذَا شُلَّتِ الرِّجْل فَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ لِشَلَل الرِّجْل فَأُفْرِدَ كَسْرُ الصُّلْبِ بِحُكُومَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَفَوَاتُ الْمَشْيِ لِخَلَل الصُّلْبِ فَلاَ يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْكَسْرِ لاَ يُوجِبُ الدِّيَةَ وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِذَا فَاتَ بِهِ الْمَشْيُ.
وَلَوْ أَذْهَبَ كَسْرُ الصُّلْبِ مَشْيَهُ وَمَنِيَّهُ، أَوْ مَنِيَّهُ وَجِمَاعَهُ وَجَبَتْ دِيَتَانِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقِيل: دِيَةٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ دِيَةَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ تَجِبُ حَتَّى لَوِ انْجَبَرَ كَسْرُ الصُّلْبِ (2) .
الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ يَسِيرًا سَوَاءٌ كَانَ فِي إِصْلاَحِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 305 - 306.
(2) كشاف القناع 6 / 48.(37/343)
الأُْخْرَى أَوْ لاَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ (1) ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَمْشِي فِي الأُْخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا (2) ، وَقَال أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَشْيَهُ يَخْتَل بِذَلِكَ (3) .
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنَّ النَّعْل شُرِعَتْ لِوَقَايَةِ الرِّجْل عَمَّا يَكُونُ فِي الأَْرْضِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ احْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لإِِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لاَ يَتَوَقَّى لِلأُْخْرَى فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ سَجِيَّةِ مَشْيِهِ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَمْشِي أَحَدٌ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ يَقِفُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْخَفِيفُ، فِي حَال كَوْنِهِ مُتَشَاغِلاً بِإِصْلاَحِ الأُْخْرَى، وَلْيَلْبَسْهُمَا جَمِيعًا أَوْ فَلْيَنْزِعْهُمَا جَمِيعًا (5) .
__________
(1) حديث: " لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 309) ، ومسلم (3 / 1660) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها ". رواه مسلم (3 / 1660) من حديث أبي هريرة.
(3) المجموع 4 / 466، وأسنى المطالب 1 / 278، وكشاف القناع 1 / 284.
(4) فتح الباري 10 / 309 - 310 ط. السلفية.
(5) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 3 / 527، والتفريع لابن الجلاب 2 / 353.(37/343)
تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
17 - يُسَنُّ تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: سَلاَمٌ ف 23) .
آدَابُ الْمَشْيِ مَعَ النَّاسِ
18 - قَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ مَشَى مَعَ إِنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ.
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ مُقْتَضَى كَلاَمِ ابْنِ عَقِيلٍ:
اسْتِحْبَابُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ وَإِنْ مَشَوْا عَنْ جَانِبَيْهِ فَلاَ بَأْسَ كَالإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَفِي مُسْلِمٍ قَوْل يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشْيا عَلَى جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ، قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ فَاضِلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ (2) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: وَلِلشَّابِّ الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الشَّيْخِ الْجَاهِل، لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث: " يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد والقليل على الكثير ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 15) ، ومسلم (4 / 1703) من حديث أبي هريرة.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 266 - 267.(37/344)
أَفْضَل مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلاَةِ وَهِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ وَهِيَ تَالِيَةُ الإِْيمَانِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوَاهُ بِحُرْمَةِ تَقَدُّمِ الْجَاهِل عَلَى الْعَالِمِ حَيْثُ يَشْعُرُ بِنُزُول دَرَجَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1)
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَالْمُتَقَدِّمُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَيُعَزَّرُ (2) .
__________
(1) سورة المجادلة / 11.
(2) ابن عابدين 5 / 481.(37/344)
مَشِيئَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشِيئَةُ فِي اللُّغَةِ الإِْرَادَةُ يُقَال شَاءَ زَيْدٌ الأَْمْرَ يَشَاؤُهُ شَيْئًا: أَرَادَهُ، وَالْمُشِيئَةُ اسْمٌ مِنْهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْمُشِيئَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُشِيئَةِ:
أَوَّلاً: تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ بِالْمَشِيئَةِ:
أ - تَعْلِيقُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوِ الْمَلاَئِكَةِ أَوِ الْجِنِّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ الْمُعَلَّقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَلَى مَشِيئَةِ مَنْ لاَ يُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَالْجِنِّ لاَ يَقَعُ، كَمَا لَوْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذَا الطَّلاَقُ لاَ يَقَعُ، لأَِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيقُ كَالتَّعْلِيقِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ فَيَكُونُ نَفْيًا لِلطَّلاَقِ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 513 - 514، والاختيار 3 / 142، ومغني المحتاج 3 / 302، 325 ط. مصطفى الحلبي، والمغني لابن قدامة 7 / 216، وروضة الطالبين 8 / 96.(37/345)
فَقَال إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (1) وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ بِقَصْدِ التَّعْلِيقِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا لَوْ سَبَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشِيئَةِ إِلَى لِسَانِهِ لِتَعَوُّدِهِ لَهَا كَمَا هُوَ الأَْدَبُ، أَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الإِْشَارَةَ إِلَى أَنَّ الأُْمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَقْصِدْ تَعْلِيقًا مُحَقَّقًا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلاَقُ، لِمَا رَوَى أَبُو حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُول: " إِذَا قَال الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ طَالِقٌ " (3) .
وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: كُنَّا مَعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى الاِسْتِثْنَاءَ جَائِزًا فِي كُل شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْعِتَاقِ وَالطَّلاَقِ (4) ، وَلأَِنَّهُ اسْتِثْنَاءُ حُكْمٍ فِي مَحِلٍّ فَلَمْ
__________
(1) حديث: " من حلف على يمين. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 108) ، والنسائي (7 / 25) واللفظ للترمذي، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(2) روضة الطالبين 8 / 96، ومغني المحتاج 3 / 302، وكفاية الأخيار 2 / 56، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان.
(3) أثر ابن عباس: " إذا قال الرجل لامرأته. . . ". أورده ابن قدامة في المغني (7 / 216) وعزاه إلى أبي حفص ولم نهتد إلى من أخرجه.
(4) أثر عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري: " كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أورده ابن قدامة في المغني (7 / 216) وعزاه لابن الخطاب ولم نهتد إلى من أخرجه.(37/345)
يَرْتَفِعْ بِالْمَشِيئَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا لَوْ قَال: أَبْرَأْتُكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ تَعْلِيقًا عَلَى مَا لاَ سَبِيل إِلَى عِلْمِهِ فَأَشْبَهَ تَعْلِيقَهُ عَلَى الْمُسْتَحِيلاَتِ (1) .
وَقَال الصَّاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هَذَا، لَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ عَلَى الْمُعَلَّقِ، أَمَا لَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ أَيْ مَشِيئَةَ اللَّهِ أَوِ الْمَلاَئِكَةِ أَوِ الْجِنِّ لِمُعَلَّقٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَصَرَفَ الْمَشِيئَةَ لِلدُّخُول أَيْ إِنْ دَخَلْتِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَيُنَجَّزُ عَلَيْهِ إِنْ وُجِدَ الدُّخُول عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ: لاَ يُنَجَّزُ وَلَوْ حَصَل الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ صَرَفَهَا لِلْمُعَلَّقِ وَهُوَ الطَّلاَقُ أَوْ لَهُمَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيُنَجَّزُ إِنْ وُجِدَ الدُّخُول اتِّفَاقًا (2) .
ب - تَعْلِيقُهُ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِمَشِيئَةِ زَوْجَتِهِ بِأَنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ كُلَّمَا شِئْتِ أَوْ كَيْفَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَنَّى شِئْتِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَشَاءَ وَتَنْطِقُ بِالْمُشِيئَةِ بِلِسَانِهَا فَتَقُول: قَدْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 392، والشرح الصغير 2 / 581، والمغني لابن قدامة 7 / 216.
(2) الشرح الصغير 2 / 581.(37/346)
شِئْتُ، لأَِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لاَ يُعْلَمُ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ اللِّسَانُ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ دُونَ مَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ شَاءَتْ بِقَلْبِهَا دُونَ نُطْقِهَا لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْتُ بِلِسَانِهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ لَوَقَعَ الطَّلاَقُ اعْتِبَارًا بِالنُّطْقِ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لأَِنَّهُ أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى مَشِيئَتِهَا فَأَشْبَهَ بِهِ مَا لَوْ قَال حَيْثُ شِئْتِ، وَلأَِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ صَرِيحَةٌ فِي التَّرَاخِي فَحُمِلَتْ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَلأَِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلطَّلاَقِ عَلَى شَرْطٍ فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَسَائِرِ التَّعْلِيقِ، وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ مُعَلَّقٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَكَانَ عَلَى التَّرَاضِي كَالْعِتْقِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ مُخَاطَبَةً: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ اشْتَرَطَ مَشِيئَتَهَا فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ فَإِنْ تَأَخَّرَتْ لَمْ تَقَعْ، لأَِنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ لِلطَّلاَقِ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَقَوْلِهِ اخْتَارِي، وَهَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِغَيْرِ نَحْوِ مَتَى وَأَيَّ وَقْتٍ أَمَّا فِيهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ فَإِنْ قَال مَتَى شِئْتِ طَلُقَتْ مَتَى شَاءَتْ وَإِنْ فَارَقَتِ الْمَجْلِسَ.
وَلَوْ قَال لأَِجْنَبِيٍّ: إِنْ شِئْتَ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَشِيئَتُهُ عَلَى الْفَوْرِ،
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 437، الهداية 2 / 271 - 272، ومواهب الجليل 4 / 96 - 97، وروضة الطالبين 8 / 157، وكشاف القناع 5 / 309، ومطالب أولي النهى 5 / 436.(37/346)
وَقِيل: كَالزَّوْجَةِ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَلَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا لاَ مُخَاطَبَةً، فَقَال: زَوْجَتِي طَالِقٌ إِنْ شَاءَتْ لَمْ تُشْتَرَطِ الْمَشِيئَةُ، عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ قَوْلُهَا: شِئْتِ فِي الْحَال إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَتُبَادِرُ بِهَا إِذَا بَلَغَهَا الْخَبَرُ، وَلَوْ قَال: امْرَأَتِي طَالِقٌ إِذَا شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَوْ قَال: إِنْ شِئْتِ وَشَاءَ فُلاَنٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ اشْتُرِطَ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ (1) .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ لاَ يَتَعَلَّقُ أَصْل الطَّلاَقِ بِمَشِيئَتِهَا بَل تَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً وَلاَ مَشِيئَةَ لَهَا إِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا، وَإِنْ دَخَل بِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ذَلِكَ شَاءَتْ أَوْ لاَ، ثُمَّ إِنْ قَالَتْ شِئْتُ بَائِنَةً أَوْ ثَلاَثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ تَصِيرُ كَذَلِكَ لِلْمُطَابَقَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا بِأَنْ شَاءَتْ بَائِنَةً وَالزَّوْجُ ثَلاَثًا أَوِ الْعَكْسُ فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ لأَِنَّهُ لَغَتْ مَشِيئَتُهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إِيقَاعُ الزَّوْجِ بِالصَّرِيحِ وَهُوَ رَجْعِيٌّ، وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ شَيْئًا فَالْقَوْل كَمَا شَاءَتْ هِيَ (2) .
4 - وَإِذَا قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنَّ شِئْتِ، فَقَالَتْ: شِئْتُ إِنْ شِئْتَ فَقَال الزَّوْجُ شِئْتُهُ يَنْوِي الطَّلاَقَ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 157، ومغني المحتاج 3 / 324 - 325، والحاوي الكبير 12 / 421.
(2) العناية بهامش فتح القدير 3 / 437، والهداية 2 / 271 - 272.(37/347)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال أَيْضًا إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ إِنْ شَاءَ فُلاَنٌ أَنَّهَا قَدْ رَدَّتِ الأَْمْرَ، وَلاَ يَلْزَمُهَا الطَّلاَقُ وَإِنْ شَاءَ فُلاَنٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مِنْهَا وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهَا تَعْلِيقُ مَشِيئَتِهَا بِشَرْطٍ، وَلأَِنَّهُ عَلَّقَ طَلاَقَهَا بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ أَنْتِ بِالْمُعَلَّقَةِ فَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لاَ يَعْنِيهَا، فَخَرَجَ الأَْمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِقَوْلِهِ شِئْتُ وَإِنْ نَوَى الطَّلاَقَ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْمَرْأَةِ ذِكْرُ الطَّلاَقِ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ شَائِيًا طَلاَقَهَا، وَالنِّيَّةُ لاَ تَعْمَل فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ حَتَّى لَوْ قَال: شِئْتُ طَلاَقَكِ يَقَعُ إِذَا نَوَى لأَِنَّهُ إِيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ إِذِ الْمَشِيئَةُ تُنْبِئُ عَنِ الْوُجُودِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَقَعُ الطَّلاَقُ لِحُصُول مَشِيئَتِهَا بِمَشِيئَةِ الزَّوْجِ (1) .
5 - وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلاَّ أَنْ تَشَائِي ثَلاَثًا فَلَمْ تَشَأْ أَوْ شَاءَتْ أَقَل مِنْ ثَلاَثٍ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ قَالَتْ قَدْ شِئْتُ ثَلاَثًا، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ تَطْلُقُ إِذَا شَاءَتْ ثَلاَثًا،
__________
(1) فتح القدير 3 / 433 - 435 ط. دار إحياء التراث العربي، والهداية 2 / 271، ومغني المحتاج 3 / 324 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص23 ط. دار الكتاب العربي، والمغني 3 / 214، روضة الطالبين 8 / 157.(37/347)
لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ الإِْثْبَاتِ نَفْيٌ فَتَقْدِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلاَّ أَنْ تَشَائِي ثَلاَثًا فَلاَ تَطْلُقِي، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُل ثَلاَثًا لَمَا طَلُقَتْ بِمَشِيئَتِهَا ثَلاَثًا، فَكَذَلِكَ إِذَا قَال ثَلاَثًا لأَِنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الثَّلاَثَ صِفَةً لَمُشِيئَتِهَا الرَّافِعَةِ لِطَلاَقِ الْوَاحِدَةِ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِلاَّ أَنْ تُكَرِّرِي بِمَشِيئَتِكِ ثَلاَثًا، وَقَال أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: تَطْلُقُ ثَلاَثًا.
وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ أَنْ تَشَائِي وَاحِدَةً فَقَالَتْ: قَدْ شِئْتُ وَاحِدَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَطْلُقُ شَيْئًا (1) .
وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ لِمَشِيئَةِ فُلاَنٍ أَوْ لِرِضَاهُ أَوْ لَهُ طَلُقَتْ فِي الْحَال، لأَِنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ لِكَوْنِهِ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ أَوْ رَضِيَهُ أَوْ لِيَرْضَى بِهِ (2) .
ثَانِيًا - تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِالْمَشِيئَةِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِمَشِيئَةِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا أَوْ مُشِيئَةِ غَيْرِهَا كَزَيْدٍ، وَقَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ فُلاَنٌ، أَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شِئْتِ أَوْ إِذَا شِئْتِ أَوْ
__________
(1) الحاوي الكبير 12 / 421، والمغني 7 / 214، وفتح القدير 3 / 440.
(2) فتح القدير 3 / 440، والحاوي للماوردي 12 / 421، والمغني 7 / 214.(37/348)
مَتَى شِئْتِ أَوْ مَهْمَا شِئْتِ فَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِمَشِيئَتِهَا.
وَنُقِل عَنِ السُّيُورِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُ: لاَ يُخْتَلَفُ فِي إِذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تُوطَأْ أَوْ تُوقَفُ - قَال الآْبِيُّ: أَيْ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - بِخِلاَفِ إِنْ شِئْتِ فَقِيل كَذَلِكَ وَقِيل مَا لَمْ يَفْتَرِقَا (1) .
وَإِذَا عَلَّقَ الظِّهَارَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَنْعَقِدُ ظِهَارُهُ، لأَِنَّهَا يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، وَكَذَا لَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَشَاءَ زَيْدٌ، فَشَاءَ زَيْدٌ، لاَ يَنْعَقِدُ ظِهَارُهُ لأَِنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى شَيْئَيْنِ فَلاَ يَحْصُل بِأَحَدِهِمَا (2) .
ثَالِثًا - تَعْلِيقُ الإِْيلاَءِ بِالْمَشِيئَةِ:
7 - قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال رَجُلٌ لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ وَطِئْتُكِ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ وَلَوْ تَرَاخِيًا فَيُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا وَيَكُونُ مُولِيًا، لأَِنَّهُ عَلَّقَ الإِْيلاَءَ بِشَرْطٍ
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 543، ودرر الحكام 1 / 393، والمدونة 2 / 52، والحطاب 4 / 111، وحاشية الدسوقي 2 / 440، والخرشي 4 / 103، وجواهر الإكليل 1 / 371، والحاوي للماوردي 13 / 342 ط. دار الفكر، والمغني 7 / 350، وكشاف القناع 2 / 373.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 543، وكشاف القناع 5 / 373، والحاوي الكبير 13 / 342.(37/348)
وَقَدْ وُجِدَ (1) ، وَإِنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ وَطِئْتُكِ إِلاَّ أَنْ تَشَائِي أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ أَبُوكِ أَوْ إِلاَّ بِاخْتِيَارِكِ فَلاَ يُعْتَبَرُ مُولِيًا لأَِنَّهُ عَلَّقَهُ بِفِعْلٍ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي ثُلُثِ سَنَةٍ إِمْكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَلاَ فِيهِ مَضَرَّةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى دُخُولِهَا الدَّارَ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ قَال مُخَاطِبًا: وَاللَّهِ لاَ أُجَامِعُكِ إِنْ شِئْتِ وَأَرَادَ تَعْلِيقَ الإِْيلاَءِ بِمَشِيئَتِهَا اشْتُرِطَ فِي كَوْنِهِ مُولِيًا مَشِيئَتُهَا وَتُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الأَْصَحِّ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّلاَقِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَوْ عَلَّقَ لاَ عَلَى سَبِيل خِطَابِهَا بِأَنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أُجَامِعُ زَوْجَتِي إِنْ شَاءَتْ، أَوْ قَال لأَِجْنَبِيٍّ: وَاللَّهِ لاَ أُجَامِعُ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ لَمْ يُعْتَبَرْ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَلَوْ قَال إِنْ شَاءَ فُلاَنٌ، أَوْ قَال لَهَا: مَتَى شِئْتِ لَمْ يُعْتَبَرِ الْفَوْرُ مُطْلَقًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال إِنْ شِئْتِ فَوَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ مُولِيًا وَكَذَا إِنْ شَاءَ فُلاَنٌ فَهُوَ عَلَى مَجْلِسِهِ (4) .
رَابِعًا - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى الْمَشِيئَةِ:
8 - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى الْمَشِيئَةِ قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ قَدْ تَدْخُل عَلَى أَصْل الإِْقْرَارِ وَتَكُونُ مُتَّصِلَةً بِهِ، وَالتَّعْلِيقُ عَلَى الْمَشِيئَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَشِيئَةِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 360، 361 ط. دار الفكر، والمغني 7 / 305.
(2) كشاف القناع 5 / 360.
(3) روضة الطالبين 8 / 244 ط. المكتب الإسلامي.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 487.(37/349)
اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى مَشِيئَةِ فُلاَنٍ مَثَلاً، وَفِي كُلٍّ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ يُنْظَرُ (إِقْرَارٌ ف 43) .
خَامِسًا - تَعْلِيقُ النِّيَّةِ عَلَى الْمَشِيئَةِ:
9 - قَال الْحُلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ قَال نَوَيْتُ صَوْمَ غَدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّ الْمَشِيئَةَ إِنَّمَا تُبْطِل اللَّفْظَ، وَالنِّيَةُ فِعْل الْقَلْبِ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِالْمَشِيئَةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأَْقْوَال كَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ بَطَل (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يُفِيدُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ إِنْ قَصَدَ الاِسْتِثْنَاءَ وَاتَّصَل الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَنَطَقَ بِهِ وَإِنْ سِرًّا وَكَانَ الْيَمِينُ فِي غَيْرِ تَوَثُّقٍ بِحَقِّ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ حَنِثَ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الاِسْتِثْنَاءَ كَأَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِلاَ قَصْدٍ أَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ فَلاَ يُفِيدُ الاِسْتِثْنَاءَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ.
أَمَا الاِسْتِثْنَاءُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ كَالطَّلاَقِ فَلاَ يُقَيِّدُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فَإِنْ حَنِثَ لَزِمَهُ الطَّلاَقُ سَوَاءٌ قَصَدَ الاِسْتِثْنَاءَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَقَّبَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ فَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص52، وفتح القدير 2 / 52 ط. بولاق.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 129 - 130.(37/349)
وُقُوعَ الصَّوْمِ وَبَقَاءَ الْحَيَاةِ إِلَى تَمَامِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ قَصَدَ تَعْلِيقَهُ وَالشَّكَّ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَال الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ قَال: أَصُومُ غَدًا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يَجْزِمِ النِّيَّةَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ قَال: أَنَا صَائِمٌ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ قَصَدَ بِالْمَشِيئَةِ الشَّكَّ وَالتَّرَدُّدَ فِي الْعَزْمِ وَالْقَصْدِ فَسَدَتْ نِيَّتُهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِهَا، وَإِنْ نَوَى بِالْمَشِيئَةِ التَّبَرُّكَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ تَفْسُدْ نِيَّتُهُ، إِذْ قَصْدُهُ أَنَّ فِعْلَهُ لِلصَّوْمِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ.
قَال الْقَاضِي: وَكَذَا نَقُول فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَفْسُدُ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ فِي نِيَّتِهَا (2) .
__________
(1) المجموع 6 / 298 ط. المنيرية، والإقناع في شرح أبي شجاع 1 / 139 ط. مصطفى الحلبي.
(2) كشاف القناع 2 / 316.(37/350)
مَشِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشِيمَةُ فِي اللُّغَةِ غِشَاءُ وَلَدِ الإِْنْسَانِ، وَيُقَال لِلْمَشِيمَةِ مِنْ غَيْرِ الإِْنْسَانِ السَّلَى (1) .
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَسُلَيْمَانَ الْجَمَل، الْمَشِيمَةَ عَلَى غِشَاءِ الْوَلَدِ فِي الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ (2) .
وَأَطْلَقَ آخَرُونَ الْمَشِيمَةَ عَلَى وِعَاءِ الإِْنْسَانِ فَقَطْ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - طَهَارَةُ الْمَشِيمَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَشِيمَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول الْمُذَكَّى فَقَال ابْنُ رُشْدٍ بِطَهَارَتِهَا وَجِوَازِ أَكْلِهَا، وَصَوَّبَهُ الْبَرْزَلِيُّ قَائِلاً: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمَشِيمَةُ الَّتِي فِيهَا الْوَلَدُ طَاهِرَةٌ مِنَ الآْدَمِيِّ، نَجِسَةٌ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) حاشية الجمل 1 / 177.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 49، والزرقاني 1 / 22، ومواهب الجليل 1 / 88، وأسنى المطالب 1 / 11.
(4) مواهب الجليل 1 / 88، والزرقاني 1 / 22، وحاشية الدسوقي 1 / 49.(37/350)
الْمُنْفَصِل مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ حُكْمُ مَيْتَتِهِ بِلاَ نِزَاعٍ (1) .
ب - حُكْمُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَشِيمَةِ
3 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ غُسْلِهِ وَمُوَارَاتِهِ بِخِرْقَةٍ بِنِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى جُمْلَةِ الْمَيِّتِ، وَاعْتَبَرُوا الْمَشِيمَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْخَلاَصِ كَالْعُضْوِ، لأَِنَّهَا تُقْطَعُ مِنَ الْوَلَدِ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَشِيمَةُ الَّتِي فِيهَا الْوَلَدُ فَلَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الأُْمِّ وَلاَ مِنَ الْوَلَدِ (2) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 11، وحاشية الجمل 1 / 177.
(2) القليوبي وعميرة 1 / 337.(37/351)
مُصَابَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصَابَرَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ صَابَرَ يُقَال:
صَابَرَهُ مُصَابَرَةً: غَالَبَهُ فِي الصَّبْرِ وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الْمُرَابَطَةُ:
2 - الْمُرَابَطَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ رَابَطَ، يُقَال رَابَطَ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا: لاَزَمَ الثَّغْرَ وَمَوْضِعَ الْمَخَافَةِ، وَوَاظَبَ عَلَى الأَْمْرِ وَلاَزَمَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالْمُصَابَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُرَابَطَةِ.
ب - الْمُجَاهَدَةُ:
3 - الْمُجَاهَدَةُ فِي اللُّغَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَهْدِ
__________
(1) سورة آل عمران / 200.
(2) المعجم الوسيط وتفسير القرطبي 4 / 322 - 323، والمفردات في غريب القرآن.
(3) المعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 4 / 323، والمفردات في غريب القرآن.(37/351)
أَيِ الطَّاقَةِ.
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: الْمُجَاهَدَةُ فِي اللُّغَةِ الْمُحَارَبَةُ وَفِي الشَّرْعِ: مُحَارَبَةُ النَّفْسِ الأَْمَّارَةِ بِالسُّوءِ بِتَحْمِيلِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمُصَابَرَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَابَرَةِ:
الْمُصَابَرَةُ عَلَى الْعِبَادَاتِ
4 - نَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (2) ، قَال: أَيْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَوْل الْجُمْهُورِ إِنَّ مَعْنَى الْمُصَابَرَةِ فِي الآْيَةِ مُصَابَرَةُ الأَْعْدَاءِ (3) .
كَمَا تَكُونُ الْمُصَابَرَةُ عَلَى غَيْرِ الصَّلاَةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ لأَِنَّ النَّفْسَ بِطَبْعِهَا تَنْفِرُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِنَ الْعِبَادَاتِ مَا يُكْرَهُ بِسَبَبِ الْكَسَل كَالصَّلاَةِ وَمِنْهَا مَا يُكْرَهُ بِسَبَبِ الْبُخْل كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَا يُكْرَهُ بِسَبَبِهِمَا جَمِيعًا كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ (4) .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، ودليل الفالحين 1 / 293، والتعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) سورة آل عمران / 200.
(3) تفسير القرطبي 4 / 323، ودليل الفالحين 1 / 137 وما بعدها.
(4) إحياء علوم الدين 4 / 68، والقرطبي 1 / 371.(37/352)
الْمُصَابَرَةُ فِي الْجِهَادِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِي قِتَالٍ وَلَمْ يَزِدْ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَخَافُوا الْهَلاَكَ وَجَبَ الثَّبَاتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَحَرُمَ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ عِنْدَ تَلاَقِي الْجَيْشَيْنِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفِرَارُ تَحَرُّفًا لِقِتَالٍ أَوْ تَحَيُّزًا إِلَى فِئَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَحَرُّفٌ ف 2، وَتَحَيُّزٌ ف 3) .
وَيُشْتَرَطُ لِلْمُصَابَرَةِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) ، لأَِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى الْمِائَةِ مُصَابَرَةَ الْمِائَتَيْنِ دَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مُصَابَرَةُ مَا زَادَ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 98 - 99، المهذب للشيرازي 2 / 233، والمغني لابن قدامة 8 / 483 - 484، وتفسير القرطبي 7 / 380 وما بعدها.
(2) سورة الأنفال / 45.
(3) سورة الأنفال / 66.(37/352)
الْمِائَتَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: إِنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لَهُمُ الْغَلَبَةَ عَلَى الْكُفَّارِ مَعَ كَوْنِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلَيْهِمْ فَالأَْوْلَى لَهُمُ الْمُصَابَرَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الضَّابِطَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى مِثْلَيْهِمْ وَيَرْجُونَ الظَّفَرَ بِهِمْ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ دُونَ الْعَدَدِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْغُزَاةِ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ يَلْزَمُهُمُ الثَّبَاتُ وَالْمُصَابَرَةُ، وَإِنْ كَانُوا أَقَل عَدَدًا مِنْهُمْ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِهَادٌ ف 37 وَمَا بَعْدَهَا وَتَوَلِّي ف 3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 380 - 382، 8 / 44 - 45، ومغني المحتاج 4 / 224 - 226، والمهذب 2 / 234، والبدائع 7 / 98 - 99، والمغني 8 / 484 - 486.(37/353)
مُصَادَرَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُصَادَرَةُ لُغَةً: الْمُطَالَبَةُ بِشَيْءٍ بِإِلْحَاحٍ (1) ، وَيُقَال: صَادَرَتِ الدَّوْلَةُ الْمَال: إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لِمَالِكِهِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى مَال الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَخْذًا، أَوْ إِتْلاَفًا، أَوْ إِخْرَاجًا عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ عُقُوبَةً (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَرَامَةُ:
2 - الْغَرَامَةُ وَالْغُرْمُ وَالْمَغْرَمُ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ مِنَ الْمَال وَمَا يُعْطَى مِنَ الْمَال عَلَى كُرْهٍ (4) .
وَالْعِلاَقَةُ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُؤْخَذُ عَلَى كُرْهٍ.
ب - الْمَكْسُ:
3 - الْمَكْسُ لُغَةً النَّقْصُ وَالظُّلْمُ، وَدَرَاهِمٌ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ بَائِعِ السِّلَعِ فِي الأَْسْوَاقِ فِي
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المعجم الوسيط.
(3) كشاف القناع 6 / 125، وحاشية العدوي على هامش الخرشي 8 / 110، وشرح الزرقاني 8 / 115، والدر المختار وابن عابدين عليه 2 / 9.
(4) لسان العرب، وقواعد الفقه للبركتي مادة: غرم.(37/353)
الْجَاهِلِيَّةِ (1) ، وَقَدْ غَلَبَ تَسْمِيَتُهُ فِيمَا يَأْخُذُهُ أَعْوَانُ السُّلْطَانِ ظُلْمًا عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (2)
وَالْعِلاَقَةُ: الأَْخْذُ عَلَى كُرْهٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُصَادَرَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَال الْمُسْلِمِ أَوْ إِتْلاَفُهُ أَوْ إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ عُقُوبَةً بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ يُقْتَدَى بِهِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُوبَةِ التَّأْدِيبُ، وَالأَْدَبُ لاَ يَكُونُ بِالإِْتْلاَفِ.
أَمَا النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي الْعُقُوبَةِ بِالْمَال: إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ نُسِخَ، مِنْ ذَلِكَ: مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ بُخْلاً لاَ إِنْكَارًا لِوُجُوبِهَا: إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لاَ يَحِل لآِل مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا شَيْءٌ (3) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي سَارِقِ جَرِينِ الْجَبَل: فِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ (4) ، وَقَضَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنَّ سَلَبَ مَنْ أُخِذَ وَهُوَ يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ أَخَذَهُ (5) .
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) حديث: " إنا آخذوها وشطر إبله ". أخرجه النسائي (5 / 14 - 15) من حديث معاوية بن حيوة، وقال أحمد صالح الإسناد، وكذا في التلخيص لابن حجر (2 / 161) .
(4) حديث: " فيه غرامة مثليه وجلدات نكال ". أخرجه النسائي (8 / 86) من حديث عبد الله بن عمرو.
(5) حديث: " قضاؤه صلى الله عليه وسلم أن سلب من أخذ وهو يصيد في حرم المدينة ". أخرجه مسلم (2 / 993) من حديث سعد بن أبي وقاص.(37/354)
كَانَ هَذَا كُلُّهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ نُسِخَ، ثُمَّ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَعَادَتِ الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْجَرَائِمِ فِي الأَْبْدَانِ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ (2) ، وَقَال بَعْضُ مَشَائِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ جَوَازِ التَّعْزِيرِ بِمُصَادَرَةِ الأَْمْوَال فَمَعْنَاهُ: إِمْسَاكُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ مُدَّةً لِيَنْزَجِرَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهُ الْحَاكِمُ، لاَ أَنْ يَأْخُذَهُ الْحَاكِمُ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِبَيْتِ الْمَال كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الظَّلَمَةُ، إِذْ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ مَال أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَرَى أَنْ يَأْخُذَهَا الْحَاكِمُ فَيُمْسِكُهَا، فَإِنْ يَئِسَ مِنْ تَوْبَتِهِ يَصْرِفُهَا عَلَى مَا يَرَاهُ وَقَال: وَالْحَاصِل أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَال (3) .
وَقَال: وَذَكَرَ الطَّرَسُوسِيُّ فِي مُؤَلَّفٍ لَهُ: أَنَّ مُصَادَرَةَ السُّلْطَانِ لأَِرْبَابِ الأَْمْوَال لاَ تَجُوزُ إِلاَّ
__________
(1) المغني 8 / 326، وكشاف القناع 6 / 124 - 125، والمهذب 1 / 148، وحاشية الشبراملسي في ذيل نهاية المحتاج 8 / 19، وابن عابدين 3 / 178 - 179، والشرح الصغير 4 / 504، وحاشية البناني على الزرقاني 8 / 115، وفتح القدير 5 / 112 - 113
(2) حديث: " ليس في المال حق سوى الزكاة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 570) من حديث فاطمة بنت قيس، وذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 160) أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(3) ابن عابدين 3 / 178.(37/354)
لِعُمَّال بَيْتِ الْمَال مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَادَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَعَزَلَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ثُمَّ دَعَاهُ لِلْعَمَل فَأَبَى، قَال: وَأَرَادَ بِعُمَّال بَيْتِ الْمَال: خَدَمَتُهُ الَّذِينَ يَجْبُونَ أَمْوَالَهُ، وَمِنْهُمْ كَتَبَتُهُ إِذَا تَوَسَّعُوا فِي الأَْمْوَال، لأَِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى خِيَانَتِهِمْ وَيَلْحَقُ بِهِمْ كَتَبَةُ الأَْوْقَافِ وَنُظَّارُهَا، إِذَا تَوَسَّعُوا فِي الأَْمْوَال وَتَعَاطَوْا أَنْوَاعَ اللَّهْوِ، وَبِنَاءَ الأَْمَاكِنِ، فَلِلْحَاكِمِ فِي هَذَا الْحَال: أَخْذُ الأَْمْوَال مِنْهُمْ، وَعَزْلُهُمْ، فَإِنْ عَرَفَ خِيَانَتَهُمْ فِي وَقْفٍ مُعَيَّنٍ رَدَّ الْمَال إِلَيْهِ، وَإِلاَّ وَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَال (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْمَال سَائِغَةٌ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَال يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ ف 20) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 285.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 178 - 179، وتبيين الحقائق 3 / 208، تبصرة الحكام 2 / 202، وحاشية العدوي على هامش الخرشي 8 / 110، وكشاف القناع 6 / 124 - 125، والطرق الحكمية لابن قيم الجوزية 312 - 313، وحاشية القليوبي 1 / 100، وحاشية الشرواني 1 / 390.(37/355)
مُصَادَقَةٌ
انْظُرْ: تَصَادَقَ
مَصَارِفُ
انْظُرْ: زَكَاةٌ
مُصَارَفَةٌ
انْظُرْ: صَرْفٌ(37/355)
مُصَافَحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصَافَحَةُ فِي اللُّغَةِ الأَْخْذُ بِالْيَدِ كَالتَّصَافُحِ، قَال فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: الرَّجُل يُصَافِحُ الرَّجُل إِذَا وَضَعَ صَفْحَ كَفِّهِ فِي صَفْحِ كَفِّهِ، وَصَفَحَا كَفَّيْهِمَا: وَجَّهَاهُمَا، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ إِلْصَاقِ صَفْحِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ وَإِقْبَال الْوَجْهِ عَلَى الْوَجْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّمْسُ:
2 - مِنْ مَعَانِي اللَّمْسِ فِي اللُّغَةِ الْمَسُّ بِالْيَدِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَاللَّمْسُ أَعَمُّ مِنَ الْمُصَافَحَةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالْمَلْمُوسُ قَدْ يَكُونُ يَدًا أَوْ غَيْرَهَا، وَالْمُصَافَحَةُ لَمْسُ الْيَدِ بِالْيَدِ بِأُسْلُوبٍ
__________
(1) القاموس المحيط وتاج العروس.
(2) فتح الباري 11 / 25 - المطبعة البهية المصرية 1348 هـ، وغذاء الألباب 1 / 325.
(3) القاموس المحيط ومغني المحتاج 1 / 34.(37/356)
خَاصٍّ هُوَ وَضْعُ صَفْحَتِهَا عَلَى صَفْحَتِهَا.
ب - الْمُبَاشَرَةُ:
3 - الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَاشَرَ، يُقَال: بَاشَرَ الأَْمْرَ: وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، وَبَاشَرَ الْمَرْأَةَ: جَامَعَهَا أَوْ صَارَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَبَاشَرَتْ بَشَرَتُهُ بَشَرَتَهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْمُبَاشَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُصَافَحَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُصَافَحَةِ بِاخْتِلاَفِ طَرَفَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل:
4 - مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّلاَقِي (2) ، وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَصْل الْمُصَافَحَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَقَدْ نَصَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الرِّجَال كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ (4) ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الأذكار ص261.
(3) فتح الباري 11 / 46.
(4) بدائع الصنائع 5 / 124، وحاشية القليوبي 3 / 213، وغذاء الألباب 1 / 325، والفواكه الدواني 2 / 424، وكفاية الطالب الرباني 2 / 436، والآداب الشرعية 2 / 269.(37/356)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي (1) ، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَال: قُلْتُ لأَِنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: نَعَمْ (2) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِل، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُصَافَحَةَ، وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ (4) ، وَاسْتَدَل لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل فِي وَصْفِ تَحِيَّةِ الْمَلاَئِكَةِ لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَال سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (5) ، حَيْثُ حَيَّوْهُ بِإِلْقَاءِ السَّلاَمِ، وَلَمْ يُتْبِعُوهُ بِالْمُصَافَحَةِ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ
__________
(1) أثر كعب بن مالك قال: " دخلت المسجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 117) .
(2) حديث: " أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 54) .
(3) حديث: " تصافحوا يذهب الغل. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 908) من حديث عطاء بن أبي مسلم الخراساني مرسلاً.
(4) التمهيد 21 / 17، والمنتقى 7 / 216، 217، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 436، والفتوحات الربانية 5 / 392.
(5) سورة الذاريات / 25.(37/357)
عَنْ مَالِكٍ اسْتِحْبَابُ الْمُصَافَحَةِ (1) ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل عَلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَصَافَحَهُ وَقَال: لَوْلاَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُكَ، فَقَال سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرٍ حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَال مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ، قَال سُفْيَانُ: بَل هُوَ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ (2) .
ثَانِيًا: مُصَافَحَةُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ:
5 - أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْل بِسُنِّيَّةِ الْمُصَافَحَةِ، وَلَمْ يَقْصُرُوا ذَلِكَ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهَا بَيْنَ الرِّجَال، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَوْا مُصَافَحَةَ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مُصَافَحَةَ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السُّنِّيَّةِ، فَيَشْمَلُهَا هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَقَال: وَتُسَنُّ مُصَافَحَةُ الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ (3) ، وَقَال النَّفْرَاوِيُّ: وَإِنَّمَا تُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، لاَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً (4) .
وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ عُمُومِ الأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، مِثْل قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المنتقى 7 / 216.
(3) مغني المحتاج 3 / 135.
(4) الفواكه الدواني 2 / 424.(37/357)
فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا (1) .
وَقَوْلِهِ: تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِل (2) . وَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ (3) .
فَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ وَغَيْرُهَا عَامَّةٌ فِي كُل مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، وَتَشْمَل بِعُمُومِهَا الْمَرْأَةَ تُلاَقِي الْمَرْأَةَ فَتُصَافِحُهَا (4) ، وَلأَِنَّهُ يَحِل لَهَا أَنْ تَنْظُرَ وَتَمَسَّ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَيَمَسُّهُ مِنَ الرَّجُل، وَهُوَ سَائِرُ الْجَسَدِ سِوَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ، حَتَّى لَوْ خِيفَتِ الشَّهْوَةُ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا (5) .
ثَالِثًا: الْمُصَافَحَةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ بِحَسَبِ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَحَارِمِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ:
6 - فَأَمَّا مُصَافَحَةُ الْمَحَارِمِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حديث: " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 74) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) حديث: " تصافحوا يذهب الغل ". تقدم في الفقرة (4) .
(3) نصب الراية 2 / 259، غذاء الألباب 1 / 326.
(4) مغني المحتاج 3 / 135.
(5) بدائع الصنائع 5 / 124.(37/358)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جِوَازِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَالِدَيْنِ مَعَ الأَْبْنَاءِ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَفِي غَيْرِهِمْ فِي رِوَايَةٍ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ لَمْسِ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ مَحَل الْعَوْرَةِ بِشَرْطِ الأَْمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَعَدَمِ خَوْفِ الشَّهْوَةِ (1) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَتُقَبِّلُهُ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا (2) ، وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَبَّل ابْنَتَهُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) ، وَلأَِنَّ مَسَّ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ عَوْرَةٍ يَغْلِبُ فِيهِ الصِّلَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ، وَيَنْدُرُ اقْتِرَانُهُ بِالشَّهْوَةِ (4) .
وَإِذَا كَانَ لَمْسُ الْمَحَارِمِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ مُبَاحًا فَإِنَّ الْمُصَافَحَةَ نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ، فَتَكُونُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ، وَيَشْمَلُهَا حُكْمُ الاِسْتِحْبَابِ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ الأَْبْنَاءِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 120، والفتاوى الهندية 5 / 328، والمبسوط 10 / 149، والهداية 4 / 63، 64، وحاشية الدسوقي 1 / 215، والمحلي وحاشية القليوبي 3 / 212، والآداب الشرعية 2 / 269، غذاء الألباب 1 / 329.
(2) حديث: " تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها ". أخرجه أبو داود (5 / 391) ، والترمذي (5 / 700) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
(3) الآداب الشرعية 2 / 270.
(4) الهداية 4 / 64.(37/358)
مُصَافَحَةِ الْمَحَارِمِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بَعَدَمِ جَوَازِ مَسِّهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبَيْنِ كَقَوْل الْجُمْهُورِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ جَوَازُ لَمْسِ الْمَحَارِمِ فِي غَيْرِ عَوْرَةٍ إِذَا انْتَفَتِ الشَّهْوَةُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلاَ شَفَقَةٍ (1) .
7 - وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْل الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا وَفَرَّقُوا بَيْنَ مُصَافَحَةِ الْعَجَائِزِ وَمُصَافَحَةِ غَيْرِهِمْ:
فَمُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ الَّتِي لاَ تَشْتَهِي وَلاَ تُشْتَهَى، وَكَذَلِكَ مُصَافَحَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل الْعَجُوزِ الَّذِي لاَ يَشْتَهِي وَلاَ يُشْتَهَى، وَمُصَافَحَةُ الرَّجُل الْعَجُوزِ لِلْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ، جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا دَامَتِ الشَّهْوَةُ مَأْمُونَةً مِنْ كِلاَ الطَّرَفَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ (2) ، وَلأَِنَّ الْحُرْمَةَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَصَافِحَيْنِ مِمَّنْ لاَ يَشْتَهِي وَلاَ يُشْتَهَى فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ مَعْدُومٌ أَوْ نَادِرٌ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ مُصَافَحَةِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً، وَهِيَ الْعَجُوزُ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 212، والإنصاف 8 / 32 والآداب الشرعية 2 / 269.
(2) حديث: " كان يصافح العجائز ". أورده الكاساني في بدائع الصنائع (5 / 123) ولم نهتد لمن أخرجه.
(3) بدائع الصنائع 5 / 123، والآداب الشرعية 2 / 269، ومطالب أولي النهى 5 / 14.(37/359)
الْفَانِيَةُ الَّتِي لاَ إِرَبَ لِلرِّجَال فِيهَا، أَخْذًا بِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّحْرِيمِ (1) .
وَعَمَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِتَحْرِيمِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْعَجُوزَ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهِمُ التَّحْرِيمَ فِي حَقِّ مُصَافَحَتِهَا، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّابَّةِ فِي ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى تَحْرِيمِهَا، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ التَّحْرِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّابَّةُ مُشْتَهَاةً، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ أَمْ لاَ (3) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مُصَافَحَةِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْتَحَنَّ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} (4) - الآْيَةَ - قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 2 / 437.
(2) المحلي والقليوبي وعميرة 3 / 211 - 213، ومغني المحتاج 3 / 132، 133، 135.
(3) تبيين الحقائق 6 / 18، والفتاوى الهندية 5 / 329، وحاشية العدوي على الرسالة 2 / 437، وعارضة الأحوذي 7 / 95 - 96، والمنتقى 7 / 308، والأذكار ص228، وشرح النووي على صحيح مسلم 13 / 10، وفتح الباري 11 / 46، والآداب الشرعية 2 / 269.
(4) سورة الممتحنة / 12.(37/359)
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَال لَهُنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ، وَلاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلاَمِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ قَطُّ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُول لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلاَمًا (1) .
وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمِحْنَةَ بِقَوْلِهِ: (وَكَانَتِ الْمِحْنَةُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجِهَا وَلاَ رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَلاَ الْتِمَاسَ دُنْيَا وَلاَ عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَّا بَل حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (2)) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لأََنْ يُطَعْنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لاَ تَحِل لَهُ (3) وَوَجْهُ دِلاَلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ يَمَسُّ امْرَأَةً لاَ تَحِل لَهُ وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الْمُصَافَحَةَ مِنَ الْمَسِّ.
__________
(1) حديث: " كانت المؤمنات إذا هاجرن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 312) ، ومسلم (3 / 1489) واللفظ لمسلم.
(2) تفسير القرطبي 18 / 62، وقال النووي: معناه: قد بايع المبايعة الشرعية، وشرح النووي على مسلم 13 / 10.
(3) حديث معقل بن يسار: " لأن يطعن. . . ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20 / 212) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 326) رجاله رجال الصحيح.(37/360)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ مُتَعَمَّدًا وَكَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مَشْرُوعٍ، لِمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ (1) ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَحْرِيمَ النَّظَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْفِتْنَةِ، وَاللَّمْسُ الَّذِي فِيهِ الْمُصَافَحَةُ أَعْظَمُ أَثَرًا فِي النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ إِثَارَةً لِلشَّهْوَةِ مِنْ مُجَرَّدِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَقَدْ قَال أَصْحَابُنَا كُل مَنْ حُرِّمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ حُرِّمَ مَسُّهُ، بَل الْمَسُّ أَشَدُّ، فَإِنَّهُ يَحِل النَّظَرُ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلاَ يَجُوزُ مَسُّهَا (2) .
رَابِعًا: مُصَافَحَةُ الصِّغَارِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لَمْسَ الصِّغَارِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ، سَوَاءٌ فِي حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَمْ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِهِ، وَسَوَاءٌ أَبَلَغَ الصِّغَارُ حَدَّ الشَّهْوَةِ أَمْ لَمْ يَبْلُغُوهَا، وَمِنَ اللَّمْسِ الْمُصَافَحَةُ، وَمِنْ شُرُوطِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ عَدَمُ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَكَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ مِمَّنْ لاَ يُشْتَهَى جَازَ لَمْسُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَمِ اخْتَلَفَ، لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فِي هَذِهِ الْحَال، وَهُوَ الأَْصَحُّ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 139.
(2) الأذكار ص228، وانظر مثل هذا في الهداية 4 / 64.(37/360)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَحِل مُصَافَحَتُهُ مَا دَامَتِ الشَّهْوَةُ مُنْعَدِمَةً، لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ بِجِوَازِ مُصَافَحَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى (2)
وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَحُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّمْسُ كَحُكْمِ الْكِبَارِ (3) .
وَالْمُصَافَحَةُ مِثْلُهُ، فَيُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَحَالَةِ اخْتِلاَفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ ابْنَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ فَأَقَل يَجُوزُ مَسُّهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، فَإِنْ زَادَ عَنْ هَذِهِ السِّنِّ أَخَذَ حُكْمَ الرِّجَال فِي الْمَسِّ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْ سِنَّ الرَّضَاعِ جَازَ مَسُّهَا، وَإِنْ جَاوَزَتْ سِنَّ الرَّضَاعِ وَكَانَتْ مُطِيقَةً (أَيْ مُشْتَهَاةً) حَرُمَ مَسُّهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطِيقَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الْمَنْعُ (4) .
وَبِنَاءً عَلَيْهِ يُعْرَفُ حُكْمُ مُصَافَحَةِ الصِّغَارِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّمْسِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عَوْرَةٌ) .
خَامِسًا: مُصَافَحَةُ الأَْمْرَدِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مُصَافَحَةِ الأَْمْرَدِ
__________
(1) لفتاوى الهندية 5 / 329، وتكملة فتح القدير 8 / 99، والمغني 7 / 462، ومغني المحتاج 3 / 130، وشرح المنهاج والقليوبي 3 / 109، 111.
(2) الهداية 4 / 62.
(3) المراجع ذاتها.
(4) الخرشي 2 / 131.(37/361)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَمْرَدُ ف 5) .
سَادِسًا: مُصَافَحَةُ الْكَافِرِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِكَرَاهَةِ مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مُصَافَحَةَ الْمُسْلِمِ جَارَهُ النَّصْرَانِيَّ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْغَيْبَةِ وَكَانَ يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْمُصَافَحَةِ (1) ، وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ سُئِل عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْل الذِّمَّةِ فَقَال: لاَ يُعْجِبُنِي (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مُصَافَحَةِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرِ وَلاَ الْمُبْتَاعِ، لأَِنَّ الشَّارِعَ طَلَبَ هَجْرَهُمَا وَمُجَانَبَتَهُمَا، وَفِي الْمُصَافَحَةِ وَصْلٌ مُنَافٍ لِمَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ (3) .
الْحَالاَتُ الَّتِي تُسَنُّ فِيهَا الْمُصَافَحَةُ:
حِينَ تُشْرَعُ الْمُصَافَحَةُ فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
11 - عِنْدَ التَّلاَقِي سَوَاءٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ (ف 4) .
12 - كَذَلِكَ تُسَنُّ عِنْدَ مُبَايَعَةِ الإِْمَامِ الْمُسْلِمِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ حَيْثُ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بِالْمُصَافَحَةِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 348.
(2) الآداب الشرعية 2 / 272، وغذاء الألباب 1 / 325.
(3) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 437.(37/361)
وَفِي مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لَهُ فِي السَّقِيفَةِ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَال كَمَا تَقَدَّمَ.
(ر: بَيْعَةٌ ف 12) .
13 - وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ فِي حُكْمِ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَبِخَاصَّةِ صَلاَتَيِ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ فِيهَا ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالاِسْتِحْبَابِ، وَآخَرُ بِالإِْبَاحَةِ، وَثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ.
أَمَا الْقَوْل بِالاِسْتِحْبَابِ فَقَدِ اسْتَنْبَطَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ إِطْلاَقِ عِبَارَاتِ أَصْحَابِ الْمُتُونِ، وَعَمَّ نَصُّهُمْ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَإِطْلاَقُ الْمُصَنِّفِ - التُّمُرْتَاشِيُّ - تَبَعًا لِلدُّرَرِ وَالْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ وَالنُّقَايَةِ وَالْمَجْمَعِ وَالْمُلْتَقَى وَغَيْرِهَا يُفِيدُ جَوَازَهَا مُطْلَقًا وَلَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، أَيْ مُبَاحَةٌ حَسَنَةٌ كَمَا أَفَادَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ، وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ قَال بِاسْتِحْبَابِهَا مُطْلَقًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ إِطْلاَقِ الْمُتُونِ، وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُصَافَحَةِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين والدر المختار وتنوير الأبصار 9 / 547.(37/362)
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَحَمْزَةُ النَّاشِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مُطْلَقًا (1) ، وَاسْتَأْنَسَ الطَّبَرِيُّ بِمَا رِوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، قَال أَبُو جُحَيْفَةَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ (2) ، قَال الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَيُسْتَأْنَسُ بِذَلِكَ لِمَا تَطَابَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ لاَ سِيَّمَا فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ قَصْدٌ صَالِحٌ مِنْ تَبَرُّكٍ أَوْ تَوَدُّدٍ أَوْ نَحْوِهِ (3) .
وَأَمَّا الْقَوْل بِالإِْبَاحَةِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ قَسَّمَ الْبِدَعَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ وَمُبَاحَةٌ، ثُمَّ قَال: وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عُقَيْبَ الصُّبْحِ
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 355.
(2) حديث: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 565) .
(3) الفتوحات الربانية 5 / 397.(37/362)
وَالْعَصْرِ (1) . وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الْمِرْقَاةِ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهَا مِنَ الْبِدَعِ فَإِذَا مَدَّ مُسْلِمٌ يَدَهُ إِلَيْهِ لِيُصَافِحَهُ فَلاَ يَنْبَغِي الإِْعْرَاضُ عَنْهُ بِجَذْبِ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذًى يَزِيدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الأَْدَبِ، وَإِنْ كَانَ يُقَال إِنَّ فِيهِ نَوْعَ إِعَانَةٍ عَلَى الْبِدْعَةِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُجَابَرَةِ (2) .
وَاسْتَحْسَنَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَلاَّنَ - كَلاَمَ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ وَاخْتَارَ أَنَّ مُصَافَحَةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ قَبْل الصَّلاَةِ مُبَاحَةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قَبْل الصَّلاَةِ سُنَّةٌ، وَقَال فِي الأَْذْكَارِ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُصَافَحَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ كُل لِقَاءٍ، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلاَتَيِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَلاَ أَصْل لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لاَ بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ أَصْل الْمُصَافَحَةِ سُنَّةٌ، وَكَوْنُهُمْ حَافَظُوا عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الأَْحْوَال وَفَرَّطُوا فِيهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال أَوْ أَكْثَرِهَا لاَ يُخْرِجُ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَصْلِهَا (3) .
وَأَمَّا الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ فَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، وَقَال: قَدْ يُقَال: إِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَيْهَا بَعْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً قَدْ يُؤَدِّي
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 205.
(2) الفتوحات الربانية 5 / 399.
(3) الأذكار ص262.(37/363)
بِالْجَهَلَةِ إِلَى اعْتِقَادِ سُنِّيَّتِهَا فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَأَنَّ لَهَا خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً عَلَى غَيْرِهَا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَذُكِرَ أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ كَرِهَهَا لأَِنَّهَا مِنْ سُنَنِ الرَّوَافِضِ (1) .
وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْحَاجِّ هَذِهِ الْمُصَافَحَةَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُمْنَعَ فِي الْمَسَاجِدِ، لأَِنَّ مَوْضِعَ الْمُصَافَحَةِ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ لاَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَحَيْثُ وَضَعَهَا الشَّرْعُ تُوضَعُ، فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُزْجَرُ فَاعِلُهُ، لِمَا أَتَى مِنْ خِلاَفِ السُّنَّةِ (2) .
كَيْفِيَّةُ الْمُصَافَحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَآدَابُهَا:
14 - تَقَعُ الْمُصَافَحَةُ فِي الأَْصْل بِأَنْ يَضَعَ الرَّجُل صَفْحَ كَفِّهِ فِي صَفْحِ كَفِّ صَاحِبِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْمُصَافَحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ أَمْ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُصَافَحَةِ أَنْ تَكُونَ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُلْصِقَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَصَافِحَيْنِ بَطْنَ كَفِّ يَمِينِهِ بِبَطْنِ كَفِّ يَمِينِ الآْخَرِ، وَيَجْعَل بَطْنَ كَفِّ يَسَارِهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّ يَمِينِ الآْخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَّمَنِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 9 / 547.
(2) المدخل 2 / 223، 296.(37/363)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ وَكَفِي بَيْنَ كَفَّيْهِ (1) وَبِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الأَْخْذِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: صَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ (2) ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَزِينٍ قَال: مَرَرْنَا بِالرَّبَذَةِ فَقِيل لَنَا: هَاهُنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ فَقَال: بَايَعْتُ بِهَاتَيْنِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا وَلاَ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا (4) ، قَالُوا: وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلاَ يَصْدُقُ إِلاَّ عَلَى الْمُصَافَحَةِ الَّتِي تَكُونُ بِكِلْتَا الْيَدَيْنِ لاَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ (5) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْمُصَافَحَةِ
__________
(1) حديث: " علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 56) ، ومسلم (1 / 302) .
(2) فتح الباري 11 / 47.
(3) الأثر: " مررنا بالربذة فقيل لنا: ههنا سلمة بن الأكوع. . . ". أخرجه البخاري في الأدب المفرد (253) .
(4) حديث: " ما من مسلمين التقيا فأخذ. . . ". أخرجه أحمد (3 / 142) وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 36) .
(5) حاشية ابن عابدين 9 / 548، والفتاوى الهندية 5 / 369، وعمدة القاري 11 / 253، وفتح الباري 11 / 56، وعون المعبود 14 / 118.(37/364)
الْمَشْرُوعَةِ لاَ تَتَعَدَّى الْمَعْنَى الَّذِي تَدُل عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ، وَيَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ إِلْصَاقِ صَفْحِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ.
وَاسْتَدَل لِهَذَا الرَّأْيِ بِقَوْل عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَرَوْنَ كَفِّي هَذِهِ، فَأَشْهَدُ أَنَّنِي وَضَعْتُهَا عَلَى كَفِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ فِي الْمُصَافَحَةِ أَنْ تَكُونَ إِثْرَ التَّلاَقِي مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ وَلاَ تَرَاخٍ وَأَنْ لاَ يَفْصِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللِّقَاءِ سِوَى الْبَدْءُ بِالسَّلاَمِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْل أَنْ يَفْتَرِقَا (2) ، حَيْثُ عَطَفَ الْمُصَافَحَةَ عَلَى التَّلاَقِي بِالْفَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ وَالْفَوْرِيَّةَ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُسْتَحَبَّ لِلْمُصَافَحَةِ هُوَ أَوَّل اللِّقَاءِ (3) ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَدْءَ بِالسَّلاَمِ يَسْبِقُهَا (4) فَقَدْ دَل عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
__________
(1) حديث: " ترون كفي هذه فأشهد. . . ". أخرجه أحمد (4 / 189) .
(2) حديث: " ما من مسلمين يلتقيان. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 388) ، والترمذي (5 / 74) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
(3) دليل الفالحين 3 / 366، والفتوحات الربانية 5 / 394، وعون المعبود 14 / 120.
(4) المرقاة 8 / 458، 461، وحاشية ابن عابدين 9 / 548.(37/364)
00 مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل وَلاَ يَتَفَرَّقَانِ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا (1) .
كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنَّ تَدُومَ مُلاَزَمَةُ الْكَفَّيْنِ فِيهَا قَدْرَ مَا يَفْرُغُ مِنَ الْكَلاَمِ وَالسَّلاَمِ وَالسُّؤَال عَنِ الْغَرَضِ، وَيُكْرَهُ نَزْعُ الْمُصَافِحِ يَدَهُ مِنْ يَدِ الَّذِي يُصَافِحُهُ سَرِيعًا (2) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَا رَأَيْتُ رَجُلاً الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُل هُوَ يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُل هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُل لاَ يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ وَلاَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ (4) ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ لِلْمُصَافِحِ أَنْ يَنْزِعَ يَدَهُ مِنْ يَدِ مَنْ يُصَافِحُهُ قَبْل
__________
(1) حديث: " ما من مسلمين يلتقيان فيسلم. . . ". أخرجه أحمد (4 / 289) .
(2) فتح الباري 11 / 47، والآداب الشرعية 2 / 275، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 415، وغذاء الألباب 1 / 329 / 330، والفتوحات الربانية 5 / 392.
(3) حديث: " ما رأيت رجلاً التقم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 146) وضعفه المنذري في مختصر السنن (7 / 170) .
(4) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل. . . ". عزاه ابن حجر في الفتح (11 / 56) إلى " كتاب البر والصلة " لابن المبارك.(37/365)
نَزْعِهِ هُوَ إِلاَّ مَعَ حَيَاءٍ أَوْ مَضَرَّةِ التَّأْخِيرِ، وَقَصَرَ بَعْضُهُمْ كَرَاهَةَ السَّبْقِ بِالنَّزْعِ عَلَى غَيْرِ الْمُبَادِرِ بِالْمُصَافَحَةِ حَتَّى يَنْزِعَهَا ذَلِكَ الْمُبَادِرُ، وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الضَّابِطُ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الآْخَرَ سَيَنْزِعُ أَمْسَكَ وَإِلاَّ فَلَوِ اسْتُحِبَّ الإِْمْسَاكُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَى إِلَى دَوَامِ الْمُعَاقَدَةِ، ثُمَّ اسْتَحْسَنَ قَوْل مَنْ جَعَل النَّزْعَ لِلْمُبْتَدِئِ بِالْمُصَافَحَةِ (1) .
وَمِنْ سُنَنِ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَافِحُ إِبْهَامَ الطَّرَفِ الآْخَرِ (2) وَأَمَّا شَدُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَهُ عَلَى يَدِ الآْخَرِ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ: قَوْلٌ بِاسْتِحْبَابِهِ، لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَدُّدِ، وَقَوْلٌ بِعَدِمِ اسْتِحْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل الْمُصَافِحِ يَدَ نَفْسِهِ بَعْدَ الْمُصَافَحَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَهُمْ، لَكِنْ قَال الْجُزُولِيُّ: صِفَةُ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يُلْصِقَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاحَتَهُ بِرَاحَةِ الآْخَرِ، وَلاَ يَشُدُّ وَلاَ يُقَبِّل أَحَدُهُمَا يَدَهُ وَلاَ يَدَ الآْخَرِ، فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ (3) .
وَيُسْتَحَبُّ السَّبْقُ فِي الشُّرُوعِ بِالْمُصَافَحَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الرَّجُلاَنِ الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ
__________
(1) الآداب الشرعية 2 / 275، غذاء الألباب 1 / 329.
(2) حاشية ابن عابدين 9 / 548.
(3) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 2 / 415، والفتوحات الربانية 5 / 392.(37/365)
أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمَا بِشْرًا لِصَاحِبِهِ فَإِذَا تَصَافَحَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ، لِلْبَادِي مِنْهُمَا تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافِحِ عَشَرَةٌ (1) .
وَمِنْ آدَابِ الْمُصَافَحَةِ أَنْ يَقْرُنَهَا الْمُصَافِحُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاِسْتِغْفَارِ بِأَنْ يَقُول: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَبِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالدُّعَاءِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) وَبِالْبَشَاشَةِ وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ مَعَ التَّبَسُّمِ وَحُسْنِ الإِْقْبَال وَاللُّطْفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَصْدُقَ فِيهَا، بِأَنْ لاَ يَحْمِلَهُ عَلَيْهَا سِوَى الْحُبِّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَل، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: لَقِيتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لأََحْسَبُ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ لِلأَْعَاجِمِ، فَقَال: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ، مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا وَنَصِيحَةً إِلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا (3) .
أَثَرُ الْمُصَافَحَةِ عَلَى وُضُوءِ الْمُتَصَافِحَيْنِ
15 - لَمَّا كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ
__________
(1) حديث: " إذا التقى الرجلان المسلمان فسلم. . . ". أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 419) وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 37) .
(2) سورة البقرة / 201.
(3) حديث: " نحن أحق بالمصافحة منهم. . . ". أخرجه ابن عدي في (الكامل في الضعفاء) (5 / 1793) وضعفه.(37/366)
اللَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي أَثَرِهَا عَلَى وُضُوءِ الْمُتَصَافِحَيْنِ الاِخْتِلاَفُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ اللَّمْسِ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَمْسٌ) .(37/366)
مُصَاهَرَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُصَاهَرَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ صَاهَرَ، يُقَال: صَاهَرْتُ الْقَوْمَ إِذَا تَزَوَّجْتَ مِنْهُمْ.
وَقَال الْخَلِيل: الصِّهْرُ أَهْل بَيْتِ الْمَرْأَةِ، قَال: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَل الأَْحْمَاءَ وَالأَْخْتَانَ جَمِيعًا أَصْهَارًا، وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الصِّهْرُ يَشْتَمِل عَلَى قَرَابَاتِ النِّسَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، كَالأَْبَوَيْنِ، وَالإِْخْوَةِ وَأَوْلاَدِهِمْ، وَالأَْعْمَامِ، وَالأَْخْوَال، وَالْخَالاَتِ، فَهَؤُلاَءِ أَصْهَارُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ الْمَحَارِمِ فَهُمْ أَصْهَارُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا.
وَقَال ابْنُ السِّكِّيتِ: كُل مَنْ كَانَ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ مِنْ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ. فَهُمُ الأَْحْمَاءُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمَرْأَةِ فَهُمُ الأَْخْتَانُ، وَيَجْمَعُ الصِّنْفَيْنِ الأَْصْهَارُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ حُرْمَةُ الْخُتُونَةِ (2) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ فِي تَعْرِيفِ الصِّهْرِ وَالصِّهْرُ كُل ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْ عُرْسِهِ كَآبَائِهَا
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب، مادة (صهر) .
(2) قواعد الفقه للبركتي.(37/367)
وَأَعْمَامِهَا وَأَخْوَالِهَا وَأَخَوَاتِهَا وَغَيْرِهِمْ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَتَنُ
2 - الْخَتَنُ بِفَتْحَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ: كُل مَنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمَرْأَةِ، مِثْل الأَْبِ وَالأَْخِ وَهَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ: خَتَنُ الرَّجُل زَوْجُ ابْنَتِهِ، وَعَنِ اللَّيْثِ: الْخَتَنُ الصِّهْرُ، وَهُوَ الرَّجُل الْمُتَزَوِّجُ فِي الْقَوْمِ (2) .
وَالْخَتَنُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ كَمَا ذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ: زَوْجُ كُل ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ، كَأَزْوَاجِ بَنَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ، وَكَذَا كُل ذِي رَحِمٍ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيل الصِّهْرُ أَبُو الْمَرْأَةِ وَأُمُّهَا، وَالْخَتَنُ زَوْجُ الْمَحْرَمِ فَقَطْ (3) .
ب - الْحَمْوُ
3 - الْحَمْوُ فِي اللُّغَةِ قَال الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ: الْحَمْوُ وَالْحَمُّ أَبُو زَوْجِ الْمَرْأَةِ، وَالْوَاحِدُ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ.
وَقَال ابْنُ مَنْظُورٍ: حَمْوُ الْمَرْأَةِ وَحَمُّهَا وَحَمَاهَا: أَبُو زَوْجِهَا وَأَخُو زَوْجِهَا وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ، وَفِي الْحَمْوُ لُغَاتٌ حَمَا مِثْل قَفَا وَحَمْوُ مِثْل أَبُو وَحَمٌّ مِثْل أَبٍّ وَحَمْءٌ سَاكِنَةُ الْمِيمِ مَهْمُوزَةٌ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 437.
(2) المصباح المنير.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 438، والاختيار 3 / 208.
(4) القاموس المحيط، ولسان العرب.(37/367)
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحَمْوَ مِنَ الأَْصْهَارِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
التَّحْرِيمُ بِالْمُصَاهَرَةِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - زَوْجَةُ الأَْصْل وَهُوَ الأَْبُ وَإِنْ عَلاَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (1)
ب - أَصْل الزَّوْجَةِ وَهِيَ أُمُّهَا وَأُمُّ أُمِّهَا وَأُمُّ أَبِيهَا وَإِنْ عَلَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (2) ، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (3)
ج - فُرُوعُ الزَّوْجَةِ وَهُنَّ بَنَاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ نَزَلْنَ بِشَرْطِ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (4)
د - زَوْجَةُ الْفَرْعِ أَيْ زَوْجَةُ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ بِنْتِهِ مَهْمَا بَعُدَتِ الدَّرَجَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلاَئِل أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
__________
(1) سورة النساء / 22.
(2) سورة النساء / 23.
(3) سورة النساء / 23.
(4) سورة النساء / 23.(37/368)
أَصْلاَبِكُمْ} (1) وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْقِيتِ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمَا مِمَّنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا حُرِّمَتِ الأُْخْرَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوِ الْعَمَّةُ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا أَوِ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوِ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ ف 23) .
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُصَاهَرَةُ
5 - تَثْبُتُ الْمُصَاهَرَةُ بِأَسْبَابٍ: مِنْهَا: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ مُثْبِتٌ لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فِيمَا سِوَى بِنْتِ الزَّوْجَةِ وَهِيَ الرَّبِيبَةُ وَفُرُوعُهَا وَإِنْ نَزَلَتْ فَإِنَّهُنَّ لاَ يَحْرُمْنَ إِلاَّ بِالدُّخُول بِالزَّوْجَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ ف 10، 11) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " نهى أن تنكح المرأة على عمتها. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 553) ، والترمذي (3 / 433) ، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".(37/368)
مُصْحَفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصْحَفُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ الْمِصْحَفُ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهُوَ لُغَةً: اسْمٌ لِكُل مَجْمُوعَةٍ مِنَ الصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ ضُمَّتْ بَيْنَ دَفَّتَيْنِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَإِِِنَّمَا سُمِّيَ الْمُصْحَفُ مُصْحَفًا لأَِنَّهُ أُصْحِفَ، أَيْ جُعِل جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ (1) .
وَالْمُصْحَفُ فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.
وَيَصْدُقُ الْمُصْحَفُ عَلَى مَا كَانَ حَاوِيًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُسْمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا وَلَوْ قَلِيلاً كَحِزْبٍ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يَشْمَل مَا كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 1 / 35.(38/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
1 - الْقُرْآنُ لُغَةً: الْقِرَاءَةُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِِِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّل عَلَى رَسُولِهِ مُحَمِّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلاَوَتِهِ، الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُول إِِِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتَرًا (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ: أَنَّ الْمُصْحَفَ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَالْجِلْدِ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَكْتُوبِ فِيهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصْحَفِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُصْحَفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
لَمْسُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ لِلْمُصْحَفِ
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمِّدٍ
__________
(1) سورة القيامة / 18.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 441، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1409هـ، والمستصفى للغزالي 1 / 64 القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى 1356هـ.
(3) بدائع الصنائع 3 / 8، 9.(38/5)
وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ إِِلاَّ دَاوُدَ (1) .
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، فَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الأَْحْدَاثِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، إِِلاَّ مَا يَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (2) .
وَبِمَا فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِلَى أَهْل الْيُمْنِ (3) ، وَهُوَ قَوْلُهُ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِِلاَّ طَاهِرٌ (4) ، وَقَال ابْنُ عُمَرَ: قَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِِلاَّ طَاهِرٌ (5) .
لَمْسُ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ لِلْمُصْحَفِ
4 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 116، 195، والفتاوى الهندية 1 / 38، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 125، وتفسير القرطبي 17 / 225، والمغني 1 / 147، القاهرة، دار المنار 1967م، وشرح منتهى الإرادات 1 / 105، 72، القاهرة، مطبعة أنصار السنة.
(2) سورة الواقعة / 79.
(3) تفسير القرطبي 17 / 225، والمغني 1 / 147، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 35، ومغني المحتاج 1 / 37.
(4) حديث: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أخرجه الدارمي (2 / 161) ، والدارقطني (1 / 122) وصححه إسحاق بن راهويه كما نقل عنه ابن المنذر في " الأوسط " (2 / 102) .
(5) حديث: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أخرجه الطبراني في " الكبير " (12 / 313) ، وقال ابن حجر في " التلخيص " (1 / 133) إسناده لا بأس به.(38/6)
لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا عَنْ غَيْرِ دَاوُدَ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيل: يَجُوزُ مَسُّهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلاَحِ قَوْلاً غَرِيبًا بِعَدِمِ حُرْمَةِ مَسِّهِ مُطْلَقًا (1) .
وَلاَ يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِِلاَّ إِِذَا أَتَمَّ طَهَارَتَهُ، فَلَوْ غَسَل بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ قَبْل أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِالْعُضْوِ الَّذِي تَمَّ غَسْلُهُ (2) .
مَسُّ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ لِلْمُصْحَفِ بِغَيْرِ بَاطِنِ الْيَدِ
5 - يُسَوِّي عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِبَاطِنِ الْيَدِ، وَبَيْنَ مَسِّهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الأَْعْضَاءِ، لأَِنَّ كُل شَيْءٍ لاَقَى شَيْئًا، فَقَدْ مَسَّهُ إِِلاَّ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا، فَقَدْ قَالاَ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ وَبِغَيْرِ الْيَدِ مِنَ الأَْعْضَاءِ، لأَِنَّ آلَةَ الْمَسِّ الْيَدُ.
__________
(1) تفسير القرطبي 17 / 226، والدسوقي 1 / 125، وحاشية ابن عابدين 1 / 116، والفتاوى الهندية 1 / 38، والمغني 1 / 147، وشرح المنتهى 1 / 72، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 35.
(2) المغني 1 / 149، وشرح المنتهى 1 / 73، والفتاوى الهندية 1 / 39.(38/6)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُمْنَعُ مَسُّهُ بِأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَلاَ يُمْنَعُ مَسُّهُ بِغَيْرِهَا، وَنُقِل فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الزَّاهِدِيَّ أَنَّ الْمَنْعَ أَصَحُّ (1) .
مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَا لاَ كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ وَرَقِهِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرُ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِل، وَالْحَوَاشِي الَّتِي لاَ كِتَابَةَ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ، وَالْبَيَاضِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ صَحَائِفَ خَالِيَةٍ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ وَحَرِيمٌ لَهُ، وَحَرِيمُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِِلَى جَوَازِ ذَلِكَ (3) .
حَمْل غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبُهُ لأَِوْرَاقِهِ وَكِتَابَتُهُ لَهُ
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ
__________
(1) المغني 1 / 147، وشرح المنتهى 1 / 72، والفتاوى الهندية 1 / 39، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 125.
(2) قاله ابن العربي المالكي كما في تفسير القرطبي 17 / 226، وانظر قاعدة: " حريم الشيء له حكم ما هو حريم له " في الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص 124 القاهرة، مصطفى الحلبي، 1378هـ.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 195، والفتاوى الهندية 1 / 38، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، والقليوبي على شرح منهاج الطالبين 1 / 35، وشرح منتهى الإرادات 1 / 72.(38/7)
وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، إِِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يَحْمِل الْجُنُبُ أَوِ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ بِعِلاَقَةٍ، أَوْ مَعَ حَائِلٍ غَيْرِ تَابِعٍ لَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ مَاسًّا لَهُ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي مَتَاعِهِ، وَلأَِنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إِِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمَسِّ وَلاَ مَسَّ هُنَا، قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ حَمَلَهُ بِغِلاَفِ غَيْرِ مَخِيطٍ بِهِ، أَوْ فِي خَرِيطَةٍ - وَهِيَ الْكِيسُ - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُكْرَهْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ خَرَّجَهَا الْقَاضِي عَنْ أَحَمْدَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَحْمِلْهُ غَيْرُ الطَّاهِرِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَكُرْسِيِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ فِي غِلاَفٍ أَوْ بِعِلاَقَةِ، وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: لاَ يَجُوزُ لَهُ حَمْل وَمَسُّ خَرِيطَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِمَا مُصْحَفٌ، أَيْ إِِنْ أُعِدَّا لَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ مَسُّ أَوْ حَمْل صُنْدُوقٍ أُعِدَّ لِلأَْمْتِعَةِ وَفِيهِ مُصْحَفٌ.
وَلَوْ قَلَّبَ غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِعُودٍ فِي يَدِهِ جَازَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَسٍّ وَلاَ حَمْلٍ، قَال: وَبَهْ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.(38/7)
وَقَال التَّتَائِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُل سَاعَةٍ.
وَنُقِل عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ الْمُحْدِثُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِالْيَدِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ مَاسًّا بِالْقَلَمِ.
وَفِي تَقْلِيبِ الْقَارِئِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي هُوَ لاَبِسُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلاَفٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَنْعُ أَوْلَى لأَِنَّ الْمَلْبُوسَ تَابِعٌ لِلاَبِسِهِ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَضَعَ عَلَى يَدِهِ مِنْدِيلاً أَوْ نَحْوَهُ مِنْ حَائِلٍ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمُصْحَفِ وَلاَ هُوَ مِنْ مُلاَبَسِ الْمَاسِّ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَلَوِ اسْتَخْدَمَ لِذَلِكَ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَهَا (1) .
عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ حَمْل الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ لِلضَّرُورَةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَمْلُهُ لِخَوْفِ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ خِيفَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ كَافِرٍ أَوْ خِيفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 117، 118، والفتاوى الهندية 1 / 38، وتفسير القرطبي 17 / 227، وشرح المنهاج 1 / 36، والمغني 1 / 148، وشرح المنتهى 1 / 72.(38/8)
ضَيَاعُهُ أَوْ سَرِقَتُهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ إِِرَادَةِ حَمْلِهِ التَّيَمُّمُ أَيْ حَيْثُ لاَ يَجِدُ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِمِثْل ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (1) .
مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ
أ - الصَّغِيرُ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، قَالُوا: لِمَا فِي مَنْعِ الصِّبْيَانِ مِنْ مَسِّهِ إِِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَجِ، لِمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لأََدَّى إِِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعَلُّمُهُ فِي حَال الصِّغَرِ أَرْسَخُ وَأَثْبَتُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ بَأْسَ لِلْكَبِيرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُصْحَفَ إِِلَى صَبِيٍّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ إِِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لاَ يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، كَالْبَالِغِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 35 - 37، ومغني المحتاج 1 / 37 والدسوقي 1 / 125، 126.
(2) تفسير القرطبي 17 / 227، وابن عابدين 1 / 117، والفتاوى الهندية 1 / 39، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 37، والمغني 1 / 148.(38/8)
الْمُحْدِثُ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ مِنْ مَسِّ وَلاَ مِنْ حَمْل لَوْحٍ وَلاَ مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَيْ لاَ يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، بَل يُسْتَحَبُّ.
قَالُوا: وَذَلِكَ فِي الْحَمْل الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا.
أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْتَهِكَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ لاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَمْكِينُهُ مِنْ مَسِّهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الأَْلْوَاحُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ فَلاَ يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ مَسُّ الصَّبِيِّ الْمَكْتُوبِ فِي الأَْلْوَاحِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ.
وَأَمَّا مَسُّ الصَّبِيِّ اللَّوْحَ أَوْ حَمْلُهُ فَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (2) .
ب - الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُمَا:
9 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، أَوْ تُعَلِّمُهُ حَال التَّعْلِيمِ مَسَّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 38.
(2) الإنصاف 1 / 223، وكشاف القناع 1 / 134.(38/9)
الْمُصْحَفِ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلاً أَوْ جُزْءًا مِنْهُ أَوِ اللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَال بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، لأَِنَّ رَفْعَ حَدَثِهِ بِيَدِهِ وَلاَ يَشُقُّ، كَالْوُضُوءِ، بِخِلاَفِ الْحَائِضِ فَإِِِنَّ رَفْعَ حَدَثِهَا لَيْسَ بِيَدِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُنُبَ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، صَغِيرًا كَانَ أَوْ بَالِغًا يَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ وَالْحَمْل حَال التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِلْمَشَقَّةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِِلَى الْمُصْحَفِ لِلْمُطَالَعَةِ، أَوْ كَانَتْ لِلتَّذَكُّرِ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ (1) .
مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَنَحْوَهَا مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِِلَى الْجَوَازِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَسٌّ ف 7) .
مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمُصْحَفَ الْمَكْتُوبَ بِحُرُوفٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَكُتُبَ تَرْجَمَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ
11 - الْمُصْحَفُ إِِنْ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ بِحُرُوفِ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ فَهُوَ مُصْحَفٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُصْحَفِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فَفِي
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 126.(38/9)
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَتَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَوْ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِثْل ذَلِكَ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ:
تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لاَ قِرَاءَتُهُ بِهَا، وَلَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي الْمَسِّ وَالْحَمْل.
أَمَّا تَرْجَمَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الأَْعْجَمِيَّةِ فَلَيْسَتْ قُرْآنًا، بَل هِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا صَرَّحَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَعَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ، عِنْدَ مَنْ لاَ يَمْنَعُ مَسَّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ (1) .
صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنِ الاِتِّصَال بِالنَّجَاسَاتِ
12 - يَحْرُمُ تَنْجِيسُ الْمُصْحَفِ، فَمَنْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي النَّجَاسَاتِ أَوِ الْقَاذُورَاتِ مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ وَضْعُ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ عَلَى نَجِسٍ، وَمَسُّهَا بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَلَوْ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَيَجِبُ غَسْل الْمُصْحَفِ إِِنْ تَنَجَّسَ وَلَوْ أَدَّى غَسْلُهُ إِِلَى تَلَفِهِ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 368، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، وحاشية ابن عابدين 1 / 18، والفتاوى الهندية 1 / 39، والقليوبي 1 / 36.(38/10)
لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ كِتَابَتُهُ بِشَيْءِ نَجِسٍ، وَصَرَّحَ بِمِثْل ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِعُضْوٍ نَجِسٍ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ مَعَ الْحَدَثِ، أَمَّا إِِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى عُضْوٍ وَمَسَّهُ بِعُضْوٍ آخَرَ طَاهِرٍ فَلاَ يَحْرُمُ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يَتَنَجَّسُ بِبَوْل حَيَوَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ فِي وَرَقٍ نَجِسٍ أَوْ بِمِدَادٍ نَجِسٍ (1) .
دُخُول الْخَلاَءِ بِمُصْحَفٍ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ - وَلاَ يَحْرُمُ - أَنْ يَدْخُل الْخَلاَءَ وَمَعَهُ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ مَكْرُوهٌ وَإِِِنْ حَرُمَ مِنْ حَيْثُ الْحَدَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِِذَا دَخَل الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ (2) ، قَال فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْمُصْحَفِ، وَقَال صَاحِبُ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 36، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 116، وشرح منتهى الإرادات 1 / 73.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ". أخرجه أبو داود (1 / 25) وقال: هذا حديث منكر.(38/10)
الإِِِْنْصَافِ: لاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُول الْخَلاَءِ سَوَاءٌ أَكَانَ كَنِيفًا أَوْ غَيْرَهُ بِمُصْحَفٍ، كَامِلٍ أَوْ بَعْضِ مُصْحَفٍ، قَالُوا: لَكِنْ إِِنْ دَخَلَهُ بِمَا فِيهِ بَعْضٌ مِنَ الآْيَاتِ لاَ بَال لَهُ - أَيْ مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ - فَالْحُكْمُ الْكَرَاهَةُ لاَ التَّحْرِيمُ.
قَالُوا: وَإِِِنْ خَافَ ضَيَاعَهُ جَازَ أَنْ يَدْخُل بِهِ مَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي سَاتِرٍ يَمْنَعُ وُصُول الرَّائِحَةِ إِِلَيْهِ، وَلاَ يَكْفِي وَضْعُهُ فِي جَيْبِهِ، لأَِنَّهُ ظَرْفٌ مُتَّسِعٌ (1) .
جَعْل الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الصَّلاَةِ
14 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ جَعْل الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي لأَِنَّهُ يُلْهِيهِ، قَال أَحَمْدُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا حَتَّى الْمُصْحَفَ، لَكِنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَمُّدُ جَعْلِهِ فِي الْقِبْلَةِ لِيُصَلِّيَ إِِلَيْهِ، وَلاَ يُكْرَهُ إِِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَاكَ مَوْضِعَهُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ عَادَةً (2) .
وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 50، وابن عابدين 1 / 119، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 107، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 38، وشرح منتهى الإرادات 1 / 30.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 255، وشرح منتهى الإرادات 1 / 197.(38/11)
جَعَلَهُ لِيَقْرَأَ مِنْهُ، قَالُوا: لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ فِيمَا يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي الصَّلاَةِ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِهَا، وَالْمُصْحَفُ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، وَاسْتِقْبَال أَهْل الْكِتَابِ مَصَاحِفَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهَا لاَ لِعِبَادَتِهَا، وَمِنْ هُنَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلاَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ (1) .
الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا
15 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَإِِِنْ قَرَأَ بِالنَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ مُطْلَقًا، أَيْ قَلِيلاً كَانَ مَا قَرَأَهُ أَوْ كَثِيرًا، إِِمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِِلاَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيل قَوْلِهِ، فَقِيل: لأَِنَّ حَمْل الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الأَْوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقِيل: لأَِنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَصَارَ كَمَا إِِذَا تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَصَحَّحَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْكَافِي تَبَعًا لِتَصْحِيحِ السَّرَخْسِيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْقِرَاءَةِ إِِلاَّ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَلَّى بِلاَ قِرَاءَةٍ فَإِِِنَّهَا تُجْزِئُهُ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِِلَى تَجْوِيزِ الْقِرَاءَةِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 438.(38/11)
لِلْمُصَلِّي مِنَ الْمُصْحَفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْل الْكِتَابِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لِكَثْرَةِ الشَّغْل بِذَلِكَ، لَكِنَّ كَرَاهَتَهُ عِنْدَهُمْ فِي النَّفْل إِِنْ قَرَأَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلاَ يُكْرَهُ إِِنْ قَرَأَ فِي أَوَّلِهِ، لأَِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي النَّفْل مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ (2) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إِِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَوْلًى لَهَا اسْمُهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ (3) ، وَيُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ عَلَى الإِِِْطْلاَقِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ إِِلَيْهِ فِيهِ، وَيُكْرَهُ لِلْحَافِظِ حَتَّى فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، لأَِنَّهُ يُشْغَل عَنِ الْخُشُوعِ وَعَنِ النَّظَرِ إِِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لاَ يُشْعِرُ بِالإِِِْعْرَاضِ (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 419.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 316.
(3) المغني 1 / 575.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 241.
(5) أسنى المطالب 1 / 183.(38/12)
أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَإِِِنَّ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ مُسْتَحَبَّةٌ لاِشْتِغَال الْبَصَرِ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى تَفْضِيل الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ عَلَى الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، لأَِنَّهُ يَجْمَعُ مَعَ الْقِرَاءَةِ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ: إِِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَحُضُورُ قَلْبِهِ فِي الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَهُوَ أَفَضْل فِي حَقِّهِ (1) .
اتِّبَاعُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ الإِِِْمَامِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأُْمَّةِ إِِلَى وُجُوبِ الاِقْتِدَاءِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ بِرَسْمِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ قَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ (2) .
سُئِل الإِِِْمَامُ مَالِكٌ: أَرَأَيْتَ مَنِ اسْتُكْتِبَ مُصْحَفًا الْيَوْمَ، أَتَرَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ الْيَوْمَ؟ فَقَال: لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُكْتَبُ عَلَى الْكِتْبَةِ الأُْولَى، وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ مِثْل الْوَاوِ وَالأَْلِفِ، أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِِذَا وُجِدَتْ فِيهِ كَذَلِكَ؟ فَقَال: لاَ، قَال الدَّانِيُّ: يَعْنِي
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 55، والفتاوى الهندية 5 / 317.
(2) المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار للداني، دمشق 1940م، البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 379، ط عيسى البابي الحلبي، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2 / 166 وما بعدها.(38/12)
الْوَاوَ وَالأَْلِفَ الزَّائِدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ قَال: وَلاَ مُخَالِفَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ، وَقَال أَحْمَدُ: تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ مُصْحَفِ الإِِِْمَامِ فِي وَاوٍ أَوْ يَاءٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِِِْيمَانِ: مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْهِجَاءِ الَّذِي كَتَبُوا بِهِ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ وَلاَ يُخَالِفَهُمْ فِيهِ، وَلاَ يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوا شَيْئًا، فَإِِِنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عِلْمًا وَأَصْدَقَ لِسَانًا وَأَعْظَمَ أَمَانَةً مِنَّا، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ (2) .
وَمِنْ هُنَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ فِي الصَّلاَةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهَا، لأَِنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتِ التَّوَاتُرُ بِهَا، فَلاَ يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ صَلاَتِهِ إِِذَا قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، كَبَعْضِ مَا رُوِيَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
وَصَحَّحَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ
__________
(1) المقنع في معرفة مرسوم المصاحف للداني ص 9 - 10 وعنه نقله السيوطي في الإتقان 2 / 167، وشرح المنتهى 1 / 74.
(2) الإتقان للسيوطي 2 / 167.
(3) المغني 1 / 492.(38/13)
الْقِرَاءَةَ الصَّحِيحَةَ لاَ بُدَّ أَنْ تُوَافِقَ رَسْمَ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوِ احْتِمَالاً (1) .
وَالْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْقُولٌ عَنْ عِزِّ الدِّينِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ فَقَدْ نَقَل عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ قَوْلَهُ: لاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ الآْنَ عَلَى الرُّسُومِ الأُْولَى بِاصْطِلاَحِ الأَْئِمَّةِ لِئَلاَّ يُوقَعَ فِي تَغْيِيرِ الْجُهَّال. وَتَعَقَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: لاَ يَنْبَغِي إِِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِِطْلاَقِهِ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ، وَشَيْءٍ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لاَ يُتْرَكُ مُرَاعَاةً لِجَهْل الْجَاهِلِينَ، وَلَنْ تَخْلُوَ الأَْرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ (2) .
وَنُقِل عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ مِثْل قَوْل ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ (3) .
آدَابُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ
17 - اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ كِتَابَةَ الْمَصَاحِفِ، وَتَحْسِينَ كِتَابَتِهَا وَتَجْوِيدَهَا، وَالتَّأَنُّقَ فِيهَا.
وَاسْتَحَبُّوا تَبْيِينَ الْحُرُوفِ وَإِِِيضَاحَهَا وَتَفْخِيمَهَا، وَالتَّفْرِيجَ بَيْنَ السُّطُورِ، وَتَحْقِيقَ
__________
(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1 / 9 بيروت، دار الكتاب العربي، مصور عن طبعة القاهرة.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 379، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1376هـ.
(3) مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ عبد العظيم الزرقاني 1 / 373 - 374.(38/13)
الْخَطِّ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أَنْ تُمَدَّ الْبَاءُ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِِلَى الْمِيمِ حَتَّى تُكْتَبَ السِّينُ، قَال: لأَِنَّ فِي ذَلِكَ نَقْصًا.
وَنُقِلَتْ: كَرَاهَةُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِخَطِّ دَقِيقٍ، وَتَصْغِيرِ حَجْمِ الْمُصْحَفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْمُصْحَفُ بِمِدَادٍ نَجِسٍ أَوْ فِي وَرَقٍ أَوْ شَيْءٍ نَجِسٍ.
وَنَقَل أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَرِهُوا كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ كِتَابَتَهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَ الْبُرْزُلِيُّ وَالْعَدَوِيُّ وَالأُْجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ يَشْغَل الْقَارِئَ عَنِ التَّدَبُّرِ (1) .
إِِصْلاَحُ مَا قَدْ يَقَعُ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ
18 - يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِِصْلاَحَ مَا قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ مِنَ الْخَطَأِ فِي
__________
(1) الإتقان للسيوطي 2 / 170، والفتاوى الهندية 5 / 322، وحاشية ابن عابدين 5 / 247، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 63، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 113.(38/14)
كِتَابَتِهَا وَاجِبٌ، وَإِِِنْ تَرَكَ إِِصْلاَحَهُ أَثِمَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ لَيْسَ لَهُ بَل كَانَ عَارِيَّةً عِنْدَهُ، فَعَلَيْهِ إِِصْلاَحُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ، وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِِلاَّ بِرِضَا مَالِكِهِ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: مَحَل الْجَوَازِ إِِذَا كَانَ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ وَإِِِلاَّ فَلاَ (1) .
النَّقْطُ وَالشَّكْل وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ
19 - نُقِل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَرَاهَةُ إِِدْخَال شَيْءٍ مِنَ النَّقْطِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَرُوا بِتَجْرِيدِ الْمُصْحَفِ مِنْ ذَلِكَ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جَرِّدُوا الْمُصْحَفَ وَلاَ تَخْلِطُوهُ بِشَيْءِ، وَكَرِهَ النَّخَعِيُّ نَقْطَ الْمَصَاحِفِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ النَّقْطَ وَالْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ.
وَكَانَ الْمُصْحَفُ الْعُثْمَانِيُّ خَالِيًا مِنَ النَّقْطِ حَتَّى إِِنَّ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَالِثَاءَ مَثَلاً كَانَتْ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لاَ تَتَمَيَّزُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِِِنَّمَا يَعْرِفُهَا الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى.
وَالنَّقْطُ كَانَ أَوَّلاً لِبَيَانِ إِِعْرَابِ الْحُرُوفِ، أَيْ حَرَكَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَهُ
__________
(1) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 4 / 507، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي عليه 3 / 19.(38/14)
أَبُو الأَْسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ عَلاَمَاتُ الشَّكْل الَّتِي اخْتَرَعَهَا الْخَلِيل بْنُ أَحْمَدَ، وَاسْتُخْدِمَ النَّقْطُ لِتَمْيِيزِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ.
وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ، قَال رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لاَ بَأْسَ بِشَكْلِهِ وَقَال مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالنَّقْطِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، أَمَّا الأُْمَّهَاتُ فَلاَ.
وَقَال ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيُّ: لاَ يُشْكَل إِِلاَّ مَا يُشْكِل.
وَقَال النَّوَوِيُّ: نَقْطُ الْمُصْحَفِ وَشَكْلُهُ مُسْتَحَبٌّ لأَِنَّهُ صِيَانَةٌ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ، قَال: وَأَمَّا كَرَاهَةُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ النَّقْطَ فَإِِِنَّمَا كَرِهَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَوْفًا مِنَ التَّغْيِيرِ فِيهِ، وَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلاَ مَنْعَ (1) .
وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَل مُنْذُ أَمَدٍ طَوِيلٍ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَالْعَمَل عَلَى قَوْل ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيِّ.
__________
(1) المحكم في نقط المصاحف للداني ص 2 وما بعدها، ط1 دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد، 1960م، وتفسير القرطبي 1 / 63، 59، والفتاوى الهندية 5 / 323، وابن عابدين 5 / 247، والإتقان في علوم القرآن 2 / 171، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 113.(38/15)
التَّعْشِيرُ وَالتَّحْزِيبُ وَالْعَلاَمَاتُ الأُْخْرَى فِي الْمَصَاحِفِ
20 - التَّعْشِيرُ: أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُل عَشْرِ آيَاتٍ، وَالتَّخْمِيسُ: أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُل خَمْسٍ، وَالتَّحْزِيبُ أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ مُبْتَدَإِ كُل حِزْبٍ.
وَمِنْ أَوَّل الْعَلاَمَاتِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ جَعْل ثَلاَثِ نِقَاطٍ عِنْدَ رُءُوسِ الآْيِ، قَال يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمَصَاحِفِ إِِلاَّ النُّقَطَ الثَّلاَثَ عِنْدَ رُءُوسِ الآْيِ، وَقَال غَيْرُهُ: أَوَّل مَا أَحْدَثُوا النُّقَطُ عِنْدَ آخِرِ الآْيِ، ثُمَّ الْفَوَاتِحُ وَالْخَوَاتِمُ، أَيْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَخَوَاتِمُهَا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ (انْظُرْ: تَعْشِيرٌ ف 3) ، وَرَخَّصَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَل عَلَى إِِدْخَال تِلْكَ الْعَلاَمَاتِ لِنَفْعِهَا لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَأُدْخِلَتْ أَيْضًا عَلاَمَاتُ السَّجَدَاتِ وَالْوُقُوفِ وَأَسْمَاءُ السُّوَرِ وَعَدَدُ الأَْجْزَاءِ وَعَدَدُ الآْيَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِوَضْعٍ يُمَيِّزُهَا عَمَّا هُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ
21 - اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 2 / 117، وتفسير القرطبي 1 / 63، 59.(38/15)
عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَإِِِلَى هَذَا الأَْخِيرِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَبَيَّنَ الْخَطَّ جَازَ (1) .
تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ الَّذِي يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ جِلْدُهُ مِنْ خَارِجٍ لاَ كِتَابَتُهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازُوا أَيْضًا كِتَابَتَهُ فِي الْحَرِيرِ وَتَحْلِيَتَهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَحْرِيمِهِ بِالذَّهَبِ فِي مَصَاحِفِ الرِّجَال.
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 449، مثله في فتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 323.(38/16)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى كَرَاهَةِ تَحْلِيَتِهِ بِشَيْءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ، وَقَال ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ سَوَاءٌ حَلاَّهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ (1) .
بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَشِرَاؤُهُ
23 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَشِرَائِهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِِلَى كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، لِمَا فِي تَدَاوُلِهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنَ الاِبْتِذَال، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهِيَةُ بَيْعِهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِِِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، قَال ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الأَْيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَدِّدُونَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِِلَى إِِجَازَةِ بَيْعِهَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 323، وابن عابدين 1 / 658، والمجموع للنووي 6 / 42، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 24، 25، وشرح منتهى الإرادات 1 / 73.(38/16)
وَبَدَل عَمَل يَدِ الْكَاتِبِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ، قَال الشَّعْبِيُّ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ، إِِنَّمَا يَبِيعُ الْوَرَقَ وَعَمَل يَدَيْهِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ - وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَرِهُوا الْبَيْعَ - وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ وَيَصِحُّ - وَأَجَازُوا الشِّرَاءَ وَالاِسْتِبْدَال، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ وَلاَ تَبِعْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ ابْتِذَالاً بِخِلاَفِ الشِّرَاءِ، فَفِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِلْمَال فِي سَبِيل اقْتِنَائِهِ وَذَلِكَ إِِكْرَامٌ، قَالُوا: وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ كَرَاهَةُ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ وَرِبَاعِهَا، وَشِرَاءِ أَرْضِ السَّوَادِ، لاَ يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْبَائِعِ (1) .
إِِجَارَةُ الْمُصْحَفِ
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِِجَارَةِ الْمُصْحَفِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ أَكْثَرُ مِنَ النَّظَرِ إِِلَيْهِ، وَلاَ تَجُوزُ الإِِِْجَارَةُ لِمِثْل ذَلِكَ، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إِِلَى مَا فِيهِ مِنَ النُّقُوشِ أَوِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 18، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 157، والإتقان للسيوطي 2 / 172، والمغني 4 / 263، وشرح المنتهى 2 / 143.(38/17)
التَّصَاوِيرِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ كَرْمًا لِيَنْظُرَ فِيهِ لِلاِسْتِئْنَاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِِجَارَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَنَوْا تَحْرِيمَ إِِجَارَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، قَالُوا: وَلِمَا فِي إِِجَارَتِهِ مِنَ الاِبْتِذَال لَهُ.
وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَقَدْ مَنَعَ إِِجَارَتَهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ، لأَِنَّ الأُْجْرَةَ تَكُونُ كَالثَّمَنِ لِلْقُرْآنِ، أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَالْخَطِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ إِِجَارَةِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، قَالُوا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِإِِِجَارَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِِِلاَّ كُرِهَتْ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الإِِِْعَارَةُ فِيهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الإِِِْجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا (1) .
رَهْنُ الْمُصْحَفِ
25 - الْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَلِذَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ كُل مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 449، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 20، والمغني 5 / 504، وشرح المنتهى 2 / 357.(38/17)
يُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ رَهْنُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ (1) .
وَقْفُ الْمُصْحَفِ
26 - يَجُوزُ وَقْفُ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولاَتِ لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِوَقْفِ الْمَصَاحِفِ، وَإِِِلَى قَوْلِهِ هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل غَيْرِهِمْ بِجِوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولاَتِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِهَا كَسَائِرِ الْمَنْقُولاَتِ غَيْرِ آلاَتِ الْجِهَادِ.
ثُمَّ إِِنْ وَقَفَهُ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَجُوزُ، وَيَقْرَأُ بِهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ بِعَيْنِهِ (2) .
إِِرْثُ الْمُصْحَفِ
27 - يُورَّثُ الْمُصْحَفُ عَلَى الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ كُل مَمْلُوكٍ يُورَّثُ عَنْ مَالِكِهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدً الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُورَّثُ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدَانِ أَحَدُهُمَا
__________
(1) المغني 4 / 343، والفتاوى الهندية 5 / 435.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 361.(38/18)
قَارِئٌ وَالآْخَرُ غَيْرُ قَارِئٍ، يُعْطَى الْمُصْحَفُ لِلْقَارِئِ (1) .
الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمُصْحَفِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ آخُذَهُ يَتَأَوَّل فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ مَالِيَّةَ لَهُ لاِعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَإِِِنَّمَا يُقْتَنَى الْمُصْحَفُ لأَِجْلِهِ، لاَ لأَِجْل أَوْرَاقِهِ أَوْ جِلْدِهِ.
وَيَسْرِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا عَلَى الْمُصْحَفِ مِنَ الْحِلْيَةِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لَهُ، وَلِلتَّابِعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ، كَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلاَ يُقْطَعُ بِهَا، لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَلاَ قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقَل عَنِ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ كَلاَمِ الإِِِْمَامِ أَحْمَدَ إِِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلأَِنَّهُ
__________
(1) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 5 / 486، والفتاوى الهندية 2 / 361، والإتقان للسيوطي 2 / 172.(38/18)
مُتَقَوِّمٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا (1) .
مَنْعُ الْكَافِرِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمُصْحَفِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ
29 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْكَافِرُ مُصْحَفًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِِِْهَانَةِ فَإِِِنِ اشْتَرَاهُ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ، وَاحْتَجَّ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ حُرْمَةَ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ، لَكِنْ إِِنْ بَاعَهُ لَهُ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيُؤْمَرُ فِي الْحَال بِإِِِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ (3) .
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ وَكَّل الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِشِرَاءِ مُصْحَفٍ لَمْ يَصِحَّ لأَِنَّ الْمِلْكَ لَهُ يَقَعُ، وَلَوْ وَكَّل الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِالشِّرَاءِ صَحَّ لأَِنَّهُ يَقَعُ لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَا لَوْ قَارَضَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَاشْتَرَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 177، وابن عابدين 3 / 199، والمغني 8 / 247.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 115، والمغني 4 / 292، والقليوبي على شرح المنهاج 2 / 156. شرح المنهاج 2 / 156. وحديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر. . . ". # أخرج البخاري (فتح الباري 10 / 133) الشطر الأول منه، وأخرجه مسلم (3 / 1491) بتمامه.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن ص 113.(38/19)
الْكَافِرُ مُصْحَفًا لِلْقِرَاضِ صَحَّ، لأَِنَّهُ لِلْقِرَاضِ، وَلاَ مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ (1) .
وَلاَ تَصِحُّ هِبَةُ الْكَافِرِ مُصْحَفًا وَلاَ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِهِ (2) .
وَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُصْحَفِ عَلَى كَافِرٍ (3) .
وَيَحْرُمُ أَنْ يُعْطِيَ كَافِرًا مُصْحَفًا عَارِيَّةً لِيَقْرَأَ فِيهِ وَيَرُدَّهُ، وَلاَ تَصِحُّ الإِِِْعَارَةُ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: تَصِحُّ الإِِِْعَارَةُ فِيهِ مَعَ الْحُرْمَةِ (4) .
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ وَعَمَلُهُ فِي نَسْخِ الْمَصَاحِفِ وَتَصْنِيعِهَا
30 - يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ الْجُنُبُ، بَل الْكَافِرُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ اغْتَسَل أَوْ لَمْ يَغْتَسِل، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: إِِنِ اغْتَسَل جَازَ أَنْ يَمَسَّهُ، وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ الْمَنْعَ مُطْلَقًا (5) .
وَيُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنَ الْعَمَل فِي تَصْنِيعِ الْمَصَاحِفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ تَجْلِيدِ الْمُصْحَفِ وَتَذْهِيبِهِ، لَكِنْ
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 2 / 156، 3 / 57.
(2) المغني 6 / 104.
(3) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 99.
(4) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 19.
(5) الفتاوى الهندية 5 / 323، وابن عابدين 1 / 119، وشرح منتهى الإرادات 1 / 74.(38/19)
قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ الْكَافِرُ الْمَصَاحِفَ دُونَ مَسٍّ أَوْ حَمْلٍ (1) .
السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ إِِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
31 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمُسْلِمُ بِالْمُصْحَفِ إِِلَى بَلَدِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِئَلاَّ يَقَعَ فِي أَيْدِيهِمْ فَيُهِينُوهُ أَوْ يَمَسُّوهُ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِِِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: لاَ تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ (2) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ لاَ يُسَافَرَ بِالْمُصْحَفِ فِي السَّرَايَا وَالْعَسْكَرِ الضَّعِيفِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِِنْ كَانَ يُؤْمَنُ عَلَى الْمُصْحَفِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ مِنْ نَيْل الْعَدُوِّ لَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ السَّفَرَ بِهِ، وَذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بِهِ فِي جَيْشٍ كَبِيرٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 74، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 19، ومغني المحتاج 1 / 38.
(2) حديث: " لا تسافروا بالقرآن. . " تقدم تخريجه ف (29) .(38/20)
الثَّانِيَةُ: إِِذَا دَخَل إِِلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ، وَكَانُوا يُوفُونَ بِالْعَهْدِ، جَازَ أَنْ يَحْمِل الْمُصْحَفَ مَعَهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ أَيْضًا لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلَوْ فِي جَيْشٍ آمِنٍ، لأَِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ مِنْهُمْ وَلاَ يَشْعُرُونَ بِهِ فَيَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ فَتَنَالُهُ الإِِِْهَانَةُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: وَلَوْ أَنَّ الْعَدُوَّ طَلَبَ أَنْ يُرْسَل إِِلَيْهِمْ مُصْحَفٌ لِيَتَدَبَّرُوهُ، حَرُمَ إِِرْسَالُهُ إِِلَيْهِمْ خَشْيَةَ إِِهَانَتِهِمْ لَهُ، فَلَوْ أُرْسِل إِِلَيْهِمْ كِتَابٌ فِيهِ آيَةٌ أَوْ نَحْوُهَا لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ (1) ، وَقَدْ أَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِلَى هِرَقْل كِتَابًا فِي ضِمْنِهِ الآْيَةُ: {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (2) الآْيَةَ.
اسْتِثْنَاءُ الْمُصْحَفِ مِنْ جَزَاءِ الْغَال بِحَرْقِ مَتَاعِهِ
32 - إِِنْ غَل أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي الْجِهَادِ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ - خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ - إِِلَى أَنَّهُ يُحْرَقُ مَتَاعُهُ، لَكِنْ لاَ يُحْرَقُ الْمُصْحَفُ، لِمَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ، قَال: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُل قَدْ غَل، فَسَأَل سَالِمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 223، 224، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 178، والمغني 1 / 149، وشرح المنتهى 1 / 73، وفتح الباري 6 / 134 ط السلفية، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 113.
(2) سورة آل عمران / 64.(38/20)
عَنْهُ فَقَال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُل قَدْ غَل فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ (1) ، قَال: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَل سَالِمًا عَنْهُ فَقَال: بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ (2) .
الرِّدَّةُ بِإِِِهَانَةِ الْمُصْحَفِ
33 - إِِذَا أَهَانَ الْمُسْلِمُ مُصْحَفًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا يَكُونُ مُرْتَدًّا وَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَطِئَ بِرِجْلِهِ الْمُصْحَفَ اسْتِخْفَافًا وَإِِِهَانَةً يَكُونُ كَافِرًا، وَكَذَا مَنْ أَمَرَ بِوَطْئِهِ يَكُونُ كَافِرًا (3) .
وَلَوْ أَلْقَى مُصْحَفًا فِي قَاذُورَةٍ مُتَعَمِّدًا قَاصِدًا الإِِِْهَانَةَ فَقَدِ ارْتَدَّ عِنْدَ الْجَمِيعِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَكَذَا لَوْ مَسَّهُ بِالْقَاذُورَةِ وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً كَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ.
فَإِِِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ فِي نَوْمٍ لَمْ يَكْفُرْ.
وَكَذَا إِِنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا فَفَعَلَهُ
__________
(1) حديث: " إذا وجدتم الرجل قد غل. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 157) والترمذي (4 / 61) وقال: حديث غريب، ونقل عن البخاري تضعيفه.
(2) المغني 8 / 471.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 284، 56، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 176، ومنار السبيل شرح دليل الطالب 2 / 404.(38/21)
لاَ يَكْفُرُ (1) .
الْحَلِفُ بِالْمُصْحَفِ
34 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ لَيْسَ بِيَمِينِ لأَِنَّهُ الْوَرَقُ وَالْجِلْدُ وَلَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلاَ اسْمًا لَهُ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِِلاَّ بِاللَّهِ (2) .
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ بِهِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ إِِنْ لَمْ يَفِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ وَرَغِبَ الْعَوَامُّ فِي الْحَلِفِ بِهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا أَيْضًا، وَإِِِلاَّ لَكَانَ الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ يَمِينًا لأَِنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَكَذَا بِحَيَاةِ رَأْسِكَ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَقُل بِذَلِكَ أَحَدٌ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ لَوْ أَقْسَمَ بِمَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ يَمِينًا (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ يَمِينٌ.
قَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: يُنْدَبُ وَضْعُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 119، وشرح المنهاج 4 / 176.
(2) حديث: " من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 530) ، ومسلم (3 / 1268) .
(3) فتح القدير 3 / 10، وبدائع الصنائع 3 / 8، 9، والفتاوى الهندية 2 / 52، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 2 / 5، وابن عابدين 3 / 52.(38/21)
الْمُصْحَفِ فِي حِجْرِ الْحَالِفِ بِهِ وَأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ (1) . {إِِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إِِمَامُنَا وَإِِِسْحَاقُ لأَِنَّ الْحَالِفَ بِالْمُصْحَفِ إِِنَّمَا قَصَدَ الْحَلِفَ بِالْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُقِل عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ (3) .
آدَابُ تَنَاوُل الْمُصْحَفِ وَتَكْرِيمِهِ وَحِفْظِهِ
35 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْبِيل الْمُصْحَفِ فَقِيل: هُوَ جَائِزٌ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُهُ، تَكْرِيمًا لَهُ، وَقِيل: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ تُعْهَدْ عَنِ السَّلَفِ (4) ، وَانْظُرْ (تَقْبِيلٌ ف 17) .
وَأَمَّا الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ فَقَال النَّوَوِيُّ وَصَوَّبَهُ السُّيُوطِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ إِِذَا قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ بِهِ، وَلأَِنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ لِلْفُضَلاَءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالأَْخْيَارِ، فَالْمُصْحَفُ أَوْلَى، وَقَال الشَّيْخُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 127، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 271، ونهاية المحتاج 8 / 167.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) المغني 8 / 695، ومطالب أولي النهى 6 / 361.
(4) ابن عابدين 1 / 162، 1 / 246، والإتقان للسيوطي 2 / 172، وشرح المنتهى 1 / 73.(38/22)
عِزُّ الدِّينِ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ تُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل (1) .
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنْوَاعًا مِنْ تَكْرِيمِ الْمُصْحَفِ.
فَمِنْ ذَلِكَ تَطْيِيبُهُ، وَجَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ لِئَلاَّ يُوضَعَ بِالأَْرْضِ، وَإِِِنْ كَانَ مَعَهُ كُتُبٌ أُخْرَى يُوضَعُ فَوْقَهَا وَلاَ يُوضَعُ تَحْتَ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَمَّا تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ ذَلِكَ ابْتِذَالٌ لَهُ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ خَافَ سَرِقَتَهُ أَيْ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ وَضْعُ الْمُصْحَفِ تَحْتَ رَأْسِهِ إِِلاَّ لِحِفْظِهِ مِنْ سَارِقٍ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَدُّ رِجْلَيْهِ إِِلَى جِهَةِ الْمُصْحَفِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - يُكْرَهُ تَحْرِيمًا مَدُّ رِجْلَيْهِ أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْبَالِغِ أَوِ الصَّبِيِّ عَمْدًا وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إِِلَى جَانِبِ الْمُصْحَفِ إِِنْ لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ لاَ يُكْرَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مُعَلَّقًا فِي الْوَتَدِ.
__________
(1) الإتقان للسيوطي 2 / 172، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 112.(38/22)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ مَدُّ رِجْلِهِ إِِلَى جِهَةِ الْمُصْحَفِ لاَ بِقَصْدِ الإِِِْهَانَةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إِِلَى جِهَةِ الْمُصْحَفِ (1) .
مَا يُصْنَعُ بِالْمُصْحَفِ إِِذَا بَلِيَ
36 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُصْحَفَ إِِذَا بَلِيَ وَصَارَ بِحَال لاَ يُقْرَأُ فِيهِ يُجْعَل فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ وَيُدْفَنُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ لاَ يُوطَأُ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إِِذَا مَاتَ يُدْفَنُ إِِكْرَامًا لَهُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يُهَال عَلَيْهِ التُّرَابُ إِِلاَّ إِِذَا جُعِل فَوْقَهُ سَقْفٌ بِحَيْثُ لاَ يَصِل إِِلَيْهِ التُّرَابُ.
وَقَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ إِِحْرَاقُهُ بِالنَّارِ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ إِِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ إِِحْرَاقُهُ، بَل رُبَّمَا وَجَبَ، وَذَلِكَ إِِكْرَامٌ لَهُ، وَصِيَانَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِالأَْقْدَامِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدْ فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْنَ كَتَبَ الْمَصَاحِفَ وَبَعَثَ بِهَا إِِلَى الأَْمْصَارِ، فَقَدْ أَمَرَ بِمَا سِوَاهَا مِنْ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ، وَوَافَقَهُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 119، 441، والفتاوى الهندية 5 / 322، ومغني المحتاج 1 / 38، والقليوبي 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 136.(38/23)
الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ بَلِيَ الْمُصْحَفُ أَوِ انْدَرَسَ دُفِنَ نَصًّا، ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ بَلِيَ لَهُ مُصْحَفٌ فَحَفَرَ لَهُ فِي مَسْجِدِهِ فَدَفَنَهُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَرَّقَتْهُ لَمَّا جَمَعُوهُ، وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي دَاوُدَ رَوَى بِإِِِسْنَادِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ قَال: دَفَنَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، وَبِإِِِسْنَادِهِ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا أَنْ تُحْرَقَ الْكُتُبُ، وَقَال: إِِنَّ الْمَاءَ وَالنَّارَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 322، وابن عابدين 1 / 119، وتفسير القرطبي 1 / 54.
(2) فتاوى ابن تيمية 2 / 599، وكشاف القناع 1 / 137.(38/23)
مُصَدِّقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصَدِّقُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الدَّال فِي اللُّغَةِ: آخِذُ الصَّدَقَاتِ مِنْ جِهَةِ الإِِِْمَامِ، أَيْ يَقْبِضُهَا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْبَرَكَتِيُّ وَعَزَاهُ لِلْبَحْرِ: الْمُصَدِّقُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ: اسْمُ جَنْسٍ لِلسَّاعِي وَالْعَاشِرِ (1) .
الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
2 - يَجِبُ عَلَى الإِِِْمَامِ أَنْ يُرْسِل الْمُصَدِّقِينَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى الأَْصْنَافِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ السُّعَاةَ وَالْجُبَاةَ إِِلَى أَصْحَابِ الأَْمْوَال وَكَذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ بَعْدِهِ يَبْعَثُونَ مُصَدِّقِينَ لِذَلِكَ.
شُرُوطُ الْمُصَدِّقِ إِِذَا كَانَ عَامَّ الْوِلاَيَةِ فِيهَا
3 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَدِّقُ مُسْلِمًا، حُرًّا، عَادِلاً، عَالَمًا بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ (2) .
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي، ولسان العرب.
(2) قليوبي 3 / 23، والمجموع 6 / 167 - 169، والأحكام السلطانية للماوردي 116.(38/24)
هَذَا إِِذَا كَانَ عَامَّ الْوِلاَيَةِ فِي الصَّدَقَةِ:
جَمْعِهَا وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، فَيَعْمَل عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ لاَ اجْتِهَادِ الإِِِْمَامِ، فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلإِِِْمَامِ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ.
وَإِِِنْ كَانَ الْمُصَدِّقُ مِنْ عُمَّال التَّنْفِيذِ عَمِل فِيمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِ الإِِِْمَامِ دُونَ أَرْبَابِ الأَْمْوَال، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَ عَلَى الإِِِْمَامِ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ، وَيَكُونُ رَسُولاً مِنَ الإِِِْمَامِ مُنَفِّذًا لاِجْتِهَادِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (زَكَاةٌ ف 144 - وَعَامِلٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) المجموع 6 / 167 - 169، والمحلي مع القليوبي 3 / 203، والأحكام السلطانية للماوردي 116.(38/24)
مِصْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِصْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَدِينَةُ وَالصُّقْعُ، وَالْحَاجِزُ، وَالْحَدُّ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوِ الْحَدُّ بَيْنَ الأَْرْضَيْنِ، قَال الْجَوْهَرِيُّ: مِصْرُ: هِيَ الْمَدِينَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَالْمِصْرُ: وَاحِدُ الأَْمْصَارِ، وَالْمِصْرُ: الْكُورَةُ وَالْجَمْعُ أَمْصَارٌ، وَمَصَّرُوا الْمَوْضِعَ: جَعَلُوهُ مِصْرًا (1) .
وَالْمِصْرُ اصْطِلاَحًا: بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَرَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إِِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ إِِلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ (2) .
مَا يَلْحَقُ بِالْمِصْرِ مِنْ فِنَاءٍ وَتَوَابِعَ:
2 - الْمُرَادُ بِالْفِنَاءِ: الْمَكَانُ أَوِ الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَبْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِِِلْقَاءِ التُّرَابِ، وَفِنَاءُ الشَّيْءِ: مَا اتَّصَل بِهِ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِ (3) .
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فِنَاءُ الْمِصْرِ: هُوَ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) بدائع الصنائع 1 / 260، والقليوبي 3 / 125، والفواكه الدواني 1 / 305.
(3) التعريفات للجرجاني ص 217.(38/25)
الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْمِصْرِ مُتَّصِلاً بِالْمِصْرِ (1) .
وَأَمَّا تَوَابِعُ الْمِصْرِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ سَمَاعُ النِّدَاءِ إِِنْ كَانَ مَوْضِعًا يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ مِنَ الْمِصْرِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِِذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ دُخُول الْمِصْرِ إِِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ.
وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: كُل قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِرَبَضِ الْمِصْرِ فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالرَّبَضِ فَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مِيلٍ وَهُوَ ثَلاَثَةُ فَرَاسِخَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِِنْ كَانَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ، وَمَالِكٌ قَدَّرَهُ بِثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَرْيَةُ:
3 - الْقَرْيَةُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الأَْبْنِيَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 145، وانظر بدائع الصنائع 1 / 260، والمبسوط 2 / 24.
(2) بدائع الصنائع 1 / 260، وروضة الطالبين 2 / 37 وجواهر الإكليل 1 / 96.(38/25)
وَاتُّخِذَ قَرَارًا، وَتَقَعُ عَلَى الْمُدُنِ وَغَيْرِهَا وَالْجَمْعُ قُرًى، وَالْقَرْيَةُ الضَّيْعَةُ، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمَسَاكِنِ وَالأَْبْنِيَةِ وَالضِّيَاعِ (1) .
وَالْقَرْيَةُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْكَاسَانِيُّ: بِأَنَّهَا الْبَلْدَةُ الْعَظِيمَةُ لأَِنَّهَا اسْمٌ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهَا مِنَ الْبُيُوتِ.
وَعَرَفَهَا الْقَلْيُوبِيُّ: بِأَنَّهَا الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ وَلاَ شُرْطِيٌّ وَلاَ أَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلَةِ (2) .
وَالْمِصْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقَرْيَةِ (3) .
ب - الْبَلَدُ:
4 - الْبَلَدُ فِي اللُّغَةِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ بُلْدَانٌ، وَالْبَلْدَةُ الْبَلَدُ جَمْعُهَا بِلاَدٌ، وَالْبَلَدُ: اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُخْتَطِّ الْمَحْدُودِ الْمُسْتَأْنَسِ بِاجْتِمَاعِ قُطَّانِهِ وَإِِِقَامَتِهِمْ فِيهِ، وَيَسْتَوْطِنُ فِيهِ جَمَاعَاتٌ، وَيُسْمَى الْمَكَانُ الْوَاسِعُ مِنَ الأَْرْضِ بَلَدًا (4) .
وَالْبَلَدُ اصْطِلاَحًا: كَمَا عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ: مَا
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) بدائع الصنائع 1 / 259، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 125، ومغني المحتاج 2 / 419.
(3) بدائع الصنائع 1 / 259، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 125، مغني المحتاج 2 / 419.
(4) لسان العرب والمصباح المنير.(38/26)
فِيهِ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ أَوْ شُرْطِيٌّ أَوْ أَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلَةِ، وَإِِِنْ جَمَعَتِ الْكُل فَمِصْرٌ وَمَدِينَةٌ وَإِِِنْ خَلَتْ عَنِ الْكُل فَقَرْيَةٌ (1) .
وَالْمِصْرُ أَكْبَرُ مِنَ الْبَلَدِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِصْرِ:
أ - حُكْمُ الأَْذَانِ فِي الْمِصْرِ
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ إِِلَى أَنَّ الأَْذَانَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْمِصْرِ (2) .
وَقَال فِي شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ: وُجُوبُ الأَْذَانِ فِي الْمِصْرِ كِفَايَةٌ، وَوُجُوبُهُ فِي الْمِصْرِ هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَجَعَلَهُ الْمَذْهَبَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ تَرْكَ الأَْذَانِ فِي الْمِصْرِ مَكْرُوهٌ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ ف 5) .
ب - اشْتِرَاطُ الْمِصْرِ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا.
__________
(1) شرح المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 3 / 125.
(2) حاشية العدوي 1 / 221، وبداية المجتهد 1 / 92 - 93، والمغني لابن قدامة 1 / 417، والإنصاف 1 / 407.
(3) شرح الزرقاني 1 / 156.(38/26)
وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى هَذَا الشَّرْطَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فِقْرَةُ 7 - 8) .
ج - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا غَيْرُ أَهْل الْمِصْرِ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَامِعِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَإِِِنْ كَانَ أَبْعَدَ فَلاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَاللَّيْثِ وَإِِِسْحَاقَ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ (4) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلأَْعْمَى الَّذِي قَال: لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 259، والمبسوط 2 / 23، والفتاوى الهندية 1 / 145.
(2) مواهب الجليل 2 / 160، وبداية المجتهد 1 / 141، والمجموع شرح المهذب 4 / 488 - 501، والمغني لابن قدامة 2 / 360.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 360.
(4) حديث عبد الله بن عمرو: " الجمعة على من سمع النداء ". أخرجه أبو داود (1 / 640) وأشار إلى اختلاف في وقفه ورفعه، وذكره ابن حجر في (الفتح 2 / 385) وعزاه إلى أبي داود، وذكر أن الحديث التالي وهو حديث ابن أم مكتوم يؤيده.(38/27)
قَال: نَعَمْ! قَال: فَأَجِبْ (1) ، وَلأَِنَّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2) .
وَهَذَا يَتَنَاوَل غَيْرَ أَهْل الْمِصْرِ إِِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ، وَلأَِنَّ غَيْرَ أَهْل الْمِصْرِ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ وَهُمْ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ، فَلَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِِلَيْهَا كَأَهْل الْمِصْرِ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَافِعٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَكَمِ وَعَطَاءٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْل إِِلَى أَهْلِهِ (4) ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ جُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ، لأَِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْعِيدَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ثُمَّ قَال لأَِهْل الْعَوَالِي: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلْيَنْصَرِفْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يُصَلِّيَ
__________
(1) حديث: " أتسمع النداء؟ . . . ". أخرجه مسلم (1 / 452) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الجمعة / 9.
(3) المغني 2 / 360.
(4) المغني 2 / 360.
(5) حديث: " الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ". أخرجه الترمذي (2 / 377) وضعف إسناده، كما نقل عن أحمد بن حنبل استنكاره له.(38/27)
الْجُمُعَةَ فَلْيُقِمْ، وَلأَِنَّهُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَأَشْبَهَ الْحِل (1) .
د - إِِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ
8 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى مَنْعِ تَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ فِي أَعَمِّ الأَْحْوَال عَلَى اخْتِلاَفٍ يَسِيرٍ بَيْنَهُمْ فِي ضَابِطِ الْمَكَانِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 25) .
هـ - إِِنْشَاءُ السَّفَرِ مِنَ الْمِصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
9 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى حُرْمَةِ إِِنْشَاءِ السَّفَرِ بَعْدَ الزَّوَال (وَهُوَ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ) مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِِذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لاَ يُدْرِكُ أَدَاءَهَا فِي مِصْرٍ آخَرَ، فَإِِِنْ فَعَل ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ (2) .
وَأَمَّا قَبْل الزَّوَال فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ ف 19) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 260.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 553، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 283، ومواهب الجليل 1 / 169، وحاشية الدسوقي 1 / 387، ونهاية المحتاج 1 / 291، والقليوبي وعميرة 1 / 270، والمجموع شرح المهذب 4 / 497 - 498، والمغني لابن قدامة 2 / 362 - 363.(38/28)
مُصَرَّاةٌ
انْظُرْ: تَصْرِيَةٌ
مَصْلَحَةٌ
انْظُرْ: اسْتِصْلاَحٌ(38/28)
مُصَلًّى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصَلَّى لُغَةً: مَوْضِعُ الصَّلاَةِ أَوِ الدُّعَاءِ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ.
وَاصْطِلاَحًا: الْفَضَاءُ وَالصَّحْرَاءُ، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ فِيهِ لِلأَْعْيَادِ وَنَحْوِهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَسْجِدُ:
2 - الْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلاَةِ وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِِِْنْسَانِ، وَالْجَمْعُ مَسَاجِدُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْجَدُ لِلَّهِ فِيهِ، وَقَال الزَّجَّاجُ: كُل مَوْضِعٍ يُتَعَبَّدُ فِيهِ فَهُوَ مَسْجِدٌ (4) .
وَالْمَسْجِدُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا قَال الْبَرَكَتِيُّ:
الأَْرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا الْمَالِكُ مَسْجِدًا، بِقَوْلِهِ:
جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا وَأَفْرَزَ طَرِيقَهُ وَأَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِيهِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة البقرة / 125.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك / 336.
(4) اللسان، والمصباح المنير.
(5) قواعد الفقه للبركتي ص 383 - 384.(38/29)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ أَنَّ الْمُصَلَّى أَخَصُّ مِنَ الْمَسْجِدِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَلَّى:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُصَلَّى أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى سُنَّةٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى إِِلَى الْمُصَلَّى (2) ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلاَ يَتْرُكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْفْضَل مَعَ قُرْبِهِ وَيَتَكَلَّفُ فِعْل النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ، وَلاَ يَشْرَعُ لأُِمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِل، وَلأَِنَّنَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاِقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ بِمَسْجِدِهِ إِِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، وَلأَِنَّ هَذَا إِِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِِِنَّ النَّاسَ فِي كُل عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَخْرُجُونَ إِِلَى الْمُصَلَّى فَيُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى مَعَ سَعَةِ الْمَسْجِدِ وَضِيقِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 275، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه 1 / 581، والمغني لابن قدامة 2 / 372، وفتح القدير 2 / 41.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر. . . ". رواه البخاري (فتح الباري 2 / 448) من حديث أبي سعيد الخدري.(38/29)
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى مَعَ شَرَفِ مَسْجِدِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى مَنْدُوبَةٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَنُدِبَ إِِيقَاعُهَا أَيْ صَلاَةُ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى أَيِ الصَّحْرَاءِ، وَصَلاَتُهَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ بِدْعَةٍ (2) ، أَيْ مَكْرُوهَةٌ، وَقَال: وَالْحِكْمَةُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى لأَِجْل الْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ وَإِِِنْ كَبُرَتْ يَقَعُ الاِزْدِحَامُ فِيهَا وَفِي أَبْوَابِهَا بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ دُخُولاً وَخُرُوجًا فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ فِي مَحَل الْعِبَادَةِ (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى إِِلَى الْمُصَلَّى (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إِِنْ كَانَ وَاسِعًا فَهُوَ أَفْضَل مِنَ الْمُصَلَّى، لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ لَمْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 372.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 399، والقوانين الفقهية ص 90.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 399.
(4) حديث أبي سعيد الخدري: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ". سبق تخريجه آنفا.(38/30)
يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ، وَأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الصَّلاَةِ فِي الصَّحْرَاءِ بِمَا إِِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا، فَإِِِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِِلَى الْمُصَلَّى كُرِهَ ذَلِكَ لِتَأَذِّي النَّاسِ بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلاَةُ، قَال الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدِ إِِلَى الْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُ وَعَامَّةُ أَهْل الْبَلَدِ إِِلاَّ أَهْل مَكَّةَ فَإِِِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ صَلَّى بِهِمْ عِيدًا إِِلاَّ فِي مَسْجِدِهِمْ (1) .
ب - صَلاَةُ النِّسَاءِ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى اسْتِحْبَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ مِنْهُنَّ إِِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ (2) ، وَكَرَاهَةِ خُرُوجِ الشَّابَّاتِ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَإِِِذَا خَرَجْنَ يُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُنَّ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ (3) .
__________
(1) الأم للشافعي 1 / 234، والمجموع 5 / 4، وشرح المنهاج 2 / 394.
(2) مواهب الجليل 2 / 196، وحاشية الدسوقي 1 / 398، والأم للشافعي 1 / 241، والمجموع 5 / 8 - 9، والمغني 2 / 275، والإنصاف 2 / 472.
(3) بدائع الصنائع 1 / 275.(38/30)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 5)
ج - إِِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمُصَلَّى
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمُصَلَّى.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِمُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي مَنْعِ دُخُول الْحَائِضِ، وَإِِِنْ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ مَعَ عَدَمِ اتِّصَال الصُّفُوفِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُصَلَّى الْمُتَّخَذُ لِلْعِيدِ وَغَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لاَ يَحْرُمُ الْمُكْثُ فِيهِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبَهْ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ (2) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ: عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْمُصَلَّى الَّذِي بُنِيَ لِصَلاَةِ الْعِيدِ خَارِجَ الْبَلَدِ فَقَال: لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لِرَوَاتِبِ الصَّلاَةِ وَعُيِّنَ لَهَا حَتَّى لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَمَوْضِعُ صَلاَةِ الْعِيدِ مُعَدٌّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 194، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 66.
(2) المجموع 2 / 180.(38/31)
لِلاِجْتِمَاعَاتِ وَلِنُزُول الْقَوَافِل وَلِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَوِ اعْتَقَدُوهُ مَسْجِدًا لَصَانُوهُ عَنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ وَلَقُصِدَ لإِِِِقَامَةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَصَلَوَاتُ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ وَهُوَ لاَ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ بَل يُبْنَى لِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ، وَالصَّلاَةُ تَقَعُ فِيهِ بِالتَّبَعِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَى جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمُهَا اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ مُصَلَّى عِيدٍ، لأَِنَّهُ مَسْجِدٌ لاَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَلَيْسَ مَسْجِدًا (2) .
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 386.
(2) كشاف القناع 1 / 148، 149.(38/31)
مُصَوِّرٌ
انْظُرْ: تَصْوِيرٌ
مُصِيبَةٌ
انْظُرْ: اسْتِرْجَاعٌ
مَصِيدٌ
انْظُرْ: صَيْدٌ(38/32)
مُضَاجَعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضَاجَعَةُ مِنْ ضَاجَعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إِِذَا نَامَ مَعَهَا فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ضَجِيعُهَا وَهِيَ ضَجِيعَتُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْمُضَاجَعَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
أَحْكَامُ الْمُضَاجَعَةِ:
مُضَاجَعَةُ الرَّجُل الرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل مُضَاجَعَةُ الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَجَرِّدَيْنِ لاَ حَاجِزَ بَيْنَهُمَا، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُفْضِي الرَّجُل إِِلَى الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلاَ تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ (2) ، وَأَمَّا إِِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا (3) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ الْكَلاَمَ عَلَى الْمُضَاجَعَةِ
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) حديث: " لا يفضي الرجل إلى الرجل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 266) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 245.(38/32)
فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَلاَصُقُ بَالِغَيْنِ بِعَوْرَتَيْهِمَا بِغَيْرِ حَائِلٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَصَدَا لَذَّةً أَوْ وَجَدَاهَا، أَوْ قَصَدَا وَوَجَدَا، أَوْ لاَ قَصَدَا وَلاَ وَجَدَا، سَوَاءٌ كَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَمْ لاَ.
قَالُوا: وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَلاَصُقُ بَالِغَيْنِ بِعَوْرَتَيْهِمَا وَلَوْ كَانَ بِحَائِلٍ: مَعَ قَصْدِ لَذَّةٍ، أَوْ وُجُودِهَا، أَوْ قَصْدِ اللَّذَّةِ وَوُجُودِهَا، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ.
وَأَمَّا إِِذَا كَانَ تَلاَصُقُهُمَا بِحَائِلٍ بِدُونِ قَصْدِ لَذَّةٍ، وَبِدُونِ وُجُودِهَا فَيُكْرَهُ. وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ إِِذَا كَانَ تَلاَصُقُهُمَا بِغَيْرِ عَوْرَتَيْهِمَا مَعَ غَيْرِ حَائِلٍ، إِِلاَّ لِقَصْدِ لَذَّةٍ، أَوْ وِجْدَانِهَا فَيَحْرُمُ فِيمَا يَظْهَرُ.
وَأَمَّا تَلاَصُقُ غَيْرِ عَوْرَتَيْهِمَا بِحَائِلٍ فَجَائِزٌ.
وَجَازَ اجْتِمَاعُ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي كِسَاءٍ وَاحِدٍ وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ وَسَطُ الْكِسَاءِ حَائِلاً حَيْثُ لَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَوْرَةَ صَاحِبِهِ وَلاَ مَسَّهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَوْمُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، حَيْثُ وُجِدَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الْمُمَاسَّةَ لِلأَْبْدَانِ، وَيَحْرُمُ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية الزرقاني 1 / 150، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 451، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 420، 421.(38/33)
مَعَ الْعُرْيِ وَإِِِنْ تَبَاعَدَا أَوِ اتَّحَدَ الْجَنْسُ وَكَانَ مَحْرَمِيَّةٌ كَأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ وُجِدَ صَغِيرٌ لَكِنْ مَعَ بُلُوغِ عَشْرِ سِنِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَجَرَّدَ ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ فِي إِِزَارٍ أَوْ لِحَافٍ وَلاَ ثَوْبَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمَا (2) .
مُضَاجَعَةُ الصِّبْيَانِ الصِّبْيَانَ
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْمَضَاجِعِ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمِ: وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ (3) ، وَقِيل: لِسَبْعٍ، وَقِيل: لَيْسَتْ، سَوَاءٌ كاَنَ بَيْنَ أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ أَخٍ وَأُخْتٍ، أَوْ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِِلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْعَشْرِ، وَالأَْقْوَى عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى التَّفْرِقَةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 213.
(2) الآداب الشرعية 3 / 543.
(3) حديث: " وفرقوا بينهم في المضاجع وهم أبناء عشر. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 334) وأحمد (2 / 180) ، وصححه أحمد شاكر في تخريجه لمسند الإمام أحمد (10 / 217 - 218) .
(4) ابن عابدين 5 / 244 - 245، والقوانين الفقهية ص 451، وحاشية الزرقاني 1 / 150، وروضة الطالبين 7 / 28، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 543، 544.(38/33)
يَكُونَ لِكُل وَاحِدٍ ثَوْبٌ، بَل فِرَاشٌ مُسْتَقِلٌّ:
غِطَاءٌ وَوِطَاءٌ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: تَحْصُل التَّفْرِقَةُ وَلَوْ بِثَوْبٍ حَائِلٍ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا إِِنْ لَمْ يَبْلُغُوا الْعَشْرَ فَلاَ حَرْجَ، لأَِنَّ طَلَبَ الْوَلِيِّ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْمَضَاجِعِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (1) .
مُضَاجَعَةُ الصِّبْيَانِ الْكِبَارَ
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَبَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي الْمَضَاجِعِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إِِلَى الْفِتْنَةِ وَلَوْ بَعْدَ حَيْنٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: إِِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرًا لاَ يَنَامُ مَعَ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَامْرَأَةٍ إِِلاَّ امْرَأَتَهُ، وَهَذَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ، فَإِِِنَّ الْوَلَدَ إِِذَا بَلَغَ عَشْرًا عَقَل الْجِمَاعَ، وَلاَ دِيَانَةَ لَهُ تَرُدُّهُ، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ، فَإِِِنَّ النَّوْمَ وَقْتَ رَاحَةٍ، مُهَيِّجٌ لِلشَّهْوَةِ، وَتَرْتَفِعُ فِيهِ الثِّيَابُ عَنِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَيُؤَدِّي إِِلَى الْمَحْذُورِ، وَإِِِلَى الْمُضَاجَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ يَنَامُ مَعَ وَالِدَيْهِ فِي فِرَاشِهِمَا، لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا،
__________
(1) حاشية الزرقاني 1 / 150.(38/34)
بِخِلاَفِ مَا إِِذَا كَانَ نَائِمًا وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ أَبِيهِ وَحْدَهُ، أَوِ الْبِنْتُ مَعَ أُمِّهَا وَحْدَهَا.
وَلاَ يُتْرَكُ أَيْضًا أَنْ يَنَامَ مَعَ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّيْنِ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِِذَا كَانَ صَبِيحًا، فَإِِِنَّهُ وَإِِِنْ لَمْ يَحْصُل فِي تِلْكَ النُّوَمَةِ شَيْءٌ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَلْبُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، فَتَحْصُل الْفِتْنَةُ بَعْدَ حَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الأُْمُورِ يَقَعُ فِي الْمَحْذُورِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ تَلاَصَقَ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ بِغَيْرِ حَائِلٍ فَحَرَامٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ، مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَالْكَرَاهَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَلِيِّهِ، وَأَمَّا بِحَائِل فَمَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ إِِلاَّ لِقَصْدِ لَذَّةٍ فَحَرَامٌ.
وَأَمَّا رَجُلٌ وَأُنْثَى فَلاَ شَكَّ فِي حُرْمَةِ تَلاَصُقِهِمَا تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ وَلَوْ بِغَيْرِ عَوْرَةٍ، وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ (2) ، لأَِنَّ الرَّجُل لاَ يَحِل لَهُ الاِخْتِلاَطُ بِالأُْنْثَى، فَضْلاً عَنْ تَلاَصُقِهِمَا (3) .
مُضَاجَعَةُ الْحَائِضِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجْتَنِبُ الزَّوْجُ مُضَاجَعَةَ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ إِِذَا سَتَرَتْ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 244، 245.
(2) حاشية العدوي مع شرح الرسالة 2 / 421.
(3) الفواكه الدواني 2 / 409.(38/34)
قَال الشِّيرَازِيُّ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَال: وَقَدْ نَقَل ابْنُ جَرِيرٍ إِِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَدَلاَئِلُهُ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِِلاَّ النِّكَاحَ (1) ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمَعْنَاهُ، مَعَ الإِِِْجْمَاعِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْضٌ ف 42) .
__________
(1) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". أخرجه مسلم (1 / 246) .
(2) المجموع 2 / 543.(38/35)
مُضَارَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضَارَبَةُ فِي اللُّغَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ ضَرَبَ فِي الأَْرْضِ: إِِذَا سَارَ فِيهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ} (1) وَهِيَ: أَنْ تُعْطِيَ إِِنْسَانًا مِنْ مَالِكَ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَكُمَا، أَوْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّبْحِ (2) .
وَتَسْمِيَةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الاِسْمِ فِي لُغَةِ أَهْل الْعِرَاقِ، أَمَّا أَهْل الْحِجَازِ فَيُسْمَوُنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا أَوْ مُقَارَضَةً، قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهَا مِنَ الْقَرْضِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ قُطْعُهَا بِالسَّيْرِ فِيهَا (3) .
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّسْمِيَةَ بِالْمُضَارَبَةِ، وَاخْتَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ التَّسْمِيَةَ بِالْقِرَاضِ (4) .
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) لسان العرب.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(4) بدائع الصنائع 6 / 79، والاختيار 2 / 19، والشرح الصغير 3 / 681، وروضة الطالبين 5 / 117، وكشاف القناع 3 / 508.(38/35)
وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ: عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ جَانِبٍ، وَعَمَلٍ مِنْ جَانِبٍ (1) ،.
وَلاَ تَخْرَجُ تَعْرِيفَاتُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِِْبْضَاعُ
2 - الإِِِْبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَبْضَعَ، يُقَال أَبْضَعَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ بِضَاعَةً، وَهِيَ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ، وَيُقَال: أَبْضَعْتَهُ غَيْرِي: جَعَلْتُهُ لَهُ بِضَاعَةً وَاسْتَبْضَعْتُهُ: جَعَلْتُهُ بِضَاعَةً لِنَفْسِي (3) .
وَالإِِِْبْضَاعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: بَعْثُ الْمَال مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ مُتَبَرِّعًا (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالإِِِْبْضَاعِ أَخْذُ مَالٍ مِنْ مَالِكِهِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ آخِذُهُ، لَكِنَّ آخِذَ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ جُزْءٌ مِنَ الرِّبْحِ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَرِيكٌ فِيمَا يَكُونُ مِنْ رِبْحِ التِّجَارَةِ، أَمَّا فِي الإِِِْبْضَاعِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 483.
(2) كشاف القناع 3 / 508، وحاشية الدسوقي 3 / 517، ومغني المحتاج 2 / 309 - 310.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) مغني المحتاج 2 / 312.(38/36)
مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْمَال.
ب - الْقَرْضُ
3 - الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: مَا تُعْطِيهِ غَيْرَكَ مِنَ الْمَال لِتَتَقَاضَاهُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الإِِِْقْرَاضِ، يُقَال: أَقْرَضْتُهُ الْمَال إِِقْرَاضًا، وَاسْتَقْرَضَ: طَلَبَ الْقَرْضَ، وَاقْتَرَضَ: أَخَذَ الْقَرْضَ (1) .
وَالْقَرْضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْقَرْضِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَال إِِلَى الْغَيْرِ، إِِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ.
ج - الشَّرِكَةُ
4 - الشَّرِكَةُ فِي اللُّغَةِ: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لِلْقِيَامِ بِعَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، وَهِيَ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ الْفِعْل شَرِكَ، يُقَال: شَرِكْتُهُ فِي الأَْمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً: إِِذَا صِرْتَ لَهُ شَرِيكًا، وَالاِسْمُ الشِّرْكُ (3) .
__________
(1) المصباح المنير وقواعد الفقه للبركتي.
(2) كشاف القناع 3 / 312.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.(38/36)
وَالشَّرِكَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْخِلْطَةُ وَثُبُوتُ الْحِصَّةِ (1) ، أَوْ: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الشَّرِكَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُضَارَبَةِ
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَجِوَازِهَا، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ أَوِ الاِسْتِحْسَانِ (3) ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ، بَل بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ تَرَكُوا الْقِيَاسَ وَأَجَازُوا الْمُضَارَبَةَ تَرَخُّصًا أَوِ اسْتِحْسَانًا لأَِدِلَّةٍ قَامَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ حَيْثُ قَال: تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالإِِِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (4) . وَالْمُضَارِبُ يَضْرِبُ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغِي مِنْ فَضْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) الاختيار 3 / 11.
(2) مغني المحتاج 2 / 211.
(3) بدائع الصنائع 6 / 79، ومواهب الجليل 5 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 218، وكشاف القناع 3 / 507.
(4) سورة المزمل / 20.(38/37)
أَنَّهُ قَال: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِذَا دَفَعَ مَالاً مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لاَ يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَلاَ يَنْزِل بِهِ وَادِيًا، وَلاَ يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ، فَرُفِعَ شَرْطُهُ إِِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَازَهُ (1) وَكَذَا بُعِثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَاقَدُونَ الْمُضَارَبَةَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الإِِِْجْمَاعُ: فَإِِِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ أَحَدٌ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إِِجْمَاعًا، وَعَلَى هَذَا تَعَامَل النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، وَإِِِجْمَاعُ أَهْل كُل عَصْرٍ حُجَّةٌ، فَتُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ (2) .
وَقَالُوا فِي حِكْمَتِهَا: شُرِعَتْ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِِلَيْهَا، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِِلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَاضْطُرَّ فِيهَا إِِلَى
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 111) وضعف إسناده.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.(38/37)
اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ لاَ يَجِدُ مَنْ يَعْمَل لَهُ فِيهَا بِإِِِجَارَةٍ، لِمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَرُخِّصَ فِيهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَاسْتُخْرِجَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ مِنَ الإِِِْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُخِّصَ فِيهِ فِي الْمُسَاقَاةِ (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنَّ الإِِِْنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لاَ يَهْتَدِي إِِلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إِِلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لاَ مَال لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إِِلاَّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ (2) .
صِفَّةُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا أَيَّهِمَا كَانَ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِإِِِذْنٍ فَهُوَ كَالْوَكِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْل التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ (3) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الْفَسْخِ عِلْمَ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 356، وكشاف القناع 3 / 507.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.
(3) بدائع الصنائع 6 / 109، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 64.
(4) بدائع الصنائع 6 / 109.(38/38)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حُضُورِ صَاحِبِهِ أَوْ رِضَاهُ، بَل يَجُوزُ وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الآْخَرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِكُلٍّ مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْعَامِل فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي شِرَاءِ السِّلَعِ بِالْمَال، وَلِرَبِّ الْمَال فَقَطْ فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إِِنْ تَزَوَّدَ الْعَامِل مِنْ مَال الْقِرَاضِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي السَّفَرِ، فَإِِِنْ عَمِل الْمُضَارِبُ بِالْمَال فِي الْحَضَرِ أَوْ شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَيَبْقَى الْمَال تَحْتَ يَدِ الْعَامِل إِِلَى نَضُوضِ الْمَال بِبَيْعِ السِّلَعِ، وَلاَ كَلاَمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ (2) .
الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُقَيَّدَةُ:
7 - قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُضَارَبَةَ قِسْمَيْنِ:
أ - الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ الْمَال مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَمَل أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ أَوْ صِفَةِ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ.
ب - الْمُضَارَبَةُ الْمُقَيَّدَةُ وَهِيَ الَّتِي يُعَيِّنُ فِيهَا رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: إِِنَّ تَصْرِفَ الْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319، وروضة الطالبين 5 / 141.
(2) الشرح الصغير 3 / 705 - 706.(38/38)
النَّوْعَيْنِ يَنْقَسِمُ إِِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِِلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَلاَ إِِلَى قَوْل: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
ب - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل وَلَوْ قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، إِِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
ج - قِسْمٌ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ إِِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
د - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ رَأْسًا وَإِِِنْ نَصَّ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمُوصِلِيُّ: الْمُضَارَبَةُ نَوْعَانِ، عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. وَالْعَامَّةُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِِلَى الْعَامِل مُضَارَبَةً، وَلاَ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَمْلِكَ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِِلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ، وَيَدْخُل فِيهِ الرَّهْنُ وَالاِرْتِهَانُ وَالاِسْتِئْجَارُ وَالْحَطُّ بِالْعَيْبِ وَالاِحْتِيَال بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَكُل مَا يَعْمَلُهُ التُّجَّارُ - غَيْرَ التَّبَرُّعَاتِ - وَالْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ وَالاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَجُوزُ لَهُ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ، وَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 87.(38/39)
الإِِِْقْرَاضُ وَالتَّبَرُّعَاتُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ الأَْمْرُ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخُصَّهُ بِبَلَدٍ، فَيَقُول: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِالْكُوفَةِ أَوِ الْبَصْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخُصَّهُ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ يَقُول: عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْ فُلاَنٍ وَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ مَعَ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ قَيْدٌ مَفِيدٌ، لِجَوَازِ وُثُوقِهِ بِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخُصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ بِأَنْ يَقُول لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوِ الصَّرْفِ وَنَحْوِهِ.
وَفِي كُل ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِأَمْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ (1) .
وَلَمْ يُقَسِّمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ أَوْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ - كَمَا فَعَل الْحَنَفِيَّةُ - وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مَا شَمِلَهُ تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَرْكَانِ الْمُضَارَبَةِ وَشُرُوطِهَا أَوْ فِي مَسَائِل أُخْرَى، وَخَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ أَوْ وَافَقُوهُمْ.
أَرْكَانُ الْمُضَارَبَةِ
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ أَرْكَانَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 21.(38/39)
الْمُضَارَبَةِ هِيَ: عَاقِدَانِ، وَرَأْسُ مَالٍ، وَعَمَلٌ، وَرِبْحٌ، وَصِيغَةٌ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِِنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْمُضَارَبَةِ، وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا، وَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ دُونَ تَلَفُّظٍ بِالصِّيغَةِ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي الْقَبُول بِالْفِعْل، وَذَلِكَ إِِذَا كَانَ الإِِِْيجَابُ بِلَفْظِ الأَْمْرِ، كَخُذْ، فَيَكْفِي أَخْذُ الدَّرَاهِمِ مَثَلاً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ رُكْنَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الإِِِْيجَابُ وَالْقَبُول بِأَلْفَاظٍ تَدُل عَلَيْهِمَا (2) .
شُرُوطُ الْمُضَارَبَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ شُرُوطًا وَهِيَ (3) :
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنَ الشُّرُوطِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنَ الصِّيغَةِ، وَهِيَ الإِِِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمُضَارَبَةِ، مِثْل قَوْل
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 5 / 355، والفواكه الدواني 2 / 175، ومغني المحتاج 2 / 313، وبلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير 2 / 160 ط. الحلبي.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.
(3) الدر المختار 4 / 484، 485، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 683 ط. دار المعارف، والفواكه الدواني 2 / 175، وروضة الطالبين 5 / 124 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 507، 508.(38/40)
رَبِّ الْمَال لِلْعَامِل - ضِمْنَ الصِّيغَةِ - ضَارَبْتُكَ أَوْ قَارَضْتُكَ أَوْ عَامَلْتُكَ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعَانِيَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، فَجَازَ التَّعْبِيرُ بِكُل مَا يَدُل عَلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لاَ لِصُوَرِ الأَْلْفَاظِ، حَتَّى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَبُول الْعَامِل يَكُونُ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا وَالْمُوَافَقَةِ، مُتَّصِلاً بِالإِِِْيجَابِ بِالطَّرِيقِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَاشْتِرَاطُ اللَّفْظِ فِي كُلٍّ مِنَ الإِِِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْل جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَبُول قَوْل: قَبِلْتُ وَنَحْوُهُ أَوِ التَّلَفُّظُ بِهِ، بَل الْقَبُول بِالْفِعْل، وَتَكُونُ مُبَاشَرَتُهُ قَبُولاً لِلْمُضَارَبَةِ كَالْوَكَالَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - مِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ - إِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ بِصِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَرْضَى الآْخَرُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ فِي صِيغَةِ الْمُضَارَبَةِ إِِذَا وُجِدَتِ الْقَرِينَةُ، لأَِنَّ(38/40)
الْمُضَارَبَةَ عِنْدَهُمْ إِِجَارَةٌ عَلَى التَّجْرِ بِمَالٍ - أَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِتَحْصِيل الرِّبْحِ - بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ وَالإِِِْجَارَةُ تَكْفِي فِيهَا الْمُعَاطَاةُ كَالْبَيْعِ، فَتَكْفِي الْمُعَاطَاةُ فِي انْعِقَادِ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ (1)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِينَ مِنَ الشُّرُوطِ:
10 - يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنْ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ - وَهُمَا رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل - شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْهَا لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ تَقَعَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل، أَيِ الْمُتَأَهِّل لأََنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ وَيَتَوَكَّل لِغَيْرِهِ، لأَِنَّ الْعَاقِدَيْنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَيْلٌ عَنْ صَاحِبِهِ وَمُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ، فَمَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل وَيَتَوَكَّل جَازَ لَهُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مِنْ عَبْدٍ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ: وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ أَنْ يُضَارِبَ مَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 80 - 81، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 682 - 683، وحاشية الدسوقي 3 / 517، وروضة الطالبين 5 / 124 وما بعدها، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 266، وكشاف القناع 3 / 508، وشرح منتهى الإرادات 2 / 327 - 328.(38/41)
يَجُوزُ إِِيدَاعُهُ الْمَال الْمَدْفُوعَ إِِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَمْ جَدًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ أَمِينَهُ، وَمَحَل ذَلِكَ أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ الإِِِْذْنَ فِي السَّفَرِ، فَإِِِنْ تَضَمَّنَ الإِِِْذْنَ فِي السَّفَرِ اتَّجَهَ كَوْنُهُ كَإِِِرَادَةِ الْوَلِيِّ السَّفَرَ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلِسِ فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُضَارِبَ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً.
وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مِنَ الْمَرِيضِ وَلاَ يَحْسِبُ مَا زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل مِنَ الثُّلُثِ، لأَِنَّ الْمَحْسُوبَ مِنْهُ مَا يَفُوتُهُ مِنْ مَالِهِ، وَالرِّبْحُ لَيْسَ بِحَاصِلٍ حَتَّى يَفُوتُهُ، وَإِِِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ، وَإِِِذَا حَصَل كَانَ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيل وَالْوَكَالَةِ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَال وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيل، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكَّل أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْل مَا وُكِّل بِهِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِِلَى غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ التَّوْكِيل مِنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل أَصْلاً، لأَِنَّ الْعَقْل مِنْ شَرَائِطِ الأَْهْلِيَّةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا.
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 457 - 458، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 6 / 203، والمدونة 5 / 107، ومغني المحتاج 2 / 314، ونهاية المحتاج 5 / 15، 226.(38/41)
وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطِ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِكَةِ - وَمِنْهَا الْمُضَارَبَةُ - إِِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَال فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ (2) .
مُضَارَبَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُضَارَبَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى جَوَازِ مُضَارَبَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْجُمْلَةِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ إِِسْلاَمُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ، فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، حَتَّى لَوْ دَخَل حَرْبِيٌّ دَارَ الإِِِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إِِلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ.
فَإِِِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَدَخَل دَارَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 20، 81، 82.
(2) المغني 5 / 1 - 2.(38/42)
الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِل بِالْمَال فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ دَخَل دَارَ رَبِّ الْمَال، فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِِِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَرَجَعَ إِِلَى دَارِهِ: وَإِِِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِِذْنِ رَبِّ الْمَال بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ، وَإِِِنْ كَانَ بِإِِِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا إِِنْ رَجَعَ إِِلَى دَارِ الإِِِْسْلاَمِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا أَوْ بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَال صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَال دَخَل مَعَهُ، وَلَوْ دَخَل رَبُّ الْمَال مَعَهُ إِِلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَا إِِذَا دَخَل بِأَمْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِِذَا دَخَل بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُول انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَال عَنْهُ، فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الأَْمْرَ بِهِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِِلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَل أَمَانُهُ وَعَادَ إِِلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ، فَبَطَل أَمْرُ رَبِّ الْمَال عِنْدَ اخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 81 - 82.(38/42)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ فَإِِِنَّ أَحْمَدَ كَرِهَ مُشَارَكَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ قَال: مَا أُحِبُّ مُخَالَطَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِل مَا لاَ يَسْتَحِل غَيْرُهُ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ فَذَهَبُوا إِِلَى أَنَّ مُضَارَبَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُشَارَكَتَهِ مَكْرُوهَةٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ بِحُرْمَةِ مُضَارَبَةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ
وَقَال مَالِكٌ: لاَ أُحِبُّ لِلرَّجُل أَنْ يُقَارِضَ رَجُلاً إِِلاَّ رَجُلاً يَعْرِفُ الْحَرَامَ وَالْحَلاَل، وَإِِِنْ كَانَ رَجُلاً مُسْلِمًا فَلاَ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُقَارِضَ مِنْ يَسْتَحِل شَيْئًا مِنَ الْحَرَامِ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنَ الشُّرُوطِ:
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا فِي رَأْسِ الْمَال، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنْ يَكُونَ عَيْنًا لاَ دَيْنًا.
أَوَّلاً: كَوْنُ رَأْسِ الْمَال مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى هَذَا
__________
(1) المغني 5 / 4.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 455 - 458، والخرشي 6 / 203، والمدونة 5 / 107، ونهاية المحتاج 5 / 226، ومغني المحتاج 2 / 314.(38/43)
الشَّرْطِ، وَاسْتَدَل بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِالإِِِْجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ بِإِِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا قَال غَيْرُهُ مِنْهُمْ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مِنْ مُحَتَرَزَاتٍ وَصُوَرٍ وَمَسَائِل. خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ:
أ - الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، مِثْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ مُتَقَوِّمَةً، وَلَهُمْ فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بَيَانٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ رِبْحَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، لأَِنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْل التَّسْلِيمِ لاَ شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالرِّبْحُ عَلَيْهَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (2) ، وَمَا لاَ يَتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتِ الْعَيْنُ قَبْل التَّسْلِيمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والشرح الصغير 3 / 682، ومغني المحتاج 2 / 310، وكشاف القناع 5 / 507.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن. . . ". ورد ضمن حديث عبد الله بن عمرو: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527) وقال: حديث حسن صحيح.(38/43)
فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، فَيَكُونُ رِبْحُ الْمَضْمُونِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ، لأَِنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إِِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إِِلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيل عَدَمِ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ: إِِنَّ الْمُضَارَبَةَ رُخْصَةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الأَْصْل مِنَ الْمَنْعِ، وَلاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْعَرْضِ رَأْسَ مَالٍ (2) .
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى عُرُوضٍ، بِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ غَرَرٍ، إِِذِ الْعَمَل فِيهَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ وَالرِّبْحُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَإِِِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّتْ بِمَا يَرُوجُ غَالِبًا وَتَسْهُل التِّجَارَةُ بِهِ وَهُوَ الأَْثْمَانُ (3) ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُضَارَبَةِ رَدُّ رَأْسِ الْمَال وَالاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ، وَمَتَى عُقِدَ عَلَى غَيْرِ الأَْثْمَانِ لَمْ يَحْصُل الْمَقْصُودُ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 683، 686، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 6 / 213.
(3) مغني المحتاج 2 / 310.(38/44)
فَيَحْتَاجُ أَنْ يَصْرِفَ الْعَامِل جَمِيعَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي رَدِّ مِثْلِهِ إِِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَفِي رَدِّ قِيمَتِهِ إِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَفِي هَذَا إِِضْرَارٌ بِالْعَامِل، وَرُبَّمَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَيَصْرِفُ جُزْءًا يَسِيرًا مِنَ الْكَسْبِ فِي رَدِّ مِثْلِهِ أَوْ رَدِّ قِيمَتِهِ ثُمَّ يُشَارِكُ رَبَّ الْمَال فِي الْبَاقِي، وَفِي هَذَا إِِضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الْعَامِل يُشَارِكُهُ فِي أَكْثَرِ رَأْسِ الْمَال، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي الأَْثْمَانِ لأَِنَّهَا لاَ تُقَوَّمُ بِغَيْرِهَا (1) .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعُرُوضَ لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَحَرْبٍ وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ: إِِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى أَعْيَانِ الْعُرُوضِ أَوْ قِيمَتِهَا أَوْ أَثْمَانِهَا، لاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَعْيَانِهَا، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَال أَوْ بِمِثْلِهِ، وَهَذِهِ لاَ مِثْل لَهَا فَيُرْجَعُ إِِلَيْهِ، وَقَدْ تَزِيدُ قِيمَةُ جَنْسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَيَسْتَوْعِبُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرِّبْحِ أَوْ جَمِيعَ الْمَال، وَقَدْ تَنْقُصَ قِيمَتُهُ فَيُؤَدِّي إِِلَى أَنْ يُشَارِكَهُ الآْخَرُ فِي ثَمَنِ مِلْكِهِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبْحٍ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى قِيمَتِهَا لأَِنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةِ الْقَدْرِ، فَيُفْضِي إِِلَى التَّنَازُعِ، وَقَدْ يُقَوَّمُ الشَّيْءُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ،
__________
(1) المهذب 1 / 385.(38/44)
وَلأَِنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْل بَيْعِهِ فَيُشَارِكُهُ الآْخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَثْمَانِهَا لأَِنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَال الْعَقْدِ وَلاَ يَمْلِكَانِهَا، وَلأَِنَّهُ إِِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَكَانِهِ وَصَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِِِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ فَإِِِنَّهَا تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ بَيْعُ الأَْعْيَانِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَتُجْعَل قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ رَأْسَ الْمَال، قَال أَحْمَدُ: إِِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ يُقْسَمُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَقَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَل عَنِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَتَاعِ، قَال: جَائِزٌ، فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِهِ قَال فِي الْمُضَارَبَةِ طَاوُوسٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوَازُ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَوْنُ رِبْحِ الْمَالَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَحْصُل فِي الْعُرُوضِ كَحُصُولِهِ فِي الأَْثْمَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا كَالأَْثْمَانِ، وَيَرْجِعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِقِيمَةِ مَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّنَا(38/45)
جَعَلْنَا نِصَابَ زَكَاتِهَا قِيمَتَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ عُرُوضًا فَقَال لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَل بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً، فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُضِفِ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى الْعُرُوضِ وَإِِِنَّمَا أَضَافَهَا إِِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِِِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا: أَنَّهُ يَبِيعُ بِالأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إِِلاَّ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إِِلَى مَا لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لاَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الأَْثْمَانِ، وَلاَ تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إِِلَى مَا لاَ يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَال الْمُضَارَبَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ قَال لَهُ: بِعْهُ وَاجْعَل ثَمَنَهُ رَأْسَ مَالٍ فَمُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، لِلْعَامِل فِيهَا أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوْلِيَةِ وَمُضَارَبَةِ مِثْلِهِ فِي رِبْحِ الْمَال إِِنْ رَبِحَ، وَإِِِنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّهِ، وَقَالُوا: لاَ تَجُوزُ بِغَيْرِ نَقْدٍ يُتَعَامَل بِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ كَالْوَدْعِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الظَّاهِرُ الْجَوَازُ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 13 - 17.
(2) بدائع الصنائع 6 / 82.
(3) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 686.(38/45)
ب - الْمُضَارَبَةُ بِالتِّبْرِ
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى تِبْرٍ وَلاَ حُلِيٍّ وَلاَ سَبَائِكَ لاِخْتِلاَفِ قِيمَتِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِشَرْطِ تَعَامُل النَّاسِ بِهِ، فَإِِِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِِِنْ كَانُوا لاَ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يُتَعَامَل بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ فَقَطْ فِي بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ، فَإِِِنْ وُجِدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ أَيْضًا لَمْ يَجُزِ التِّبْرُ وَنَحْوُهُ لِوُجُودِ الأَْصْل (1) .
ج - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والشرح الصغير 3 / 683 - 684، وشرح الزرقاني 6 / 213، ومغني المحتاج 2 / 310، ونهاية المحتاج 5 / 219، وكشاف القناع 3 / 498.(38/46)
وَهُوَ قَوْل السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ الأَْثْمَانِ، لأَِنَّ الْغِشَّ الَّذِي فِيهَا عَرَضٌ، وَلأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، أَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ وَإِِِنْ رَاجَتْ وَعُلِمَ مِقْدَارُ غِشِّهَا وَجَوَّزْنَا التَّعَامُل بِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ غِشًّا كَثِيرًا عُرْفًا لأَِنَّهُ لاَ يَنْضَبِطُ غِشُّهُ، فَلاَ يَتَأَدَّى رَدُّ مِثْلِهِ، لأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ (3) .
د - الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَصِحُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والزرقاني 6 / 214، ومغني المحتاج 2 / 310.
(2) روضة الطالبين 5 / 117، ومغني المحتاج 2 / 310، والمهذب 1 / 385، ونهاية المحتاج 5 / 219.
(3) كشاف القناع 3 / 498.(38/46)
بِالْفُلُوسِ (1) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا يَرُوجُ غَالِبًا وَتَسْهُل التِّجَارَةُ بِهِ وَهُوَ الأَْثْمَانُ.
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ بِهَا بِقُيُودٍ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ كَاسِدَةً فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا لأَِنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِِِنْ كَانَتْ نَافِقَةً فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ تَجُوزُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفُلُوسُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ تُعُومِل بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ التِّبْرَ إِِذَا كَانَ لاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ إِِلاَّ إِِذَا انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ - وَالْحَال أَنَّهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ الْكَسَادِ - فَأَوْلَى الْفُلُوسُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْكَسَادِ، فَلاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا إِِلاَّ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالتَّعَامُل بِهَا، وَإِِِلاَّ جَازَ، وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَامِل يَعْمَل بِهَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ الَّتِي الشَّأْنُ فِيهَا التَّعَامُل بِهَا.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِجِوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ
__________
(1) الفلوس جمع فلس، وهو القطعة المضروبة من النحاس يتعامل بها، وهي أثمان عند المقابلة بغير جنسها (قواعد الفقه للبركتي، وبدائع الصنائع 5 / 236) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 59.(38/47)
مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا حَتَّى تَمْتَنِعَ بِغَيْرِهَا حَيْثُ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهَا، بَل هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّنْمِيَةِ (1) .
هـ - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَنْفَعَةِ
17 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ جَعْل رَأْسِ الْمَال سُكْنَى دَارٍ، لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُجْعَل الْعَرَضُ رَأْسَ مَالٍ فَالْمَنْفَعَةُ أَوْلَى (2) .
و الْمُضَارَبَةُ بِالصَّرْفِ
18 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ دَفَعَ نَقْدًا إِِلَى الْعَامِل لِيَصْرِفَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدِ آخَرَ ثُمَّ يَعْمَل بِمَا يَقْبِضُهُ مُضَارَبَةً فَلاَ يَجُوزُ، فَإِِِنْ عَمِل بِمَا قَبَضَهُ مِنَ الصَّرْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال وَلَوْ تَلِفَ أَوْ خَسِرَ، ثُمَّ لَهُ أَيْضًا مُضَارَبَةُ مِثْلِهِ فِي رِبْحِهِ - أَيِ الْمَال - فَإِِِنْ تَلِفَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال (3) .
ثَانِيًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مَعْلُومًا 19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْعَاقِدَيْنِ، قَدْرًا
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 519، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 684.
(2) روضة الطالبين 5 / 119.
(3) جواهر الإكليل 2 / 171.(38/47)
وَصِفَةً وَجِنْسًا، عِلْمًا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ وَيُدْرَأُ النِّزَاعُ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُ الْمَال مَعْلُومًا لَهُمَا كَذَلِكَ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: إِِنَّ كَوْنَ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْعَاقِدَيْنِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ يُؤَدِّي إِِلَى الْجَهْل بِالرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ (1) .
الْمُضَارَبَةُ بِأَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ
20 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال إِِنْ دَفَعَ كِيسَيْنِ أَوْ صُرَّتَيْنِ مِنَ النَّقْدِ فِي كُلٍّ مِنَ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ مَالٌ مَعْلُومٌ، وَقَال لِمَنْ دَفَعَ إِِلَيْهِ ذَلِكَ: ضَارَبْتُكَ عَلَى أَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوْ عَلَى إِِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ. لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ تَسَاوَى مَا فِيهِمَا لِلإِِِْبْهَامِ، وَفِيهِ غَرَرٌ لاَ ضَرُورَةَ إِِلَى احْتِمَالِهِ.
وَفِي وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ عَلَى إِِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقَدْرِ وَالْجَنْسِ وَالصِّفَّةِ، فَيَتَصَرَّفُ الْعَامِل فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، وحاشية ابن عابدين 4 / 484، وجواهر الإكليل 2 / 171، وحاشية الدسوقي 3 / 518، والمهذب 1 / 385، ونهاية المحتاج 5 / 219 - 220، ومغني المحتاج 2 / 310، والمغني 5 / 19.(38/48)
فَتَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِمَا مَعْلُومًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ ضَارَبَ الْعَامِل عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ (1) .
ثَالِثًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عَيْنًا
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهَا عَيْنًا، فَلاَ تَجُوزُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ لاَ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال دَيْنًا، فَإِِِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ تَصِحَّ.
وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ لاَ تَخْلُو إِِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل، وَإِِِمَّا بِالدِّينِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل.
أ - الْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل
22 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِدَيْنٍ لِرَبِّ الْمَال عَلَى الْعَامِل لاَ تَصِحُّ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِصِحَّتِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 310، وكشاف القناع 3 / 507، وروضة القضاة للسمناني 2 / 582.(38/48)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا، فَإِِِنْ كَانَ دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِِِذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَال عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَقَال لَهُ: اعْمَل بِدَيْنِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ - أَيْ عِنْدَهُمْ - فَإِِِنِ اشْتَرَى هَذَا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ فَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ (أَيْ خَسَارَتُهُ) وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ مَنْ وَكَّل رَجُلاً يَشْتَرِي لَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوِ اشْتَرَى لاَ يَبْرَأُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ، وَإِِِذَا لَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ بِالشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَصِحَّ إِِضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إِِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: مَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ - فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - وَبَاعَ هُوَ لِرَبِّ الْمَال لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، لأَِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا التَّوْكِيل وَلاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل، فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ، لأَِنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ ثُمَّ دَفَعَهُ إِِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلاَ تَصِحُّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِدَيْنٍ عَلَى الْعَامِل، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَقُول لِمَدِينِهِ: اعْمَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 83، ورد المحتار 4 / 484.(38/49)
فِيهِ مُضَارَبَةً بِنِصْفِ رِبْحِهِ مَثَلاً لأَِنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ، وَإِِِنْ قَال لَهُ ذَلِكَ اسْتَمَرَّ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي الضَّمَانِ وَاخْتِصَاصُ الْمَدِينِ بِرِبْحِهِ إِِنْ كَانَ وَعَلَيْهِ خَسْرُهُ، مَا لَمْ يَقْبِضِ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ، فَإِِِنْ قَبَضَهُ رَبُّهُ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهُ مُضَارَبَةً صَحَّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، بَل لَوْ قَال لَهُ: اعْزِل مَالِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مِنْ مَالِكَ، فَعَزَلَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ ضَارَبَهُ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا عَزَلَهُ بِغَيْرِ قَبْضٍ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِل فَفِيمَا عَزَلَهُ نَظَرٌ، إِِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَهُوَ كَالْفُضُولِيِّ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَإِِِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لِلْمَالِكِ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ بِإِِِذْنِهِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَبِي حَامِدٍ لِلْعَامِل.
وَحَيْثُ كَانَ الْمَعْزُول لِلْمَالِكِ فَالرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَال لَهُ لِفَسَادِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ لِلْعَامِل (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 171، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 683.
(2) روضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 310.(38/49)
لِمَدِينِهِ: ضَارِبْ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْكَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يَصِحُّ، وَبَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى شِرَائِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَنَاهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ لِمُوَكِّلِهِ، وَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ (1)
ب - الْمُضَارَبَةُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ - إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل لاَ تَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَال لِلْعَامِل: قَارَضْتُكَ عَلَى دَيْنِي عَلَى فُلاَنٍ فَاقْبِضْهُ وَاتَّجِرْ فِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَبِهَذَا يَقُول اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال لِرَجُلٍ اقْبِضْ مَالِي عَلَى فُلاَنٍ مِنَ الدَّيْنِ وَاعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ هُنَا أُضِيفَتْ إِِلَى الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا لاَ دَيْنًا (3) .
__________
(1) الإنصاف 5 / 431.
(2) جواهر الإكليل 2 / 171، وروضة الطالبين 5 / 117 - 118، والإنصاف 5 / 431.
(3) بدائع الصنائع 6 / 83، وجواهر الإكليل 2 / 171، والإنصاف 5 / 431.(38/50)
رَابِعًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مُسَلَّمًا إِِلَى الْعَامِل
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ وَمُسْتَقِلًّا بِالْيَدِ عَلَيْهِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَال، وَعَبَّرَ عَنْهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِِلَيْهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ خِلاَفٌ فِي التَّعْلِيل وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْكَاسَانِيُّ: يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ، فَلاَ تَصِحُّ إِِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَالْوَدِيعَةِ وَلاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مَعَ بَقَاءِ يَدِ الدَّافِعِ عَلَى الْمَال لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ مَعَ بَقَاءِ يَدِهِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ بَقَاءَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَال فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَل رَبِّ الْمَال فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، سَوَاءٌ عَمِل رَبُّ الْمَال مَعَهُ أَوْ لَمْ يَعْمَل، لأَِنَّ شَرْطَ عَمَلِهِ مَعَهُ شَرْطُ بَقَاءِ يَدِهِ عَلَى الْمَال وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ زَوَال يَدِ رَبِّ الْمَال عَنْ مَالِهِ لِتَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، حَتَّى إِِنَّ الأَْبَ أَوِ الْوَصِيَّ إِِذَا دَفَعَ مَال الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَل الصَّغِيرِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ(38/50)
يَدَ الصَّغِيرِ بَاقِيَةٌ - لِبَقَاءِ مِلْكِهِ - فَتَمْنَعَ التَّسْلِيمَ (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ مُسَلَّمًا مِنْ رَبِّهِ لِلْعَامِل بِدُونِ أَمِينٍ عَلَيْهِ، لاَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ بِرَهْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، وَإِِِلاَّ فَإِِِنَّ تَسْلِيمَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَلاَ تَسْلِيمٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهَا مُسَلَّمًا إِِلَى الْعَامِل، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ الْمَال إِِلَيْهِ حَال الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِِِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِل الْعَامِل بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَلاَ يَجُوزُ وَلاَ يَصِحُّ الإِِِْتْيَانُ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَهُوَ شَرْطُ كَوْنِ الْمَال فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِل، وَلاَ شَرْطَ مُرَاجَعَتِهِ أَوْ مُرَاجَعَةِ مُشْرِفٍ نَصَّبَهُ فِي التَّصَرُّفِ، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَجِدُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلاَ شَرْطَ عَمَل الْمَالِكِ مَعَ الْعَامِل لأَِنَّ انْقِسَامَ التَّصَرُّفِ يُفْضِي إِِلَى انْقِسَامِ الْيَدِ، وَلأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا مِنَ اسْتِقْلاَل الْعَامِل بِالْعَمَل (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِِنْ أَخْرَجَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 84 - 85.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 517، وشرح الزرقاني 6 / 214.
(3)) روضة الطالبين 5 / 118 - 119، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 221، ومغني المحتاج 2 / 310، 311.(38/51)
شَخْصٌ مَالاً لِيَعْمَل فِيهِ هُوَ وَآخَرُ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ، وَيَكُونُ مُضَارَبَةً (1) .
الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ بِالْوَدِيعَةِ فِي يَدِ الْعَامِل أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ: ضَارِبْ بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَكَ وَالرِّبْحُ مُنَاصَفَةً بَيْنَنَا، أَوْ قَال لآِخَرَ: ضَارِبْ بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي لِي عِنْدَ فُلاَنٍ - مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِهَا - فَقَبِل كُلٌّ مِنْهُمَا، فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً، لأَِنَّ الْيَدَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَصْفُهَا، فَهِيَ قَبْل الْمُضَارَبَةِ وَحَال كَوْنِهَا وَدِيعَةً يَدُ أَمَانَةٍ، وَهِيَ بَعْدَ الْمُضَارَبَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ، وَلأَِنَّ الْوَدِيعَةَ مِلْكُ رَبِّ الْمَال فَجَازَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَإِِِنْ كَانَتْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهٍ يَضْمَنُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهَا لأَِنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِ الْعَامِل، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال كَوْنِ الْمُودَعِ أَنْفَقَهَا فَتَكُونُ دَيْنًا، وَالْمُضَارَبَةُ لاَ تَصِحُّ بِالدَّيْنِ، إِِلاَّ أَنْ يُحْضِرَ
__________
(1)) الإنصاف 5 / 432.
(2) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 118، ومطالب أولي النهى 3 / 522، 523.(38/51)
الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ، وَيَقْبِضُهَا الْمُودَعُ وَيَدْفَعُهَا مُضَارَبَةً فَتَصِحُّ، أَوْ يُحْضِرُهَا الْمُودَعُ وَيَشْهَدُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَال الَّذِي أَحْضَرَ هُوَ وَدِيعَةُ فُلاَنٍ عِنْدِي، ثُمَّ يَدْفَعُهَا الْمُودَعُ مُضَارَبَةً فَتَجُوزُ، فَإِِِنْ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ، وَقَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِلْعَامِل: اتَّجِرْ بِمَا عِنْدَكَ مِنْ وَدِيعَةٍ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ مُنَاصَفَةٌ بَيْنَنَا مُضَارَبَةً، فَاتَّجَرَ الْعَامِل بِالْوَدِيعَةِ، فَإِِِنَّ رِبْحَهَا لِرَبِّهَا وَخُسْرَهَا عَلَيْهِ، وَلِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَقَالُوا: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَمِينٍ، فَإِِِنْ وَكَّل رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْعَامِل عَلَى خَلاَصِهَا ثُمَّ يُضَارِبُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا بَعْدَ بَيْعِهَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا - بَعْدَ الْعَمَل فِيهَا - لِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تُوَلِّي تَخْلِيصِ الْوَدِيعَةِ، وَبَيْعِهَا إِِنْ حَدَثَ، فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا، رَبِحَ الْعَامِل أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَلِلْعَامِل كَذَلِكَ مُضَارَبَةُ مِثْلِهِ فِي رِبْحِ الْمَال، فَإِِِنْ رَبِحَ أُعْطِيَ مِنْهُ مُضَارَبَةً مِثْلُهُ، وَإِِِنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ لاَ فِي الْمَال وَلاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّهِ (1) .
الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْصُوبِ
26 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْمَغْصُوبِ تَصِحُّ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 171، والشرح الصغير 3 / 685، 686، وشرح الزرقاني 6 / 215.(38/52)
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنْ أَضَافَ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى مَضْمُونَةٍ فِي يَدِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ فَقَال لِلْغَاصِبِ: اعْمَل بِمَا فِي يَدِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، لأَِنَّ مَا فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ إِِلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَل، فَإِِِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَل وَهُوَ الشِّرَاءُ تَصِيرُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ فَتَصِحُّ.
وَقَال جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: تَصِحُّ مُضَارَبَةُ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ لِتَعَيُّنِ الْمَال الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْعَامِل الْغَاصِبِ، بِخِلاَفِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِِِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، وَتَصِحُّ مُضَارَبَةُ غَيْرِ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَال الْمَغْصُوبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَوِ الْعَامِل قَادِرًا عَلَى أَخْذِهِ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَغْصُوبِ لِمَنْ يُعَامِل، لأَِنَّهُ سَلَّمَهُ بِإِِِذْنِ مَالِكِهِ وَزَالَتْ عَنْهُ يَدُهُ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْمُضَارَبَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ - وَزُفَرُ بِعَدِمِ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَال الْمَغْصُوبِ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَال أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَغْصُوبٌ فِي يَدِهِ
__________
(1)) بدائع الصنائع 6 / 83، والفتاوى الهندية 4 / 286، وروضة الطالبين 5 / 118، والمهذب 1 / 385، وأسنى المطالب 2 / 381، ومغني المحتاج 2 / 310، ومطالب أولي النهى 3 / 523.(38/52)
لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ لِلْمُضَارَبَةِ، فَلاَ تَصِحُّ (1) .
الْمُضَارَبَةُ بِالْمَال الْمَشَاعِ
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ بِمَال مَشَاعٍ، فَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالاً إِِلَى رَجُلٍ: بَعْضُهُ مُضَارَبَةً، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُضَارَبَةٍ، مَشَاعًا فِي الْمَال، فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ، لأَِنَّ الإِِِْشَاعَةَ لاَ تَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، فَإِِِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال الْمَشَاعِ، وَالإِِِْشَاعَةُ إِِنَّمَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ وَصِحَّتَهَا إِِذَا كَانَتْ تَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِأَنْ كَانَتْ مَعَ غَيْرِ الْعَامِل، أَمَّا مَعَ الْعَامِل فَلاَ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَصَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبْحِ مِنَ الشُّرُوطِ:
أَوَّلاً: كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ مَعْلُومًا لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرِّبْحُ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 118، والمهذب 1 / 385، وأسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 381، ومغني المحتاج 2 / 310.
(2)) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 119، ومغني المحتاج 2 / 310، والمغني 5 / 23، 24.
(3)) بدائع الصنائع 6 / 85، والشرح الصغير 3 / 682، 687، ومغني المحتاج 2 / 313، وروضة الطالبين 5 / 122 - 124، ومطالب أولي النهى 3 / 514.(38/53)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الرِّبْحِ، جَازَ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (2) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: لَوْ قَال الرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا أَوْ شَرِكَةٌ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَهُ النِّصْفَ، لأَِنَّهُ يُفِيدُ التَّسَاوِي عُرْفًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال لَهُ: اعْمَل فِيهِ وَلَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكٌ، فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ إِِلاَّ إِِذَا كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ تُعَيِّنُ إِِطْلاَقَ الشِّرْكِ عَلَى النِّصْفِ مَثَلاً فَيَعْمَل عَلَيْهَا (3) .
ثَانِيًا: كَوْنُ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا، فَإِِِنْ شَرَطَا عَدَدًا مُقَدَّرًا بِأَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةٌ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلآْخَرِ لاَ يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 65، وروضة الطالبين 5 / 123، وشرح المنتهى 2 / 328، والمغني 5 / 33.
(2) سورة النساء / 12.
(3) الشرح الصغير 3 / 687.(38/53)
الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إِِلاَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلاَ يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَكَذَا إِِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالاَ: إِِلاَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ إِِذَا شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا النِّصْفَ وَمِائَةً فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَتَيْنِ فَيَكُونُ كُل الرِّبْحِ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ، وَإِِِذَا شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ إِِلاَّ مِائَةً فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الرِّبْحِ مِائَةً فَلاَ يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّبْحِ.
وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا بَطَل الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ، لأَِنَّ الْوَضِيعَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنَ الْمَال فَلاَ يَكُونُ إِِلاَّ عَلَى رَبِّ الْمَال، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَكَالَةٌ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لاَ يَعْمَل فِي الْوَكَالَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الرِّبْحِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86، والشرح الصغير 3 / 682 - 687، وروضة الطالبين 5 / 122 - 124، والمغني 5 / 29 - 32.
(2) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86.(38/54)
لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ فِي الرِّقَابِ أَوْ لاِمْرَأَةِ الْمُضَارِبِ أَوْ مُكَاتَبِهِ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِرَبِّ الْمَال.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَعْضَ لِمَنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ، فَإِِِنْ شَاءَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِرَبِّ الْمَال صَحَّ الشَّرْطُ، وَإِِِلاَّ بِأَنْ شَاءَهُ لأَِجْنَبِيٍّ لاَ يَصِحُّ.
وَمَتَى شَرَطَ الْبَعْضَ لأَِجْنَبِيٍّ. إِِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ صَحَّ، وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَفِي الْقَهَسْتَانِيِّ: يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَالْمَشْرُوطُ لِلأَْجْنَبِيِّ. إِِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ وَإِِِلاَّ فَلِلْمَالِكِ.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَعْضَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُضَارِبِ أَوْ دَيْنِ الْمَالِكِ جَازَ، وَيَكُونُ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ وَلاَ يُلْزَمُ بِدَفْعِهِ لِغُرَمَائِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلرِّبْحِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَوْ شَرَطَ بَعْضَهُ لِثَالِثِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، إِِلاَّ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ الْعَمَل مَعَهُ فَيَكُونُ قِرَاضًا مَعَ رَجُلَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، لِيَأْخُذَ الْمَالِكُ بِمِلْكِهِ وَالْعَامِل بِعَمَلِهِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ شَرَطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ قَال:
__________
(1) الدر المختار 4 / 485، 488، 489.(38/54)
ضَارَبْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكًا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ الْجُزْئِيَّةُ لاَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ، فَلَوْ قَال: لَكَ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ لِي مِنْهُ، دِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ وَالْبَاقِي بَيْنَنَا نِصْفَانِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ (1) .
30 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَالْعَقْدُ قَرْضٌ، لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ مُضَارَبَةً يُصَحَّحْ قَرْضًا، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْقَرْضِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَال فَهُوَ إِِبْضَاعٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الإِِِْبْضَاعِ (2) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ جَعْل الرِّبْحِ كُلِّهُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، وَإِِِطْلاَقُ الْقِرَاضِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: خُذْ هَذَا الْمَال فَاتَّجِرْ بِهِ وَرِبْحُهُ كُلُّهُ لَكَ كَانَ قَرْضًا لاَ قِرَاضًا، لأَِنَّ قَوْلَهُ: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ يَصْلُحُ لَهُمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْقَرْضِ فَانْصَرَفَ إِِلَيْهِ، وَإِِِنْ قَال مَعَ ذَلِكَ: وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ فَهَذَا شَرْطٌ فِيهِ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 122 - 124، ومغني المحتاج 2 / 312 - 313.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 485.
(3) الشرح الصغير 3 / 692، والخرشي 6 / 209.(38/55)
نَفْيُ الضَّمَانِ فَلاَ يَنْتَفِي بِشَرْطِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَال: خُذْ هَذَا قَرْضًا وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ، وَإِِِنْ قَال: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إِِبْضَاعًا، وَإِِِنْ قَال: خُذْهُ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ أَوْ كُلُّهُ لِي فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَإِِِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَال لِلْعَامِل: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ كُل الرِّبْحِ لَكَ فَهُوَ مُضَارَبَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: كُل الرِّبْحِ لِي فَهُوَ إِِبْضَاعٌ (1) .
خَامِسًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل مِنَ الشُّرُوطِ:
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل بِالْمُضَارَبَةِ شُرُوطٌ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِوُجُودِهَا، وَتَفْسُدُ إِِنْ تَخَلَّفَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْعَمَل تِجَارَةً، وَأَنْ لاَ يُضَيِّقَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل فِي عَمَلِهِ، وَأَنْ لاَ يُخَالِفَ الْعَامِل مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ
لاَ تَخْرَجُ تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ عَنْ أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:
الأَْوَّل: مَا لَهُ عَمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ:
32 - إِِذَا لَمْ يُعَيِّنْ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ الْعَمَل أَوِ
__________
(1) المغني 5 / 35، ومغني المحتاج 2 / 312.(38/55)
الْمَكَانَ أَوِ الزَّمَانَ أَوْ صِفَةَ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ، بَل قَال لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً عَلَى كَذَا فَلَهُ الْبَيْعُ، وَلَهُ الاِسْتِئْجَارُ، وَلَهُ التَّوْكِيل، وَلَهُ الرَّهْنُ، وَلَهُ الإِِِْبْضَاعُ، وَالإِِِْحَالَةُ، لأَِنَّ كُل ذَلِكَ مِنْ عَمَل التُّجَّارِ.
بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِعَرْضِ وَإِِِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ إِِذِ الْغَرَضُ الرِّبْحُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِيمَا لِلْعَامِل أَنْ يَفْعَلَهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْقَبْضِ وَالإِِِْقْبَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
وَإِِِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال فَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَالًّا.
وَفِي جَوَازِ الْبَيْعِ نَسِيئَةً رِوَايَتَانِ:
إِِحْدَاهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَيْعُ نَسِيئَةً بِغَيْرِ إِِذْنٍ صَرِيحٍ كَالْوَكِيل وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّائِبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالاِحْتِيَاطِ، وَفِي النَّسِيئَةِ تَغْرِيرٌ بِالْمَال، وَقَرِينَةُ الْحَال تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلاَمِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال: بِعْهُ حَالًّا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 87 - 90، وانظر الاختيار 3 / 20.
(2) نهاية المحتاج 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387.
(3) كشاف القناع 3 / 511.(38/56)
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ - لأَِنَّ إِِذْنَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَنْصَرِفُ إِِلَى التِّجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ الرِّبْحَ، وَهُوَ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ، وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فَإِِِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ وَإِِِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيل الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِِِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ كَانَ أَوْلَى (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل شِرَاءَ الْمَعِيبِ إِِنْ رَأَى ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ الْحَظِّ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْعَامِل الرِّدُّ بِعَيْبٍ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِِِنِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ إِِمْسَاكَهُ فَلاَ يَرُدُّهُ فِي الأَْصَحِّ لإِِِِخْلاَلِهِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ (3) .
33 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَفَرِ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ - أَنَّ لِلْمُضَارِبِ السَّفَرَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال الإِِِْذْنَ لِلْعَامِل وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهِيَ جَارِيَةٌ بِالتِّجَارَةِ
__________
(1) المغني 5 / 39 - 40.
(2) نهاية المحتاج 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387، والمغني 5 / 44.
(3) المراجع السابقة.(38/56)
سَفَرًا وَحَضَرًا، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتِنْمَاءُ الْمَال وَهَذَا الْمَقْصُودُ بِالسَّفَرِ أَوْفَرُ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنِ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إِِطْلاَقِهِ، وَلأَِنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ طَلَبًا لِلْفَضْل. فَمَلَكَ السَّفَرَ بِمُطْلَقِهَا، قَال تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (1) .
وَنَقَل أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: إِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ الْمَال بِالْكُوفَةِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِيهَا فَلَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال، وَلَوْ كَانَ الدُّفَعُ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، لأَِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَال مُخَاطَرَةٌ بِهِ فَلاَ تَجُوزُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال نَصًّا أَوْ دَلاَلَةً، فَإِِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ الْمَال فِي بَلَدِهِمَا فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ نَصًّا وَلاَ دَلاَلَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَإِِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا فَقَدْ وَجَدَ دَلاَلَةَ الإِِِْذْنِ بِالرُّجُوعِ إِِلَى الْوَطَنِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الإِِِْنْسَانَ لاَ يَأْخُذُ الْمَال مُضَارَبَةَ وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ، فَكَانَ دَفْعُ الْمَال فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا رِضًا بِالرُّجُوعِ إِِلَى الْوَطَنِ فَكَانَ إِِذْنًا دَلاَلَةً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: سَفَرُ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) بدائع الصنائع 6 / 88، والشرح الصغير 3 / 694، وروضة الطالبين 5 / 134، والإنصاف 5 / 418، والمغني 5 / 41.(38/57)
يَجُوزُ إِِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ (أَيْ لَمْ يَمْنَعْهُ) رَبُّ الْمَال قَبْل شَغْل الْمَال، فَإِِِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْل شَغْلِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِِِنْ خَالَفَ وَسَافَرَ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ خَالَفَ وَسَافَرَ بَعْدَ شَغْلِهِ إِِذْ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَال مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ بَعْدَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي السَّفَرِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَرُمَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ السَّفَرُ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ وَلاَ إِِلَى بَلَدٍ مَخُوفٍ، فَإِِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِفِعْل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ - فِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ الإِِِْمْلاَءِ عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَرِيبًا وَالطَّرِيقُ آمِنًا وَلاَ مُؤْنَةَ فِي السَّفَرِ بِلاَ إِِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ، لأَِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْخَطَرِ.
وَقَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: مَحَل امْتِنَاعِ السَّفَرِ إِِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ إِِذَا لَمْ يَعْتَدْ أَهْل بَلَدِ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 694.
(2) المغني 5 / 41، والإنصاف 5 / 418.(38/57)
الْمُضَارَبَةِ الذَّهَابَ إِِلَيْهِ لِيَبِيعَ وَيَعْلَمُ الْمَالِكُ بِذَلِكَ، وَإِِِلاَّ جَازَ، لأَِنَّ هَذَا بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ يُعَدُّ مِنْ أَسْوَاقِ الْبَلَدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَارَبَهُ بِمَحِل لاَ يَصْلُحُ لِلإِِِْقَامَةِ - كَالْمَفَازَةِ - فَالظَّاهِرُ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِالْمَال إِِلَى مَقْصِدِهِ الْمَعْلُومِ لَهُمَا، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُحْدِثَ سَفَرًا إِِلَى غَيْرِ مَحِل إِِقَامَتِهِ، فَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ بِحَسَبِ الإِِِْذْنِ، وَإِِِنْ أَطْلَقَ الإِِِْذْنَ سَافَرَ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْبِلاَدِ الْمَأْمُونَةِ، فَإِِِنْ سَافَرَ بِغَيْرِ إِِذْنٍ أَوْ خَالَفَ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ وَأَثِمَ، وَلَمْ تَنْفَسِخِ الْمُضَارَبَةُ وَلَوْ عَادَ مِنَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِِنْ كَانَ الْمَتَاعُ بِالْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إِِلَيْهِ أَكْثَرَ قِيمَةً، أَوْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ، صَحَّ الْبَيْعُ وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَإِِِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالسَّفَرِ، وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَ بِهِ مَال الْقِرَاضِ فِي سَفَرِهِ وَإِِِنْ عَادَ الثَّمَنُ مِنَ السَّفَرِ، لأَِنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ السَّفَرُ لاَ يَزُول بِالْعَوْدِ، وَإِِِنْ كَانَ - الْمَتَاعُ هُنَاكَ - أَقَل مِنَ الْقِيمَةِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ قَدْرًا يَتَغَابَنُ بِهِ.
وَقَالُوا: وَلاَ يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ إِِلاَّ إِِنْ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ لِخَطَرِهِ، فَلاَ يَكْفِي فِيهِ الإِِِْذْنُ فِي السَّفَرِ، نَعَمْ إِِنْ عَيَّنَ لَهُ بَلَدًا وَلاَ طَرِيقَ لَهُ إِِلاَّ الْبَحْرُ - كَسَاكِنِ الْجَزَائِرِ الَّتِي يُحِيطُ بِهَا الْبَحْرُ - كَانَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فِيهِ وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَالإِِِْذْنُ(38/58)
مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْمِلْحُ كَمَا قَالَهُ الإِِِْسْنَوِيُّ، وَهَل يُلْحَقُ بِالْبَحْرِ الأَْنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَالنِّيل وَالْفُرَاتِ؟ قَال الأَْذْرَعِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ الأَْحْسَنُ أَنْ يُقَال: إِِنْ زَادَ خَطَرُهَا عَلَى خَطَرِ الْبَرِّ لَمْ يَجُزْ إِِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ (1) .
الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ:
34 - يَنْتَظِمُ هَذَا النَّوْعُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَقَعُ مِنَ التُّجَّارِ عَادَةً وَلاَ يَنْتَظِمُهُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بِإِِِطْلاَقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ بِشِرَاءِ الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جَنْسِهِ، فَلَوِ اسْتَدَانَ الْمُضَارِبُ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الاِسْتِدَانَةَ إِِثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي رَأْسِ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَال، وَفِيهِ إِِثْبَاتُ زِيَادَةِ ضَمَانِ عَلَى رَبِّ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لأَِنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرِي بِرَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّ الْمَال، بِدَلِيل أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوِ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَال ثُمَّ هَلَكَ الْمُشْتَرَى قَبْل التَّسْلِيمِ فَإِِِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ إِِلَى
__________
(1)) مغني المحتاج 2 / 317، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 32 - 235، وروضة الطالبين 5 / 134، وبدائع الصنائع 6 / 88، والإنصاف 5 / 418، والمغني 5 / 41.(38/58)
رَبِّ الْمَال بِمِثْلِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الاِسْتِدَانَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لأََلْزَمَنَاهُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى إِِصْلاَحِ مَال الْمُضَارَبَةِ.
وَإِِِذَا أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ جَازَ لَهُ الاِسْتِدَانَةُ، وَمَا يَسْتَدِينُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ وُجُوهٍ، وَلاَ يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ سَفْتَجَةً لأَِنَّ أَخْذَهَا اسْتِدَانَةٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهَا إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهَا، وَكَذَا لاَ يُعْطَى سَفْتَجَةً لأَِنَّ إِِعْطَاءَهَا إِِقْرَاضٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَإِِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَلَوِ اشْتَرَى يَصِيرُ مُخَالِفًا لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالتَّوْكِيل بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إِِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلأَِنَّ الشِّرَاءَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ مُحَابَاةٌ، وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لاَ يَدْخُل فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْعَامِل أَنْ يُشَارِكَ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، أَوْ يَخْلِطَ الْمَال بِمَالِهِ أَوْ بِمَال قِرَاضٍ عِنْدَهُ، وَلِلْعَامِل الإِِِْبْضَاعُ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، وَإِِِذَا شَارَكَ الْعَامِل فِي مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إِِذْنِ رَبِّ الْمَال فَإِِِنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال لَمْ يَسْتَأْمِنْ غَيْرَهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 90.(38/59)
وَلاَ يَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَعًا لِلْمُضَارَبَةِ بِنَسِيئَةِ وَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال فِي ذَلِكَ.
قَال الصَّاوِيُّ: إِِنَّمَا مُنِعَ ذَلِكَ لأَِكْل رَبِّ الْمَال رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ (1) ، ثُمَّ إِِنَّ الْمَنْعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِِذَا كَانَ الْعَامِل غَيْرَ مُدِيرٍ، وَأَمَّا الْمُدِيرُ فَلَهُ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ كَمَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَّجِرُ الْعَامِل إِِلاَّ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ رَبُّ الْمَال، فَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ فِي صِنْفٍ لَمْ يَتَّجِرْ فِي غَيْرِهِ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِِِْذْنِ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ.
وَلاَ يَشْتَرِي الْعَامِل لِلْمُضَارَبَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَرِبْحِهِ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَشْغَل الْعَامِل ذِمَّتَهُ إِِلاَّ بِذَلِكَ، فَإِِِنْ فَعَل لَمْ يَقَعِ الزَّائِدُ لِجِهَةِ الْمُضَارَبَةِ (3) .
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ لِيُشَارِكَهُ فِي الْعَمَل وَالرِّبْحِ لَمْ تَجُزْ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَمَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ مَالِكًا لاَ عَمَل لَهُ
__________
(1) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 3 / 695 - 698.
(3) المهذب 1 / 386 - 387، ومغني المحتاج 2 / 316.(38/59)
وَالآْخَرُ عَامِلاً وَلَوْ مُتَعَدِّدًا لاَ مِلْكَ لَهُ، فَلاَ يَعْدِل إِِلَى أَنْ يَعْقِدَهَا عَامِلاَنِ، وَمَحِل الْمَنْعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِي أَمَّا الأَْوَّل فَالْمُضَارَبَةُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهِ، فَإِِِنْ تَصَرَّفَ الثَّانِي فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل عَلَى الْمَالِكِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل الأَْوَّل حَيْثُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: أَمَّا لَوْ عَمِل فَالأَْقْرَبُ أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لَهُمَا بِحَسَبِ مَا شَرَطَاهُ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَارِبَ شَخْصَيْنِ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَلَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ لِلْعَامِل فِي أَنْ يُضَارِبَ غَيْرَهُ لِيَنْسَلِخَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونَ وَكَيْلاً فَيَصِحُّ، وَمَحِلُّهُ - كَمَا قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ - إِِذَا كَانَ الْمَال مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ ابْتِدَاءُ مُضَارَبَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ وَصَيْرُورَةِ الْمَال عَرَضًا لَمْ تَجُزْ.
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِغَيْرِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْمُشَارَكَةَ فِي عَمَلٍ وَرِبْحٍ أَمْ رِبْحٍ فَقَطْ أَمْ قَصَدَ الاِنْسِلاَخَ، لاِنْتِفَاءِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فِيهَا وَائْتِمَانِهِ عَلَى الْمَال غَيْرَهُ، فَإِِِنْ تَصَرَّفَ الْعَامِل الثَّانِي بِغَيْرِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فَتَصَرُّفُ غَاصِبٍ فَيَضْمَنُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ صَدَرَ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَكِيلٍ، فَإِِِنِ اشْتَرَى لِلأَْوَّل فِي الذِّمَّةِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لِلْعَامِل الأَْوَّل فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ الثَّانِيَ تَصَرَّفَ بِإِِِذْنِهِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيل، وَعَلَيْهِ(38/60)
لِلثَّانِي أُجْرَتُهُ هُوَ مِنْ زِيَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْمَل مَجَّانًا، وَقِيل: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلثَّانِي لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ لِنَفْسِهِ، وَإِِِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَبَاطِلٌ شِرَاؤُهُ لأَِنَّهُ فُضُولِيٌّ (1) .
وَلِلْعَامِل أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِِذَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال لأَِنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُ وَقَدْ زَال بِإِِِذْنِهِ، وَمَعَ الْجَوَازِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُبَالِغَ فِي الْغَبْنِ فَيَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِعَشَرَةٍ، بَل يَبِيعُ بِمَا تَدُل الْقَرِينَةُ عَلَى ارْتِكَابِهِ عَادَةً فِي مِثْل ذَلِكَ، فَإِِِنْ بَالَغَ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، وَيَجِبُ الإِِِْشْهَادُ فِي النَّسِيئَةِ وَإِِِلاَّ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ الْحَال، لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالإِِِْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ الْحَال (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَنُصَّ لِلْمُضَارِبِ عَلَى التَّصَرُّفِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً وَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ بِالإِِِْذْنِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يُطْلَبُ بِذَلِكَ الْفَائِدَةُ فِي الْعَادَةِ (3) .
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 227، 228، 232.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387، ومغني المحتاج 2 / 315.
(3)) المغني 5 / 39.(38/60)
رَأْسِ الْمَال لأَِنَّ الإِِِْذْنَ مَا تَنَاوَل أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال أَلْفًا فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفِ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى بِالأَْلْفِ عَيْنِهِ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا بِمَال يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي الْبَيْعِ الأَْوَّل، وَإِِِنِ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَهِيَ لَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ فَوَقَعَ لَهُ (1) .
وَإِِِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي دَفْعِ الْمَال مُضَارَبَةً جَازَ ذَلِكَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَيَكُونُ الْعَامِل الأَْوَّل وَكَيْلاً لِرَبِّ الْمَال فِي ذَلِكَ، فَإِِِنْ دَفَعَهُ إِِلَى آخَرَ وَلَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ كَانَ صَحِيحًا، وَإِِِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ لَمْ يَصِحَّ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ مَالٌ وَلاَ عَمَلٌ، وَالرِّبْحُ إِِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا (2) .
وَإِِِذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْغَاصِبِ، وَمَتَى اشْتَرَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَال، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ، قَال الْقَاضِي: قَوْل أَحْمَدَ يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ عَلَى سَبِيل الْوَرَعِ وَهُوَ لِرَبِّ الْمَال فِي الْقَضَاءِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 47.
(2) المغني 5 / 54.
(3) المرجع نفسه.(38/61)
الثَّالِثُ: مَا لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ الْمُضَارِبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَأَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَأَنْ يَخْلِطَ مَال الْمُضَارَبَةِ بِمَال نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِِذَا لَمْ يَقُل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْل الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلاَ يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ: فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لاَ يَمْلِكَهَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ فَمَا فَوْقَهُ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْخَلْطُ فَلأَِنَّهُ يُوجِبُ فِي مَال رَبِّ الْمَال حَقًّا لِغَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ
اعْمَل بِرَأْيِكَ أَوْ تَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ فَلَهُ الْبَيْعُ بِالنَّسَاءِ، لأَِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُل عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي صِفَاتِ الْبَيْعِ وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ فَإِِِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمَهْمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 95، وحاشية ابن عابدين 4 / 485.(38/61)
فَاتَ مِنَ الثَّمَنِ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِِلاَّ أَنْ يُفَرِّطَ بِبَيْعِ مَنْ لاَ يَوْثُقُ بِهِ أَوْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِِِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ فَعَل مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، إِِلاَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: يَقِفُ بَيْعُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَى الإِِِْجَازَةِ فَهَاهُنَا مِثْلُهُ، وَيَحْتَمِل قَوْل الْخِرَقِيِّ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَعَلَى كُل حَالٍ يَلْزَمُ الْعَامِل الضَّمَانُ لأَِنَّ ذَهَابَ الثَّمَنِ حَصَل بِتَفْرِيطِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَلاَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِِِنْ فَعَل فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ النَّقْصَ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَنْجَبِرُ بِضَمَانِ النَّقْصِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الأَْجْنَبِيِّ، وَإِِِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ ضَمِنَ النَّقْصَ أَيْضًا، وَإِِِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ قِيمَتُهُ إِِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلِرَبِّ الْمَال مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِل وَالْمُشْتَرِي.
وَبَيْعُ الْمُضَارِبِ أَوْ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: الأُْولَى: جَوَازُهُ إِِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَالرِّبْحُ حَاصِلٌ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَرَضًا بِعَرَضِ وَيَشْتَرِيهِ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِِِنْ قُلْنَا لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَفَعَلَهُ فَحُكْمُهُ(38/62)
حُكْمُ مَا لَوِ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْل، وَإِِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ فَلَهُ ذَلِكَ (1) .
الرَّابِعُ: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ أَصْلاً
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل شِرَاءُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (2) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الإِِِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ لاَ يَحْصُل إِِلاَّ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَمَا لاَ يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ، وَمَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لاَ يُقْدَرُ عَلَى بَيْعِهِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ أَيْضًا، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ الإِِِْذْنِ، فَإِِِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لاَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ دَفَعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَضْمَنُ (3) .
الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
37 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ مِنْ حَيْثُ أَثَرِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْمُضَارَبَةِ إِِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يَبْطُل، وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) المغني 5 / 40 - 43.
(2) بدائع الصنائع 6 / 98، وروضة الطالبين 5 / 147، والمغني 5 / 51.
(3) بدائع الصنائع 6 / 98.(38/62)
قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إِِذَا دَخَل هَذَا الْعَقْدَ أَنَّهُ إِِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُل الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ هَذَا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَلاَ يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ إِِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لاَ يَعْمَل فِي الْوَكَالَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لُزُومَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ لاَ يَعْزِلَهُ مُدَّةً بِعَيْنِهَا، أَوْ لاَ يَبِيعَ إِِلاَّ مِمَّنِ اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ بِرَأْسِ الْمَال أَوْ أَقَل، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، أَوْ تَمْنَعُ الْفَسْخَ الْجَائِزَ بِحُكْمِ الأَْصْل.
الثَّانِي: مَا يَعُودُ إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ مَجْهُولاً، أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الأَْلْفَيْنِ أَوْ إِِحْدَى السَّفْرَتَيْنِ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُفْضِي إِِلَى جَهْل حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَوْ إِِلَى فَوَاتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 86.(38/63)
الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لاَ مُقْتَضَاهُ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ الْمَال أَوْ سَهْمًا مِنَ الْوَضِيعَةِ أَوْ أَنْ يُضَارِبَ لَهُ فِي مَالٍ آخَرَ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.
وَمَتَى اشْتَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا يَعُودُ إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنَى فِي الْعِوَضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، وَلأَِنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ فَتُفْضِي إِِلَى التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا يَدْفَعُهُ إِِلَى الْمُضَارِبِ.
وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَجْهُولٍ فَلَمْ تُبْطِلْهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلاَقِ.
وَنَقَل الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ (1) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الأَْمْثِلَةِ لِلشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
أ - شَرْطُ اشْتِرَاكِ الْمَالِكِ فِي الْعَمَل:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ شَرْطَ عَمَل رَبِّ الْمَال فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يُفْسِدُهَا، لأَِنَّ الْمَال أَمَانَةٌ فَلاَ يَتِمُّ إِِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال إِِلَى
__________
(1) المغني 5 / 70 - 71.(38/63)
الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِِِذَا شَرَطَ عَمَل رَبِّ الْمَال مَعَهُ لاَ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، لأَِنَّ يَدَهُ تَبْقَى عَلَى الْمَحِل، فَيَمْنَعُ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَالاً لِيَعْمَل فِيهِ هُوَ وَآخَرُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ (2) .
ب - شَرْطُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ:
39 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ مِقْدَارٍ مِنَ الرِّبْحِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فَإِِِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلآْخَرِ لاَ يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إِِلاَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فَيَكُونُ ذَلِكَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلاَ يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً (3) .
ج - اشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ عِنْدَ التَّلَفِ
40 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 5 / 56، والشرح الصغير 3 / 609، وروضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 309 - 310.
(2) الإنصاف 5 / 432.
(3) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86، والشرح الصغير 3 / 682، وروضة الطالبين 5 / 123، ومغني المحتاج 2 / 313، والمغني 5 / 38.(38/64)
رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل ضَمَانَ رَأْسِ الْمَال إِِذَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا (1) .
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَامِل أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَإِِِنْ تَلِفَ الْمَال فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ، فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ يَتَنَافَى مَعَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (2) .
تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ سَنَةً جَازَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصَرُّفٌ يَتَقَيَّدُ بِنَوْعِ مِنَ الْمَتَاعِ فَجَازَ تَقْيِيدُهُ بِالْوَقْتِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ وَهُوَ يَحْتَمِل التَّخْصِيصَ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل: ضَارِبْ بِهَذَا الْمَال شَهْرًا، وَمَتَى مَضَى الأَْجَل فَهُوَ قَرْضٌ صَحَّ ذَلِكَ، فَإِِِنْ مَضَى الأَْجَل وَالْمَال
__________
(1) الفتاوى الأنقروية 2 / 232، والشرح الصغير 6 / 687، والكافي لابن عبد البر 2 / 112 ط. مطبعة حسان.
(2) المهذب 1 / 395، وكشاف القناع 3 / 522.(38/64)
نَاضٌّ صَارَ قَرْضًا، وَإِِِنْ مَضَى وَهُوَ مَتَاعٌ فَعَلَى الْعَامِل تَنْضِيضُهُ، فَإِِِذَا بَاعَهُ وَنَضَّضَهُ صَارَ قَرْضًا لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَال فِيهِ غَرَضٌ.
وَقَالُوا: يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ كَإِِِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَضَارِبْ بِهَذَا عَلَى كَذَا، لأَِنَّهُ إِِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَجَازَ تَعْلِيقُهُ كَالْوَكَالَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا، فَلَوْ أَجَّل الْعَمَل فِيهَا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، كَاعْمَل فِيهَا سَنَةً مِنَ الآْنِ، أَوْ إِِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْفُلاَنِيُّ فَاعْمَل فِيهَا، فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّحْجِيرِ الْمُنَافِي لِسُنَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَلأَِنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يُبْطِل بِالْجَهَالَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلإِِِِخْلاَل التَّوْقِيتِ بِمَقْصُودِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، فَقَدْ لاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبْحُ فِي الْمُدَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ (2) .
تَصَرُّفَاتُ رَبِّ الْمَال:
فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِيمَا لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَعْمَلَهُ وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْهَا:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 99، والاختيار 3 / 21، وكشاف القناع 3 / 512، والإنصاف 5 / 430.
(2) الشرح الصغير 3 / 687، والمهذب 1 / 393، ومغني المحتاج 2 / 312.(38/65)
أ - مُعَامَلَةُ الْمُضَارِبِ الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُعَامَلَةِ الْمُضَارِبِ الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَا نُقِل عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ شِرَاءُ رَبِّ الْمَال مِنَ الْمُضَارِبِ وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، لأَِنَّ لِرَبِّ الْمَال فِي مَال الْمُضَارَبَةِ مِلْكَ رَقَبَةٍ لاَ مِلْكَ تَصَرُّفٍ، وَمِلْكُهُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الأَْجْنَبِيِّ، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لاَ الرِّقْبَةِ، فَكَانَ فِي حَقِّ مِلْكِ الرِّقْبَةِ كَمِلْكِ الأَْجْنَبِيِّ حَتَّى لاَ يَمْلِكَ رَبُّ الْمَال مَنْعَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَال الأَْجْنَبِيِّ لِذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَال مِنَ الْعَامِل شَيْئًا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِصِحَّةِ الْقَصْدِ، بِأَنْ لاَ يَتَوَصَّل إِِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الرِّبْحِ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، قَال الْبَاجِيُّ: وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِنَقْدِ أَوْ بِأَجَل، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِِِلاَّ مُنِعَ.
وَقَالُوا: يَجُوزُ شِرَاءُ الْعَامِل مِنْ رَبِّ الْمَال سِلَعًا لِنَفْسِهِ لاَ لِتِجَارَةِ الْمُضَارَبَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَزُفَرُ: لاَ يُعَامِل الْمُضَارِبُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 101، وحاشية الدسوقي 3 / 526، 528، والتاج والإكليل 5 / 365، والإنصاف 5 / 438 - 439.(38/65)
الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ، أَيْ لاَ يَبِيعُهُ إِِيَّاهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِِلَى بَيْعِ مَالِهِ بِمَالِهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ مِنْهُ بِعَيْنِ أَوْ دَيْنٍ فَلاَ يَمْتَنِعُ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا فَسْخَ الْمُضَارَبَةِ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُضَارَبَةِ بَطَل فِيمَا يَظْهَرُ، قَالَهُ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ، وَلاَ فَرْقَ فِي مَنْعِ بَيْعِ مَال الْمُضَارَبَةِ لِلْمَالِكِ بَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ لاَ.
وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُعَامِل رَبَّ الْمَال بِغَيْرِ مَال الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَبِّ الْمَال عَامِلاَنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ بِمَال فَالأَْصَحُّ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا الشِّرَاءُ مِنَ الآْخَرِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ الشِّرَاءُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ ظَهَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ لأَِنَّهُ شَرِيكٌ لِرَبِّ الْمَال فِيهِ، وَإِِِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ صَحَّ - قَال الْمِرْدَاوِيُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - كَشِرَاءِ الْوَكِيل مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَيَشْتَرِي مِنْ رَبِّ الْمَال أَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال.
وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ - قَال الْمِرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ - لأَِنَّ مَال الْمُضَارَبَةِ مِلْكُهُ، وَكَشِرَاءِ الْمُوَكِّل مِنْ وَكِيلِهِ.
وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ عَنِ الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 316، ونهاية المحتاج 5 / 231، وبدائع الصنائع 6 / 101.(38/66)
الصَّغِيرِ: لاَ يَشْتَرِي الْمَالِكُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
ب - الْمُرَابَحَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ
43 - قَال الْحَنَفِيَّةُ الأَْصْل الْفِقْهِيُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُل مَا يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ - حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - فَهُوَ بِمَعْنَى رَأْسِ الْمَال، وَيُضَمُّ إِِلَيْهِ، وَكُل مَا لاَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ - حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - فَهُوَ لَيْسَ بِمَعْنَى رَأْسِ الْمَال، وَلاَ يُضَمُّ إِِلَيْهِ، وَإِِِذَا وَجَبَ الضَّمُّ يَقُول الْمُضَارِبُ عِنْدَ بَيْعِهِ مُرَابَحَةً: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، تَحَرُّزًا عَنِ الْكَذِبِ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: تَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَال مِنْ مُضَارِبِهِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً أَوْ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَال فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، لَكِنْ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَل الثَّمَنَيْنِ، إِِلاَّ إِِذَا بَيَّنَ الأَْمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَإِِِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَال مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَال ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال اشْتَرَى مَال نَفْسِهِ بِمَال نَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَبِيعُ مَال رَبِّ الْمَال مِنْ رَبِّ الْمَال إِِذِ الْمَالاَنِ لَهُ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ، إِِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُضَارِبِ بِالْمَال وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، فَجُعِل ذَلِكَ بَيْعًا فِي
__________
(1) كشاف القناع 3 / 415، 516، والإنصاف 5 / 438، 439.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 301.(38/66)
حَقِّهِمَا لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، بَل جُعِل فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا مُلْحَقًا بِالْعَدِمِ، وَلأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ يُجْرِيهِ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْجِنَايَةِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ تَمَكَّنَتِ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا، لِجَوَازِ أَنَّ رَبَّ الْمَال بَاعَهُ مِنَ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُضَارِبُ، لأَِنَّ الْجُودَ بِمَال الْغَيْرِ أَمْرٌ سَهْلٌ، فَكَانَتْ تُهْمَةُ الْجِنَايَةِ ثَابِتَةٌ، وَالتُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، فَلاَ يَبِيعُ مُرَابَحَةً إِِلاَّ عَلَى أَقَل الثَّمَنَيْنِ إِِلاَّ إِِذَا بَيَّنَ الأَْمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعَهُ كَيْفَ شَاءَ، لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ (1) .
ج - الشُّفْعَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوِ اشْتَرَى دَارًا وَرَبُّ الْمَال شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ الْمُشْتَرَى وَإِِِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ مِنَ الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَال شَفِيعُهَا فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ رِبْحٌ وَقْتَ الْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 102، وانظر الدر المختار ورد المحتار 4 / 491.(38/67)
وَالْوَكِيل بِبَيْعِ الدَّارِ إِِذَا بَاعَ لاَ يَكُونُ لِلْمُوَكِّل الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ: فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَال فَكَذَلِكَ هُوَ وَكَيْل بَيْعِهَا، وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ لَتَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلأَِنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِرَأْسِ الْمَال، فَإِِِذَا لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ فِي الْمَتْبُوعِ لاَ تَجِبُ فِي التَّابِعِ.
وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَال دَارًا لِنَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى مِنَ الْمُضَارَبَةِ: فَإِِِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ، لأَِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَوَقَعَ لِرَبِّ الْمَال وَالشُّفْعَةُ لاَ تَجِبُ لِبَائِعِ الدَّارِ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ: فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَلاَ شُفْعَةَ، لأَِنَّهُ أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَال، وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَى دَارًا إِِلَى جَانِبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ: فَإِِِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَطَلَتْ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، لأَِنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارِبِ، فَإِِِذَا سَلَّمَ جَازَ تَسْلِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَال.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ: فَإِِِنْ كَانَ فِي(38/67)
الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ وَلِرَبِّ الْمَال جَمِيعًا، فَإِِِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَلِلآْخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا جَمِيعًا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَال خَاصَّةً، لأَِنَّهُ لاَ نَصِيبَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ (1) .
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوِ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ شِقْصًا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ فَهَل لَهُ الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّارِحُ: إِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ، أَوْ كَانَ وَقُلْنَا: لاَ يَمْلِكُهُ بِالظُّهُورِ، فَلَهُ الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْهُ وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالظُّهُورِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مِلْكِهِ مِنَ الرِّبْحِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَمْلِكُ الأَْخَذَ بِالشُّفْعَةِ، وَاخْتَارَهُ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِل.
وَالثَّانِي: لَهُ الأَْخَذُ، وَخَرَّجَهُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ، فَإِِِنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ شَرِيكًا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ، وَمَعَ تَصَرُّفِهِ لِنَفْسِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 101.(38/68)
تَزُول التُّهْمَةُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ ظُهُورِ الرِّبْحِ وَلاَ بُدَّ (1) .
د - تَعَدُّدُ الْمُضَارِبِ أَوْ رَبِّ الْمَال
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يُضَارِبَ أَكْثَرَ مِنْ عَامِلٍ عَلَى حِدَةٍ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ مَالاً يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَحْدَهُ دُونَ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمَال.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُضَارِبَ رَبُّ الْمَال أَكْثَرَ مِنْ عَامِلٍ مُجْتَمِعِينَ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِِلَيْهِمْ مَالاً مُعَيَّنًا يَشْتَرِكُونَ فِي تَحْرِيكِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَا يُنَاسَبُ الْمُضَارَبَةَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْوَاحِدَةِ رَبُّ الْمَال، بِأَنْ يُضَارِبَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَال عَامِلاً وَاحِدًا، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِرَبِّ الْمَال الَّذِي سَبَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ نَصِيبَ كُل عَامِلٍ مِنَ الرِّبْحِ فِي حَال تَعَدُّدِ الْعُمَّال، يَكُونُ بِحَسَبِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْعَمَل (2) .
__________
(1) الإنصاف 5 / 446 - 447.
(2) بدائع الصنائع 6 / 90، 100، والفتاوى الهندية 4 / 296، والخرشي 6 / 217، ومغني المحتاج 2 / 315، والمغني 5 / 35 - 36.(38/68)
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ صُورَةً ثَالِثَةً: وَهِيَ تَعَدُّدُ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَأَنْ يُضَارِبَ رَجُلاَنِ بِمَالِهِمَا رَجُلَيْنِ (1) .
يَدُ الْمُضَارِبِ
46 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ يَدَ الْمُضَارِبِ عَلَى رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ إِِذَا تَلِفَ الْمَال أَوْ هَلَكَ إِِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ. كَالْوَكِيل (2) .
قَال الْمُوصِلِيُّ: إِِذَا سُلِّمَ رَأْسُ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمَانَةٌ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَال الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ، فَإِِِذَا ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ صَارَ شَرِيكًا فِيهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ مَلَكَ الْجُزْءَ الْمَشْرُوطَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: فَإِِِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ شَرْطَ رَبِّ الْمَال صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَيَصِيرُ الْمَال مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ، لأَِنَّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ، لَكِنَّهُ لاَ يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمِّدٍ، وَيَطِيبُ لَهُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى
__________
(1) المضاربة لأبي الحسن الماوردي ص 278.
(2) بدائع الصنائع 6 / 87، وحاشية الدسوقي 3 / 523، والمهذب 1 / 395، والمغني 5 / 54.
(3) الاختيار 3 / 19 - 20، والدر المختار ورد المحتار 4 / 486، وبدائع الصنائع 6 / 87.(38/69)
الْعَامِل أَنْ لاَ يَنْزِل وَادِيًا، أَوْ لاَ يَمْشِيَ بِالْمَال لَيْلاً، أَوْ لاَ يَنْزِل بِبَحْرٍ، أَوْ لاَ يَبْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ لِغَرَضِ فَيَجُوزُ، وَضَمِنَ الْعَامِل إِِنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَلِفَ الْمَال أَوْ بَعْضُهُ زَمَنَ الْمُخَالِفَةِ، وَأَمَّا لَوْ تَجَرَّأَ وَاقْتَحَمَ النَّهْيَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَصَل تَلَفٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الأَْمْرِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ فَلاَ ضَمَانَ، وَكَذَا لَوْ خَالَفَ اضْطِرَارًا بِأَنْ مَشَى فِي الْوَادِي الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ أَوْ سَافَرَ بِاللَّيْل أَوْ فِي الْبَحْرِ اضْطِرَارًا لِعَدَمِ الْمَنْدُوحَةِ فَلاَ ضَمَانَ وَلَوْ حَصَل تَلَفٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَوِ اشْتَرَى شَيْئًا نُهِيَ عَنْ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْغَاصِبِ (2) .
آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ شَيْئَيْنِ: النَّفَقَةُ وَالرِّبْحُ الْمُسَمَّى (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 694.
(2) المغني 5 / 48.
(3) بدائع الصنائع 6 / 105.(38/69)
أَوَّلاً: نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَفَقَةِ الْمُضَارَبَةِ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ بِعَمَلِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، لأَِنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالْعَاقِل لاَ يُسَافِرُ بِمَال غَيْرِهِ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ تَعْجِيل النَّفَقَةِ مِنْ مَال نَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَل نَفَقَتُهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُول الْمُضَارَبَاتِ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ إِِلَيْهَا، فَكَانَ إِِقْدَامُ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَال عَلَى هَذَا الْعَقْدِ - وَالْحَال مَا ذَكَرَ - إِِذْنًا مِنْ رَبِّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ بِالإِِِْنْفَاقِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الإِِِْنْفَاقِ دَلاَلَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُ بِهِ نَصًّا، وَلأَِنَّهُ يُسَافِرُ لأَِجْل الْمَال لاَ عَلَى سَبِيل التَّبَرُّعِ وَلاَ بِبَدَل وَاجِبٍ لَهُ لاَ مَحَالَةَ فَتَكُونَ نَفَقَتُهُ فِي الْمَال.
وَشَرْطُ الْوُجُوبِ خُرُوجُ الْمُضَارِبِ بِالْمَال مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَال مِنْهُ مُضَارَبَةً، سَوَاءٌ كَانَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَمَا دَامَ يَعْمَل بِهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِِِنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَال نَفْسِهِ لاَ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ أَنْفَقَ مِنْهُ شَيْئًا ضَمِنَ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الإِِِْذْنِ لاَ تَثْبُتُ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا إِِقَامَتُهُ فِي الْحَضَرِ لاَ تَكُونُ لأَِجْل الْمَال، لأَِنَّهُ كَانَ مُقِيمًا قَبْل ذَلِكَ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ(38/70)
الْمِصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ بِالْمَال مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِصْرِ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِذَا انْتَهَى إِِلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، فَإِِِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ حَيْنَ دَخَل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ لاَ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِصْرَهُ وَلاَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ، لَكِنَّهُ أَقَامَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ مَا أَقَامَ فِيهِ، وَإِِِنْ نَوَى الإِِِْقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا، مَا لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ الْمِصْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ دَارَ إِِقَامَةٍ لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يَتَّخِذْهُ دَارَ إِِقَامَةٍ كَانَتْ إِِقَامَتُهُ فِيهِ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِنِ اتَّخَذَهُ وَطَنًا كَانَتْ إِِقَامَتُهُ لِلْوَطَنِ لاَ لِلْمَال فَصَارَ كَالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ، وَلَوْ خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي دَخَلَهُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إِِلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَال فِيهِ مُضَارَبَةً فَإِِِنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَدْخُلَهُ، فَإِِِذَا دَخَلَهُ: فَإِِِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَهُ أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ، وَإِِِلاَّ فَلاَ.
وَكُل مَنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الْعَمَل فَنَفَقَتُهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، كَأَجِيرٍ يَخْدُمُهُ أَوْ يَخْدُمُ دَابَّتَهُ، لأَِنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَهَيَّأُ لِلسَّفَرِ إِِلاَّ بِهِمْ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 105 - 106.(38/70)
وَكُل مَا فِيهِ النَّفَقَةُ فَالنَّفَقَةُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، وَلِلْعَامِل أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال نَفْسِهِ مَا لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي الْمُضَارَبَةِ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، لأَِنَّ الإِِِْنْفَاقَ مِنَ الْمَال وَتَدْبِيرِهِ إِِلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَال، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَال بِشَيْءِ - كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - لأَِنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ، كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الرَّهْنِ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهَلاَكِ النِّصَابِ.
وَتُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ أَوَّلاً إِِنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، لأَِنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنَ الْمَال، وَالأَْصْل أَنَّ الْهَلاَكَ يَنْصَرِفُ إِِلَى الرِّبْحِ، وَلأَِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مِنْ رَأْسِ الْمَال خَاصَّةً أَوْ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ لاَزْدَادَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ عَلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَال.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفَقَةِ هُنَا: الْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالإِِِْدَامُ وَالشَّرَابُ وَأَجْرُ الأَْجِيرِ، وَفِرَاشٌ يَنَامُ عَلَيْهِ، وَعَلْفُ دَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِي سَفَرِهِ وَيَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا فِي حَوَائِجِهِ، وَغَسْل ثِيَابِهِ، وَدَهْنُ السِّرَاجِ وَالْحَطَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَال: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَكَانَ الإِِِْذْنُ ثَابِتًا مِنْ رَبِّ(38/71)
الْمَال دَلاَلَةً، وَأَمَّا ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَالتَّنَوُّرِ وَالاِدِّهَانِ وَمَا يَرْجِعُ إِِلَى التَّدَاوِي وَصَلاَحِ الْبَدَنِ فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً، لاَ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ خِلاَفَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُ، وَذَكَرَ فِي الْحِجَامَةِ وَالاِطِّلاَءِ بِالنُّورَةِ وَالْخِضَابِ قَوْل الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً، لأَِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَال لِدَلاَلَةِ الإِِِْذْنِ الثَّابِتِ عَادَةً، وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، وَعَلَى هَذَا إِِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ يَقْضِي بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَلاَ يَقْضِي بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ، وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ فَالْمُعْتَادُ مِنْهَا يَجْرِي مَجْرَى الطَّعَامِ وَالإِِِْدَامِ، وَقَال بِشْرٌ: سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنِ اللَّحْمِ فَقَال: يَأْكُل كَمَا كَانَ يَأْكُل لأَِنَّهُ مِنَ الْمَأْكُول الْمُعْتَادِ.
وَإِِِذَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ إِِلَى مِصْرِهِ فَمَا فَضَل عِنْدَهُ مِنَ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ رَدَّهُ إِِلَى الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ كَانَ لأَِجْل السَّفَرِ، فَإِِِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ لَمْ يَبْقَ الإِِِْذْنُ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ إِِلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَقَدْرُ النَّفَقَةِ يَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ التُّجَّارِ مِنْ غَيْرِ إِِسْرَافٍ، فَإِِِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْفَضْل، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ ثَابِتٌ بِالْعَادَةِ فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 106، 107.(38/71)
وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ لاَ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّهُ أَجِيرٌ فِي الْفَاسِدَةِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ، إِِذْ إِِنَّ نَفَقَةَ الأَْجِيرِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ الإِِِْنْفَاقُ مِنْ مَالِهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي زَمَنِ سَفَرِهِ لِلتِّجَارَةِ وَإِِِقَامَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ وَفِي حَال رُجُوعِهِ حَتَّى يَصِل إِِلَى وَطَنِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ بِشُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُسَافِرَ فِعْلاً لِلتِّجَارَةِ، أَوْ يَشْرَعَ فِي السَّفَرِ، أَوْ يَحْتَاجَ لِمَا يَشْرَعُ بِهِ فِيهِ لِتَنْمِيَةِ الْمَال - وَلَوْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ - مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَرُكُوبٍ وَمَسْكَنٍ وَحَمَّامٍ وَحِجَامَةٍ وَغَسْل ثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ حَتَّى يَعُودَ لِوَطَنِهِ.
وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِلْعَامِل فِي الْحَضَرِ، قَال اللَّخْمِيُّ: مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا، أَيْ بِأَنْ كَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ مَثَلاً يُنْفِقُ مِنْهَا فَعَطَّلَهَا لأَِجْل عَمَل الْمُضَارَبَةِ، فَلَهُ الإِِِْنْفَاقُ مِنْ مَالِهَا، قَال أَبُو الْحَسَنِ: وَهُوَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَبْنِيَ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا فِي الْبَلَدِ الَّتِي سَافَرَ إِِلَيْهَا لِتَنْمِيَةِ الْمَال، فَإِِِنْ بَنَى بِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ لأَِنَّهُ صَارَ كَالْحَاضِرِ، فَإِِِنْ بَنَى بِهَا فِي طَرِيقِهِ الَّتِي سَافَرَ فِيهَا لَمْ تَسْقُطْ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 490، والاختيار 3 / 24.(38/72)
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِل مَال الْمُضَارَبَةِ الإِِِْنْفَاقَ بِأَنْ يَكُونَ كَثِيرًا عُرْفًا، فَلاَ نَفَقَةَ فِي الْيَسِيرِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ لأَِجْل تَنْمِيَةِ الْمَال، أَمَّا لَوْ كَانَ سَفَرُهُ لِزَوْجَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا وَحَجٍّ وَغَزْوٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، لاَ فِي حَال ذَهَابِهِ وَلاَ فِي حَال إِِقَامَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّتِي سَافَرَ إِِلَيْهَا، وَأَمَّا فِي حَال رُجُوعِهِ فَإِِِنْ رَجَعَ مِنْ قُرْبَةٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ، وَإِِِنْ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ أَهْلٍ لِبَلَدِ لَهُ بِهَا أَهْلٌ فَلَهُ النَّفَقَةُ، لأَِنَّ سَفَرَ الْقُرْبَةِ وَالرُّجُوعَ مِنْهُ لِلَّهِ، وَلاَ كَذَلِكَ الرُّجُوعُ مِنْ عِنْدِ الأَْهْل.
وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ تَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ لاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَال نَفْسِهِ رَجَعَ بِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ تَلِفَ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ، وَكَذَا لَوْ زَادَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَال لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ بِالزَّائِدِ.
وَلِلْعَامِل أَنْ يَتَّخِذَ خَادِمًا مِنَ الْمَال فِي حَال سَفَرِهِ إِِنْ كَانَ أَهْلاً لأَِنْ يُخْدَمَ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ.
وَلَيْسَ لِلْعَامِل نَفَقَةُ الدَّوَاءِ، وَلَيْسَ مِنَ الدَّوَاءِ الْحِجَامَةُ وَالْحَمَّامُ وَحَلْقُ الرَّأْسِ بَل مِنَ النَّفَقَةِ.
وَلِلْعَامِل أَنْ يَكْتَسِيَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ طَال سَفَرُهُ حَتَّى امْتَهَنَ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ الَّتِي أَقَامَ بِهَا غَيْرَ بَعِيدَةٍ، فَالْمَدَارُ عَلَى الطُّول بِبَلَدِ التَّجْرِ، وَالطُّول بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ مَعَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ.(38/72)
وَيُوَزَّعُ الإِِِْنْفَاقُ إِِنْ خَرَجَ الْعَامِل لِحَاجَةِ غَيْرِ الأَْهْل وَالْقُرْبَةِ مَعَ خُرُوجِهِ لِلْمُضَارَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ كَانَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَاجَتِهِ مِائَةٌ وَفِي الْمُضَارَبَةِ مِائَةٌ فَأَنْفَقَ مِائَةَ كَانَ نِصْفُهَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ كَانَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْمُضَارَبَةِ مِائَتَيْنِ وَزَّعَ الإِِِْنْفَاقَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُنْفِقُ الْعَامِل مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ حَضَرًا جَزْمًا، وَكَذَا سَفَرًا فِي الأَْظْهَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، لأَِنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي الرِّبْحِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا آخَرَ، وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ قَدْ تَكُونُ قَدْرَ الرِّبْحِ فَيُؤَدِّي إِِلَى انْفِرَادِهِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ فَيُؤَدِّي إِِلَى أَنْ يَأْخُذَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَال وَهُوَ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، فَلَوْ شَرَطَ لَهُ النَّفَقَةَ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ، وَفِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَزِيدُ بِسَبَبِ السَّفَرِ كَالإِِِْدَاوَةِ وَالْخُفِّ وَالسُّفْرَةِ وَالْكِرَاءِ لأَِنَّهُ حَبَسَهُ عَنِ الْكَسْبِ بِالسَّفَرِ لأَِجْل الْمُضَارَبَةِ، فَأَشْبَهَ حَبْسَ الزَّوْجَةِ بِخِلاَفِ الْحَضَرِ، وَتُحْسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ خُسْرَانٌ لَحِقَ الْمَال (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 530 - 531، والشرح الصغير 3 / 705.
(2) مغني المحتاج 2 / 317، ونهاية المحتاج 5 / 233، وروضة الطالبين 5 / 135 - 136.(38/73)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ نَفَقَةٌ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ مَعَ السَّفَرِ بِمَال الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، إِِذْ لَوِ اسْتَحَقَّهَا لأََفْضَى إِِلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَرْبَحْ سِوَى النَّفَقَةِ إِِلاَّ بِشَرْطِ، قَال تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَوْ عَادَةً فَإِِِنْ شَرَطَهَا رَبُّ الْمَال وَقَدَّرَهَا فَحَسَنٌ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، فَإِِِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا وَاخْتَلَفَا فَلَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ عُرْفًا مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ، لأَِنَّ إِِطْلاَقَ النَّفَقَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا هُوَ ضَرُورَاتُهُ الْمُعْتَادَةُ (1) .
ثَانِيًا: الرِّبْحُ الْمُسَمَّى:
48 - مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إِِنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَإِِِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ فِيهِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ (2) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ لاَ بِالظُّهُورِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى - إِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ - وَإِِِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 516 - 517، والمغني 5 / 72.
(2) بدائع الصنائع 6 / 107.(38/73)
الْقِسْمَةِ قَبْضُ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال، فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال، حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إِِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا، فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَرَأْسُ الْمَال فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَال، فَهَلَكَتِ الأَْلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ، فَإِِِنَّ الْقِسْمَةَ الأُْولَى لَمْ تَصِحَّ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَال فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إِِلَى رَبِّ الْمَال حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَال رَأْسَ مَالِهِ، وَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَال رَأْسَ الْمَال، وَالأَْصْل فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَثَل الْمُصَلِّي كَمَثَل التَّاجِرِ لاَ يَخْلُصُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي لاَ تُقْبَل نَافِلَتُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ (1) ، فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال لاَ تَصِحُّ، وَلأَِنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لاَ تَكُونُ إِِلاَّ بَعْدَ سَلاَمَةِ الأَْصْل، وَلأَِنَّ الْمَال إِِذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْل الأَْصْل فَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَإِِِذَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فَإِِِذَا هَلَكَ
__________
(1) حديث: " مثل المصلي كمثل التاجر. . ". أخرجه البيهقي في السنن (2 / 387) من حديث علي بن أبي طالب، وذكر أن فيه راويًا ضعيفًا.(38/74)
مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَال، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَال (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُقْسَمُ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ إِِلاَّ بَعْدَ كَمَال رَأْسِ الْمَال، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ تَمَامِ رَأْسِ الْمَال يَكُونُ بِيَدِ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارَبَةُ عَلَى مَا شَرَطَا.
وَقَالُوا: لاَ يَقْتَسِمُ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ حَتَّى يُنَضَّ رَأْسُ الْمَال، أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهِ، لأَِنَّهُ إِِذَا قُسِمَ قَبْل نَضُوضِهِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى قَسْمِهِ قَدْ تَهْلَكُ السِّلَعُ أَوْ تَتَحَوَّل أَسْوَاقُهَا فَيَنْقُصُ رَأْسُ الْمَال، فَيَحْصُل الضَّرَرُ لِرَبِّ الْمَال بِعَدِمِ جَبْرِ رَأْسِ الْمَال بِالرِّبْحِ، وَإِِِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ فَالْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِي تَعْجِيل ذَلِكَ أَوْ تَأْخِيرِهِ، فَمَا كَانَ صَوَابًا فَعَلَهُ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْعُرُوضِ إِِذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا وَتَكُونُ بَيْعًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِل بِعَمَلِهِ بِالْقِسْمَةِ لِلْمَال لاَ بِظُهُورِ الرِّبْحِ، إِِذْ لَوْ مَلَكَ بِالظُّهُورِ لَكَانَ شَرِيكًا حَتَّى لَوْ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ هَلَكَ مِنَ الْمَالَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل الرِّبْحُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 107، 108.
(2) التاج والإكليل 5 / 366، والفواكه الدواني 2 / 177.(38/74)
وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَال، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَاقَاةِ.
وَلاَ يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِل فِي حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ، بَل إِِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِتَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَال وَفَسْخِ الْعَقْدِ، لِبَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْل الْفَسْخِ مَعَ عَدَمِ تَنْضِيضِ الْمَال، حَتَّى لَوْ حَصَل بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَقْصٌ جُبِرَ بِالرِّبْحِ الْمَقْسُومِ، أَوْ بِتَنْضِيضِ الْمَال وَالْفَسْخِ بِلاَ قِسْمَةٍ لاِرْتِفَاعِ الْعَقْدِ وَالْوُثُوقِ بِحُصُول رَأْسِ الْمَال، أَوْ تَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَال فَقَطْ وَاقْتِسَامِ الْبَاقِي مَعَ أَخْذِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال، وَكَالأَْخْذِ الْفَسْخُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي
وَإِِِنْ طَلَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ فَامْتَنَعَ الآْخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، لأَِنَّهُ إِِنِ امْتَنَعَ رَبُّ الْمَال لَمْ يَجُزْ إِِجْبَارُهُ، لأَِنَّهُ يَقُول: الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَال فَلاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تُسَلِّمَ لِي رَأْسَ الْمَال، وَإِِِنْ كَانَ الَّذِي امْتَنَعَ هُوَ الْعَامِل لَمْ يَجُزْ إِِجْبَارُهُ، لأَِنَّهُ يَقُول: لاَ نَأْمَنُ أَنْ نَخْسِرَ فَنَحْتَاجَ أَنْ نَرُدَّ مَا أَخَذَ.
وَإِِِنْ تَقَاسَمَا - أَيْ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ - جَازَ، لأَِنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُمَا وَقَدْ رَضِيَا، فَإِِِنْ حَصَل بَعْدَ الْقِسْمَةِ خُسْرَانٌ لَزِمَ الْعَامِل أَنْ يَجْبُرَهُ بِمَا أَخَذَ، لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ إِِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ رَأْسَ الْمَال (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا ظَهَرَ رِبْحٌ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 318، والمهذب 1 / 387.(38/75)
يَكُنْ لِلْعَامِل أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال بِلاَ نِزَاعٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلأَْظْهُرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِل يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ قَبْل الْقِسْمَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَمْلِكُ الْعَامِل حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالتَّنْضِيضِ وَالْفَسْخِ قَبْل الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا وَاخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْمُقَاسَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَلاَ يَسْتَقِرُّ بِدُونِهَا، وَمِنَ الأَْصْحَابِ - كَابْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ - مَنْ قَال: يَسْتَقِرُّ بِالْمُحَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ، قَال فِي الْقَوَاعِدِ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ صَرِيحًا عَنْ أَحْمَدَ (1) .
الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ 49 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: ثِمَارُ الشَّجَرِ وَالنِّتَاجُ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَسَائِرُ الزَّوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَفُوزُ بِهَا الْمَالِكُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَوَائِدِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل فِي مَال التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَل هِيَ نَاشِئَةٌ مِنْ عَيْنِ الْمَال مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنَ الْعَامِل، أَمَّا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ حَاصِلَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَال،
__________
(1) الإنصاف 5 / 445، 446.(38/75)
كَمَا لَوِ اشْتَرَى حَيَوَانًا حَامِلاً أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ، فَالأَْوْجَهُ أَنَّ الْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ مَال مُضَارَبَةٍ.
وَقِيل: كُل مَا يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ مَال مُضَارَبَةٍ لِحُصُولِهَا بِسَبَبِ شِرَاءِ الْعَامِل الأَْصْل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ - مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ: الْمَهْرَ وَالثَّمَرَةَ وَالأُْجْرَةَ وَالأَْرْشَ وَكَذَا النِّتَاجُ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ (2) .
جَبْرُ تَلَفِ مَال الْمُضَارَبَةِ وَخَسَارَتُهُ 50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَوْ خَسِرَ فَإِِِنَّهُ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ إِِنْ كَانَ، أَيْ يُكْمِل مِنَ الرِّبْحِ مَا نَقَصَ بِالتَّلَفِ أَوِ الْخُسْرِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ إِِنْ لَمْ يَكُنْ رَبِحَ أَوْ زَادَ التَّلَفُ أَوِ الْخُسْرُ عَلَى الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَال. وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ.
قَال الْمَوْصِلِيُّ: مَا هَلَكَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَإِِِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَال لأَِنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِِِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ رَأْسُ الْمَال أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 234، 235.
(2) الإنصاف 5 / 447.(38/76)
الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَال، لأَِنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَال، وَلاَ يُعْرَفُ الْفَضْل إِِلاَّ بَعْدَ سَلاَمَةِ رَأْسِ الْمَال، فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلاَكُ إِِلَيْهِ، وَلَوْ فُسِخَتِ الْمُضَارَبَةُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَال لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ، لأَِنَّ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَدِيدَةٌ، وَالأُْولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: النَّقْصُ الْحَاصِل بِرُخْصٍ فِي مَال الْقِرَاضِ هُوَ خُسْرَانٌ مَجْبُورٌ بِالرِّبْحِ، وَكَذَا النَّقْصُ بِالتَّعَيُّبِ وَالْمَرَضِ الْحَادِثَيْنِ، وَأَمَّا النَّقْصُ الْعَيْنِيُّ وَهُوَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَال، فَإِِِنْ حَصَل بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال بَيْعًا وَشِرَاءً فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الاِحْتِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الآْفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ خُسْرَانٌ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ، وَفِي التَّلَفِ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ إِِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْبَدَل مِنَ الْمُتْلِفِ وَجْهَانِ، وَطَرَّدَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي الآْفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الْجَبْرُ.
وَإِِِنْ حَصَل النَّقْصُ قَبْل التَّصَرُّفِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خُسْرَانٌ فَيُجْبَرُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِل بَعْدُ، لأَِنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِل صَارَ مَال مُضَارَبَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا: يَتْلَفُ مِنْ رَأْسِ الْمَال لاَ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَل.
__________
(1) الاختيار 3 / 20، 24، 25.(38/76)
هَذَا إِِذَا تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا إِِذَا تَلِفَ كُلُّهُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ قَبْل التَّصَرُّفِ أَوْ بَعْدَهُ فَتَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، لَكِنْ لَوْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ جَمِيعَ مَال الْمُضَارَبَةِ أَوْ بَعْضَهُ أُخِذَ مِنْهُ بَدَلُهُ وَاسْتَمَرَّتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ إِِنْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَال أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ، أَوْ تَعَيُّبِ رَأْسِ الْمَال، أَوْ خَسِرَ بِسَبَبِ مَرَضٍ، أَوْ تَغَيُّرِ صِفَةٍ، أَوْ نَزَل السِّعْرُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَال. جُبِرَتِ الْوَضِيعَةُ مِنْ رِبْحِ بَاقِيهِ قَبْل قِسْمَتِهِ، نَاضًّا أَوْ مَعَ تَنْضِيضِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، لأَِنَّهُ مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل إِِلاَّ بَعْدَ كَمَال رَأْسِ الْمَال.
وَإِِِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَةٍ قَبْل التَّصَرُّفِ، أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْل الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لأَِنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.
وَقَالُوا: وَمَهْمَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى رَأْسِ الْمَال وَجَبَ جَبْرُ خُسْرَانِهِ مِنْ رِبْحِهِ وَإِِِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ لأَِنَّهَا مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَحْرُمُ قِسْمَتُهُ وَالْعَقْدُ بَاقٍ إِِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 138 - 139، ومغني المحتاج 2 / 318 - 319.(38/77)
الْمَال وَقَايَةً لِرَأْسِ مَالِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ فَيَجْبُرُهُ بِالرِّبْحِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ الْعَامِل لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ فِي وَقْتٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلاَ يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ خُسْرُ مَال الْمُضَارَبَةِ بِالرِّبْحِ، هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْل، وَأَمَّا الَّتِي فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل فَلاَ يَتَأَتَّى فِيهَا جَبْرٌ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُل مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل، وَأَمَّا إِِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَل مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْل.
وَلَوْ دَخَل الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَال عَلَى عَدَمِ الْجَبْرِ بِالرِّبْحِ لَمْ يُعْمَل بِهِ وَالشَّرْطُ مُلْغًى، قَال الصَّاوِيُّ: هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا لِمَالِكِ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَحَكَى بَهْرَامٌ مُقَابِلَهُ عَنْ جَمْعٍ فَقَالُوا: مَحِل الْجَبْرِ مَا لَمْ يَشْتَرِطَا خِلاَفَهُ وَإِِِلاَّ عُمِل بِذَلِكَ الشَّرْطِ، قَال بَهْرَامٌ: وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ الأَْقْرَبُ لأَِنَّ الأَْصْل إِِعْمَال الشَّرْطِ لِخَبَرِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (2) مَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 517 - 520.
(2) ديث: " المسلمون على شروطهم. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني وقال: حديث حسن صحيح.(38/77)
وَقَالُوا: يُجْبَرُ أَيْضًا بِالرِّبْحِ مَا تَلِفَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِسَمَاوِيٍّ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَخَذَهُ لِصٌّ أَوْ عَشَّارٌ، وَإِِِنْ وَقَعَ التَّلَفُ قَبْل الْعَمَل بِالْمَال، مَا لَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَال مِنَ الْعَامِل مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ قَبَضَهُ نَاقِصًا عَنْ أَصْلِهِ ثُمَّ رَدَّهُ لَهُ فَلاَ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ مُضَارَبَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَالْجَبْرُ إِِنَّمَا يَكُونُ إِِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَصْل الْمَال، فَلَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ فَأَتَى لَهُ رَبُّهُ بِبَدَلِهِ فَلاَ جَبْرَ لِلأَْوَّل بِرِبْحِ الثَّانِي (1) .
مَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
51 - يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى إِِذَا كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ (2) .
زَكَاةُ مَال الْمُضَارَبَةِ
52 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى رَبِّ الْمَال (3) .
وَأَمَّا زَكَاةُ الرِّبْحِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 96) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 690، 699، 700.
(2) بدائع الصنائع 6 / 108.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 204، والقوانين الفقهية ص 108، والمدونة 5 / 98، والقليوبي 2 / 31، والمغني 3 / 38.(38/78)
آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ
53 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ:
أ - أَنَّ الرِّبْحَ - إِِنْ حَدَثَ - يَكُونُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِهِ، وَإِِِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ إِِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا، وَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال.
ب - أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ - خَسِرَ الْمَال أَوْ رَبِحَ - لأَِنَّ عَمَلَهُ إِِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسَمَّى، فَإِِِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَوَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الإِِِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالأَْجِيرُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الإِِِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِِِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، رَبِحَ الْمَال أَوْ لاَ، بِلاَ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَال إِِذَا لَمْ يَرْبَحْ لاَ أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِئَلاَّ تَرْبُوَ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ عَلَى الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ قَال: الْخِلاَفُ فِيمَا إِِذَا رَبِحَ، وَأَمَّا إِِذَا لَمْ يَرْبَحْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 108، وروضة الطالبين 5 / 125، وكشاف القناع 3 / 511 - 512.(38/78)
فَأَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ فِي الْوَاقِعَاتِ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِِذَا رَبِحَ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُل مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل، وَأَمَّا إِِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَل مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْل.
وَقَالُوا: إِِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَإِِِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال، عَلَى مَا يَلِي:
أ - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَمُضَارَبَةُ مِثْل الْمَال فِي رِبْحِهِ إِِنْ رَبِحَ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال عَرَضًا دَفَعَهُ رَبُّ الْمَال وَتَوَلَّى الْمُضَارِبُ بَيْعَهُ وَعَمِل بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَال رَهْنًا أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا وَكَّل رَبَّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَالْعَمَل بِمَا خَلَّصَهُ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ دَفَعَهُ رَبُّ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ لِيَصْرِفَهُ ثُمَّ يَعْمَل بِمَا صَرَفَهُ مُضَارَبَةً. فَلِلْمُضَارِبِ إِِنْ عَمِل أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ بَيْعَ الْعَرَضِ أَوْ تَخْلِيصَ الرَّهْنِ أَوِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 484.(38/79)
تَوَلِّيهِ الصَّرْفَ، وَهَذَا الأَْجْرُ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال.
وَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ أَجْرِ الْمِثْل مُضَارَبَةً مِثْل الْمَال فِي رِبْحِهِ - إِِنْ رَبِحَ - لاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال، حَتَّى إِِذَا لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ.
ب - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ مُضَارَبَةَ مِثْل الْمَال.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِِذَا انْتَفَى عِلْمُ نَصِيبِ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِِذَا أُبْهِمَتِ الْمُضَارَبَةُ، أَوْ أُجِّلَتِ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، أَوْ ضَمِنَ الْعَامِل، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شِرَاءَ مَا يَقِل وُجُودُهُ، فَلِلْمُضَارِبِ فِي كُل صُورَةٍ مُضَارَبَةُ الْمِثْل فِي الرِّبْحِ إِِنْ عَمِل وَرِبْحُ الْمَال، وَإِِِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال.
ج - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ.
وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ - وَنَحْوِهِ - مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَاشْتِرَاطِ يَدِهِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِ، أَوْ أَمِينٍ عَلَيْهِ، أَوْ كَخِيَاطَةٍ أَوْ فَرْزٍ، أَوْ تَعْيِينِ مَحَلٍّ، أَوْ زَمَنٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ، أَوْ خَلْطٍ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل وَمَا فِيهِ أَجْرُ الْمِثْل مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أ - أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل لاَ شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ إِِنْ لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ، بِخِلاَفِ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِِِنَّهَا لاَ تَرْتَبِطُ بِحُصُول رِبْحٍ، بَل تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ.(38/79)
ب - أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل يُفْسَخُ قَبْل الْعَمَل وَيَفُوتُ بِالْعَمَل، وَمَا فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْل يُفْسَخُ مَتَى اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مَا عَمِل.
ج - أَنَّ الْعَامِل يَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ إِِذَا كَانَ لَهُ مُضَارَبَةُ الْمِثْل، وَيَكُونُ أُسْوَتَهُمْ إِِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل. عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْفَسَادُ بِاشْتِرَاطِ عَمَل يَدِهِ - كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ مَثَلاً - فَإِِِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ لأَِنَّهُ صَانِعٌ (1) .
54 - نَقَل فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْفُصُول الْعِمَادِيَّةِ أَنَّ كُل مَا جَازَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ شِرَاءٍ وَبَيْعٍ أَوْ إِِجَارَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَافِذَةٌ كَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَةِ، لإِِِِذْنِ رَبِّ الْمَال لَهُ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ وَبَقِيَ الإِِِْذْنُ لِنَحْوِ فَوَاتِ شَرْطٍ - كَكَوْنِهِ غَيْرَ نَقْدٍ - نَفَذَ تَصَرُّفُ الْعَامِل نَظَرًا لِبَقَاءِ الإِِِْذْنِ كَالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ، هَذَا إِِذَا قَارَضَهُ الْمَالِكُ بِمَالِهِ، أَمَّا إِِذَا قَارَضَهُ بِمَال غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلاَيَةٍ أَوْ فَسَدَ الْقِرَاضُ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 3 / 686 - 690، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 519.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 296.
(3) روضة الطالبين 5 / 125، ونهاية المحتاج 5 / 228 - 229، وكشاف القناع 3 / 511 - 512.(38/80)
55 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّ مَا لاَ ضَمَانَ فِي صَحِيحِهِ لاَ ضَمَانَ فِي فَاسِدِهِ (1) .
اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ
قَدْ يَخْتَلِفُ رَبُّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل مِنْهَا:
أَوَّلاً - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:
56 - فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ اخْتِلاَفَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَالُوا: إِِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ أَوْ فِي عُمُومِ الأَْمْكِنَةِ أَوْ مَعَ عُمُومِ الأَْشْخَاصِ، وَادَّعَى الآْخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَانٍ وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، لأَِنَّ قَوْل مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الإِِِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي الإِِِْطْلاَقَ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِِلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبْحُ.
وَقَال الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إِِنَّ الْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقِيل: إِِنَّهُ قَوْل زُفَرَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 484، وكشاف القناع 3 / 512.(38/80)
وَوَجْهُهُ أَنَّ الإِِِْذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَال فَكَانَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ.
فَإِِِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومِ فِي الاِخْتِلاَفِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، وَبَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدِ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي الإِِِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ وَبَيِّنَةُ الإِِِْطْلاَقِ سَاكِتَةٌ.
وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ، وَقَال الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال - بِاتِّفَاقِهِمْ - لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتَرَجَّحَ بِالإِِِْذْنِ وَأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَال.
فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لأَِنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال نَافِيَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِِْثْبَاتِ وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِِْثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى (1) .
ثَانِيًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال
57 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال الْمَدْفُوعِ لِلْمُضَارَبَةِ فَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ أَلْفَيْنِ، وَقَال الْعَامِل: بَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، والفتاوى الهندية 4 / 323.(38/81)
دَفَعْتُ أَلْفًا. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِينٌ، وَلأَِنَّ الْقَوْل فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَمِينًا أَوْ ضَمِينًا كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْقَبْضِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إِِلاَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ بِمَا إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ، فَأَمَّا إِِنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ مِنَ الرِّبْحِ فَتَحَالَفَا كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ، قَال الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَْوَّل لأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ اخْتِلاَفٌ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ فَتَحَالَفَا، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَهَذَا اخْتِلاَفٌ فِيمَا قُبِضَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي يُنْكِرُ، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِِِنَّ الْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْل لِرَبِّ الْمَال فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَقَطْ لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا(38/81)
أَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَل، وَإِِِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَال لأَِنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِِثْبَاتًا، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لأَِنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِِثْبَاتًا (1) .
ثَالِثًا - الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلاِخْتِلاَفِ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ صُوَرًا، مِنْهَا:
أ - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا:
58 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ اخْتِلاَفِ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال كَانَ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ الْمَال مُضَارَبَةً، وَقَال الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَال وَالرِّبْحُ لِي، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقْرَضَهُ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 492، والمدونة 5 / 127، والمهذب 1 / 396، وروضة الطالبين 5 / 146 - 147، والمغني 5 / 78.(38/82)
وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: دَفَعْتُ إِِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل أَقْرَضْتُكَ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ كَانَ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْل لَهُ، فَإِِِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَصْل الضَّمَانِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: أَعْطَيْتُكَ الْمَال مُضَارَبَةً، وَقَال الْعَامِل: بَل سَلَفًا. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال هُنَا مُدَّعٍ فِي الرِّبْحِ فَلاَ يُصَدَّقُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً قَال لِرَجُل: لَكَ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال بَل هِيَ عِنْدَكَ سَلَفًا، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ - لَوْ قَال الْمَالِكُ: مُضَارَبَةً، وَقَال الآْخَرُ: قَرْضًا، عِنْدَ بَقَاءِ الْمَال وَرِبْحِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْل قَوْل مُدَّعِي الْقَرْضِ لأُِمُورِ مِنْهَا: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْل الرِّبْحِ لَهُ بِقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِي فَإِِِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ، وَلَوِ انْعَكَسَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَال فِي يَدِ الْعَامِل صُدِّقَ الْعَامِل - كَمَا أَفَتَى الأَْنْصَارِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الصَّلاَحِ - لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالأَْصْل عَدَمُ الضَّمَانِ، وَإِِِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110.
(2) المدونة 5 / 127.(38/82)
أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ فَوَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ لأَِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ مَا لاَ يَتَّجِرُ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَال رَبُّ الْمَال: كَانَ مُضَارَبَةً عَلَى النِّصْفِ - مَثَلاً - فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا، وَقَال الْعَامِل: كَانَ قَرْضًا فَرِبْحُهُ كُلُّهُ لِي. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ رَبُّ الْمَال، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِِِنْ أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَقُسِمَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مِلْكِ رَبِّ الْمَال عَلَيْهِ وَتَبِعَهُ الرِّبْحُ، لَكِنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِنِصْفِ الرِّبْحِ لِلْعَامِل فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الأَْصْل، وَالْمَذْهَبُ: تَقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَامِل (2) .
ب - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً:
59 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اخْتِلاَفِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَال الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ
__________
(1) أسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 392.
(2) كشاف القناع 3 / 523 - 524.(38/83)
يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَال الْغَيْرِ فَالْقَوْل قَوْل صَاحِبِ الْمَال.
وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَال وَالرِّبْحُ لِي، وَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُهُ إِِلَيْكَ بِضَاعَةً فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنِ ادَّعَى الْعَامِل أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل أَبْضَعْتُهُ مَعَكَ لِتَعْمَل لِي بِهِ، فَإِِِنَّ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل رَبِّ الْمَال بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَارَبَةٍ، وَيَكُونُ لِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَلاَ يُزَادُ، وَإِِِنْ نَكَل كَانَ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل مَعَ يَمِينِهِ إِِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْتَعْمَل مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ إِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: كَانَ بِضَاعَةً فَرِبْحُهُ لِي، وَقَال الْعَامِل: كَانَ مُضَارَبَةً فَرِبْحُهُ لَنَا. حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَكَانَ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110.
(2) المدونة 5 / 127، والخرشي 6 / 224.
(3) كشاف القناع 3 / 24.(38/83)
ج - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ غَصْبًا
60 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إِِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَدْ ضَاعَ الْمَال قَبْل أَنْ أَعْمَل بِهِ، وَقَال رَبُّ الْمَال: أَخَذْتَهُ غَصْبًا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِِِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَال إِِلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِِِنْ كَانَ عَمِل بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال، لأَِنَّ عَمَلَهُ فِي مَال الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ إِِذْنُ صَاحِبِهِ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لإِِِِنْكَارِهِ، فَأَمَّا إِِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَال وَالإِِِْذْنَ لَهُ فِي الْعَمَل بِبَيِّنَةِ.
وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْكَ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْل أَنْ أَعْمَل بِهِ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ، وَقَال رَبُّ الْمَال: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِالأَْخَذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْقِطَ وَهُوَ إِِذْنُ صَاحِبِهِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِِلاَّ بِحُجَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا قَال الْعَامِل: الْمَال بِيَدِي
__________
(1) المبسوط 22 / 94، والفتاوى الهندية 2 / 335.(38/84)
مُضَارَبَةً أَوْ وَدِيعَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي، فَإِِِنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى رَبِّ الْمَال، لأَِنَّهُ مُدَّعٍ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يُشْبِهُ أَنْ يُغْصَبَ أَوْ يُسْرَقَ (1) .
د - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مُضَارَبَةً أَوْ وَكَالَةً
61 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَرَبُّ الْمَال فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ فَقَال الْعَامِل ضَارَبْتَنِي وَقَال الْمَالِكُ: بَل وَكَّلْتُكَ. صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مُقَابَلَةِ الْعَمَل بِشَيْءِ، فَإِِِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَال وَرِبْحَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِلآْخَرِ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَالظَّاهِرُ - كَمَا قَال الأَْنْصَارِيُّ - تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْعَامِل لأَِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.
وَقَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ: صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، إِِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي أَصْل الشَّيْءِ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ، مَعَ أَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الاِئْتِمَانِ الدَّافِعِ لِلضَّمَانِ (2) .
هـ - جُحُودُ الْعَامِل الْمُضَارَبَةَ
62 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ
__________
(1) شرح الخرشي 6 / 224 - 225.
(2) أسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 392، وروضة الطالبين 5 / 147.(38/84)
أَصْلاً وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي دَفْعَ الْمَال إِِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ، وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ. فَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِِلَى رَجُلٍ مَالاً مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ فَقَال: لَمْ تَدْفَعْ إِِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ قَال: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قَدْ دَفَعْتَ إِِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً. هُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال، لأَِنَّهُ أَمِينٌ وَالأَْمِينُ إِِذَا جَحَدَ الأَْمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ، وَهَذَا لأَِنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لاَزِمٍ، بَل هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِِِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَال مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِِِنِ اشْتَرَى بِهِ مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَال فَلاَ يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَال أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِِِذَا صَارَ ضَمِينًا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِِِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لاَ يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلاَ يَعُودُ إِِلاَّ بِسَبَبِ جَدِيدٍ (1) .
رَابِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ مَا اشْتُرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ أَوْ لِلْعَامِل
63 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْعَامِل إِِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِنَفْسِي، وَقَال رَبُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110 - 111.(38/85)
الْمَال: اشْتَرَيْتَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، أَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ وَقَدْ يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ وَلاَ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ إِِلاَّ بِالنِّيَّةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِِلَيْهِ، وَلأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ هُنَا فِي نِيَّةِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا نَوَاهُ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِيمَا نَوَاهُ.
وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَال: إِِذَا قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: قَوْل الْمَالِكِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُقُوعِهِ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِلْمُضَارَبَةِ. صُدِّقَ الْعَامِل بِيَمِينِهِ قَطْعًا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُصَدَّقُ الْعَامِل فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الشَّيْءَ لِلْمُضَارَبَةِ وَإِِِنْ كَانَ خَاسِرًا، أَوْ لِي وَإِِِنْ كَانَ رَابِحًا، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ وَهُوَ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ، وَلأَِنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ فِي يَدِهِ.
وَقَال: مَحَل قَبُول قَوْلِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إِِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الذِّمَّةِ لأَِنَّ التَّعْوِيل فِيهِ عَلَى النِّيَّةِ، أَمَّا إِِذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَقَامَ الْمَالِكُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: رَجَّحَ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْهُمَا أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالْفَارِقِيُّ وَغَيْرُهُمْ.(38/85)
كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَال الْمُضَارَبَةِ عُدْوَانًا، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الأَْنْوَارِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ قَال: قَال الإِِِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ: كُل شِرَاءٍ وَقَعَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ لاَ شَكَّ فِي وُقُوعِهِ لَهَا وَلاَ أَثَرَ لِنِيَّةِ الْعَامِل، لإِِِِذْنِ الْمَالِكِ لَهُ فِي الشِّرَاءِ.
ثُمَّ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْقَوْل بِالْبُطْلاَنِ أَوْجَهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ مَنْ دَفَعَ إِِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى دَابَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُل عِنْدَ الشِّرَاءِ إِِنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَال: اشْتَرَيْتُهَا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَقَال: اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِكَ، هَل يُصَدَّقُ الْمُضَارِبُ فِيمَا قَال؟ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لاَ تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِِمَّا أَنْ يَكُونَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَالدَّابَّةِ قَائِمَيْنِ وَقْتَ إِِقْرَارِ الْمُضَارِبِ، أَوْ كَانَا هَالِكَيْنِ، أَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةً وَمَال الْمُضَارَبَةِ هَالِكًا، أَوْ كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَائِمًا وَالدَّابَّةُ هَالِكَةً. فَفِي الْوَجْهِ الأَْوَّل: الْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِِِنْ هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ قَبْل التَّسْلِيمِ إِِلَى الْبَائِعِ فَإِِِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِثَمَنِهِ وَيُسَلِّمُهُ إِِلَى الْبَائِعِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي:. لاَ يُصَدَّقُ
__________
(1) المهذب 1 / 389، وروضة الطالبين 5 / 146، ومغني المحتاج 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 523، والمغني 5 / 76.(38/86)
الْمُضَارِبُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِلْبَائِعِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِشَيْءِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: ذَكَرَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يُصَدَّقُ عَلَى رَبِّ الْمَال فِي حَقِّ تَسْلِيمِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى الْبَائِعِ، وَإِِِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَال بِأَلْفٍ آخَرَ فَإِِِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُصَدَّقًا.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ مَال نَفْسِهِ، وَقَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ مُضَارَبَةً وَلاَ غَيْرَهَا، ثُمَّ قَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَإِِِنِ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْ لِلْمُضَارِبِ نِيَّةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ إِِنْ نَقَدَ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ وَاقِعًا لِلْمُضَارِبِ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ، كَمَا فِي الْوَكِيل الْخَاصِّ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 322 - 323، وانظر روضة القضاة للسمناني 5 / 595 - 596.(38/86)
خَامِسًا - اخْتِلاَفُهُمَا فِي النَّهْيِ بَعْدَ الإِِِْذْنِ
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال لَهُ: كُنْتُ نَهَيْتُكَ عَنْ شِرَاءِ هَذَا، فَقَال: لَمْ تَنْهَنِي، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ النَّهْيِ، وَلأَِنَّ قَوْل رَبِّ الْمَال دَعْوَى خِيَانَةٍ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (1) .
سَادِسًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ فَسَادِهِ
65 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ فَسَادَ الْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْل لِرَبِّ الْمَال، وَإِِِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَال فَسَادَهَا فَالْقَوْل لِلْمُضَارِبِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَوْل لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ غَلَبَ الْفَسَادُ، لأَِنَّ هَذَا الْبَابَ لَيْسَ مِنَ الأَْبْوَابِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل مَا إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ، وَقَال الْمُضَارِبُ: الثُّلُثُ، فَالْقَوْل لِلْمُضَارِبِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي فَسَادِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ صِحَّتِهِ يَكُونُ الْقَوْل لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْهُمَا.
__________
(1) روضة القضاة 2 / 596، والمدونة 5 / 127 - 128، وروضة الطالبين 5 / 146، والمغني 5 / 69.(38/87)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْفَسَادِ يَكُونُ الْقَوْل لِمَنِ ادَّعَى الْفَسَادَ (1) .
سَابِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي تَلَفِ رَأْسِ الْمَال
66 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَرَبُّ الْمَال فِي تَلَفِ الْمَال، بِأَنِ ادَّعَاهُ الْعَامِل وَأَنْكَرَهُ رَبُّ الْمَال. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّهُ أَمِينٌ وَالأَْصْل عَدَمُ الْخِيَانَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: يُصَدَّقُ الْعَامِل بِيَمِينِهِ، هَذَا إِِذَا لَمْ يُذْكَرْ سَبَبُ التَّلَفِ وَلاَ يُكَلَّفُ بَيَانَ سَبَبِهِ، أَمَّا إِِذَا ذَكَرَ سَبَبَ التَّلَفِ وَكَانَ السَّبَبُ خَفِيًّا كَالسَّرِقَةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِِِنِ ادَّعَاهُ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالْغَارَةِ وَالسَّيْل فَإِِِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَا ادَّعَاهُ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِِِنْ عُرِفَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوِ الاِسْتِفَاضَةِ، نُظِرَ إِِنْ عُرِفَ عُمُومُهُ صُدِّقَ بِلاَ يَمِينٍ وَإِِِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُمُومُهُ وَاحْتَمَل أَنَّهُ لَمْ يُصِبْ مَال الْمُضَارَبَةِ صُدِّقَ بِالْيَمِينِ.
وَأَضَافَ الدَّرْدِيرُ وَالْبُهُوتِيُّ: مَحَل ذَلِكَ إِِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَى كَذِبِهِ أَوْ تَشْهَدْ بِخِلاَفِ ذَلِكَ قَرِينَةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ إِِنْ قَبَضَهُ بِلاَ بَيِّنَةٍ تُوَثَّقُ، وَزَادَ الْبُهُوتِيُّ:
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 262، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 3 / 708، والخرشي 6 / 225، والأشباط للسيوطي ص 67، والقواعد لابن رجب ص 341.(38/87)
وَإِِِنِ ادَّعَى الْهَلاَكَ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ كُلِّفَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِهِ، ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ تَلِفَ بِهِ.
وَقَال الصَّاوِيُّ: تَوَجُّهُ الْيَمِينِ هُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيل: بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَالْحَلِفُ جَارٍ عَلَى الْخِلاَفِ فِي أَيْمَانِ التُّهْمَةِ، وَفِيهَا أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: قِيل تَتَوَجَّهُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيل: لاَ مُطْلَقًا، وَقِيل: تَتَوَجَّهُ إِِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عِنْدَ النَّاسِ وَإِِِلاَّ فَلاَ (1) .
ثَامِنًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل بِالْمُضَارَبَةِ
67 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَالْمَالِكُ فِي الرِّبْحِ، فَقَال الْعَامِل: مَا رَبِحْتُ، أَوْ مَا رَبِحْتُ إِِلاَّ أَلْفًا، فَقَال الْمَالِكُ: أَلْفَيْنِ، فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَامِل يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: إِِذَا قَال الْمُضَارِبُ:
رَبِحْتُ أَلْفًا، وَادَّعَى أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نَزْعِ الْمَال مِنْ يَدِهِ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ، لأَِنَّ هَذَا رُجُوعٌ عَنْ إِِقْرَارِهِ بِمَال غَيْرِهِ فَلَمْ يُقْبَل فِي حِصَّةِ الآْخَرِ (3) .
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 593، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 706 - 707، وروضة الطالبين 5 / 145، 6 / 346، والمغني 5 / 76.
(2) روضة الطالبين 5 / 145، وكشاف القناع 3 / 523.
(3) روضة القضاة للسمناني 2 / 598، وروضة الطالبين 5 / 145.(38/88)
تَاسِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الرِّبْحِ
68 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الرِّبْحِ فَادَّعَى الْعَامِل النِّصْفَ - مَثَلاً - وَقَال رَبُّ الْمَال: الثُّلُثُ، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال لأَِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الرِّبْحَ رَأْسًا كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ قَدْرُهُ، فَإِِِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ.
وَقَال زُفَرُ: الْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُضَارَبَةَ، وَظَاهِرُ الْحَال التَّسَاوِي فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَوْل لِلْعَامِل بِيَمِينِهِ فِي قَدْرِ جُزْءِ الرِّبْحِ إِِذَا تَنَازَعَا بَعْدَ الْعَمَل وَأَمَّا قَبْل الْعَمَل فَلاَ فَائِدَةَ لِكَوْنِ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّ لِرَبِّ الْمَال فَسْخُهُ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل - إِِنِ ادَّعَى شَبَهًا، أَيْ جُزْءًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ قِرَاضٍ فِي الْعَادَةِ كَالثُّلُثِ أَوِ النِّصْفِ وَقَدْ جَرَتْ بِهِمَا عَادَةُ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَشْبَهَ رَبُّ الْمَال أَمْ لاَ، وَأَمَّا لَوِ انْفَرَدَ رَبُّ الْمَال بِالشَّبَهِ فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ.
الثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِ الْعَامِل وَلَوْ
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 594، والفتاوى الهندية 4 / 324، وكشاف القناع 3 / 523.(38/88)
حُكْمًا، فَلَوْ سَلَّمَهُ لِرَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْمُفَاصَلَةِ لَمْ يَكُنِ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل وَلَوْ مَعَ وُجُودِ شَبَهِهِ إِِنْ بَعُدَ قِيَامُهُ، فَإِِِنْ قَرُبَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ. كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ.
وَقَالُوا: الْقَوْل لِرَبِّ الْمَال بِيَمِينِهِ - سَوَاءٌ كَانَ تَنَازُعُهُمَا قَبْل الْعَمَل أَوْ بَعْدَهُ إِِنِ ادَّعَى فِي قَدْرِ جُزْءِ الرِّبْحِ الشَّبَهَ وَلَمْ يُشَبِّهِ الْعَامِل، فَإِِِنْ لَمْ يُشَبِّهْ رَبُّهُ أَيْضًا فَمُضَارَبَةُ الْمِثْل. أَيْ جُزْءُ مُضَارَبَةِ الْمِثْل (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إِِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل - فَقَال الْعَامِل: النِّصْفُ، وَقَال الْمَالِكُ بَل الثُّلُثُ - تَحَالَفَا كالمتبايعين، فَإِِِذَا حَلَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ، وَاخْتَصَّ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ بِالْمَالِكِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَإِِِنْ زَادَتْ عَلَى مُدَّعَاهُ، لأَِنَّ مُقْتَضَى التَّحَالُفِ وَالْفَسْخِ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَإِِِنْ تَعَذَّرَ فَقِيمَتُهُ، وَقَدْ رَجَعَ الْمَال وَرِبْحُهُ لِلْمَالِكِ وَقِيَاسُهُ رُجُوعُ الْعَمَل لِلْعَامِل لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ، فَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ وَهِيَ الأُْجْرَةُ.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ الأُْجْرَةَ إِِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْعَامِل فَلَيْسَ لَهُ إِِلاَّ مَا ادَّعَاهُ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 520 - 537
(2) روضة الطالبين 5 / 145 - 146، وأسنى المطالب 2 / 392.(38/89)
عَاشِرًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَال
69 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي رَدِّ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى مَالِكِهِ أَوْ عَدَمِ رَدِّهِ. فَإِِِنَّ الْقَوْل هُوَ قَوْل الْعَامِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَوْل قَوْل الْعَامِل أَنَّهُ رَدَّ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى رَبِّهِ حَيْثُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِِِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُل شَيْءٍ أُخِذَ بِإِِِشْهَادٍ لاَ يُبْرَأُ مِنْهُ إِِلاَّ بِإِِِشْهَادٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ عَلَى دَعْوَى الرَّدِّ وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا. أَيْ عِنْدَهُمْ.
وَقَالُوا: هَذَا فِيمَا إِِذَا ادَّعَى الْعَامِل رَدَّ رَأْسِ الْمَال وَرِبْحَهُ، أَوِ ادَّعَى رَدَّ رَأْسِ الْمَال وَحِصَّةَ رَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ حَيْثُ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، وَأَمَّا إِِنِ ادَّعَى رَدَّ رَأْسِ الْمَال دُونَ رِبْحٍ حَيْثُ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَقَال اللَّخْمِيُّ: يُقْبَل قَوْلُهُ، وَقَال الْقَابِسِيُّ: لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ عَدَمُ قَبُول قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْقَى الْعَامِل بِيَدِهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَقَال الْعَدَوِيُّ: كَلاَمُ ابْنِ رُشْدٍ يَقْتَضِي اعْتِمَادَ الْقَوْل الأَْوَّل.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِِنِ ادَّعَى الْعَامِل رَدَّ(38/89)
الْمَال فَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَال. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال مَعَ يَمِينِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لأَِنَّ الْعَامِل قَبَضَ الْمَال لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي رَدِّهِ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال مُنْكِرٌ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَال إِِلاَّ لِنَفْعِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْعِ رَبِّ الْمَال (1) .
انْفِسَاخُ الْمُضَارَبَةِ
الْمُضَارَبَةُ تَنْفَسِخُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: مَوْتُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ
70 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ كَالْوَكَالَةِ، أَوْ تَشْتَمِل عَلَيْهَا، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِِنَّ رَأْسَ الْمَال إِِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَرَضًا فَإِِِنَّ لِلْمُضَارِبِ الْبَيْعَ لِتَنْضِيضِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ: إِِنْ مَاتَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ قَبْل نَضُوضِ رَأْسِ مَالِهَا فَلِوَارِثِهِ الأَْمِينِ - لاَ غَيْرِهِ - أَنْ يُكْمِل الْعَمَل عَلَى حُكْمِ مُوَرِّثِهِ، فَيَبِيعُ مَا بَقِيَ مِنْ سِلَعِ الْمُضَارَبَةِ وَيَأْخُذُ
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 594، والمدونة 5 / 128، وحاشية الدسوقي 3 / 536، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 6 / 224، والمهذب 1 / 396، وروضة الطالبين 5 / 145، والمغني 5 / 77، والإنصاف 5 / 455
(2) بدائع الصنائع 6 / 122، وحاشية ابن عابدين 4 / 489، ومغني المحتاج 2 / 319 - 320، ونهاية المحتاج 5 / 237، وكشاف القناع 3 / 522.(38/90)
حَظَّ مُوَرِّثِهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ الْعَامِل ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَهُمَا: ضَرَرُ الْوَرَثَةِ فِي الْفَسْخِ، وَضَرَرُ رَبِّ الْمَال فِي إِِبْقَائِهِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ ضَرَرَ الْوَرَثَةِ بِالْفَسْخِ أَشَدُّ لِضَيَاعِ حَقِّهِمْ فِي عَمَل مُوَرِّثِهِمْ.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثُ الْعَامِل أَمِينًا أَتَى الْوَارِثُ بِأَمِينٍ، كَالْعَامِل الأَْوَّل الَّذِي مَاتَ فِي الأَْمَانَةِ وَالثِّقَةِ، يُكْمِل الْعَمَل فِي مَال الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ بَصِيرًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بِخِلاَفِ أَمَانَةِ الْوَارِثِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا مُسَاوَاتُهَا لأَِمَانَةِ الْمُوَرِّثِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الأَْجْنَبِيِّ مَا لاَ يُحْتَاطُ فِي الْوَارِثِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَبَعْضُهُمُ اكْتَفَى بِمُطْلَقِ الأَْمَانَةِ فِي الأَْجْنَبِيِّ وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْل الأَْمَانَةِ فِي الأَْوَّل.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ أَمِينًا وَلَمْ يَأْتِ بِأَمِينٍ كَالأَْوَّل سَلَّمَ الْوَارِثُ الْمَال لِرَبِّهِ تَسْلِيمًا هَدَرًا، أَيْ بِغَيْرِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةٍ فِي نَظِيرِ عَمَل مَنْ مَاتَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ كَالْجَعَالَةِ لاَ يُسْتَحَقُّ جُعْلُهَا إِِلاَّ بِتَمَامِ الْعَمَل، أَيْ فَكَذَلِكَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إِِلاَّ بِتَمَامِ الْعَمَل فِيهَا، وَالْفَرْضُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ - بَعْدَ مِثْل مَا سَبَقَ مِنَ التَّفْصِيل لِلْمَالِكِيَّةِ - إِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال فَهَؤُلاَءِ عَلَى مُضَارَبَتِهِمْ بِحَال مَا كَانُوا إِِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 536.(38/90)
فَإِِِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَخْذَ مَالِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي السِّلَعِ: فَإِِِنْ رَأَى السُّلْطَانُ وَجْهَ بَيْعٍ بَاعَ فَأَوْفَى رَأْسَ الْمَال، وَمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَإِِِنْ لَمْ يَرَ السُّلْطَانُ وَجْهَ بَيْعٍ أَخَّرَ السِّلَعَ حَتَّى يَرَى وَجْهَ بَيْعٍ.
وَفِيهَا: إِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال وَالْمَال فِي يَدَيِ الْمُضَارِبِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بَعْدُ فَلاَ يَنْبَغِي - فِي قَوْل مَالِكٍ - أَنْ يَعْمَل بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِِِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْعَامِل بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال حَتَّى اشْتَرَى بِالْمَال بَعْدَ مَوْتِ رَبِّهِ، فَقَال مَالِكٌ: هُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَعْلَمَ بِمَوْتِهِ (1) .
ثَانِيًا: فِقْدَانُ أَهْلِيَّةِ أَحَدِهِمَا أَوْ نَقْصُهَا:
قَدْ يَعْرِضُ لأَِهْلِيَّةِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ مَا يُذْهِبُهَا أَوْ يُنْقِصُهَا، مِمَّا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي إِِنْهَاءِ الْمُضَارَبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ:
أ - الْجُنُونُ:
71 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبِقَ إِِذَا اعْتَرَى أَحَدَ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَإِِِنَّهُ يُبْطِل الْعَقْدَ (2) .
__________
(1) المدونة 5 / 128 - 130.
(2) بدائع الصنائع 6 / 112، ونهاية المحتاج 5 / 237، وكشاف القناع 3 / 522(38/91)
ب - الإِِِْغْمَاءُ:
72 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِِِْغْمَاءَ سَبَبٌ تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَقَالُوا: إِِذَا أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كَمَا يَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ (1) .
ج - الْحَجْرُ:
73 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُل بِالْحَجْرِ يَطْرَأُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا تَوَسْوَسَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ بِحَيْثُ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَبَطَل بِذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ (2) .
ثَالِثًا: فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ:
74 - فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ بِإِِِرَادَتِهِمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِإِِِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.
وَيَحْصُل الْفَسْخُ بِقَوْل: فَسَخْتُ الْمُضَارَبَةَ أَوْ رَفَعْتُهَا أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ بِقَوْل الْمَالِكِ لِلْعَامِل: لاَ تَتَصَرَّفْ بَعْدَ هَذَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَحْدُثُ بِالْفِعْل كَاسْتِرْجَاعِ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلَّهُ. وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ رَبِّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319.
(2) الدر المختار 4 / 489، وكشاف القناع 3 / 522(38/91)
الْمَال وَالْمُضَارِبِ فَسْخُ الْعَقْدِ بِإِِِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ مَتَى شَاءَ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِكُل مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مَتَى شَاءَ دُونَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الآْخَرِ وَكَوْنُ رَأْسِ الْمَال نَاضًّا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِكُل مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ الْفَسْخُ بِشَرْطِ عِلْمِ صَاحِبِهِ وَكَوْنِ رَأْسِ الْمَال عَيْنًا عِنْدَ الْفَسْخِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفَسْخِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ قَبْل شِرَاءِ السِّلَعِ بِالْمَال (1) .
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا نَهَى رَبُّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَنِ الْعَمَل بِمَالِهِ قَبْل الْعَمَل انْحَل عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ وَيَصِيرُ الْمَال كَالْوَدِيعَةِ، فَإِِِذَا عَمِل بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الرِّبْحُ وَحْدَهُ وَعَلَيْهِ الْخُسْرُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال عَلَيْهِ إِِلاَّ رَأْسُ الْمَال (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ نَهَى رَبُّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَنِ التَّصَرُّفِ وَرَأْسُ الْمَال عُرُوضٌ وَقْتَ النَّهْيِ لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ، أَيْ وَلاَ يَنْعَزِل بِهَذَا النَّهْيِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِِلَى بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَكَانَ النَّهْيُ وَالْفَسْخُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، والشرح الصغير 3 / 705، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 58
(2) الشرح الصغير 3 / 797.(38/92)
إِِبْطَالاً لِحَقِّهِ فِي التَّصَرُّفِ فَلاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ صَحَّ الْفَسْخُ وَالنَّهْيُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إِِلَى دَنَانِيرَ وَالدَّنَانِيرَ إِِلَى دَرَاهِمَ اسْتِحْسَانًا - أَيْ لِتَوَافُقِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال - لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُعَدُّ بَيْعًا - أَيْ لِلْعَيْنِ - لاِتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلِلْعَامِل بَعْدَ الْفَسْخِ بَيْعُ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِذَا تَوَقَّعَ فِيهِ رِبْحًا كَأَنْ ظَفِرَ بِسُوقِ أَوْ رَاغِبٍ، وَلاَ يَشْتَرِي لاِرْتِفَاعِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مَعَ انْتِفَاءِ حَظِّهِ فِيهِ.
وَيَلْزَمُ الْعَامِل اسْتِيفَاءُ دَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَخَا، أَوِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الدَّيْنَ نَاقِصٌ وَقَدْ أَخَذَ الْعَامِل مِنَ الْمَالِكِ مِلْكًا تَامًّا فَلْيَرُدَّ كَمَا أَخَذَ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ، وَلَوْ رَضِيَ بِقَبُول الْحَوَالَةِ جَازَ. وَيَلْزَمُ الْعَامِل أَيْضًا تَنْضِيضُ رَأْسِ الْمَال إِِنْ كَانَ عِنْدَ الْفَسْخِ عَرَضًا وَطَلَبَ الْمَالِكُ تَنْضِيضَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْمَال نَاضٌّ لاَ رِبْحَ فِيهِ أَخَذَهُ رَبُّهُ، وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ قَسَمَاهُ عَلَى مَا شَرْطَاهُ، وَإِِِنِ انْفَسَخَتْ وَالْمَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، 112، وحاشية ابن عابدين 4 / 489.
(2) مغني المحتاج 2 / 319، 320.(38/92)
عَرَضٌ فَاتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهِ أَوْ قَسْمِهِ جَازَ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لاَ يَعْدُوهُمَا.
وَإِِِنْ طَلَبَ الْعَامِل الْبَيْعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال - وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ - أُجْبِرَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْبَيْعِ، لأَِنَّ حَقَّ الْعَامِل فِي الرِّبْحِ وَلاَ يَظْهَرُ إِِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَإِِِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ.
وَإِِِنِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْمَال دَيْنٌ لَزِمَ الْعَامِل تَقَاضِيهِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ (1) .
رَابِعًا: تَلَفُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ: 75 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ مَال الْمُضَارَبَةِ الَّذِي تَسَلَّمَهُ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُحَرِّكْهُ بَعْدُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال الَّذِي تَعَيَّنَ لِلْمُضَارَبَةِ وَتَعَلَّقَ بِهِ عَقْدُهَا قَدْ هَلَكَ وَزَال. وَهَذَا إِِذَا تَلِفَ الْمَال كُلُّهُ، أَمَّا إِِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَيَظَل بَاقِيهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَقَالُوا: إِِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلُّهُ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ فِي عَمَلِيَّاتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ ارْتَفَعَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ وَانْفَسَخَ. وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِِِذَا هَلَكَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الْعَمَل فِيهَا ارْتَفَعَتِ الْمُضَارَبَةُ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ أَوْ
__________
(1) المغني 5 / 64 - 65(38/93)
هَلَكَ، وَيَكُونُ رَأْسُ مَالِهَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْهَلاَكِ.
وَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَفِي أَحْوَالٍ ذَكَرُوهَا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ بِهَلاَكِ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا فِي قَوْل أَصْحَابِنَا، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُل الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أَوْ أَنْفَقَهُ أَوْ دَفَعَهُ إِِلَى غَيْرِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ، فَإِِِنْ أَخَذَ مِثْلَهُ مِنَ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَال فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلاً فَإِِِنْ رَجَعَ إِِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا رَجَعَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّهُ وَإِِِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَال التَّعَدِّي فَيَزُول الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَإِِِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ الضَّمَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الضَّمَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ.
هَذَا إِِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا.
فَإِِِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً وَلَمْ يَنْقُدِ الْمُضَارِبُ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ حَتَّى هَلَكَتِ الأَْلْفُ، فَقَدْ قَال أَصْحَابُنَا: السِّلْعَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِالأَْلْفِ فَيُسَلِّمُهَا إِِلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ(38/93)
إِِنْ هَلَكَتِ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَال، وَكَذَلِكَ سَبِيل الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يُسَلِّمَ إِِلَى الْبَائِعِ، وَيَكُونُ مَا دَفَعَهُ أَوَّلاً رَبُّ الْمَال وَمَا غَرِمَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَال فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ لَهُ كَالْوَكِيل، غَيْرَ أَنَّ الْفَرَقَ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ: أَنَّ الْوَكِيل إِِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ بِمِثْلِهِ إِِلَى الْمُوَكِّل ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّل، وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ فِي كُل مَرَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ تَلِفَ جَمِيعُ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنْ يَدِ الْعَامِل انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَإِِِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَال انْفَسَخَتْ فِيمَا تَلِفَ وَظَلَّتْ قَائِمَةً فِيمَا بَقِيَ.
وَقَالُوا: إِِنْ تَلِفَ كُل الْمَال أَوْ بَعْضُهُ فَلِرَبِّ الْمَال دَفْعُ خُلْفِ مَا تَلِفَ إِِلَى الْعَامِل لِيَتَّجِرَ بِهِ - إِِنْ أَرَادَ رَبُّ الْمَال ذَلِكَ، وَلاَ جَبْرَ عَلَيْهِ فِيهِ قَبْل الْعَمَل أَوْ بَعْدَهُ - وَيَلْزَمُ الْعَامِل قَبُول الْخُلْفِ إِِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَال هُوَ مَا تَلِفَ وَكَانَ تَلَفُهُ بَعْدَ الْعَمَل لاَ قَبْلَهُ، لأَِنَّ لِكُل مِنْهُمَا الْفَسْخُ قَبْل الْعَمَل. أَمَّا إِِنْ تَلِفَ جَمِيعُ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنْ يَدِ الْعَامِل، وَأَرَادَ رَبُّ الْمَال الْخُلْفَ فَإِِِنَّ الْعَامِل لاَ يَلْزَمُهُ قَبُول الْخُلْفِ لاِنْفِسَاخِ الْمُضَارَبَةِ وَانْقِطَاعِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا. وَحَيْثُ كَانَ لاَ يَلْزَمُ رَبَّ الْمَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 113.(38/94)
الْخُلْفُ وَاشْتَرَى الْعَامِل سِلْعَةً لِلْمُضَارَبَةِ فَذَهَبَ لِيَأْتِيَ لِبَائِعِهَا بِثَمَنِهَا فَوَجَدَ الْمَال قَدْ ضَاعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال الْخُلْفَ لَزِمَتِ السِّلْعَةُ الْعَامِل، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ بِيعَتْ وَرِبْحُهَا لَهُ وَخُسْرُهَا عَلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ التَّالِفُ بِرِبْحِ الْخُلْفِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ كُل الْمَال أَوْ بَعْضَهُ كَمَا قَال اللَّخْمِيُّ، وَنَحْوُهُ لاَبْنِ عَرَفَةَ عَنِ التُّونُسِيِّ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِِذَا تَلِفَ الْبَعْضُ وَأَخْلَفَهُ رَبُّهُ فَإِِِنَّهُ يُجْبَرُ تَلَفُ الأَْوَّل بِرِبْحِ الثَّانِي.
وَقَالُوا: لَوْ جَنَى رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل عَلَى بَعْضِ مَال الْقِرَاضِ، أَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا قَرْضًا فَكَأَجْنَبِيٍّ، فَيَتْبَعُ الآْخِذَ وَالْجَانِيَ بِمَا أَخَذَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَلاَ يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالرِّبْحِ لأَِنَّ الرِّبْحَ إِِنَّمَا يَجْبُرُ الْخُسْرَ وَالتَّلَفَ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ وَالأَْخْذُ مِنْهُ قَرْضًا فَلاَ يُجْبَرَانِ بِهِ، لأَِنَّ الْجَانِيَ يُتْبَعُ بِمَا جَنَى عَلَيْهِ وَالآْخِذُ قَرْضًا يُتْبَعُ بِمَا أَخَذَهُ، وَرَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الأَْخْذِ وَالْجِنَايَةُ وَالرِّبْحُ لَهُ خَاصَّةً، لأَِنَّ رَأْسَ الْمَال وَالرِّبْحَ إِِنَّمَا هُوَ لَهُ، وَلاَ يُعْقَل رِبْحٌ لِلْمَأْخُوذِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرَّكْ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال إِِنْ كَانَ هُوَ الْجَانِي فَقَدْ رَضِيَ بِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ هُوَ رَأْسُ الْمَال وَفَسَخَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَإِِِنْ كَانَ الْعَامِل اتُّبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَالأَْجْنَبِيِّ وَلاَ رِبْحَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي الْجِنَايَةِ أَوِ الأَْخَذِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا قَبْل الْعَمَل أَوْ(38/94)
بَعْدَهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: أَيْ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ، وَلاَ يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالرِّبْحِ وَيُتْبَعُ الآْخِذُ بِمَا أَخَذَهُ وَالْجَانِي بِمَا جَنَى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَحَرْقِ وَغَرَقٍ أَوْ بِغَصْبِ أَوْ سَرِقَةٍ، وَتَعَذَّرَ أَخْذُهُ أَوْ أَخْذُ بَدَلِهِ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ مِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فَأَشْبَهَ نَقْصَ الْعَيْبِ وَالْمَرَضِ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل وَتِجَارَتِهِ بِخِلاَفِ الْحَاصِل بِالرُّخْصِ فَلَيْسَ نَاشِئًا مِنْ نَفْسِ الْمَال، بِخِلاَفِ الْمَرَضِ وَالْعَيْبِ.
وَإِِِنْ تَلِفَ بِمَا ذُكِرَ قَبْل تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَيُحْسَبُ مَا تَلِفَ مِنْ رَأْسِ الْمَال لاَ مِنَ الرِّبْحِ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَل، وَالثَّانِي: مِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِل صَارَ مَال مُضَارَبَةٍ.
وَلَوْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلُّهُ ارْتَفَعَتِ الْمُضَارَبَةُ، سَوَاءٌ أَتَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِإِِِتْلاَفِ الْمَالِكِ أَمِ الْعَامِل أَمْ أَجْنَبِيٍّ، لَكِنْ يَسْتَقِرُّ نَصِيبُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 528 - 529، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 6 / 225 - 226، وبلغة السالك والشرح الصغير 3 / 697، وشرح الخرشي 4 / 431.(38/95)
الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ فِي حَالَةِ إِِتْلاَفِ الْمَالِكِ، وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ فِي الْبَدَل إِِنْ أَخَذَهُ فِي حَالَةِ إِِتْلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَتِهِ قَبْل التَّصَرُّفِ أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْل الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لأَِنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.
وَإِِِنْ تَلِفَ الْمَال قَبْل التَّصَرُّفِ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَهِيَ لَهُ وَثَمَنُهَا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ تَلَفَ الْمَال قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ جَهِلَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُضَارَبَةِ لاِنْفِسَاخِهَا بِالتَّلَفِ فَاخْتَصَتْ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْمُضَارَبَةِ لَكَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى غَيْرِهِ، وَالاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ لاَ تَجُوزُ، إِِلاَ أَنْ يَجْبُرَهُ رَبُّ الْمَال فَيَكُونَ لَهُ.
وَإِِنْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل إِِقْبَاضِهِ، أَوْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَالسِّلْعَةُ، فَالْمُضَارَبَةُ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، لأَِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّلَفُ وَلَمْ يُوجَدَّ حِينَ الشِّرَاءِ وَلاَ قَبْلَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَى رَبِّ الْمَال لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319، ونهاية المحتاج 5 / 236.(38/95)
مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ كَالْمُوَكَّل، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَال الثَّمَنَ دُونَ التَّالِفِ لِفَوَاتِهِ، وَلِصَاحِبِ السِّلْعَةِ مُطَالَبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالثَّمَنِ لِبَقَاءِ الإِِْذْنِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَلِمُبَاشَرَةِ الْعَامِل، فَإِِنْ غَرِمَهُ رَبُّ الْمَال لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَيَرَجِعُ بِهِ الْعَامِل إِِنْ غَرِمَهُ عَلَى رَبِّ الْمَال (1) .
خَامِسًا: اسْتِرْدَادُ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ:
76 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ اسْتِرْدَادَ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلَّهُ تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَال الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ، وَأَنَّ اسْتِرْدَادَهُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا اسْتَرَدَّ وَتَظَل قَائِمَةً فِيمَا سِوَاهُ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: إِِنْ أَخَذَ الْمَالِكُ الْمَال بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ وَبَاعَ وَاشْتَرَى بَطَلَتْ إِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال نَقْدًا لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَإِِِنْ صَارَ عَرَضًا لاَ تَبْطُل لأَِنَّ النَّقْضَ الصَّرِيحَ لَهَا لاَ يَعْمَل حِينَئِذٍ فَهَذَا أَوْلَى، ثُمَّ إِِنْ بَاعَ بِعَرَضٍ بَقِيَتْ وَإِِِنْ بِنَقْدِ بَطَلَتْ، لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: لَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَال الْعُرُوضَ بِنَقْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى عُرُوضًا كَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ رِبْحِ الْعُرُوضِ الأُْولَى لاَ الثَّانِيَةِ لأَِنَّهُ لَمَّا بَاعَ الْعُرُوضَ وَصَارَ الْمَال نَقْدًا فِي يَدِهِ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 518.(38/96)
لِلْمُضَارَبَةِ فَشِرَاؤُهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ بَاعَ الْعُرُوضَ بِعُرُوضٍ مِثْلِهَا أَوْ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَرَبِحَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا: تَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ بِاسْتِرْجَاعِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال كُلِّهِ مِنَ الْمُضَارِبِ، وَلَوِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ الْمَال قَبْل ظُهُورِ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فِيهِ رَجَعَ رَأْسُ الْمَال إِِلَى الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَرَدِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ غَيْرَهُ فَصَارَ كَمَا لَوِ اقْتَصَرَ فِي الاِبْتِدَاءِ عَلَى إِِعْطَائِهِ لَهُ، وَانْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا اسْتَرَدَّ.
وَإِِِنِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بِغَيْرِ رِضَا الْعَامِل بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ فَالْمُسْتَرَدُّ مِنْهُ شَائِعٌ: رِبْحًا وَرَأْسَ مَالٍ عَلَى النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَال، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُمَيَّزٍ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِل عَلَى مَا خَصَّهُ مِنَ الرِّبْحِ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيهِ وَلاَ يَسْقُطُ بِخُسْرٍ وَقَعَ بَعْدَهُ، مِثَالُهُ: رَأْسُ الْمَال مِائَةٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالرِّبْحُ عِشْرُونَ وَاسْتَرَدَّ الْمَالِكُ عِشْرِينَ، فَالرِّبْحُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَال وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ الْمُسْتَرَدُّ وَهُوَ الْعِشْرُونَ سُدُسُهُ مِنَ الرِّبْحِ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، فَيَسْتَقِرُّ لِلْعَامِل الْمَشْرُوطُ مِنْهُ - وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ إِِنْ شَرَطَ نِصْفَ الرِّبْحِ -
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 490، والخرشي 6 / 215، وبلغة السالك 3 / 697، وروضة الطالبين 5 / 142، ومغني المحتاج 2 / 320، 321، وكشاف القناع 3 / 518 - 519.(38/96)
وَبَاقِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، فَيَعُودُ رَأْسُ الْمَال إِِلَى ثَلاَثَةٍ وَثَمَانِينَ وَثُلُثٍ، فَلَوْ عَادَ مَا فِي يَدِ الْعَامِل إِِلَى ثَمَانِينَ لَمْ تَسْقُطْ حِصَّةُ الْعَامِل بَل يَأْخُذُ مِنْهَا - أَيْ مِنَ الثَّمَانِينَ - دِرْهَمًا وَثُلُثَيِ الدِّرْهَمِ وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَاسْتِقْلاَل الْعَامِل بِأَخْذِ حِصَّتِهِ - وَهُوَ مَا اسْتَشْكَل عَلَيْهِ الإِِِْسْنَوِيُّ تَبَعًا لاَبْنِ الرِّفْعَةِ - لأَِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا تَسَلَّطَ بِاسْتِرْدَادِ مَا عَلِمَ لِلْعَامِل فِيهِ جُزْءٌ مُكِّنَ الْعَامِل مِنَ الاِسْتِقْلاَل بِأَخْذِ مِثْلِهِ لِيَحْصُل التَّكَافُؤُ بَيْنَهُمَا.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ بِرِضَا الْعَامِل وَصَرَّحَا بِالإِِِْشَاعَةِ أَوْ أَطْلَقَا.
وَإِِِنْ كَانَ الاِسْتِرْدَادُ فِي الْمِثَال السَّابِقِ بِرِضَا الْعَامِل، وَقَصَدَ هُوَ وَالْمَالِكُ الأَْخْذَ مِنْ رَأْسِ الْمَال اخْتَصَّ بِهِ، أَوْ مِنَ الرِّبْحِ اخْتَصَّ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ الْعَامِل مِمَّا فِي يَدِهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ عَلَى الإِِِْشَاعَةِ. قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ الاِسْتِقْلاَل بِأَخْذِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِِِنْ لَمْ يَقْصِدَا شَيْئًا حُمِل عَلَى الإِِِْشَاعَةِ، وَنَصِيبُ الْعَامِل قَرْضٌ لِلْمَالِكِ لاَ هِبَةٌ. . كَمَا رَجَّحَهُ فِي الْمَطْلَبِ وَنَقَلَهُ الإِِِْسْنَوِيُّ وَأَقَرَّهُ.
وَإِِِنِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بَعْدَ ظُهُورِ الْخُسْرَانِ. فَالْخُسْرَانُ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمُسْتَرَدِّ وَالْبَاقِي بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَلْزَمُ جَبْرُ حِصَّةِ الْمُسْتَرَدِّ وَهُوَ عِشْرُونَ لَوْ رَبِحَ الْمَال بَعْدَ ذَلِكَ،(38/97)
مِثَالُهُ: رَأْسُ الْمَال مِائَةٌ وَالْخُسْرَانُ عِشْرُونَ، ثُمَّ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ عِشْرِينَ، فَرُبُعُ الْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ جَمِيعُ الْخُسْرَانِ حِصَّةُ الْمُسْتَرَدِّ مِنْهَا خَمْسَةٌ، فَكَأَنَّ الْمَالِكَ اسْتَرَدَّ خَمْسَةَ وَعِشْرِينَ، وَيَعُودُ رَأْسُ الْمَال الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَرَدِّ وَبَعْدَ حِصَّتِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ إِِلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، فَلَوْ رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا قُسِّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا شَرْطَاهُ (1) .
سَادِسًا: رِدَّةُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ
77 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَال فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَال بَعْدَ الرِّدَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: إِِنْ رَجَعَ إِِلَى الإِِِْسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدِمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلاً، وَكَذَلِكَ إِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْل أَنْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ - عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلَحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ - فَإِِِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ، عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إِِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل أَوْ لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللَّحَاقِ يَزُول مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إِِلَى وَرَثَتِهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 142، ونهاية المحتاج 5 / 237، ومغني المحتاج 2 / 320 - 321.(38/97)
وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَبْطُل تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لِبُطْلاَنِ أَهْلِيَّةِ الآْمِرِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال يَوْمَئِذٍ قَائِمًا فِي يَدِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ، ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ فَالْمُشْتَرَى وَرِبْحُهُ يَكُونُ لَهُ لأَِنَّهُ زَال مِلْكُ رَبِّ الْمَال عَنِ الْمَال فَيَنْعَزِل الْمُضَارِبُ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَإِِِنْ كَانَ صَارَ رَأْسُ الْمَال مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَال، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَنْعَزِل بِالْعَزْل وَالنَّهْيِ وَلاَ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ، فَإِِِنْ حَصَل فِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَال دَرَاهِمُ أَوِ الْعَكْسُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ، لأَِنَّ الَّذِي حَصَل فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال مَعْنًى، لاِتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَال قَائِمٌ فِي يَدِهِ إِِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إِِنْ بَاعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَال جَازَ، لأَِنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْل رَأْسِ الْمَال فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لاَ تَقْدَحُ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَال كَمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَال بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، فَإِِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال أَوْ قُتِل كَانَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ(38/98)
بِلَحَاقِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ بِدَلِيل أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَبَطَل أَمْرُهُ فِي الْمَال.
وَإِِِنْ لَمْ يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَال وَلَكِنَّ الْمُضَارِبَ ارْتَدَّ، فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَال بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَلاَ مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَل الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَال وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّدَّةُ فَبَقِيَتِ الْمُضَارَبَةُ، إِِلاَّ أَنَّهُ لاَ عُهْدَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَإِِِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى رَبِّ الْمَال. فِي قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَال فَتَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَال، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ.
وَإِِِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قَبْل الرِّدَّةِ، وَكَذَا إِِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ، لأَِنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللَّحَاقِ وَالْحُكْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلاَنِ تَصَرُّفِهِ، فَإِِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لَهُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إِِذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَال إِِنْسَانٍ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ.
وَارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ وَعَدَمُ ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، كَانَ الْمَال لَهَا أَوْ كَانَتْ هِيَ(38/98)
مُضَارِبَةً، لأَِنَّ رِدَّتَهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِهَا إِِلاَّ أَنْ تَمُوتَ فَتَبْطُل الْمُضَارَبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْل الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ (1) .
مُضَارَّةٌ
انْظُرْ: ضَرَرٌ
مَضَامِينُ
انْظُرْ: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَرَرٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112 - 113، والدر المختار ورد المحتار 4 / 489.(38/99)
مُضَبَّبٌ
انْظُرْ: آنِيَةٌ
مُضْطَرٌّ
انْظُرْ: ضَرُورَةٌ(38/99)
مُضْغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضْغَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يَمْضُغُ وَجَمْعُهَا مُضَغٌ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِِِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَلَقَةُ:
2 - الْعَلَقَةُ فِي اللُّغَةِ: قِطْعَةٌ مِنَ الدَّمِ الْجَامِدِ مُتَكَوِّنَةٌ مِنَ الْمَنِيِّ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُضْغَةَ طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ الْجَنِينِ وَكَذَلِكَ الْعَلَقَةُ، فَالْمُضْغَةُ مَرْحَلَةٌ بَعْدَ مَرْحَلَةِ
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، والنهاية في غريب الحديث والآثار 4 / 98.
(2) سورة الحج / 5
(3) المصباح المنير، وتفسير روح المعاني 17 / 116، وتفسير القرطبي 12 / 6.(38/100)
الْعَلَقَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِِِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . (1)
النُّطْفَةُ:
3 - النُّطْفَةُ لُغَةً: مَاءُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهَا نُطَفٌ (2) ، وَفِي التَّنْزِيل: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} . (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ أَنَّ النُّطْفَةَ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِل الْجَنِينِ تَسْبِقُ الْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ.
الْجَنِينُ:
4 - الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَسْتُورٍ وَأَجْنَتْهُ الْحَامِل سَتَرَتْهُ، وَالْجَنِينُ وَصْفٌ لَهُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْجَنِينَ يَكُونُ بَعْدَ مَرْحَلَةِ الْمُضْغَةِ.
__________
(1) سورة المؤمنون 12 - 14.
(2) المصباح المنير، وتفسير روح المعاني 17 / 116.
(3) سورة القيامة / 37.
(4) المصباح المنير.(38/100)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُضْغَةِ:
حُكْمُهَا مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضْغَةَ نَجَسٌ، لأَِنَّهَا دَمٌ وَالدَّمُ نَجَسٌ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ وَابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضْغَةَ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ بَل طَاهِرَةٌ، لأَِنَّ الْمُضْغَةَ أَصْل حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَالْمَنِيِّ (2) .
عُقُوبَةُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُضْغَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى امْرَأَةٍ حَامِلٍ إِِذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَلْقَتْ مُضْغَةً وَلَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَشَهِدَتْ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ فَلاَ غُرَّةَ فِيهِ وَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ مُضْغَةً بِضَرْبٍ أَوْ تَخْوِيفٍ أَوْ شَمِّ رِيحٍ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ أَوْ غُرَّةٌ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْغُرَّةِ لِلْجَانِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 208 ط. بولاق، والبحر الرائق 1 / 236، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 1 / 328، والكافي 1 / 88، وبلغة السالك 1 / 35.
(2) مغني المحتاج 1 / 81، والقليوبي وعميرة 1 / 71، وحاشية ابن عابدين 1 / 208.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 378، 379(38/101)
لاَ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ إِِنَّمَا هُوَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، أَمَّا جَنِينُ الأَْمَةِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ النَّقْدُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِنْ ضُرِبَ بَطْنُ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ مُضْغَةً لَمْ تَظْهَرْ فِيهَا صُورَةُ الآْدَمِيِّ فَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّ فِيهَا صُورَةَ الآْدَمِيِّ وَجَبَتْ فِيهَا الْغُرَّةُ لأَِنَّهُنَّ يُدْرِكْنَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُدْرِكُ غَيْرُهُنَّ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَيَكْفِي الظُّهُورُ فِي طَرَفٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي كُل الأَْطْرَافِ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَشَهِدَ الْقَوَابِل أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً يَخْتَصُّ بِمُعْرِفَتِهَا أَهْل الْخِبْرَةِ وَجَبَتِ الْغُرَّةُ أَيْضًا، وَإِِِنْ قُلْنَ: لَيْسَ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ لَكِنَّهُ أَصْل آدَمِيٌّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ لَمْ تَجِبِ الْغُرَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِِِنْ شَكَكْنَ هَل هُوَ أَصْل آدَمِيٌّ لَمْ تَجِبْ قَطْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِِِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِِِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ تَصَوَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ شَيْءَ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ كَالْعَلَقَةِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلاَ تَشْغَلْهَا بِالشَّكِّ.
وَالثَّانِي: فِيهِ غُرَّةٌ لأَِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 268.
(2) روضة الطالبين 9 / 370.(38/101)
أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ (1) .
أَثَرُ إِِسْقَاطِ الْمُضْغَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِِِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ الْحَامِل مُضْغَةً.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِإِِِسْقَاطِ مُضْغَةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الآْدَمِيِّ وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ إِِسْقَاطَ الْعَلَقَةِ فَمَا فَوْقَهَا مِنَ الْمُضْغَةِ أَوْ غَيْرِهَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّةٌ ف 22) .
أَثَرُ إِِسْقَاطِ الْمُضْغَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ وَفِي النِّفَاسِ
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمُضْغَةُ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ بِهَا لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَلَدٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلاَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِِِنْ كَانَتْ فِيهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ أَوْ بِهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ وَلَوْ خَفِيَّةً وَشَهِدَتِ الثِّقَاتُ بِهَا مِنَ الْقَوَابِل بِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَتَصَوَّرَ وَلَتَخَلَّقَ فَإِِِنَّهَا يَقَعُ الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْوِلاَدَةِ، وَيُعِدُّ الْمَالِكِيَّةُ الْمُضْغَةَ حَمْلاً فَيَقَعُ فِيهَا الطَّلاَقُ
__________
(1) المغني 7 / 802.(38/102)
الْمُعَلَّقُ (1) .
وَأَمَّا أَثَرُهَا فِي النِّفَاسِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِذَا أَسَقَطَتِ الْمَرْأَةُ مُضْغَةً لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَإِِِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى اعْتِبَارِهَا نُفَسَاءَ وَلَوْ بِإِِِلْقَاءِ مُضْغَةٍ هِيَ أَصْل آدَمِيٍّ أَوْ بِإِِِلْقَاءِ عَلَقَةٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِجْهَاضٌ ف 17) .
مَضْغُوطٌ
انْظُرْ: إِِكْرَاهٌ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 376، والقليوبي وعميرة 4 / 44، وتفسير القرطبي 12 / 8، وحاشية ابن عابدين 1 / 201(38/102)
مَضْمَضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَضْمَضَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّحْرِيكُ، وَمِنْهُ: مَضْمَضَ النُّعَاسُ فِي عَيْنَيْهِ إِِذَا تَحَرَّكَتَا بِالنُّعَاسِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي وَضْعِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَتَحْرِيكِهِ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: هِيَ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، يُقَال: مَضْمَضْتُ الْمَاءَ فِي فَمِي: إِِذَا حَرَّكْتَهُ بِالإِِِْدَارَةِ فِيهِ، وَتَمَضْمَضْتُ فِي وُضُوئِي: إِِذَا حَرَّكْتَ الْمَاءَ فِي فَمِي (1) .
وَاصْطِلاَحًا قَال الدَّرْدِيرُ وَالنَّوَوِيُّ: أَنْ يَجْعَل الْمَاءَ فِي فِيهِ وَيُدِيرَهُ فِيهِ ثُمَّ يَمُجَّهُ، أَيْ يَطْرَحُهُ (2)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: اسْتِيعَابُ الْمَاءِ جَمِيعَ الْفَمِ ثُمَّ مَجُّهُ (3) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا: إِِدَارَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ (4) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ التَّعَارِيفِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 97، والمجموع 1 / 351.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 79 ط. بولاق، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 38.
(4) المغني 1 / 120 ط. مكتبة ابن تيمية(38/103)
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُضَمْضِمَةَ إِِدْخَال الْمَاءِ إِِلَى الْفَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِِدَارَةِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَمَجِّهِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِمَا، وَالأَْفْضَل عِنْدَهُمْ فِعْلُهُمَا.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمَا، وَإِِِلاَّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَبَهْ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَقَتَادَةُ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِِذَا قُمْتُمْ إِِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِِلَى الْمَرَافِقِ} (2) فَالْوَجْهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَدَاخِل الْفَمِ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ، (3) وَالْفِطْرَةَ سُنَّةٌ، وَذِكْرُهُمَا مِنَ الْفِطْرَةِ يَدُل عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا لِسَائِرِ الْوُضُوءِ،
__________
(1) المراجع السابق
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " عشر من الفطرة. . . " أخرجه الترمذي (1 / 223) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.(38/103)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ: تَوَضَّأَ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ. (1) قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ الأَْدِلَّةِ، لأَِنَّ هَذَا الأَْعْرَابِيَّ صَلَّى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحْسِنْهَا، فَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ الصَّلاَةَ الَّتِي تُفْعَل بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَتُشَاهَدُ أَعْمَالُهَا، فَعَلَّمَهُ وَاجِبَاتِهَا وَوَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَضَّأَ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سُنَنَ الصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ لِئَلاَّ يُكْثِرَ عَلَيْهِ فَلاَ يَضْبِطْهَا، فَلَوْ كَانَتِ الْمَضْمَضَةُ وَاجِبَةً لَعَلَّمَهُ إِِيَّاهَا، فَإِِِنَّهُ مِمَّا يَخْفَى، لاَ سِيمَا فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُل الَّذِي خَفِيَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ الَّتِي تُشَاهَدُ، فَكَيْفَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَخْفَى (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل، وَسُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، وَبَهْ قَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ غَسْل الأَْعْضَاءِ الثَّلاَثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَدَاخِل الْفَمِ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَمَّا مَا سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْوَجْهُ، لأَِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ بِهِ الإِِِْنْسَانُ عَادَةً، وَالْفَمُ لاَ يُوَاجِهُ بِهِ بِكُل حَالٍ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَضْمَضَةِ فِي الْغُسْل فَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: " توضأ كما أمرك الله ". أخرجه الترمذي (2 / 102) من حديث رفاعة بن رافع، وقال: حديث حسن
(2) حاشية الدسوقي 1 / 97، وجواهر الإكليل 1 / 23، والمجموع 1 / 362 - 365، والمغني لابن قدامة 1 / 118(38/104)
الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْل مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَرْجٍ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ وُجُوبَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ، (2) وَقَالُوا: فِي الأَْنْفِ شَعَرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِِِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ وَاجِبَةٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ أَيِ الْغُسْل وَالْوُضُوءُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ، (4) وَلأَِنَّ كُل مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْصِيًا ذَكَرَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِمَا تَدُل عَلَى وُجُوبِهِمَا، لأَِنَّ فِعْلَهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَفْصِيلاً لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 6
(2) حديث: " تحت كل شعر جنابة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 172) من حديث أبي هريرة، ثم ذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا
(3) بدائع الصنائع 1 / 21 ط دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان، ومراقي الفلاح ص 32، والمغني لابن قدامة 1 / 120 ط. الرياض.
(4) حديث: " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه " أخرجه الدارقطني (1 / 84) من حديث عائشة، وصوب الدارقطني إرساله(38/104)
كِتَابِ اللَّهِ. (1)
كَيْفِيَّةُ الْمَضْمَضَةِ
3 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِيُمْنَاهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَل يَمِينَهُ فِي الإِِِْنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. . . ثُمَّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ أَدْخَل يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِِِْنَاءِ فَمَلأََ فَمَهُ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَفَعَل ذَلِكَ ثَلاَثًا ".
(3) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ سُنَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ، فَقَال مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَهِلْتُ السُّنَّةَ، فَقَال الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ أَجْهَل وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِنَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 118 - 119 ط. الرياض، والمجموع 1 / 362، 363
(2) حديث " عثمان أنه دعا بوضوء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 266) ، ومسلم (1 / 204 - 205) ، واللفظ لمسلم.
(3) أثر علي: " أنه أدخل يده اليمنى في الإناء فتمضمض واستنشق. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 48) .(38/105)
قَال: الْيُمْنُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ (1) . وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ، لأَِنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ، وَالأَْنْفَ مَقْذَرَةٌ، وَالْيَمِينُ لِلأَْطْهَارِ، وَالْيَسَارُ لِلأَْقْذَارِ (2) .
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَتِمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ، أَيْ أَنْ تَتِمَّ الْمَضْمَضَةُ بِثَلاَثِ وَالاِسْتِنْشَاقِ بِثَلاَثِ، لأَِنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذُوا لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا، وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرِدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ كَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ مُسْتَحَبَّانِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، قَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَل: أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِِلَيْكَ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةِ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ؟ قَال: بِغَرْفَةِ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ
__________
(1) حديث: " أن الحسن بن علي استنثر بيمينه ". أورده الكاساني في بدائع الصنائع (1 / 21) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد لمن أخرجه
(2) بدائع الصنائع 1 / 21، وحاشية الدسوقي 1 / 97، والمجموع 1 / 351، والمغني 1 / 120 - 121
(3) بدائع الصنائع 1 / 21، وحاشية الدسوقي مع الدردير 1 / 97.(38/105)
لِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَال الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِِنْ أَفْرَدَ الْمَضْمَضَةَ بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ، وَالاِسْتِنْشَاقَ بِثَلاَثِ جَازَ، لأَِنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةِ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ فَصَّل بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ، (1) لأَِنَّ الْفَصْل أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْغَسْل.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ، فَقَالُوا: إِِنَّ فِيهَا طَرِيقَيْنِ، الصَّحِيحُ: أَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: الْفَصْل بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ أَفْضَل. وَالثَّانِي: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفَضْل (2) .
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَغَيْرِهَا:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الاِسْتِنْشَاقِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى التَّقْدِيمِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَسْل بَقِيَّةِ الْوَجْهِ،
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق ". أخرجه أبو داود (1 / 96)
(2) المجموع 1 / 358، وروضة الطالبين 1 / 58، والمغني 1 / 120.
(3) بدائع الصنائع 1 / 21، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 102.(38/106)
لأَِنَّ الأَْنْفَ وَالْفَمَ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَلَكِنْ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا قَبْل الْوَجْهِ، لأَِنَّ كُل مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا إِِلاَّ شَيْئًا نَادِرًا.
وَقَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الاِسْتِنْشَاقِ سَوَاءٌ جَمَعَ أَوْ فَصَل بِغَرْفَةٍ أَوْ بِغَرَفَاتٍ، وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمِّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ شَرْطٌ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلاَ يُحْسَبُ الاِسْتِنْشَاقُ إِِلاَّ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ، لأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاشْتُرِطَ فِيهِمَا التَّرْتِيبُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ (1) .
6 - أَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ غَيْرَ الْوَجْهِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِِحْدَاهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ لأَِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ فَوَجَبَ غَسْلُهَا قَبْل غَسْل الْيَدَيْنِ لِلآْيَةِ وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ، بَل لَوْ تَرَكَهَا فِي وُضُوئِهِ وَصَلَّى تَمَضْمَضَ وَأَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ، لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ
__________
(1) المجموع 1 / 362، والقليوبي وعميرة 1 / 53، والقوانين الفقهية ص 30 والمغني 1 / 122.(38/106)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُضَوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَل كَفَّيْهِ ثَلاَثًا وَغَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَل ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، (1) وَلأَِنَّ وُجُوبَهَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ، وَإِِِنَّمَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الأَْعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ لأَِنَّ فِي الآْيَةِ مَا يَدُل عَلَى إِِرَادَةِ التَّرْتِيبِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهَا (2) .
الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ:
7 - قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ: أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِِلَى أَقْصَى الْحَنَكِ وَوَجْهَيِ الأَْسْنَانِ وَاللِّثَاتِ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الصَّائِمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا تَوَضَّأْتَ فَأَبْلِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ مَا لَمْ تَكُنْ صَائِمًا. (4) وَلأَِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْمِيل فِي التَّطْهِيرِ فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إِِلاَّ فِي
__________
(1) حديث: " المقدام بن معدي كرب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء. . . " أخرجه أبو داود (مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 99 ط. دار المعرفة) انظر سنن أبي داود (1 / 88 ط حمص)
(2) المغني 1 / 122.
(3) مغني المحتاج 1 / 58.
(4) حديث: " إذا توضأت فأبلغ في المضمضة " أورده السيوطي في الجامع الكبير (1 / 51) وعزاه إلى أبي بشر الدولابي، ونقل صاحب مغني المحتاج (1 / 58) عن ابن القطان أنه صححه(38/107)
حَال الصَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ (1) . وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُبَالِغُ الصَّائِمُ فِي الْمَضْمَضَةِ دُونَ الاِسْتِنْشَاقِ لأَِنَّ الْمُتَمَضْمِضَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِِلَى جَوْفِهِ، بِطَبَقِ حَلْقِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْخَيْشُومِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ لِغَيْرِ الصَّائِمِ، وَأَمَّا الصَّائِمُ فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَالَغَةُ لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِِِنْ وَقَعَ وَوَصَل إِِلَى حَلْقِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (3) .
الْمَضْمَضَةُ فِي الصَّوْمِ:
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فَدَخَل الْمَاءُ جَوْفَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ إِِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ وَصَل لِحَلْقِهِ أَوْ مَعِدَتِهِ شَيْءٌ يَغْلِبُ سَبْقُهُ إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ أَثَرِ مَاءِ مَضْمَضَةٍ أَوْ رُطُوبَةِ سِوَاكٍ أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْفَرْضِ خَاصَّةً، وَأَمَّا وُصُول أَثَرِ الْمَضْمَضَةِ لِلْحَلْقِ فِي صَوْمِ النَّفَل فَلاَ يَفْسُدُ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 21، ومغني المحتاج 1 / 58، وحاشية القليوبي 1 / 53، والمجموع 6 / 326 وكشاف القناع 1 / 105
(2) المجموع 1 / 356، ومغني المحتاج 1 / 58.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 97، وجواهر الإكليل 1 / 58
(4) الفتاوى الهندية 1 / 202
(5) حاشية الدسوقي 1 / 525(38/107)
اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ إِِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا عِنْدَ الأَْصْحَابِ: إِِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَالثَّانِي: يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لاَ يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَالْخِلاَفُ فِيمَنْ هُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ فَإِِِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً لَمْ يَبْطُل بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ اسْتَنْشَقَ فِي الطَّهَارَةِ فَسَبَقَ الْمَاءُ إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلاَ إِِسْرَافٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وَصَل إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ إِِسْرَافٍ وَلاَ قَصْدٍ، فَأَمَّا إِِنْ أَسْرَفَ فَزَادَ عَلَى الثَّلاَثِ أَوْ بَالَغَ فَقَدْ فَعَل مَكْرُوهًا لأَِنَّهُ يُتَعَرَّضُ بِذَلِكَ بِإِِِيصَال الْمَاءِ إِِلَى حَلْقِهِ، فَإِِِنْ وَصَل إِِلَى حَلْقِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ، وَالثَّانِي: لاَ يُفْطِرُ بِهِ لأَِنَّهُ وَصَل مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَأَشْبَهَ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَالْحُكْمُ فِي الْمَضْمَضَةِ لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِلطَّهَارَةِ إِِنْ كَانَتْ لِحَاجَةِ (2) .
الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الطَّعَامِ
9 - الْمَضْمَضَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ، لَمَا رَوَى سُوَيْدٌ بْنُ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِِنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ - صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ
__________
(1) المجموع 6 / 326
(2) المغني 3 / 108(38/108)
دَعَا بِالأَْزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ - أَيْ بُل بِالْمَاءِ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْيُبْسِ - فَأَكَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا ثُمَّ قَامَ إِِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. (1)
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَفَائِدَةُ الْمَضْمَضَةِ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ مِنْ أَكْل السَّوِيقِ وَإِِِنْ كَانَ لاَ دَسَمَ لَهُ أَنْ تَحْتَبِسَ بَقَايَاهُ بَيْنَ الأَْسْنَانِ وَنَوَاحِي الْفَمِ فَيَشْغَلُهُ تَتَبُّعُهُ عَنْ أَحْوَال الصَّلاَةِ (2) .
وَكَذَلِكَ تُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ شُرْبِ اللَّبَنِ لَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَال: إِِنَّ لَهُ دَسَمًا، (3) فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ فِي الْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ فَيَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِهَا مِنْ كُل شَيْءٍ دَسِمٍ (4) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: تُسَنُّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِمَاءِ، وَقَال:
__________
(1) حديث: سويد بن النعمان " أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 312) .
(2) فتح الباري 1 / 377 ط. دار الريان للتراث
(3) حديث: ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 313) ، ومسلم (1 / 274)
(4) فتح الباري 1 / 374.(38/108)
إِِنَّ لَهُ دَسَمًا، وَشِيبَ لَهُ بِمَاءِ فَشَرِبَ، ثُمَّ قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: ذَكَرَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الأَْطِبَّاءِ مِنْ أَنَّ الإِِِْكْثَارَ مِنْهُ يَضُرُّ بِالأَْسْنَانِ وَاللِّثَةِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ تَمَضْمَضَ وَقَال: إِِنَّ لَهُ دَسَمًا.
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: تُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ مِنَ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ، لِئَلاَّ يَبْقَى مِنْهُ بَقَايَا يَبْتَلِعُهَا فِي الصَّلاَةِ (1) .
مَضْمُونٌ
انْظُرْ: ضَمَانٌ.
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 229 - 230(38/109)
مَطَافٌ
انْظُرْ: طَوَافٌ(38/109)
مَطَالِعُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطَالِعُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ مَطْلَعٍ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِهَا - وَهُوَ مَوْضِعُ الطُّلُوعِ أَوِ الظُّهُورِ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} ، (2) أَيْ مُنْتَهَى الأَْرْضِ الْمَعْمُورَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الطُّلُوعِ أَوِ الظُّهُورِ، وَيُقْصَدُ بِهِ - هُنَا - مَوْضِعُ طُلُوعِ الْهِلاَل مِنَ الْغَرْبِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
رُؤْيَةُ الْهِلاَل:
2 - الرُّؤْيَةُ: إِِدْرَاكُ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ. النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ رَأَى (4) .
وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل: مُعَايَنَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ
__________
(1) مختار الصحاح طبعة دار الحكمة بدمشق.
(2) سورة الكهف / 90
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 393.
(4) الصحاح للجوهري ط. دار الكتاب العربي بمصر، ولسان العرب لابن منظور.(38/110)
خَبَرُهُ وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ، فَيَثْبُتُ دُخُول الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ (1) .
اخْتِلاَفُ الْمَطَالِعِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل
3 - إِِنَّ اخْتِلاَفَ الْمَطَالِعِ تَعْبِيرٌ فِقْهِيٌّ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: ظُهُورُ الْقَمَرِ وَرُؤْيَتُهُ فِي أَوَّل الشَّهْرِ بَيْنَ بَلَدٍ وَبَلَدٍ، حَيْثُ يَرَاهُ أَهْل بَلَدٍ مَثَلاً، بَيْنَمَا الآْخَرُونَ لاَ يَرَوْنَهُ، فَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُ الْهِلاَل.
لِذَا تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ نَظَرًا لِتَعَلُّقِ فَرْضِيَّةِ أَوْ صِحَّةِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَضْلاً عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَامَلاَتِ وَالأُْسْرَةِ وَغَيْرِهِمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 14، وَرَمَضَانُ ف 3) .
أَسِبَابُ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ
4 - تُثَارُ مَسْأَلَةُ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ دَائِمًا عِنْدَمَا يَثُورُ الْقَوْل بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلاَدِ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا عَلَى سَبِيل الإِِِْلْزَامِ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِِلَى إِِثْبَاتِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ.
ثَانِيهِمَا: اخْتِلاَفُ الرُّؤْيَةِ بِاخْتِلاَفِ الْمَسَافَةِ أَوِ الإِِِْقْلِيمِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 95.(38/110)
وَهُمَا بِلاَ شَكٍّ مِنْ أُمُورِ الْوَاقِعِ الْمُشَاهَدِ الَّذِي لاَ يَقْوَى عَلَى إِِنْكَارِهِ إِِلاَّ مُكَابِرٌ، فَهُوَ اخْتِلاَفٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْهِلاَل إِِذَا رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلاَ يَنْعَكِسُ، لأَِنَّ وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ، فَإِِِذَا كَانَ قَدْ رُئِيَ بِالْمَشْرِقِ ازْدَادَ بِالْمَغْرِبِ نُورًا وَبُعْدًا عَنِ الشَّمْسِ وَشُعَاعُهَا قَبْل غُرُوبِهَا، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِِذَا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ تَأَخُّرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ، فَازْدَادَ بُعْدًا وَضَوْءًا، وَلَمَّا غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ إِِنَّهُ لَمَّا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ كَانَ قَدْ غَرَبَ عَنْ أَهْل الْمَشْرِقِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْهِلاَل وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَلِذَلِكَ إِِذَا دَخَل وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَغْرِبِ دَخَل بِالْمَشْرِقِ وَلاَ يَنْعَكِسُ، وَكَذَلِكَ الطُّلُوعُ، إِِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ بِالْمَغْرِبِ طَلَعَتْ بِالْمَشْرِقِ وَلاَ يَنْعَكِسُ (2) .
أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ وَأَدِلَّتُهُمْ
5 - تَعَدَّدَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ وَأَدِلَّتُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ
__________
(1) أحكام الصيام لتقي الدين ابن تيمية الطبعة الأولى بدار الكتب العلمية بلبنان ص 13 وما بعدها.
(2) أحكام الصيام لابن تيمية ص 14، والفروق للقرافي 2 / 203، 204(38/111)
اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا أَوْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا مِنْ أُمُورِ الْوَاقِعِ الْمَلْمُوسِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 14، وَرَمَضَانُ ف 3) .
حُكْمُ الأَْخَذِ بِالتَّأْقِيتِ وَالْحِسَابِ فِي إِِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْخَذِ بِقَوْل الْحَاسِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 11 - 13) .
طَلَبُ الرُّؤْيَةِ:
7 - لَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَةُ الْهِلاَل فِقْرَةُ 2) .
أَهَمُّ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ:
8 - تَتَرَتَّبُ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ آثَارٌ تَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ كَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَبَعْضِ الْمُعَامَلاَتِ كَالْبَيْعِ إِِلَى أَجَلٍ، وَالسَّلَمِ، وَالإِِِْجَارَةِ، وَبَعْضِ أَحْكَامِ الأُْسْرَةِ كَالطَّلاَقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَضَانَةِ وَالنَّفَقَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحُ (رُؤْيَةِ الْهِلاَل) .(38/111)
مُطْبِقٌ
انْظُرْ: جُنُونٌ
مُطَرَّزٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ(38/112)
مُطَّلِبِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُطَّلِبِيُّ هُوَ مَنْ يُنْسَبُ إِِلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ أَخُو هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، الْجَدِّ الثَّانِي لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَّلِبِيِّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:
أ - دَفْعُ الزَّكَاةِ إِِلَيْهِمْ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ - إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِِلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَتَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ (آلٌ ف 7) .
ب - حُكْمُ كَوْنِ عَامِل الزَّكَاةِ مُطَّلِبِيًّا
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 11 - 13، ومغني المحتاج 3 / 94.(38/112)
الزَّكَاةِ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ عَامِلاً وَآخِذَ الأُْجْرَةِ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ الزَّكَاةَ - فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْصْحَابِ - لاَ يَجُوزُ (2) . لِحَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَالْفَضْل بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَيَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلاَهُ أَنْ يُؤَمِّرَهُمَا عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَاتِ، فَيُؤَدِّيَانِهِ إِِلَيْهِ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَيُصِيبَا كَمَا يُصِيبُونَ فَسَكَتَ طَوِيلاً ثُمَّ قَال: إِِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمِّدٍ، إِِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِِِنَّهَا لاَ تَحِل لِمُحَمِّدِ وَلاَ لآِل مُحَمِّدٍ. (3)
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِلْمُطَّلِبِيِّ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً فِي الزَّكَاةِ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، فَلَوِ اسْتَعْمَلَهُ الإِِِْمَامُ مَثَلاً فِي الْحِفْظِ أَوِ النَّقْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 66، ومواهب الجليل 1 / 138، والخرشي 2 / 214
(2) المجموع للنووي 6 / 167 - 168، 227، ومغني المحتاج 3 / 112
(3) حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن عباس أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم (2 / 752 - 754) .(38/113)
جَازَ، وَلَهُ أُجْرَتُهُ، قَال النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَال أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُونَ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل هَل هُوَ أُجْرَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ فَإِِِنْ قُلْنَا: هُوَ أُجْرَةٌ جَازَ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ يُشْبِهُ الإِِِْجَارَةَ مِنْ حَيْثُ التَّقَدُّرُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، وَيُشْبِهُ الصَّدَقَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عَقْدُ إِِجَارَةٍ، وَلاَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ وَلاَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ.
وَالْخِلاَفُ فِيمَنْ طَلَبَ عَلَى عَمَلِهِ سَهْمًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَمَّا إِِذَا تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ بِلاَ عِوَضٍ، أَوْ دَفَعَ الإِِِْمَامُ إِِلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا، أَوْ مُطَّلِبِيًّا بِلاَ خِلاَفٍ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا، وَمُطَّلِبِيًّا إِِذَا أَعْطَاهُ الإِِِْمَامُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُطَّلِبِيُّ عَامِلاً عَلَى الزَّكَاةِ إِِذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ مِنْهَا، أَمَّا إِِذَا دُفِعَتْ لَهُ أُجْرَتُهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً عَلَيْهَا (2) .
ج - حَقُّ الْمُطَّلِبِيِّ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ بِسَبَبِ
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 168، ومغني المحتاج 3 / 112
(2) كشاف القناع 2 / 275(38/113)
قَرَابَتِهِمْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (قَرَابَةٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا، آلٌ ف 14، فَيْءٌ ف 12، خُمُسٌ ف 8) .(38/114)
مَطْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطْل لُغَةً: الْمُدَافَعَةُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، قَال الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَطَلْتُ الْحَدِيدَةَ: إِِذَا ضَرَبْتَهَا وَمَدَدْتَهَا لِتَطُول، وَمِنْهُ يُقَال: مَطَلَهُ بِدَيْنِهِ مَطْلاً، وَمَاطَلَهُ مُمَاطَلَةً: إِِذَا سَوَّفَهُ بِوَعْدِ الْوَفَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَكَى النَّوَوِيُّ وَعَلِيُّ الْقَارِي أَنَّ الْمَطْل شَرْعًا: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيَدْخُل فِي الْمَطْل كُل مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ، كَالزَّوْحِ لِزَوْجَتِهِ، وَالْحَاكِمِ لِرَعِيَّتِهِ، وَبِالْعَكْسِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِِْنْظَارُ:
2 - الإِِِْنْظَارُ وَالنَّظِرَةُ فِي اللُّغَةِ الإِِِْمْهَال وَالتَّأْخِيرُ، يُقَال: أَنْظَرْتُ الْمَدِينَ، أَيْ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 5 / 331، والمصباح المنير، وأساس البلاغة ص 432، والزاهر ص 231، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 101، ومرقاة المفاتيح 3 / 337
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 10 / 227، ومرقاة المفاتيح 3 / 337
(3) فتح الباري 4 / 466(38/114)
أَخَّرْتُهُ، وَذَكَرَ الأَْزْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظْرِةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) الإِِِْنْظَارُ وَالإِِِْمْهَال إِِلَى أَنْ يُوسِرَ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالإِِِْنْظَارِ التَّأْخِيرُ فِي كُلٍّ، لَكِنَّهُ فِي الْمَطْل مِنْ جَانِبِ الْمَدِينِ وَفِي الإِِِْنْظَارِ مِنْ جَانِبِ الدَّائِنِ (2) .
ب - التَّعْجِيل:
3 - التَّعْجِيل لُغَةً: الإِِِْسْرَاعُ بِالشَّيْءِ، يُقَال: عَجَّلْتُ إِِلَيْهِ الْمَال أَسْرَعْتَ إِِلَيْهِ بِحُضُورِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالتَّعْجِيل الضِّدِّيَّةُ (3) .
(ر: تَأْخِيرٌ ف 5) .
ج - الظُّلْمُ:
4 - الظُّلْمُ لُغَةً: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِِلَى الْبَاطِل، وَهُوَ الْجَوْرُ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 280
(2) المصباح، والمفردات، والزاهر ص 227، والفروق للعسكري ص 196، والمعلم بفوائد مسلم للمازري 3 / 220، ومرقاة المفاتيح 3 / 335، والتسهيل لابن جزي ص 95، وبدائع الصنائع 7 / 173.
(3) المصباح المنير، ومغني المحتاج 2 / 434
(4) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 76.(38/115)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالظُّلْمِ أَنَّ الظُّلْمَ أَعَمُّ مِنَ الْمَطْل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَطْل بِاخْتِلاَفِ حَال الْمَدِينِ مِنْ يُسْرٍ أَوْ عُسْرٍ. فَإِِِنْ كَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَانَ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. (1)
وَإِِِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَمَنَعَهُ عُذْرٌ - كَغَيْبَةِ مَالِهِ - عَنِ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ مَطْلُهُ حَرَامًا وَجَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِِلَى الإِِِْمْكَانِ (2) .
صُوَرُ الْمَطْل:
لِلْمَطْل صُوَرٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلاَفِ صُوَرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوَّلاً: مَطْل الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُمْهَل حَتَّى يُوسِرَ (3) ، وَيُتْرَكُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ
__________
(1) حديث: " مطل الغني ظلم. . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 466) من حديث أبي هريرة.
(2) شرح مسلم للنووي 10 / 227
(3) المغني 4 / 499، وكشاف القناع 3 / 418، والمبسوط 24 / 164، ونهاية المحتاج 4 / 319، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، وشرح النووي على مسلم 10 / 218، 227، والمنتقى للباجي 5 / 66، وفتح الباري 4 / 466(38/115)
وَالْوَفَاءُ لِدَائِنِيهِ، وَلاَ تَحِل مُطَالَبَتُهُ وَلاَ مُلاَزَمَتُهُ وَلاَ مُضَايَقَتُهُ، لأَِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ أَوَجَبَ إِِنْظَارُهُ إِِلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ فَقَال: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} . (1)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ إِِنَّمَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ، فَإِِِذَا ثَبَتَ الإِِِْعْسَارُ فَلاَ سَبِيل إِِلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ إِِلَى الْحَبْسِ بِالدَّيْنِ، لأَِنَّ الْخِطَابَ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ إِِلَى أَنْ يُوسِرَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَتُهُ لَكَانَ ظَالِمًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمِ لِعَجْزِهِ (3) ، بَل إِِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَال: إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْمِدْيَانُ غَنِيًّا، فَمَطْلُهُ عَدْلٌ، وَيَنْقَلِبُ الْحَال عَلَى الْغَرِيمِ، فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُ ظُلْمًا (4) ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُلاَزَمَةَ الدَّائِنِ لِمَدِينِهِ الْمُعْسِرِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ الإِِِْنْظَارَ بِالنَّصِّ (5) .
وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْل إِِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) المقدمات الممهدات 2 / 306
(3) فتح الباري 4 / 466.
(4) عارضة الأحوذي 6 / 47
(5) الاختيار شرح المختار 2 / 90(38/116)
الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِل عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِِلاَّ ظِلُّهُ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَدْرُ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالتَّكَسُّبِ مَثَلاً، هَل يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا.
وَفَصَّل آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْل الدَّيْنِ يَجِبُ بِسَبَبِ يَعْصِي بِهِ فَيَجِبُ، وَإِِِلاَّ فَلاَ. (2)
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَل يُجْبَرُ الْمَدِينُ الْمُعْدِمُ عَلَى إِِجَارَةِ نَفْسِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أُجْرَتِهِ إِِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَمَل أَمْ لاَ؟ (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِفْلاَسٌ ف 55)
ثَانِيًا: مَطْل الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ
7 - مَطْل الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ، كَغَيْبَةِ مَالِهِ وَعَدَم وُجُودِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ فَلاَ يَكُونُ مَطْلُهُ
__________
(1) حديث: " من أنظر معسرًا أو وضع له. . . " أخرجه الترمذي (3 / 590) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح الباري 4 / 465.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 202 - 204 والمقدمات الممهدات 2 / 306.(38/116)
حَرَامًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَطْل الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَمَا قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ (1) ، وَهُوَ مَعْذُورٌ.
ثَالِثًا: مَطْل الْمَدِينِ الْمُوسِرِ بِلاَ عُذْرٍ
8 - مَطْل الْمَدِينِ الْمُوسِرِ الْقَادِرِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِلاَ عُذْرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِِِنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا، وَمِنْ كَبَائِرِ الإِِِْثْمِ، وَمِنَ الظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى الْوَفَاءِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، (3) قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ مِنَ الْمَطْل (4) ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ إِِذَا كَانَ وَاجِدًا لِجِنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ سَاعَةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا الأَْدَاءُ (5) ، وَقَال الْبَاجِيُّ: وَإِِِذَا كَانَ غَنِيًّا فَمَطَل بِمَا قَدِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فَقَدْ ظَلَمَ (6) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ، (7) وَمَعْنَى " يُحِل عِرْضَهُ "
__________
(1) فتح الباري 4 / 465
(2) فتح الباري 4 / 465 - 466، والزواجر عن ارتكاب الكبائر 1 / 249، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد 3 / 198
(3) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " تقدم تخريجه ف5.
(4) فتح الباري 4 / 465.
(5) عارضة الأحوذي 6 / 46.
(6) المنتقى 5 / 66
(7) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . " أخرجه أحمد (4 / 222) من حديث الشريد بن سويد، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 64)(38/117)
أَيْ يُبِيحُ أَنْ يَذْكُرَهُ الدَّائِنُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَطْل وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ (2) .
وَالْعُقُوبَةُ الزَّاجِرَةُ هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَمْلُهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَإِِِلْجَاؤُهُ إِِلَى دَفْعِ الْحَقِّ إِِلَى صَاحِبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
أَمَّا قَبْل الطَّلَبِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: هَل يَجِبُ الأَْدَاءُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، حَتَّى يُعَدَّ مَطْلاً بِالْبَاطِل قَبْلَهُ؟ وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ إِِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْل الطَّلَبِ، لأَِنَّ لَفْظَ " الْمَطْل " فِي الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ وَتَوَقُّفِ الْحُكْمِ بِظُلْمِ الْمُمَاطِل عَلَيْهِ (3) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَطْل يَثْبُتُ بِالتَّأْجِيل وَالْمُدَافَعَةِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (4) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 249، وجامع الأصول 4 / 455، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، والمنتقى للباجي 5 / 66.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 92
(3) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 3 / 198، وفتح الباري 4 / 466، والزواجر للهيتمي 1 / 249
(4) الفتاوى الهندية 3 / 412.(38/117)
حَمْل الْمَدِينِ الْمُمَاطِل عَلَى الْوَفَاءِ
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى طُرُقٍ تُتَّبَعُ لِحَمْل الْمَدِينِ الْمُمَاطِل عَلَى الْوَفَاءِ، مِنْهَا:
أ - قَضَاءُ الْحَاكِمِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا:
9 - إِِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ الْمُمَاطِل مَالٌ مِنْ جَنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِِِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَوْفِيهِ جَبْرًا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهُ لِلدَّائِنِ إِِنْصَافًا لَهُ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَهُ مَالٌ فَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إِِذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ، فَإِِِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ (2) .
ب - مَنْعُهُ مِنْ فُضُول مَا يَحِل لَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ:
10 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ وَامْتَنَعَ، وَرَأَى الْحَاكِمُ مَنْعَهُ مِنْ فُضُول الأَْكْل وَالنِّكَاحِ فَلَهُ ذَلِكَ، إِِذِ التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مُعَيَّنٍ، وَإِِِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِِلَى اجْتِهَادِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 419.
(2) الفروق للقرافي 4 / 80، وانظر تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 319، ومعين الحكام للطرابلسي ص 199(38/118)
الْحَاكِمِ فِي نَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، إِِذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ (1) .
ج - تَغْرِيمُهُ نَفَقَاتِ الشِّكَايَةِ وَرَفْعِ الدَّعْوَى
11 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَمْ يُوَفِّهِ حَتَّى شَكَا رَبُّ الْمَال، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مَالاً، وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَمَطَل حَتَّى أَحْوَجَ مَالِكَهُ إِِلَى الشَّكْوَى، فَمَا غَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُمَاطِل، إِِذَا كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ (2) .
د - إِِسْقَاطُ عَدَالَتِهِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
12 - حَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِرِدِّ شَهَادَةِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل مُطْلَقًا، إِِذَا كَانَ غَنِيًّا مُقْتَدِرًا (3) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، (4) وَنَقَل الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مُقْتَرِفَ ذَلِكَ يُفَسَّقُ (5) .
وَلَكِنْ هَل يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمْ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِيرُ عَادَةً؟
__________
(1) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 137.
(2) انظر الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 136، وكشاف القناع 3 / 419.
(3) المنتقى للباجي 5 / 66.
(4) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " سبق تخريجه في ف (5) .
(5) فتح الباري 4 / 466.(38/118)
قَال النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ (1) ، وَقَال السُّبْكِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُهُ، وَاسْتَدَل بِأَنْ مَنَعَ الْحَقَّ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَابَتْعَاءُ الْعُذْرِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْحَدِيثِ ظُلْمًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَالْكَبِيرَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْرَارُ، نَعَمْ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ عُذْرِهِ (2) .
وَقَال الطِّيبِيُّ: قِيل: يَفْسُقُ بِمَرَّةٍ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقِيل: إِِذَا تَكَرَّرَ، وَهُوَ الأَْوْلَى (3) .
وَاخْتَلَفُوا هَل يَفْسُقُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ قَبْل الطَّلَبِ أَمْ لاَ؟ قَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ الْبَابِ التَّوَقُّفُ عَلَى الطَّلَبِ، لأَِنَّ الْمَطْل يُشْعِرُ بِهِ (4) .
هـ - تَمْكِينُ الدَّائِنِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ:
13 - نَصَّ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ عِنْدَ مَطْل الْمَدِينِ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الْبَدَل الَّذِي دَفَعَهُ، وَقَدْ جَعَل
__________
(1) شرح النووي على مسلم 10 / 227
(2) فتح الباري 4 / 466.
(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 337، وفتح الباري 4 / 466.
(4) فتح الباري 4 / 466.(38/119)
لَهُ هَذَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِِزَالَةِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِ نَتِيجَةَ مَطْل الْمَدِينِ وَمُخَاصَمَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلاً لِلْمَدِينِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْوَفَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ امْتَنَعَ - أَيِ الْمُشْتَرِي - مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ يَسَارِهِ فَلاَ فَسْخَ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ التَّوَصُّل إِِلَى أَخْذِهِ بِالْحَاكِمِ مُمْكِنٌ (2) .
و حَبْسُ الْمَدِينِ
14 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ الْمُوسِرَ إِِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ مَطْلاً وَظُلْمًا، فَإِِِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 79 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَنَقَل ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمِّدٍ فِي الْمَحْبُوسِ بِالدَّيْنِ إِِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَال لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ،
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 30 / 22 وما بعدها، والاختيارات الفقهية ص 126
(2) مغني المحتاج 2 / 158 - 159
(3) بدائع الصنائع 7 / 173، وكشاف القناع 3 / 407، وشرح منتهى الإرادات 2 / 276، والخرشي على خليل 5 / 277، وروضة الطالبين 4 / 137، وروضة القضاة للسمناني 1 / 435، والمغني 4 / 499، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، والسياسة الشرعية ص 67، والفتاوى الهندية 3 / 420، وانظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 100، ومعين الحكام للطرابلسي ص 197، والفروق للقرافي 4 / 80(38/119)
وَلَهُ مَالٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَيُؤْمَرُ رَبُّ الدَّيْنِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِنَفْسِهِ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، فَإِِِنْ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يَفْعَل ذَلِكَ، أُعِيدَ حَبْسُهُ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ حُبِسَ بِدَيْنِ، وَلَهُ رَهْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَجَبَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِِمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ، فَإِِِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَجَبَ إِِخْرَاجُهُ لِيَبِيعَهُ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمْشِي مَعَهُ الدَّائِنُ أَوْ وَكِيلُهُ (2) .
ز - ضَرْبُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل
15 - قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: لاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ (3) ، ثُمَّ قَال مُعَلِّقًا عَلَى حَدِيثِ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) : وَالْعُقُوبَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ، بَل هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ (5) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 420
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 346.
(3) الطرق الحكمية ص 92.
(4) حديث: " لي الواجد. . . " تقدم تخريجه ف 7.
(5) الطرق الحكمية ص 93.(38/120)
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: إِِنَّ مَعْلُومَ الْمَلاَءَةِ إِِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِالنَّاضِّ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِِِنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُهُ، وَيَضْرِبُهُ بِاجْتِهَادِهِ إِِلَى أَنْ يَدْفَعَ، وَلَوْ أَدَّى إِِلَى إِِتْلاَفِ نَفْسِهِ، وَلأَِنَّهُ مُلِدٌّ (1) .
ح - بَيْعُ الْحَاكِمِ مَال الْمَدِينِ الْمُمَاطِل جَبْرًا
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَبِيعُ مَال الْمَدِينِ الْمُمَاطِل جَبْرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
غَيْرَ أَنَّ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفًا فِي تَأْخِيرِهِ عَنِ الْحَبْسِ، أَوِ اللُّجُوءِ إِِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَبْسِ الْمَدِينِ، أَوْ تَرْكِ الْخِيَارِ لِلْحَاكِمِ فِي اللُّجُوءِ إِِلَيْهِ عِنْدَ الاِقْتِضَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَهُ مَالٌ - فَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جَنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ خِلاَفِ جَنْسِ دَيْنِهِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ دَنَانِيرَ، فَعَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَالْعَقَارَ، وَفِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسُهُ إِِلَى أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ يَبِيعُ الْقَاضِي دَنَانِيرَهُ وَعُرُوضَهُ رِوَايَةً
__________
(1) الخرشي على خليل 5 / 278.(38/120)
وَاحِدَةً، وَفِي الْعَقَارِ رِوَايَتَانِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَةٍ: يَبِيعُ الْمَنْقُول وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إِِذَا ظَفِرْنَا بِمَالِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ شَيْءٌ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ - كَانَ رَهْنًا أَمْ لاَ - فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَلاَ نَحْبِسُهُ، لأَِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ إِِذَا طَلَبَ، فَإِِِذَا امْتَنَعَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِِِنِ امْتَنَعَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالأَْصْحَابُ: إِِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمُوسِرُ الْمُمَاطِل مِنَ الْوَفَاءِ، فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ: إِِنْ شَاءَ بَاعَ مَالَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ وَإِِِنْ شَاءَ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِهِ وَعَزَّرَهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ أَبَى مَدِينٌ لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ الْحَال الْوَفَاءِ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهُ إِِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، أَوْ يَبْرَأَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 419.
(2) الفروق للقرافي 4 / 80.
(3) روضة الطالبين 4 / 137.
(4) المرجع السابق(38/121)
مِنْ غَرِيمِهِ بِوَفَاءٍ أَوْ إِِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ، أَوْ يَرْضَى الْغَرِيمُ بِإِِِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، لأَِنَّ حَبْسَهُ حَقٌّ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ، فَإِِِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 419، 420.(38/121)
مُطْلَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُطْلَقُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الإِِِْطْلاَقِ وَمِنْ مَعَانِيهِ: الإِِِْرْسَال وَالتَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ، يُقَال: أَطْلَقْتُ الأَْسِيرَ: إِِذَا حَلَلْتَ إِِسَارَهُ وَخَلَّيْتَ عَنْهُ، كَمَا يُقَال أَطْلَقْتُ الْقَوْل: أَرْسَلْتَهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلاَ شَرْطٍ، وَأَطْلَقْتُ الْبَيِّنَةَ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِتَأْرِيخِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْمُطْلَقُ: مَا دَل عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلاَلَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُقَيَّدُ:
2 - الْمُقَيَّدُ مِنَ الأَْقْوَال مَا فِيهِ صِفَةٌ أَوْ شَرْطٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ، فَهُوَ نَقِيضٌ لِلْمُطْلَقِ (3) .
الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
3 - إِِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مُطْلَقًا لاَ مُقَيِّدَ لَهُ حُمِل
__________
(1) المصباح المنير.
(2) البحر المحيط 3 / 413.
(3) الكليات لأبي البقاء.(38/122)
عَلَى إِِطْلاَقِهِ، أَوْ مُقَيَّدًا لاَ مُطْلَقَ لَهُ أُجْرِيَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِِِنْ وَرَدَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدًا وَفِي آخَرَ مُطْلَقًا فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيل:
إِِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَلاَ يُحْمَل أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ: كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَإِِِطْلاَقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ.
وَإِِِنِ اتَّفَقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ: يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَمَا إِِذَا قَال الشَّارِعُ: إِِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً (1) .
وَإِِِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وُجُوبًا وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: اشْتَرَطُوا فِي إِِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ: الإِِِْيمَانَ مَعَ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقًا خِلْوًا عَنْ قَيْدِ الإِِِْيمَانِ: حَمْلاً لِلْمُطْلَقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل (2) . فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (3)
__________
(1) البحر المحيط 3 / 416 - 417، والكليات مادة مطلق، الحاوي الكبير 13 / 376. ط. دار الفكر - لبنان.
(2) البحر المحيط 3 / 416، 417 وما بعدها، والحاوي الكبير 13 / 376، مغني المحتاج 3 / 360، وتحفة المحتاج 6 / 190، والشرح الصغير 2 / 643، 649، 211، 213، والمغني 7 / 360
(3) سورة النساء / 92.(38/122)
قَال الشَّافِعِيُّ: إِِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِِذَا كَانَ مِنْ جَنْسِهِ، فَحَمْل عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} ، (1) وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، (2) وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، (3) فَحُمِل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، فَيُحْمَل مُطْلَقُ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالإِِِْيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل (4) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (5)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِِعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِذَاتِ مَرْقُوقَةٍ مَمْلُوكَةٍ مِنْ كُل وَجْهٍ وَقَدْ وُجِدَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالإِِِْيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَلاَ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ إِِلاَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَلأَِنَّ الإِِِْطْلاَقَ: أَمْرٌ مَقْصُودٌ، لأَِنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ،
__________
(1) سورة الأحزاب / 35
(2) سورة البقرة / 282
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) الحاوي الكبير 13 / 375 ط. دار الفكر - بيروت، والبحر المحيط 3 / 420
(5) سورة النساء / 92.(38/123)
كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ يُنْبِئُ عَنِ التَّضْيِيقِ، وَعِنْدَ إِِمْكَانِ الْعَمَل بِهِمَا لاَ يَجُوزُ إِِبْطَال أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، وَلأَِنَّ حَمْل أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ حَمْل مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إِِلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلاَ نَصَّ فِيهِ، هَذَا وَلأَِنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لاَ يُصَارُ إِِلَيْهِ إِِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَوْ شُبْهَتِهِ حَتَّى صَارَ مُؤَخَّرًا عَنْ قَوْل الصَّحَابِيِّ، وَهُنَا نَصٌّ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ إِِطْلاَقُ الْكِتَابِ، وَلأَِنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ نَظِيرَ الأَْصْل، لأَِنَّ قَتْل النَّفْسِ أَعْظَمُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الإِِِْطْعَامُ وَلاَ يَجُوزُ إِِلْحَاقُهُ بِغَيْرِهِ فِي حَقِّ جِوَازِ الإِِِْطْعَامِ تَغْلِيظًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَعْظِيمًا لِلْجَرِيمَةِ حَتَّى تَتِمَّ صِيَانَةُ النَّفْسِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ إِِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ فِي التَّغْلِيظِ، لأَِنَّ قَيْدَ الرَّقَبَةِ بِالإِِِْيمَانِ أَغْلَظُ فَيُنَاسِبُهُ دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ جَرِيمَةَ الْقَتْل أَعْظَمُ، وَلأَِنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِصِفَةِ أَوْ شَرْطٍ، فَتَتَنَاوَل كُل رَقَبَةٍ عَلَى أَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ، لأَِنَّ مَعْنَى الإِِِْطْلاَقِ التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَتَتَنَاوَل الْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَالْبَيْضَاءَ وَالسَّوْدَاءَ، وَالذَّكَرَ وَالأُْنْثَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْصَافِ(38/123)
الْمُتَضَادَّةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
شُرُوطُ الْعَمَل بِالْخَبَرِ الْمُطْلَقِ
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِِذَا أَخْبَرَ مَقْبُول الرِّوَايَةِ عَنْ نَجَاسَةِ مَاءٍ فَإِِِنْ كَانَ فَقِيهًا مُوَافِقًا لِلْمُخْبِرِ فِي مَذْهَبِهِ اعْتُمِدَ خَبَرُهُ وَإِِِنْ أَطْلَقَ، لأَِنَّهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ التَّنْجِيسُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ فِي الْعَدَالَةِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ كَأَنْ يَقُول: إِِنَّهُ فَاسِقٌ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُقْبَل الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، لأَِنَّ التَّعْدِيل يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ، وَلأَِنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ قَدْ يُفْضِي إِِلَى مُخَاطَرَ كَالْقَذْفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَزْكِيَةٌ ف (15) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 6 - 7، والكليات 3 / 360 - 361، ومغني المحتاج 1 / 28، والمنثور للزركشي 3 / 176 وما بعدها، وتحفة المحتاج 1 / 116.
(2) المنثور 3 / 176.
(3) الكفاية في علم الرواية للنفراوي ص 17 - 108(38/124)
إِِطْلاَقُ الشَّهَادَةِ بِالرَّضَاعِ:
6 - إِِذَا أَطْلَقَ شُهُودُ الرَّضَاعِ شَهَادَتَهُمْ كَأَنْ قَالُوا: بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ لَمْ يُقْبَل، بَل يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الإِِِْرْضَاعِ وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُولاَ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إِِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ رَضَاعٌ ف 34) .
الْمُطْلَقُ يُحْمَل عَلَى الْغَالِبِ
7 - إِِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ حُمِل عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِِِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدٌ غَالِبٌ وَكَانَ هُنَاكَ مَحْمَلاَنِ: أَخَفُّ وَأَثْقَل، حُمِل عَلَى أَخَفِّهِمَا عَمَلاً بِأَقَل مَا يَقْتَضِيهِ الاِسْمُ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرًا مِنْهَا: إِِذَا غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الإِِِْنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْل الْوَجْهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً، وَإِِِنْ نَوَى الاِغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلاً، وَإِِِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ صَيْرُورَتُهُ مُسْتَعْمَلاً، لأَِنَّ تَقَدُّمَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ شَمَلَتْهُ فَحُمِل عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جِوَازِ قَصْرِ الصَّلاَةِ
__________
(1) المغني 7 / 559، ومغني المحتاج 3 / 425.(38/124)
فِي السَّفَرِ: نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ الإِِِْحْرَامِ فَإِِِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ قَصْرًا وَلاَ إِِتْمَامًا لَزِمَهُ الإِِِْتْمَامُ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الصَّلاَةِ الإِِِْتْمَامُ فَيَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِِِْطْلاَقِ إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ. وَمِنْهَا: إِِذَا تَلَفَّظَ بِمَا يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ يَرْجِعُ إِِلَيْهِ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ.
كَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ وَبِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ فَدَفَعَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَال لِلدَّائِنِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ التَّعْيِينُ (1) .
وَمِنْهَا: لَوْ قَال لَزَوْجَتَيْهِ: إِِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً طَلُقَتْ إِِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ تَعْيِينُ إِِحْدَاهُمَا لِلطَّلاَقِ.
وَمِنْهَا: يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مُطْلَقًا وَيَصْرِفُهُ بِالتَّعْيِينِ إِِلَى مَا شَاءَ مِنَ النُّسُكَيْنِ أَوْ إِِلَيْهِمَا (2) .
شَرْطُ حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ
8 - اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لاَ يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ إِِلاَّ إِِذَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُقَيَّدِ لَصَحَّ وَإِِِلاَّ فَلاَ.
وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا: إِِذَا أَقَرَّ الأَْبُ: بِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَلَهُ ذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ إِِلَيْهِ الْقَاضِيَانِ: الْحُسَيْنُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَقَال النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ الأَْصَحُّ الْمُخْتَارُ (3) .
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 176 وما بعدها
(2) المنثور للزركشي 3 / 178 وما بعدها.
(3) المنثور 3 / 180.(38/125)
الْمُطْلَقُ يُنَزَّل عَلَى أَقَل الْمَرَاتِبِ
9 - لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَدٍ بِلَفْظٍ وَلاَ نِيَّةَ يُحْمَل عَلَى يَوْمٍ، لأَِنَّ الصَّوْمَ اسْمُ جَنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل، وَلاَ صَوْمَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ، وَالْمُتَيَقَّنُ يَوْمٌ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِِِنْ نَذَرَ أَيَّامًا فَثَلاَثَةٌ لأَِنَّهَا أَقَل مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، أَوْ نَذَرَ صَدَقَةً، فَأَقَل مَا يُتَمَوَّل أَوْ صَلاَةً فَيُجْزِئُ بِرَكْعَتَيْنِ حَمْلاً عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ (1) .
مُطَهِّرَاتٌ
انْظُرْ: طَهَارَةٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 368، والمنثور 3 / 178، وتحفة المحتاج 10 / 96، والكليات 3 / 261(38/125)
مَظَالِمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَظَالِمُ لُغَةً: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِهَا، مَصْدَرُ ظَلَمَ يَظْلِمُ، اسْمٌ لِمَا أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ، وَأَصْل الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعِنْدَ فُلاَنٍ ظُلاَمَتِي وَمَظْلِمَتِي: أَيْ حَقِّي الَّذِي ظُلِمْتُهُ (1) .
وَالظُّلْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ: التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِِلَى الْبَاطِل، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَقِيل: هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ (2) .
وَالظُّلْمُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُهُ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ، قَال تَعَالَى: {إِِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، (3) وَقَال تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} . (4)
الثَّانِي: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وأساس البلاغة مادة (ظلم) .
(2) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون 4 / 938 ط. خياط - بيروت، ودستور العلماء 2 / 287.
(3) سورة لقمان / 13
(4) سورة الزمر / 32.(38/126)
يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، (1) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا} . (2)
الثَّالِثُ: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ، (3) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . (4)
وَكُل هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ، فَإِِِنَّ الإِِِْنْسَانَ فِي أَوَّل مَا يَهِمُّ بِالظُّلْمِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، فَإِِِذًا الظَّالِمُ أَبَدًا مُبْتَدِئٌ فِي الظُّلْمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} ، (5) يَتَنَاوَل الأَْنْوَاعَ الثَّلاَثَةَ مِنَ الظُّلْمِ فَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ مِنْهُ ظُلْمٌ فِي الدُّنْيَا إِِلاَّ وَلَوْ حَصَل لَهُ مَا فِي الأَْرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَكَانَ يَفْتَدِي بِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ، (6) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ لاَ يُجْدِي وَلاَ يُخَلِّصُ بَل يُرْدِي (7) .
فَالْمَظَالِمُ هِيَ الْحُقُوقُ الَّتِي أُخِذَتْ ظُلْمًا، وَقَدْ دَعَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ إِِلَى إِِقَامَةِ الْعَدْل فِيهَا
__________
(1) سورة الشورى / 42
(2) سورة الإسراء / 33.
(3) سورة فاطر / 32.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) سورة الزمر / 47.
(6) سورة النجم / 52
(7) المفردات للأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز 3 / 540.(38/126)
وَأَنْشَأَ لَهَا دِيوَانَ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءَ الْمَظَالِمِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الإِِِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِِِْلْزَامِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (2)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِهَا وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالْقَضَاءُ أَعَمُّ.
ب - الدَّعْوَى:
3 - الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، أَيْ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُدَّعَى، وَهُوَ الطَّلَبُ، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 73، وصبح الأعشى 3 / 273.
(2) تبصرة الحكام 1 / 12، ومعين الحكام للطرابلسي ص 6، وانظر: رد المختار 5 / 351، وشرح حدود ابن عرفة للرصاع ص 433، ومغني المحتاج 4 / 371، وكشاف القناع 6 / 285، والروض المربع 2 / 365، وبدائع الصنائع للكاساني 9 / 4078، ودرر الحكام 2 / 404، والتعريفات للجرجاني، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 331 ط. دار القلم، ولسان العرب(38/127)
عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالدَّعْوَى هِيَ أَنَّ الدَّعْوَى وَسِيلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ.
ج - التَّحْكِيمُ:
4 - التَّحْكِيمُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِِلَيْهِ، وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ حَكَمٌ وَمُحَكَّمٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا (2) ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالتَّحْكِيمِ أَنَّ التَّحْكِيمَ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ.
أَقْسَامُ الْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ
5 - تَنْقَسِمُ الْمَظَالِمُ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ إِِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والفروق للقرافي 4 / 72، ودرر الحكام 2 / 329، ونتائج الأفكار تكملة فتح القدير 7 / 137، ومغني المحتاج 4 / 541 المغني 14 / 275 ط. هجر، ولسان العرب.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، ومادة حكم، ورد المحتار 5 / 428 ط. الحلبي.
(3) سورة النساء(38/127)
أ - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ب - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْغُصُوبِ، وَإِِِنْكَارِ الْوَدَائِعِ، وَالأَْرْزَاقِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي النَّفْسِ وَالأَْعْرَاضِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ إِِمَّا فِي النُّفُوسِ أَوِ الأَْمْوَال أَوِ الأَْعْرَاضِ أَوِ الْقُلُوبِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ
6 - الْمَظَالِمُ مِنَ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ قَطْعًا بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ وَإِِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُل مُسْلِمٍ، وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوِ الإِِِْمَامِ الَّذِي أُنِيطَ بِهِ حِفْظُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِِِقَامَةُ الْعَدْل، وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا عِبَادِي، إِِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 53 - 54 ط. دار الهادي - بيروت.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 27، ومقدمة ابن خلدون ص 191(38/128)
مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَّالَمُوا. (1) وَالْمُرَادُ لاَ يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَالْخَلِيفَةُ إِِمَّا أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِِِمَّا أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ وَالِيًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِمَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِ الشُّرُوطُ، وَرَفْعُ الْمَظَالِمِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَاضِي الْمُعَيَّنِ مِنَ الإِِِْمَامِ (2) .
وَرَغَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ الإِِِْنْسَانُ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَال: إِِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِِِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةِ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ. (3)
وَنَظَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل، فَقَال الأَْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حديث: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1994) من حديث أبي ذر.
(2) شرح صحيح مسلم 16 / 134.
(3) حديث أنس: " غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 597) وقال: " حديث حسن صحيح ".(38/128)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ فَقَال: إِِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكِ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَال: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِِلَى الْجَدْرِ، فَقَال الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ، إِِنِّي لأََحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
(1) وَلأَِنَّ رَفْعَ الْمَظَالِمِ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ وَالْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ:
7 - إِِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ هِيَ إِِقَامَةُ الْعَدْل، وَمَنْعُ الظُّلْمِ، لأَِنَّ الإِِِْسْلاَمَ حَارَبَ الظُّلْمَ وَجَعَلَهُ مِنْ أَشَدِّ الرَّذَائِل، وَأَمَرَ بِالْعَدْل وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ.
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل مَنْ نَظَرَ فِي الْمَظَالِمِ، وَفَصَل فِي الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْوُلاَةِ وَذَوِي النُّفُوذِ وَالأَْقَارِبِ، وَسَارَ عَلَى
__________
(1) حديث عبد الله بن الزبير: " أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير. . . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 34) ومسلم (4 / 1829 - 1830) .
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 35 - 40، والأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73(38/129)
سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (1) .
وَكَانَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ دَاخِلاً - بِحَسَبِ أَصْلِهِ - فِي الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى الْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ الْقُضَاةُ وَالْخُلَفَاءُ وَالأُْمَرَاءُ، ثُمَّ صَارَ قَضَاءً مُسْتَقِلًّا، وَلَهُ وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ.
قَال أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلاَيَةٌ غَرِيبَةٌ، أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنَ الْوُلاَةِ لِفَسَادِ الْوِلاَيَةِ، وَفَسَادِ النَّاسِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل حُكْمٍ يَعْجِزُ عَنْهُ الْقَاضِي، فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إِِذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي، وَإِِِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، أَوْ قَوِيَّيْنِ، وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلاَيَةِ، كَظُلْمِ الأُْمَرَاءِ وَالْعُمَّال، فَهَذَا مِمَّا نَصَبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسَهُمْ (2) .
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحِكْمَةَ مِنْ ظُهُورِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، فَقَال: وَلَمْ يُنْتَدَبْ لِلْمَظَالِمِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ (الرَّاشِدِينَ) أَحَدٌ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل، مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، بَيْنَ مَنْ يَقُودُهُ التَّنَاصُفُ إِِلَى الْحَقِّ، أَوْ يَزْجُرُهُ الْوَعْظُ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِِِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 372، والحسبة لابن تميمة ص 82.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1631 ط. عيسى الحلبي(38/129)
يُوَضِّحُهَا حُكْمُ الْقَضَاءِ.، فَاقْتَصَرَ خُلَفَاءُ السَّلَفِ عَلَى فَصْل التَّشَاجُرِ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ تَعْيِينًا لِلْحَقِّ فِي جِهَتِهِ لاِنْقِيَادِهِمْ إِِلَى الْتِزَامِهِ، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَأَخَّرَتْ إِِمَامَتُهُ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ فِيهَا وَتَجَوَّرُوا إِِلَى فَضْل صَرَامَةٍ فِي السِّيَاسَةِ، وَزِيَادَةِ تَيَقُّظٍ فِي الْوُصُول إِِلَى غَوَامِضِ الأَْحْكَامِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَقَل بِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيهَا إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الْمَحْضِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، ثُمَّ انْتَشَرَ الأَْمْرُ بَعْدَهُ حَتَّى تَجَاهَرَ النَّاسُ بِالظُّلْمِ وَالتَّغَالُبِ، وَلَمْ يَكْفِهِمْ زَوَاجِرُ الْعِظَةِ عَنِ التَّمَانُعِ وَالتَّجَاذُبِ، فَاحْتَاجُوا فِي رَدْعِ الْمُتَغَلِّبِينَ وَإِِِنْصَافِ الْمَغْلُوبِينَ إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الَّذِي تَمْتَزِجُ بِهِ قُوَّةُ السَّلْطَنَةِ بِنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ أَفْرَدَ لِلظُّلاَمَاتِ يَوْمًا يَتَصَفَّحُ فِيهِ قَصَصَ الْمُتَظَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلنَّظَرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. .، ثُمَّ زَادَ مِنْ جَوْرِ الْوُلاَةِ وَظُلْمِ الْعُتَاةِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ إِِلاَّ أَقْوَى الأَْيْدِي وَأَنْفَذُ الأَْوَامِرِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّل مَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ. وَقَال: كُل يَوْمٍ أَتَّقِيهِ وَأَخَافُهُ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ وُقِيتُهُ، ثُمَّ جَلَسَ لَهَا مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَلَسَ لَهَا(38/130)
الْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْمَأْمُونُ فَآخِرُ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمُهْتَدِي (1) .
وَهَكَذَا صَارَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الإِِِْمَامُ الأَْعْظَمُ، وَمِنْهُ تَنْتَقِل إِِلَى اخْتِصَاصِ الأَْمِيرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى إِِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، عِنْدَمَا يَكُونُ عَامَّ النَّظَرِ، وَيَتَعَاوَنُ مَعَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْوَالِي وَالأَْمِيرِ: " وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِِِنْ كَانَ مِمَّا نُفِّذَتْ فِيهِ الأَْحْكَامُ، وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي اسْتِيفَائِهِ، مَعُونَةً لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِل، وَانْتِزَاعًا لِلْحَقِّ مِنَ الْمُعْتَرِفِ الْمُمَاطِل، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ إِِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إِِلَى الأَْخْذِ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّنَاصُفِ، فَإِِِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الأَْحْكَامُ، وَيُبْتَدَأُ فِيهَا الْقَضَاءُ، مَنَعَ هَذَا الأَْمِيرُ، لأَِنَّهُ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا عَقْدُ إِِمَارَتِهِ، وَرَدَّهُمْ إِِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، فَإِِِنْ نَفَّذَ حُكْمَهُ لأَِحَدِهِمْ بِحَقٍّ، قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إِِنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ ". (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77 - 78، وانظر: الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص 75، ومقدمة ابن خلدون ص 222، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 162 ط. حلب.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 32 - 33، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 36 ط. الثانية، البابي الحلبي.(38/130)
وَاسْتَقَرَّ الأَْمْرُ عَلَى انْفِرَادِ الْمَظَالِمِ بِوِلاَيَةِ مُسْتَقِلَّةٍ، وَيُسَمَّى الْمُتَوَلِّي: صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهُ حَسَبَ الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، وَصَارَ يَنْظُرُ فِي كُل أَمْرٍ عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي اخْتِصَاصِهِ، وَصَارَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ مُلاَزِمًا لِلدَّوْلَةِ الإِِِْسْلاَمِيَّةِ طُوَال التَّارِيخِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ (1) .
قَاضِي الْمَظَالِمِ
أَوَّلاً: تَعْيِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
8 - إِِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ نَفْسَهُ، لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل هُوَ قَاضِي الأُْمَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الأَْسَاسِيِّ فِي إِِقَامَةِ الْعَدْل، وَمَنْعِ الظُّلْمِ، وَالْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ، وَهُوَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْبَيْعَةِ وَوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى تَعْيِينٍ.
وَإِِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَوَّل فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْحُكَّامِ وَالْوُلاَةِ وَالأُْمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَحْتَاجُونَ فِي النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِلَى تَقْلِيدٍ وَتَعْيِينٍ، وَكَانَ لَهُمْ بِمُقْتَضَى وِلاَيَتِهِمُ الْعَامَّةِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
وَإِِِمَّا أَنْ يُعَيَّنَ شَخْصٌ خَاصٌّ لِقَضَاءِ الْمَظَالِمِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 372، وانظر: الحسبة لابن تيمية ص 82 ط. المكتبة العلمية.(38/131)
تَقْلِيدٍ مِنْ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَالْخَلِيفَةِ وَالْحُكَّامِ الْمُفَوَّضِ لَهُمْ ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
9 - يُشْتَرَطُ فِي قَاضِي الْمَظَالِمِ - بِالإِِِْضَافَةِ إِِلَى شُرُوطِ الْقَاضِي الْعَامِّ - أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ نَافِذَ الأَْمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَتَثَبُّتِ الْقُضَاةِ فَيَحْتَاجُ إِِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ (2) .
قَال ابْنُ خَلْدُونٍ عَنْ وِلاَيَةِ الْمَظَالِمِ: هِيَ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ فَتَحْتَاجُ إِِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِِمْضَائِهِ (3) .
وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْقَاضِي فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 18) .
ثَالِثًا: رِزْقُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
10 - الرِّزْقُ هُوَ مَا يُرَتِّبُهُ الإِِِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73، وكشاف القناع 6 / 283.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73
(3) مقدمة ابن خلدون ص 571 ط. لجنة البيان العربي.(38/131)
لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل شَهْرٍ سُمِّيَ رِزْقًا، وَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل عَامٍ سُمِّيَ عَطَاءً (1) .
وَنَاظِرُ الْمَظَالِمِ إِِنْ كَانَ خَلِيفَةً أَوْ أَمِيرًا أَوْ وَالِيًا فَرِزْقُهُ حَسَبُ عَمَلِهِ، وَلاَ يُخْتَصُّ بِرِزْقٍ خَاصٍّ لِنَظَرِهِ فِي الْمَظَالِمِ، وَإِِِنْ كَانَ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ قَاضِيًا مُعَيَّنًا لِذَلِكَ فَيُعْطَى كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ، لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحَبَسَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُ وَرَاتِبُهُ، كَسَائِرِ الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَهَذَا رَأْيُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ ف 58) .
رَابِعًا: اخْتِصَاصَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
11 - الأَْصْل فِي اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحُقُوقِ، وَمَنْعُ الظُّلاَمَاتِ، وَمُحَاسَبَةُ الْوُلاَةِ وَالْجُبَاةِ وَمُرَاقَبَةُ مُوَظَّفِي الدَّوْلَةِ إِِذَا تَجَاوَزُوا حُدُودَ سُلْطَتِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ أَوْ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 1076 ط. خياط
(2) المغني لابن قدامة 14 / 9، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 49، وأدب القاضي للماوردي لابن أبي الدم ص 101، والمهذب 2 / 291، وروضة القضاة للسمناني 1 / 85، وأخبار القضاة لوكيع 1 / 134، 342، وبدائع الصنائع 9 / 4104(38/132)
ظَلَمُوا النَّاسَ فِي أَعْمَالِهِمْ.
وَالأَْصْل أَنَّ اخْتِصَاصَ قَاضِي الْمَظَالِمِ عَامٌّ وَشَامِلٌ، وَهُوَ مَا يُمَارِسُهُ الْخُلَفَاءُ، وَمَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْوُزَرَاءِ الْمُفَوَّضِينَ، وَأُمَرَاءِ الأَْقَالِيمِ، وَمَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ مِنَ الْقُضَاةِ، وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ تَشْمَل عَشَرَةَ أُمُورٍ ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ (1) ، وَهِيَ:
1 - النَّظَرُ فِي تَعَدِّي الْوُلاَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَأَخْذِهِمْ بِالْعَسْفِ فِي السِّيرَةِ، فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ الَّذِي لاَ يَقِفُ عَلَى ظُلاَمَةِ مُتَظَلِّمٍ فَيَكُونُ لِسِيرَةِ الْوُلاَةِ مُتَصَفِّحًا وَمُكْتَشِفًا أَحْوَالَهُمْ لِيُقَوِّيَهُمْ إِِنْ أَنْصَفُوا، وَيَكُفَّهُمْ إِِنْ عَسَّفُوا، وَيَسْتَبْدِل بِهِمْ إِِنْ لَمْ يُنْصِفُوا، وَلَمْ يُؤَدُّوا وَاجِبَهُمُ الْمَنُوطَ بِهِمْ.
2 - جَوْرُ الْعُمَّال فِي جِبَايَةِ الأَْمْوَال بِمُقَارَنَتِهَا بِالْقَوَانِينِ الْعَادِلَةِ فِي دَوَاوِينِ الأَْئِمَّةِ، فَيَحْمِل النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُ الْعُمَّال بِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِِِنْ رَفَعُوهُ إِِلَى بَيْتِ الْمَال، أَمَرَ بِرَدِّهِ، وَإِِِنْ أَخَذُوهُ لأَِنْفُسِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ لأَِرْبَابِهِ (2) .
3 - النَّظَرُ فِي كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ لأَِنَّهُمْ أُمَنَاءُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76، ومقدمة ابن خلدون ص 222.
(2) المراجع السابقة.(38/132)
الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا يَسْتَوْفُونَهُ لَهُ، وَيُوفُونَهُ مِنْهُ، فَيَتَصَفَّحُ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا وُكِل إِِلَيْهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
وَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ لاَ يَحْتَاجُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي تَصَفُّحِهَا إِِلَى مُتَظَلِّمٍ، وَيُبَادِرُ إِِلَيْهَا بِنَفْسِهِ بِدُونِ دَعْوَى (1) .
4 - تَظَلُّمُ الْمُسْتَرْزِقَةِ، وَهُمُ الْمُوَظَّفُونَ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ، أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، وَإِِِجْحَافِ النُّظَّارِ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إِِلَى دِيوَانِهِ فِي فَرْضِ الْعَطَاءِ الْعَادِل فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِيمَا نُقِصُوهُ، أَوْ مُنِعُوهُ مِنْ قَبْل، فَإِِِنْ أَخَذَهُ وُلاَةُ أُمُورِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِِِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ قَضَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (2) .
5 - رَدُّ الْغُصُوبِ، وَهِيَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلْطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلاَةُ الْجَوْرِ، كَالأَْمْوَال الْمَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، إِِمَّا لِرَغْبَةٍ فِيهَا، وَإِِِمَّا لِتَعَدٍّ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَذَا إِِنْ عَلِمَ بِهِ وَالِي الْمَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الأُْمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْل التَّظَلُّمِ إِِلَيْهِ، وَإِِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ عِنْدَ تَظَلُّمِهِمْ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، فَإِِِذَا وَجَدَ فِيهِ ذِكْرَ قَبْضِهَا عَلَى مَالِكِهَا عَمِل عَلَيْهِ، وَأَمَرَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(2) المرجعان السابقان.(38/133)
بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ، وَكَانَ مَا وَجَدَهُ فِي الدِّيوَانِ كَافِيًا (1) .
ثَانِيهِمَا: مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهِ ذَوُو الأَْيْدِي الْقَوِيَّةِ، وَتَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ إِِلاَّ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ، إِِمَّا بِاعْتِرَافِ الْغَاصِبِ وَإِِِقْرَارِهِ، وَإِِِمَّا بِعِلْمِ وَالِي الْمَظَالِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، وَإِِِمَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِغَصْبِهِ، أَوْ تَشْهَدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمِلْكِهِ، وَإِِِمَّا بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ الَّتِي يُنْفَى عَنْهَا التَّوَاطُؤُ، وَلاَ يُخْتَلَجُ فِيهَا الشُّكُوكُ، لأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الأَْمْلاَكِ بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ كَانَ حُكْمُ وُلاَةِ الْمَظَالِمِ بِذَلِكَ أَحَقَّ. (2)
6 - مُشَارَفَةُ الْوُقُوفِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَأَمَّا الْعَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَظَلِّمٌ لِيُجْرِيَهَا عَلَى سَبِيلِهَا، وَيُمْضِيَهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا إِِذَا عَرَفَهَا إِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ الْحُكَّامِ الْمَنْدُوبِينَ لِحِرَاسَةِ الأَْحْكَامِ، وَإِِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ السَّلْطَنَةِ عَلَى مَا جَرَى فِيهَا مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78(38/133)
مُعَامَلَةٍ، أَوْ ثَبَتَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ وَتَسْمِيَةٍ، وَإِِِمَّا مِنْ كُتُبٍ فِيهَا قَدِيمَةٍ تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَشْهَدِ الشُّهُودُ بِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ الْخَصْمُ فِيهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ الْخَاصَّةُ فَإِِِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا، لِوَقْفِهَا عَلَى خُصُومٍ مُتَعَيَّنِينَ، فَيَعْمَل عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا عَلَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، وَلاَ إِِلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ إِِذَا لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ (1) .
7 - تَنْفِيذُ مَا وَقَفَ مِنْ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ لِضَعْفِهِمْ عَنْ إِِنْفَاذِهَا، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَذُّرِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ إِِلَيْهِ بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ (2) .
8 - النَّظَرُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ النَّاظِرُونَ فِي الْحِسْبَةِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْمُجَاهَرَةِ بِمُنْكَرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي فِي طَرِيقٍ عَجَزَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78
(2) المرجعان السابقان.(38/134)
عَنْ مَنْعِهِ، وَالتَّحَيُّفِ فِي حَقٍّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَيَأْخُذُهُمْ وَالِي الْمَظَالِمِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ، وَيَأْمُرُ بِحَمْلِهِمْ عَلَى مُوجِبِهِ (1) .
9 - مُرَاعَاةُ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، عِنْدَ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَإِِِخْلاَل شُرُوطِهَا، فَإِِِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى، وَهَذَا مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالدَّعْوَةِ وَالتَّذْكِيرِ (2) .
10 - النَّظَرُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، فَلاَ يَخْرُجُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ مُوجِبِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَاهُ، وَلاَ يَسُوغُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِِلاَّ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ حُكْمُ الْمَظَالِمِ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا، فَيَجُورُونَ فِي أَحْكَامِهَا، وَيَخْرُجُونَ إِِلَى الْحَدِّ الَّذِي لاَ يَسُوغُ، وَهَذَا مِنْ عَمَل الْقُضَاةِ (3) .
الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ
12 - الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ وَالْقَضَاءِ
__________
(1) المرجعان السابقان.
(2) المرجعان السابقان.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78.(38/134)
الْعَادِيِّ يَظْهَرُ فِي الْجَوَانِبِ التَّالِيَةِ (1) :
1 - إِِنَّ لِنُظَّارِ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الْهَيْبَةِ، وَقُوَّةِ الْيَدِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ فِي كَفِّ الْخُصُومِ عَنِ التَّجَاحُدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِِنْكَارِ الْحَقِّ فِي كِلاَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَنْعِ الظَّلَمَةِ مِنَ التَّغَالُبِ، وَالتَّجَاذُبِ.
2 - إِِنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ يَخْرُجُ عَنْ ضِيقِ الْوُجُوبِ فِي التَّحْقِيقِ وَالإِِِْثْبَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَالتَّنْفِيذِ إِِلَى سِعَةِ الْجَوَازِ، فَيَكُونُ أَفْسَحَ مَجَالاً، وَأَوْسَعَ مَقَالاً.
3 - يَسْتَعْمِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الإِِِْرْهَابِ، وَكَشْفِ الأَْسْبَابِ بِالأَْمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَشَوَاهِدِ الأَْحْوَال اللاَّئِحَةِ، مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْحُكَّامِ، فَيَصِل بِهِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِل مِنَ الْمُحِقِّ.
4 - يُقَابِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَيَأْخُذُ مَنْ بَانَ عُدْوَانُهُ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ.
5 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ اسْتِمْهَال الْخُصُومِ، وَتَأْجِيل الْفَصْل فِي النِّزَاعِ، وَالتَّأَنِّي فِي تَرْدَادِ الأَْطْرَافِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الأُْمُورِ، وَاسْتِبْهَامِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 1 / 21، 145، ومعين الحكام ص 12، 170 ط. الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 93، 164.(38/135)
الْحُقُوقِ، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ عَنِ الأَْسْبَابِ وَأَحْوَال الْخُصُومِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ إِِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْل الْحُكْمِ، فَلاَ يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ، وَيَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَالِي الْمَظَالِمِ.
6 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ رَدُّ الْخُصُومِ إِِذَا أَعْضَلُوا، أَيْ تَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمْ، إِِلَى وَسَاطَةِ الأُْمَنَاءِ، لِيَفْصِلُوا فِي التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إِِلاَّ عَنْ رِضَا الْخَصْمَيْنِ بِالرَّدِّ إِِلَى الصُّلْحِ.
7 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَفْسَحَ فِي مُلاَزَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إِِذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إِِلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَّكَفُّل، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إِِلَى التَّنَاصُفِ، وَيَعْدِلُوا عَنِ التَّجَاحُدِ وَالتَّكَاذُبِ.
8 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الْمُعَدِّلِينَ فَقَطْ.
9 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ إِِحْلاَفُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ بِهِمْ إِِذَا بَذَلُوا أَيْمَانَهُمْ طَوْعًا، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ عَدَدِهِمْ لِيَزُول عَنْهُ الشَّكُّ، وَيَنْفِي عَنْهُ الاِرْتِيَابَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ الْعَادِيِّ.
10 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ(38/135)
بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ، وَيَسْأَل عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ، أَمَّا عَادَةُ الْقُضَاةِ فَهِيَ تَكْلِيفُ الْمُدَّعِي إِِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ، وَلاَ يَسْمَعُونَهَا إِِلاَّ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِ وَطَلَبِهِ (1) .
الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ
13 - تَتَّفِقُ الْمَظَالِمُ مَعَ الْحِسْبَةِ فِي أُمُورٍ وَتَخْتَلِفُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى (2) .
أَمَّا وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ، فَهِيَ أَمْرَانِ وَهُمَا:
1 - أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الرَّهْبَةِ وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّلْطَنَةِ.
2 - يَجُوزُ لِلْقَائِمِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَفِي حُدُودِ اخْتِصَاصِهِ لأَِسْبَابِ الْمَصَالِحِ، وَإِِِنْكَارِ الْعُدْوَانِ، وَالإِِِْلْزَامِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِِلَى مُدَّعٍ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا أَوْجُهُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ فَهِيَ:
1 - إِِنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 84، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 2 / 142، ومعين الحكام ص 169، والإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص 164.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 241 - 242، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.(38/136)
عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَمَّا النَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ فَمَوْضُوعٌ لِمَا تَرَفَّعَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَوْ لاَ حَاجَةَ لِعَرْضِهِ عَلَى الْقَضَاءِ، فَكَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضَ مِنْهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ (يُخَاطِبَ وَيُرَاسِل) إِِلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى الْمُحْتَسِبِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
2 - يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي دَعَاوَى الْمُتَخَاصِمِينَ، وَيَفْصِل بَيْنَهُمَا، وَيُصْدِرَ حُكْمًا، قَضَائِيًّا قَابِلاً لِلتَّنْفِيذِ، أَمَّا وَالِي الْحِسْبَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْدُرَ حُكْمًا لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ فِي الأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا وَلاَ تَنَازُعَ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِِلَى بَيِّنَةٍ وَإِِِثْبَاتٍ وَحِجَاجٍ (1) .
طُرُقُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَمَكَانُهُ وَأَوْقَاتُهُ
أَوَّلاً: مَجْلِسُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
14 - يَسْتَعِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالأَْعْوَانِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ فِي أَدَاءِ مُهِمَّتِهِ الْجَسِيمَةِ، وَيَسْتَكْمِل بِهِمْ مَجْلِسَ نَظَرِهِ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُمْ، وَلاَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 242 - 243، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.(38/136)
يَنْتَظِمُ نَظَرُهُ إِِلاَّ بِهِمْ (1) ، وَلِذَلِكَ فَإِِِنَّ مَجْلِسَ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ يَتِمُّ تَشْكِيلُهُ كَمَا يَلِي:
1 - رَئِيسُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ وَالِي الْمَظَالِمِ، أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ.
2 - الْحُمَاةُ وَالأَْعْوَانُ لِجَذْبِ الْقَوِيِّ، وَتَقْوِيمِ الْجَرِيءِ.
3 - الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، لاِسْتِعْلاَمِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي فِي مَجَالِسِهِمْ بَيْنَ الْخُصُومِ.
4 - الْفُقَهَاءُ، لِيَرْجِعَ إِِلَيْهِمْ فِيمَا أَشْكَل، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا اشْتَبَهَ وَأَعْضَل.
5 - الْكُتَّابُ، لِيُثْبِتُوا مَا جَرَى بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمَا تَوَجَّهَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ، وَالْحَلاَل وَالْحَرَامِ، مَعَ جَوْدَةِ الْخَطِّ، وَحُسْنِ الضَّبْطِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ، وَالأَْمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ.
6 - الشُّهُودُ، لِيَشْهَدُوا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ قَاضِي الْمَظَالِمِ مِنْ حَقٍّ، وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ وَهُمْ شُهُودٌ لِلْقَاضِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتِمَّ التَّنْفِيذُ، وَيَسْتَبْعِدُ الإِِِْنْكَارَ وَالْجُحُودَ.
فَإِِِنِ اسْتَكْمَل مَجْلِسُ الْمَظَالِمِ هَؤُلاَءِ السِّتَّةَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.(38/137)
شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ (1) .
ثَانِيًا: التَّدَابِيرُ الْمُؤَقَّتَةُ فِي النَّظَرِ بِالْمَظَالِمِ
15 - يَحِقُّ لِقَاضِي الْمَظَالِمِ الْقِيَامُ بِتَدَابِيرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِِِجْرَاءَاتٍ خَاصَّةٍ، قَبْل النَّظَرِ فِي دَعْوَى الْمَظَالِمِ، وَأَثْنَاءَ النَّظَرِ فِيهَا، أَهَمُّهَا:
1 - الْكَفَالَةُ: وَذَلِكَ بِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الْمَدِينِ) بِتَقْدِيمِ كَفَالَةٍ بِأَصْل الدِّينِ، رَيْثَمَا يَفْصِل فِي الأَْمْرِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَعَلَى وَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِِِنْ كَانَتْ مَالاً، فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ الْقَاضِي إِِقَامَةَ كَفِيلٍ " (2) .
2 - الْحَجْرُ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَإِِِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَيْنًا قَائِمَةً كَالْعَقَارِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا حَجْرًا لاَ يَرْتَفِعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ " (3) ، وَيَرُدُّ اسْتِغْلاَلَهَا إِِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا، وَبِمَا أَنَّ الْحَجْرَ مِنْ جِهَةٍ، وَوَضْعَ الْمَال عِنْدَ أَمِينٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، قَدْ يُنْتَجُ عَنْهُمَا ضَرَرٌ وَأَذًى لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ تَشَدَّدَ فِيهِمَا الْفُقَهَاءُ، فَقَالُوا: " فَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَحِفْظُ اسْتِغْلاَلِهَا مُدَّةَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمَا، وَاجْتِهَادِ وَالِي
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.(38/137)
الْمَظَالِمِ فِيمَا يَرَاهُ بَيْنَهُمَا إِِلَى أَنْ يُثْبِتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا " (1) .
3 - إِِجْرَاءُ الْمُعَايَنَةِ وَالتَّحْقِيقِ الْمَحَلِّيِّ، فَإِِِنَّ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْحَال مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ، وَمِنْ جِيرَانِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ، لِيَتَوَصَّل بِهِمْ إِِلَى وُضُوحِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ (2) .
4 - الاِسْتِكْتَابُ وَالتَّطْبِيقُ وَالْمُضَاهَاةُ، وَذَلِكَ إِِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخَطَّ، فَإِِِنَّ وَالِيَ الْمَظَالِمِ يَخْتَبِرُ خَطَّهُ، بِاسْتِكْتَابِهِ بِخُطُوطِهِ الَّتِي يَكْتُبُهَا، وَيُكَلِّفَهُ الإِِِْكْثَارَ مِنَ الْكِتَابَةَ لِيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِِِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ (3) ، وَهَذَا قَوْل مَنْ جَعَل اعْتِرَافَهُ الْخَطَّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لإِِِِرْهَابِهِ وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إِِنْكَارِهِ لِلْخَطِّ أَضْعَفَ مِنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهِ، وَتُرْفَعُ الشُّبْهَةُ إِِنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الإِِِْرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ يُرَدَّانِ إِِلَى الْوَسَاطَةِ فَإِِِنْ أَفْضَى الْحَال إِِلَى الصُّلْحِ وَإِِِلاَّ بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(2) قضاة قرطبة للخشني ص 192، 217 ط. الدار المصرية، القاهرة.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 87، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 82.(38/138)
بِالأَْيْمَانِ.
ثَالِثًا: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ
16 - يَقْتَضِي نِظَامُ الْقَضَاءِ عَامَّةً، وَقَضَاءُ الْمَظَالِمِ خَاصَّةً، التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَمَامَ الْقَاضِي، فِي الْجُلُوسِ وَالإِِِْقْبَال، وَالإِِِْشَارَةِ وَالنَّظَرِ، دُونَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَرَاعٍ وَرَعِيَّةٍ، وَشَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، فَالْكُل أَمَامَ الْعَدْل سَوَاءٌ، لِمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِِِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَسْوِيَةٌ ف 9، وَقَضَاءٌ ف 41) .
رَابِعًا: وَقْتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
17 - عَلَى الْوُلاَةِ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ قَضَاءَ الْمَظَالِمِ بِجَانِبِ أَعْمَالِهِمْ أَنْ يُخَصِّصُوا يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الأُْسْبُوعِ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، لِيَقْصِدَهُ الْمُتَظَلِّمُونَ، وَيَتَفَرَّغُ الْوُلاَةُ فِي سَائِرِ الأَْيَّامِ لأَِعْمَالِهِمُ الأُْخْرَى، وَكَانَتِ الْمَظَالِمُ فِي الْعُهُودِ الأُْولَى قَلِيلَةً وَمَحْدُودَةً، وَكَانَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ يَنْظُرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ
__________
(1) حديث أم سلمة: " من ابتلي بالقضاء بين الناس. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 205) ، وفي إسناده راوٍ فيه جهالة كما في الميزان للذهبي (4 / 544) .(38/138)
مَتَى حَضَرَتْ مَظْلَمَةٌ، فَكَانَ الْمَهْدِيُّ مَثَلاً يَجْلِسُ فِي كُل وَقْتٍ لِرَدِّ الْمَظَالِمِ (1) .
أَمَّا إِِنْ كَانَ قَاضِي الْمَظَالِمِ مُتَعَيِّنًا لِذَلِكَ، وَمُتَفَرِّغًا لَهُ، فَيَكُونُ نَظَرُهُ فِيهَا فِي جَمِيعِ الأَْيَّامِ، وَفِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ (2) .
خَامِسًا: مَكَانُ الْمَظَالِمِ
18 - كَانَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي مَكَانِ الْخَلِيفَةِ فِي دَارِ الْخِلاَفَةِ، أَوْ مَكَانِ الْوَالِي، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمَّا أُفْرِدَتِ الْمَظَالِمُ بِدِيوَانِ خَاصٍّ، وَكِيَانٍ مُسْتَقِلٍّ خُصِّصَتْ لَهَا دَارٌ مُعَيَّنَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُتَظَلِّمُونَ، وَتُعْقَدُ فِيهَا جَلَسَاتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا أَصْحَابُ الْعَلاَقَةِ فِي الأَْمْرِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ فِي أَيَّامِ الْعَبَّاسِيِّينَ خُصِّصَتْ دَارٌ لِلْمَظَالِمِ فِي بَغْدَادَ (3) ، ثُمَّ بَنَى السُّلْطَانُ الصَّالِحُ الْعَادِل نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زِنْكِيٍّ الشَّهِيدُ دَارَ الْعَدْل بِدِمَشْقَ لِكَشْفِ الظُّلاَمَاتِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِيهَا مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ لِلنَّاسِ، فَكَانَ يُنْصِفُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَأُمَرَائِهِ الرَّعِيَّةَ (4) ، وَكَذَلِكَ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ
__________
(1) الفخري، لابن طباطبا ص 131.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 79، 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.
(3) تاريخ الطبري 8 / 216 ط. دار المعارف، القاهرة 1960.
(4) البداية والنهاية لابن كثير 12 / 280، تصوير مكتبة المعارف - بيروت، ومكتبة النصر - الرياض.(38/139)
بِمِصْرِ دَارَ الْعَدْل، وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ، وَخَلَّصَ الْحُقُوقَ (1) .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِِلَى مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 37 وَمَا بَعْدَهَا) .
سَادِسًا: الدَّعْوَى فِي الْمَظَالِمِ
19 - الأَْصْل فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الإِِِْمَامِ وَالْخَلِيفَةِ، وَالْوَالِي وَالأَْمِيرِ، وَالْمُحْتَسِبِ وَقَاضِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَخْذُهُ بِلاَ دَعْوَى إِِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: كُل أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ، وَلاَ يُؤَدِّي أَخْذُهُ إِِلَى فِتْنَةٍ وَتَشَاجُرٍ، وَلاَ فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ (2) .
سَابِعًا: الْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمَظَالِمِ
20 - إِِنَّ التَّحْقِيقَ وَالإِِِْثْبَاتَ فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَيَسْتَطِيعُ وَالِي الْمَظَالِمِ أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَضَائِهِ، لِذَلِكَ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " فَأَمَّا نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الأَْصْلَحِ فَعَلَى الْجَائِزِ، دُونَ الْوَاجِبِ، فَيَسُوغُ فِيهِ مِثْل هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ
__________
(1) النجوم الزاهرة 7 / 163.
(2) الفروق 4 / 76 - 77.(38/139)
الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالأَْسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ (1) ".
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إِِيصَال الْمُتَظَلِّمِ إِِلَى حَقِّهِ، بِمَا يَحْفَظُ مَعَهُ حِشْمَةَ الْمُتَظَلِّمِ مِنْهُ، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حِشْمَةَ نَفْسِهِ " (2) .
فَإِِِذَا كَانَ الظُّلْمُ وَاضِحًا اكْتَفَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالْبَيِّنَةِ الْيَسِيرَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى الْقَنَاعَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، وَكَانَ يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ إِِذَا عَرَفَ وَجْهَ مَظْلَمَةِ الرَّجُل رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ تَحْقِيقَ الْبَيِّنَةِ، كَمَا يُعْرَفُ مِنْ غَشْمِ (ظُلْمِ) الْوُلاَةِ قَبْلَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَقَدْ أَنْفَذَ بَيْتَ مَال الْعِرَاقِ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ حَتَّى حُمِل إِِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ إِِطْلاَقٌ لِيَدِ صَاحِبِ الْمَظَالِمِ وَتَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، لِمُوَاجَهَةِ حَالاَتِ الضَّرُورَاتِ وَالنَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ، وَهُوَ مَا قَصَدَهُ الْخَلِيفَةُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 91، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 86، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي المالقي ص 17، 18.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 90، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 85.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم ص 325.(38/140)
الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ " وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْقَاضِي بِالاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي.
فَالْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَتَرْفَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، هِيَ جُزْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهَا (1) .
ثَامِنًا: التَّنْفِيذُ
21 - وَهُوَ تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ وَهُوَ الْهَدَفُ الأَْخِيرُ مِنْ وُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْمَحَاكِمِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، إِِذَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفَّذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِِلَيْهِ، بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ (2) .
تَوْقِيعَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
22 - التَّوْقِيعُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِدِّعَاءَ مِنْ شَخْصٍ، وَالْجَوَابَ مِنْ آخَرَ،
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 462، والطرق الحكمية لابن القيم ص 4، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 132، 141.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83.(38/140)
وَالْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ (1) ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّوْقِيعَاتِ هُنَا: هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُرْسِلُهَا إِِلَى غَيْرِهِ بِإِِِحَالَةِ مَوْضُوعِ الْمُنَازَعَةِ إِِلَى شَخْصٍ أَوْ لَجْنَةٍ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ تَظَلُّمٍ وَأَحْكَامٍ وَقِصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إِِلَيْهِ، بِقَصْدِ تَحْضِيرِ الدَّعْوَى، أَوِ التَّحْقِيقِ فِيهَا، أَوِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ، وَالْفَصْل فِيهَا.
23 - وَقَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ (2) ، تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ إِِلَى قِسْمَيْنِ حَسَبَ حَال الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ مُخْتَصًّا أَصْلاً بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، كَالتَّوْقِيعِ إِِلَى الْقَاضِي الْمُكَلَّفِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إِِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ إِِذْنًا لِلْقَاضِي لِلْفَصْل فِي الدَّعْوَى وَالْحُكْمِ فِيهَا، وَهُنَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَصْل الْوِلاَيَةِ، وَيَكُونُ التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ.
ب - أَنْ يَقْتَصِرَ التَّوْقِيعُ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْوَسَاطَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لإِِِِنْهَاءِ النِّزَاعِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 689، ونقل التهانوي أن الشخص إذا ادعى على آخر فالمكتوب هو المحضر، وإذا أجاب الآخر وأقام البينة فالتوقيع، وإذا حكم فالسجل، وانظر: التعريفات للجرجاني ص 109.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 93، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 87.(38/141)
فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ وَإِِِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْكَاتِبُ فِي التَّوْقِيعِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ نَظَرُ الْقَاضِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الْحُكْمِ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحُكْمِ وَمَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، لأَِنَّ فَحْوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَإِِِذَا كَانَ التَّوْقِيعُ بِمُجَرَّدِ الْوَسَاطَةِ فَلاَ يُلْزَمُ الْقَاضِي الْمُحَال إِِلَيْهِ بِإِِِنْهَاءِ الْحَال، وَإِِِخْطَارِهِ إِِلَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِِِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ، أَوْ بِالتَّحْقِيقِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ لَزِمَهُ إِِنْهَاءُ حَالِهِمَا إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ فَلَزِمَ إِِجَابَتُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ، كَتَوْقِيعِهِ إِِلَى فَقِيهٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلتَّحْقِيقِ وَكَشْفِ الصُّورَةِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ، فَعَلَى الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا، وَيُنْهِيَ مِنْهَا لِقَاضِي الْمَظَالِمِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ الْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَإِِِلاَّ كَانَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنَ الأَْمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَال(38/141)
أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الإِِِْرْهَابِ، وَفَضْل الْكَشَفِ.
ب - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ، فَيَتَوَسَّطُ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ بَيْنَهُمَا، فَإِِِنْ أَفْضَتِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِِنْهَاؤُهَا إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُعْتَبَرُ شَاهِدًا فِيهَا، إِِذَا اسْتُدْعِيَ لِلشَّهَادَةِ بِشَأْنِهَا مُسْتَقْبَلاً، وَإِِِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَانَ الْوَسِيطُ شَاهِدًا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ يُؤَدِّيهِ إِِلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إِِلَى التَّظَلُّمِ وَطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِِنْ لَمْ يَعُودَا.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلشَّخْصِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهَذَا يَعْنِي إِِسْنَادَ وِلاَيَةٍ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ فَحْوَى قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ لأَِعْمَال الْقَضَاءِ، لِيَكُونَ نَظَرُهُ مَحْمُولاً عَلَى مُوجِبِهِ.
24 - كَمَا قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ حَسْبَ مَضْمُونِ الْكِتَابِ إِِلَى قِسْمَيْنِ (1) ، وَهُمَا:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الإِِِْحَالَةِ مُتَضَمِّنَةً إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا سَأَل الْخَصْمُ فِي ظُلاَمَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، فَإِِِنْ سَأَل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 94، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 88.(38/142)
الْوَسَاطَةَ أَوِ الْكَشْفَ لِلصُّورَةِ، أَيِ التَّحْقِيقَ فِيهَا، كَانَتِ الإِِِْحَالَةُ مُوجِبَةً لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إِِجَابَةِ مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوقِعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي وِلاَيَةً يَلْزَمُ حُكْمُهَا، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ، وَإِِِنْ سَأَل الْمُتَظَلِّمُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةٌ، لِتَصِحَّ وِلاَيَةُ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ أَوِ التَّفْوِيضُ مُتَضَمِّنًا إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مَا سَأَل، عَلَى أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِيهِ الأَْمْرَ، وَتَتَحَدَّدُ الْوِلاَيَةُ بِمَضْمُونِ قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ، وَلَهَا ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ كَامِلَةً فِي صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الأَْمْرَ بِالنَّظَرِ، وَالأَْمْرَ بِالْحُكْمِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُهُ الشَّرْعُ، وَهَذَا هُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِل.
ب - أَنْ لاَ يَكُونَ قَرَارُ الإِِِْحَالَةِ كَامِلاً، بَل تَضَمَّنَ الأَْمْرَ بِالْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ مَثَلاً: احْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَقُول: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَتَصِحُّ الْوِلاَيَةُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْحُكْمَ(38/142)
وَالْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا لاَ يَكُونُ إِِلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الأَْمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْهُ.
ج - أَنْ يَخْلُوَ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَمَال وَالْجَوَازِ، بِأَنْ يَذْكُرَ فِي التَّوْقِيعِ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ وِلاَيَةٌ، لأَِنَّ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا يَحْتَمِل الْوَسَاطَةَ الْجَائِزَةَ، وَيَحْتَمِل الْحُكْمَ اللاَّزِمَ، وَهُمَا فِي الاِحْتِمَال سَوَاءٌ، فَلَمْ تَنْعَقِدِ الْوِلاَيَةُ بِهِ مَعَ الاِحْتِمَال.
أَمَّا إِِنْ قَال لَهُ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ، فَقِيل: إِِنَّ الْوِلاَيَةَ مُنْعَقِدَةٌ، لأَِنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ، وَقِيل: لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ، لأَِنَّ الصُّلْحَ وَالْوَسَاطَةَ حَقٌّ، وَإِِِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ.
كَيْفِيَّةُ رَدِّ الْمَظَالِمِ
25 - رَغَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ عَلَيْهَا، وَطَلَبَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ مَظْلَمَةً أَنْ يَتَحَلَّلَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَسْرَعَ مَا يُمْكِنُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٌ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْل أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ بِقَدْرِ مَظْلِمَتَهُ، وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ(38/143)
حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِل عَلَيْهِ (1) .
وَحَدَّدَ النَّوَوِيُّ كَيْفِيَّةَ رَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَصْحَابِهَا فَقَال: " إِِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَال النَّاسِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَال النَّاسِ إِِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمُ بَدَلَهَا إِِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِل الْمُسْتَحَقَّ فَيُبْرِئَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْحَقِّ إِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِِلَيْهِ إِِنْ كَانَ غَائِبًا إِِنْ كَانَ غَصَبَهُ هُنَاكَ، فَإِِِنْ مَاتَ سَلَّمَهُ إِِلَى وَارِثِهِ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ رَفَعَهُ إِِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِِِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِِنْ وَجَدَهُ، وَإِِِنْ كَانَ مُعْسِرًا نَوَى الضَّمَانَ إِِذَا قَدَرَ، فَإِِِنْ مَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ، وَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ وَلَيْسَ بِمَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقَّ وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ فَإِِِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِِِنْ شَاءَ عَفَا " (2) ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " من كانت له مظلمة من أخيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 101) .
(2) روضة الطالبين للنووي 11 / 246 ط. المكتب الإسلامي.(38/143)
تَفْصِيلٍ فِي الْفُرُوعِ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: " أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يَسُوءُهُمْ أَوْ يُصِيبُهُمْ فِي الْغَيْبِ فَلْيَطْلُبْ مِنْ كُل مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ آذَى قَلْبَهُ بِفِعْل مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلْيُحِل وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَمَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ فَلاَ يُتَدَارَكُ إِِلاَّ بِكَثِيرِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ تَبْقَى لَهُ مَظْلَمَةٌ، فَلْيَجْبُرْهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا يَجْبُرُ مَظْلَمَةَ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ (2) .
تَوَقُّفُ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ
26 - يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا، أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لأَِنَّ التَّوْبَةَ بِمَعْنَى النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ لاَ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ وَإِِِسْقَاطِ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَرَدِّ الْمَال الْمَغْصُوبِ وَالْجِنَايَاتِ فِي الأَْمْوَال وَالأَْنْفُسِ، وَرَدِّ الْمَال الْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ التَّوْبَةِ: وَإِِِنْ كَانَتْ تُوجِبُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى البابي الحلبي، والمغني 14 / 193، وكشاف القناع 6 / 420، ورياض الصالحين للنووي ص 62 ط. دار الفكر.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 11 / 2129 ط. دار الشعب.
(3) روضة الطالبين للنووي 11 / 246، وحاشية القليوبي 4 / 201، والمغني 14 / 116، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.(38/144)
عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآِدَمِيٍّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكِ الْمَظْلَمَةِ حَسَبَ إِِمْكَانِهِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ، أَوْ مِثْلَهُ إِِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِِِلاَّ قِيمَتَهُ، وَإِِِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِِِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، اشْتُرِطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينُ فِي نَفْسِهِ، وَبَذْلُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ (1) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقُّفِ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَوْبَةٍ مِنْ نَحْوِ غَصْبٍ رَدُّ مَظْلَمَةٍ إِِلَى رَبِّهَا إِِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ إِِلَى وَرَثَتِهِ إِِنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهَا فِي حِلٍّ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُبْرِئَهُ، وَيَسْتَمْهِل التَّائِبُ رَبَّ الْمَظْلِمَةِ إِِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، أَوْ بَدَلِهَا لِعُسْرَتِهِ (2) .
وَإِِِنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، لأَِنَّ عِرْضَ الْمَقْذُوفِ قَدْ تَلَوَّثَ بِقَذْفِهِ، فَإِِِكْذَابُهُ نَفْسَهُ يُزِيل ذَلِكَ التَّلَوُّثَ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ بِهِ (3) .
وَإِِِنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي جُهِل الْمُودِعُ لَهَا، وَأَيِسَ الْمُودَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا، يَجُوزُ إِِعْطَاؤُهَا لِبَيْتِ الْمَال إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ جَائِرًا ظَالِمًا، وَيَجُوزُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 14 / 193.
(2) كشاف القناع 6 / 420، والروضة 11 / 146.
(3) المغني لابن قدامة 14 / 91.(38/144)
مَصَارِفِهَا أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ، إِِذَا كَانَ الإِِِْمَامُ جَائِرًا (1) .
وَإِِِذَا تَابَ الْغَال (وَهُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ) قَبْل الْقِسْمَةِ رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمَقْسَمِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إِِلَى أَهْلِهِ (2) .
وَإِِِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ تُوجِبُ رَدَّ الْمَال عَلَى صَاحِبِهِ إِِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَال لاَ غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لاَ يَفْعَل مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَل (3) .
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 187.
(2) المغني لابن قدامة 13 / 171.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4295 ط. الإمام، وانظر: حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.(38/145)
مَظِنَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَظِنَّةُ مِنَ الظَّنِّ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَحْصُل عَنْ أَمَارَةٍ وَمَتَى قَوِيَتْ أَدَّتْ إِِلَى الْعِلْمِ، وَالظَّنُّ فِي الأَْصْل خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (1) .
وَالْمَظِنَّةُ: بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ وَمَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَظْنُونَاتُ هِيَ الْقَضَايَا الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا حُكْمًا رَاجِحًا مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَظِنَّةِ:
الْمَظِنَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
مَظِنَّةُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِزَوَال الْعَقْل
2 - إِِذَا زَال عَقْل الْمُكَلَّفِ بِنَوْمٍ أَوْ جُنُونٍ
__________
(1) سورة البقرة / 46.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(3) الذخيرة للقرافي ص 215، والتعريفات للجرجاني.(38/145)
أَوْ إِِغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَوَال الْعَقْل بِأَحَدِ هَذِهِ الأُْمُورِ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ (1) .
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْيَقَظَةَ هِيَ الْحَافِظَةُ لِمَا يَخْرُجُ، وَالنَّائِمُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ وَلاَ يَشْعُرُ بِهِ فَاعْتُبِرَ النَّوْمُ وَنَحْوُهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لاَ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ شَيْءٌ أَثْنَاءَ النَّوْمِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: النَّوْمُ لَيْسَ حَدَثًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الرِّيحِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ (2) .
مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ عِنْدَ مُلاَمَسَةِ الرَّجُل الْمَرْأَةَ
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِِلَى أَنَّ مُلاَمَسَةَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لأَِنَّهَا مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْيَقِينِ وَأُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لأَِنَّهَا لاَ تَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا (3) ،
__________
(1) حديث: " العين وكاء السّه. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 161) من حديث علي بن أبي طالب، وحسنه النووي في المجموع (2 / 13) .
(2) مغني المحتاج 1 / 33، والذخيرة للقرافي ص 224، والمغني لابن قدامة 1 / 173، وحاشية ابن عابدين 1 / 95.
(3) الذخيرة للقرافي ص 219 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 34، والمغني لابن قدامة 1 / 192، 196.(38/146)
وَقِيَامُ الْمَظِنَّةِ كَعِلَّةٍ لِمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَشْمَل مَسَّ قُبُل الآْدَمِيِّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ وَقِيَامِهَا كَعِلَّةٍ لِوُجُوبِ الْغُسْل يَشْمَل الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْمَظِنَّةُ فِي أَحْكَامِ السَّفَرِ
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَإِِِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِفَقْدِ الْمَاءِ، أَوْ لِلْخَوْفِ، وَقِصَرِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَجَمْعِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجُوزُ جَمْعُهَا، وَإِِِفْطَارِ الصَّائِمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنُوطَةِ بِالسَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأَِنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ، قَال صَاحِبُ كَشْفِ الأَْسْرَارِ: حَتَّى لَوْ تَنَزَّهَ سُلْطَانٌ مِنْ بُسْتَانٍ إِِلَى بُسْتَانٍ فِي خَدَمِهِ وَأَعْوَانِهِ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى حَال إِِقَامَتِهِ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا (1) .
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 376، والمنثور للزركشي 2 / 164 - 174.(38/146)
الْمَظِنَّةُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ
5 - مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْيَقِينِ قَبُول شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَرِوَايَةُ الرَّاوِينَ فِي بَابَيِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا ظَنِّيٌّ، وَكُلَّمَا كَانَ دَلاَئِل الصِّدْقِ أَكْثَرَ كَانَ آكَدَ، فَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ أَخْبَارِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آكَدُ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُدُول الأَْزْمَانِ بَعْدَهُمْ، وَلاَ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُدُول سَائِرِ الْقُرُونِ، فَإِِِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِِلَى إِِغْلاَقِ بَابِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَالْخَبَرُ الصَّادِرُ مِنَ اثْنَيْنِ آكَدُ ظَنًّا وَأَقْوَى حُسْبَانًا مِنَ الْخَبَرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْل الْوَاحِدِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْمُخْبِرُونَ كَثُرَ الظَّنُّ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ إِِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ خَبَرُهُمْ إِِلَى إِِفَادَةِ الْعِلْمِ.
فَأُقِيمَتْ هَذِهِ الْمَظِنَّةُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَنَحْوِهِمَا مَقَامَ الْيَقِينِ، لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ، مَعَ أَنَّ الظُّنُونَ فِي ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَمَا قَال الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 1 / 74 وما بعدها، وقواعد الأحكام 2 / 37، 40، 41 وما بعدها.(38/147)
مَعَابِدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعَابِدُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ مَعْبَدٍ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَهُوَ مَكَانُ الْعِبَادَةِ وَمَحَلُّهَا.
وَالْعِبَادَةُ مَصْدَرُ عَبَدَ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - يُقَال: عَبَدَ اللَّهَ عِبَادَةً وَعُبُودِيَّةً: انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَل، وَالْمُتَعَبَّدُ: مَكَانُ التَّعَبُّدِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَسْجِدُ:
2 - الْمَسْجِدُ لُغَةً مَفْعِلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: اسْمٌ لِمَكَانِ السُّجُودِ، وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ (3) .
وَالْمَسْجِدُ شَرْعًا: كُل مَوْضِعٍ مِنَ الأَْرْضِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (4) ، وَخَصَّصَهُ الْعُرْفُ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط، ومتن اللغة.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(3) المصباح المنير.
(4) حديث: " جعلت لي الأرض. . . " شطر من حديث جابر بن عبد الله: أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 436 ط. السلفية) ومسلم (1 / 370 - 371) ط. الحلبي.
(5) إعلام الساجد / 28.(38/147)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَعَابِدِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ.
أَقْسَامُ الْمَعَابِدِ:
مَكَانُ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْمَسْجِدُ وَالْجَامِعُ وَالْمُصَلَّى وَالزَّاوِيَةُ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِدٌ ف 1 - 4) .
وَأَمَّا مَكَانُ عِبَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَقْسَامٌ وَتَسْمِيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْكَنِيسَةُ:
3 - تُطْلَقُ الْكَنِيسَةُ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ عَلَى مُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُتَعَبَّدِ النَّصَارَى، وَهِيَ مُعَرَّبَةٌ (1) .
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَقَاضِي زَادَهْ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُطْلَقًا فِي الأَْصْل، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْل مِصْرَ يُطْلِقُونَ الْكَنِيسَةَ عَلَى مُتَعَبَّدِهِمَا (2) .
وَأَوْرَدَ الْبَرْكَتِيُّ أَوْجُهًا أَرْبَعَةً فَقَال:
الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، أَوِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 486، وابن عابدين 3 / 271، وأحكام أهل الذمة 2 / 669.(38/148)
الْكُفَّارِ، أَوْ مَوْضِعُ صَلاَةِ الْيَهُودِ فَقَطْ (1) .
وَنَصَّ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى (2) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْكُفَّارِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ (3) .
ب - الْبِيعَةُ:
4 - الْبِيعَةُ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - مُفْرَدٌ جَمْعُهُ بِيَعٌ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - مِثْل سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى (4) ، وَزَادَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فَقَال: وَهِيَ الَّتِي يَبْنُونَهَا فِي الْبَلَدِ (5) .
وَقَال قَاضِي زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِِنَّ الْبِيعَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْبِيعَةِ لِمَعْبَدِ النَّصَارَى (6) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِِنَّ أَهْل اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْبِيعَةَ مَعْبَدُ النَّصَارَى إِِلاَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: الْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ (7) .
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) حاشية الجمل 5 / 223.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي.
(5) تفسير الرازي 23 / 230.
(6) تكملة فتح القدير 8 / 486.
(7) أحكام أهل الذمة 2 / 669.(38/148)
ج - الصَّوْمَعَةُ:
5 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّوْمَعَةُ بَيْتٌ يُبْنَى بِرَأْسٍ طَوِيلٍ لِيُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالاِنْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ (1) ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّ الصَّوَامِعَ لِلنَّصَارَى وَهِيَ الَّتِي بَنَوْهَا فِي الصَّحَارِي (2) ، وَقِيل: الصَّوَامِعُ لِلصَّابِئِينَ (3) .
د - الدَّيْرُ
6 - الدَّيْرُ مُقَامُ الرُّهْبَانِ وَالرَّاهِبَاتِ مِنَ النَّصَارَى، وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّفَرُّدِ عَنِ النَّاسِ، وَيُجْمَعُ عَلَى دُيُورَةٍ مِثْل: بَعْلٍ وَبُعُولَةٍ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ يَخُصُّونَ الدَّيْرَ بِمَعْبَدِ النَّصَارَى (5) .
هـ - الْفُهُرُ
7 - الْفُهُرُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْهَاءِ جَمْعٌ، وَمُفْرَدُهَا فُهْرٌ، لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَهُوَ بَيْتُ الْمِدْرَاسِ الَّذِي يَتَدَارَسُونَ فِيهِ الْعِلْمَ، وَفِيهِ قَوْل أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 271.
(2) تفسير الرازي 23 / 230.
(3) أحكام أهل الذمة 2 / 668.
(4) المصباح المنير وقواعد الفقه للبركتي، وحاشية ابن عابدين 3 / 271، وفتح القدير 4 / 377، وأحكام أهل الذمة 2 / 668.
(5) أحكام أهل الذمة 2 / 668.(38/149)
تَعَالَى عَنْهُ: " وَكَأَنَّهُمُ الْيَهُودُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ فُهُرِهِمْ ". (1)
و الصَّلَوَاتُ
8 - الصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ، قَال الزَّجَّاجُ وَهِيَ بِالْعِبْرِيَّةِ (صِلْوَتَا) ، وَقِيل: لِلنَّصَارَى، وَقِيل: لِلصَّابِئِينَ (2) .
ز - بَيْتُ النَّارِ وَالنَّاوُوسُ
9 - بَيْتُ النَّارِ: هُوَ مَوْضِعُ عِبَادَةِ الْمَجُوسِ (3) .
وَأَمَّا النَّاوُوسُ فَقَال اللُّغَوِيُّونَ: النَّاوُوسُ مَقَابِرُ النَّصَارَى، أَوْ صُنْدُوقٌ مِنْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِ يَضَعُ فِيهِ النَّصَارَى جُثَّةَ الْمَيِّتِ (4) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: النَّاوُوسُ لِلْمَجُوسِ كَالْكَنِيسَةِ لِلنَّصَارَى، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِل (5) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَابِدِ
10 - لاَ يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ، وَالصَّوْمَعَةِ، وَبَيْتِ النَّارِ، وَالدَّيْرِ وَغَيْرِهَا فِي
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 669.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 668، وتفسير الرازي 23 / 230.
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 275، 276.
(4) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(5) أحكام أهل الذمة 1 / 275، 276.(38/149)
الأَْحْكَامِ، وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إِِلَيْهِمْ كِتَابًا: " إِِنَّهُمْ لاَ يَبْنُونَ فِي بِلاَدِهِمْ وَلاَ فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ. . . " (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ فِي كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِيهَا: وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ بِمُتَعَبَّدِ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ كَانَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ فِي الْوَقْفِ: وَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ، وَبُيُوتِ نَارٍ، وَبِيَعٍ وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا (3) .
وَنَصَّ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذِكْرِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَابِدِ عَلَى أَنَّ: حُكْمَ هَذِهِ الأَْمْكِنَةِ كُلِّهَا حُكْمُ الْكَنِيسَةِ، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا (4) .
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَابِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
إِِحْدَاثُ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
11 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِِحْدَاثِ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْصَارِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 253.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(3) كشاف القناع 4 / 246، والمغني 5 / 645.
(4) أحكام أهل الذمة 2 / 669.(38/150)
فَلاَ يَجُوزُ فِيهَا إِِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلاَ بِيعَةٍ وَلاَ مُجْتَمَعٍ لِصَلاَتِهِمْ وَلاَ صَوْمَعَةٍ بِإِِِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ.
ب - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عِنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إِِحْدَاثُ شَيْءٍ بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْمِ مَا كَانَ فِيهِ كَمَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.
ج - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا: فَإِِِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ الإِِِْحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِِِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَلاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ إِِلاَّ إِِذَا شَرَطُوا ذَلِكَ، وَإِِِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 24 - 25) .
هَدْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ
12 - الْمُرَادُ مِنَ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ مَا كَانَتْ قَبْل فَتْحِ الإِِِْمَامِ بَلَدَ الْكُفَّارِ وَمُصَالَحَتِهِمْ عَلَى إِِقْرَارِهِمْ عَلَى بَلَدِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 271 وما بعدها، وفتح القدير 4 / 378، وبدائع الصنائع 4 / 166، وحاشية الدسوقي 2 / 204، ومغني المحتاج 4 / 253، 254، وأسنى المطالب 4 / 219، 220، وحاشية الجمل 5 / 223، 254، والمغني 8 / 526، 527.(38/150)
أَنْ تَكُونَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَوِ التَّابِعِينَ لاَ مَحَالَةَ (1) .
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاقِعِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِي الْمُدُنِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ وَالْقُرَى لاَ يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلاَ يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِِنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ فِي السَّوَادِ لاَ تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي الأَْمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ: تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ، وَذَكَرَ فِي الإِِِْجَارَةِ: لاَ تُهْدَمُ: وَعَمَل النَّاسِ عَلَى هَذَا، فَإِِِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ إِِمَامٌ بِهَدْمِهَا، فَكَانَ مُتَوَارَثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِّيَةً فِيهَا دَيْرٌ أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ دَاخِل السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُهْدَمَ، لأَِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلأَْمَانِ قَبْل وَضْعِ السُّورِ، فَيُحْمَل مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنَ الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ لأَِنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ، ثُمَّ فِيهَا الآْنَ كَنَائِسُ، وَيَبْعُدُ مِنْ إِِمَامٍ تَمْكِينِ الْكُفَّارِ مِنْ إِِحْدَاثِهَا جَهَارًا فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 248.(38/151)
جَوْفِ الْمُدُنِ الإِِِْسْلاَمِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي، فَأُدِيرَ السُّورُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْضُوعَةُ الآْنَ فِي دَارِ الإِِِْسْلاَمِ - غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لاَ تُهْدَمَ، لأَِنَّهَا إِِنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ، فَلاَ شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَأَبْقَوْهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِِِنْ كَانَتِ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهَا بَقَّوْهَا مَسَاكِنَ لاَ مَعَابِدَ فَلاَ تُهْدَمُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ، وَإِِِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا بَل مِنَ الإِِِْظْهَارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ تُتْرَكُ لأَِهْل الذِّمَّةِ فِيمَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ فَسَكَنُوهُ مَعَهُمْ، وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ: لاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ مُطْلَقًا وَلاَ يُتْرَكُ لَهُمْ كَنِيسَةً (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَجُهِل أَصْلُهُ لاَ يُنْقَضُ لاِحْتِمَال أَنَّهَا كَانَتْ قَرْيَةً أَوْ بَرِّيَةً فَاتَّصَل بِهَا عُمْرَانُ مَا أُحْدِثَ مِنَّا، بِخِلاَفِ مَا
__________
(1) فتح القدير 4 / 378، وحاشية ابن عابدين 3 / 273، والفتاوى الهندية 2 / 248.
(2) الحطاب 3 / 384.(38/151)
لَوْ عُلِمَ إِِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِِِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ إِِذَا بُنِيَ لِلتَّعَبُّدِ، وَإِِِنْ بُنِيَ لِنُزُول الْمَارَّةِ: فَإِِِنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِِذَا كَانَ لأَِهْل الذِّمَّةِ فَقَطْ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْبِلاَدِ الَّتِي مَصَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَأُحْدِثَتْ بَعْدَ تَمْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا تُزَال، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا بِفَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ ثُمَّ مَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهَا الْمِصْرَ فَهَذِهِ لاَ تُزَال (2) .
ب - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِِلَى أَنَّ الْمَعَابِدَ الْقَدِيمَةَ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً لاَ يَجِبُ هَدْمُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُهْدَمُ وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 253، وروضة الطالبين 10 / 323.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 677 ط. دار العلم للملايين، والمغني 8 / 526.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 204، ومواهب الجليل 3 / 384، وروضة الطالبين 10 / 323، ومغني المحتاج 4 / 254، والمغني 5 / 527.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 273، وفتح القدير 4 / 379.(38/152)
ج - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا
15 - الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ صُلْحًا ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَنَا فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ وَيُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا، فَهَذَا مِمَّا لاَ يُتَعَرَّضُ لِلْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ فِيهَا دُونَ خِلاَفٍ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إِِلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِِلَى أَنَّهَا لاَ تَبْقَى، لأَِنَّ إِِطْلاَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا (1) .
إِِعَادَةُ الْمُنْهَدِمِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا انْهَدَمَتِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 254، وروضة الطالبين 10 / 323، وكشاف القناع 3 / 133، وحاشية ابن عابدين 3 / 273، وحاشية الدسوقي 2 / 203 - 204، ومواهب الجليل 3 / 384.(38/152)
الْكَنِيسَةُ (الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا) فَلِلذِّمِّيِّينَ إِِعَادَتُهَا، لأَِنَّ الأَْبْنِيَةَ لاَ تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى إِِبْقَائِهَا قَبْل الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ عَهِدَ إِِلَيْهِمُ الإِِِْعَادَةَ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِِِحْدَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالإِِِْعَادَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى الْبِنَاءِ الأَْوَّل كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْ: لاَ يَبْنُونَ مَا كَانَ بِاللَّبِنِ بِالآْجُرِّ، وَلاَ مَا كَانَ بِالآْجُرِّ بِالْحَجَرِ وَلاَ مَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَخَشَبِ النَّخْل بِالنَّقَى وَالسَّاجِ، وَلاَ بَيَاضًا لَمْ يَكُنْ.
قَالُوا: وَلِلإِِِْمَامِ أَنْ يُخَرِّبَهَا إِِذَا وَقَفَ عَلَى بِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ بُنِيَ مِنْهَا فَوْقَ مَا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَكَذَا مَا زَادَ فِي عِمَارَتِهَا الْعَتِيقَةِ.
وَإِِِذَا جَازَ لَهُمْ إِِعَادَةُ بِنَائِهَا فَإِِِنَّ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيعٍ عَلَى خُطَّتِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالأُْولَى، وَقِيل: الْمُرَادُ بِالإِِِْعَادَةِ الإِِِْعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لاَ بِآلاَتِ جَدِيدَةٍ (1) ، وَالْمُرَادُ بِالْمُهْدَمِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الأَْشْبَاهِ: مَا انْهَدَمَ، وَلَيْسَ مَا هَدَمَهُ الإِِِْمَامُ، لأَِنَّ فِي إِِعَادَتِهَا بَعْدَ هَدْمِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ وَبِالإِِِْسْلاَمِ، وَإِِِخْمَادًا لَهُمْ وَكَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ، وَنَصْرًا لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272، 273، ومغني المحتاج 4 / 254، 255، وروضة الطالبين 10 / 324.(38/153)
وَلأَِنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى الإِِِْمَامِ فَيَلْزَمُ فَاعِلَهُ التَّعْزِيرُ، وَبِخِلاَفِ مَا إِِذَا هَدَمُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَإِِِنَّهَا تُعَادُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالإِِْصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لأَِنَّهُ كَبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الإِِِْسْلاَمِ (2) .
تَرْمِيمُ الْمَعَابِدِ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ رَمِّ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَنَحْوِهَا الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَإِِِصْلاَحِهَا، لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إِِلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا (3) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: بِأَنَّهُ يَجِبُ إِِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ لأَِنَّ إِِظْهَارَهَا زِينَةٌ تُشْبِهُ الاِسْتِحْدَاثَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ فَيَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنَ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272.
(2) المغني 8 / 528، وروضة الطالبين 10 / 324.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 272، ومغني المحتاج 4 / 254، وروضة الطالبين 10 / 324، والمغني 8 / 528، وحاشية الدسوقي 2 / 204.
(4) روضة الطالبين 10 / 324.(38/153)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ الْمُنْهَدِمِ فِي الْعَنْوِيِّ (مَا فُتِحَ عَنْوَةً) وَفِي الصُّلْحِيِّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ (1) .
نَقْل الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِِلَى آخَرَ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْل الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِِلَى مَكَانٍ آخَرَ عَلَى أَقْوَالٍ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُحَوِّلُوا مَعَابِدَهُمْ مِنْ مَوْضِعٍ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، لأَِنَّ التَّحْوِيل مِنْ مَوْضِعٍ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إِِحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا النَّقْل فِي الْعَقْدِ يَجُوزُ وَإِِِلاَّ فَلاَ (3) .
وَفَصَّل ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلاَمَ عَلَيْهِ فَقَال: وَالَّذِي يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَال: إِِنْ مَنَعْنَا إِِعَادَةَ الْكَنِيسَةِ إِِذَا انْهَدَمَتْ، مَنَعْنَا نَقْلَهَا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، فَإِِِنَّهَا إِِذَا لَمْ تَعُدْ إِِلَى مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَنْشَأُ فِي غَيْرِهِ؟ وَإِِِنْ جَوَّزْنَا إِِعَادَتَهَا فَكَانَ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَنْقُلُونَهَا إِِلَى مَوْضِعٍ خَفِيٍّ لاَ يُجَاوِرُهُ مُسْلِمٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلاَ رَيْبٍ، فَإِِِنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 314، وشرح الزرقاني 3 / 145، والخرشي 3 / 148.
(2) بدائع الصنائع 7 / 114، وحاشية ابن عابدين 3 / 271، وفتح القدير 4 / 377، والفتاوى الهندية 2 / 248.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 204.(38/154)
ظَاهِرَةٌ لِلإِِِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلاَ مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِِنْ كَانَ النَّقْل لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهَذَا لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِِشْغَال رَقَبَةِ أَرْضِ الإِِِْسْلاَمِ بِجَعْلِهَا دَارَ كُفْرٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَادُوا جَعْلَهَا خَمَّارَةً أَوْ بَيْتَ فِسْقٍ.
فَلَوِ انْتَقَل الْكُفَّارُ عَنْ مَحَلَّتِهِمْ وَأَخْلَوْهَا إِِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى فَأَرَادُوا نَقْل الْكَنِيسَةِ إِِلَى تِلْكَ الْمَحَلَّةِ، وَإِِِعْطَاءَ الْقَدِيمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا نَقَل الإِِِْمَامُ النَّصَارَى الْمُعَاهَدِينَ مِنْ مَكَانِهِمْ إِِلَى مَكَانٍ آخَرَ يُبَاحُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بُنْيَانُ بِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لإِِِِقَامَةِ شَرْعِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا (2) .
اعْتِقَادُ الْكَنِيسَةِ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتِقَادُ زِيَارَتَهَا قُرْبَةً
19 - نَصَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَنَائِسَ بُيُوتُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ يُعْبَدُ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَهُوَ كَافِرٌ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ اعْتِقَادَ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى فَتْحِ الْكَنَائِسِ وَإِِِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً أَوْ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 704.
(2) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 384.(38/154)
مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ زِيَارَةَ أَهْل الذِّمَّةِ كَنَائِسَهُمْ قُرْبَةً إِِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ (1) .
الصَّلاَةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ
20 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ إِِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا، أَمَّا إِِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلاَ كَرَاهَةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ مَعَ الصُّوَرِ (2) ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَنِيسَةِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَلاَ اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 105، دُخُولٌ ف 12)
النُّزُول فِي الْكَنَائِسِ
21 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِِِْمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَنْزِل الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ، كَمَا صَالَحَ عُمَرُ أَهْل الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 281.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 254، وحاشية الدسوقي 1 / 189، والمدونة 1 / 90، 91، ومغني المحتاج 1 / 203، وكشاف القناع 1 / 292، ونيل الأوطار 2 / 143 ط. دار الجيل.
(3) بدائع الصنائع 4 / 176.(38/155)
صُلْحِهِ: " وَلاَ نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيل، وَلاَ نُؤْوِيَ فِيهَا وَلاَ فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا (1) ".
دُخُول الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُول الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ عَلَى أَقْوَالٍ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ دُخُول الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الشَّيَاطِينِ، لاَ مِنْ حَيْثُ إِِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الدُّخُول (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ دُخُول بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَأْيٍ آخَرَ: إِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُهَا إِِلاَّ بِإِِِذْنِهِمْ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دُخُولٌ ف 12) .
الإِِِْذْنُ فِي دُخُول الْكَنِيسَةِ وَالإِِِْعَانَةُ عَلَيْهِ
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ
__________
(1) المغني 8 / 524، مغني المحتاج 4 / 251.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 248.
(3) جواهر الإكليل 1 / 383، وحاشية الجمل 3 / 572، والقليوبي 4 / 235، وكشاف القناع 1 / 293.
(4) حاشية الجمل 3 / 572، والقليوبي 4 / 235.(38/155)
مَنْعَ زَوْجَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ دُخُول الْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ لاَ يُعِينَهَا عَلَى أَسْبَابِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ وَلاَ يَأْذَنَ لَهَا فِيهِ.
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ إِِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فَمَنْعُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْلَى (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ إِِلاَّ فِي الْفَرْضِ (2) .
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ النَّصْرَانِيَّةُ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِِنْ سَأَلَتِ الْخُرُوجَ إِِلَى أَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ لاَ يَأْذَنُ لَهَا فِي ذَلِكَ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَمْنَعُ مُكَاتَبَهُ النَّصْرَانِيَّ مِنْ إِِتْيَانِ الْكَنِيسَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ دِينُهُمْ، إِِذْ لاَ تَحْجِيرَ لَهُ عَلَيْهِ (4) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَل ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا عَلَى طَرِيقِ الْبِيعَةِ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَأَيْضًا:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 189، وروضة الطالبين 7 / 137، ومطالب أولي النهى 5 / 264.
(2) مواهب الجليل 4 / 454.
(3) أحكام أهل الذمة 2 / 438.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 306.(38/156)
مُسْلِمٌ لَهُ أُمٌّ ذِمِّيَّةٌ أَوْ أَبٌ ذِمِّيٌّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُودَهُ إِِلَى الْبِيعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقُودَهُ مِنَ الْبِيعَةِ إِِلَى الْمَنْزِل (1) .
مُلاَعَنَةُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَعَابِدِ
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الذِّمِّيَّةِ فِي كَنِيسَتِهَا، وَالْيَهُودِيَّةِ فِي بِيعَتِهَا، وَالْمَجُوسِيَّةِ فِي بَيْتِ النَّارِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاسْتِحْبَابِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ تُعَظِّمُ، وَإِِِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كِتَابِيَّيْنِ لاَعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ يُعَظِّمَانِ (3) .
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ (4) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الإِِِْسْلاَمَ فِي اللِّعَانِ (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 250.
(2) كفاية الطالب 2 / 88، وجواهر الإكليل 1 / 383، مواهب الجليل 4 / 137.
(3) الأم 5 / 288، ومغني المحتاج 3 / 376، وروضة الطالبين 8 / 354، والمغني 7 / 435، والإنصاف 9 / 240.
(4) المغني 7 / 435.
(5) بدائع الصنائع 3 / 241.(38/156)
وُقُوعُ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَى الْمَعَابِدِ
25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِِنْ حَلَفَ شَخْصٌ لاَ يَدْخُل بَيْتًا فَدَخَل كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً لاَ يَحْنَثُ (1) ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، لِعَدَمِ إِِطْلاَقِ اسْمِ الْبَيْتِ عُرْفًا لأَِنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَأُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْكَنِيسَةِ (3) .
بَيْعُ عَرْصَةِ كَنِيسَةٍ
26 - قَال ابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ بَاعَ أُسْقُفُ الْكَنِيسَةِ عَرْصَةً مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا جَازَ ذَلِكَ إِِنْ كَانَ الْبَلَدُ صُلْحًا، وَلَمْ يَجُزْ إِِنْ كَانَ الْبَلَدُ عَنْوَةً، لأَِنَّهَا وَقْفٌ بِالْفَتْحِ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ، لأَِنَّ جَمِيعَهَا فَيْءٌ لِلَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: الْكَنَائِسِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا أَرْضُ الصُّلْحِ فَاخْتَلَفَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَرْضِ الْكَنِيسَةِ تَكُونُ عَرْصَةَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا فَيَبِيعُ ذَلِكَ أُسْقُفُ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَةِ هَل لِلرَّجُل أَنْ يَتَعَمَّدَ الشِّرَاءَ،
__________
(1) الاختيار 4 / 56، وروضة الطالبين 11 / 30، وحاشية الجمل 5 / 305.
(2) المدونة 2 / 133.
(3) الاختيار 4 / 56، وروضة الطالبين 11 / 30، وحاشية الجمل 5 / 305.(38/157)
فَأَجَازَ شِرَاءَ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ عِيسَى، وَمَنَعَهُ فِي سَمَاعِ أَصْبُغَ (1) .
بَيْعُ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً
27 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْ بَيْعِ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنِ اشْتَرَوْا دُورًا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا دَارًا مِنْهَا كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي ذَلِكَ لِصَلَوَاتِهِمْ مُنِعُوا عَنْ ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَيْ يَحْرُمُ بَيْعُ أَرْضٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ عَلَى إِِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ (3) .
رَوَى الْخَلاَّل عَنِ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِل عَنْ رَجُلٍ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ وَفِيهَا مَحَارِيبُ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَال: نَصْرَانِيٌّ؟ ! ! لاَ تُبَاعُ. يَضْرِبُ فِيهَا النَّاقُوسَ وَيَنْصِبُ فِيهَا الصُّلْبَانَ؟ وَقَال: لاَ تُبَاعُ مِنَ الْكَافِرِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَبِيعُ دَارَهُ وَقَدْ جَاءَ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ
__________
(1) التاج والإكليل على هامش الحطاب 3 / 384، وحاشية الدسوقي 2 / 204.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 252.
(3) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 5 / 424، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 7.(38/157)
وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ، تَرَى أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ، قَال: لاَ أَرَى لَهُ ذَلِكَ، قَال وَلاَ أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ فِيهَا بِاللَّهِ تَعَالَى (1) .
اسْتِئْجَارُ أَهْل الذِّمَّةِ دَارًا لاِتِّخَاذِهَا كَنِيسَةً
28 - إِِذَا اشْتَرَى أَوِ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا عَلَى أَنَّهُ سَيَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الإِِِْجَارَةَ فَاسِدَةٌ، أَمَّا إِِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى ثُمَّ اتَّخَذَهَا مَعْبَدًا فَالإِِِْجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مَنْعُهُ حِسْبَةً (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (إِِجَارَةٌ ف 98) .
جَعْل الذِّمِّيٍّ بَيْتَهُ كَنِيسَةً فِي حَيَاتِهِ
29 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل ذِمِّيٌّ دَارَهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي صِحَّتِهِ، فَمَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الإِِِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّخْرِيجِ: فَعِنْدَهُ لأَِنَّهُ كَوَقْفٍ لَمْ يُسَجَّل، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُورَّثُ كَالْوَقْفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِِذَا سُجِّل لَزِمَ كَالْوَقْفِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ (3) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 21 / 284، 287.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 252، 5 / 346، وبدائع الصنائع 4 / 176، والمدونة 4 / 423، 424، والحطاب 3 / 384، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 5 / 424، وكشاف القناع 3 / 559، والمغني 5 / 552.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 445، وبدائع الصنائع 7 / 341.(38/158)
عَمَل الْمُسْلِمِ فِي الْكَنِيسَةِ
30 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَل لأَِهْل الذِّمَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ نَجَّارًا أَوْ بَنَّاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِل، وَلأَِنَّهُ إِِجَارَةٌ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ الْمُسْلِمُ إِِلاَّ أَنَّ يَعْتَذِرَ بِجَهَالَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَعْمَل فِي الْكَنِيسَةِ وَيَعْمُرَهَا لاَ بَأْسَ بِهِ لأَِنَّهُ لاَ مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَل (1) .
ضَرْبُ النَّاقُوسِ فِي الْمَعَابِدِ
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ إِِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِي مَعَابِدِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِِِخْفَائِهَا وَضَرْبِهَا فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمُ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لأَِنَّ إِِظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِِِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا لِمَا فِيهِ مِنْ إِِظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272، و5 / 251، والفتاوى الهندية 4 / 450، والحطاب 5 / 424، ومغني المحتاج 4 / 254، 255، 257، والأم 4 / 213، وأحكام أهل الذمة 1 / 277.(38/158)
قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل الإِِِْسْلاَمِ، وَإِِِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالأَْعْيَادُ وَالْحُدُودُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِِظْهَارِ صَلِيبِهِمْ، لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لاَ يُتَعَرَّضُ لَهُمْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: عَلَيْهِمْ إِِخْفَاءُ نَوَاقِيسِهِمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي الْكَنِيسَةِ، وَقِيل: لاَ يُمْنَعُونَ تَبَعًا لِكَنِيسَةٍ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي كَنِيسَةِ بَلَدٍ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ أَرْضَهُ لَنَا، فَإِِِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ فَلاَ مَنْعَ قَطْعًا، قَال: وَقَال إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَأَمَّا نَاقُوسُ الْمَجُوسِ فَلَسْتُ أَرَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِِِنَّمَا هُوَ مُحَوَّطٌ وَبُيُوتٌ يَجْمَعُ فِيهَا الْمَجُوسُ جِيَفَهُمْ، وَلَيْسَ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِِِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالشِّعَارِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَهْل الذِّمَّةِ الْكَفُّ عَنْ إِِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ (4) . وَأَجَازُوا الضَّرْبَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 113، وفتح القدير 4 / 378.
(2) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 384، والقوانين الفقهية / 162.
(3) روضة الطالبين 10 / 324.
(4) المغني 8 / 533.(38/159)
الْخَفِيفَ فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ (1) .
الْوَقْفُ عَلَى الْمَعَابِدِ
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَعَابِدِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى بِيعَةٍ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الذِّمِّيِّ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً عِنْدَنَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِِذَا لَمْ يَجْعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى بِيعَةٍ مَثَلاً فَإِِِذَا خَرِبَتْ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، كَانَ لِلْفُقَرَاءِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلاَفًا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَفِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعُبَّادِهَا أَوْ لِمَرَمَّتِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.
وَفَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: إِِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ قَال بِهِ عِيَاضٌ وَهُوَ: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 133.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 361.(38/159)
لاَزِمٍ، سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الْمَوْقُوفُ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ لاَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ الَّتِي لِلتَّعَبُّدِ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إِِنْشَاءُ الْكَنَائِسِ وَتَرْمِيمُهَا، مَنَعْنَا التَّرْمِيمَ أَوْ لَمْ نَمْنَعْهُ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى حُصْرِهَا، أَوِ الْوَقُودِ بِهَا أَوْ عَلَى ذِمِّيٍّ خَادِمٍ لِكَنِيسَةٍ لِلتَّعَبُّدِ.
وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كَنِيسَةٍ تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ وَبُيُوتِ نَارٍ، وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا كَقَنَادِيلِهَا وَفُرُشِهَا وَوَقُودِهَا وَسَدَنَتِهَا، لأَِنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ.
وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُهَا مِنْ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ بِهَا فَقَطْ، لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَى الْبُقْعَةِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ (3) .
الْوَصِيَّةُ لِبِنَاءِ الْمَعَابِدِ وَتَعْمِيرِهَا
33 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِبِنَاءِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 78، والشرح الصغير 4 / 116، 118.
(2) حاشية الجمل 3 / 576، 579، وأسنى المطالب 2 / 460، 461.
(3) كشاف القناع 4 / 246.(38/160)
الْكَنِيسَةِ أَوْ تَعْمِيرِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَإِِِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنِينَ أَيْ: مَعْلُومِينَ يُحْصَى عَدَدُهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ مِنَ الثُّلُثِ اتِّفَاقًا بَيْنَهُمْ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الاِسْتِخْلاَفِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِلذِّمِّيِّ وِلاَيَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُمْ جَعْلُهَا كَنِيسَةً وَيُجْعَل تَمْلِيكًا، وَلَهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا بِهِ مَا شَاءُوا.
وَأَمَّا إِِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّينَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُمْ يُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ، فَتَصِحُّ لأَِنَّ هَذَا قُرْبَةٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لاَ تَصِحُّ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِهَا.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِِذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي الْقُرَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَجُوزُ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ إِِحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الأَْمْصَارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ أَوْصَى نَصْرَانِيٌّ بِمَالِهِ لِكَنِيسَةٍ وَلاَ وَارِثَ لَهُ دُفِعَ الثُّلُثُ إِِلَى الأُْسْقُفِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِلْمُسْلِمِينَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 445، وتكملة فتح القدير والعناية على الهامش 8 / 485، 486، وبدائع الصنائع 7 / 341.
(2) مواهب الجليل 6 / 365.(38/160)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلاَ لِحُصْرِهَا، وَلاَ لِقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ، وَلاَ لِبَيْتِ نَارٍ وَلاَ لِبِيعَةِ وَلاَ صَوْمَعَةٍ وَلاَ لِدَيْرٍ وَلاَ لإِِِِصْلاَحِهَا وَشُغْلِهَا وَخِدْمَتِهَا، وَلاَ لِعَمَارَتِهَا وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ، لأَِنَّ ذَلِكَ إِِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْوَصِيَّةِ تَدَارُكُ مَا فَاتَ فِي حَال الْحَيَاةِ مِنَ الإِِِْحْسَانِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي جِهَةِ مَعْصِيَةٍ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا إِِذَا كَانَتِ الْكَنِيسَةُ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا، أَوْ جَعْل كِرَاءِهَا لِلنَّصَارَى أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي بُنْيَانِ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ إِِلاَّ أَنْ تُتَّخَذَ لِمُصَلَّى النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهَا عَلَى الشِّرْكِ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَعَدُّوا مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَعْصِيَةِ مَا إِِذَا أَوْصَى لِدُهْنِ سِرَاجِ الْكَنِيسَةِ، لَكِنْ قَيَّدَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْمَنْعَ بِمَا إِِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْكَنِيسَةِ، أَمَّا إِِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْمُقِيمِينَ أَوِ الْمُجَاوِرِينَ بِضَوْئِهَا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءِ لأَِهْل الذِّمَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية الجمل 4 / 43، 71، وروضة الطالبين 6 / 98، 315، والأم 4 / 213، وأسنى المطالب 3 / 30، وكشاف القناع 4 / 364، والمغني 6 / 105.
(2) روضة الطالبين 6 / 99.(38/161)
حُكْمُ الْمَعَابِدِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ
34 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَتَى انْتُقِضَ عَهْدُ أَهْل الذِّمَّةِ جَازَ أَخْذُ كَنَائِسِ الصُّلْحِ مِنْهُمْ فَضْلاً عَنْ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ، كَمَا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَإِِِنَّ نَاقِضَ الْعَهْدِ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْمُحَارَبِ الأَْصْلِيِّ، وَلِذَلِكَ لَوِ انْقَرَضَ أَهْل مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ دَخَل فِي عَهْدِهِمْ فَإِِِنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ عَقَارِهِمْ وَمَنْقُولِهِمْ مِنَ الْمَعَابِدِ وَغَيْرِهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ (1) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 684.(38/161)
مُعَادَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَادَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُسَاهَمَةُ، يُقَال: عَادَّهُمُ الشَّيْءَ: تَسَاهَمُوهُ فَسَاوَاهُمْ، وَهُمْ يَتَعَادُّونَ: إِِذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يُعَادُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ مَكَارِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَالْعَدَائِدُ: الْمَال الْمُقْتَسَمُ وَالْمِيرَاثُ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: الْعَدَائِدُ: الَّذِينَ يُعَادُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ.
وَفُلاَنٌ عَدِيدُ بَنِي فُلاَنٍ أَيْ يُعَدُّ فِيهِمْ، وَعَدَّهُ فَاعْتَدَّ أَيْ صَارَ مَعْدُودًا وَاعْتَدَّ بِهِ (1) .
وَالْمُعَادَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يُقَاسِمُ فِيهَا الْجَدُّ الإِِِْخْوَةَ فِي الْمِيرَاثِ، فَيُعَدُّ أَوْلاَدُ الأَْبَوَيْنِ أَوْلاَدَ الأَْبِ عَلَى الْجَدِّ لِيَنْقُصَ نَصِيبَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ أَوْلاَدِ الأَْبَوَيْنِ مَعَ أَوْلاَدِ الأَْبِ فِي الأُْخُوَّةِ، وَلأَِنَّ جِهَةَ الأُْمِّ فِي الشَّقِيقِ مَحْجُوبَةٌ بِالْجَدِّ فَيَدْخُل وَلَدُ الأَْبِ مَعَهُ فِي حِسَابِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْجَدِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ الإِِِْخْوَةَ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وَلاَ يُحْجَبُونَ بِهِ وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
__________
(1) لسان العرب مادة (عدد) .
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 113 - 115 ط. مصطفى البابي الحلبي.(38/162)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَبِهِ يُفْتَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ هَؤُلاَءِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَأْتِي الْمُعَادَّةُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَأْتِي عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، فَيَعُدُّ الإِِِْخْوَةُ لأَِبَوَيْنِ الإِِِْخْوَةَ لأَِبٍ عَلَى الْجَدِّ - إِِنِ اجْتَمَعُوا مَعَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ - فَإِِِذَا مَا أَخَذَ الْجَدُّ نَصِيبَهُ مَنَعَ الإِِِْخْوَةُ لأَِبَوَيْنِ الإِِِْخْوَةَ لأَِبٍ مَا قُسَمَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ لأَِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجْبٌ ف 5، إِِرْثٌ ف 30، 32) .
3 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ وَرَّثُوا الإِِِْخْوَةَ مَعَ الْجَدِّ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ. فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْسِمُ الْمَال بَيْنَ الْجَدِّ وَالإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَيَجْعَلُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَخٍ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ، فَإِِِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسَ وَجُعِل الْبَاقِي لِلإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ.
قَال الْكَلْوَذَانِيُّ: وَإِِِلَى قَوْل عَلِيٍّ فِي بَابِ الْجَدِّ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مُقْسِمٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ (1) .
وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِّ مَعَ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض لأبي الخطاب الكلوذاني ص 69 / 72.(38/162)
الإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لِلأَْبِ أَنَّهُ يُعْطِيهِ الأَْحَظَّ مِنْ شَيْئَيْنِ: إِِمَّا الْمُقَاسَمَةُ كَأَنَّهُ أَخٌ، وَإِِِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال (1) .
وَصَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِّ مَعَ الأَْخَوَاتِ كَصُنْعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَاسَمَ بِهِ الإِِِْخْوَةَ إِِلَى الثُّلُثِ، فَإِِِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَصْحَابُ فَرَائِضَ أَعْطَى أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ صَنَعَ صَنِيعَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إِِعْطَاءِ الْجَدِّ الأَْحَظَّ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَال (2) .
قَال الْكَلْوَذَانِيُّ: وَبِقَوْل زَيْدٍ فِي بَابِ الْجَدِّ أَخَذَ الزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَأَخَذَ بِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ فِي بَابِ الْجَدِّ شُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ وَعَلْقَمَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْكُوفَةِ (3) .
صُوَرُ مَسْأَلَةِ الْمُعَادَّةِ
4 - عَقَدَ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ فَصْلاً لِلْمُعَادَّةِ وَقَال: إِِنَّ وَلَدَ الأَْبِ يَقُومُونَ مَقَامَ وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ عِنْدَ عَدَمِهِمْ فِي الْفَرْضِ وَالْحَجْبِ وَالْمُقَاسَمَةِ، فَإِِِنِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَوَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ مَعَ الْجَدِّ فَلاَ يَخْلُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِِمَّا أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 218.
(2) المغني 6 / 217.
(3) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 72 - 73.(38/163)
يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَصَبَةً وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً، أَوْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ عَصَبَةً وَوَلَدُ الأَْبِ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، أَوْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً.
أَوْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
5 - أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ عَصَبَةً، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا، وَالْمُقَاسَمَةُ بَيْنَ الْجَدِّ وَوَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَلَى اخْتِلاَفِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَهُمْ جَمَاعَتَهُمْ مَا لَمْ تُنْقِصِ الْجَدَّ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ ثُلُثِ الْمَال أَوْ ثُلُثِ الْفَاضِل عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ، أَوْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَال مِنْ نَظَرِ الأَْحَظَّ لَهُ، ثُمَّ مَا جُعِل لِوَلَدِ الأَْبِ رَدُّوهُ عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
6 - أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَصَبَةً، وَوَلَدُ الأَْبِ إِِنَاثًا مُنْفَرِدَاتٍ، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ بِحَالٍ، وَيُقَاسِمُ الْجَدُّ وَلَدَ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اخْتِلاَفِ قَوْلَيْهِمَا.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَمِيعِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، فَمَا حَصَل لِوَلَدِ الأَْبِ يَرُدُّهُ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 92 - 93.(38/163)
عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
7 - أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ فُرُوضُهُنَّ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَوَلَدِ الأَْبِ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ.
وَفِي قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ بِحَالٍ، وَيُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ فُرُوضُهُنَّ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْجَدِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهُ السُّدُسُ، وَهَذَا إِِنَّمَا يُوجَدُ إِِذَا كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا لَمْ تُجَاوِزِ الْمُقَاسَمَةُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، فَمَا أَصَابَ وَلَدُ الأَْبِ رَدُّوا عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ تَكُونَ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهَا تَمَامَ النِّصْفِ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَإِِِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سَقَطُوا.
فَإِِِنْ جَاوَزَتِ الْمُقَاسَمَةُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ فُرِضَ لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ ذُو فَرْضٍ، فَإِِِنْ كَانَ فِيهَا مَنْ فَرْضُهُ النِّصْفُ فَمَا دُونَ، فُرِضَ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي.
وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْفُرُوضِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْمَال فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ وَجُعِل الْبَاقِي فِي هَذِهِ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 93.(38/164)
الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لِوَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أُخْتًا وَاحِدَةً وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْجَدِّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمَال، فَيَأْخُذُ حِينَئِذٍ النِّصْفَ اخْتِصَارًا مِنْ غَيْرِ مُقَاسَمَةٍ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الأَْبِ بِالتَّعْصِيبِ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ إِِنَاثًا (1) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
8 - أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ فُرُوضُهُنَّ، وَيُجْعَل الْبَاقِي لِلْجَدِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهُ السُّدُسُ.
وَفِي قَوْل زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَدِّ وَالأَْخَوَاتِ إِِلَى سِتَّةٍ فَمَا حَصَل لِوَلَدِ الأَْبِ رَدُّوهُ عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أُخْتًا وَاحِدَةً فَيَرُدُّونَ عَلَيْهَا تَمَامَ النِّصْفِ.
فَإِِِنْ جَاوَزَتِ السِّهَامُ سِتَّةً فَاجْعَل لِلْجَدِّ ثُلُثَ الْمَال أَوْ ثُلُثَ الْفَاضِل عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ إِِذَا كَانَتْ فُرُوضُهُمُ النِّصْفَ فَمَا دُونَهُ، فَإِِِنْ كَانَتِ الْفُرُوضُ أَكْثَرَ فَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ (2) .
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 94 - 95.
(2) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 100.(38/164)
مُعَارَضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَارَضَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَارَضَ، يُقَال: عَارَضَ فُلاَنًا: نَاقَضَهُ فِي كَلاَمِهِ وَقَاوَمَهُ، وَيُقَال: عَارَضْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قَابَلْتَهُ بِهِ.
وَلِلْمُعَارَضَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى (1) .
وَالْمُعَارَضَةُ اصْطِلاَحًا: إِِقَامَةُ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِ مَا أَقَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ الْخَصْمُ (2) .
وَفِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُنَاظَرَةُ
2 - الْمُنَاظَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّظِيرِ، أَوْ مِنَ النَّظَرِ بِالْبَصِيرَةِ.
وَاصْطِلاَحًا هِيَ: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِِظْهَارًا لِلصَّوَابِ (3) .
وَالْمُنَاظَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَارَضَةِ.
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه. والكليات 4 / 263.(38/165)
ب - الْمُنَاقَضَةُ:
3 - الْمُنَاقَضَةُ لُغَةً: إِِبْطَال أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالآْخَرِ.
وَاصْطِلاَحًا هِيَ: مَنْعُ مُقَدِّمَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيل، إِِمَّا قَبْل تَمَامِهِ وَإِِِمَّا بَعْدَهُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُل مُنَاقَضٍ مُعَارَضٌ وَلاَ عَكْسَ (2) .
الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
4 - الْمُعَارَضَةُ مِنَ الاِعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ أَقْوَاهَا وَأَهَمُّهَا (3) .
وَهِيَ إِِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الأَْصْل، أَوْ فِي الْفَرْعِ، أَوْ فِي الْوَصْفِ.
3 - وَصُورَةُ وُرُودِهَا فِي الأَْصْل: أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِل عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الأَْصْل. كَأَنْ يَقُول: إِِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِيمَا يُقْتَاتُ: الْكَيْل فَلاَ رِبَا فِيمَا لاَ يُكَال: كَالْبِطِّيخِ فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ: الدَّلِيل وَإِِِنْ دَل عَلَى مَا قُلْتَ فَعِنْدِي مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ فِي الأَْصْل وَصْفًا آخَرَ صَالِحًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَهُوَ: الطُّعْمُ وَهُوَ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُول مِثْل هَذِهِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والكليات 4 / 264.
(2) البحر المحيط 5 / 333.
(3) البحر المحيط 5 / 333، إرشاد الفحول 232.(38/165)
الْمُعَارَضَةِ: فَقِيل: لاَ يُقْبَل بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيل بِعِلَّتَيْنِ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَلأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ سُؤَالاً وَلاَ جَوَابًا، لأَِنَّ لِلْمُسْتَدِل: أَنْ يَقُول: لاَ تَنَافِي بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ بَل أَقُول بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيل: يُقْبَل، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيل بِعِلَّتَيْنِ.
أَوْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِل عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الأَْصْل، وَيَذْكُرَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى فِيهِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ. كَأَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: يَصِحُّ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ قَبْل الزَّوَال لأَِنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال كَصَوْمِ النَّفْل، فَيَذْكُرُ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى غَيْرَ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَهَا الْمُسْتَدِل فِي حُكْمِ الأَْصْل، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ كَأَنْ يَقُول: إِِنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الأَْصْل - وَهِيَ صِحَّةُ صَوْمِ النَّفْل بِنِيَّةِ قَبْل الزَّوَال - لَيْسَتْ بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ، بَل الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النَّفْل مِنْ عَمَل السُّهُولَةِ وَالْخَفَّةِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ فِيهِ، بِخِلاَفِ الْفَرْضِ (1) .
6 - أَمَّا كَوْنُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ: فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، أَوْ ضِدَّهُ بِنَصٍّ أَوْ إِِجْمَاعٍ، أَوْ بِوُجُودِ
__________
(1) البحر المحيط 5 / 334.(38/166)
مَانِعٍ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَيَقُول فِي اعْتِرَاضِهِ: إِِنَّ مَا ذَكَرْتَ فِي الْوَصْفِ وَإِِِنِ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَتُوقِفُ دَلِيلَكَ.
وَمِثَال النَّقِيضِ أَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: إِِذَا بَاعَ جَارِيَةً إِِلاَّ حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إِِلاَّ صَاعًا، فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ لاَ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إِِلاَّ يَدَهَا.
وَمِثَال الضِّدِّ أَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: الْوِتْرُ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلاَةِ، بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ: فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَل فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلاَةِ.
فَإِِِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِنَ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلاَتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِِذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّل عِلَّةً فِي إِِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّل، فَتَتَعَارَضُ الْعِلَّتَانِ فَتَمْتَنِعَانِ مِنَ الْعَمَل إِِلاَّ بِتَرْجِيحِ إِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى (1) .
__________
(1) البحر المحيط 5 / 339.(38/166)
7 - أَمَّا صُورَةُ وُرُودِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى الْوَصْفِ فَهِيَ: أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ عِلَّةً، كَأَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل فِي الْكَلْبِ: الْكَلْبُ حَيَوَانٌ يُغْسَل مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلاَ يَقْبَل جِلْدُهُ الدَّبْغَ، مُعَلِّلاً بِكَوْنِهِ يُغْسَل سَبْعًا مِنْ وُلُوغِهِ، فَيَمْنَعُ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْغَسْل سَبْعًا عِلَّةً لِعَدَمِ طَهَارَتِهِ بِالدَّبْغِ، فَيَكُونُ جَوَابُهُ بِإِِِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 231.(38/167)
مَعَازِفُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعَازِفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَلاَهِي، وَاحِدُهَا مِعْزَفٌ وَمِعْزَفَةٌ، وَالْمَعَازِفُ كَذَلِكَ: الْمَلاَعِبُ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا، فَإِِِذَا أُفْرِدَ الْمِعْزَفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْل الْيَمَنِ، وَغَيْرُهُمْ يُجْعَل الْعُودُ مِعْزَفًا، وَالْمِعْزَفُ آلَةُ الطَّرَبِ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّهْوُ:
2 - اللَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: مَا لَعِبْتَ بِهِ وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَنَقَل الْفَيُّومِيُّ عَنِ الطُّرْطُوشِيِّ قَوْلَهُ: أَصْل اللَّهْوِ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ بِمَا لاَ تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.
وَأَلْهَاهُ اللَّعِبُ عَنْ كَذَا: شَغَلَهُ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.(38/167)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ الإِِِْنْسَانُ فَيُلْهِيهِ ثُمَّ يَنْقَضِي، وَفِي الْمَدَارِكِ: اللَّهْوُ كُل بَاطِلٍ أَلْهَى عَنِ الْخَيْرِ وَعَمَّا يُعْنَى (1) وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَعَازِفَ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً أَوْ أَدَاةً لِلَّهْوِ.
ب - الْمُوسِيقَى:
3 - الْمُوسِيقَى لَفْظٌ يُونَانِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى فُنُونِ الْعَزْفِ عَلَى آلاَتِ الطَّرَبِ.
وَعِلْمُ الْمُوسِيقَى يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أُصُول النَّغَمِ مِنْ حَيْثُ تَأْتَلِفُ أَوْ تَتَنَافَرُ وَأَحْوَال الأَْزْمِنَةِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَهَا لِيُعْلَمَ كَيْفَ يُؤَلَّفُ اللَّحْنُ.
وَالْمُوسِيقِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِِلَى الْمُوسِيقَى، وَالْمُوسِيقَارُ: مَنْ حِرْفَتُهُ الْمُوسِيقَى.
وَالْمُوسِيقَى فِي الاِصْطِلاَحِ: عِلْمٌ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَال النَّغَمِ وَالإِِِْيقَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ وَإِِِيجَادِ الآْلاَتِ (2) .
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْمَعَازِفَ تُسْتَعْمَل فِي الْمُوسِيقَى.
ج - الْغِنَاءُ:
4 - الْغِنَاءُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ مِثْل كِتَابٍ فِي اللُّغَةِ: الصَّوْتُ، وَقِيَاسُهُ ضَمُّ الْغَيْنِ: إِِذَا صُوِّتَ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَالتَّرَنُّمُ بِالْكَلاَمِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ، يَكُونُ مَصْحُوبًا بِالْمُوسِيقَى - أَيْ آلاَتِ الطَّرَبِ
__________
(1) التعريفات، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) المعجم الوسيط، ورد المحتار 1 / 32.(38/168)
- وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الْغِنَاءُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الرِّجْزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ (2) .
ر: مُصْطَلَحُ (غِنَاءٌ ف 1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْمَعَازِفُ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَذَاتِ الأَْوْتَارِ وَالنَّايَاتِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ، نَحْوُهَا فِي الْجُمْلَةِ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَل بِهَا الْبَلاَءُ وَعَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا: وَاتَّخَذَتِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفَ (4) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكِنَّارَاتِ يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) أسنى المطالب 1 / 27، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 8، 10، 12، 15، والمغني 9 / 173.
(4) حديث: " إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة. . . . ". أخرجه الترمذي (4 / 494) ثم ذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(5) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . . . . ". أخرجه أحمد (5 / 256) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 69) وقال: فيه علي بن يزيد وهو ضعيف.(38/168)
وَمِنَ الْمَعَازِفِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَالدُّفِّ الْمُصَنَّجِ لِلرِّجَال عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُبَاحًا كَطُبُول غَيْرِ اللَّهْوِ مِثْل طُبُول الْغَزْوِ أَوِ الْقَافِلَةِ. عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ مَنْدُوبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ لإِِِِعْلاَنِهِ. عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي غَيْرِ النِّكَاحِ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ (3) .
عِلَّةُ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمَعَازِفِ:
6 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ لَمْ يَحْرُمْ لَعَيْنِهِ وَإِِِنَّمَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى:
فَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: آلَةُ اللَّهْوِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لَعَيْنِهَا بَل لِقَصْدِ اللَّهْوِ مِنْهَا، إِِمَّا مِنْ سَامِعِهَا أَوْ مِنَ الْمُشْتَغِل بِهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّ ضَرْبَ تِلْكَ الآْلَةِ حَل تَارَةً وَحَرُمَ أُخْرَى بِاخْتِلاَفِ النِّيَّةِ؟
وَالأُْمُورُ بِمَقَاصِدِهَا.
__________
(1) رد المحتار 5 / 135، والمغني 9 / 174.
(2) رد المحتار 5 / 34، ومواهب الجليل 4 / 7، ونهاية المحتاج 8 / 282.
(3) رد المحتار 2 / 261، وحاشية القليوبي 4 / 320، ومطالب أولي النهى 5 / 252 - 253، وحاشية الدسوقي 2 / 339.(38/169)
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ - أَيِ الْحَرَامِ - ضَرْبُ النَّوْبَةِ لِلتَّفَاخُرِ، فَلَوْ لِلتَّنْبِيهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُلْتَقَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بُوقُ الْحَمَامِ يَجُوزُ كَضَرْبِ النَّوْبَةِ، ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْل الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لإِِِِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ (1) .
مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَعَازِفِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ آلاَتِ الْمَعَازِفِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أ - الدُّفُّ:
7 - الدُّفُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ (2) ، وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالطَّارِ أَوِ الْغِرْبَال وَهُوَ الْمُغَشَّى بِجِلْدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الأَْصَابِعِ عَلَيْهِ، وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الدُّفُّ هُوَ الْمُغَشَّى مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَوْتَارٌ وَلاَ جَرَسٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَوْتَارٌ لأَِنَّهُ لاَ يُبَاشِرُهَا بِالْقَرْعِ بِالأَْصَابِعِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدُّفِّ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223، وانظر إحياء علوم الدين للغزالي 2 / 272 - 273، 282.
(2) المصباح المنير.
(3) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 339، ومواهب الجليل 4 / 6، ومغني المحتاج 4 / 429.(38/169)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ دُفٌّ يُضْرَبُ بِهِ لِيُعْلَنَ النِّكَاحُ، وَعَنِ السَّرَّاجِيَّةِ: أَنَّ هَذَا إِِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَلاَجِل وَلَمْ يُضْرَبْ عَلَى هَيْئَةِ التَّطَرُّبِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ. احْتِرَازًا عَنِ الْمُصَنَّجِ، فَفِي النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا.
وَسُئِل أَبُو يُوسُفَ عَنِ الدُّفِّ: أَتَكْرَهُهُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ بِأَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ فِي غَيْرِ فِسْقٍ لِلصَّبِيِّ؟ قَال: لاَ أَكْرَهُهُ، وَلاَ بَأْسَ بِضَرْبِ الدُّفِّ يَوْمَ الْعِيدِ، كَمَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ الْغِرْبَال أَيِ الطَّبْل بِهِ فِي الْعُرْسِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ عَرَفَةَ: اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِِجَازَةِ الدُّفِّ وَهُوَ الْغِرْبَال فِي الْعُرْسِ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ (2) .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْعُرْسِ كَالْخِتَانِ وَالْوِلاَدَةِ فَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ ضَرْبِهِ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ جَوَازُهُ فِي كُل فَرَحٍ لِلْمُسْلِمِينَ، قَال الْحَطَّابُ: كَالْعِيدِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَكُل سُرُورٍ
__________
(1) رد المحتار 5 / 34، 135، 223، والفتاوى الهندية 5 / 352.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف ". أخرجه الترمذي (3 / 390) من حديث عائشة، وذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.(38/170)
حَادِثٍ، وَقَال الآْبِيُّ: وَلاَ يُنْكَرُ لَعِبُ الصِّبْيَانِ فِيهَا - أَيِ الأَْعْيَادِ - وَضَرْبُ الدُّفِّ، فَقَدْ وَرَدَ إِِقْرَارُهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إِِلَى جَوَازِ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ، إِِلاَّ لِلْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَيَجْرِي لَهُنَّ مَجْرَى الْعُرْسِ إِِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الدُّفِّ ذِي الصَّرَاصِرِ أَيِ الْجَلاَجِل، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِِلَى جَوَازِ الضَّرْبِ بِهِ فِي الْعُرْسِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِِلَى أَنَّ مَحَل الْجَوَازِ إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَرَاصِرُ أَوْ جَرَسٌ وَإِِِلاَّ حَرُمَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا فِي الْجَلاَجِل مِنْ زِيَادَةِ الإِِِْطْرَابِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ضَرْبِ الرِّجَال بِالدُّفِّ فَقَالُوا: لاَ يُكْرَهُ الطَّبْل بِهِ وَلَوْ كَانَ صَادِرًا مِنْ رَجُلٍ، خِلاَفًا لأَِصْبَغَ الْقَائِل: لاَ يَكُونُ الدُّفُّ إِِلاَّ لِلنِّسَاءِ، وَلاَ يَكُونُ عِنْدَ الرِّجَال (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يَجُوزُ ضَرْبُ دُفٍّ وَاسْتِمَاعُهُ لِعُرْسٍ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ جُوَيْرَاتٍ ضَرَبْنَ بِهِ حِينَ بَنَى عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَقَال لِمَنْ قَالَتْ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 339، ومواهب الجليل 4 / 6، 7، وجواهر الإكليل 1 / 103.(38/170)
غَدٍ: دَعِي هَذَا وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ (1) أَيْ مِنْ مَدْحِ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِبَدْرٍ، وَيَجُوزُ لِخِتَانٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا سَمِعَ صَوْتًا أَوْ دُفًّا بَعَثَ قَال: مَا هُوَ؟ فَإِِِذَا قَالُوا عُرْسٌ أَوْ خِتَانٌ، صَمَتَ (2) ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لإِِِِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلاَدَةِ وَعِيدٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَشِفَاءِ مَرِيضٍ وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ جَلاَجِل لإِِِِطْلاَقِ الْخَبَرِ، وَهَذَا فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَال لَهَا: إِِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِِِلاَّ فَلاَ (3) ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ الْمَنْعُ لأَِثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ السَّابِقِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ مَحَل الْخِلاَفِ ضَرْبَ الدُّفِّ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ قُدُومِ عَالِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " قوله صلى الله عليه وسلم لمن قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 202) من حديث الربيع بنت معوذ.
(2) أثر عمر " أنه كان إذا سمع صوتًا أو دفًا بعث. . . . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11 / 5) .
(3) حديث: " أن جارية سوداء قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني كنت نذرت. . . . . " أخرجه الترمذي (5 / 621) من حديث بريدة، وقال: حديث حسن.(38/171)
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِِنَّ الدُّفَّ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (1) .
أَمَّا مَتَى يُضْرَبُ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَقَدْ قَال الأَْذْرَعِيُّ: الْمَعْهُودُ عُرْفًا أَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الزِّفَافِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيل، وَعَبَّرَ الْبَغَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِوَقْتِ الْعَقْدِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِلْعَادَةِ، وَيُحْتَمَل ضَبْطُهُ بِأَيَّامِ الزِّفَافِ الَّتِي يُؤْثَرُ بِهَا الْعُرْسُ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ الْعُرْفُ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ يُفْعَل مِنْ حِينِ الأَْخْذِ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ.
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَلِيمِيِّ - وَلَمْ يُخَالِفْهُ - أَنَّا إِِذْ أَبَحْنَا الدُّفَّ فَإِِِنَّمَا نُبِيحُهُ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل مِنْ أَعْمَالِهِنَّ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ (2) ، وَنَازَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالأَْصْل اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالإِِِْنَاثِ فِي الأَْحْكَامِ إِِلاَّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالْفُرْقَةِ وَلَمْ يَرِدْ هُنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ حَتَّى يُقَال يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 282، ومغني المحتاج 4 / 429، والقليوبي 4 / 320.
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 332) من حديث ابن عباس.(38/171)
وَنَقَل الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ قَوْلَهُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَل ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ وَالأَْزْمَانِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: نَعَمْ لإِِِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْبُلْدَانِ الَّتِي لاَ يَتَنَاكَرُهُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي فَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَبِغَيْرِ زَمَانِنَا، قَال: فَيُكْرَهُ فِيهِ لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ إِِلَى السَّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ.
وَقَال الْهَيْتَمِيُّ: ظَاهِرُ إِِطْلاَقِهِمْ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي جَوَازِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ بَيْنَ هَيْئَةٍ وَهَيْئَةٍ، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ فَقَال: إِِنَّمَا يُبَاحُ الدُّفُّ الَّذِي تَضْرِبُ بِهِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ زَفَنٍ - أَيْ رَقْصٍ - فَأَمَّا الَّذِي يُزْفَنُ بِهِ وَيُنْقَرُ - أَيْ بِرُءُوسِ الأَْنَامِل وَنَحْوِهَا - عَلَى نَوْعٍ مِنَ الأَْنْغَامِ فَلاَ يَحِل الضَّرْبُ بِهِ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِِِْطْرَابِ مِنْ طَبْل اللَّهْوِ الَّذِي جَزَمَ الْعِرَاقِيُّونَ بِتَحْرِيمِهِ، وَتَابَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِِِنَّهُ إِِنَّمَا يَتَعَاطَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْل الْفُسُوقِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ إِِعْلاَنُ النِّكَاحِ وَالضَّرْبُ فِيهِ بِالدُّفِّ، قَال أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُظْهَرَ النِّكَاحُ وَيُضْرَبَ فِيهِ بِالدُّفِّ حَتَّى يَشْتَهِرَ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 282، ومغني المحتاج 4 / 429، وحاشية القليوبي 4 / 320، وروضة الطالبين 11 / 228، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 76، 83، 85.(38/172)
وَيُعْرَفَ وَقَال: يُسْتَحَبُّ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي الإِِِْمْلاَكِ، فَقِيل لَهُ: مَا الصَّوْتُ؟ قَال: يَتَكَلَّمُ وَيَتَحَدَّثُ وَيَظْهَرُ، وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَصْل مَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ (1) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً كَانَتْ فِي حِجْرِهَا رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ أَهْدَاهَا إِِلَى زَوْجِهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْنَا قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: سَلَّمْنَا وَدَعَوْنَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ انْصَرَفْنَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَل بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ (2) .
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ ضَرْبٌ بِدُفِّ مُبَاحٍ فِي خِتَانٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَوِلاَدَةٍ كَنِكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ السُّرُورِ، وَالدُّفُّ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لاَ حِلَقَ فِيهِ وَلاَ صُنُوجٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَرْبِ الرِّجَال الدُّفَّ، قَال
__________
(1) حديث: " فصل ما بين الحلال والحرام. . . ". أخرجه النسائي (6 / 127) والترمذي (3 / 389) واللفظ للنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.
(2) حديث: " عائشة أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار. . . ". أخرج أوله البخاري (فتح الباري 9 / 225) ، وأخرجه إلى قولها " ثم انصرفنا " أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب النكاح كما في فتح الباري (9 / 225) وأخرج باقيه الطبراني في الأوسط كما في فتح الباري (9 / 226) .(38/172)
الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ - أَيْ نَدْبُ إِِعْلاَنِ النِّكَاحِ وَضَرْبٌ عَلَيْهِ بِدُفِّ مُبَاحٍ - سَوَاءٌ كَانَ الضَّارِبُ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَكَلاَمِ الأَْصْحَابِ، وَقَال الْمُوَفَّقُ: ضَرْبُ الدُّفِّ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ، وَفِي الرِّعَايَةِ: يُكْرَهُ لِلرِّجَال مُطْلَقًا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ لأَِنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ فَنَظَرَ فَإِِِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ وَإِِِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا عَمَدَ بِالدِّرَّةِ (1) .
ب - الْكُوبَةُ:
8 - الْكُوبَةُ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَرَفَاهَا مَسْدُودَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلاَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اتِّسَاعُهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْسَعَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ وَالاِسْتِمَاعُ إِِلَيْهَا لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ
__________
(1) المغني 6 / 537، 538، 7 / 10، 9 / 174، وشرح منتهى الإرادات 9213، ومطالب أولي النهى 5 / 252، 253.(38/173)
وَالْكُوبَةَ (1) ، وَلأَِنَّ فِي ضَرْبِهَا تَشَبُّهًا بِالْمُخَنَّثِينَ إِِذْ لاَ يَعْتَادُهَا غَيْرُهُمْ، وَنَقَل أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ - كَمَا حَكَى الْهَيْتَمِيُّ - الإِِِْجْمَاعَ عَلَى حُرْمَتِهَا (2) .
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كُرِهَ الطَّبْل وَهُوَ الْمُنْكَرُ وَهُوَ الْكُوبَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
ج - الْكَبَرُ وَالْمِزْهَرُ
9 - الْكَبَرُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى وَزْنِ جَبَلٍ، هُوَ الطَّبْل الْكَبِيرُ.
وَالْمِزْهَرُ: هُوَ فِي اللُّغَةِ الْعُودُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الدُّفُّ الْمُرَبَّعُ الْمَغْلُوفُ.
قَال الْحَطَّابُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمِزْهَرَ أَلْهَى، وَكُلَّمَا كَانَ أَلْهَى كَانَ أَغْفَل عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَكَانَ مِنَ الْبَاطِل (4) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْكَبَرِ وَالْمِزْهَرِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُحْمَلاَنِ مَحْمَل الْغِرْبَال، وَيَدْخُلاَنِ مَدْخَلَهُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي الْعُرْسِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ.
__________
(1) حديث: " إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة ". أخرجه أحمد (1 / 289) من حديث ابن عباس، وصحح إسناده أحمد شاكر في التعليق عليه (4 / 218) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 282، وروضة الطالبين 11 / 228، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 79، 85.
(3) المغني 6 / 538.
(4) مواهب الجليل 4 / 7.(38/173)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُحْمَل وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَحْمَلَهُ وَلاَ يَدْخُل مَعَهُ وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْسٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْل أَصْبَغَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْمَل مَحْمَلَهُ وَيَدْخُل مَدْخَلَهُ فِي الْكَبَرِ وَحْدَهُ دُونَ الْمِزْهَرِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
د - الأَْنْوَاعُ الأُْخْرَى مِنَ الطُّبُول
10 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الأَْنْوَاعِ الأُْخْرَى مِنَ الطُّبُول تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا كَانَ الطَّبْل لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَطَبْل الْغُزَاةِ وَالْعُرْسِ وَالْقَافِلَةِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْل الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لإِِِِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى اسْتِثْنَاءِ طُبُول الْحَرْبِ مِنْ سَائِرِ الطُّبُول (3) .
وَقَال إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَالطُّبُول الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلاَعِبِ الصِّبْيَانِ إِِنْ لَمْ تُلْحَقْ بِالطُّبُول الْكِبَارِ فَهِيَ كَالدُّفِّ وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَال، قَال الْهَيْتَمِيُّ: وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا يُصْنَعُ فِي الأَْعْيَادِ مِنَ الطُّبُول الصِّغَارِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَيْئَةِ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6 - 7.
(2) ابن عابدين 5 / 34، 223.
(3) مواهب الجليل 4 / 7.(38/174)
الْكُوبَةِ وَغَيْرِهَا لاَ حُرْمَةَ فِيهَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِِطْرَابٌ غَالِبًا، وَمَا عَلَى صُورَةِ الْكُوبَةِ مِنْهَا انْتَفَى فِيهِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ لِلْكُوبَةِ، لأَِنَّ لِلْفُسَّاقِ فِيهَا كَيْفِيَّاتٌ فِي ضَرْبِهَا، وَغَيْرُهُ لاَ يُوجَدُ فِي تِلْكَ الَّتِي تُهَيِّئُ لِلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: ضَرْبُ الطُّبُول إِِنْ كَانَ طَبْل لَهْوٍ فَلاَ يَجُوزُ، وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنَ الطُّبُول طَبْل الْحَرْبِ وَالْعِيدِ، وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الطُّبُول وَخَصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْعِيدِ بِالرِّجَال خَاصَّةً، وَطَبْل الْحَجِيجِ مُبَاحٌ كَطَبْل الْحَرْبِ (1) .
وَكَرِهَ أَحَمْدُ الطَّبْل لِغَيْرِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَرْبِ وَقَال: لِتَنْهِيضِ طِبَاعِ الأَْوْلِيَاءِ وَكَشْفِ صُدُورِ الأَْعْدَاءِ (2) .
هـ - الْيَرَاعُ
11 - الْيَرَاعُ هُوَ الزَّمَّارَةُ الَّتِي يُقَال لَهَا الشَّبَّابَةُ، وَهِيَ مَا لَيْسَ لَهَا بُوقٌ وَمِنْهَا الْمَأْصُول الْمَشْهُورُ وَالسَّفَّارَةُ وَنَحْوُهَا، وَسُمِّيَ الْيَرَاعُ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ جَوْفِهِ، وَيُخَالِفُ الْمِزْمَارَ الْعِرَاقِيَّ فِي أَنَّهُ لَهُ بُوقٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُوجَدُ مَعَ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 228.
(2) الإنصاف 8 / 343.(38/174)
الأَْوْتَارِ (1) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَزَامِيرِ وَلاَ تَجُوزُ الإِِِْجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ الزَّمَّارَةِ وَالْبُوقِ، وَقِيل: يُكْرَهَانِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْيَرَاعِ، فَقَال الرَّافِعِيُّ: فِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ، صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ التَّحْرِيمَ، وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ وَهُوَ الأَْقْرَبُ، قَالُوا: لأَِنَّهُ يُنَشِّطُ عَلَى السَّيْرِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: الأَْصَحُّ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ مُطْرِبٌ بِانْفِرَادِهِ، بَل قِيل إِِنَّهُ آلَةٌ كَامِلَةٌ لِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ إِِلاَّ يَسِيرًا فَحُرِّمَ كَسَائِرِ الْمَزَامِيرِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ الْمَعَازِفِ تَحْرُمُ سِوَى الدُّفِّ، كَمِزْمَارٍ وَنَايٍ وَزَمَّارَةِ الرَّاعِي سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَتْ لِحُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ، وَسَأَل ابْنُ الْحَكَمِ الإِِِْمَامَ أَحْمَدَ عَنِ النَّفْخِ فِي الْقَصَبَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 429، ونهاية المحتاج 8 / 281، وروضة الطالبين 11 / 228، وحاشية القليوبي 4 / 320.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 352 - 4 / 449.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 339، والشرح الصغير 2 / 502.
(4) نهاية المحتاج 8 / 281، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96 - 97.(38/175)
كَالْمِزْمَارِ فَقَال: أَكْرَهُهُ (1) .
و الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّرْبِ عَلَى الْقَضِيبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْقَضِيبِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَلاَهِي مَعْصِيَةٌ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذُ بِهَا كُفْرٌ (2) وَالْمَقْصُودُ بِالْكُفْرِ كُفْرُ النِّعْمَةِ (3) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لأَِنَّهُ لاَ يُفْرَدُ عَنِ الْغِنَاءِ وَلاَ يُطْرِبُ وَحْدَهُ وَإِِِنَّمَا يَزِيدُ الْغِنَاءَ طَرَبًا، فَهُوَ تَابِعٌ لِلْغِنَاءِ الْمَكْرُوهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ حَرَامٌ وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُونَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ مَكْرُوهٌ إِِذَا انْضَمَّ إِِلَيْهِ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ، وَإِِِنْ خَلاَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 183، والإنصاف 8 / 342.
(2) حديث: " الاستماع إلى الملاهي. . " أورده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (2 / 269) وعزاه لأبي الشيخ الأصبهاني من حديث مكحول مرسلاً.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223.
(4) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 88.(38/175)
عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِآلَةِ وَلاَ يُطْرِبُ وَلاَ يُسْمَعُ مُنْفَرِدًا بِخِلاَفِ الْمَلاَهِي.
وَقَال فِي الإِِِْنْصَافِ: فِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَجْهَانِ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدُوسٍ بِالتَّحْرِيمِ (1) .
ز - الْعُودُ:
13 - مِنْ مَعَانِي الْعُودِ فِي اللُّغَةِ: كُل خَشَبَةٍ دَقِيقَةً كَانَتْ أَوْ غَلِيظَةً، وَضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَآلَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ وَتَرِيَّةٌ يُضْرَبُ عَلَيْهَا بِرِيشَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْوَادٌ وَعِيدَانٌ، وَالْعَوَّادُ: صَانِعُ الْعِيدَانِ وَالضَّارِبُ عَلَيْهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْعُودِ وَاسْتِمَاعِهِ لأَِنَّ الْعُودَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ (3) .
وَقَال الصَّاوِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِِلَى جَوَازِهِ، وَنُقِل سَمَاعَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) المغني 9 / 174، ومطالب أولي النهى 5 / 253.
(2) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي، وجامع العلوم في اصطلاحات الفنون 2 / 384، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 127 - 128.
(3) رد المحتار 5 / 222، والشرح الصغير 2 / 503، وحاشية القليوبي 4 / 320، وكشاف القناع 5 / 183، وكف الرعاع 1 / 113.(38/176)
جَعْفَرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَعَنْ جُمْلَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِِلَى تَحْرِيمِهِ، فَقِيل: كَبِيرَةٌ، وَقِيل: صَغِيرَةٌ، وَالأَْصَحُّ الثَّانِي، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَال: إِِذَا كَانَ فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ فَلاَ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا كَانَ يَخُصُّ الْعُودَ بِالإِِِْبَاحَةِ مِنْ بَيْنِ الأَْوْتَارِ (1) .
ح - الصَّفَّاقَتَانِ
14 - الصَّفَّاقَتَانِ دَائِرَتَانِ مِنْ صُفْرٍ - أَيْ نُحَاسٍ - تَضْرِبُ إِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، وَتُسَمَّيَانِ بِالصَّنْجِ أَيْضًا، وَهُمَا مِنْ آلاَتِ الْمَلاَهِي (2) .
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا وَاسْتِمَاعَهُمَا حَرَامٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ وَالْفَسَقَةِ، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَفِي الضَّرْبِ بِهِمَا تَشَبُّهٌ بِهِمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَلأَِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْهُمَا تَدْعُو إِِلَى فَسَادٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لاَ سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِهَا، وَالاِسْتِمَاعُ هُوَ الْمُحَرَّمُ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 503، وكف الرعاع 1 / 128.
(2) المصباح المنير، والصحاح، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96.(38/176)
أَمَّا السَّمَاعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ يَحْرُمُ (1) .
ط - بَاقِي الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةُ.
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَال الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ كَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ وَالْكَمَنْجَةِ وَالْقَانُونِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا هُوَ الضَّرْبُ بِهَا (2) .
تَعَلُّمُ الْمُوسِيقَى
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى تَحْرِيمِ تَعَلُّمِ الْمَعَازِفِ وَالْمُوسِيقَى وَالإِِِْجَارَةِ عَلَى تَعَلُّمِهَا (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَنَّارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ - وَالْمَعَازِفَ وَالأَْوْثَانَ. . . لاَ يَحِل بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ (4) .
__________
(1) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96 وما بعدها، ونهاية المحتاج 8 / 281، وحاشية القليوبي 4 / 320.
(2) نهاية المحتاج 8 / 281، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 9 / 173، وكشاف القناع 5 / 183، والشرح الصغير 2 / 502، 503، وحاشية ابن عابدين 5 / 223.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 30، 32، وجواهر الإكليل 2 / 189، ونهاية المحتاج 8 / 281، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 9 / 173، وكشاف القناع 5 / 183.
(4) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . " أخرجه أحمد (5 / 257) من حديث أبي أمامة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 69) وقال: رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف.(38/177)
اتِّخَاذُ الْمَعَازِفِ
17 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفِ) الْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالٍ لأَِنَّ اتِّخَاذَهَا يَجُرُّ إِِلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَقَالُوا: يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرْبَةِ كَطُنْبُورِ وَعُودٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
الاِكْتِسَابُ بِالْمَعَازِفِ
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الاِكْتِسَابَ بِالْمَعَازِفِ لاَ يَطِيبُ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْمُكْتَسِبُ وَذَلِكَ إِِذَا كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَال، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَال حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْمُنْتَقَى: امْرَأَةٌ نَائِحَةٌ أَوْ صَاحِبَةُ طَبْلٍ أَوْ زَمْرٍ اكْتَسَبَتْ مَالاً رَدَّتْهُ عَلَى أَرْبَابِهِ إِِنْ عَلِمُوا وَإِِِلاَّ تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِِِنْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ لَهَا (2) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُمْنَعُ - أَيِ الْمُحْتَسِبُ - مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ الآْخِذُ وَالْمُعْطِي (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 27، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 1 / 77.
(2) رد المحتار 5 / 34، 4 382، والفتاوى الهندية 5 / 349.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 258، ومغني المحتاج 4 / 192، وحاشية القليوبي 4 / 205.(38/177)
الْغِنَاءُ مَعَ الْمَعَازِفِ
19 - الْغِنَاءُ إِِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلاَتِ الْعَزْفِ أَوْ لاَ يَقْتَرِنَ بِهَا، فَإِِِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَيِّ آلَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ ف 16 - 22) .
وَإِِِنِ اقْتَرَنَ الْغِنَاءُ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلاَتِ الْعَزْفِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى حُرْمَتِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى حُرْمَةِ آلَةِ الْعَزْفِ وَبَقَاءِ الْغِنَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ (1) .
الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَعَازِفِ
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الاِسْتِمَاعَ إِِلَى الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ حَرَامٌ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِهَا حَرَامٌ، قَال مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُل مِنَ الْمَجْلِسِ الَّذِي يُضْرَبُ فِيهِ الْكَبَرُ وَالْمِزْمَارُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهْوِ (2) ، وَقَال أَصْبَغُ: دَعَا رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِِلَى وَلِيمَةٍ، فَلَمَّا جَاءَ سَمِعَ لَهْوًا فَلَمْ يَدْخُل فَقَال: مَا لَكَ؟ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) فتح القدير 6 / 36، ومواهب الجليل 6 / 153، وروضة الطالبين 11 / 228، ومغني المحتاج 4 / 428، وكشاف القناع 6 / 422، وحاشية الجمل 5 / 380 - 381، ونهاية المحتاج 8 / 281.
(2) رد المحتار 5 / 221، ومواهب الجليل 6 / 8، وروضة الطالبين 11 / 228، وكشاف القناع 5 / 183.(38/178)
يَقُول: مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَضِيَ عَمَل قَوْمٍ كَانَ شَرِيكًا لِمَنْ عَمِلَهُ (1) .
بَل إِِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْتَمِعُ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِقٌ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:
الْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَسَائِرُ الْمَلاَهِي حَرَامٌ، وَمُسْتَمِعُهَا فَاسِقٌ (2) .
شَهَادَةُ الْعَازِفِ وَالْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَازِفِ أَوِ الْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالصَّنْجِ وَغَيْرِهَا (3) .
التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ
22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ لِلضَّرُورَةِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: لَوْ أَخْبَرَ طَبِيبَانِ عَدْلاَنِ بِأَنَّ الْمَرِيضَ لاَ يَنْفَعُهُ لِمَرَضِهِ إِِلاَّ الْعُودُ عُمِل بِخَبَرِهِمَا، وَحَل لَهُ اسْتِمَاعُهُ، كَالتَّدَاوِي بِنَجِسِ فِيهِ الْخَمْرُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل قَوْل
__________
(1) حديث: " من كَثَّرَ سواد قوم فهو منهم. . " أورده ابن حجر في المطالب العالية (2 / 42) وعزاه إلى أبي يعلى، ونقل محققه عن البوصيري أنه حكم على سنده بالانقطاع.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 / 248.
(3) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 382، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 166 - 167، وشرح الخرشي 7 / 178، وحاشية الشهاب الرملي بهامش أسنى المطالب 4 / 242، وكشاف القناع 6 / 424.(38/178)
الْحَلِيمِيَّ: يُبَاحُ اسْتِمَاعُ آلَةِ اللَّهْوِ إِِذَا نَفَعَتْ مِنْ مَرَضٍ، أَيْ لِمَنْ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَتَعَيَّنَ الشِّفَاءُ فِي سَمَاعِهِ (1) .
وَقَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: آلَةُ اللَّهْوِ قَدْ يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا بِأَنْ أَخْبَرَ طَبِيبٌ عَدْلٌ مَرِيضًا بِأَنَّهُ لاَ يُزِيل مَرَضَهُ إِِلاَّ سَمَاعُ الآْلَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِِلاَّ الآْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ وَغَيْرِهِ كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمُحَرَّمِ (3) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (4) .
الْوَصِيَّةُ بِالطَّبْل
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ أَوْصَى بِطَبْلٍ، وَلَهُ طَبْل لَهْوٍ لاَ يَصْلُحُ لِمُبَاحٍ، وَطَبْلٌ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، كَطَبْل حَرْبٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّهْوِيل، أَوْ طَبْل حَجِيجٍ يُقْصَدُ بِهِ الإِِِْعْلاَمُ بِالنُّزُول وَالرَّحِيل، أَوْ غَيْرُهُمَا، - غَيْرَ الْكُوبَةِ الْمُحَرَّمَةِ - حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِتَصِحَّ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ قَصْدُهُ لِلثَّوَابِ، وَهُوَ فِيمَا تَصِحُّ بِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 281.
(2) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 3 / 385.
(3) كشاف القناع 2 / 76.
(4) حديث: " ولا تداووا بالحرام " أخرجه أبو داود (4 / 207) من حديث أبي الدرداء وقال المناوي في فيض القدير (2 / 216) : فيه إسماعيل بن عياش، وفيه مقال.(38/179)
الْوَصِيَّةُ، فَإِِِنْ صَلَحَ لِمُبَاحٍ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِِلاَّ طُبُولٌ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا لَغَتْ، وَلَوْ أَوْصَى بِطَبْل اللَّهْوِ لَغَتِ الْوَصِيَّةُ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ - إِِلاَّ إِِنْ صَلَحَ لِحَرْبٍ أَوْ حَجِيجٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مُبَاحَةٍ، لإِِِِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهَا، وَسَوَاءٌ صَلَحَ عَلَى هَيْئَتِهِ أَمْ بَعْدَ تَغَيُّرٍ يَبْقَى مَعَهُ اسْمُ الطَّبْل، فَإِِِنْ لَمْ يَصْلُحْ إِِلاَّ بِزَوَال اسْمِ الطَّبْل لَغَتِ الْوَصِيَّةُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِِِنْ وَصَّى بِدُفٍّ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ (2) ، وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمِزْمَارٍ وَلاَ طُنْبُورٍ وَلاَ عُودٍ مِنْ عِيدَانِ اللَّهْوِ لأَِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الأَْوْتَارُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأَِنَّهُ مُهَيَّأٌ لِفِعْل الْمَعْصِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ أَوْتَارٌ (3) .
بَيْعُ الْمَعَازِفِ
24 - لاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بَيْعُ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالطُّنْبُورِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 52، ومغني المحتاج 3 / 46، والمغني 6 / 152 - 153.
(2) حديث: " أعلنوا النكاح. . " سبق تخريجه ف 7.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 153.(38/179)
وَالصَّنْجِ وَالْمِزْمَارِ وَالرَّبَابِ وَالْعُودِ، (1) لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَفَّارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ - وَالْمَعَازِفَ. . .، لاَ يَحِل بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ لِلْمُغَنِّيَاتِ. (2)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ بَيْعُ آلاَتِ الْعَزْفِ الْمُحَرَّمَةِ إِِنْ عُدَّ رُضَاضُهَا - أَيْ مُكَسَّرُهَا - مَالاً، لأَِنَّ فِيهَا نَفْعًا مُتَوَقَّعًا، أَيْ مِنْ هَذَا الرُّضَاضِ الْمُتَقَوِّمِ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ نَفْعَ مِنْهُ فِي الْحَال (3) وَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعُ الْمَعَازِفِ لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ، لِصَلاَحِيَّتِهَا لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ، حَيْثُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِهَذَا الأَْمْرِ. (4)
أَمَّا الْمَعَازِفُ الْمُبَاحَةُ كَالنَّفِيرِ وَالطُّبُول غَيْرِ الدَّرَبُكَّةِ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا. (5)
إِِجَارَةُ الْمَعَازِفِ
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ اسْتِئْجَارَ آلَةِ اللَّهْوِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 134، والشرح الصغير 3 / 22، ومغني المحتاج 2 / 11، ونهاية المحتاج 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 155، والحسبة لابن الإخوة ص 89.
(2) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . ". تقدم تخريجه ف 5.
(3) مغني المحتاج 2 / 12، وحاشية الجمل 3 / 27.
(4) رد المحتار 5 / 134 - 135.
(5) حاشية الجمل 3 / 26.(38/180)
الْمُحَرَّمَةِ (الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ) لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ غَيْرُ مُبَاحَةٍ وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِِِْجَارَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ كِرَاؤُهَا فِي النِّكَاحِ وَالرَّاجِحُ الْحُرْمَةُ.
أَمَّا الْمَعَازِفُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا. (1)
إِِعَارَةُ الْمَعَازِفِ
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْتَعَارِ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا، فَلاَ يَجُوزُ إِِعَارَةُ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا كَالْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ. (2)
إِِبْطَال الْمَعَازِفِ
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفَ الْمُبَاحَةَ لاَ يَجُوزُ إِِبْطَالُهَا أَوْ كَسْرُهَا بَل يَحْرُمُ.
أَمَّا آلاَتُ الْعَزْفِ وَالْمَلاَهِي الْمُحَرَّمَةُ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 34، والفتاوى البزازية مع الفتاوى الهندية 5 / 41، والشرح الصغير 4 / 10 - 11، وحاشية الدسوقي 4 / 18، والمهذب 1 / 394، ومغني المحتاج 2 / 335، كشاف القناع 3 / 559.
(2) الشرح الصغير 3 / 572، ونهاية المحتاج 5 / 119، والمغني 5 / 225.(38/180)
الاِسْتِعْمَال فَلاَ حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا وَلاَ لِمَنْفَعَتِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ إِِبْطَالُهَا (1) ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُعِثْتُ بِهَدْمِ الْمِزْمَارِ وَالطَّبْل، (2) وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَرَنِي اللَّهُ بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ. (3)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ كَيْفِيَّةَ إِِبْطَال الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ فَقَالُوا: الأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ لإِِِِمْكَانِ إِِزَالَةِ الْهَيْئَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، نَعَمْ لِلإِِِْمَامِ ذَلِكَ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا، وَإِِِنَّمَا تُفْصَل لِتَعُودَ كَمَا قَبْل التَّأْلِيفِ لِزَوَال اسْمِهَا وَهَيْئَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ بِذَلِكَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي - مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَفْصِيل الْجَمِيعِ بَل بِقَدْرِ مَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِسْتِعْمَال، فَلاَ تَكْفِي إِِزَالَةُ الأَْوْتَارِ فَقَطْ لأَِنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: تُكْسَرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِِلَى حَدٍّ لاَ يُمْكِنُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مُحَرَّمَةٍ.
__________
(1) الدر المختار 5 / 135، وتكملة فتح القدير 7 / 405، وشرح المحلي والقليوبي 3 / 33، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع 1 / 12، والمغني والشرح الكبير 5 / 446، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 / 248.
(2) حديث: " بعثت بهدم المزمار والطبل ". رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 323 وأشار ابن حجر في التهذيب (6 / 51) إلى تضعيف روايته لهذا الحديث.
(3) حديث: " أمرني الله بمحق القينات والمعازف ". تقدم بمعناه في فقرة (5) .(38/181)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمَمْلُوكَةَ لِذِمِّيِّ لاَ تَبْطُل لأَِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِمِثْلِهَا، إِِلاَّ أَنْ يَسْمَعَهَا مَنْ لَيْسَ بِدَارِهِمْ أَيْ مَحَلَّتِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَإِِِنِ انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةِ مِنَ الْبَلَدِ، فَإِِِنِ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ أَيْ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ. (1)
ضَمَانُ الْمَعَازِفِ
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفَ) الْمُبَاحَةَ كَطَبْل الْغُزَاةِ وَالدُّفِّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ وَاسْتِمَاعُهُ فِي الْعُرْسِ يَحْرُمُ كَسْرُهَا، وَتُضْمَنُ إِِنْ كُسِرَتْ أَوْ أُتْلِفَتْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِِلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ يَجِبُ فِي إِِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لأَِنَّ مَنْفَعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمُحَرَّمُ لاَ يُقَابَل بِشَيْءِ، مَعَ وُجُوبِ إِِبْطَالِهَا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِِتْلاَفٌ ف 12 وَضَمَانٌ ف 140) .
سَرِقَةُ الْمَعَازِفِ
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 285، ونهاية المحتاج 5 / 166، 168، وحاشية القليوبي 3 / 33.
(2) رد المحتار 5 / 135، وتكملة فتح القدير 7 / 405، ونهاية المحتاج 5 / 166 - 167، ومغني المحتاج 2 / 285، والمغني والشرح الكبير 5 / 445 - 446.(38/181)
عَدَمِ إِِقَامَتِهِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ أَوْ غَيْرَهَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمَعَازِفِ (آلاَتِ اللَّهْوِ) لاَ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَاخْتَلَفَ تَفْصِيلُهُمْ وَتَعْلِيلُهُمْ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قَطْعَ فِي جَمِيعِ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ، لأَِنَّهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لاَ قِيمَةَ بِهَا بِدَلِيل أَنَّ مُتْلِفَهَا لاَ يَضْمَنُهَا، وَلأَِنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - وَإِِِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مُتْلِفِهَا فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ - لَكِنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّل الْكَسْرَ فِيهَا فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ حَدَّ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طَبْل الْغُزَاةِ، فَقِيل: يُقْطَعُ سَارِقُهُ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلَّهْوِ فَلَيْسَ آلَةَ لَهْوٍ، وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - عَدَمَ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ لأَِنَّهُ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَإِِِنْ كَانَ وَضْعُهُ لِغَيْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ، فَصَارَتْ صَلاَحِيَّتُهُ لِلَّهْوِ شُبْهَةً تَمَكَّنَتْ فِيهِ فَدَرَأَتِ الْقَطْعَ. (1)
__________
(1) فتح القدير وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 4 / 232، والدر المختار بهامش رد المحتار 3 / 198.(38/182)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ آلَةِ لَهْوٍ كَطُنْبُورٍ وَمِزْمَارٍ وَشَبَّابَةٍ وَإِِِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا ذُكِرَ مُفَصَّلاً نِصَابًا، لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِِجْمَاعًا فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ كَالْخَمْرِ، وَلاَ يُقْطَعُ أَيْضًا بِمَا عَلَى آلَةِ اللَّهْوِ مِنْ حُلِيٍّ وَلَوْ بَلَغَ نِصَابًا لأَِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا لاَ قَطْعَ فِيهِ وَتَابِعٌ لَهُ أَشْبَهَ الْخَشَبَ. (1)
وَالْقَائِلُونَ بِمُقَابِل الأَْصَحِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَّلُوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الشَّارِعَ سَلَّطَ عَلَى كَسْرِ مَا حَرُمَ مِنْ آلاَتِ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ وَغَيْرِهِمَا، وَالتَّوَصُّل إِِلَى إِِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ إِِلَيْهِ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِحَدِّ السَّرِقَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ الطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالْمَزَامِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ إِِلاَّ أَنْ تُسَاوِيَ بَعْدَ كَسْرِهَا - أَيْ إِِفْسَادِ صُورَتِهَا وَإِِِذْهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا - نِصَابًا، لأَِنَّ السَّارِقَ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ قَدْ سَرِقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 130 - 131.
(2) مغني المحتاج 4 / 160، وأسنى المطالب 4 / 139.(38/182)
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي الْكَسْرِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ، هَل يَكْفِي فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ تَقْدِيرُ كَسْرِهِ وَإِِِنْ لَمْ يُكْسَرْ بِالْفِعْل، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ كَسْرِهِ بِالْفِعْل وَلاَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِتَقْدِيرِ كَسْرِهِ؟ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ تَقْدِيرُ كَسْرِهِ إِِذْ قَدْ تُفْقَدُ عَيْنُهُ لَوْ كُسِرَ بِالْفِعْل، وَذَهَبَ الزُّرْقَانِيُّ إِِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي الْمَسْرُوقِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَازِفِ إِِلاَّ أَنْ يُسَاوِيَ بَعْدَ كَسْرِهِ بِالْفِعْل نِصَابًا. (1)
مُعَاشَرَةٌ
انْظُرْ: عِشْرَةٌ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 336، وشرح الزرقاني 8 / 97.(38/183)
مُعَاطَاةٌ
انْظُرْ: تَعَاطِي
مَعَاقِلٌ
انْظُرْ: عَاقِلَةٌ(38/183)
مُعَانَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَانَقَةُ لُغَةً: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعُنُقِ، وَمَعْنَاهَا: الضَّمُّ وَالاِلْتِزَامُ، يُقَال: عَانَقَهُ مُعَانَقَةً وَعِنَاقًا: أَدْنَى عُنُقَهُ مِنْ عُنُقِهِ وَضَمَّهُ إِِلَى صَدْرِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُصَافَحَةُ:
2 - الْمُصَافَحَةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الصَّفْحِ، يُقَال: صَافَحْتُهُ مُصَافَحَةً: أَفْضَيْتُ بِيَدِي إِِلَى يَدِهِ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ وَإِِِقْبَال الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ آدَابِ التَّلاَقِي.
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) كفاية الطالب الرباني 2 / 437 ط. دار المعرفة، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير.
(4) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 244.(38/184)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُعَانَقَةِ:
أ - مُعَانَقَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَانَقَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل إِِذَا كَانَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ، وَالْمَذْهَبُ كَرَاهَةُ الْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ. (1)
قَال الْخَادِمِي: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُعَانَقَةِ، وَأَحَادِيثُ فِي تَجْوِيزِهَا، وَوَفَّقَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ بَيْنَهُمَا فَقَال: الْمَكْرُوهُ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ، فَجَائِزٌ. (2)
وَكَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً لأَِنَّهَا مِنْ فِعْل الأَْعَاجِمِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهَا إِِلاَّ مَعَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (3) وَلَمْ يَجْرِ الْعَمَل بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، (4) قَال الْعَدَوِيُّ: لاَ يَخْفَى أَنَّ مُفَادَ النَّقْل عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْمُعَانَقَةِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 244.
(2) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 1 / 318، وانظر الفواكه الدواني 2 / 425.
(3) حديث: " معانقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر " أخرجه الحاكم (1 / 319) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) الفواكه الدواني 2 / 425.(38/184)
وَلَوْ مَعَ الأَْهْل وَنَحْوِهِمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُعَانَقَةَ مَكْرُوهَةٌ إِِلاَّ لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ تَبَاعُدِ لِقَاءٍ فَسُنَّةٌ لِلاِتِّبَاعِ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِِلَيْهِ مِنْ كَرَاهَةِ مُعَانَقَةِ الرَّجُلَيْنِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ الرَّجُل مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَفَيَلْتَزِمُهُ - أَيْ يَعْتَنِقُهُ - وَيُقَبِّلُهُ؟ قَال: لاَ، قَال: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَال: نَعَمْ، (3) وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مُعَانَقَةِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ (4) بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. (5)
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 437 ط. دار المعرفة، والمدخل لابن الحاج 2 / 295.
(2) مغني المحتاج 3 / 135.
(3) حديث: قال رجل: " يا رسول الله منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ . . . " رواه الترمذي: 5 / 70 - 71 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) الفتوحات الربانية 5 / 389 - 390.
(5) حديث: عائشة - رضي الله تعالى عنها -: " قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي. . . " رواه الترمذي (5 / 72) ، وقال: هذا حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري إلا من هذا الوجه.(38/185)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيل الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِِِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: ظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إِِبَاحَتِهِ لأَِمْرِ الدُّنْيَا. (1)
وَقَال إِِسْحَاقُ بْنُ إِِبْرَاهِيمَ: إِِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ احْتَجَّ فِي الْمُعَانَقَةِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَهُ. (2)
وَقَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُل يَلْقَى الرَّجُل يُعَانِقُهُ؟ قَال: نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (3) .
ب - مُعَانَقَةُ الأَْمْرَدِ
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تَحْرُمُ مُعَانَقَةُ الأَْمْرَدِ. (4)
ج - مُعَانَقَةُ ذِي عَاهَةٍ
5 - صَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ تُكْرَهُ مُعَانَقَةُ ذِي عَاهَةٍ كَبَرَصٍ وَجُذَامٍ. (5)
د - مُعَانَقَةُ الصَّائِمِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِِلَى كَرَاهَةِ مُعَانَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ إِِنْ لَمْ يَأْمَنِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 943، وكشاف القناع 2 / 156، والآداب الشرعية 2 / 270.
(2)) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق أبا ذر. " أخرجه أبو داود (5 / 389 - 390) وذكر المنذري في مختصر السنن (8 / 82) أن في إسناده جهالة.
(3) الآداب الشرعية 2 / 272، ومسائل الإمام أحمد برواية ابن هانئ 2 / 183.
(4) القليوبي 3 / 213.
(5) حاشية القليوبي 3 / 213.(38/185)
الْمُفْسِدَ، وَهُوَ الإِِِْنْزَال أَوِ الْجِمَاعُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ بِعَاقِبَةِ الْفِعْل.
وَأَمَّا إِِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُفْسِدَ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، (2) وَالْكَرَاهَةُ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فِي الأَْصَحِّ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنِ التَّتِمَّةِ وَجْهَيْنِ: التَّحْرِيمَ وَالتَّنْزِيهَ. (3)
هـ - أَثَرُ الْمُعَانَقَةِ فِي فَسَادِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَانَقَ الْمُحْرِمُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِِلاَّ إِِذَا أَنْزَل فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَلاَ تَفْسُدُ حَجَّتُهُ وَلاَ عُمْرَتُهُ. (4)
و أَثَرُ الْمُعَانَقَةِ فِي نَشْرِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُعَانَقَةَ عَنْ شَهْوَةٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 112 - 113 ومراقي الفلاح مع الطحطاوي ص 372.
(2) حديث: " من وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه " رواه البخاري (فتح الباري 1 / 126) ومسلم (3 / 1220) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.
(3) شرح المحلي مع حاشية عميرة 2 / 58 - 59.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 244.(38/186)
كَالْقُبْلَةِ فِي نَشْرِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ (1) فَمَنْ عَانَقَ أُمَّ امْرَأَتِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ يُظْهِرْ عَدَمَ الشَّهْوَةِ. (2)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَيْضِ: لَوْ قَامَ إِِلَيْهَا وَعَانَقَهَا مُنْتَشِرًا، أَوْ قَبَّلَهَا وَقَال: لَمْ يَكُنْ عَنْ شَهْوَةٍ لاَ يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَبَّل وَلَمْ تَنْتَشِرْ آلَتُهُ وَقَال: كَانَ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ يُصَدَّقُ، وَقِيل: لاَ يُصَدَّقُ لَوْ قَبَّلَهَا عَلَى الْفَمِ، وَبِهِ يُفْتَى، ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ التَّفْصِيل. (3)
مُعَاهِدٌ
انْظُرْ: عَهْدٌ.
مُعَاهَدَةٌ
انْظُرْ: هُدْنَةٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 274.
(2) الدر المختار 2 / 282.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 282.(38/186)
مُعَاوَضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَاوَضَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ شَيْءٍ مُقَابِل شَيْءٍ أَوْ إِِعْطَاؤُهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ
2 - الْمُعَاوَضَةُ مَشْرُوعَةٌ إِِذَا كَانَ عَقْدُهَا صَادِرًا عَمَّنْ يَمْلِكُ هَذَا التَّصَرُّفَ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِيَاضٌ ف 2) .
أَقْسَامُ الْمُعَاوَضَةِ
3 - تَنْقَسِمُ الْمُعَاوَضَةُ إِِلَى: مَحْضَةٍ وَغَيْرِ مَحْضَةٍ.
فَالْمَحْضَةُ مِنْهَا: هِيَ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا الْمَال مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَغَيْرُ الْمَحْضَةِ مَا كَانَ الْمَال فِيهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس بتصرف بسيط.
(2) مغني المحتاج 2 / 2، وأحكام القرآن للجصاص ص 294، وحاشية الدسوقي 3 / 2.(38/187)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِيَاضٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ
4 - يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَذَلِكَ بِمَا إِِذَا كَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ مَحْضَةً، وَوَقَعَتْ عَلَى عَيْنٍ، وَكَانَتْ لاَزِمَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَمْلِيكٌ قَهْرِيٌّ، وَلَيْسَتْ جَارِيَةً مَجْرَى الرُّخَصِ.
فَلاَ تَثْبُتُ فِي الْهِبَةِ وَلاَ الإِِِْبْرَاءِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مُعَاوَضَةٌ وَلاَ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، لأَِنَّهُ إِِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَيْنٍ فَهُوَ إِِبْرَاءٌ، وَإِِِنْ وَقَعَ فِي عَيْنٍ فَهُوَ هِبَةٌ، وَلاَ تَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصَالَةً وَلاَ يَفْسُدَانِ بِفَسَادِ الْمُقَابِل، وَلاَ تَثْبُتُ فِي الإِِِْجَارَةِ لأَِنَّهَا غَيْرُ وَاقِعَةٍ عَلَى عَيْنٍ، وَلاَ الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْكِتَابَةِ لأَِنَّ الأُْولَيَيْنِ جَائِزَتَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالأُْخْرَيَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ مَعْنَى لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيمَا هُوَ جَائِزٌ وَلَوْ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ. (1)
__________
(1) حاشية البجيرمي على المنهج 2 / 232، وحاشية قليوبي 2 / 190، وتحفة المحتاج 4 / 335 - 336.(38/187)
الرُّجُوعُ عَنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لإِِِِفْلاَسِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
5 - إِِذَا حُجِرَ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ قَبْل قَبْضِ الْعِوَضِ بِإِِِفْلاَسِ، فَلِلآْخَرِ الرُّجُوعُ بِالْقَوْل فَوْرًا بِشُرُوطٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِفْلاَسٌ ف 27 وَمَا بَعْدَهَا) .(38/188)
مُعَايَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَايَاةُ مَصْدَرُ عَايَا، يُقَال عَايَا فُلاَنٌ: أَتَى بِكَلاَمٍ أَوْ أَمْرٍ لاَ يُهْتَدَى لَهُ، وَعَايَا صَاحِبَهُ: أَلْقَى عَلَيْهِ كَلاَمًا لاَ يُهْتَدَى لِوَجْهِهِ. (1)
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمُعَايَاةَ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِِلَى إِِعْمَال الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَبَذْل الْجَهْدِ بُغْيَةَ الْوُصُول إِِلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ فِيهَا وَأَحْيَانًا يُطْلِقُونَ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِل إِِلْغَازًا فَيَقُولُونَ: يُلْغِزُ بِكَذَا ثُمَّ يَذْكُرُونَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُعَايَى بِهَا أَوْ يُلْغَزُ.
وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ الْمَسْأَلَةَ الأَْكْدَرِيَّةَ فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَى بِهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا الدُّسُوقِيُّ بِالإِِِْلْغَازِ.
وَأَغْلَبُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِِنَّمَا هُوَ فِي مَسَائِل الْمِيرَاثِ، وَإِِِنْ كَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ نُجَيْمٍ عَقَدَ بَابًا سَمَّاهُ فَنُّ الأَْلْغَازِ جَمَعَ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَسَائِل فِي أَغْلَبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ. (2)
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 410، 411، والأشباه لابن نجيم ص 394 وما بعدها، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 465 و1 / 58، 339، وحاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 196، وكشاف القناع 4 / 410، والاختيار 5 / 130.(38/188)
بَعْضُ أَمْثِلَةِ الْمُعَايَاةِ:
2 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً عِدَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمِنْ ذَلِكَ:
فِي الصَّلاَةِ:
أَيُّ صَلاَةٍ أَفْسَدَتْ خَمْسًا وَأَيُّ صَلاَةٍ صَحَّحَتْ خَمْسًا؟
وَجَوَابُهَا: رَجُلٌ تَرَكَ صَلاَةً وَصَلَّى بَعْدَهَا خَمْسًا ذَاكِرًا لِلْفَائِتَةِ، فَإِِِنْ قَضَى الْفَائِتَةَ فَسَدَتِ الْخَمْسُ، وَإِِِنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْل قَضَائِهَا صَحَّتِ الْخَمْسُ. (1)
فِي الصَّوْمِ:
أَيُّ رَجُلٍ أَفْطَرَ بِلاَ عُذْرٍ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟
الْجَوَابُ: مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ. (2)
فِي الزَّكَاةِ:
أَيُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاتُهُ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ الْحَوْل وَلَمْ يَهْلِكْ؟
الْجَوَابُ: الْمَوْهُوبُ إِِذَا رَجَعَ لِلْوَاهِبِ بَعْدَ الْحَوْل، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ أَيْضًا. (3)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 395.
(2) المرجع السابق ص 396.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 395.(38/189)
فِي النِّكَاحِ:
أَيُّ امْرَأَةٍ أَخَذَتْ ثَلاَثَةَ مُهُورٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أَزْوَاجٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟
وَالْجَوَابُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ طُلِقَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ فَلَهَا كَمَال الْمَهْرِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَطُلِقَتْ قَبْل الدُّخُول ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَمَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الأَْلْغَازِ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَالأَْيْمَانِ وَالْحُدُودِ وَالسِّيَرِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ. (1)
3 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُمْ:
قُل لِلْفَقِيهِ إِِمَامِ الْعَصْرِ قَدْ مُزِجَتْ
ثَلاَثَةٌ بِإِِِنَاءٍ وَاحِدٍ نَسَبُوا
لَهَا الطَّهَارَةَ حَيْثُ الْبَعْضُ قُدِّمَ أَوْ
إِِنْ قُدِّمَ الْبَعْضُ فَالتَّنْجِيسُ مَا السَّبَبُ؟
وَالْمَقْصُودُ بِالثَّلاَثَةِ: الْمَاءُ، السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ - أَوْ أَيَّ مَادَّةٍ أُخْرَى - النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ.
وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ لأَِنَّ الْمَاءَ إِِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ قَبْل إِِضَافَةِ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ أُضِيفَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ فَإِِِنَّهُ لاَ يَكُونُ نَجِسًا إِِلاَّ إِِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَهُنَا قُدِّمَتِ النَّجَاسَةُ فَحَلَّتْ فِي الْمَاءِ قَبْل إِِضَافَةِ الْمَادَّةِ الأُْخْرَى فَالْمَاءُ طَاهِرٌ.
__________
(1) المصدر السابق ص 397 وما بعدها.(38/189)
أَمَّا إِذَا أُضِيفَتْ مَادَّةُ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ فَإِِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَهُنَا قُدِّمَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ عَلَى النَّجَاسَةِ الَّتِي حَلَّتْ. (1)
وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ: أَخْبَرَنِي عَنْ إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَحَصَل لَهُمْ فَضْل الْجَمَاعَةِ وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟
وَأَصْل الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فَضْل الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَحْصُل لِلإِِْمَامِ إِلاَّ بِنِيَّةِ الإِِْمَامَةِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَلَوْ صَلَّى شَخْصٌ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ فَإِِنَّ فَضْل الْجَمَاعَةِ يَحْصُل لِلْمَأْمُومِ دُونَ الإِِْمَامِ وَعَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى لِلْحُصُول عَلَى فَضْل الْجَمَاعَةِ. (2)
4 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ قَوْلُهُمْ:
لَنَا شَخْصٌ عَادَ لِسُنَّةٍ لَزِمَهُ فَرْضٌ وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ وَمَحَلُّهُ قَبْل السَّلاَمِ، فَإِِنْ سَلَّمَ الْمُصَلِّي سَاهِيًا وَقَصُرَ الْفَصْل عُرْفًا فَلَهُ السُّجُودُ بَعْدَ قَصْدِ الْعَوْدِ إِلَى الصَّلاَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلاَةِ فَلَوْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ حِينَئِذٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ قَبْل السُّجُودِ وَلِذَلِكَ يُلْغَزُ فَيُقَال: عَادَ لِسُنَّةٍ فَلَزِمَهُ فَرْضٌ. (3)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 58.
(2) المرجع السابق 1 / 339.
(3) حاشية البيجوري 1 / 196.(38/190)
5 - وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي الطَّهَارَةِ قَالُوا:
مِمَّا يُعَايَى بِهِ: يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَى جِسْمِ الإِِْنْسَانِ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ دَمَ الشَّهِيدِ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَلاَ يُزَال. (1)
مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ:
6 - أ - قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَال: لاَ تَقْتَسِمُوا فَإِِنَّ لِي امْرَأَةً غَائِبَةً، فَإِِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ هِيَ وَلَمْ أَرِثْ أَنَا، وَإِِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا
وَجَوَابُهَا: هَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُمًّا وَأُخْتَيْنِ لأَِبَوَيْنِ وَأُخْتًا لأُِمٍّ وَأَخًا لأَِبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا لأُِمِّهَا، فَلِلأُْخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلأُْخْتِ لأُِمٍّ السُّدُسُ إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَلاَ يَبْقَى لِزَوْجِهَا شَيْءٌ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِِنَّهُ أَخٌ لأَِبٍ وَإِِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ (2) .
ب - امْرَأَةٌ جَاءَتْ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَتْ: لاَ تَقْتَسِمُوا فَإِِنِّي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 191، والفروع 1 / 252.
(2) الاختيار 5 / 130.(38/190)
حُبْلَى فَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا وَرِثَ، وَإِِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَعَمًّا وَامْرَأَةً حُبْلَى مِنْ أَخِيهِ، فَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ وَإِِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ فَلاَ تَرِثُ.
وَلَوْ قَالَتْ إِنْ وَلَدْتُ غُلاَمًا لاَ يَرِثُ وَإِِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لأُِمٍّ وَحَمْلٍ مِنَ الأَْبِ، فَإِِنْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ الأَْبِ جَارِيَةً فَهِيَ أُخْتُهَا لأَِبِيهَا فَيَكُونُ لِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ النِّصْفُ وَلِلأُْخْتَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُول إِلَى تِسْعَةٍ وَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلأَِوْلاَدِ الأُْمِّ الثُّلُثُ وَلاَ شَيْءَ لِلْغُلاَمِ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ (1) .
ج - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَى بِهَا فِي الْمِيرَاثِ الْمَسْأَلَةُ الأَْكْدَرِيَّةُ، فَيُقَال: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَال مَيِّتٍ فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ الْمَال وَأَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي وَأَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَأَخَذَ الرَّابِعُ الْبَاقِيَ.
وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ
__________
(1) الاختيار 5 / 130.(38/191)
وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَهِيَ تَعُول إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلأُْمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلأُْخْتِ أَرْبَعَةٌ. (1)
د - الْمَسْأَلَةُ الدِّينَارِيَّةُ فَيُعَايَى بِهَا فَيُقَال: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا ذُكُورًا وَإِِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ دِينَارًا وَاحِدًا، وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتًا وَاحِدَةً لأَِبٍ وَأُمٍّ وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةُ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ سُدُسُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةُ دِينَارٍ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُل أَخٍ دِينَارَانِ وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ. (2)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 564، 565، وكشاف القناع 4 / 410.
(2) الاختيار 5 / 130.(38/191)
مَعْتُوهٌ
انْظُرْ: عَتَهٌ
مُعَدَّلٌ
انْظُرْ: تَزْكِيَةٌ(38/192)
مَعْدِنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: مَكَانُ كُل شَيْءٍ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَرْكَزُهُ، وَمَوْضِعُ اسْتِخْرَاجِ الْجَوْهَرِ مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوِهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ قَرِينَةٍ. (2)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: هُوَ كُل مَا تَوَلَّدَ فِي الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَيْسَ نَبَاتًا. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَنْزُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْكَنْزِ: الْمَال الْمَدْفُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ وَجَمْعُهُ كُنُوزٌ مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٌ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ الاِدِّخَارُ يُقَال: كَنَزْتُ التَّمْرَ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 2 / 781 ط. دار إحياء التراث العربي.
(3) كشاف القناع 1 / 222، والمغني 3 / 24 ط. الرياض.(38/192)
فِي وِعَائِهِ أَكْنِزُهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْمَال الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الأَْرْضِ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ أَنَّ الْمَعْدِنَ هُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ وَالْكَنْزَ هُوَ الْمَال الْمَدْفُونُ بِفِعْل النَّاسِ.
ب - الرِّكَازُ
3 - الرِّكَازُ لُغَةً: هُوَ دَفِينُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَأَنَّهُ رُكِزَ فِي الأَْرْضِ مِنْ رَكَزَ يَرْكُزُ رَكْزًا: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، أَوْ مِنْ رَكَزَ إِذَا خَفِيَ يُقَال رَكَزْتُ الرُّمْحَ إِذَا أَخْفَيْتَ أَصْلَهُ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَا وُجِدَ مَدْفُونًا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مَرْكُوزٌ تَحْتَ أَرْضٍ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَل عِنْدَهُمُ الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ، فَالرِّكَازُ اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا. (4)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، ومختار الصحاح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65، وتبيين الحقائق 1 / 287، والبناية شرح الهداية 3 / 138.
(3) القاموس المحيط، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة (ركز) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 43 - 44، ومواهب الجليل 2 / 339، وتبيين الحقائق 1 / 287، والبناية شرح الهداية 3 / 138، والمجموع 6 / 1، والمغني 3 / 18.(38/193)
وَالصِّلَةُ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَنْزِ.
أَنْوَاعُ الْمَعَادِنِ
4 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْمَعَادِنَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ وَذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ جِنْسِهَا فَقَالُوا: مُنْطَبِعٌ بِالنَّارِ، وَمَائِعٌ، وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعِ وَلاَ مَائِعٍ:
أ - أَمَّا الْمُنْطَبِعُ فَكَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا النَّوْعُ يَقْبَل الطَّرْقَ وَالسَّحْبَ، فَتُعْمَل مِنْهُ صَفَائِحُ وَأَسْلاَكٌ وَنَحْوُهَا.
ب - وَالْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ.
ج - وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْفَيْرُوزِ وَالْكُحْل، وَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَقْبَل الطَّرْقَ وَالسَّحْبَ، لأَِنَّهُ صُلْبٌ. (1)
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَعَادِنَ - مِنْ نَاحِيَةِ اسْتِخْرَاجِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 184 - 185، وحاشية ابن عابدين 1 / 44، وفتح القدير 1 / 179، والإنصاف 3 / 119، 120.(38/193)
أ - الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا خَرَجَ بِلاَ عِلاَجٍ وَإِِنَّمَا الْعِلاَجُ فِي تَحْصِيلِهِ كَنِفْطٍ وَكِبْرِيتٍ.
ب - وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنِيُّ هُوَ مَا لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِعِلاَجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَادِنِ:
مِلْكِيَّةُ الْمَعَادِنِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مِلْكِيَّةِ الْمَعَادِنِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ رَصَاصٍ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ أُخِذَ مِنْهُ الْخُمُسُ وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ وَكَذَا إِذَا وُجِدَ فِي الصَّحْرَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعُشْرِيَّةٍ وَلاَ خَرَاجِيَّةٍ. وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا وَكُلُّهَا لِوَاجِدِهَا.
وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهِ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لِوَاجِدِهِ.
وَإِِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ الأَْصْل: لاَ يَجِبُ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَجِبُ.
وَلَوْ وَجَدَ مُسْلِمٌ مَعْدِنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي
__________
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير 1 / 181 - 182، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235 - 236.(38/194)
أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلاَ خُمُسَ فِيهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِِنْ دَخَل عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ: وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ وَأَخْرَجَهُ إِلَى دَارِ الإِِْسْلاَمِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَطِيبُ لَهُ وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَإِِنْ دَخَل بِغَيْرِ أَمَانٍ يَكُونُ لَهُ مِنْ غَيْرِ خُمُسٍ (1) .
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلإِِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لاَ غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهَا الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي جَوَاهِرِ الأَْرْضِ بَارِزًا كَمَعَادِنِ الْمِلْحِ وَالْكُحْل وَالْقَارِ وَالنِّفْطِ، فَلَوْ أَقْطَعَ هَذِهِ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ لَمْ يَكُنْ لإِِِقْطَاعِهَا حُكْمٌ، بَل الْمُقْطَعُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، فَلَوْ مَنَعَهُمُ الْمُقْطَعُ كَانَ بِمَنْعِهِ مُتَعَدِّيًا وَكَانَ لِمَا أَخَذَهُ مَالِكًا لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ لاَ بِالأَْخَذِ، وَكُفَّ عَنِ الْمَنْعِ وَصُرِفَ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْعَمَل لِئَلاَّ يَشْتَبِهَ إِقْطَاعُهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ يَصِيرَ مِنْهُ فِي حُكْمِ الأَْمْلاَكِ الْمُسْتَقِرَّةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْرُهَا لِلإِِْمَامِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يَرَى أَنَّهُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 180 ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية ابن عابدين 2 / 45 - 46، وتبيين الحقائق 1 / 288، والفتاوى الهندية 1 / 185.
(2) الدر المختار 5 / 278 - 279.(38/194)
الْمَصْلَحَةُ وَلَيْسَتْ بِتَبَعٍ لِلأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، مَمْلُوكَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ، وَلِلإِِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِمَنْ يَعْمَل فِيهَا بِوَجْهِ الاِجْتِهَادِ حَيَاةَ الْمُقْطَعِ لَهُ أَوْ مُدَّةً مَا مِنَ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ أَصْلَهَا، وَيَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ عَلَى كُل حَالٍ، عَلَى مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقِبْلِيَّةِ وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ (1) إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهَا يُعَامَلُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا فَإِِنْ أَسْلَمُوا رَجَعَ أَمْرُهَا إِلَى الإِِْمَامِ هَذَا مَا يَرَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ لأَِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اللَّذَيْنِ فِي الْمَعَادِنِ الَّتِي هِيَ فِي جَوْفِ الأَْرْضِ أَقْدَمُ مِنْ مِلْكِ الْمَالِكِينَ لَهَا فَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ مِلْكًا لَهُمْ بِمِلْكِ الأَْرْضِ، إِذْ هُوَ ظَاهِرُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، (2) فَوَجَبَ بِنَحْوِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي جَوْفِ الأَْرْضِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِنَ الْمَعَادِنِ فَيْئًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) حديث: " أنه أقطع بلالاً. . " أخرجه أبو داود 3 / 235 ط. المكتبة التجارية بمصر.
(2) سورة الأعراف / 128.(38/195)
بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِنَّهَا تَبَعٌ لِلأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا فَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ حُرَّةٍ أَوْ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَوْ فِي الْفَيَافِي الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُمْتَلَكَةٍ كَانَ أَمْرُهَا إِلَى الإِِْمَامِ يُقْطِعُهَا لِمَنْ يَعْمَل فِيهَا أَوْ يُعَامِل النَّاسَ عَلَى الْعَمَل فِيهَا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ عَلَى كُل حَالٍ، وَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ مُمْتَلَكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ يَعْمَل فِيهَا مَا يَعْمَل ذُو الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ، وَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ كَانَ أَهْل الصُّلْحِ أَحَقَّ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُسْلِمُوا فَتَكُونُ لَهُمْ، هَذَا مَا قَالَهُ سَحْنُونٍ وَمِثْلُهُ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ثَابِتَيْنِ فِي الأَْرْضِ كَانَا لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَا نَبَتَ فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّجَرِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ لاَ يُمْلَكُ بِالإِِْحْيَاءِ وَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلاَ إِقْطَاعٍ، لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ
__________
(1) المقدمات لابن رشد 1 / 224 - 226 ط. مطبعة السعادة وحاشية الدسوقي 1 / 487، والقوانين الفقهية ص 70.
(2) المقدمات لابن رشد 1 / 225.(38/195)
كَالْمَاءِ وَالْكَلأَِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ الأَْبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مَأْرِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْطِعَهُ أَوْ قَال الرَّاوِي أَقْطَعَهُ إِيَّاهُ فَقِيل لَهُ: إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ أَيِ الْعَذْبِ قَال: فَلاَ إِذَنْ، (1) وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَإِِقْطَاعِ الإِِْرْفَاقِ خِلاَفًا لِلزَّرْكَشِيِّ الَّذِي قَيَّدَ الْمَنْعَ بِالأَْوَّل.
وَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْمَعْدِنِ أَخَذَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْهُ، فَإِِنْ ضَاقَ نَيْل الْحَاجَةِ عَنِ اثْنَيْنِ مَثَلاً جَاءَا إِلَيْهِ قَدَّمَ السَّابِقَ لِسَبْقِهِ، وَيُرْجَعُ فِي الْحَاجَةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ، وَقِيل: إِنْ أَخَذَ لِغَرَضِ دَفْعِ فَقْرٍ أَوْ مَسْكَنَةٍ مُكِّنَ مِنْ أَخْذِ كِفَايَةِ سَنَةٍ أَوِ الْعُمْرِ الْغَالِبِ فَإِِنْ طَلَبَ زِيَادَةً عَلَى حَاجَتِهِ فَالأَْصَحُّ إِزْعَاجُهُ إِنْ زُوحِمَ عَنِ الزِّيَادَةِ لأَِنَّ عُكُوفَهُ عَلَيْهِ كَالتَّحَجُّرِ.
وَالثَّانِي يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ لِسَبْقِهِ.
فَلَوْ جَاءَا إِلَيْهِ مَعًا وَلَمْ يَكْفِ الْحَاصِل مِنْهُ لِحَاجَتِهِمَا وَتَنَازَعَا فِي الاِبْتِدَاءِ أَقْرِعَ بَيْنَهُمَا فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ وَالثَّانِي: يَجْتَهِدُ الإِِْمَامُ وَيُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ، وَالثَّالِثُ: يُنَصِّبُ مِنْ يَقْسِمُ الْحَاصِل بَيْنَهُمَا.
__________
(1) حديث: " إقطاع الأبيض بن حمال. . " أخرجه الشافعي في الأم (4 / 42 ط شركة الطباعة الفنية) ، ويحيى بن آدم في (الخراج ص 110 ط. السلفية) وصححه أحمد شاكر في التعليق عليه.(38/196)
وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ لاَ يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَل بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ فِي الأَْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُمْلَكُ بِذَلِكَ إِذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ.
وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ كَذَهَبٍ مَلَكَهُ جَزْمًا، لأَِنَّهُ بِالإِِْحْيَاءِ مَلَكَ الأَْرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَإِِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ فِي الْبُقْعَةِ الْمُحْيَاةِ مَعْدِنًا فَاتَّخَذَ عَلَيْهِ دَارًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ مِلْكِهِ لِفَسَادِ الْقَصْدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ.
وَإِِذَا كَانَ الْمَعْدِنُ الَّذِي وُجِدَ فِيمَا أَحْيَاهُ ظَاهِرًا فَلاَ يَمْلِكُهُ بِالإِِْحْيَاءِ إِنْ عَلِمَهُ لِظُهُورِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلاَجٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَإِِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَعَادِنَ الْجَامِدَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ فَهِيَ كَالتُّرَابِ وَالأَْحْجَارِ الثَّابِتَةِ. فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ أَرْضَ كَذَا مِنْ مَكَانِ كَذَا إِلَى كَذَا وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَعْدِنٍ، قَال: فَبَاعَ بَنُو بِلاَلٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْضًا فَخَرَجَ فِيهَا مَعْدِنَانِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا بِعْنَاكَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 372 - 373.(38/196)
أَرْضَ حَرْثٍ وَلَمْ نَبِعْكَ الْمَعْدِنَ، وَجَاءُوا بِكِتَابِ الْقَطِيعَةِ الَّتِي قَطَعَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِيهِمْ فِي جَرِيدَةٍ، قَال: فَجَعَل عُمَرُ يَمْسَحُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَال لِقَيِّمِهِ: انْظُرْ مَا اسْتَخْرَجْتَ مِنْهَا وَمَا أَنْفَقْتَ عَلَيْهَا فَقَاضِهِمْ بِالنَّفَقَةِ وَرُدَّ عَلَيْهِمُ الْفَضْل، (1) فَعَلَى هَذَا مَا يَجِدُهُ فِي مِلْكٍ أَوْ مَوَاتٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِِنْ سَبَقَ اثْنَانِ إِلَى مَعْدِنٍ فِي مَوَاتٍ فَالسَّابِقُ أَوْلَى بِهِ مَا دَامَ يَعْمَل فَإِِذَا تَرَكَهُ جَازَ لِغَيْرِهِ الْعَمَل فِيهِ، وَمَا يَجِدُهُ فِي مَمْلُوكٍ يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَهُوَ لِمَالِكِ الْمَكَانِ.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فَهِيَ مُبَاحَةٌ عَلَى كُل حَالٍ إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ دُخُول مِلْكِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَتَمَّلَكَ بِمِلْكِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، لأَِنَّهَا مِنْ نَمَائِهَا وَتَوَابِعِهَا، فَكَانَتْ لِمَالِكِ الأَْرْضِ كَفُرُوعِ الشَّجَرِ الْمَمْلُوكِ وَثَمَرَتِهِ.
وَلأَِنَّ الْمَعَادِنَ السَّائِلَةَ مُبَاحَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ بِجَامِعِ السِّيُولَةِ فِي كُلٍّ، فَكَمَا أَنَّ الْمَاءَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْكَلأَ ُ، وَالْمَاءُ، وَالنَّارِ (2) فَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني. . ". أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 423) .
(2) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 751 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رجل من المهاجرين، وإسناده صحيح.(38/197)
السَّائِلَةُ تَكُونُ مُبَاحَةً. (1)
الْوَاجِبُ فِي الْمَعْدِنِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعْدِنَ الْمُنْطَبِعَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ صَبِيٌّ أَوِ امْرَأَةٌ وَمَا بَقِيَ فَلِلآْخِذِ.
سَوَاءٌ وُجِدَ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ أَوْ خَرَاجِيَّةٍ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ فِي الزِّئْبَقِ.
وَأَمَّا الْمَعْدِنُ الْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَلاَ يَجِبُ الْخُمُسُ فِيمَا وَجَدَهُ فِي دَارِهِ وَأَرْضِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال الصَّاحِبَانِ يَجِبُ. (2)
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لأَِنَّ النُّصُوصَ خَالِيَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ حَوَلاَنُ الْحَوْل لِوُجُوبِ الْخُمُسِ. (3)
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 28 - 29 ط. الرياض.
(2) تبيين الحقائق 1 / 289، والفتاوى الهندية 1 / 184 - 185.
(3) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 288.(38/197)
وَقَالُوا إِنَّ مَا يُصَابُ مِنَ الْمَعْدِنِ هُوَ غَنِيمَةٌ وَالْخُمُسُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ.
فَإِِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مُحْتَاجًا عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ لاَ يَصِيرُ غَنِيًّا بِالأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ فَرَأَى الإِِْمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ الْخُمُسَ لَهُ جَازَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَهَذَا الَّذِي أَصَابَهُ فَقِيرٌ فَقَدْ صَرَفَ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَجُوزُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ غَيْرِهَا الزَّكَاةُ.
قَال الْبَاجِيُّ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ، وَقَال الْبَعْضُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ مِنْ تُرَابِهِ وَكَانَ الْمُخْرِجُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا قَدْرَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَكَانَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالإِِْسْلاَمِ وَهَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقِيل لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حُرِّيَّةٌ وَلاَ إِسْلاَمٌ.
وَضَمُّ الْعِرْقِ الْوَاحِدِ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِرْقُ مُتَّصِلاً وَإِِنْ تَرَاخَى الْعَمَل بِانْقِطَاعِهِ، سَوَاءٌ حَصَل الاِنْقِطَاعُ اخْتِيَارًا أَوِ اضْطِرَارًا، كَفَسَادِ آلَةٍ وَمَرَضِ الْعَامِل.
__________
(1) شرح السير الكبير 5 / 2173، وانظر بدائع الصنائع 2 / 68، و7 / 124 - 125.(38/198)
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلاَ يُضَمُّ مَا خَرَجَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَلَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ يُضَمُّ عِرْقٌ آخَرُ لِلَّذِي كَانَ يَعْمَل فِيهِ أَوَّلاً فِي مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَيُعْتَبَرُ كُل عِرْقٍ بِانْفِرَادِهِ، فَإِِنْ حَصَل مِنْهُ نِصَابٌ يُزَكَّى، ثُمَّ يُزَكَّى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِِنْ قَل، وَسَوَاءٌ اتَّصَل الْعَمَل أَوِ انْقَطَعَ، وَفِي نُدْرَةِ الْعَيْنِ - وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ لِتَصْفِيَةِ الْخُمُسُ مُطْلَقًا، وَجَدَهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ، بَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لاَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَجَمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ وَأَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَشَرَطَ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا وَشَرَطَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْرَجُ نِصَابًا مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، أَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِهِمَا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الأَْمْوَال الْمُزَكَّاةِ. وَمَنْ وَجَدَ دُونَ النِّصَابِ لَمْ
__________
(1) الخرشي 2 / 208 - 209، والدسوقي 1 / 406 وما بعدها، المنتقى للباجي 2 / 103 - 104. الخرشي 2 / 208 - 209، والدسوقي 1 / 406 وما بعدها، المنتقى للباجي 2 / 103 - 104.(38/198)
يَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ، لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْعُشْرِ، وَإِِنْ وَجَدَ النِّصَابَ فِي دُفُعَاتٍ فَإِِنْ لَمْ يَنْقَطِعِ الْعَمَل وَلاَ النَّيْل ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي إِتْمَامِ النِّصَابِ، وَكَذَا إِنْ قُطِعَ الْعَمَل لِعُذْرِ، وَيَجِبُ حَقُّ الْمَعْدِنِ بِالْوُجُودِ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لأَِنَّ الْحَوْل يُرَادُ لِكَمَال النَّمَاءِ وَبِالْوُجُودِ يَصِل إِلَى النَّمَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْل كَالْمُعَشَّرِ. وَقَال فِي الْبُوَيْطِيِّ لاَ يَجِبُ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل، لأَِنَّهُ زَكَاةُ مَالٍ تَتَكَرَّرُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْحَوْل كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ.
وَفِي مَا يَجِبُ مِنَ الزَّكَاةِ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا: وُجُوبُ رُبُعِ الْعُشْرِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ نَصُّهُ فِي الأُْمِّ وَالإِِْمْلاَءِ، وَقِيل يَجِبُ الْخُمُسُ لأَِنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْوُجُودِ فَتَقَدَّرَتْ زَكَاتُهُ بِالْخُمُسِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: إِنْ أَصَابَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَإِِنْ أَصَابَهُ بِتَعَبٍ فَيَجِبُ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَلَفَ قَدْرُهُ بِاخْتِلاَفِ الْمُؤَنِ كَزَكَاةِ الزَّرْعِ.
وَيَجِبُ إِخْرَاجُ الْحَقِّ بَعْدَ التَّمَيُّزِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَقَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ(38/199)
وَاجِدِ الْمَعْدِنِ زَكَاةٌ، وَسَوَاءٌ أَقُلْنَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ أَمْ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَقِيل: إِنْ قِيل بِرُبُعِ عُشْرٍ فَهُوَ زَكَاةٌ وَإِِلاَّ فَقَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفَ خَمْسٍ خُمُسُ الْفَيْءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ سَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنْ مَوَاتٍ أَوْ مِنْ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْدِنِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالْيَاقُوتِِ وَالْبِلَّوْرِ وَالْكُحْل وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ كَالْقَارِ وَالنِّفْطِ وَالْكِبْرِيتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2)
وَلأَِنَّهُ مَعْدِنٌ قُطِعَتِ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالأَْثْمَانِ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُهُ فَإِِذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ.
وَالْوَاجِبُ فِي الْمَعْدِنِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَصِفَتُهُ
__________
(1) المجموع 6 / 75 - 89.
(2) سورة البقرة / 267.(38/199)
أَنَّهُ زَكَاةٌ لِحَدِيثِ بَلاَل بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ السَّابِقِ (1) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَحْرُمُ عَلَى أَغْنِيَاءِ ذَوِي الْقُرْبَى فَكَانَ زَكَاةً كَالْوَاجِبِ فِي الأَْثْمَانِ وَنِصَابُ الْوَاجِبِ هُوَ مَا يَبْلُغُ مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالاً وَمِنَ الْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ حِينَ تَنَاوُلِهِ وَلاَ يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ وَيُكَمَّل النِّصَابُ. (2)
مَا يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ شَيْءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ دَسَرَهُ (أَلْقَاهُ) الْبَحْرُ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، فَهَذَا النَّصُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَنْبَرَ لاَ شَيْءَ فِيهِ، وَالْعَنْبَرُ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْبَحْرِ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مَعَادِنِ الْبَحْرِ لاَ شَيْءَ فِيهِ إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَعْدِنٍ وَآخَرَ مِنْ مَعَادِنِ الْبَحْرِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (3) وَلأَِنَّ
__________
(1) سبق تخريجه ف " 5 ".
(2) المغني مع الشرح الكبير 2 / 617 - 619.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 212 - 213، وحاشية الدسوقي 1 / 492، والزرقاني 2 / 173، والحاوي الكبير 4 / 288 - 289، والشرح الكبير للمقدسي 2 / 584، والإنصاف 3 / 122، والسير الكبير وشرحه 5 / 2162 وما بعدها.(38/200)
الْعَنْبَرَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْهُ وَلاَ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ. (1) وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَلأَِنَّهُ عَفْوٌ قِيَاسًا عَلَى الْعَفْوِ مِنْ صَدَقَةِ الْخَيْل. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ عَنْبَرٍ وُجِدَ عَلَى السَّاحِل فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُ مَال اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَفِيهِ الْخُمُسُ.
وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَامَل عَاجِلاً فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ، وَلأَِنَّ الأَْمْوَال الْمُسْتَفَادَةَ نَوْعَانِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ، فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ. (3)
مَعْدُودَاتٌ
انْظُرْ: مِثْلِيَّاتٌ
__________
(1) الشرح الكبير للمقدسي 2 / 584.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 483 - 484.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 212 - 213، والإنصاف 3 / 122، والشرح الكبير للمقدسي 2 / 585، والحاوي الكبير 4 / 288، والخراج لأبي يوسف ص 70.(38/200)
مَعْدُومٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الْمَعْدُومِ لُغَةً: الْمَفْقُودُ، يُقَال: عَدِمْتُهُ عَدَمًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: فَقَدْتُهُ وَالاِسْمُ: الْعَدَمُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال الْبَرَكَتِيُّ: الْعَدَمُ مَا يُقَابِل الْوُجُودَ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعْدُومِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - بَيْعُ الْمَعْدُومِ
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمَا لَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ، وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حَيْنَ الْعَقْدِ (أَيْ غَيْرَ مَعْدُومٍ) . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالاَتٍ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.(38/201)
ب - الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّمْلِيكَ فِي حَال حَيَاةِ الْمُوصِي فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ إِذَا كَانَ قَابِلاً لِلتَّمْلِيكِ بِعِقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي النِّهَايَةِ: وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ تَجُوزُ وَإِِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَعْدُومًا، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّمْلِيكَ حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْوَصِيَّةُ بِمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ لاَ تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّمْلِيكَ حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ)
ج - الْوَصِيَّةُ لِلْمَعْدُومِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ بَاطِلَةٌ وَلاَ تَصِحُّ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 416.(38/201)
الْوَصِيَّةِ وَيُتَصَوَّرُ الْمِلْكُ لَهُ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِحَمْلٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ جَائِزَةٌ، وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ حَيْنَ الْوَصِيَّةِ، وَتُصْرَفُ فِي وَفَاءِ دُيُونِهِ ثُمَّ لِوَارِثِهِ، فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ بَطَلَتْ وَلاَ يُعْطَى لِبَيْتِ الْمَال. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ) .
د - هِبَةُ الْمَعْدُومِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ، مِثْل أَنْ يَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ هَذَا الْعَامَ أَوْ مَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ هَذِهِ السَّنَةَ، لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ لِمَعْدُومِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودِ، كَالْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 459 - 462، وبدائع الصنائع 7 / 335 - 336، 352. ومغني المحتاج 3 / 40، والمغني 6 / 21، 58.
(2) بداية المجتهد 2 / 306، وحاشية الدسوقي 4 / 426.
(3) بدائع الصنائع 6 / 119، والمبسوط، 12 / 71 - 72، ومغني المحتاج 2 / 339، والمغني لابن قدامة 5 / 657.(38/202)
الشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ. (1)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جِوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُل مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ (2) (أَيْ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى صِحَّةِ الْهِبَةِ) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَةٌ) .
هـ - الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ إِذَا كَانَ عِوَضُ الْخُلْعِ مُشْتَمِلاً عَلَى غَرَرٍ، أَوْ مَعْدُومٍ يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، كَجَنِينٍ فِي بَطْنِ حَيَوَانٍ تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ، أَوْ كَانَ مَجْهُولاً كَأَحَدِ فَرَسَيْنِ، أَوْ غَيْرَ مَوْصُوفٍ مِنْ عِوَضٍ أَوْ حَيَوَانٍ وَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 26) .
و الإِِْجَارَةُ عَلَى مَعْدُومٍ:
7 - اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جِوَازِ الإِِْجَارَةِ عَلَى مَعْدُومٍ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَنَافِعِ كَالْحَاجَةِ إِلَى الأَْعْيَانِ، فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى الأَْعْيَانِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 99، وبداية المجتهد 2 / 300.
(2) بداية المجتهد 2 / 300.(38/202)
وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الإِِْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَلاَ يَخْفَى مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. (1)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .
مَعْذُورٌ
انْظُرْ: عُذْرٌ
مُعْسِرٌ
انْظُرْ: إِعْسَارٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 409 - 411، ومواهب الجليل 5 / 390، وحاشية الدسوقي 4 / 2 - 3، ونهاية المحتاج 5 / 263، والمغني لابن قدامة 5 / 432 - 433.(38/203)
مُعَصْفَرٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ(38/203)
مِعْصَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِعْصَمِ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ السِّوَارِ مِنَ السَّاعِدِ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ مِنَ السَّاعِدِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمِرْفَقُ:
2 - الْمِرْفَقُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَبِالْعَكْسِ أَيْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ - مِنَ الْيَدِ: هُوَ مَا بَيْنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمِعْصَمِ وَالْمِرْفَقِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُلْتَقَى بَيْنَ عَظْمَيْنِ مِنَ الْيَدِ.
ب - الْمَفْصِل:
3 - الْمَفْصِل بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ: كُل مُلْتَقَى بَيْنَ عَظْمَيْنِ مِنَ الْجَسَدِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي 3 / 208، والبناني على الزرقاني 1 / 57، وجواهر الإكليل 1 / 14.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) قواعد الفقه للبركتي.(38/204)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْمِعْصَمِ وَالْمَفْصِل: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُل مِعْصَمٍ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ كُل مَفْصِلٍ مِعْصَمًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِعْصَمِ:
غَسْل الْمِعْصَمِ فِي الْوُضُوءِ.
4 - يَجِبُ غَسْل الْمِعْصَمِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
الْقَطْعُ مِنَ الْمِعْصَمِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ:
5 - قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَحَل الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ الْمِعْصَمُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ (1) ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ، (2) وَلأَِثَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ، وَالْكُوعُ مِعْصَمُ الْكَفِّ. (3) وَالْقَطْعُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ يُرَاعَى فِيهَا مَا ذُكِرَ فِي السَّرِقَةِ فَلاَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِيهَا إِلاَّ مِنَ الْمِعْصَمِ.
__________
(1)) حديث: " قطع يد السارق من الكوع ". أخرجه البيهقي (8 / 271 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وقال: " قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق من المفصل " وفي إسناده مقال، ولكن أورد قبله شاهدًا من حديث جابر بن عبد الله يتقوى به.
(2) المصباح المنير.
(3) المصباح المنير.(38/204)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 66) .
مَحَل الْقِصَاصِ مِمَّنْ قَطَعَ يَدًا مِنَ السَّاعِدِ:
6 - إِنْ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ السَّاعِدِ، فَلاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي مِنَ السَّاعِدِ، لأَِنَّهُ لاَ يُقْطَعُ فِي حَدٍّ وَلاَ قِصَاصٍ إِلاَّ مِنْ مَفْصِلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْتَصُّ بِالْقَطْعِ مِنَ الْمِعْصَمِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ مَفْصِلٍ لَهُ، وَيَأْخُذُ حُكُومَةَ الْبَاقِي
وَلِلتَّفْصِيل (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 11، سَاعِدٌ ف 9) .
دِيَةُ قَطْعِ الْيَدِ مِنَ الْمِعْصَمِ
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ مِنَ الْكُوعِ " الْمِعْصَمِ " وَوُجُوبِ نِصْفِ دِيَةٍ فِي قَطْعِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِِْطْلاَقِ إِلَى الْكَفِّ وَهُوَ الْمِعْصَمُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ت 43) .
مَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ:
8 - يَجُوزُ لَمِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا كَفَّيْهَا وَوَجْهَهَا، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،(38/205)
وَالْكَفُّ مِنْ رُءُوسِ الأَْصَابِعِ إِلَى الْمِعْصَمِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: خِطْبَةٌ ف 29) .
__________
(1) القليوبي 3 / 208.(38/205)
مَعْصِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعْصِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ يُقَال عَصَاهُ مَعْصِيَةً وَعِصْيَانًا: خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ فَهُوَ عَاصٍ وَعَصَّاءٌ وَعَصِيٌّ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْبَزْدَوِيُّ: الْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لِفِعْل حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الزَّلَّةُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الزَّلَّةِ فِي اللُّغَةِ: السَّقْطَةُ وَالْخَطِيئَةُ. (3)
وَالزَّلَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ اسْمٌ لِفِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ لَكِنَّهُ اتَّصَل الْفَاعِل بِهِ عَنْ فِعْلٍ مُبَاحٍ قَصَدَهُ فَزَل بِشُغْلِهِ عَنْهُ إِِلَى مَا هُوَ حَرَامٌ لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلاً (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالزَّلَّةِ أَنَّ الْفِعْل الْمُحَرَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ بِخِلاَفِ الزَّلَّةِ.
__________
(1) الصحاح، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 200، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المعجم الوسيط.
(4) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 200.(38/206)
أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ:
3 - لِلْعُلَمَاءِ فِي تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُقُوبَةٍ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَرَّهَ إِِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ، (1) فَقَدْ جَعَل اللَّهُ تَعَالَى الْمَعَاصِيَ رُتَبًا ثَلاَثَةً وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِيَ فَسُوقًا دُونَ بَعْضٍ، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِِِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِِلاَّ اللَّمَمَ} (2) وَفِي الْحَدِيثِ: " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ " وَفِي رِوَايَةٍ " تِسْعٌ " (3) ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: " وَمِنْ كَذَا إِِلَى كَذَا مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " (4) فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (5)
__________
(1) سورة الحجرات / 7.
(2) سورة النجم / 32.
(3) حديث: " الكبائر سبعٌ، وفي رواية تسع ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17 / 48) بروايتيه عن حديث عمير بن قتادة الليثي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 48) : رجاله موثقون.
(4) حديث: " ومن كذا إلى كذا مكفرات. . " أخرجه مسلم (1 / 209) من حديث أبي هريرة.
(5) سورة النساء / 31.(38/206)
صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.
قَال الْغَزَالِيُّ: لاَ يَلِيقُ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعَ. (1)
الثَّانِي: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا: بَل سَائِرُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، مِنْهُمُ الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِِْسْفِرَائِينِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَإِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الإِِْرْشَادِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيُّ فِي الْمُرْشِدِ بَل حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الأَْشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَال: مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ بِالإِِْضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، (2) كَمَا يُقَال: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: لَعَل أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إِجْلاَلاً لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لأَِمْرِهِ مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ. (3)
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 4 ط. دار المعرفة ببيروت، وانظر البحر المحيط 4 / 275.
(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 4.
(3) البحر المحيط 4 / 276.(38/207)
الثَّالِثُ: قَسَمَ الْحَلِيمِيُّ الْمَعَاصِيَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَفَاحِشَةٌ، فَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِِنْ قَتَل ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ. (1)
أَقْسَامُ الْمَعَاصِي بِاعْتِبَارِ مَيْل النَّفْسِ إِلَيْهَا
4 - قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ عَقْلاً أَوْ شَرْعًا بِالنَّهْيِ عَنْهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - مَا تَكُونُ النَّفُوسُ دَاعِيَةً إِلَيْهَا وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الْمَيْل إِلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الزَّجْرِ:
أَحَدُهُمَا: حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ.
وَالثَّانِي: وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ.
ب - مَا تَكُونُ النَّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا كَأَكْل الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّجْرِ عَنْهَا بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ، لأَِنَّ النَّفُوسَ مُسْعَدَةٌ (2) فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مسعدة أي معانة ففي المعجم الوسيط: أسعد فلانًا: أعانه.(38/207)
الْمَحْظُورِ مِنْهَا. (1)
قَال الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنِ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ وَسَطْوَتِهِ وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ، قَال تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا أَوْ مَا مِنْهَا مَوْضِعٌ أَرْبَعُ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ - أَيِ الْجِبَال - تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ (3) .
آثَارُ الْمَعَاصِي
5 - أَوَجَبَ الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً.
فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الأُْخْرَوِيَّةُ فَتَتَمَثَّل فِيمَا جَاءَ
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 152 ط. دار ابن كثير.
(2) سورة النور / 63.
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر ص 14 - 15 ط. دار المعرفة. وحديث: " إني أرى ما لا ترون. . . " أخرجه الحاكم (4 / 544) من حديث أبي ذر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(38/208)
بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوَعُّدٍ عَلَى اقْتِرَافِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا قِي النَّارِ (2) .
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَمِنْهَا مَا هُوَ حِسِّيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا أَوَجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَالْعُقُوبَاتِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا، وَكَالتَّعْزِيرِ فِيمَا لَمْ يُوجِبِ الشَّرْعُ فِيهِ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةٌ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: حِرْمَانُ الْعِلْمَ فَإِِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.
وَمِنْهَا: حِرْمَانُ الرِّزْقَ، وَفِي الْمُسْنَدِ: إِنَّ
__________
(1) سورة النساء / 93.
(2) حديث: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا. . ". أخرجه الترمذي (4 / 557) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب.(38/208)
الرَّجُل لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ (1) ، وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ، فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقٌ بِمِثْل تَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَمِنْهَا: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لاَ تُوَازِنُهَا وَلاَ تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلاً، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لاَ يُحِسُّ بِهِ إِلاَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ فَلَوْ لَمْ تُتْرُكِ الذُّنُوبُ إِلاَّ حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَكَانَ الْعَاقِل حَرِيًّا بِتَرْكِهَا. (2)
وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلاَ يَتَوَجَّهُ لأَِمْرٍ إِلاَّ يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّل التَّقْوَى جَعَل لَهُ مَنْ أَمْرِهِ عُسْرًا.
وَمِنْهَا: ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً يُحِسُّ بِهَا كَمَا يُحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْل الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإِِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حِيرَتُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلاَلاَتِ وَالأُْمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ.
__________
(1) حديث: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " أخرجه أحمد في المسند (5 / 277) من حديث ثوبان، وفي إسناده راو قال عنه الذهبي في الميزان (2 / 400) : وإن كان قد وثق ففيه جهالة.
(2) الداء والدواء لابن قيم الجوزية ص 73 ط. مطبعة المدني.(38/209)
قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ. (1)
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمْرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلاَ بُدَّ، فَإِِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ فِي الْعُمْرِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا وَيُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارِقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، كَمَا قَال بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِل حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِِذَا عَمِلَهَا قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَتَضَاعَفَ الرِّبْحُ وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ وَكَذَلِكَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَصِفَاتٍ لاَزِمَةً. (2)
وَمِنْهَا: وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ، أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ فَتَقْوَى إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَضْعُفُ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ
__________
(1) المرجع السابق ص 74 - 75.
(2) المرجع السابق ص 75 - 77.(38/209)
مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَيَأْتِي مِنَ الاِسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ مُصِرٌّ عَلَيْهَا عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الأَْمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلاَكِ. (1)
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ.
قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَإِِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ.
وَمِنْهَا: إِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَزَال يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ عَلاَمَةُ الْهَلاَكِ فَإِِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَال بِهِ هَكَذَا (2) .
وَمِنْهَا: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ
__________
(1) المرجع السابق ص 78 - 79.
(2) أثر ابن مسعود: " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 102) .(38/210)
قَال مُجَاهَدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّ السَّنَةُ وَأَمْسَكَ الْمَطَرُ وَتَقُول هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ.
فَلاَ يَكْفِيهِ عِقَابُ نَفْسِهِ حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّل وَلاَ بُدَّ، فَإِِنَّ الْعِزَّ كُل الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1) أَيْ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِِنَّهُ لاَ يَجِدُهَا إِلاَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلاَ تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ. (2)
وَمِنْهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَمَا قَال بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) قَال: هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ. (4)
قَال الْمُحَاسِبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْغَفْلَةُ تُورِثُ الْقَسْوَةَ وَالْقَسْوَةُ تُورِثُ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ وَالْبُعْدُ مِنَ اللَّهِ يُورِثُ النَّارَ، وَإِِنَّمَا
__________
(1) سورة فاطر / 10.
(2) الداء والدواء ص 80 - 82.
(3) سورة المطففين / 14.
(4) الداء والدواء ص 84.(38/210)
يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا الأَْحْيَاءُ، وَأَمَّا الأَْمْوَاتُ فَقَدْ أَمَاتُوا أَنَفْسَهُمْ بِحُبِّ الدُّنْيَا. (1)
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الأَْرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَسَاكِنِ، قَال تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . (2)
قَال مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ فَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثُمَّ قَال: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كُل قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ. (3)
اسْتِدْرَاجُ أَهْل الْمَعَاصِي بِالنِّعَمِ
6 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ وَإِِنْ نَال أَهْل الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ عَيْشٍ أَوْ أَدْرَكُوا أَمُنْيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً بَل قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً (4) ، وَوَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُول
__________
(1) رسالة المسترشدين للمحاسبي ص 82.
(2) سورة الروم / 41.
(3) الداء والدواء ص 91.
(4) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 151 - 152 ط. دار ابن كثير - بيروت.(38/211)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال (1) : إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلاَ رَسُول اللَّهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُل شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (2) .
أَحْوَال النَّاسِ فِي فِعْل الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي
7 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ يَخْلُو حَال النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ مِنْ فِعْل الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
فَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْل الطَّاعَاتِ وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا أَكْمَل أَحْوَال أَهْل الدِّينِ، وَأَفْضَل صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْل الطَّاعَاتِ وَيَقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَال الْمُكَلَّفِينَ، وَشَرُّ صِفَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللاَّهِي عَنْ فِعْل مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ، وَقَدْ قَال ابْنُ شُبْرُمَةَ: عَجِبْتُ لَمِنْ
__________
(1) حديث: " إذا رأيت الله يعطي العبد على معاصيه. . . " أخرجه أحمد (4 / 145) .
(2) سورة الأنعام / 44.(38/211)
يَحْتَمِي مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ كَيْفَ لاَ يَحْتَمِي مِنَ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ؟
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى فِعْل الطَّاعَاتِ وَيُقْدَمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ لأَِنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبِةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الإِِْقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِِنْ سَلِمَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي فِعْل الطَّاعَةِ، قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفَضْل النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدُ الشَّهْوَةُ دِينَهُ وَلَمْ تُزِل الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ. (1)
قَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: فِي كِتَابِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ أَفَضْل مِنْ أَعْمَال الطَّاعَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اشْتَرَطَ فِي الْحَسَنَةِ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى الآْخِرَةِ، وَفِي تَرْكِ الذُّنُوبِ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا سِوَى التَّرْكِ، (2) وَقَدْ قَال تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (3) وَقَال تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (4)
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ فِعْل الطَّاعَاتِ
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 156 - 157 ط. دار ابن كثير.
(2) تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي 1 / 405 ط. دار الشروق.
(3) سورة الأنعام / 160.
(4) سورة النازعات / 40، 41.(38/212)
وَيَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عِقَابَ اللاَّهِي عَنْ دِينِهِ الْمُنْذِرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ. (1)
التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ:
8 - التَّوْبَةُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، فَتَجِبُ التَّوْبَةُ عَنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، (2) لأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أُصُول الإِِْسْلاَمِ الْمُهِمَّةِ وَأَوَّل مَنَازِل السَّالِكِينَ، (3) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (4)
قَال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ فَلاَ يُسْتَرَابُ فِيهِ إِذْ مُعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الإِِْيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ. (5)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَوْبَةٌ ف 10) .
الإِِْصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ
9 - الإِِْصْرَارُ هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى الأَْمْرِ وَلُزُومُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الآْثَامِ.
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص 158.
(2) رسائل ابن نجيم (رسالة في بيان الكبائر والصغائر من الذنوب) ص 262، والقوانين الفقهية ص 416 نشر دار الكتاب العربي.
(3) روضة الطالبين 11 / 249.
(4) سورة النور / 31.
(5) إحياء علوم الدين 4 / 7.(38/212)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَدُّ الإِِْصْرَارِ: أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالاَةِ بِدِينِهِ إِشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ.
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الإِِْقَامَةُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْل مِثْلِهِ. (1)
وَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الإِِْصْرَارُ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لاَ يَتُوبَ، فَإِِنْ نَوَى التَّوْبَةَ خَرَجَ عَنِ الإِِْصْرَارِ. (2)
وَقَال الْفُقَهَاءُ: الصَّغِيرَةُ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الإِِْصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.
وَلِذَلِكَ قِيل: لاَ صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ. (3)
فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ وَلاَ يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا لَوْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ كَانَ الْعَفْوُ عَنْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ الْعَبْدُ عَلَيْهَا، وَمِثَال ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْقَلِيل مِنَ السَّيِّئَاتِ إِذَا دَامَ عُظِمَ تَأْثِيرُهُ فِي إِظْلاَمِ الْقَلْبِ. (4)
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الإِِْصْرَارُ حُكْمُهُ حُكْمُ
__________
(1) المعجم الوسيط وحاشية ابن عابدين 2 / 140، والتعريفات للجرجاني.
(2) تفسير القرطبي 4 / 211.
(3) القوانين الفقهية ص 416، والزواجر 1 / 79، وإحياء علوم الدين 4 / 32، ومختصر منهاج القاصدين ص 257.
(4) إحياء علوم الدين 4 / 32.(38/213)
مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ، فَالإِِْصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ وَالإِِْصْرَارُ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (كَبَائِرُ ف 12) .
التَّصَدُّقُ عَقِبَ الْمَعْصِيَةِ
10 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ التَّصَدُّقُ عَقِبَ كُل مَعْصِيَةٍ، (2) قَالُوا: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِلاَ عُذْرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارِ أَوْ نِصْفِهِ وَعَمَّمَهُ بَعْضُهُمْ فِي إِتْيَانِ كُل مَعْصِيَةٍ، (3) فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ (4) وَقَال شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ: صَلاَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَمِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي أَوَّل الْحَيْضِ وَبِنِصْفِ دِينَارٍ إِنْ كَانَ الْوَطْءُ فِي آخِرِهِ، أَوْ وَسَطِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ
__________
(1) إرشاد الفحول ص 53 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 428، والبحر المحيط 4 / 277.
(2) القليوبي 3 / 205.
(3) القليوبي 1 / 100.
(4) حديث: " اتق الله حيثما كنت. . ". أخرجه الترمذي (2 / 355) من حديث أبي ذر، وقال: حديث حسن.(38/213)
التَّصَدُّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ كَفَّارَةً لَمِنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ عَلَى اخْتِلاَفِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 43) .
سَتْرُ الْمَعْصِيَةِ
11 - إِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدُّ اللَّهِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَإِِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ، (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحِيَاءَ وَالسَّتْرَ. (3) فَإِِنْ أَظَهَرَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ، لأَِنَّ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ اعْتَرَفَا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا فَرَجَمَهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا (4) ،
__________
(1) فيض القدير للمناوي 1 / 120، وتحفة الأحوذي 6 / 222، والمغني 1 / 335 - 336، ومجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 114، والقليوبي 1 / 100.
(2) حديث: " اجتنبوا هذه القاذورة. . " أخرجه الحاكم (4 / 244) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " إن الله حيي ستير. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 302) من حديث يعلى بن أمية. وأشار ابن أبي حاتم في " علل الحديث " (2 / 329 - 330) إلى إعلاله بالإرسال.
(4) حديث اعتراف ماعز والغامدية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (3 / 1322) من حديث بريدة بن الحصيب.(38/214)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِظْهَارُ الْمَعْصِيَةِ لِيُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ خِلاَفُ الْمُسْتَحَبِّ.
وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِالْمَعْصِيَةِ تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا لِلأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإِِْنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً وَوَاجِبٌ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل فِي مُعْرِفَةِ أَحْكَامِ سَتْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ، وَسَتْرِ السُّلْطَانِ عَلَى الْمَعَاصِي (ر: سَتْرٌ ف 2 - 4) .
الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي:
12 - الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، (3) قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهَرِينَ، وَإِِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِاللَّيْل عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُول: يَا فُلاَنُ
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 1 / 260، ومغني المحتاج 4 / 250، وشرح منتهى الإرادات 3 / 340.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 166.
(3) فيض القدير للمناوي 5 / 11.(38/214)
عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي (ر: مُجَاهَرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ
13 - يَشْتَرِطُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ. (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ فِعْلاً هُوَ مَعْصِيَةٌ كَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لاَ يَمْنَعُ الرُّخْصَةَ لإِِِطْلاَقِ النُّصُوصِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَرٌ ف 10) .
أَثَرُ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لأَِسْبَابِ الرُّخَصِ:
14 - قَال الْقَرَافِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَبَيْنَ مُقَارَنَةِ الْمَعَاصِي لأَِسْبَابِ الرُّخَصِ الْمَعَاصِي لاَ تَكُونُ أَسْبَابًا لِلرُّخَصِ وَلِذَلِكَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لاَ يَقْصُرُ وَلاَ يُفْطِرُ، لأَِنَّ سَبَبَ هَذَيْنِ السَّفَرُ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهدين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 486) ومسلم (4 / 2291) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 358، ونهاية المحتاج 2 / 251 - 252 ط. الحلبي، وكشاف القناع 1 / 505، وشرح منتهى الإرادات 1 / 292.
(3) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 164 وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 527.(38/215)
فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعْصِيَةٌ فَلاَ يُنَاسِبُ الرُّخْصَةَ لأَِنَّ تَرْتِيبَ التَّرَخُّصِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ سَعْيٌ فِي تَكْثِيرِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِهَا، وَأَمَّا مُقَارَنَةُ الْمَعَاصِي لأَِسْبَابِ الرُّخَصِ فَلاَ تَمْنَعُ إِجْمَاعًا، كَمَا يَجُوزُ لأَِفْسَقِ النَّاسِ وَأَعْصَاهُمُ التَّيَمُّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ رُخْصَةٌ، وَكَذَلِكَ الْفِطْرُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ، وَالْجُلُوسُ إِذَا أَضَرَّ بِهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ، وَيُقَارِضُ وَيُسَاقِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ، وَلاَ تَمْنَعُ الْمَعَاصِي مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ أَسِبَابَ هَذِهِ الأُْمُورِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ، بَل هِيَ عَجْزُهُ عَنِ الصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَالْعَجْزُ لَيْسَ مَعْصِيَةً، فَالْمَعْصِيَةُ هَاهُنَا مُقَارِنَةٌ لِلسَّبَبِ لاَ سَبَبٌ (1) .
إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لاِبْنِ السَّبِيل الْمُسَافِرِ فِي مَعْصِيَةٍ
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيل لاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لإِِِعْطَاءِ الزَّكَاةِ ابْنَ السَّبِيل عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِسَفَرِهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ ف 175) .
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 33 - 34، وانظر تهذيب الفروق بهامش الفروق 2 / 44.
(2) الشرح الصغير 1 / 663، 664، وحاشية الدسوقي 1 / 497 - 498، والمجموع 6 / 214، والقليوبي 3 / 198، وكشاف القناع 2 / 287، وحاشية ابن عابدين 1 / 527.(38/215)
إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْغَارِمِ الْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَدِينِ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ قَبْل التَّوْبَةِ لأَِنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ.
وَتُعْطَى الزَّكَاةُ لَمِنْ تَابَ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَمُقَابِلُهُ لاَ تُعْطَى لأَِنَّهُ رُبَّمَا اتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ثُمَّ يَعُودُ. (1)
إِجَابَةُ دَعْوَةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِمَعَاصٍ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْل حُضُورِهَا بِوُجُودِ مَعَاصٍ فِيهَا لاَ يَحْضُرُهَا لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، لأَِنَّ إِجَابَتَهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى بِهِ أَوْ لاَ.
وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَوَجَدَ بَعْدَ الْحُضُورِ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقْعُدَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 496، 497، والشرح الصغير 1 / 662 - 663، ومغني المحتاج 3 / 110، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 197، والمجموع 6 / 208، وكشاف القناع 2 / 287، وحاشية ابن عابدين 2 / 61، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 126.(38/216)
وَيَأْكُل، فَإِِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْعِ يَمْنَعُهُمْ وَإِِنْ لَمْ يَقْدِرْ يَصْبِرُ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ فَإِِنَّهُ يَخْرُجُ وَلاَ يَقْعُدُ. (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَةٌ ف 27، عُرْسٌ ف 4، وَلِيمَةٌ) .
الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ:
18 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ كَوْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ فَلاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مَعْصِيَةٍ لأَِنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ، أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الإِِْسْلاَمِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ بَاطِلاً لأَِنَّهَا مَعَاصٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَقْفٌ) .
الْوَصِيَّةُ لِجِهَةِ الْمَعْصِيَةِ
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ
__________
(1) البناية 9 / 205.
(2) الحاوي الكبير للماوردي 9 / 385 ط. دار الفكر، والفتاوى الهندية 2 / 353، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 78، وكشاف القناع 4 / 245.(38/216)
لِجِهَةٍ عَامَّةٍ فَالشَّرْطُ أَنْ لاَ تَكُونَ الْجِهَةُ مَعْصِيَةً فَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلِحُصْرِهَا وَقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ وَلاَ لِبَيْتِ نَارٍ وَلاَ لِبِيعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ وَلاَ دَيْرٍ وَلاَ لإِِِصْلاَحِهَا وَشَعْلِهَا وَخِدْمَتِهَا وَلاَ لِعَمَارَتِهَا. وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِبِيعَةٍ أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إِصْلاَحِهَا أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَجَازَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَصِيَّةٌ) .
نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَالْقَتْل وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِحَدِيثِ: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ (2) . وَلِخَبَرِ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِ (3) وَلأَِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لاَ تَحِل. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 40، والحاوي الكبير 10 / 16، والحطاب 6 / 365، والخرشي 8 / 171، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 4 / 585، وكشاف القناع 4 / 364، وبدائع الصنائع 7 / 341.
(2) حديث: " لا نذر في معصية " أخرجه أبو داود (3 / 594) من حديث عائشة، ثم نقل عن ابن المبارك إعلاله بالانقطاع في سنده.
(3) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 581) من حديث عائشة.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 65، والزرقاني 3 / 93، والفواكه الدواني 2 / 12، ومغني المحتاج 4 / 356، وكشاف القناع 6 / 275، والمغني 9 / 3.(38/217)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَذْرٌ) .
طَاعَةُ الْمَخْلُوقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:
21 - لاَ طَاعَةَ لأَِحَدِ الْمَخْلُوقِينَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَل كُل حَقٍّ وَإِِنْ عَظُمَ سَاقِطٌ إِذَا جَاءَ حَقُّ اللَّهِ، (1) فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. (2) وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ حُدُودِ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ (ر: طَاعَةٌ ف 11)
الإِِْجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي:
22 - لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ هُوَ عَلَى الأَْجِيرِ شَيْئًا، إِذِ الْمُبَادَلَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِاسْتِحْقَاقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِلْمَعْصِيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ شَرَعَ عَقْدًا مُوجِبًا
__________
(1) فيض القدير للمناوي 6 / 432، وعمدة القاري 24 / 224 ط. المنيرية.
(2) حديث: " لا طاعة لمخلوق في معصية الله. . " أخرجه أحمد (5 / 66) من حديث عمران بن حصين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 226) رجاله رجال الصحيح.(38/217)
لِلْمَعْصِيَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا،
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل: لاَ تَجُوزُ الإِِْجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَشَيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ، وَلاَ إِجَارَةُ الدَّارِ لِتُجْعَل كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ، أَوْ لِبَيْعِ الْخَمْرِ أَوْ لِلْقِمَارِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِجَارَةٌ ف 108) .
عِصْمَةُ الأَْنْبِيَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي
23 - الأَْنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِِْجْمَاعَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخَسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ. (3)
وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ صُدُورَ الصَّغَائِرِ غَيْرِ الْخَسِيسَةِ أَيْضًا. (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نُبُوَّةٌ، وَنَبِيٌّ وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيِّ) .
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي بهامشه 5 / 125، وكشاف القناع 3 / 559، والقوانين الفقهية ص 274 ط. دار الكتاب العربي، والشرح الصغير 4 / 10، وأسنى المطالب 2 / 413.
(2) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 199، والبحر المحيط 4 / 170.
(3) البحر المحيط 4 / 171.
(4) فواتح الرحموت 2 / 99، والبحر المحيط 4 / 170.(38/218)
مَعْفُوَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعْفُوَّاتِ لُغَةً: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ مَعْفُوَّةٌ وَهِيَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْل عَفَا يَعْفُو، وَمِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ وَتَرْكُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ الْمَحْوِ وَالطَّمْسِ، يُقَال: عَفَوْتُ عَنْ فُلاَنٍ أَوْ عَنْ ذَنْبِهِ إِذَا صَفَحْتَ عَنْهُ وَأَعْرَضْتَ عَنْ عُقُوبَتِهِ وَهُوَ يُعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَالْجِنَايَةِ، فَإِِذَا اجْتَمَعَا عُدِّيَ إِلَى الأَْوَّل بِاللاَّمِ فَقِيل عَفَوْتُ لِفُلاَنِ عَنْ ذَنْبِهِ. (1)
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْعَفْوُ صَفْحُ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ وَمَحْوُهُ إِيَّاهَا بِتَفَضُّلِهِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمغرب.
(2) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 100.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 78، والخرشي 1 / 113، 114، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 79.(38/218)
ضَبْطُ الْمَعْفُوَّاتِ مِنَ الأَْنْجَاسِ
2 - الأَْصْل أَنَّ كُل مَأْمُورٍ يَشُقُّ عَلَى الْعِبَادِ فِعْلُهُ سَقَطَ الأَْمْرُ بِهِ وَكُل مَنْهِيٍّ شَقَّ عَلَيْهِمُ اجْتِنَابُهُ سَقَطَ النَّهْيُ عَنْهُ.
وَالْمَشَاقُّ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
- مَشَقَّةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فَيُعْفَى عَنْهَا إِجْمَاعًا كَمَا لَوْ كَانَتْ طَهَارَةُ الْحَدَثِ أَوِ الْخَبَثِ تُذْهِبُ النَّفْسَ أَوِ الأَْعْضَاءَ.
- وَمَشَقَّةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ الدُّنْيَا فَلاَ يُعْفَى عَنْهَا إِجْمَاعًا، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ.
- وَمَشَقَّةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، فَمُخْتَلَفٌ فِي إِلْحَاقِهَا بِالْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فَتُؤَثِّرُ فِي الإِِْسْقَاطِ أَوْ بِالْمَرْتَبَةِ الدُّنْيَا فَلاَ تُؤَثِّرُ، وَعَلَى هَذَا الأَْصْل يَتَخَرَّجُ الْخِلاَفُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ هَل يَشُقُّ اجْتِنَابُهَا أَمْ لاَ؟ . (1)
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ آرَاءَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَبْطِ الْمَعْفُوَّاتِ
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
3 - بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَسَائِل الْمَعْفُوَّاتِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَفْوَ عِنْدَهُمْ يَدْخُل عَلَى أَنْوَاعِ
__________
(1) الذخيرة للقرافي 1 / 196 - 197 ط. دار الغرب الإسلامي.(38/219)
النَّجَاسَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالْمُغَلَّظَةِ وَوَضَعُوا لِكُل نَوْعٍ تَقْدِيرَاتٍ وَضَوَابِطَ. فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: مَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الأَْدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لاَ وَإِِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمِّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِِلاَّ مُخَفَّفٌ وَلاَ نَظَرَ لِلأَْدِلَّةِ. (1)
4 - أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِيهِ: وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْوَزْنِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَال، (2) وَبِالْمِسَاحَةِ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ قَدْرُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِل مَفَاصِل الأَْصَابِعِ، (3) وَقَال مُنْلاَ مِسْكِينْ: وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تَغْرِفَ بِالْيَدِ ثُمَّ تَبْسُطَ فَمَا بَقِيَ مِنَ الْمَاءِ فَهُوَ مِقْدَارُ الْكَفِّ. (4)
وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ هُوَ الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلاَةِ بِهِ وَإِِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 82.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 45.
(3) مراقي الفلاح ص 84.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 211.(38/219)
بَاقِيَةٌ بِإِِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ بَلَعَتِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ. وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ عَلِمَ قَلِيل نَجَاسَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَفِي الدِّرْهَمِ يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ وَغَسْلُهَا وَلَوْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ لأَِنَّهَا سُنَّةٌ وَغَسْل النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ،
وَفِي الثَّانِي (أَيْ فِي أَقَل مِنَ الدِّرْهَمِ) يَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَل فَقَطْ مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ لاَ يُدْرِكَ جَمَاعَةً أُخْرَى وَإِِلاَّ مَضَى عَلَى صَلاَتِهِ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ أَقْوَى، كَمَا يَمْضِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إِذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ لأَِنَّ التَّفْوِيتَ حَرَامٌ وَلاَ مَهْرَبَ مِنَ الْكَرَاهَةِ إِلَى الْحَرَامِ. (1)
قَال الْحَمَوِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الإِِْصَابَةِ فَلَوْ كَانَ دُهْنًا نَجِسًا قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَقْتَ الإِِْصَابَةِ فَانْبَسَطَ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ لاَ يُمْنَعُ فِي اخْتِيَارِ الْمَرْغِينَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمُ الْمَنْعُ، وَلَوْ صَلَّى قَبْل انْبِسَاطِهِ جَازَتْ وَبَعْدَهُ لاَ، وَبَهْ أَخَذَ الأَْكْثَرُونَ. (2)
5 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا زَادَتْ عَلَى الدِّرْهَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الإِِْزَالَةِ، (3) وَعُفِيَ عَنِ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 84، وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 210.
(2) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر 1 / 107 ط. باكستان.
(3) مراقي الفلاح ص 84.(38/220)
دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ، (1) لأَِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَلِلرُّبُعِ حُكْمُ الْكُل فِي الأَْحْكَامِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمِّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ - كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ - ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ: فَقِيل رُبُعُ جَمِيعِ ثَوْبٍ عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رُبُعُ أَدُنَى ثَوْبٍ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلاَةُ كَالْمِئْزَرِ، وَقِيل رُبُعُ طَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْل وَالْكُمِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ وَعَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ وَمِثْلُهُ عَنْ مُحَمِّدٍ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمِّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَدَمَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحَدَّ لِذَلِكَ حَدًّا وَقَال: إِنَّ الْفَاحِشَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طِبَاعِ النَّاسِ فَوَقَفَ الأَْمْرُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ. (2)
وَقَال الشَّلَبِيُّ نَقْلاً عَنْ زَادِ الْفَقِيرِ: وَالأَْوْجَهُ اتِّكَالُهُ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى إِنِ اسْتَفْحَشَهُ مَنَعَ وَإِِلاَّ فَلاَ. (3)
وَقَالُوا: إِنَّمَا قُسِّمَتِ النَّجَاسَاتُ إِلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ وَكَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْخَفِيفَةِ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ وَإِِصَابَةِ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ تَنَجُّسُهَا بِهِمَا. (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 46.
(2) تبيين الحقائق 1 / 73 - 74.
(3) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 74.
(4) مراقي الفلاح ص 82.(38/220)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ خَفِيفَةٌ أَوْ غَلِيظَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ تَنَجَّسَ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ رُبُعٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، نَعَمْ تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِيمَا إِذَا أَصَابَ هَذَا الْمَائِعُ ثَوْبًا أَوْ بَدَنًا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّبُعُ. (1)
وَقَال أَيْضًا: إِنِ اخْتَلَطَتِ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ تُرَجَّحُ الْغَلِيظَةُ مُطْلَقًا وَإِلاَّ فَإِنْ تَسَاوَيَا أَوْ زَادَتِ الْغَلِيظَةُ فَكَذَلِكَ وَإِلاَّ تُرَجَّحُ الْخَفِيفَةُ. (2)
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
6 - قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ النَّجَاسَاتِ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ إِزَالَتِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلاَ تَجِبُ إِزَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَتَفَاحَشَ جِدًّا فَيُؤْمَرُ بِهَا. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ كُل نَجَاسَةٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، أَوْ يُمْكِنُ بِمَشَقَّةٍ كَثِيرَةٍ كَالْجُرْحِ يَمْصُل، وَالدُّمَّل يَسِيل، وَالْمَرْأَةِ تُرْضِعُ، وَالأَْحْدَاثِ تُسْتَنْكَحُ، وَالْغَازِي يَفْتَقِرُ إِلَى إِمْسَاكِ فَرَسِهِ. قَال ابْنُ شَاسٍ: وَخَصَّ مَالِكٌ هَذَا بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَتَرَجَّحَ فِي بَلَدِ الإِْسْلاَمِ (3) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ إِذَا رَآهُ فِي الصَّلاَةِ وَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ قَبْل الدُّخُول فِيهَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 214.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 213.
(3) عقد الجواهر الثمينة 1 / 19 ط. دار الغرب الإسلامي.(38/221)
وَقِيل: لاَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ الدَّمُ، وَهَل يَلْحَقُ بِهِ فِي الْعَفْوِ قَلِيل الْقَيْحِ وَقَلِيل الصَّدِيدِ؟ أَوْ يَلْحَقَانِ بِقَلِيل الْبَوْل؟ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ.
وَأَمَّا حَدُّ الْيَسِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَال عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ: لاَ خِلاَفَ عِنْدَنَا أَنَّ فَوْقَ الدِّرْهَمِ كَثِيرٌ، وَأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ، وَفِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ رِوَايَتَانِ لِعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ وَابْنِ حَبِيبٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ أَنَّ الْيَسِيرَ هُوَ مِقْدَارُ الْخِنْصِرِ وَأَنَّ الْخِلاَفَ فِيمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ إِلَى الْخِنْصِرِ. (1)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ.
وَهُوَ الأَْحْدَاثُ عَلَى الْمَخْرَجَيْنِ، وَالدَّمُ عَلَى السَّيْفِ الصَّقِيل، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْخُفُّ يُمْشَى بِهِ عَلَى أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا. وَفِيهِ قَوْلٌ:
إِنَّهُ يُغْسَل كَمَا لَوْ مُشِيَ بِهِ عَلَى الدَّمِ وَالْعَذِرَةِ. (2)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُزَال كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، وَعَيْنُهُ وَأَثَرُهُ. (3)
ثَالِثًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
7 - قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا
__________
(1) المرجع نفسه 1 / 20 - 21.
(2) المرجع نفسه 1 / 21.
(3) المرجع نفسه 1 / 22.(38/221)
بِاعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَهُوَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَكَذَا دَمُ الْقُمَّل وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الأَْكْثَرِينَ، لَكِنْ لَهُ شَرْطَانِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ بِفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ كَمَا لَوْ قَتَل فَتَلَوَّثَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْبَسِ الثَّوْبَ بَل حَمَلَهُ وَكَانَ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ وَيَلْتَحِقُ بِالْبَرَاغِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَمُ الْبَثَرَاتِ وَقَيْحُهَا وَصَدِيدُهَا حَتَّى لَوْ عَصَرَهُ وَكَانَ الْخَارِجُ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ دَمُ الدَّمَامِيل وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعُ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مِنْهُ.
2 - أَنْ لاَ يَتَفَاحَشَ بِالإِْهْمَال، فَإِنَّ لِلنَّاسِ عَادَةً فِي غَسْل الثِّيَابِ كُل حِينٍ فَلَوْ تَرَكَ غَسْل الثَّوْبِ سَنَةً مَثَلاً وَهُوَ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَل الْعَفْوِ، قَالَهُ الإِْمَامُ.
وَمِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ الْبَلْغَمُ إِذَا كَثُرَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَسِيل مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِذَا ابْتُلِيَ بِهِ وَنَحْوُهُ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسُ الْبَوْل، وَكَذَا أَوَانِي الْفَخَّارِ الْمَعْمُولَةِ بِالزِّبْل لاَ تَطْهُرُ، وَقَدْ سُئِل الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ، فَقَال: إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ.
الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَهُوَ دَمُ الأَْجْنَبِيِّ إِذَا انْفَصَل عَنْهُ ثُمَّ أَصَابَهُ مِنْ آدَمِيٍّ(38/222)
أَوْ بَهِيمَةٍ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الأَْصَحِّ دُونَ كَثِيرِهِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ طِينُ الشَّوَارِعِ الْمُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ.
وَالْقَلِيل مَا يَتَعَذَّرُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَغَيِّرُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي لاَ نَفْسَ لَهَا سَائِلَةً لاَ يُعْفَى عَنِ التَّغَيُّرِ الْكَثِيرِ فِي الأَْصَحِّ.
الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ دُونَ عَيْنِهِ وَهُوَ أَثَرُ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَكَذَلِكَ بَقَاءُ رِيحِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَوْنُهَا إِذَا عَسُرَ زَوَالُهُ.
الرَّابِعُ: مَا لاَ يُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ وَلاَ عَيْنِهِ وَلاَ قَلِيلِهِ وَلاَ كَثِيرِهِ وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ. (1)
8 - وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ النَّجَاسَاتِ بِاعْتِبَارِ الْعَفْوِ عَنْهَا إِذَا حَلَّتْ فِي الْمَاءِ أَوِ الثَّوْبِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ صُورَةً:
مَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَالْمَيْتَةُ الَّتِي لاَ دَمَ لَهَا كَالدُّودِ وَالْخُنْفُسَاءِ أَصْلاً أَوْ لَهَا دَمٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَسِيل كَالْوَزَغِ، وَغُبَارُ النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ، وَقَلِيل دُخَانِ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ أَوْقَدَ نَجَاسَةً تَحْتَ الْمَاءِ، وَاتَّصَل بِهِ قَلِيل دُخَانٍ لَمْ يَنْجُسْ، وَقَلِيل الشَّعْرِ، وَقَلِيل الرِّيشِ النَّجِسِ لَهُ حُكْمُ الشَّعْرِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلاَمُهُمْ إِلاَّ أَنَّ أَجَزَاءَ الشَّعْرَةِ
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 264 - 266.(38/222)
الْوَاحِدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا حُكْمُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْهِرَّةُ إِذَا وَلَغَتْ بَعْدَ أَكْلِهَا فَأْرَةً، وَأَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي السَّبُعَ بِالْهِرَّةِ وَخَالَفَهُ الْغَزَالِيُّ لاِنْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ لِعَدَمِ الاِخْتِلاَطِ، وَمَا اتَّصَل بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا، خَرَّجَهُ ابْنُ الصَّلاَحِ، وَأَفْوَاهُ الْمَجَانِينِ كَالصِّبْيَانِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ طَيْرٌ عَلَى مَنْفَذِهِ نَجَاسَةٌ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ وَلاَ يَصِحُّ التَّعْلِيل بِانْكِمَاشِهِ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّا لَوْ تَحَقَّقْنَا وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَنْفَذِ الطَّيْرِ وَعَلَيْهِ ذَرْقٌ عُفِيَ عَنْهُ، وَإِذَا نَزَل الطَّائِرُ فِي الْمَاءِ وَغَاصَ وَذَرَقَ فِيهِ عُفِيَ عَنْهُ لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ طَرَفُ الْمَاءِ الَّذِي لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَيَدُل لَهُ مَا ذُكِرَ فِي السَّمَكِ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ لَوْ جَعَل سَمَكًا فِي حُبٍّ مَا ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّهُ يَبُول فِيهِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْبَنْدَنِيجِيِّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ نَجَسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْهُ لاَ يُمْكِنُ، وَحَكَى الْعِجْلِيُّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ وُقُوعَ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ الْمَنْفَذِ فِي الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ عَدَمُ التَّنْجِيسِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِمَقْل الذُّبَابِ (1) .
وَإِذَا شَرِبَ مِنَ الْمَاءِ طَائِرٌ عَلَى فِيهِ نَجَاسَةٌ
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقل الذباب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 250) من حديث أبي هريرة.(38/223)
وَلَمْ تَتَخَلَّل غَيْبَتُهُ فَيَنْبَغِي إِلْحَاقُهُ بِالْمَنْفَذِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِهِ عَنْهُ، وَوَيْنَمُ الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لاَ يُنَجِّسُهُ لِعُسْرِ صَوْنِهِ، وَمِثْلُهُ بَوْل الْخُفَّاشِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل أَوِ الْمَائِعِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ إِذَا انْفَصَلَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ وَلاَ زَائِدَةِ الْوَزْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً مَعَ أَنَّهَا لاَقَتْ نَجِسًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ دُونَ الثَّوْبِ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لاَ دَمَ لَهَا سَائِلٌ وَخَرْءِ السَّمَكِ وَمَنْفَذِ الطَّائِرِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ دُونَ الْمَاءِ وَهُوَ الدَّمُ الْيَسِيرُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهِ طِينُ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ، فَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَعَلَيْهَا قَلِيل دَمِ بُرْغُوثٍ أَوْ قَمْلٍ أَوْ غَمَسَ فِيهِ ثَوْبًا فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ تَنَجَّسَ. وَفَرَّقَ الْعِمْرَانِيُّ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْمَاءِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ الثِّيَابَ لاَ يُمْكِنُ صَوْنُهَا عَنِ النَّجَاسَةِ بِخِلاَفِ الأَْوَانِي فَإِنَّ صَوْنَهَا مُمْكِنٌ بِالتَّغْطِيَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ غَسْل الثِّيَابِ كُل وَقْتٍ يَقْطَعُهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِيهَا بِخِلاَفِ الْمَاءِ وَمِنْ ذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي فِيهِ دَمُ بُرْغُوثٍ(38/223)
يُصَلِّي فِيهِ وَلَوْ وَضَعَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ يُنَجِّسُهُ فَيَحْتَاجُ الَّذِي يَغْسِلُهُ أَنْ يُطَهِّرَهُ بَعْدَ الْغَسْل فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَى مَحَل الاِسْتِنْجَاءِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ حَتَّى لَوْ سَال بِعَرَقٍ وَنَحْوِهِ وَوَقَعَ فِي الثَّوْبِ عُفِيَ عَنْهُ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوِ اتَّصَل بِالْمَاءِ نَجَّسَهُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لاَ يُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ مِنْ سَائِرِ الأَْبْوَال وَالأَْرْوَاثِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ. (1)
رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ
9 - الأَْصْل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لاَ يُدْرِكُهُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل الذُّبَابِ وَالْبَقِّ وَمَا أَشْبَهَهُ، (2) لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، (3) وَقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِل الأَْنْجَاسَ سَبْعًا "، (4) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْدِلَّةِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا عَنْ هَذَا الأَْصْل بَعْضَ النَّجَاسَاتِ وَصَرَّحُوا بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهَا (5) مِنْهَا:
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 266 - 268.
(2) المستوعب 1 / 342 نشر مكتبة المعارف - الرياض.
(3) سورة المدثر / 4.
(4) أثر ابن عمر " أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا ". أورده ابن قدامة في المغني (1 / 54) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد لمن أخرجه.
(5) مطالب أولي النهى 1 / 235.(38/224)
10 - الدَّمُ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي الصَّلاَةِ دُونَ الْمَائِعَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ فَإِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفُرِهَا "، (1) وَهَذَا يَدُل عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ لأَِنَّ الرِّيقَ لاَ يُطَهِّرُ وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْل، وَمِثْلُهُ لاَ يَخْفَى عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَلاَ يَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِهِ، وَلأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَأَثَرِ الاِسْتِجْمَارِ (2) وَيُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُصَلٍّ بِأَنْ أَصَابَتِ الْمُصَلِّيَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ. (3)
وَقِيل: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ، (4) وَالْيَسِيرُ: الَّذِي لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ، وَالْكَثِيرُ: مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ.
وَالدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ لاَ الْكَلْبَ وَلاَ الْخِنْزِيرَ (5) .
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 412 ط. السلفية) .
(2) المبدع 1 / 246.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 102 والإنصاف 1 / 325 وما بعدها.
(4) المبدع 1 / 247.
(5) المرجع نفسه.(38/224)
11 - مَا تَوَلَّدَ مِنَ الدَّمِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهُمَا أَوْلَى لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِمَا، وَلِذَلِكَ قَال أَحَمْدُ: هُوَ أَسْهَل مِنَ الدَّمِ فَعَلَى هَذَا يُعْفَى مِنْهُ عَنْ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الدَّمِ، لأَِنَّ هَذَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ لاِسْتِحَالَتِهِ مِنَ الدَّمِ، وَلأَِحْمَدَ قَوْلٌ بِطَهَارَةِ قَيْحٍ وَمِدَّةٍ وَصَدِيدٍ. (1)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، وَفِي وَجْهٍ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ. (2)
12 - وَيُعْفَى أَثَرُ الاِسْتِجْمَارِ بِمَحَلِّهِ، بَعْدَ الإِْنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ بِلاَ خِلاَفٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَعَدَّى مَحَلَّهُ إِلَى الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. (3)
13 - وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ سَلَسِ بَوْلٍ بَعْدَ كَمَال التَّحَفُّظِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. (4)
14 - وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دُخَانِ نَجَاسَةٍ وَبُخَارِهَا وَغُبَارِهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِفَةٌ فِي الشَّيْءِ
__________
(1) المبدع 1 / 248، والمغني 2 / 80.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 103، ومطالب أولي النهى 1 / 235، والإنصاف 1 / 326.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 103، وكشاف القناع 1 / 192، ومطالب أولي النهى 1 / 235.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 103، ومطالب أولي النهى 1 / 236.(38/225)
الطَّاهِرِ، لأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَال جَمَاعَةٌ: مَا لَمْ يَتَكَاثَفْ.
15 - وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ مَاءٍ تَنَجَّسَ بِشَيْءٍ مَعْفُوٍّ عَنْ يَسِيرِهِ كَدَمٍ وَقَيْحٍ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، قَالَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتَيْهِ، وَعِبَارَتُهُ: وَعَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، وَأَطْلَقَ الْمُنَقِّحُ فِي التَّنْقِيحِ الْقَوْل عَنِ ابْنِ حَمْدَانَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ. (1)
16 - وَيُعْفَى عَنْ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهَا لِلتَّضَرُّرِ بِهِ وَكَذَا يُعْفَى عَنْ نَجَاسَةٍ دَاخِل أُذُنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضَرُّرِ أَيْضًا وَهُوَ مُتَّجَهٌ كَمَا قَال الرَّحِيبَانِيُّ. (2)
17 - وَيُعْفَى عَنْ حَمْل كَثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ لِلضَّرُورَةِ. (3)
18 - وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَمِثْلُهُ تُرَابٌ، قَال فِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا غُبَارٌ نَجِسٌ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، (4) وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا عُفِيَ عَنْ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 103، ومطالب أولي النهى 1 / 236.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 103، ومطالب أولي النهى 1 / 236 - 237.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 237.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 237.(38/225)
يَسِيرِهِ كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ عُفِيَ عَنْ أَثَرِ كَثِيرِهِ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ بَعْدَ مَسْحٍ، لأَِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْمَسْحِ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ مَحَلُّهُ فَعُفِيَ عَنْهُ كَيَسِيرِ غَيْرِهِ. (1)
وَقَالُوا: يُضَمُّ نَجَسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مُتَفَرِّقٌ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَ فِيهِ بُقَعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ أَوْ صَدِيدٍ فَإِنْ صَارَ بِالضَّمِّ كَثِيرًا لَمْ تَصِحَّ الصَّلاَةُ فِيهِ وَإِلاَّ عُفِيَ عَنْهُ، وَلاَ يُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ بَل يُعْتَبَرُ كُل ثَوْبٍ عَلَى حِدَتِهِ. (2)
وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلاَةَ تَصِحُّ مَعَهُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَوْ وَقَعَ هَذَا الْيَسِيرُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَجَّسَهُ. (3)
أَعْيَانُ الْمَعْفُوَّاتِ مِنَ الأَْنْجَاسِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِل الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي ضَوَابِطِ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَتَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ.
وَلِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا وَمَوْقِفِ الْفُقَهَاءِ تُجَاهَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نَجَاسَةٌ، عَفْوٌ ف 7 - 11) .
الْمَعْفُوَّاتُ فِي الصَّلاَةِ
20 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 235.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 103.
(3) المستوعب 1 / 342، وانظر كشاف القناع 1 / 190.(38/226)
الصَّلاَةِ فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلاَّ بِسَتْرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فِيهَا قَصْدًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا انْكَشَفَتْ بِلاَ قَصْدٍ وَفِي الْمِقْدَارِ الْمَعْفُوِّ عَنِ انْكِشَافِهِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ: صَلاَةٌ ف 120) .
الْمَعْفُوَّاتُ فِي الزَّكَاةِ
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ أَوْقَاصِ السَّائِمَةِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ: أَوْقَاصٌ ف 7 - 9) .
وَأَمَّا سَائِرُ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ كَالنَّقْدَيْنِ فَلاَ يَجْرِي الْعَفْوُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ عَفْوٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خُمُسَ نِصَابٍ، ثُمَّ كُل مَا زَادَ عَلَى الْخُمُسِ عَفْوٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خُمُسًا آخَرَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (زَكَاةٌ ف 72، وَعَفْوٌ ف 12) .
مُعَلَّمٌ
انْظُرْ: بَيْعٌ، صَيْدٌ، مُعَلَّمٌ(38/226)
مُعَلِّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَلِّمِ فِي اللُّغَةِ - اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَلَّمَ، يُقَال: عَلَّمَ فُلاَنًا الشَّيْءَ تَعْلِيمًا: جَعَلَهُ يَتَعَلَّمُهُ. (1)
وَالْمُعَلِّمُ مَنْ يَتَّخِذُ مِهْنَةَ التَّعْلِيمِ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي مُمَارَسَةِ إِحْدَى الْمِهَنِ اسْتِقْلاَلاً، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا اللَّقَبُ أَرْفَعَ الدَّرَجَاتِ فِي نِظَامِ الصُّنَّاعِ كَالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْمُعَلِّمِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنْ حَيْثُ إِطْلاَقُهُ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ كَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ.
كَمَا أَطْلَقُوهُ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ صَنْعَةً قَدْ بَرَعَ فِيهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) الصحاح للجوهري، والمعجم الوسيط، ولسان العرب (قسم المصطلحات العلمية والفنية) .
(3) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 349، والحطاب 5 / 406، والمدونة 4 / 419، ونهاية المحتاج 5 / 308، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 271، 275، والفتاوى الهندية 4 / 450.(38/227)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَلِّمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَلِّمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
فَضْل الْمُعَلِّمِ
2 - وَرَدَ فِي فَضْل مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ النَّافِعَ بَعْضُ الأَْحَادِيثِ مِنْهَا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْل السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتُ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ (1) .
قِيل: أَرَادَ بِالْخَيْرِ هُنَا عِلْمَ الدِّينِ وَمَا بِهِ نَجَاةُ الرَّجُل، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُعَلِّمَ مُطْلَقًا لِيُعْلَمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدُّعَاءِ لأَِجْل تَعْلِيمِ عِلْمٍ مُوَصِّلٍ إِلَى الْخَيْرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الأَْفْضَلِيَّةِ بِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ مُتَعَدٍّ وَنَفْعَ الْعِبَادَةِ قَاصِرٌ. (2)
قَال الْغَزَالِيُّ: الْمُعَلِّمُ مُتَصَرِّفٌ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ وَنَفُوسِهِمْ، وَأَشْرَفُ مَوْجُودٍ عَلَى الأَْرْضِ جَنْسُ الإِْنْسِ، وَأَشْرَفُ جُزْءٍ مِنْ جَوَاهِرِ الإِْنْسَانِ قَلْبُهُ، وَالْمُعَلِّمُ مُشْتَغِلٌ بِتَكْمِيلِهِ وَتَجْلِيَتِهِ وَتَطْهِيرِهِ وَسِيَاقَتِهِ إِلَى الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ: عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ وَجْهٍ: خِلاَفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ أَجْل خِلاَفَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَتَحَ عَلَى قَلْبِ الْعَالِمِ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ صِفَاتِهِ
__________
(1) حديث: " إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض. . " أخرجه الترمذي (5 / 50) من حديث أبي أمامة وقال: " هذا حديث غريب ".
(2) المرقاة في شرح المشكاة 1 / 281، 282.(38/227)
فَهُوَ كَالْخَازِنِ لأَِنْفَسِ خَزَائِنِهِ، ثُمَّ هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الإِْنْفَاقِ مِنْهُ عَلَى كُل مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَأَيُّ رُتْبَةٍ أَجَل مِنْ كَوْنِ الْعَبْدِ وَاسِطَةً بَيْنَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَسِيَاقَتِهِمْ إِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى. (1)
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَحْوَال الْمُعَلِّمِ: حَال التَّبْصِيرِ قَال: وَهُوَ أَشْرَفُ الأَْحْوَال، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِل وَعَلَّمَ فَهُوَ الَّذِي يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ كَالشَّمْسِ تُضِيءُ لِغَيْرِهَا وَهِيَ وَضِيئَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَكَالْمِسْكِ الَّذِي يُطَيِّبُ غَيْرَهُ وَهُوَ طَيِّبٌ. (2)
حَقُّ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ
3 - يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِمُعَلِّمِهِ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الاِحْتِرَامِ وَيَرَى كَمَال أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 10)
اسْتِحْقَاقُ الْمُعَلِّمِ الأُْجْرَةَ:
4 - إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِصَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ فَلاَ يَطْلُبُ عَلَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ أَجْرًا، وَلاَ يَقْصِدُ بِهِ جَزَاءً وَلاَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 13.
(2) الإحياء 1 / 55.(38/228)
شُكُورًا، بَل يُعَلِّمُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَلاَ يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَّةً عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الْمِنَّةُ لاَزِمَةً عَلَيْهِمْ، بَل يَرَى الْفَضْل لَهُمْ إِذْ هَذَّبُوا قُلُوبَهُمْ لأَِنْ تَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِزِرَاعَةِ الْعُلُومِ فِيهَا، كَالَّذِي يُعِيرُكَ الأَْرْضَ لِتَزْرَعَ فِيهَا لِنَفْسِكَ زِرَاعَةً فَمَنْفَعَتُكَ بِهَا تَزِيدُ عَلَى مَنْفَعَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ فَكَيْفَ تُقَلِّدُهُ مِنَّةً وَثَوَابُكَ فِي التَّعْلِيمِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْمُتَعَلِّمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْلاَ الْمُتَعَلِّمُ مَا نِلْتَ هَذَا الثَّوَابَ فَلاَ تَطْلُبِ الأَْجْرَ إِلاَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (1) كَمَا قَال تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} . (2)
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَصَّلُوا التَّمَوُّل فِي حُكْمِ أَخْذِ الْمُعَلِّمِ الأَْجْرَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالتَّعْلِيمِ حِسْبَةً لِوَجْهِ اللَّهِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ أَجْرٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ يَقُومُ بِعَمَلِهِ حِسْبَةً فَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَال مَا يُعِينُهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَيُسَمَّى مَا يُعْطَاهُ رِزْقًا وَلاَ يُسْمَّى أَجْرًا قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ وَيَرْزُقَهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَال لأَِنَّ فِي ذَلِكَ قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْجِهَادِ. (3)
__________
(1) الإحياء 1 / 56، والمجموع للنووي 1 / 28.
(2) سورة هود / 29.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 448، وحاشية ابن عابدين 5 / 35، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 16، 61، وحاشية الجمل 3 / 541، 545، وكشاف القناع 4 / 12، 13، والآداب الشرعية 2 / 53.(38/228)
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوَّل مَنْ جَمَعَ الأَْوْلاَدَ فِي الْمَكْتَبِ وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ أَنْ يُلاَزِمَهُمْ لِلتَّعْلِيمِ وَجَعَل رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال. (1)
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّمُ يَقُومُ بِالتَّعْلِيمِ نَظِيرَ أَجْرٍ مَعْلُومٍ مُشْتَرَطٍ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 15، بَيْتُ الْمَال ف 12، إِجَارَةٌ ف 109 - 110) .
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ:
5 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ أَخْذَ الأَْجْرِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرْفَةِ وَالصَّنْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّفْصِيل بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُشْتَرَطُ أَوْ يُسْتَحَقُّ مِنَ الأَْجْرِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لِيُعَلِّمَ وَلَدَهُ حِرْفَةً مِنَ الْحِرَفِ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ بِأَنِ اسْتَأْجَرَ شَهْرًا مَثَلاً لِيُعَلِّمَهُ هَذَا الْعَمَل يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَنْعَقِدُ عَلَى الْمُدَّةِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمُعَلِّمُ الأَْجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَلَّمَ أَوْ لَمْ يُعَلِّمْ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُدَّةَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فَاسِدًا، وَلَوْ عَلَّمَهُ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْل وَإِلاَّ فَلاَ، فَالْحَاصِل أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ، هَكَذَا فِي الْمُضْمَرَاتِ.
وَإِنْ دَفَعَ ابْنَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيُعَلِّمَهُ حِرْفَةَ كَذَا
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 35.(38/229)
وَيَعْمَل لَهُ الاِبْنُ نِصْفَ عَامٍ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ عَلَّمَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل، كَذَا فِي الْوَجِيزِ لِلْكَرْدَرِيِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لَمِنْ لَهُ رَقِيقٌ أَوْ وَلَدٌ دَفْعُهُ لَمِنْ يُعَلِّمُهُ صَنِعَةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ عَمَل الْغُلاَمِ سَنَةً فِي الصَّنْعَةِ الَّتِي يَتَعَلَّمُهَا لاَ بِعَمَلِهِ لِلْمُعَلِّمِ فِي صَنْعَةٍ غَيْرِ الَّتِي يَتَعَلَّمُهَا، لَكِنْ نُقِل عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ مَنْعُ الإِْجَارَةِ بِعَمَلِهِ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي الصِّبْيَانِ بِاعْتِبَارِ الْبَلاَدَةِ وَالْحَذَاقَةِ فَهُوَ الآْنَ مَجْهُولٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فَكَأَنَّ الْمُجِيزَ رَآهُ مِنَ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ فَإِنْ عَيَّنَا زَمَنًا لِلْعَمَل عُمِل بِهِ أَيْ إِنْ عَيَّنَا زَمَنَ ابْتِدَاءِ السَّنَةِ عُمِل بِهِ وَإِنْ مَاتَ الْمُتَعَلِّمُ نِصْفَ السَّنَةِ فَإِنَّ قِيمَةَ عَمَلِهِ تُوَزَّعُ عَلَى قِيمَةِ التَّعْلِيمِ مِنْ صُعُوبَةٍ وَسُهُولَةٍ وَيُنْظَرُ مَا يَنُوبُ قِيمَةَ تَعْلِيمِهِ إِلَى مَوْتِهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَمَل، فَإِنْ حَصَل لِلْمُعَلِّمِ مِنْ قِيمَةِ الْعَمَل قَدْرَ قِيمَةِ تَعْلِيمِهِ فَلاَ كَلاَمَ لَهُ، وَإِنْ زَادَ لَهُ شَيْءٌ بِأَنْ كَانَ قِيمَةُ تَعْلِيمِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ عَمَلِهِ قَبْل مَوْتِهِ رَجَعَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ عَمَلِهِ فِي السَّنَةِ يُسَاوِي اثْنَيْ عَشَرَ وَمَاتَ فِي نِصْفِهَا وَالْحَال أَنَّ تَعْلِيمَهُ فِي النِّصْفِ الأَْوَّل يُسَاوِي ثَمَانِيَةً لِصُعُوبَةِ تَعْلِيمِهِ فِي الاِبْتِدَاءِ وَعَمَلُهُ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 448.(38/229)
النِّصْفِ الأَْوَّل قَبْل مَوْتِهِ يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّمْ بِخِلاَفِ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يُسَاوِي عَشَرَةً لِمُقَارَبَتِهِ لِلتَّعْلِيمِ فَلِلْمُعَلِّمِ جِهَةَ الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ أُجْرَةُ تَعْلِيمِهِ قَبْل مَوْتِهِ وَلِلْوَلَدِ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ دِرْهَمَانِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ قَبْل مَوْتِهِ فَيَتَخَاصَمَانِ فِي دِرْهَمَيْنِ وَيَرْجِعُ الْمُعَلِّمُ بِسِتَّةٍ فَيَكُونُ الْمُعَلِّمُ قَدِ اسْتَوْفَى ثَمَانِيَةً هِيَ ثُلُثَا أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ (1) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أُجْرَةَ تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ حِرْفَةً تَكُونُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلاَّ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ (2) . (ر: إِجَارَةٌ ف، تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 16)
مَا يُعْطَى لِلْمُعَلِّمِ زِيَادَةً عَلَى الأُْجْرَةِ
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ كَمَا يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ لَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَذَاقَةَ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالإِْصْرَافَةِ (وَهُوَ مَا يُعْطَى لِلْمُعَلِّمِ عِنْدَ حِفْظِ الصَّبِيِّ الْقُرْآنَ أَوْ بَعْضَ سُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ) .
وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُعَلِّمُ هَذِهِ الإِْصْرَافَةَ إِنِ اشْتُرِطَتْ أَوْ جَرَى بِهَا عُرْفٌ، وَيُقْضَى لِلْمُعَلِّمِ بِهَا عَلَى الأَْبِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ عَدَمَهَا،
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 10.
(2) حاشية الجمل 1 / 290، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 375.(38/230)
وَهَذَا قَوْل سَحْنُونٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَال أَبُو إِبْرَاهِيمَ الأَْعْرَجُ إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا بِالشَّرْطِ وَلاَ يُقْضَى بِهَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَوْ جَرَى بِهَا عُرْفٌ وَلاَ حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى حَال الأَْبِ مِنْ يُسْرٍ وَعُسْرٍ وَيُنْظَرُ فِيهَا أَيْضًا إِلَى حَال الصَّبِيِّ فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَثُرَتِ الإِْصْرَافَةُ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ، وَمَحَلُّهَا مِنَ السُّوَرِ مَا تَقَرَّرَ بِهِ الْعُرْفُ نَحْوَ: وَالضُّحَى، وَسَبِّحْ، وَعَمَّ وَتَبَارَكَ. فَإِنْ أَخْرَجَ الأَْبُ وَلَدَهُ مِنْ عِنْدِ الْمُعَلِّمِ قَبْل وُصُولِهَا فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي إِلَيْهَا يَسِيرًا لَزِمَتِ الأَْبَ، وَإِلاَّ لَمْ تَلْزَمْ إِلاَّ بِشَرْطٍ فَيَلْزَمُ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا مَضَى، وَلاَ يُقْضَى بِهَا فِي مِثْل الأَْعْيَادِ وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ، وَإِذَا مَاتَ الأَْبُ أَوِ الْوَلَدُ قَبْل الْقَضَاءِ بِهَا سَقَطَتْ كَمَا تَسْقُطُ إِذَا مَاتَ الْمُعَلِّمُ وَلاَ طَلَبَ لِوَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا يُهْدَى لِلْمُعَلِّمِ إِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ لأَِجْل مَا يَحْصُل مِنْهُ مِنَ التَّعْلِيمِ فَالأَْوْلَى عَدَمُ الْقَبُول لِيَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ وَصَلاَحِهِ فَالأَْوْلَى الْقَبُول (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ وَالْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 164، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 16، 17.
(2) حاشية الجمل 5 / 347، ونهاية المحتاج 8 / 243، 244.(38/230)
صُورَةً تَفِيدُ جَوَازَ إِعْطَاءِ الْمُعَلِّمِ زِيَادَةً، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: مُعَلِّمٌ طَلَبَ مِنَ الصِّبْيَانِ أَثَمَانَ الْحُصْرِ فَجَمَعَهَا فَشَرَى بِبَعْضِهَا وَأَخَذَ بَعْضَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ لَهُ مِنَ الآْبَاءِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ أَنَّهُمْ لاَ يَتَأَمَّلُونَ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا يُشْتَرَى بِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ غَالِبًا بِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ يَزِيدُ، وَالْحَاصِل أَنَّ الْعَادَةَ مُحَكَّمَةٌ (1) .
وُجُوبُ تَحَرِّي الْحَلاَل فِي الأَْجْرِ:
7 - الْمُعَلِّمُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الأَْجْرَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِمَّنْ يُعَلِّمَهُ يَكْتَسِبُهُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ بِسَبَبٍ حَرَامٍ مِنْ مَكْسٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلاَ يَأْخُذْ مِمَّا أَتَى بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ شَيْئًا، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُحَذَّرِ مِنْهَا مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ مِثْل أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وَجْهٍ مَسْتُورٍ بِالْعِلْمِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْحَلاَل فَلاَ يَأْخُذْ شَيْئًا وَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل إِذْ إِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَرْبَابِهِ بِالظُّلْمِ بِالْمُصَادَرَةِ وَالْقَهْرِ وَهُوَ يَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِ أَنَّهُ حَلاَلٌ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي التَّحْرِيمِ مِنَ الأَْوَّل وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا (2) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 271.
(2) المدخل ابن الحاج 2 / 320.(38/231)
وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُعَلِّمِ قَبُول هَدِيَّتِهِمْ أَوْ يَسْتَخْدِمُهُمْ أَوْ يُرْسِلُهُمْ إِلَى نَحْوِ جِنَازَةٍ أَوْ مَوْلُودٍ لِيَقُولُوا شَيْئًا وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا يُدْفَعُ لَهُمْ فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ جَرْحَهُ فِي شَهَادَتِهِ وَإِمَامَتِهِ إِلاَّ مَا فَضَل مِنْ غِذَائِهِمْ مِمَّا تَسْمَحُ بِهِ النُّفُوسُ غَالِبًا وَإِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْخِدْمَةِ مُعْتَادًا وَخَفَّ بِحَيْثُ لاَ يَشْغَل الْوَلَدَ فَيَجُوزُ (1) .
مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُعَلِّمُ
8 - يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً بِعِلْمِهِ فَلاَ يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فِعْلُهُ لأَِنَّ الْعِلْمَ يُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ، وَالْعَمَل يُدْرَكُ بِالأَْبْصَارِ، وَأَرْبَابُ الأَْبْصَارِ أَكْثَرُ فَإِنْ خَالَفَ الْعَمَل الْعِلْمَ مَنَعَ الرُّشْدَ، وَكُل مَنْ تَنَاوَل شَيْئًا وَقَال لِلنَّاسِ لاَ تَتَنَاوَلُوهُ فَإِنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ سَخِرَ النَّاسُ بِهِ وَاتَّهَمُوهُ وَزَادَ حِرْصُهُمْ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ فَيَقُولُونَ لَوْلاَ أَنَّهُ أَطْيَبُ الأَْشْيَاءِ وَأَلَذُّهَا لَمَا كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ قَال تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (2) .
وَلِذَلِكَ كَانَ وِزْرُ الْعَالِمِ فِي مَعَاصِيهِ أَكْثَرَ مِنْ وِزْرِ الْجَاهِل إِذْ يَزِل بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ وَيَقْتَدُونَ بِهِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا (3) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 165.
(2) سورة البقرة / 44.
(3) إحياء علوم الدين 1 / 58، 59.(38/231)
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْع بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا وَالْخِلاَل الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا مِنَ التَّزَهُّدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّل مِنْهَا وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِفَوَاتِهَا وَالسَّخَاءِ وَالْجُودِ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْخَلاَعَةِ، وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ دَنِيءِ الاِكْتِسَابِ وَمُلاَزَمَةِ الْوَرَعِ وَالْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَاجْتِنَابِ الضَّحِكِ وَالإِْكْثَارِ مِنَ الْمُزَاحِ وَمُلاَزَمَةِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ كَالتَّنْظِيفِ بِإِزَالَةِ الأَْوْسَاخِ وَتَنْظِيفِ الإِْبِطِ وَإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَاجْتِنَابِ الرَّوَائِحِ الْمَكْرُوهَةِ (1) .
وَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالإِْعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ.
وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الْحَسَدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى اقْتَضَتْ جَعْل هَذَا الْفَضْل فِي هَذَا الإِْنْسَانِ فَلاَ يَعْتَرِضُ وَلاَ يَكْرَهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الإِْلَهِيَّةُ، وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الرِّيَاءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ لاَ يَنْفَعُونَهُ وَلاَ يَضُرُّونَهُ حَقِيقَةً فَلاَ يَتَشَاغَل بِمُرَاعَاتِهِمْ فَيُتْعِبَ نَفْسَهُ وَيَضُرُّ دِينَهُ وَيُحْبِطُ عَمَلَهُ وَيَرْتَكِبُ سَخَطَ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 28، وينظر تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص 30 وما بعدها.(38/232)
وَيُفَوِّتُ رِضَاهُ.
وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الإِْعْجَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُ عَارِيَّةٌ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَعْجَبَ بِشَيْءٍ لَمْ يَخْتَرِعْهُ وَلَيْسَ مَالِكًا لَهُ وَلاَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ دَوَامِهِ، وَطَرِيقُهُ فِي نَفْيِ الاِحْتِقَارِ التَّأَدُّبُ بِمَا أَدَّبَنَا اللَّهُ تَعَالَى، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) ، وَقَال تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) فَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَرَاهُ دُونَهُ أَتْقَى لِلَّهِ تَعَالَى وَأَطْهَرَ قَلْبًا وَأَخْلَصَ نِيَّةً وَأَزْكَى عَمَلاً (3) ، وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إِذَا فَعَل فِعْلاً صَحِيحًا جَائِزًا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ وَلَكِنْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُخِلٌّ بِالْمُرُوءَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَرَاهُ يَفْعَل ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْفِعْل لِيَنْتَفِعُوا وَلِئَلاَّ يَأْثَمُوا بِظَنِّهِمُ الْبَاطِل وَلِئَلاَّ يَنْفِرُوا عَنْهُ وَيَمْتَنِعَ الاِنْتِفَاعُ بِعِلْمِهِ (4)
وَمِنْ هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمِنْ رَآهُ مَعَ زَوْجَتِهِ: " هِيَ صَفِيَّةُ أَوْ هَذِهِ صَفِيَّةُ " (5) .
__________
(1) سورة النجم / 32.
(2) سورة الحجرات / 13.
(3) المجموع 1 / 28.
(4) المجموع 1 / 29.
(5) حديث: " قوله صلى الله عليه وسلم لمن رآه مع زوجته: " هي صفية، أو هذه صفية ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 282) من حديث صفية.(38/232)
تَصَرُّفُ الْمُعَلِّمِ مَعَ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ
9 - قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلِّمَ عَلَى التَّدْرِيجِ بِالآْدَابِ السُّنِّيَّةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ بِالآْدَابِ وَالدَّقَائِقِ الْخَفِيَّةِ وَتَعَوُّدِهِ الصِّيَانَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ الْكَامِنَةِ وَالْجَلِيَّةِ، وَأَوَّل ذَلِكَ أَنْ يُحَرِّضَهُ بِأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُتَكَرِّرَاتِ عَلَى الإِْخْلاَصِ وَالصَّدْقِ وَحُسْنِ النِّيَّاتِ وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ وَأَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَمَاتِ، وَيُعَرِّفَهُ أَنَّ بِذَلِكَ تَتَفَتَّحُ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْمَعَارِفِ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ وَتَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ وَاللَّطَائِفِ وَيُبَارَكُ لَهُ فِي حَالِهِ وَعِلْمِهِ وَيُوَفَّقُ لِلإِْصَابَةِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَحُكْمِهِ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَغِّبَهُ فِي الْعِلْمِ وَيُذَكِّرَهُ بِفَضَائِلِهِ وَفَضَائِل الْعُلَمَاءِ وَأَنَّهُمْ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنُوَ عَلَيْهِ وَيَعْتَنِيَ بِمَصَالِحِهِ كَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفَائِهِ وَسُوءِ أَدَبِهِ، وَيَعْذُرَهُ فِي سُوءِ أَدَبٍ وَجَفْوَةٍ تَعْرِضُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ فَإِنَّ الإِْنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنَّقَائِصِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِّ، فَفِي
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 30.(38/233)
الْحَدِيثِ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ (1) ".
وَيَنْبَغِي أَلاَّ يَدَّخِرَ عَنِ الطَّلَبَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الطَّالِبُ أَهْلاً لِذَلِكَ وَلاَ يُلْقِي إِلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَتَأَهَّل لَهُ لِئَلاَّ يُفْسِدَ عَلَيْهِ حَالَهُ، فَلَوْ سَأَلَهُ الْمُتَعَلِّمُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَنْفَعُهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ شُحًّا بَل شَفَقَةً وَلُطْفًا (2) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُمْ وَيَسْأَل عَمَّنْ غَابَ مِنْهُمْ.
10 - وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلاً وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَيُفَهِّمَ كُل وَاحِدٍ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ فَلاَ يُعْطِيهِ مَا لاَ يَحْتَمِل وَلاَ يُقَصِّرُ بِهِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ بِلاَ مَشَقَّةٍ، وَيُخَاطِبُ كُل وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ دَرَجَتِهِ وَبِحَسَبِ فَهْمِهِ وَهِمَّتِهِ فَيَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ لَمِنْ يَفْهَمُهَا فَهْمًا مُحَقَّقًا، وَيُوَضِّحُ الْعِبَارَةَ لِغَيْرِهِ وَيُكَرِّرُهَا لَمِنْ لاَ يَحْفَظُهَا إِلاَّ بِتَكْرَارٍ وَيَذْكُرُ الأَْحْكَامَ مُوَضَّحَةً بِالأَْمْثِلَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَمِنْ لاَ يَنْحَفِظُ لَهُ الدَّلِيل، فَإِنْ جَهَل دَلِيل بَعْضِهَا
__________
(1) حديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 57) ومسلم (1 / 67) من حديث أنس بن مالك.
(2) المجموع للنووي 1 / 30، 31، وينظر تذكرة السامع والمتكلم ص 48 - 51.(38/233)
ذَكَرَهُ لَهُ وَيُبَيِّنُ الدَّلِيل الضَّعِيفَ لِئَلاَّ يَغْتَرَّ بِهِ فَيَقُول: اسْتَدَلُّوا بِكَذَا وَهُوَ ضَعِيفٌ لِكَذَا، وَيُبَيِّنُ الدَّلِيل الْمُعْتَمَدَ لِيُعْتَمَدَ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَالِبَ الطَّلَبَةَ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا ذَكَرَهُ لَهُمْ، فَمَنْ وَجَدَهُ حَافِظًا أَكْرَمَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَشَاعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخَفْ فَسَادَ حَالِهِ بِإِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ، وَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا عَنَّفَهُ إِلاَّ أَنْ يَخَافَ تَنْفِيرَهُ وَيُعِيدُهُ لَهُ حَتَّى يَحْفَظَهُ حِفْظًا رَاسِخًا، وَيُنْصِفُهُمْ فِي الْبَحْثِ فَيَعْتَرِفُ بِفَائِدَةٍ يَقُولُهَا بَعْضُهُمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَلاَ يَحْسُدُ أَحَدًا مِنْهُمْ لِكَثْرَةِ تَحْصِيلِهِ، فَالْحَسَدُ حَرَامُ لِلأَْجَانِبِ وَهُنَا أَشَدُّ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَفَضِيلَتُهُ يَعُودُ إِلَى مُعَلِّمِهِ مِنْهَا نَصِيبٌ وَافِرٌ فَإِنَّهُ مُرَبِّيهِ وَلَهُ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَخْرِيجِهِ فِي الآْخِرَةِ الثَّوَابُ الْجَزِيل وَفِي الدُّنْيَا الدُّعَاءُ الْمُسْتَمِرُّ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيل، وَيَتَحَرَّى تَفْهِيمَ الدُّرُوسِ بِأَيْسَرِ الطُّرُقِ وَيُكَرِّرُ مَا يُشْكِل مِنْ مَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ إِلاَّ إِذَا وَثِقَ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ يَفْهَمُونَهُ بِدُونِ ذَلِكَ (2) .
11 - وَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ لاَ يَفْعَل شَيْئًا يُسْكِتُ بِهِ الطَّلَبَةَ، لأَِنَّ فِي إِسْكَاتِ الطَّلَبَةِ وَعَدَمِ الاِسْتِمَاعِ لأَِسْئِلَتِهِمْ إِخْمَادًا لِلْعِلْمِ لأَِنَّهُ قَدْ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 31، وينظر تذكرة السامع والمتكلم ص 52.
(2) المجموع للنووي 1 / 33، وينظر تذكرة السامع والمتكلم ص 54.(38/234)
يَكُونُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَهُ، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيل مَا عِنْدَهُ فَيَسْكُتُ إِذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنَ الْمَقْصُودِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُسْكِتَ أَحَدًا إِلاَّ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ وَبَحْثُهُ مِمَّا لاَ يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفَقٍ وَيُرْشِدُهُ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنَ السُّكُوتِ أَوِ الْكَلاَمِ، فَكَيْفَ يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ النَّافِرِينَ عَنِ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ بِعُنْفٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمَنْ شَأْنُهُمُ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْل الْمَذْمُومَ يُفْعَل مَعَ الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتِ الْعَامَّةُ عَنِ السُّؤَال عَمَّا يَضْطَرُّونَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَال الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ إِذْ إِنَّهُ مَحَل الْكَمَال وَالْفَضَائِل وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي سَعَةِ الْخُلُقِ مِنَ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ مَا لاَ يَأْخُذُهُ حَصْرٌ (1) ، قَال تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2)
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 107.
(2) سورة آل عمران / 159.(38/234)
12 - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لاَ يَتْرُكَ الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى الدَّرْسِ مَعْلُومًا، فَإِنَّ الدَّرْسَ إِذْ ذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَحُضُورُ الْجِنَازَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَفِعْل الْوَاجِبِ يَتَعَيَّنُ فَإِنَّ الذِّمَّةَ مَعْمُورَةٌ بِهِ وَلاَ شَيْءَ آكَدُ وَلاَ أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ إِذْ تَخْلِيصُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فَلَوْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ وَأَبْطَل الدَّرْسَ لأَِجْلِهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ مِنَ الْمَعْلُومِ مَا يَخُصُّ ذَلِكَ، بَل لَوْ كَانَ الدَّرْسُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ لَتَعَيَّنَ عَلَى الْعَالِمِ الْجُلُوسُ إِلَيْهِ، إِذْ إِنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لاَ يَتْرُكُ الدَّرْسَ لأَِجْل مَرِيضٍ يَعُودُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ التَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ الْمَشْرُوعَةِ لأَِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْدُوبٌ وَإِلْقَاءُ الْعِلْمِ مُتَعَيِّنٌ إِنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومٌ (1) .
13 - وَمُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَأْمُرْ بَعْضَهُمْ أَنْ يُقْرِئَ بَعْضًا وَذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ يُخَلِّي نَظَرَهُ عَنْهُمْ لأَِنَّهُ إِذَا غَفَل قَدْ تَقَعُ مِنْهُمْ مَفَاسِدُ جَمَّةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي بَالٍ لأَِنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تَتِمَّ، وَمَنْ
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 114 - 115.(38/235)
لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ إِذَا غَفَلْتَ عَنْهُ وَقْتًا مَا فَسَدَ أَمْرُهُ وَتَلِفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ، وَيَنْبَغِي لَهُ إِذَا وَكَّل بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَنْ لاَ يَجْعَل صِبْيَانًا مَعْلُومِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَل يُبَدِّل الصِّبْيَانَ فِي كُل وَقْتٍ عَلَى الْعُرَفَاءِ، مَرَّةً يُعْطِي صِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا وَصِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ صِبْيَانٌ مَعْلُومُونَ فَقَدْ تَنْشَأُ بَيْنَهُمْ مَفَاسِدُ بِسَبَبِ الْوُدِّ لاَ يَشْعُرُ بِهَا، فَإِذَا فَعَل مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَلِمَ مِنْ هَذَا الأَْمْرِ، وَيَفْعَل هُوَ فِي نَفْسِهِ مِثْل ذَلِكَ فَيَأْخُذُ صِبْيَانَهُمْ تَارَةً وَيَدْفَعُ لَهُمْ آخَرِينَ فَإِنْ كَانَ الصِّبْيَانُ كُلُّهُمْ صِغَارًا فَلاَ بُدَّ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَأْخُذْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمَأْمُونِينَ شَرْعًا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا (1) .
14 - وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُمْ آدَابَ الدِّينِ كَمَا يُعَلِّمَهُمُ الْقُرْآنَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الأَْذَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا كُل مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا إِذْ ذَاكَ، فَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ فِي حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَالدُّعَاءِ بَعْدَ الأَْذَانِ لأَِنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ دُعَاءَهُمْ مَرْجُوُّ الإِْجَابَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ يُعَلِّمُهُمْ حُكْمَ الاِسْتِبْرَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالرُّكُوعُ، وَالصَّلاَةُ وَتَوَابِعُهَا، وَيَأْخُذُ لَهُمْ فِي
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 324، 325.(38/235)
ذَلِكَ قَلِيلاً قَلِيلاً وَلَوْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي كُل يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَشْتَغِلُونَ بَعْدَ الأَْذَانِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الصَّلاَةِ، بَل يَتْرُكُونَ كُل مَا هُمْ فِيهِ وَيَشْتَغِلُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّعْلِيمِ مَعْلُومًا حَتَّى يَنْضَبِطَ الْحَال وَلاَ يَخْتَل النِّظَامُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَابَلَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، فَرُبَّ صَبِيٍّ يَكْفِيهِ عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلِيهِ، وَآخَرَ لاَ يَرْتَدِعُ إِلاَّ بِالْكَلاَمِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، وَآخَرَ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ وَالإِْهَانَةِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ (2) .
15 - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لاَ يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنَ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَاهُ فِي ذَلِكَ، وَيَأْذَنَ لَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَلاَ يَسْتَقْضِيَ الْيَتِيمَ مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ بِكُل حَالٍ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْسِل إِلَى بَيْتِهِ أَحَدًا مِنَ الصِّبْيَانِ الْبَالِغِينَ أَوِ الْمُرَاهِقِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى وُقُوعِ مَا لاَ يَنْبَغِي أَوْ إِلَى سُوءِ الظَّنِّ بِأَهْلِهِ، وَلأَِنَّ فِيهِ خَلْوَةَ الأَْجْنَبِيِّ بِالْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ سَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ فَلاَ يَخْلُو مِنَ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِهِمْ (3) .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لاَ يَضْحَكَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلاَ يُبَاسِطَهُمْ لِئَلاَّ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى الْوُقُوعِ فِي
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 325، 326.
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 326.
(3) المدخل لابن الحاج 2 / 328.(38/236)
عِرْضِهِ وَعِرْضِهِمْ وَإِلَى زَوَال حُرْمَتِهِ عِنْدَهُمْ إِذْ إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤَدِّبِ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتَهُ قَائِمَةً عَلَى الصِّبْيَانِ، بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فَلْيَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ (1) .
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي مَحَل التَّعْلِيمِ وَفِي التَّعْلِيمِ وَفِي صِفَةِ جُلُوسِهِمْ عِنْدَهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَفْضِيل بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُ تَعْلِيمِهِمْ فِي نَحْوِ الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ لِئَلاَّ تَسْأَمَ أَنْفُسُهُمْ بِدَوَامِ التَّعْلِيمِ (2) .
وَأَوَّل مَنْ شَرَعَ التَّخْفِيفَ عَنِ الأَْوْلاَدِ فِي التَّعْلِيمِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَمَرَ الْمُعَلِّمَ بِالْجُلُوسِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ إِلَى الضُّحَى الْعَالِي وَمِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ وَيَسْتَرِيحُونَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ. ثُمَّ شَرَعَ لَهُمُ الاِسْتِرَاحَةَ يَوْمَيِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَدَعَا بِالْخَيْرِ لِمَنْ فَعَل ذَلِكَ (3) .
16 - وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصِّبْيَانُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلاَ يُفَضِّل بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْفَقِيرَ وَابْنَ صَاحِبِ الدُّنْيَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ وَمَنْ مَنَعَهُ إِذْ بِهَذَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُ حَالِهِ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَإِنْ كَانَ يُعَلِّمُ مَنْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ لَمْ يُعْطِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي نِيَّتِهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ أَرْجَى عِنْدَهُ مِمَّنْ يُعْطِيهِ،
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 329.
(2) الفواكه الدواني 2 / 165.
(3) الفواكه الدواني 1 / 35.(38/236)
لأَِنَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ تَمَحَّضَ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ مَنْ أَعْطَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَشُوبًا بِدَسِيسَةٍ لاَ تُعْلَمُ السَّلاَمَةُ فِيهِ مَعَهَا، وَالسَّلاَمَةُ أَوْلَى مَا يَغْتَنِمُ الْمَرْءُ فَيَغْتَنِمُهَا الْعَاقِل (1) .
(ر: تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 9، وَطَلَبُ الْعِلْمِ ف 12 - 14) .
ضَمَانُ الْمُعَلِّمِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَوْ ضَرَبَ الصَّبِيَّ الَّذِي يَقُومُ بِتَعْلِيمِهِ ضَرْبًا غَيْرَ مُعْتَادٍ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِمُجَاوَزَتِهِ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا فَلاَ يَضْمَنُ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَإِلاَّ فَيَضْمَنُ، وَيَضْمَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ قَدْ يَسْتَغْنِي عَنِ الضَّرْبِ بِالْقَوْل وَالزَّجْرِ فَضَمِنَهُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَأْدِيبٌ ف 11، وَتَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 13 - 14) .
الاِصْطِيَادُ بِالْمُعَلَّمِ مِنَ الْجَوَارِحِ:
18 - الاِصْطِيَادُ بِالْمُعَلَّمِ مِنَ الْجَوَارِحِ مَشْرُوعٌ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2 / 318، وينظر الفواكه الدواني 2 / 165.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 363، والمدونة 4 / 419، وجواهر الإكليل 2 / 296، ومغني المحتاج 4 / 199، والمغني 5 / 537.
(3) تبيين الحقائق 6 / 50 - 51، وحاشية ابن عابدين 5 / 298، والقوانين الفقهية ص 175، وحاشية الدسوقي 2 / 104، ومغني المحتاج 4 / 275، كشاف القناع 6 / 222، 225.(38/237)
: {قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (1) .
وَلَمَّا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل (2) " وَلأَِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُمَارِسُونَ الصَّيْدَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُهُودِ أَصْحَابِهِ وَتَابِعِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَلأَِنَّ الصَّيْدَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (مُصْطَلَحِ صَيْدٌ ف 38 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة المائدة / 4.
(2) حديث: أبي ثعلبة الخشني " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد بالقوس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 612) ومسلم (3 / 1532) .
(3) البناية شرح الهداية 9 / 573، وتبيين الحقائق 6 / 51، وبداية المجتهد 1 / 457، وحاشية الدسوقي 2 / 103، والمنتقى 3 / 123، وروضة الطالبين 3 / 246، والمجموع 9 / 93، وصحيح مسلم بشرح النووي 13 / 74، والمغني لابن قدامة 8 / 542، والإنصاف 10 / 427.(38/237)
مِعْيَارٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ
مُعِيدٌ
انْظُرْ: مُدَرِّسٌ
مُغَابَنَةٌ
انْظُرْ: غَبْنٌ(38/238)
مُغَالاَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُغَالاَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِيهِ. يُقَال: غَالَى بِالشَّيْءِ: اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَيُقَال: غَالَيْتُ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ: أَيْ أَغْلَيْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ "، (1) وَأَصْل الْغَلاَءِ: الاِرْتِفَاعُ وَمُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُل شَيْءٍ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرُّخْصُ:
2 - الرُّخْصُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَلاَءِ، مِنْ رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا فَهُوَ رَخِيصٌ مِنْ بَابِ قَرُبَ يُقَال: أَرْخَصَ اللَّهُ السِّعْرَ، وَيَتَعَدَّى
__________
(1) أثر عمر - رضي الله عنه -: " ألا لا تغالوا في صدقات النساء ". أخرجه النسائي (5 / 117) والحاكم (2 / 177) ، واللفظ للحاكم، وصححه الحاكم.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وترتيب القاموس، والمعجم الوسيط، والمغرب للمطرزي.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 370، والمجموع 5 / 195، وكشاف القناع 5 / 129.(38/238)
بِالْهَمْزَةِ وَبِالتَّضْعِيفِ وَارْتَخَصْتُ الشَّيْءَ: اشْتَرَيْتُهُ رَخِيصًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُغَالاَةِ وَالرُّخْصِ هِيَ التَّضَادُّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُغَالاَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُغَالاَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
الْمُغَالاَةُ فِي الْمَهْرِ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَهْرِ حَدٌّ أَعْلَى مُقَدَّرٌ (2) ، فَحِينَمَا أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْدِيدَ الْمُهُورِ، نَهَى أَنْ يُزَادَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَخَطَبَ النَّاسَ فِيهِ فَقَال: " أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ سَاقَ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ سَاقَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سِيقَ لَهُ إِلاَّ جَعَلْتُ فَضْل ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ نَزَل فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ؟ قَال: بَل كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابِهِ {
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) روضة الطالبين 7 / 249، وكشاف القناع 5 / 128 - 129، وحاشية الدسوقي 2 / 309.(38/239)
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1) فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُل أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَال لِلنَّاسِ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ أَلاَ فَلْيَفْعَل رَجُلٌ فِي مَالِهِ مَا بَدَا لَهُ " (2) .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الْمُغَالاَةِ فِي الْمُهُورِ، بِمَعْنَى مَا خَرَجَتْ بِهَا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهَا (3) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْفِيفُ الصَّدَاقِ وَعَدَمُ الْمُغَالاَةِ فِي الْمُهُورِ (4) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا. (5)
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَيْرُهُنَّ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا (6)
__________
(1) سورة النساء / 20.
(2) أثر عمر - رضي الله عنه -: " ألا لا تغالوا في صداق النساء. . . " أخرجه البيهقي (7 / 233) وأعله بالانقطاع.
(3) حاشية الدسوقي على الدردير 2 / 309.
(4) روضة الطالبين 7 / 249، وكشاف القناع 5 / 128 - 129، وحاشية الدسوقي 2 / 309.
(5) حديث: " إن من يمن المرأة. . " أخرجه أحمد (6 / 77) والحاكم (2 / 181) من حديث عائشة، واللفظ لأحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(6) حديث: " خيرهن أيسرهن صداقًا ". رواه الطبراني في الكبير (11 / 78 - 79) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 281) ، قال: رواه الطبراني بإسنادين، في أحدهما جابر الجعفي وهو ضعيف وقد وثقه شعبة والثوري، وفي الآخر رجاء بن الحارث ضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجالهما ثقات.(38/239)
فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ النِّكَاحِ مَعَ قِلَّةِ الْمَهْرِ، وَأَنَّ الزَّوَاجَ بِمَهْرٍ قَلِيلٍ مَنْدُوبٌ وَمَرْغُوبٌ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ إِذَا كَانَ قَلِيلاً لَمْ يَسْتَصْعِبِ النِّكَاحَ مَنْ يُرِيدُهُ، فَيَكْثُرُ الزَّوَاجُ الْمَرْغُوبُ فِيهِ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ، وَيَكْثُرُ النَّسْل الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مَطَالِبِ النِّكَاحِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كَثِيرًا، فَإِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إِلاَّ أَرْبَابُ الأَْمْوَال، فَيَكُونُ الْفُقَرَاءُ - الَّذِينَ هُمُ الأَْكْثَرُ فِي الْغَالِبِ - غَيْرَ مُزَوَّجِينَ، فَلاَ تَحْصُل الْمُكَاثَرَةُ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالاِقْتِصَادُ فِي الصَّدَاقِ أَحَبُّ إِلَيْنَا (2) .
الْمُغَالاَةُ فِي الْكَفَنِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الْمُغَالاَةُ فِي الْكَفَنِ، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالْمُغَالاَةِ فِي الْكَفَنِ الزِّيَادَةُ عَلَى كَفَنِ الْمِثْل.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الْكَفَنِ، قَال
__________
(1) نيل الأوطار 6 / 169 ط. دار الكتب العلمية ببيروت لبنان.
(2) المجموع 16 / 327، والأم 5 / 58.
(3) حديث: " لا تغالوا في الكفن. . " رواه البيهقي (3 / 403) في سننه الكبرى، وعند أبي داود (3 / 270) بلفظ " يسلبه ".(38/240)
أَصْحَابُنَا: وَالْمُرَادُ بِتَحْسِينِهِ بَيَاضُهُ وَنَظَافَتُهُ وَسُبُوغُهُ وَكَثَافَتُهُ لاَ كَوْنُهُ ثَمِينًا، لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْمُغَالاَةِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ: الثَّوْبُ الْغَسِيل أَفْضَل مِنَ الْجَدِيدِ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَظَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى ثَوْبٍ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، فَقَال: " اغْسِلُوا هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهَا، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلِقٌ: قَال: الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ "، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُل عَلَى رُخْصِ الْكَفَنِ (1) .
الْمُغَالاَةُ فِي الْعِبَادَةِ:
5 - يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِدَ الْمُسْلِمُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ وَسَطًا بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّفْرِيطِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَلاَ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ بِمَا لاَ يُطِيقُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ (2) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ قَال أَحَدُهُمْ: إِنِّي لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَال الثَّانِي: أَصُومُ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَال الثَّالِثُ: أَقُومُ وَلاَ أَنَامُ - خَطَبَ وَقَال: مَا بَال أَقْوَامٍ يَقُولُونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 578 ط مصطفى الحلبي، والمنتقى شرح الموطأ 2 / 7، والمجموع شرح المهذب 5 / 195 - 197، والقليوبي وعميرة 1 / 346، وعون المعبود 8 / 430، وكشاف القناع 2 / 104 - 105.
(2) حديث: " إياكم والغلو في الدين " رواه أحمد (1 / 215) والحاكم في مستدركه (1 / 446) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(38/240)
كَذَا وَكَذَا، إِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ فَقَال: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلاَنَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَال: مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَل اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ (2)
فَالأَْفْضَل لِلإِْنْسَانِ أَنْ لاَ يُجْهِدَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ وَكَثْرَةِ الْعَمَل، وَأَنْ لاَ يَغْلُوَ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَل هَذَا مَل، ثُمَّ تَرَكَ، وَكَوْنُهُ يَبْقَى عَلَى الْعَمَل وَلَوْ قَلِيلاً مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِ أَفْضَل (3) .
مَغْرُورٌ
انْظُرْ: غَرَرٌ
مُغَلْصَمَةٌ
انْظُرْ: ذَبَائِحُ
__________
(1) حديث: " ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1020) .
(2) حديث: " مه عليكم بما تطيقون. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 101) .
(3) رياض الصالحين للنووي 1 / 165، 249، وفتح الباري 9 / 104، ومجمع الزوائد 1 / 61، وفيض القدير 2 / 544.(38/241)
مُفَاخَذَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُفَاخَذَةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ يُقَال: فَاخَذَ الْمَرْأَةَ مُفَاخَذَةً: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ فَخِذَيْهَا أَوْ فَوْقَهُمَا كَجُلُوسِ الْمُجَامِعِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُفَاخَذَةِ:
مُفَاخَذَةُ الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مُفَاخَذَةَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ فِي غَيْرِ الإِْحْرَامِ أَوِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَلاَلٌ بِحَائِل أَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ.
أَمَّا مُفَاخَذَةُ غَيْرِ الزَّوْجَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَحَرَامٌ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَجْنَبِيٌّ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا، فَخِذٌ ف 3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي.
(2) ابن عابدين 5 / 223، مواهب الجليل 3 / 166، 416.(38/241)
الْمُفَاخَذَةُ فِي الْحَجِّ
3 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَحْرُمُ الْمُفَاخَذَةُ فِي الْحَجِّ بِشُرُوطٍ هِيَ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ عَامِدًا، عَالِمًا بِالْحُكْمِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُفَاخَذَةُ بِشَهْوَةٍ وَبِلاَ حَائِلٍ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل، أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل.
وَأَمَّا الْمُوجِبُ فَإِنْ كَانَتِ الْمُفَاخَذَةُ قَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل فِي الْحَجِّ وَقَبْل الْحَلْقِ فِي الْعُمْرَةِ فَفِيهَا الْفِدْيَةُ، وَلاَ يَفْسُدُ النُّسُكُ بِهَا مُطْلَقًا وَإِنْ أَنْزَل، وَمَتَى انْتَفَى شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ حُرْمَةَ وَلاَ فِدْيَةَ (1) .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى الْمُفَاخَذَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ مِنَ التَّقْبِيل، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالْمُبَاشَرَةِ (2) .
أَثَرُ الْمُفَاخَذَةِ فِي الصَّوْمِ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُفَاخَذَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ تُبْطِل صَوْمَ الصَّائِمِ إِنْ أَنْزَل وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلاَ تُبْطِل الصَّوْمَ إِذَا لَمْ يُنْزِل.
__________
(1) القليوبي وعميرة 2 / 136.
(2) ابن عابدين 2 / 208، والفتاوى الهندية 1 / 244، والحطاب 3 / 166، وكشاف القناع 2 / 447، 449، 456.(38/242)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، مِنْ مُفَاخَذَةٍ وَغَيْرِهَا، فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا أَنْزَل، لأَِنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي رَمَضَانَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِإِخْرَاجِ مَنِيٍّ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (1) .
حُكْمُ الْمُفَاخَذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصَاهَرَةِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَثَرِ الْمُفَاخَذَةِ فِي الْمُصَاهَرَةِ، فَقَال النَّوَوِيُّ: فِي ثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمُفَاخَذَةِ وَتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ.
وَالثَّانِي: لاَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِمْ، قَال: وَالْقَوْلاَنِ فِيمَا إِذَا جَرَى ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ، فَأَمَّا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبَهْ قَطَعَ الْجُمْهُورُ (2) .
أَثَرُ الْمُفَاخَذَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا
6 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ بِمُفَاخَذَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 100، والشرح الصغير 1 / 707، وكشاف القناع 2 / 325، ومغني المحتاج 1 / 443.
(2) روضة الطالبين 7 / 113.(38/242)
وَنَحْوِهَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ مِمَّا لاَ إِيلاَجَ فِيهِ كَسِحَاقٍ (1) ، بَل يُعَزَّرَانِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ ف 36) .
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 404 ط المكتبة الإسلامية.
(2) مغني المحتاج 4 / 144.(38/243)
مُفَارَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُفَارَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الْفِعْل فَارَقَ وَمَادَّتُهُ: فَرَّقَ، يُقَال: فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْقًا وَفُرْقَانًا: إِذَا فَصَل وَمَيَّزَ أَحَدَهُمَا عَنِ الآْخَرِ وَفَارَقَهُ مُفَارَقَةً وَفَرْقًا: بَاعَدَهُ، وَتَفَارَقَ الْقَوْمُ: فَارَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفَارَقَ فُلاَنٌ امْرَأَتَهُ مُفَارَقَةً: بَايَنَهَا، وَالتَّفَرُّقُ وَالاِفْتِرَاقُ سَوَاءٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا (1) .
وَالْفِرَاقُ: الْفُرْقَةُ وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ بِالأَْبْدَانِ، وَيَكُونُ بِالأَْقْوَال مَجَازًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُتَارَكَةُ:
2 - الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: يُقَال: تَرَكَ الشَّيْءَ: خَلاَّهُ، وَتَرَكْتُ الشَّيْءَ: خَلَّيْتُهُ، وَتَارَكْتُهُ الْبَيْعَ
__________
(1) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328) ومسلم (3 / 1164) من حديث حكيم بن حزام.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(3) الفروق للقرافي 3 / 270.(38/243)
مُتَارَكَةً أَيْ صَالَحْتُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَرَكْتُ الرَّجُل: فَارَقْتُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي فَقِيل: تَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ: إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَالْمُتَارَكَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ.
ب - الْمُجَاوَزَةُ:
3 - الْمُجَاوَزَةُ فِي اللُّغَةِ: يُقَال جَاوَزْتُ الْمَوْضِعَ جَوَازًا وَمُجَاوَزَةً بِمَعْنَى جُزْتُهُ، وَجَاوَزْتُ الشَّيْءَ إِلَى غَيْرِهِ وَتَجَاوَزْتُهُ تَعَدَّيْتُهُ، وَتَجَاوَزْتُ عَنِ الْمُسِيءِ: عَفَوْتُ عَنْهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالْمُجَاوَزَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُفَارَقَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُفَارَقَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْمُفَارَقَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ.
الْمُرَادُ بِالْمُفَارَقَةِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ تَرْكُ أَحَدِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 419، وإعانة الطالبين 3 / 152.
(3) لسان العرب والمصباح المنير ومختار الصحاح.
(4) المغني 3 / 266.(38/244)
الْمُصَلِّينَ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ الْمُفَارَقَةُ قَدْ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً، وَقَدْ تَكُونُ جَائِزَةً، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
امْتِنَاعُ مُفَارَقَةِ الْمَأْمُومِ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ الْمُقْتَدِي إِمَامَهُ بِدُونِ عُذْرٍ فَلاَ يَنْتَقِل مَنْ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى الاِنْفِرَادِ، لأَِنَّ الْمَأْمُومِيَّةَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبِ ابْتِدَاءً كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ (2) ، وَلأَِنَّهُ تَرَكَ مُتَابَعَةَ إِمَامِهِ وَانْتَقَل مِنَ الأَْعْلَى لِلأَْدْنَى بِغَيْرِ عُذْرٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَلَهَا إِلَى النَّفْل (3) .
وَإِذَا انْتَقَل الْمَأْمُومُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الاِنْفِرَادِ بِدُونِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ مَنْ تَرَكَ
__________
(1) البدائع 1 / 223، والشرح الصغير 1 / 449، 450، ومغني المحتاج 1 / 259، وكشاف القناع 1 / 321، وشرح منتهى الإرادات 1 / 171.
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 209) ومسلم (1 / 309) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) كشاف القناع 1 / 321.(38/244)
الْمُتَابَعَةَ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ. وَلأَِنَّهُ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ الْتَزَمَ الْقُدْوَةَ فِي كُل صَلاَتِهِ وَفِيهِ إِبْطَال الْعَمَل (1) ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الصَّلاَةَ صَحِيحَةٌ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَيْ كَرَاهَةِ الْمُفَارَقَةِ -، وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْمُفَارَقَةِ بِأَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ إِمَّا سُنَّةٌ عَلَى قَوْلٍ وَالسُّنَنُ لاَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِمَّا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فَكَذَلِكَ إِلاَّ فِي الْجِهَادِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلأَِنَّ الْفِرْقَةَ الأُْولَى فَارَقَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ (3) ، وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ الصِّحَّةَ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - بِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ نَوَى كَوْنَهُ مَأْمُومًا لَصَحَّ فِي رِوَايَةٍ. فَنِيَّةُ الاِنْفِرَادِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَهُوَ الْمَسْبُوقُ إِذَا سَلَّمَ إِمَامُهُ، وَغَيْرُهُ لاَ يَصِيرُ مَأْمُومًا
__________
(1) البدائع 1 / 223، والشرح الصغير 1 / 450، ومغني المحتاج 1 / 259، والمغني 2 / 233، والإنصاف 2 / 31.
(2) سورة محمد / 33.
(3) حديث: مفارقة الصحابة في الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 421) ومسلم (1 / 575 - 576) .(38/245)
بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِحَالٍ (1) .
جَوَازُ مُفَارَقَةِ الْمَأْمُومِ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ بِعُذْرٍ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ وَيَنْوِيَ الاِنْفِرَادَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْمُفَارَقَةَ مُطْلَقًا وَلَوْ بِعُذْرٍ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْمُفَارَقَةِ بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، وَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلاَّهَا مُعَاذٌ مَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّ قَوْمَهُ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ فَصَلَّى وَحْدَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالُوا: نَافَقْتَ يَا فُلاَنُ. فَقَال: مَا نَافَقْتُ وَلَكِنِّي آتِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرُهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ الْبَارِحَةَ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلاَّهَا مَعَكَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَمَّنَا فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّيْتُ فَصَلَّيْتُ وَحْدِي وَإِنَّمَا نَحْنُ أَهْل نَوَاضِحَ نَعْمَل بِأَيْدِينَا فَالْتَفَتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَال: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 259، والمغني 2 / 233، وروضة الطالبين 1 / 374.(38/245)
اقْرَأْ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الأَْعْلَى، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَنَحْوِهَا، (1) وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل بِالإِْعَادَةِ وَلاَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ (2) . غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الأَْعْذَارِ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا الْمُفَارَقَةُ، فَمِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ مُفَارَقَةَ الإِْمَامِ تَطْوِيل الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ طُولاً لاَ يَصْبِرُ مَعَهُ الْمَأْمُومُ لِضَعْفٍ أَوْ شُغْلٍ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ الإِْمَامَ وَيَنْوِيَ الاِنْفِرَادَ وَيُتِمَّ صَلاَتَهُ مُنْفَرِدًا لِمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَهَذَا الْعُذْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ إِمَامَهُ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَتْرُكَ الإِْمَامُ سُنَّةً مَقْصُودَةً كَالتَّشَهُّدِ الأَْوَّل أَوِ الْقُنُوتِ فَلَهُ فِرَاقُهُ لِيَأْتِيَ بِتِلْكَ السُّنَّةِ
وَاعْتَبَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الأَْعْذَارَ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ ابْتِدَاءً تَجُوزُ مَعَهَا الْمُفَارَقَةُ
__________
(1) حديث جابر: " كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البيهقي (3 / 112) وأصله في الصحيحين.
(2) المغني 2 / 233، ومغني المحتاج 1 / 259، وكشاف القناع 1 / 320، والشرح الصغير 1 / 450، وجواهر الإكليل 1 / 82.
(3) جواهر الإكليل 1 / 82، ومغني المحتاج 1 / 259، والمجموع 4 / 247، وكشاف القناع 1 / 320.(38/246)
أَثَنَاءَ الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أَحْرَمَ مَأْمُومًا ثُمَّ نَوَى الاِنْفِرَادَ لِعُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ كَتَطْوِيل إِمَامٍ وَكَمَرَضٍ وَكَغَلَبَةِ نُعَاسٍ أَوْ غَلَبَةِ شَيْءٍ يُفْسِدُ صَلاَتَهُ كَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ أَوْ خَوْفٍ عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ خَوْفِ فَوْتِ رُفْقَةٍ أَوْ خَرَجَ مِنَ الصَّفِّ مَغْلُوبًا لِشِدَّةِ زِحَامٍ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْذَارِ صَحَّ انْفِرَادُهُ فَيُتِمُّ صَلاَتَهُ مُنْفَرِدًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالُوا: وَمَحِل إِبَاحَةِ الْمُفَارَقَةِ لِعُذْرٍ إِنِ اسْتَفَادَ مَنْ فَارَقَ لِتَدَارُكِ شَيْءٍ يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْ غَلَبَةِ نُعَاسٍ أَوْ خَوْفِ ضَرَرٍ وَنَحْوِهِ بِمُفَارَقَةِ إِمَامِهِ تَعْجِيل لُحُوقِهِ قَبْل فَرَاغِ إِمَامِهِ مِنْ صَلاَتِهِ لِيَحْصُل مَقْصُودُهُ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ يَعْجَل وَلاَ يَتَمَيَّزُ انْفِرَادُهُ عَنْهُ بِنَوْعِ تَعْجِيلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الاِنْفِرَادُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ عُذْرُهُ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّفِّ فَلَهُ الْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا لأَِنَّ عُذْرَهُ خَوْفُ الْفَسَادِ بِالْفِدْيَةِ وَذَلِكَ لاَ يُتَدَارَكُ بِالسُّرْعَةِ، وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فِيمَا إِذَا نَوَى الْمَأْمُومُ الْمُفَارَقَةَ فَقَالُوا: وَإِذَا فَارَقَ الْمَأْمُومُ الإِْمَامَ لِعُذْرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قِيَامٍ قَبْل قِرَاءَةِ الإِْمَامِ الْفَاتِحَةَ قَرَأَ الْمَأْمُومُ لِنَفْسِهِ لِصَيْرُورَتِهِ مُنْفَرِدًا
__________
(1) المجموع 4 / 247، وفتح العزيز بهامش المجموع 4 / 404.(38/246)
قَبْل سُقُوطِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَنْهُ بِقِرَاءَةِ الإِْمَامِ، وَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَلَهُ الرُّكُوعُ فِي الْحَال لأَِنَّ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمَأْمُومِ، وَإِنْ فَارَقَهُ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُكَمِّل مَا بَقِيَ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَإِنْ كَانَ فِي صَلاَةِ سِرٍّ كَظُهْرٍ وَعَصْرٍ، أَوْ فِي الأَْخِيرَتَيْنِ مِنَ الْعِشَاءِ مَثَلاً وَفَارَقَ الإِْمَامَ لِعُذْرٍ بَعْدَ قِيَامِهِ وَظَنَّ أَنَّ إِمَامَهُ قَرَأَ لَمْ يَقْرَأْ، أَيْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْقِرَاءَةُ إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: الاِحْتِيَاطُ الْقِرَاءَةُ (1) .
وُجُوبُ الْمُفَارَقَةِ
مِنَ الأَْحْوَال الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَةُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ مَا يَلِي:
أ - انْحِرَافُ الإِْمَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْحَرَفَ الإِْمَامُ عَنِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا (2) .
وَلَوِ اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمَا وَصَلَّى أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ وَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الاِنْحِرَافُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهَا لأَِنَّهَا تَرَجَّحَتْ فِي ظَنِّهِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 320، المغني 2 / 233.
(2) الشرح الصغير 1 / 435، ومغني المحتاج 1 / 147، وكشاف القناع 1 / 311، 312.(38/247)
فَتَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ الَّذِي ائْتَمَّ بِالآْخَرِ مُفَارَقَةَ إِمَامِهِ لِلْعُذْرِ الْمَانِعِ لَهُ مِنَ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَهُوَ التَّغَيُّرُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَالْمُقْتَدِي إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَهُوَ وَرَاءَ الإِْمَامِ أَنَّ الْقِبْلَةَ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا الإِْمَامُ لاَ يُمْكِنُهُ إِصْلاَحُ صَلاَتِهِ لأَِنَّهُ إِذَا اسْتَدَارَ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي الْجِهَةِ قَصْدًا وَهُوَ يَفْسُدُ وَإِلاَّ كَانَ مُتِمًّا صَلاَتَهُ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ مُفْسِدٌ أَيْضًا (2) .
ب - تَلَبُّسُ الإِْمَامِ بِمَا يُبْطِل صَلاَتَهُ:
7 - لَوْ رَأَى الْمَأْمُومُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ الإِْمَامَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُبْطِل الصَّلاَةَ كَأَنْ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةً أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الإِْمَامَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُتِمُّ صَلاَتَهُ مُنْفَرِدًا بَانِيًا عَلَى مَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ حَدَثَ إِمَامِهِ فِي الصَّلاَةِ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ مَعَهُ بَل فَارَقَهُ وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُسْتَخْلِفًا فَتَصِحُّ لِلْمَأْمُومِينَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِحَدَثِ إِمَامِهِ فِي الصَّلاَةِ وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ بَطَلَتْ عَلَيْهِمْ.
وَقَالُوا: لَوْ رَأَى الْمَأْمُومُ نَجَاسَةً عَلَى إِمَامِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 147، وكشاف القناع 1 / 311، 312، وشرح منتهى الإرادات 1 / 164.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 291.(38/247)
وَأَرَاهُ إِيَّاهَا فَوْرًا وَاسْتَخْلَفَ الإِْمَامُ مِنْ حِينِ ذَلِكَ فَتَبْطُل صَلاَةُ الإِْمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ وَاخْتَارَ ابْنُ نَاجِي الْبُطْلاَنَ لِلْجَمِيعِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اسْتَمَرَّ الْمَأْمُومُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْمُتَابَعَةِ لَحْظَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ - أَيِ اتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّهُ صَلَّى بَعْضَ صَلاَتِهِ خَلْفَ مُحْدِثٍ مَعَ عِلْمِهِ بِحَدَثِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِبُطْلاَنِ صَلاَتِهِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ فِي الأَْفْعَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِمَا وَالْمَحَامِلِيُّ وَخَلاَئِقُ مِنْ كِبَارِ الأَْصْحَابِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الإِْمَامُ عَالِمًا بِحَدَثِ نَفْسِهِ أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ لاَ تَفْرِيطَ مِنَ الْمَأْمُومِ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ قَارِئًا وَكَانَ الإِْمَامُ أُمِّيًّا، أَوْ كَانَ الإِْمَامُ قَدْ قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ أَوْ أَتَى الإِْمَامُ بِمُنَافٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيُتِمُّ صَلاَتَهُ مُنْفَرِدًا بَانِيًا عَلَى مَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّنَحْنُحَ إِنْ ظَهَرَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 435، 436، والمواق بهامش الحطاب 2 / 97، ومغني المحتاج 1 / 242، 260، والمجموع 4 / 247، 256 وما بعدها، وفتح العزيز بهامش المجموع 4 / 326.(38/248)
مِنْهُ حَرْفَانِ يُبْطِل الصَّلاَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَنَحْنَحَ الإِْمَامُ فَبَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ هَل يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ أَمْ لاَ؟ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يُفَارِقُهُ حَمْلاً عَلَى الْعُذْرِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُ الإِْمَامِ عَنِ الْمُبْطِل وَالأَْصْل بَقَاءُ الْعِبَادَةِ، لَكِنْ قَال السُّبْكِيُّ: إِنْ دَلَّتْ قَرِينَةُ حَال الإِْمَامِ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ وَجَبَتِ الْمُفَارَقَةُ، وَلَوْ لَحَنَ الإِْمَامُ فِي الْفَاتِحَةِ لَحْنًا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَجَبَتْ مُفَارَقَتُهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ وَاجِبًا، وَلَكِنْ هَل يُفَارِقُهُ فِي الْحَال أَوْ حَتَّى يَرْكَعَ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَحَنَ سَاهِيًا، وَقَدْ يَتَذَكَّرُ فَيُعِيدُ الْفَاتِحَةَ؟ الأَْقْرَبُ الأَْوَّل - أَيِ الْمُفَارَقَةُ فِي الْحَال - لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ فِي فِعْل السَّهْوِ كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ
وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: بَل الأَْقْرَبُ الثَّانِي - أَيْ لاَ يُفَارِقُهُ حَتَّى يَرْكَعَ - لأَِنَّ إِمَامَهُ لَوْ سَجَدَ قَبْل رُكُوعِهِ لَمْ تَجِبْ مُفَارَقَتُهُ فِي الْحَال.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ وَرَاءَ السَّكْرَانِ لأَِنَّهُ مُحْدِثٌ، قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ: فَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَغَسَل فَاهُ وَمَا أَصَابَهُ وَصَلَّى قَبْل أَنْ يَسْكَرَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَالاِقْتِدَاءُ بِهِ، فَلَوْ سَكِرَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَيَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ مُفَارَقَتُهُ وَيَبْنِي عَلَى(38/248)
صَلاَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفَارِقْهُ وَتَابَعَ مَعَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ عَجَزَ الإِْمَامُ عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ صَحَّتْ صَلاَةُ الأُْمِّيِّ خَلْفَهُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، أَمَّا الْقَارِئُ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ الإِْمَامَ لِلْعُذْرِ وَيُتِمُّ لِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ، وَلَكِنْ قَال الْمُوَفَّقُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّلاَةِ بِقِرَاءَتِهَا فَلَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) ، وَإِنِ اسْتَخْلَفَ الإِْمَامُ الَّذِي عَجَزَ عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ صَلاَتَهُمْ وَصَلَّى مَعَهُمْ جَازَ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَامَ الإِْمَامُ لِرَكْعَةٍ زَائِدَةٍ وَنَبَّهَهُ الْمَأْمُومُونَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَجَبَتْ مُفَارَقَتُهُ وَبَطَلَتْ صَلاَتُهُ لِتَعَمُّدِهِ تَرْكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَيُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ الْمُفَارِقُ لإِِمَامِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ لِزَائِدَةٍ وَتَنْبِيهِهِ وَإِبَائِهِ الرُّجُوعَ وَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ التَّشَهُّدَ الأَْخِيرَ (4) .
أَمَّا إِنْ تَرَكَ الإِْمَامُ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل مَعَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 195، 196، والمجموع 4 / 262.
(2) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237) ومسلم (1 / 295) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) كشاف القناع 1 / 379.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 513، 514.(38/249)
الْجُلُوسِ لَهُ وَقَامَ لَزِمَ رُجُوعُهُ إِذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا، فَإِنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا كُرِهَ رُجُوعُهُ، وَيَحْرُمُ رُجُوعُهُ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ أَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُفَارِقَ إِمَامَهُ وَيُتِمَّ صَلاَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى قَوْلٍ، وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا سَبَّحَ لإِِمَامِهِ قَبْل أَنْ يَعْتَدِل فَلَمْ يَرْجِعْ تَشَهَّدَ لِنَفْسِهِ وَتَبِعَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَبْطُل صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ بِقَطْعِ صَفٍّ مِنْ صُفُوفِهَا سَوَاءٌ كَانَ وَرَاءَ الإِْمَامِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الصَّفُّ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ وَبَعُدَ بِقَدْرِ مَقَامِ ثَلاَثَةِ رِجَالٍ فَتَبْطُل صَلاَةُ هَذَا الصَّفِّ الْمُنْقَطِعِ وَهَذَا مَا لَمْ تَنْوِ الطَّائِفَةُ الْمُنْقَطِعَةُ مُفَارَقَةَ الإِْمَامِ، فَإِنْ نَوَتْ مُفَارَقَتَهُ صَحَّتْ صَلاَتُهَا (2) .
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ
8 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُفَارِقَ الْجَمَاعَةَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ.
جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لاَ يَجُوزُ قَطْعُ الْجَمَاعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنْهَا شَرْطٌ وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهَا
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 515، 516.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 695.(38/249)
خِلاَفًا لِمَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَوْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِخُرُوجِهِ وَقُلْنَا بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنْهَا؛ لأَِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا انْحَصَرَ فِي شَخْصٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ (1) .
وَفِي الْمَجْمُوعِ: إِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ رَكْعَةً مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فَارَقَ إِمَامَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلْنَا: لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ بِالْمُفَارَقَةِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الإِْمَامُ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ فَارَقَ الْمَأْمُومُ الْجَمَاعَةَ لِعُذْرٍ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الأُْولَى مَعَ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا جُمُعَةً؛ لأَِنَّ الْجُمُعَةَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ، وَقَدْ أَدْرَكَهَا مَعَ الإِْمَامِ، فَإِنْ فَارَقَهُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنَ الْجُمُعَةِ فَكَمَزْحُومٍ فِيهَا حَتَّى تَفُوتَهُ رَكْعَتَانِ فَيُتِمُّهَا نَفْلاً ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الاِنْفِرَادُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا (4) .
شَرْطُ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فِي قَصْرِ صَلاَةِ الْمُسَافِرِ
9 - يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ قَصْرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِلتَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 259 - 260.
(2) المجموع 4 / 582.
(3) كشاف القناع 1 / 320.
(4) شرح الزرقاني 1 / 190.(38/250)
الْمُسَافِرُ مَحَل إِقَامَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِمُفَارَقَتِهِ بُيُوتَ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَتَوَابِعَ الْبُيُوتِ أَيْضًا.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ (1) ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ رَأَى خُصًّا أَمَامَهُ فَقَال: لَوْلاَ هَذَا الْخُصُّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ ف 22) .
الْمُفَارَقَةُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
10 - مِنْ صُوَرِ صَلاَةِ الْخَوْفِ أَنَّ الإِْمَامَ يُفَرِّقُ الْجَيْشَ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تُجْعَل فِي مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، وَيُصَلِّي الإِْمَامُ بِالْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْجَيْشِ، فَإِذَا قَامَ الإِْمَامُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَإِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فِي الثُّلاَثِيَّةِ أَوِ الرُّبَاعِيَّةِ فَارَقَهُ الْمَأْمُومُونَ وَلاَ يُتَابِعُونَهُ بَل يُتِمُّونَ الصَّلاَةَ لأَِنْفُسِهِمْ ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْفِرْقَةُ الْحَارِسَةُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الإِْمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ
__________
(1) حديث أنس: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 569) ومسلم (1 / 480) واللفظ لمسلم.
(2) الأثر عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2 / 529) .(38/250)
صَلاَتِهِ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا صَلاَتَهُمْ وَالإِْمَامُ يَنْتَظِرُهُمْ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْخَوْفِ ف 6) .
شَرْطُ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فِي فِطْرِ الْمُسَافِرِ
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ الَّذِي يُرِيدُ التَّرَخُّصَ بِرُخْصَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِلاَّ بَعْدَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَافِرُ مِنْهُ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَافَرَ وَفَارَقَ عُمْرَانَ الْبَلَدِ قَبْل الْفَجْرِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ سَافَرَ وَفَارَقَ عُمْرَانَ الْبَلَدِ بَعْدَ الْفَجْرِ هَل يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِهِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ وَفَارَقَ الْعُمْرَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ قَوْل مَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِيهَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ وَيُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مُقِيمًا فَلَزِمَهُ الصَّوْمُ فَلاَ يُبْطِلُهُ بِاخْتِبَارِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ جَامَعَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.(38/251)
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ قَوْل عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيل وَالشَّعْبِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِمَا رَوَى عُبَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَال: " كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، قَال جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمْ يُجَاوِزِ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ ثُمَّ قَال: اقْتَرِبْ. قُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ؟ قَال أَبُو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ: فَأَكَل "، (1) وَلأَِنَّ السَّفَرَ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ لَيْلاً وَاسْتَمَرَّ فِي النَّهَارِ لأََبَاحَ الْفِطْرَ فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ أَبَاحَهُ (2) .
ثَانِيًا: الْمُفَارَقَةُ فِي الْعُقُودِ:
أَثَرُ الْمُفَارَقَةِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ
لِمُفَارَقَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَثَرٌ فِي لُزُومِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
مُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ:
12 - مِنْ أَسْبَابِ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا التَّخَايُرُ، وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ فِي
__________
(1) أثر عبيد بن جبير: " كنت مع أبي بصرة الغفاري. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 799 - 800) .
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 123، والاختيار 1 / 134، والشرح الصغير 1 / 718، والمجموع 6 / 261، 262، والمغني 3 / 100، 101.(38/251)
إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ إِبْطَالِهِ، وَأَمَّا مُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَجْلِسَ الْعَقْدِ، وَكَلاَمُنَا هُنَا فِي الْمُفَارَقَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّخَايُرُ، فَمُفَارَقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَجْلِسَ الْعَقْدِ مِنْ أَسْبَابِ لُزُومِ الْعَقْدِ، أَمَّا قَبْل الْمُفَارَقَةِ فَإِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَكُونُ جَائِزًا وَيَثْبُتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَفْتَرِقَا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَيُسَمَّى الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَقَعُ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ مَا دَامَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَرْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُل وَاحِدٍ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 43 - 45، والمجموع شرح المهذب 9 / 161 وما بعدها تحقيق المطيعي، والمغني 3 / 563، وشرح منتهى الإرادات 2 / 166، 167.
(2) المغني 3 / 563، والمجموع 9 / 171 وما بعدها.(38/252)
مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (1) .
حُكْمُ مُفَارَقَةِ الْمُتَبَايِعَيْنِ
13 - اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حُكْمِ مُفَارَقَةِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَجْلِسَ الْعَقْدِ، وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمَا هُوَ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ (2) .
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُفَارَقَةُ جَائِزَةٌ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْحِل الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الإِْبَاحَةِ الْمُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ أَحْمَدَ جَوَازُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَدَلِيل هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا
__________
(1) حديث: " إذا تبايع الرجلان فكل منهما. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 333) من حديث ابن عمر.
(2) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 541) وقال: حديث حسن.(38/252)
اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: ظَاهِرُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ تَحْرِيمُ مُفَارَقَةِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ خَشْيَةً مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ. قَال: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لَهُ فِعْل ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَال: هَذَا الآْنَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الأَْصَحُّ؛ لأَِنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدَّمُ عَلَى فِعْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا وَلَوْ عَلِمَهُ لَمَا خَالَفَهُ (1) .
كَيْفِيَّةُ الْمُفَارَقَةِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْبَيْعُ:
14 - الْمُفَارَقَةُ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْبَيْعُ هِيَ الْمُفَارَقَةُ بِالأَْبْدَانِ لاَ بِالأَْقْوَال، وَتَخْتَلِفُ الْمُفَارَقَةُ بِاخْتِلاَفِ مَكَانِ الْعَقْدِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ تَفَرُّقًا يَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ وَمَا لاَ فَلاَ؛ لأَِنَّ مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ شَرْعًا وَلاَ لُغَةً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ فَبِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الصَّحْنِ أَوْ مِنَ الصَّحْنِ إِلَى الصُّفَّةِ أَوِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَا فِي سُوقٍ أَوْ صَحْرَاءَ أَوْ فِي بَيْتٍ مُتَفَاحِشِ السِّعَةِ فَبِأَنْ يُوَلِّيَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 45، والمغني 3 / 567، وشرح منتهى الإرادات 2 / 168.(38/253)
أَحَدُهُمَا الآْخَرَ ظَهْرَهُ وَيَمْشِيَ قَلِيلاً.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَلَوْ لَمْ يَبْعُدْ عَنْ سَمَاعِ خِطَابِهِ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَهُ فِي الْعَادَةِ خِلاَفًا لِلإِْقْنَاعِ.
وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ أَوْ دَارٍ صَغِيرَةٍ أَوْ مَسْجِدٍ صَغِيرٍ فَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ أَوْ صُعُودِهِ السَّطْحَ، وَلاَ يَحْصُل التَّفَرُّقُ بِإِقَامَةِ سِتْرٍ وَلَوْ بِبِنَاءِ جِدَارٍ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّ الْمَجْلِسَ بَاقٍ (1) .
وَقِيل: لاَ تَكُونُ الْمُفَارَقَةُ إِلاَّ بِأَنْ يَبْعُدَ عَنْ صَاحِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَلَّمَهُ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ لَمْ يَسْمَعْ كَلاَمَهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْصْطَخْرِيُّ وَالشِّيرَازِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ (أَيْ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ) وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ عَنْ جَمِيعِ الأَْصْحَابِ سِوَى الإِْصْطَخْرِيِّ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ قَال نَافِعٌ: " كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَايَعَ رَجُلاً فَأَرَادَ أَنْ لاَ يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّةُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ " (2) .
وَسُئِل الإِْمَامُ أَحْمَدُ عَنْ تَفْرِقَةِ الأَْبْدَانِ فَقَال: إِذَا أَخَذَ هَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا فَقَدْ تَفَرَّقَا.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 45، ومنتهى الإرادات 2 / 167، 168.
(2) أثر ابن عمر " كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1164) .(38/253)
قَال النَّوَوِيُّ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ (1) .
وَلَوْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَجْلِسَهُ دُونَ الآْخَرِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُ الآْخَرِ، خِلاَفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ قَصَدَ بِالْمُفَارَقَةِ لُزُومَ الْبَيْعِ أَوْ قَصَدَ حَاجَةً أُخْرَى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ (2) .
وَاخْتُلِفَ فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْمُفَارَقَةِ هَل يَبْطُل بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ أَمْ لاَ؟ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ فَارَقَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ مُكْرَهًا احْتَمَل بُطْلاَنُ الْخِيَارِ لِوُجُودِ غَايَتِهِ وَهُوَ التَّفَرُّقُ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي مُفَارَقَةِ صَاحِبِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي مُفَارَقَتِهِ لِصَاحِبِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي فِي الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ عَلَى التَّفَرُّقِ فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ الإِْكْرَاهِ، فَعَلَى قَوْل مَنْ لاَ يَرَى انْقِطَاعَ الْخِيَارِ إِنْ أُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى فُرْقَةِ صَاحِبِهِ انْقَطَعَ خِيَارُ صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ هَرَبَ مِنْهُ وَفَارَقَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُكْرَهِ مِنْهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَزُول عَنْهُ فِيهِ الإِْكْرَاهُ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 168 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 2 / 45، والمغني 3 / 565، وشرح منتهى الإرادات 2 / 167.
(2) المجموع 9 / 167، 168، ومغني المحتاج 2 / 45، والمغني 3 / 565، وشرح منتهى الإرادات 2 / 167، 168، وكشاف القناع 3 / 201.(38/254)
حَتَّى يُفَارِقَهُ، وَإِنْ أُكْرِهَا جَمِيعًا عَلَى الْمُفَارَقَةِ انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ بِفُرْقَةِ الآْخَرِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُكْرِهَ صَاحِبُهُ دُونَهُ (1) .
وَمِنْ صُوَرِ الإِْكْرَاهِ مَا لَوْ تَفَرَّقَا مَعَ فَزَعٍ مِنْ مَخُوفٍ كَسَبُعِ أَوْ ظَالِمٍ خَشَيَاهُ فَهَرَبَا مِنْهُ أَوْ تَفَرَّقَا مَعَ إِلْجَاءٍ كَتَفَرُّقِ بِسَيْل أَوْ نَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ تَفَرَّقَا مَعَ حَمْلٍ لَهُمَا لأَِنَّ فِعْل الْمُكْرَهِ وَالْمُلْجَأِ كَعَدَمِهِ فَيَسْتَمِرُّ خِيَارُهُمَا إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسٍ زَال فِيهِ إِكْرَاهٌ أَوْ إِلْجَاءٌ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ: لَوْ هَرَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ الآْخَرُ فَقَدْ أَطْلَقَ الأَْكْثَرُونَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَال الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَتْبَعْهُ الآْخَرُ مَعَ التَّمَكُّنِ بَطَل خِيَارُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بَطَل خِيَارُ الْهَارِبِ دُونَ الآْخَرِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الأَْكْثَرِينَ؛ لأَِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْفَسْخِ بِالْقَوْل وَلأَِنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ إِذَا مَشَى عَلَى الْعَادَةِ، فَلَوْ هَرَبَ وَتَبِعَهُ الآْخَرُ يَدُومُ الْخِيَارُ مَا دَامَا مُتَقَارِبَيْنِ، فَإِنْ تَبَاعَدَا بِحَيْثُ يُعَدُّ فُرْقَةً بَطَل
__________
(1) المغني 3 / 566، ومغني المحتاج 2 / 45.
(2) شرح منتهى الإرادات 4 / 168، والمغني مع الشرح 4 / 9، ومغني المحتاج 2 / 45.(38/254)
اخْتِيَارُهُمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ هَرَبَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ، بَطَل خِيَارُهُمَا وَلَزِمَ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلاَ يَقِفُ لُزُومُ الْعَقْدِ عَلَى رِضَاهُمَا (2) .
وَأَمَّا أَثَرُ الْمُفَارَقَةِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ فَفِي إِبْطَال خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ ف 13) .
وَلَوْ تَنَازَعَ الْعَاقِدَانِ فِي التَّفَرُّقِ بِأَنْ جَاءَا مَعًا وَقَال أَحَدُهُمَا: تَفَرَّقْنَا، وَأَنْكَرَ الآْخَرُ صُدِّقَ النَّافِي بِيَمِينِهِ.
وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى حُصُول التَّفَرُّقِ وَتَنَازَعَا فِي الْفَسْخِ قَبْل التَّفَرُّقِ فَقَال أَحَدُهُمَا: فَسَخْتُ الْبَيْعَ قَبْل التَّفَرُّقِ وَأَنْكَرَ الآْخَرُ صِدْقَ النَّافِي بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل دَوَامُ الاِجْتِمَاعِ وَعَدَمُ الْفَسْخِ، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِ التَّفَرُّقِ وَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ فَدَعْوَاهُ الْفَسْخَ فَسْخٌ (3) .
وَمَا سَبَقَ مِنِ اعْتِبَارِ الْمُفَارَقَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا تَوَلَّى عَقْدَ الْبَيْعِ طَرَفَانِ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّى الْعَقْدَ شَخْصٌ وَاحِدٌ كَالأَْبِ يَبِيعُ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَوْ يَبِيعُ مَال وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ فَهَل لاَ بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَاعْتِبَارِ الْمُفَارَقَةِ سَبَبًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) المجموع 9 / 170، ومغني المحتاج 2 / 45.
(2) المغني 3 / 566.
(3) مغني المحتاج 2 / 46.(38/255)
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ: الأَْوَّل: ثُبُوتُ الْخِيَارِ، قَال النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا ثُبُوتُهُ، فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْوَلَدِ وَخِيَارٌ لِلأَْبِ، وَيَكُونُ الأَْبُ نَائِبَ الْوَلَدِ، فَإِنْ أَلْزَمَ الْبَيْعَ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَلَدِ لَزِمَ، وَإِنْ أَلْزَمَ لِنَفْسِهِ بَقِيَ الْخِيَارُ لِلْوَلَدِ، فَإِذَا فَارَقَ الْمَجْلِسَ لَزِمَ الْعَقْدُ عَلَى الأَْصَحِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الْمَاوَرْدِيَّ: وَهَذَا قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَلْزَمُ " أَيِ الْبَيْعُ " إِلاَّ بِالإِْلْزَامِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُفَارِقُ نَفْسَهُ وَإِنْ فَارَقَ الْمَجْلِسَ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، قَال: وَعَلَى هَذَا لاَ يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ إِلاَّ بِأَنْ يَخْتَارَ الأَْبُ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ.
وَقَال الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ صَرْفًا فَفَارَقَ الْمَجْلِسَ قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْعَقْدُ عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل وَلاَ يَبْطُل عَلَى الثَّانِي إِلاَّ بِالتَّخَايُرِ (1) .
اعْتِبَارُ الْمُفَارَقَةِ فِي الْعُقُودِ الأُْخْرَى:
15 - كَمَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ سَبَبًا
__________
(1) المجموع شرح المهذب للنووي 9 / 163 تحقيق المطيعي، والمغني 3 / 565، والإنصاف 4 / 363.(38/255)
لِلُزُومِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلُزُومِ بَعْضِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الصَّرْفُ، وَبَيْعُ رِبَوِيٍّ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ كَبُرٍّ بِبُرٍّ وَنَحْوِهِ، وَالسَّلَمُ، وَصُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: التَّوْلِيَةُ، وَالتَّشْرِيكُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْهِبَةَ الَّتِي فِيهَا عِوَضٌ مَعْلُومٌ، وَالإِْجَارَةُ (1) .
وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْخِيَرَةِ وَلأَِنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ النَّظَرُ فِي الأَْحَظَّ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الْعُقُودِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْمُفَارَقَةُ فِي النِّكَاحِ:
تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِي النِّكَاحِ لأَِسْبَابٍ، مِنْهَا:
أَوَّلاً: الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ.
16 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْحُرِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (2) ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ أَسْلَمْنَ مَعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِ، وَهَذَا
__________
(1) المجموع 9 / 163 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 2 / 43، وشرح منتهى الإرادات 2 / 167.
(2) سورة النساء / 3.(38/256)
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَنَّ غَيْلاَنَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. (2)
وَتَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ مَنْ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ فِي عِصْمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَجْمَعُ فِي عِصْمَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
فَمَنْ كَانَ كَافِرًا وَأَسْلَمَ وَفِي عِصْمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُفَارِقُهُنَّ أَوْ يَخْتَارُهُنَّ تَرَتُّبُ عُقُودِهِنَّ، فَسَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ فَارَقَهُنَّ أَوِ اخْتَارَهُنَّ أَوَائِل فِي الْعَقْدِ أَوْ أَوَاخِرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ كَمَا قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ
__________
(1) البدائع للكاساني 2 / 265، 266، وجواهر الإكليل 1 / 297، ومنح الجليل 2 / 73، 74، والفروق للقرافي 2 / 91 و 3 / 111، 112، 132، 133، ومغني المحتاج 3 / 181، 196، والمغني 6 / 539، 540، وشرح منتهى الإرادات 3 / 34، 58.
(2) حديث ابن عمر: " أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده تسع نسوة. . . " أخرجه البيهقي في السنن (7 / 183) ، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 169) رجاله ثقات.(38/256)
وَالْقَرَافِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِ وَأَطْلَقَ الْحُكْمَ وَلَمْ يَسْتَفْصِل عَنْ كَيْفِيَّةِ نِكَاحِهِنَّ، وَتَرْكُ الاْسْتِفْصَال فِي حِكَايَةِ الأَْحْوَال مَعَ قِيَامِ الاِحْتِمَال مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَال، وَلَوْلاَ أَنَّ الْحُكْمَ يَعُمُّ الْحَالَيْنِ لَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ نَوْفَل بْنِ مُعَاوِيَةَ قَال: أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا، فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي عَاقِرٍ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَفَارَقْتُهَا (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَزَوَّجَ كَافِرٌ بِخَمْسِ نِسْوَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ صَحَّ نِكَاحُ الأَْرْبَعِ وَبَطَل نِكَاحُ الْخَامِسَةِ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ وَهُوَ خَوْفُ الْجَوْرِ فِي إِيفَاءِ حُقُوقِهِنَّ.
__________
(1) البدائع 2 / 314، والفروق للقرافي 2 / 91، 92، ومنح الجليل 2 / 73، 74، ومغني المحتاج 3 / 196، والمغني 6 / 620، ومنتهى الإرادات 3 / 58.
(2) حديث: " نوفل بن معاوية: أسلمت وتحتي خمس نسوة. . . " أخرجه الشافعي في المسند (ترتيب مسند الإمام الشافعي للسندي 2 / 16 ط. دار الكتب العلمية) وفي إسناده جهالة.(38/257)
وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجِبُ الْفَصْل بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُتَعَرَّضُ لأَِهْل الذِّمَّةِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ دِيَانَتُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُهُودِهِمْ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ بَعْدَ إِعْطَاءِ الذِّمَّةِ وَلَيْسَ لَنَا التَّعَرُّضُ لأَِهْل الْحَرْبِ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ، فَلاَ يُمَكَّنُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْجَمْعِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَإِذَا كَانَ تَزَوَّجَ الْخَمْسَ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ حَصَل نِكَاحُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَمِيعًا؛ إِذْ لَيْسَتْ إِحْدَاهُنَّ بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، وَالْجَمْعُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ زَال الْمَانِعُ مِنَ التَّعَرُّضِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الاِعْتِرَاضِ بِالتَّفْرِيقِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنِكَاحُ الأَْرْبَعِ مِنْهُنَّ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ لِحُصُولِهِ جَمْعًا، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثُمَّ سُبِيَ هُوَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُل سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ؛ لأَِنَّ نِكَاحَ الأَْرْبَعِ وَقَعَ صَحِيحًا، لأَِنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 314.(38/257)
النِّكَاحِ، وَالْحُرُّ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، إِلاَّ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الاِسْتِيفَاءُ بَعْدَ الاِسْتِرْقَاقِ لِحُصُول الْجَمْعِ مِنَ الْعَبْدِ فِي حَال الْبَقَاءِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَالْعَبْدُ لاَ يَمْلِكُ الاِسْتِيفَاءَ فَيَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ الْكُل فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُل وَلاَ يُخَيَّرُ فِيهِ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ بَطَل نِكَاحُهَا وَلاَ يُخَيَّرُ، كَذَا هَذَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُخَيَّرُ فِيهِ فَيَخْتَارُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَمَا يُخَيَّرُ الْحُرُّ فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَيُفَارِقُ الْبَاقِيَ (1) .
17 - وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ صِفَةَ الْمُفَارَقَةِ فَيَقُول:
إِنْ قَال لَمَّا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِ: فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ كَانَ اخْتِيَارًا لِلأَْرْبَعِ، وَإِنْ طَلَّقَ إِحْدَاهُنَّ كَانَ اخْتِيَارًا لَهَا؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي زَوْجَةٍ، وَإِنْ قَال: قَدْ فَارَقْتُ هَؤُلاَءِ أَوِ اخْتَرْتُ فِرَاقَ هَؤُلاَءِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلاَقَ كَانَ اخْتِيَارًا لِغَيْرِهِنَّ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْلاَنَ: اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ (2) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفِرَاقِ صَرِيحًا فِيهِ كَمَا كَانَ لَفْظُ الطَّلاَقِ صَرِيحًا فِيهِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ قَال: فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً فَفَارَقْتُهَا (3) ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَخَصُّ بِهَذَا اللَّفْظِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 315.
(2) حديث: " اختر منهن أربعًا. . . " تقدم تخريجه في (فقرة 16) .
(3) حديث فيروز الديلمي أخرجه أبو داود (2 / 678) .(38/258)
فَيَجِبُ أَنْ يُتَخَصَّصَ فِيهِ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ كَانَ اخْتِيَارًا لَهُنَّ دُونَ غَيْرِهِنَّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمُفَارَقَاتِ؛ لأَِنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ صَرِيحٌ فِي الطَّلاَقِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ قَدْ دَخَل بِهِنَّ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَكُنَّ ثَمَانِيًا فَاخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَفَارَقَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنَ الْمُخْتَارَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَاتِ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ وَاطِئًا لأَِكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، فَإِنْ كُنَّ خَمْسًا فَفَارَقَ إِحْدَاهُنَّ فَلَهُ وَطْءُ ثَلاَثٍ مِنَ الْمُخْتَارَاتِ، وَلاَ يَطَأُ الرَّابِعَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ مَنْ فَارَقَهَا، فَإِنْ كُنَّ سِتًّا فَفَارَقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُ وَطْءُ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْمُخْتَارَاتِ، فَإِنْ كُنَّ سَبْعًا فَفَارَقَ ثَلاَثًا فَلَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُخْتَارَاتِ وَلاَ يَطَأُ الْبَاقِيَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَاتِ، فَكُلَّمَا انْقَضَتْ عِدَّةُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُفَارَقَاتِ فَلَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُخْتَارَاتِ (2) ، وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
__________
(1) المغني 6 / 622، 623، وينظر مغني المحتاج 3 / 199، والمهذب 2 / 53.
(2) المغني 6 / 626، 627، وشرح منتهى الإرادات 3 / 58.(38/258)
أَمَّا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي عِصْمَتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَمَا إِذَا كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ بِعُقُودِ مُتَفَرِّقَةٍ.
فَإِذَا كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ جَمِيعِهِنَّ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَبْطُل فِي جَمِيعِهِنَّ؛ إِذْ لَيْسَ إِبْطَال نِكَاحِ وَاحِدَةٍ بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى فَبَطَل الْجَمِيعُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ كَانَتِ الْعُقُودُ مُتَفَرِّقَةً وَجَهِل تَرْتِيبَهَا وَلَمْ يَدْرِ أَيُّ وَاحِدَةٍ هِيَ الْخَامِسَةُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعُقُودُ مُتَرَتِّبَةً فَالأَْخِيرَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ مُفَارَقَتُهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ كَذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا: الْجَمْعُ بَيْنَ مَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ
18 - إِذَا جَمَعَ الْمُسْلِمُ بَيْنَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ كَمَا إِذَا عَقَدَ عَلَى أُخْتَيْنِ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوِ امْرَأَةٍ وَخَالَتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَل نِكَاحُهُمَا، وَإِنْ كَانَا فِي عَقْدَيْنِ بَطَل نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ ف 23) .
__________
(1) البدائع 2 / 314، ومنح الجليل 2 / 67، والشرح الصغير 1 / 400، 401 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 3 / 181، وشرح منتهى الإرادات 3 / 31، والمغني 6 / 584.(38/259)
أَمَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا وَأَسْلَمَ وَكَانَ مُتَزَوِّجًا بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ كَأُخْتَيْنِ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً وَيُفَارِقَ الأُْخْرَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِعَقْدَيْنِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ دَخَل بِهِمَا أَوْ دَخَل بِإِحْدَاهُمَا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَسْلَمْت وَتَحْتِي أُخْتَانِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ (1) .
وَلأَِنَّ الْمُبْقَاةَ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا، فَجَازَ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ كَغَيْرِهَا، وَلأَِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَإِنَّمَا حَرُمَ الْجَمْعُ وَقَدْ أَزَالَهُ، وَلاَ مَهْرَ لِلْمُفَارَقَةِ مِنْهُمَا قَبْل الدُّخُول، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا لأَِنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ (2) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ كَانَ دَخَل بِهِمَا وَاخْتَارَ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْمُفَارَقَةِ (3) .
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
__________
(1) حديث: " فيروز الديلمي: قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان. . . " أخرجه أبو داود (2 / 678) والترمذي (3 / 427) واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حسن.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 60، والمغني 6 / 626، ومنح الجليل 2 / 74، ومغني المحتاج 3 / 197.
(3) المغني 6 / 626.(38/259)
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ السَّابِقِ، قَال: لَقَدْ خَيَّرَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لاَسْتَفْسَرَ، فَدَل عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِ هُوَ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الأُْخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُمَا؛ لأَِنَّ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جُعِل جَمْعًا إِذْ لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، وَالإِْسْلاَمُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ مَانِعَ مِنَ التَّفْرِيقِ فَيُفَرَّقَ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ فَنِكَاحُ الأُْولَى وَقَعَ صَحِيحًا إِذْ لاَ مَانِعَ مِنَ الصِّحَّةِ، وَبَطَل نِكَاحُ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهِ جَمْعًا، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ، قَالاَ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِفَيْرُوزَ: طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّلاَقَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَدَل أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا فِي الأَْصْل، فَدَل أَنَّهُ كَانَ قَبْل تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَلاَ كَلاَمَ فِيهِ (2) .
ثَالِثًا: السَّلاَمُ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ
19 - قَال النَّوَوِيُّ: الْبَدْءُ بِالسَّلاَمِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمِنَ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ ثُمَّ فَارَقَهُ ثُمَّ لَقِيَهُ عَلَى قُرْبٍ أَوْ حَال بَيْنَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ اجْتَمَعَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ تَكَرَّرَ
__________
(1) البدائع 2 / 314.
(2) البدائع 2 / 314، 315.(38/260)
ذَلِكَ ثَالِثًا وَرَابِعًا وَأَكْثَرَ سَلَّمَ عِنْدَ كُل لِقَاءٍ وَإِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ. قَال: اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَصَل فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل. فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَعَل ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ (2) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَاشَوْنَ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَتْهُمْ شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ فَتَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالاً ثُمَّ الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَامَ شَخْصٌ مِنَ الْمَجْلِسِ وَأَرَادَ فِرَاقَ الْجَالِسِينَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ (4) .
__________
(1) حديث: قصة المسيء صلاته. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237) ، ومسلم (1 / 298) .
(2) حديث أبي هريرة: " إذا لقي أحدكم أخاه. . " أخرجه أبو داود (5 / 381) ونقل ابن علان في الفتوحات (5 / 318) عن ابن حجر أنه صححه.
(3) أثر أنس: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 123) .
(4) المجموع 4 / 598.(38/260)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (مُصْطَلَحِ سَلاَمٌ ف 25) .
رَابِعًا: مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ طَاعَةُ الإِْمَامِ الْعَادِل وَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الْعَادِل فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي طَاعَتِهِ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12، 21) .
خَامِسًا: مُصَالَحَةُ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا حَتَّى لاَ يُفَارِقَهَا:
21 - إِذَا نَفَرَ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَرَادَ فِرَاقَهَا فَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ مُصَالَحَتُهُ حَتَّى لاَ يُفَارِقَهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1)
قَال ابْنُ كَثِيرٍ: الظَّاهِرُ مِنَ الآْيَةِ أَنَّ صُلْحَهُمَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا لِلزَّوْجِ وَقَبُول الزَّوْجِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنْ تَرَكَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَلَمْ يُفَارِقْهَا بَل تَرَكَهَا مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِ (2) ، وَفَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِتَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ
__________
(1) سورة النساء / 128.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك سودة بنت زمعة. . . " أخرجه مسلم (2 / 1085) .(38/261)
ذَلِكَ وَجَوَازِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْوِفَاقُ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْفِرَاقِ قَال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فَإِذَا أَصَرَّ الزَّوْجُ عَلَى الْفِرَاقِ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ عَنْهَا وَيُغْنِيهَا عَنْهُ (1) قَال تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (2) .
سَادِسًا: مُفَارَقَةُ الْجَالِسِينَ فِي الأَْمْكِنَةِ الْعَامَّةِ أَمَاكِنَهُمْ
22 - يَجُوزُ لِكُل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَجْلِسَ فِي الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ كَالشَّارِعِ وَالْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْ إِقْرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِلْغَيْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (3) ، لَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدٌ فِي مَكَانٍ مِنْ هَذِهِ الأَْمَاكِنِ ثُمَّ فَارَقَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَهَل يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ؟
لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَجْلِسٌ ف 7، وَارْتِفَاقٌ 8 - 9، وَطَرِيقٌ ف 9 - 13) .
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 445، ومنح الجليل 2 / 174، والمغني 7 / 38، 39.
(2) سورة النساء / 128.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 445، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 368، ومغني المحتاج 2 / 370، وكشاف القناع 4 / 196.(38/261)
مُفْتِي
انْظُرْ: فَتْوَى
مَفْسَدَةٌ
انْظُرْ: سَدُّ الذَّرَائِعِ(38/262)
مُفَصَّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُفَصَّل - بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ - هُوَ السُّبْعُ السَّابِعُ أَوِ الأَْخِيرُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ مَا يَلِي الْمَثَانِيَ مِنْ قِصَارِ السُّوَرِ، سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ الْفُصُول بَيْنَ سُوَرِهِ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْ لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى بِالْمُحْكَمِ أَيْضًا (1) كَمَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَال: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّل هُوَ الْمُحْكَمُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطُّوَل:
2 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: السَّبْعُ الطُّوَل أَوَّلُهَا " الْبَقَرَةُ " وَآخِرُهَا " بَرَاءَةٌ " لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ " الأَْنْفَال " وَ " بَرَاءَةٌ " سُورَةً وَاحِدَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا نَزَلَتَا جَمِيعًا فِي مَغَازِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُمِّيَ طُوَلاً: لِطُولِهَا.
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ عَدَّ السَّبْعَ الطُّوَل: الْبَقَرَةَ وَآل عِمْرَانَ،
__________
(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 245، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1 / 180، وقواعد الفقه للبركتي، والمغرب للمطرزي، وابن عابدين 1 / 362.
(2) أثر سعيد بن جبير أخرجه البخاري (الفتح 9 / 83) .(38/262)
وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ، وَالأَْنْعَامَ، وَالأَْعْرَافَ، وَيُونُسَ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُفَصَّل وَالطُّوَل: أَنَّهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الإِْنْجِيل الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّل (3) .
ب - الْمِئُونَ:
3 - الْمِئُونَ هِيَ السُّوَرُ الْقُرْآنِيَّةُ الَّتِي وَلِيَتِ السَّبْعَ الطُّوَل، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ كُل سُورَةٍ مِنْهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ آيَةٍ أَوْ تُقَارِبُهَا (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُفَصَّل وَالْمِئِينَ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 244، والإتقان في علوم القرآن 1 / 179.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 244، والإتقان في علوم القرآن 1 / 163.
(3) حديث واثلة بن الأسقع: " أعطيت مكان التوراة السّبع. . " أخرجه أحمد (4 / 107) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 46) : رواه أحمد، وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات.
(4) البرهان في علوم القرآن 1 / 244، والإتقان في علوم القرآن 1 / 179.(38/263)
ح - الْمَثَانِي:
4 - الْمَثَانِي فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَثْنَى أَوْ مُثَنَّاةٍ، مِنَ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى التَّكْرَارِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا وَلِيَ الْمِئِينَ؛ لأَِنَّهَا ثَنَّتْهَا، أَيْ كَانَتْ بَعْدَهَا، فَالْمَثَانِي لِلْمِئِينَ ثَوَانٍ، وَالْمِئُونَ لَهَا أَوَائِل، قَال السُّيُوطِيُّ، وَعَزَاهُ إِلَى الْفَرَّاءِ: إِنَّ الْمَثَانِيَ هِيَ السُّوَرُ الَّتِي آيُهَا أَقَل مِنْ مِائَةٍ؛ لأَِنَّهَا تُثَنَّى أَكْثَرَ مِمَّا يُثَنَّى الطُّوَل وَالْمِئُونَ.
وَيُطْلَقُ الْمَثَانِي أَيْضًا عَلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا فِي: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (1) لأَِنَّهُ يُكَرَّرُ فِيهِ الأَْنْبَاءُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَصَصُ.
كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْفَاتِحَةِ لأَِنَّهَا تُثَنَّى فِي كُل صَلاَةٍ (2) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمُفَصَّل وَالْمَثَانِي عَلَى الإِْطْلاَقِ الأَْوَّل: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَقْسَامِ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَعَلَى الإِْطْلاَقِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُفَصَّل جُزْءٌ مِنَ الْمَثَانِي، وَعَلَى الإِْطْلاَقِ الثَّالِثِ: كِلاَهُمَا مِمَّا يَشْتَمِل عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
آخِرُ الْمُفَصَّل وَأَوَّلُهُ:
5 - قَال الزَّرْكَشِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: آخِرُ الْمُفَصَّل فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ سُورَةُ " النَّاسِ " بِلاَ نِزَاعٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّل الْمُفَصَّل:
__________
(1) سورة الزمر / 23.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 245، والإتقان في علوم القرآن 1 / 179، 180.(38/263)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل سُورَةُ الْحُجُرَاتِ.
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل مِنْ سُورَةِ " ق (1) ".
وَقَدْ جَمَعَ الزَّرْكَشِيُّ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي أَوَّل الْمُفَصَّل فِي اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلاً هِيَ:
أَحَدُهَا: الْجَاثِيَةُ.
ثَانِيهَا: الْقِتَال، وَعَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لِلأَْكْثَرِينَ.
ثَالِثُهَا: الْحُجُرَاتُ.
رَابِعُهَا: " ق "، قِيل: وَهِيَ أَوَّلُهُ فِي مُصْحَفِ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِيهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ، يَرْوِيهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْلَى الطَّائِفِيُّ قَال: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ فَسَمِعَ " أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ " قَال: وَحِزْبُ الْمُفَصَّل مِنْ " ق " (2)
__________
(1) رد المحتار 1 / 362، وكشاف القناع 1 / 342، والإنصاف 2 / 55، والدسوقي 1 / 247، مغني المحتاج 1 / 163.
(2) حديث أوس بن حذيفة في غريب الحديث (2 / 452) أخرجه الإمام أحمد في المسند (4 / 343) بلفظ مقارب وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (1 / 209 - ط دار الكتب العلمية) في ترجمة أوس: " حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخريبه القرآن حديث ليس بالقائم ".(38/264)
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَكَاهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
الْخَامِسُ: الصَّافَّاتُ.
السَّادِسُ: الصَّفُّ.
السَّابِعُ: تَبَارَكَ. حَكَى هَذِهِ الثَّلاَثَةَ ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ فِي " نُكَتِ التَّنْبِيهِ ".
الثَّامِنُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} حَكَاهُ الذِّمَارِيُّ فِي شَرْحِ " التَّنْبِيهِ " الْمُسَمَّى: " رَفْعُ التَّمْوِيهِ "
التَّاسِعُ: (الرَّحْمَنُ) ، حَكَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى " الْمُوَطَّأِ " وَقَال: إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قُلْتُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ (1) .
الْعَاشِرُ: {هَل أَتَى عَلَى الإِْنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} الْحَادِي عَشَرَ: (سَبِّحْ) ، حَكَاهُ ابْنُ الْفِرْكَاحِ فِي تَعْلِيقِهِ عَنِ الْمَرْزُوقِيِّ (2) .
الثَّانِي عَشَرَ: (وَالضُّحَى) ، عَزَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَفْصِل بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ بِالتَّكْبِيرِ. قَال: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقُرَّاءِ مَكَّةَ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْل الأَْثَرِ أَنَّ أَوَّلَهُ " ق (3) ".
__________
(1) انظر المسند للإمام أحمد (1 / 412 ط. الميمنية) .
(2) الإتقان في علوم القرآن 200.
(3) البرهان في علوم القرآن 1 / 245 - 246.(38/264)
أَقْسَامُ الْمُفَصَّل:
6 - قَال السُّيُوطِيُّ: لِلْمُفَصَّل طُوَالٌ وَأَوْسَاطٌ وَقِصَارٌ، قَال ابْنُ مَعْنٍ: فَطُوَالُهُ إِلَى " عَمَّ " وَأَوْسَاطُهُ مِنْهَا إِلَى " الضُّحَى "، وَمِنْهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ قِصَارٌ. قَال: هَذَا أَقْرَبُ مَا قِيل فِيهِ (1) .
وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ ف 5) .
مَا يُقْرَأُ مِنَ الْمُفَصَّل فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِطُوَال الْمُفَصَّل، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل، وَفِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 66) .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1 / 181.(38/265)
مَفْصِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَفْصِل عَلَى وَزْنِ مَسْجِدٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُلْتَقَى الْعَظَمَاتِ مِنَ الْجَسَدِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَوْضِعُ اتِّصَال عُضْوٍ بِآخَرَ عَلَى مَقْطَعِ عَظْمَيْنِ بِرِبَاطَاتِ وَاصِلَةٍ بَيْنَهُمَا، إِمَّا مَعَ دُخُول أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالرُّكْبَةِ، أَوْ لاَ كَالْكُوعِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَفْصِل:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَفْصِل أَحْكَامٌ مِنْهَا:
1 - فِي الْغُسْل وَالْوُضُوءِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلاَثًا قَبْل إِدْخَالِهِمَا الإِْنَاءَ (3) ، قَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الرُّسْغُ هُوَ مَفْصِل الْكَفِّ بَيْنَ الْكُوعِ وَالْكُرْسُوعِ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) مغني المحتاج 4 / 27.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 76، والقوانين الفقهية 27، وحاشية الجمل 1 / 123، 124، وكشاف القناع 1 / 90.
(4) الكوع: هو العظم أو طرف الزند الذي يلي الإبهام، والكرسوع: العظم أو طرف الزند الذي يلي الخنصر. (ابن عابدين 1 / 76، 3 / 206) .(38/265)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ ف 30، وُضُوءٌ) .
ب - فِي الْقِصَاصِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ كَوْنِ " الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ " مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ، إِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تُبِينُ الْعُضْوَ عَمْدًا، بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ عَلَى كُلٍّ دُونَ النَّفْسِ ف 11) .
ج - فِي الدِّيَاتِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ كُل أُنْمُلَةٍ مِنْ كُل أُصْبُعٍ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ثُلُثَ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهَا ثَلاَثَةَ مَفَاصِل، إِلاَّ الإِْبْهَامَ فَفِيهَا أُنْمُلَتَانِ، فَفِي كُل مَفْصِلٍ مِنْهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ فِي 53) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، وشرح الزرقاني 8 / 18، 19، ومغني المحتاج 4 / 27، وروضة الطالبين 9 / 181، والمغني 7 / 707.
(2) الزيلعي 6 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 6، والمغني 8 / 35.(38/266)
د - فِي السَّرِقَةِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ - بَعْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِ الْقَطْعِ - يَكُونُ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ.
وَمَوْضِعُ قَطْعِ الرِّجْل هُوَ مَفْصِل الْكَعْبِ مِنَ السَّاقِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 66) .
مُفَضَّضٌ
انْظُرْ: آنِيَةٌ
__________
(1) المبسوط 9 / 133، وابن عابدين 3 / 206، والدسوقي 4 / 332، وروضة الطالبين 10 / 149، والمغني 8 / 259.(38/266)
مَفْقُودٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَفْقُودُ فِي اللُّغَةِ: الضَّائِعُ وَالْمَعْدُومُ، يُقَال: فَقَدَ الشَّيْءَ يَفْقِدُهُ فَقْدًا، وَفِقْدَانًا، وَفُقُودًا: ضَلَّهُ وَضَاعَ مِنْهُ، وَفَقَدَ الْمَال وَنَحْوَهُ: خَسِرَهُ وَعَدِمَهُ (1) .
وَالْمَفْقُودُ فِي الاِصْطِلاَحِ: غَائِبٌ لَمْ يُدْرَ مَوْضِعُهُ وَحَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ، وَأَهْلُهُ فِي طَلَبِهِ يَجِدُّونَ، وَقَدِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَثَرُهُ (2) .
أَنْوَاعُ الْمَفْقُودِ
2 - الْمَفْقُودُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ عَلَى أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: الْمَفْقُودُ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّعَ هَذَا النَّوْعَ إِلَى مَفْقُودٍ فِي زَمَانِ الْوَبَاءِ، وَمَفْقُودٍ فِي غَيْرِهِ.
الثَّانِي: الْمَفْقُودُ فِي بِلاَدِ الأَْعْدَاءِ.
الثَّالِثُ: الْمَفْقُودُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ.
الرَّابِعُ: الْمَفْقُودُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ (3) .
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط، وتاج العروس.
(2) المبسوط 11 / 34، 38، وحاشية الدسوقي 2 / 479.
(3) القوانين الفقهية ص 144 - 145، والكافي لابن عبد البر 2 / 567 - 569، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 156 وما بعدها، ومواهب الجليل 4 / 156 وما بعدها.(38/267)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْمَفْقُودُ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ:
الأَْوَّل: مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا السَّلاَمَةُ، كَالْمُسَافِرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلسِّيَاحَةِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الثَّانِي: مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ، كَالْجُنْدِيِّ الَّذِي يُفْقَدُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَرَاكِبِ السَّفِينَةِ الَّتِي غَرِقَتْ وَنَجَا بَعْضُ رُكَّابِهَا، وَالرَّجُل الَّذِي يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، كَمَنْ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ أَوْ إِلَى حَاجَةٍ قَرِيبَةٍ فَلَمْ يَرْجِعْ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا مَنْ فُقِدَ فِي صَحْرَاءَ مُهْلِكَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) .
3 - أَمَّا الأَْسِيرُ، الَّذِي لاَ يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَفْقُودًا فِي قَوْل الزُّهْرِيِّ (2) ، وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَلَمْ يَجْعَلُوا الأَْسِيرَ مَفْقُودًا وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَوْضِعُهُ وَلاَ مَوْقِعُهُ بَعْدَ الأَْسْرِ (4) ، إِلاَّ فِي قَوْل ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الأَْسِيرَ الَّذِي تُعْرَفُ حَيَاتُهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ خَبَرُهُ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مَوْتٌ وَلاَ حَيَاةٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 365 - 366، 8 / 95 - 96 - مطبعة الإمام، وكشاف القناع 4 / 515، 5 / 487، ومطالب أولي النهى 4 / 630 - 631.
(2) فتح الباري 11 / 351 - البابي الحلبي.
(3) المبسوط 11 / 38، والفتاوى الهندية 2 / 299، 6 / 456، ومغني المحتاج 3 / 26، وشرح المحلي 3 / 149، والمغني 6 / 365، 366، 8 / 95 - 96.
(4) المدونة الكبرى 2 / 456 - دار صادر، وشرح الخرشي 4 / 149.(38/267)
يُعْتَبَرُ مَفْقُودًا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ (1) .
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُرْتَدَّ الَّذِي لَمْ يَعُدْ أُلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لاَ مَفْقُودًا (2) .
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ الْمَحْبُوسَ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ الْكَشَفُ عَنْهُ مَفْقُودًا (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَفْقُودِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَفْقُودِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
أ - زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ 4 - مِنَ الثَّابِتِ شَرْعًا أَنَّ الْفِقْدَانَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ تَبْقَى عَلَى نِكَاحِهِ، وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا، وَيَقَعُ عَلَيْهَا طَلاَقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلاَؤُهُ، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، مَا لَمْ يَنْتَهِ الْفِقْدَانُ (4) .
وَلَكِنْ إِلَى مَتَى تَبْقَى كَذَلِكَ؟ لَمْ يَأْتِ فِي السُّنَّةِ إِلاَّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ هُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ (5) ".
__________
(1) الكافي 2 / 568.
(2) الدر المختار 4 / 292.
(3) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 155، ومواهب الجليل 4 / 155.
(4) المبسوط 11 / 38، 39، والبناية على الهداية 6 / 60، والفتاوى الهندية 2 / 300، والمدونة 2 / 451، ومواهب الجليل 4 / 156 - 157، والأم 5 / 239 - 240، دار المعرفة، ومغني المحتاج 3 / 398، والمغني 8 / 104.
(5) حديث: " امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر ". أخرجه الدارقطني (3 / 312) عن المغيرة بن شعبة، وضعفه الزيلعي في نصب الراية (3 / 473) .(38/268)
وَهَذَا النَّصُّ الْمُجْمَل جَاءَ بَيَانُهُ فِي قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ تَبْقَى عَلَى عِصْمَته إِلَى أَنْ يَمُوتَ، أَوْ يَأْتِيَ مِنْهُ طَلاَقُهَا (1) .
وَبِهِ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ (2) .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ (4) .
وَذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى أَنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ (5) .
وَبِهَذَا الْقَوْل قَال عُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (6) ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (7) .
__________
(1) أثر علي في امرأة المفقود أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7 / 90) بلفظ: هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق.
(2) المغني 8 / 95، وفتح الباري 11 / 352.
(3) المبسوط 11 / 35، وبدائع الصنائع 6 / 196.
(4) الوجيز للغزالي 2 / 99، ومغني المحتاج 3 / 397.
(5) مصنف ابن أبي شيبة، 4 / 237، ونصب الراية 3 / 472، والمحلى 7 / 164، وفتح الباري 11 / 352.
(6) فتح الباري 11 / 352.
(7) مغني المحتاج 3 / 397.(38/268)
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَ فِي الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَال تَرَبَّصَتِ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَإِذَا فُقِدَ فِي غَيْرِهِ تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ تَتَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي بِلاَدِ الأَْعْدَاءِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ لاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ مَوْتُهُ، أَوْ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ حَدًّا لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِسَبْعِينَ سَنَةً فِي قَوْل مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَقَال مَالِكٌ مَرَّةً: إِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا الْمَفْقُودُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكَفَّارِ فَقَدْ قَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلاَدِ الأَْعْدَاءِ، وَعَنْ مَالِكٍ: تَتَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، ثُمَّ تَعْتَدُّ، وَقِيل: هُوَ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَقَدْ قَال مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَجَلٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا تَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ مِنْ يَوْمِ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، وَقِيل: تَتَرَبَّصُ سَنَةً ثُمَّ تَعْتَدُّ، وَقِيل: يُتْرَكُ ذَلِكَ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ (2) .
__________
(1) فتح الباري 11 / 350، ومصنف عبد الرزاق 7 / 189.
(2) المدونة 2 / 451، 452، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 156، 160، 161، وحاشية الدسوقي 2 / 479، 483.(38/269)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ فِي الْمَفْقُودِ الَّذِي ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلاَمَةُ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: لاَ تَزُول الزَّوْجِيَّةُ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ زَوْجَتَهُ تَنْتَظِرُ حَتَّى يَبْلُغَ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعِينَ سَنَةً فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُدَّةَ مُفَوَّضَةٌ إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ وَالرِّوَايَةُ الأُْولَى هِيَ الْقَوِيَّةُ الْمُفْتَى بِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ قَدَّرَ الْمُدَّةَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ الَّذِي ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلاَكُ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
بَدْءُ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ
5 - تَبْدَأُ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ مِنْ حَيْنِ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ، وَعَلَيْهِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ مَنْ قَال بِالتَّرَبُّصِ (2) ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ تَبْدَأُ مِنْ حِيْنِ الْيَأْسِ مِنْ وُجُودِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ التَّحَرِّي عَنْهُ، وَهُوَ الْقَوْل الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) المغني 6 / 366، 8 / 95 - 96، وكشاف القناع 4 / 515، 6 / 487، 489.
(2) مصنف عبد الرزاق 7 / 86، 90، وفتح الباري 11 / 352.
(3) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 156، والمهذب 2 / 146، والمغني 8 / 98.(38/269)
وَقِيل: تَبْدَأُ الْمُدَّةُ مِنْ حِيْنِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ، وَالرِّوَايَةُ الأَْصَحُّ وَالصَّوَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَهُنَاكَ نُصُوصٌ نُقِلَتْ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، جَاءَ فِيهَا ذِكْرُ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ دُونَ تَحْدِيدِ مَتَى تَبْدَأُ (2) .
وَذَهَبَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ وَلِيُّ الْمَفْقُودِ زَوْجَتَهُ (3) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لِطَلاَقِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ وَالْمُتَّفِقُ مَعَ الْقِيَاسِ (5) ".
مَا يَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ
6 - يَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَنْ تَعْتَدَّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ وَهَذَا قَوْل عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَخَذُوا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 397، ومطالب أولي النهى 5 / 568.
(2) فتح الباري 11 / 352، ومصنف عبد الرزاق 7 / 85، 89.
(3) مصنف عبد الرزاق 7 / 86 - 90، ونصب الراية 3 / 472.
(4) المغني 8 / 97 - 98، والفروع 5 / 545 - 546.
(5) المغني 8 / 98، وكشاف القناع 6 / 488.(38/270)
بِقَوْلِهِ (1) .
وَلاَ تَحْتَاجُ الزَّوْجَةُ بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ لِحُكْمٍ مِنَ الْحَاكِمِ بِالْعِدَّةِ، وَلاَ بِالزَّوَاجِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فِي قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَعَلَى الْقَوْل الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ (3) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالتَّفْرِيقِ:
7 - إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَفْقُودِ وَزَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْفُذُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَقِيل يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ (5) ".
وَلِهَذَا نَتَائِجُ فِي أَثَرِ ظُهُورِ الْمَفْقُودِ حَيًّا فِي نِكَاحِ الزَّوْجَةِ غَيْرَهُ (ر: ف 25 - 26) .
فَإِنْ تَزَوَّجَتِ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي وَقْتٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيهِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، لأَِنَّ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الأَْوَّل عَلَى
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 569، وفتح الباري 11 / 352.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 157، والشرح الكبير 2 / 480، وكشاف القناع 6 / 488، ومطالب أولي النهى 4 / 631، 5 / 569.
(3) المهذب 2 / 146، ومغني المحتاج 3 / 397.
(4) المصادر السابقة.
(5) المغني 8 / 99، ومطالب أولي النهى 5 / 569.(38/270)
حَالِهِ (1) .
وَلَوْ تَزَوَّجَتِ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ قَبْل مُضِيِّ الزَّمَانِ الْمُعْتَبَرِ لِلتَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْل ذَلِكَ بِمُدَّةٍ تَنْقَضِي فِيهَا الْعِدَّةُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ فَأَشْبَهَتِ الزَّوْجَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ (2) ، وَبِالْقَوْل الأَْوَّل لِلشَّافِعِيَّةِ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ (3) .
وَلَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِلْمَفْقُودِ، وَأَقَامَتْ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْضَ لَهَا بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ (4) ، وَمَبْنَى الْمَسْأَلَةِ قَائِمٌ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَعَدَمِهِ.
ب - أَمْوَال الْمَفْقُودِ:
لِلْفِقْدَانِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي أَمْوَال الْمَفْقُودِ الْقَائِمَةِ، وَفِي اكْتِسَابِهَا بِالْوَصِيَّةِ، وَالإِْرْثِ، وَفِي إِدَارَةِ تِلْكَ الأَْمْوَال.
أَوَّلاً: فِي بَيْعِ مَال الْمَفْقُودِ
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ الْمَفْقُودِ، وَلاَ الْعُرُوضَ الَّتِي لاَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، وَأَمَّا مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 158، والمهذب 2 / 146، والمغني 8 / 103.
(2) شرح المحلي 4 / 51، ومغني المحتاج 3 / 398.
(3) مطالب أولي النهى 5 / 570، وكشاف القناع 6 / 488.
(4) المبسوط 11 / 45، ومواهب الجليل 4 / 156.(38/271)
الْفَسَادُ كَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ، وَيَحْفَظُ ثَمَنَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ بَيْعِ أَمْوَال الْمَفْقُودِ إِذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ ضَمَانِ عَيْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ (2)
ثَانِيًا: فِي قَبْضِ حُقُوقِ الْمَفْقُودِ
9 - لَيْسَ لِلْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَأْخُذَ مَال الْمَفْقُودِ الَّذِي فِي يَدِ مُودِعِهِ، وَلاَ الْمَال الَّذِي فِي يَدِ الشَّرِيكِ الْمُضَارِبِ، لأَِنَّهُمَا نَائِبَانِ عَنِ الْمَفْقُودِ فِي الْحِفْظِ (3) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ رَأَى مَصْلَحَةً فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَدِينُ غَيْرَ ثِقَةٍ (4) .
وَلَوْ أَنَّ الْمَدِينَ دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ أَوْ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ لَوْ دَفَعَ الأُْجْرَةَ، فَإِنَّ الذِّمَّةَ لاَ تَبْرَأُ مَا لَمْ يَأْمُرِ الْقَاضِي بِذَلِكَ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ دُيُونَ الْمَفْقُودِ لاَ تُدْفَعُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا تُدْفَعُ لِلسُّلْطَانِ (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 196 - 197.
(2) مواهب الجليل 4 / 156.
(3) بدائع الصنائع 6 / 196.
(4) المدونة 2 / 455، وحاشية ابن عابدين 4 / 293.
(5) المبسوط 11 / 43.
(6) المدونة 2 / 454 - 455، ومواهب الجليل 4 / 156.(38/271)
ثَالِثًا: فِي الإِْنْفَاقِ مِنْ مَال الْمَفْقُودِ
10 - مِنَ الثَّابِتِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ (ر: ف 4) ، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَكُونُ فِي مَال الْمَفْقُودِ، بِذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَسْتَدِينُ، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَخَذَتْ مِنْ نَصِيبِهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ (2) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَفْقُودِ مَالٌ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ الْقَاضِي الْحُكْمَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يُجِيبُهَا إِلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُ: لاَ يُجِيبُهَا، وَهُوَ قَوْل شُرَيْحٍ، وَقَال زُفَرُ: يَأْمُرُهَا الْقَاضِي بِأَنْ تَسْتَدِينَ، وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا (3) .
وَتَنْقَطِعُ النَّفَقَةُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ، أَوْ بِمُفَارِقَتِهِ لَهَا فَإِنِ اسْتَمَرَّتْ بِقَبْضِ النَّفَقَةِ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ فَارَقَهَا ثُمَّ رَجَعَ، فَعَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ مَا قَبَضَتْهُ مِنْ تَارِيخِ الْمَوْتِ، أَوِ الْمُفَارِقَةِ (4) .
وَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِزَوَاجِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ مِنْ غَيْرِهِ (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 295، واللباب 2 / 216، والتاج والإكليل 4 / 157، وشرح الخرشي 4 / 150، ومطالب أولي النهى 5 / 569.
(2) المغني 7 / 495، ومصنف عبد الرزاق 7 / 194.
(3) المبسوط 11 / 42 - 43.
(4) شرح الخرشي 4 / 150، والمغني 8 / 100.
(5) مغني المحتاج 3 / 398.(38/272)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَسْقُطُ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْمَفْقُودِ، أَوْ بِزَوَاجِهَا مِنْ غَيْرِهِ (1) ،
وَيَجِبُ فِي مَال الْمَفْقُودِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِذَلِكَ قَال ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
11 - وَيَجِبُ فِي مَال الْمَفْقُودِ نَفَقَةُ الْفُقَرَاءِ مِنْ أَوْلاَدِهِ وَوَالِدِيهِ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لاِسْتِحْقَاقِ الأَْبَوَيْنِ النَّفَقَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَى بِهَا قَاضٍ قَبْل الْفَقْدِ (4) ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَفْقُودَ مَيِّتٌ، وَاسْتَمَرَّ هَؤُلاَءِ بِقَبْضِ النَّفَقَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُمْ يَغْرَمُونَ مَا أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ مِنْ يَوْمِ مَاتَ، لأَِنَّهُمْ وَرَثَةٌ (5) .
12 - وَتُسْتَوْفَى النَّفَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لِلزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ وَالْوَالِدَيْنِ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَفْقُودِ وَدَنَانِيرِهِ وَمِنَ التِّبْرِ أَيْضًا، إِذَا كَانَ كُل ذَلِكَ تَحْتَ يَدِ الْقَاضِي، أَوْ كَانَ وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا لِلْمَفْقُودِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْوَدِيعُ وَالْمَدِينُ بِذَلِكَ،
__________
(1) المغني 8 / 101، والفروع 5 / 548.
(2) المغني 8 / 101، ومطالب أولي النهى 5 / 569، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 157، ومواهب الجليل 4 / 157.
(3) المبسوط 11 / 39، ومغني المحتاج 3 / 446 - 449.
(4) المدونة 2 / 452، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 160.
(5) المدونة 2 / 452، وشرح الخرشي 4 / 150.(38/272)
وَأَقَرَّا بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ (1) .
وَيَنْتَصِبُ الْوَدِيعُ وَالْمَدِينُ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى، لأَِنَّ الْمَال تَحْتَ يَدِهِمَا، فَيَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُمَا إِلَى الْمَفْقُودِ، فَإِنْ كَانَ الْوَدِيعُ أَوِ الْمَدِينُ مُنْكِرًا لِلْوَدِيعَةِ أَوِ الدَّيْنِ أَوِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ، لَمْ يَصْلُحْ لِمُخَاصَمَةِ أَحَدٍ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ، وَلاَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ ضِدَّهُ (2) .
وَلَيْسَ لِهَؤُلاَءِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْمَفْقُودِ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَالثِّمَارِ، وَنَحْوِهَا، فَإِنْ بَاعُوهُ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ (3) .
وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُ دَارِ الْمَفْقُودِ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِهِ سِوَاهَا، وَاحْتَاجُوا لِلنَّفَقَةِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ كَفِيلاً، لاِحْتِمَال أَنْ يَحْضُرَ الْمَفْقُودُ، وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى طَلاَقِ امْرَأَتِهِ، وَأَنَّهُ تَرَكَ لأَِوْلاَدِهِ مَالاً يَكْفِي لِنَفَقَتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (5) .
وَالْقَضَاءُ عَلَى الْمَفْقُودِ بِالنَّفَقَةِ لِمُسْتَحِقِّيهَا لَيْسَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْكِينٌ لَهُمْ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِمْ.
وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَفْقُودِ نَفَقَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِ
__________
(1) المبسوط 11 / 39 - 41، والبناية 6 / 61 - 64.
(2) المبسوط 11 / 41، وبدائع الصنائع 6 / 197.
(3) المبسوط 11 / 40.
(4) المبسوط 11 / 39.
(5) بدائع الصنائع 6 / 196، والمدونة 2 / 452.(38/273)
الْمَفْقُودِ غَيْرَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا آنِفًا (1) .
رَابِعًا: فِي الْوَصِيَّةِ:
13 - تُوقَفُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَفْقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا قَبْل مَوْتِ أَقْرَانِهِ فَلَهُ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ رُدَّ الْمَال الْمُوصَى بِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي. (2)
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ وَجَاءَ مَوْتُ الْمَفْقُودِ أَوْ بَلَغَ مِنَ السِّنِينَ مَا لاَ يَحْيَا إِلَى مِثْلِهَا، وَالْمُوصَى لَهُ حَيٌّ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَل الْبَيِّنَةُ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَتْ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ الْحَال لَوْ أَوْصَى لَهُ قَبْل الْفَقْدِ، (3) وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
خَامِسًا: فِي الإِْرْثِ:
14 - يُعْتَبَرُ الْمَفْقُودُ حَيًّا بِالنِّسْبَةِ لأَِمْوَالِهِ، فَلاَ يَرِثُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَيَبْقَى كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مَوْتُهُ حَقِيقَةً، وَيُحْكَمَ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ (ر: ف 20 - 21) .
15 - وَلاَ يَرِثُ الْمَفْقُودُ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ وَقْفُ نَصِيبِهِ مِنْ إِرْثِ مُوَرِّثِهِ، وَيَبْقَى كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ كَمِيرَاثِ الْحَمْل، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ حَيٌّ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ وَإِنْ
__________
(1) المبسوط 11 / 38، 39، 40، وبدائع الصنائع 6 / 197.
(2) المبسوط 11 / 43، 44 - 45، والبناية شرح الهداية 6 / 70.
(3) المدونة 2 / 456.(38/273)
ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الإِْرْثِ كَذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْل مَوْتِ مُوَرِّثِهِ أَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ، فَإِنَّ مَا أُوقِفَ مِنْ نَصِيبِهِ يُرَدُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوَرِّثِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ مِمَّنْ يَحْجُبُ الْحَاضِرِينَ، لَمْ يُصْرَفْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ، بَل يُوقَفُ الْمَال كُلُّهُ.
وَإِنْ كَانَ لاَ يَحْجُبُهُمْ، يُعْطَى كُل وَاحِدٍ الأَْقَل مِنْ نَصِيبِهِ الإِْرْثِيِّ عَلَى تَقْدِيرِ حَيَاةِ الْمَفْقُودِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِهِ، مِثَال ذَلِكَ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ، وَابْنٍ مَفْقُودٍ، وَابْنِ ابْنٍ، وَبِنْتِ ابْنٍ، وَطَلَبَتِ الْبِنْتَانِ الإِْرْثَ، فَإِنَّ فَرْضَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الثُّلُثَانِ، لاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمَا النِّصْفُ؛ لأَِنَّهُ أَقَل النَّصِيبَيْنِ، وَلاَ يُدْفَعُ شَيْءٌ لاَبْنِ الاِبْنِ، وَلاَ لِبِنْتِ الاِبْنِ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَحُكِمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ، أُعْطِيَتِ الْبِنْتَانِ السُّدُسَ، لِيَتِمَّ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَأُعْطِيَ الْبَاقِي لأَِوْلاَدِ الاِبْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، وَعَلَى مَا سَبَقَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ (1) إِلاَّ مَا ذُكِرَ مِنْ خِلاَفٍ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ حَوْل رَدِّ مَا أُوقِفَ مِنْ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ رَغْمَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوَرِّثِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ،
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 2 / 509، 510، واللباب 2 / 217، والمدونة 2 / 453، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 161 - 162، 6 / 423 - 424، والمغني 6 / 365 - 368، 376، والفروع 5 / 35 - 37.(38/274)
غَيْرَ أَنَّ الْقَوْل الأَْصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمَفْقُودِ، يُوَزَّعُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ. (1)
16 - وَلَوِ ادَّعَى وَرَثَةُ رَجُلٍ أَنَّهُ فُقِدَ، وَطَلَبُوا قِسْمَةَ مَالِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْسِمُهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ، وَتَكُونُ الدَّعْوَى بِأَنْ يَجْعَل الْقَاضِي مَنْ فِي يَدِهِ الْمَال خَصْمًا عَنِ الْمَفْقُودِ، أَوْ يُنَصِّبُ عَنْهُ قَيِّمًا فِي هَذِهِ الْوِلاَيَةِ. (2)
سَادِسًا: فِي إِدَارَةِ أَمْوَال الْمَفْقُودِ
تُدَارُ أَمْوَال الْمَفْقُودِ مِنْ قِبَل وَكِيلِهِ، أَوْ وَكِيلٍ يُعَيِّنُهُ الْقَاضِي.
أ - الْوَكِيل الَّذِي عَيَّنَهُ الْمَفْقُودُ:
17 - مَنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ، ثُمَّ فُقِدَ فَإِنَّ الْوِكَالَةَ تَبْقَى صَحِيحَةً؛ لأَِنَّ الْوَكِيل لاَ يَنْعَزِل بِفَقْدِ الْمُوَكِّل.
وَلِهَذَا الْوَكِيل أَنْ يَحْفَظَ الْمَال الَّذِي أَوَدَعَهُ الْمَفْقُودُ، وَلَيْسَ لأَِمِينِ بَيْتِ الْمَال أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَأَمَّا قَبْضُ الدُّيُونِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا غُرَمَاءُ الْمَفْقُودِ، وَقَبْضُ غَلاَّتِ أَمْوَالِهِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى أَنَّ لِوَكِيل الْمَفْقُودِ حَقُّ قَبْضِ الدِّيُونِ وَالْغَلاَّتِ مَا دَامَ قَدْ وُكِّل بِذَلِكَ (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي قَبْضِ وَكِيل الْمَفْقُودِ لِلْغَلاَّتِ
__________
(1) المحرر 1 / 407، والفروع 5 / 37.
(2) المبسوط 11 / 38.
(3) البحر الرائق 5 / 176، حاشية ابن عابدين 4 / 293.(38/274)
قَوْلاَنِ. (1)
وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ وَكِيلاً بِعَمَارَةِ دَارِ الْمَفْقُودِ أَنْ يُعَمِّرَهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَلَعَلَّهُ مَاتَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّصَرُّفُ لِلْوَرَثَةِ (2) ".
ب - الْوَكِيل الَّذِي يُعَيِّنُهُ الْقَاضِي:
18 - إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَفْقُودِ وَكِيلٌ فَإِنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ لَهُ وَكِيلاً.
وَهَذَا الْوَكِيل يَتَوَلَّى جَمْعَ مَال الْمَفْقُودِ وَحِفْظِهِ وَقَبْضِ كُل حُقُوقِهِ مِنْ دُيُونٍ ثَابِتَةٍ وَأَعْيَانٍ وَغَلاَّتٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْمَفْقُودِ، وَفِي الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ (3) .
وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِحَقٍّ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَلاَ تُقْبَل الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إِنْ قَبِل ذَلِكَ، وَحَكَمَ بِهِ، نَفَذَ حُكْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قَبُول الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَفْقُودِ.
وَلَوْ طَلَبَ وَرَثَةُ الْمَفْقُودِ مِنَ الْحَاكِمِ نَصْبَ وَكِيلٍ عَنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِذَلِكَ. (4)
__________
(1) كشاف القناع 4 / 519، والفروع 5 / 38.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 293.
(3) البحر الرائق 5 / 176، وتبيين الحقائق 3 / 310، 311، والتاج والإكليل 4 / 160، ومواهب الجليل 4 / 156.
(4) المدونة 2 / 456، والمبسوط 11 / 41، 42، والفتاوى الهندية 2 / 301.(38/275)
انْتِهَاءُ الْفِقْدَانِ: يَنْتَهِي الْفِقْدَانُ بِإِحْدَى الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: عَوْدَةُ الْمَفْقُودِ
19 - إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَفْقُودَ حَيٌّ، وَعَادَ إِلَى وَطَنِهِ، فَقَدِ انْتَهَى الْفِقْدَانُ، لأَِنَّ الْمَفْقُودَ مَجْهُول الْحَيَاةِ أَوِ الْمَوْتِ، وَبِظُهُورِهِ انْتَفَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
(ر: ف 25 - 26) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْتُ الْمَفْقُودِ:
20 - إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَفْقُودَ قَدْ مَاتَ فَقَدِ انْتَهَتْ حَالَةُ الْفِقْدَانِ، لِزَوَال الْجَهَالَةِ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ حَيَاتَهُ أَوْ مَوْتَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَلاَ بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ مَوْتِهِ أَمَامَ الْقَاضِي، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَمْ يَشْتَرِطُوا صُدُورَ حُكْمٍ بِذَلِكَ. (2)
وَيُمْكِنُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدَّعُوا مَوْتَ الْمَفْقُودِ، وَيُقَدِّمُوا الْبَيِّنَةَ لإِِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَيَخْتَارُ الْقَاضِي وَكِيلاً عَنِ الْمَفْقُودِ يُخَاصِمُ الْوَرَثَةَ، فَإِذَا أَثَبَتَتِ الْبَيِّنَةُ مَوْتَهُ، قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ. (3)
__________
(1) شرح السراجية ص 221، والمدونة 2 / 452، والوجيز 1 / 267، والمغني 6 / 366.
(2) حاشية البجيرمي 3 / 260، وحاشية القليوبي 3 / 149.
(3) المبسوط 11 / 38، وحاشية ابن عابدين 4 / 297.(38/275)
وَيُقَسَّمُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الأَْحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ يَوْمَ مَوْتِهِ، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ شَرْطَ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ. (1)
21 - أَمَّا مِيرَاثُ الزَّوْجَةِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ كَمَا يَلِي: ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ الَّتِي تَزَوَّجَتْ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَهِيَ تَرِثُهُ. (2)
وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ جَاءَ مَوْتُهُ قَبْل أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ.
وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الثَّانِي، وَوَرِثَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْمَفْقُودِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَتْ وَجَاءَ مَوْتُهُ قَبْل الدُّخُول وَرِثَتْهُ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَقْبَلَتْ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ.
وَإِنْ جَاءَ مَوْتُ الْمَفْقُودِ بَعْدَ دُخُول الثَّانِي، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ إِرْثَ لَهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ زَوَاجُ الثَّانِي قَدْ وَقَعَ فِي الْعِدَّةِ
__________
(1) المبسوط 30 / 54، والبناية 6 / 69، والمدونة 2 / 452، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 162، ومغني المحتاج 3 / 27، وحاشية الشرقاوي 2 / 211، والمغني 6 / 366.
(2) فتح الباري 11 / 352.(38/276)
مِنَ الأَْوَّل الْمُتَوَفَّى، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الثَّانِي. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَرِثُ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا الْمَفْقُودِ الَّذِي ثَبَتَ مَوْتُهُ إِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا الثَّانِي، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا لاَ تَرِثُ مِنْهُ.
فَإِنْ دَخَل بِهَا الثَّانِي، وَكَانَ الزَّوْحُ الأَْوَّل قَدْ قَدِمَ وَاخْتَارَهَا ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، وَلَوْ مَاتَ الثَّانِي لَمْ تَرِثْهُ، وَلَمْ يَرِثْهَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل اخْتِيَارِهَا - وَقُلْنَا بِأَنَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ - فَإِنَّهَا تَرِثُ الزَّوْجَ الثَّانِي وَيَرِثُهَا، لاَ تَرِثُ الزَّوْجَ الأَْوَّل وَلاَ يَرِثُهَا.
وَإِنْ مَاتَتْ قَبْل اخْتِيَارِ الزَّوْجِ الأَْوَّل، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ، فَإِنِ اخْتَارَهَا وَرِثَهَا، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْهَا وَرِثَهَا الثَّانِي.
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهَا لاَ تَرِثُ زَوْجَهَا الثَّانِي، وَلاَ يَرِثُهَا بِحَالٍ إِلاَّ أَنْ يُجَدِّدَ لَهَا عَقْدًا، أَوْ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَْوَّل كَانَ حَيًّا، وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ الأَْوَّل كَانَ حَيًّا وَرِثَهَا وَوَرِثَتْهُ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ تَرْكَهَا، فَتَبِينَ مِنْهُ بِذَلِكَ، فَلاَ تَرِثُهُ وَلاَ يَرِثُهَا.
__________
(1) التاج والإكليل 4 / 158، 162، ومواهب الجليل 4 / 157، 158.(38/276)
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحُكْمَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ يُوقِعُ التَّفْرِيقَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَرِثُ الثَّانِي وَيَرِثُهَا، وَلاَ تَرِثُ الأَْوَّل وَلاَ يَرِثُهَا.
وَأَمَّا عِدَّتُهَا، فَمَنْ وَرَثَتْهُ اعْتَدَّتْ لِوَفَاتِهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. (1)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اعْتِبَارُ الْمَفْقُودِ مَيِّتًا
22 - يُعْتَبَرُ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا حُكْمًا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ عَلَى فَقْدِهِ، أَوْ بِبُلُوغِهِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.
فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ إِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ، لاَ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ.
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي السِّنِّ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَمُوتَ فِيهَا الأَْقْرَانُ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: هِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِائَةُ سَنَةٍ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ الْبُخَارِيُّ: هِيَ تِسْعُونَ سَنَةً، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا سَبْعُونَ سَنَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةُ مَتْرُوكَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ، وَيُنْظَرُ إِلَى شَخْصِ الْمَفْقُودِ وَالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ. (2)
وَلِعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفٌ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْقْوَال فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الْفَتْوَى عَلَى
__________
(1) المغني 8 / 102، ومطالب أولي النهى 5 / 572.
(2) المبسوط 11 / 35 - 36، وبدائع الصنائع 6 / 197، والزيلعي 3 / 311، والبحر الرائق 5 / 178.(38/277)
التِّسْعِينَ سَنَةً وَهُوَ الأَْرْفَقُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الْفَتْوَى عَلَى الثَّمَانِينَ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْهُمَامِ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِأَنَّ تَفْوِيضَ الْمُدَّةِ إِلَى الإِْمَامِ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالأَْقْيَسُ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَهُمْ قَبْلاً.
(ر: ف 4) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَقْدِيرَ تِلْكَ السِّنِّ مَتْرُوكٌ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، أَوْ بِسَبْعِينَ، أَوْ بِثَمَانِينَ، أَوْ بِمِائَةٍ، أَوْ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. (2)
23 - فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ جَرَى تَقْسِيمُ مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي اعْتُبِرَ فِيهِ مَيِّتًا، لاَ بَيْنَ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، بِهَذَا قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، (3) وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، (4) وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ عِنْدَ
__________
(1) الدر المنتقى 1 / 713، والبناية 6 / 69، والبحر الرائق 5 / 178، وفتح القدير 5 / 374، وتبيين الحقائق 3 / 312.
(2) مغني المحتاج 3 / 26 - 27، وحاشية البجيرمي 3 / 260.
(3) مصنف عبد الرزاق 7 / 85 - 86.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 300، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 509 - 510، والمدونة 2 / 452، والتاج والإكليل 4 / 162.(38/277)
الْحَنَابِلَةِ: يُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ الْمَفْقُودُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ (1) وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مِيرَاثَ الْمَفْقُودِ يُعْطَى لِوَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، (2) إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَفْقُودَ لاَ يَعِيشُ فَوْقَهَا، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ مِنْ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى حُكْمِهِ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ، وَيُعْطَى الْمَال لِمَنْ كَانَ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ. (3)
وَتَعْتَدُّ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَى فِيهِ تَقْسِيمُ مِيرَاثِهِ. (4) (ر: ف 5)
24 - وَلاَ بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ. (5)
__________
(1) المغني 6 / 365، 366، 8 / 103، وكشاف القناع 4 / 516، 6 / 488، والعذب الفائض 2 / 86، 87.
(2) المبسوط 30 / 55، ومواهب الجليل 4 / 161، وحاشية البجيرمي 3 / 260، والوجيز 1 / 167.
(3) فتح الوهاب 2 / 9، ومغني المحتاج 3 / 27.
(4) بدائع الصنائع 6 / 197.
(5) الدر المختار 4 / 297، والشرح الكبير 2 / 483، ومغني المحتاج 3 / 27.(38/278)
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْل الأَْصَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمٍ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ (1) ".
وَأَمَّا طَبِيعَةُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ الْمَفْقُودَ مَيِّتًا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ، فَهُوَ مُنْشِئٌ لِلْحَالَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي أَصْبَحَ عَلَيْهَا الْمَفْقُودُ عِنْدَ مَنْ قَال بِوُجُوبِ صُدُورِ الْحُكْمِ، وَهُوَ مُظْهِرٌ عِنْدَ مَنْ قَال بِعَدِمِ وُجُوبِ الْحُكْمِ (ر: ف 6) .
وَلِهَذَا الْخِلاَفِ نَتَائِجُ مُهِمَّةٌ جِدًّا، فَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْحُكْمَ مُنْشِئٌ لاَ تَسْتَطِيعُ الزَّوْجَةُ أَنْ تَبْدَأَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلاَ أَنْ تَتَزَوَّجَ إِلاَّ بَعْدَ صُدُورِهِ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ أَمْوَال الْمَفْقُودِ لاَ تُوَزَّعُ إِلاَّ بَيْنَ الْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَ صُدُورِ الْحُكْمِ لاَ قَبْلَهُ، كَأَنَّ الْمَفْقُودَ قَدْ مَاتَ حَقِيقَةً فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا مَنْ قَال بِأَنَّ الْحُكْمَ مُظْهِرٌ، فَإِنَّ عِدَّةَ الزَّوْجَةِ تَبْدَأُ مِنْ تَارِيخِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، أَوْ مِنْ بُلُوغِ الْمَفْقُودِ السِّنَّ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ مِيرَاثَ الْمَفْقُودِ يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَلاَ عِبْرَةَ لِصُدُورِ الْحُكْمِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 487، وحاشية ابن عابدين 4 / 297، والمغني 6 / 365، 366.(38/278)
أَثَرُ ظُهُورِ الْمَفْقُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ
إِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا، فَإِنَّ لِذَلِكَ آثَارًا بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَتِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ لأَِمْوَالِهِ.
أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَتِهِ:
25 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ إِنْ عَادَ، وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَتُهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلاَ سَبِيل لَهُ عَلَيْهَا، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: إِنَّ زَوْجَتَهُ لَهُ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَفْقُودَ إِنْ عَادَ قَبْل نِكَاحِ زَوْجَتِهِ غَيْرَهُ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ الْمَعْمُول بِهِ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: إِنْ عَادَ قَبْل الدُّخُول، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الثَّانِي، وَأَمَّا إِنْ عَادَ بَعْدَ الدُّخُول، فَالثَّانِي عَلَى نِكَاحِهِ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِنْ عَادَ الْمَفْقُودُ، فَوَجَدَ زَوْجَتَهُ قَدْ تَزَوَّجَتْ فَلاَ سَبِيل لَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ.
وَقَدْ أَخَذَ بِكُلٍّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ بِأَنَّ أَقْوَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 300.(38/279)
الْقَوْلَيْنِ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (1) وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُوَطَّأِ (2)
وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ:
فَفِي الْقَوْل الْقَدِيمِ: إِنْ قَدِمَ الْمَفْقُودُ بَعْدَ زَوَاجِ امْرَأَتِهِ، فَفِي عَوْدَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلاَنِ، وَقِيل يُخَيَّرُ الأَْوَّل بَيْنَ أَخْذِهَا مِنَ الثَّانِي، وَتَرْكِهَا لَهُ وَأَخْذِ مَهْرِ الْمِثْل مِنْهُ.
وَفِي الْقَوْل الْجَدِيدِ: هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِ الْمَفْقُودِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، تَعُودُ لِلأَْوَّل بَعْدَ انْتِهَاءِ عِدَّتِهَا مِنَ الثَّانِي. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ إِنْ قَدِمَ قَبْل أَنْ تَتَزَوَّجَ امْرَأَتُهُ، فَهِيَ عَلَى عِصْمَتِهِ.
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، فَهِيَ زَوْجَةُ الأَْوَّل فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ الصَّحِيحُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يُخَيَّرُ.
فَإِنْ دَخَل بِهَا الثَّانِي، كَانَ الأَْوَّل بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ زَوْجَتَهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَهْرَهَا وَبَقِيَتْ عَلَى نِكَاحِ الثَّانِي.
فَإِنِ اخْتَارَ الْمَرْأَةَ، وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ مِنَ
__________
(1) المدونة 2 / 449، 450، 451، ومواهب الجليل 4 / 157، والشرح الكبير 2 / 480.
(2) الموطأ 2 / 28.
(3) مغني المحتاج 3 / 397 - 398، وحاشية القليوبي 4 / 51.(38/279)
الثَّانِي قَبْل أَنْ يَطَأَهَا الأَْوَّل، وَلاَ حَاجَةَ لِطَلاَقِهَا مِنْهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيل: تَحْتَاجُ إِلَى طَلاَقٍ.
وَإِنِ اخْتَارَ تَرْكَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي بِالْمَهْرِ الَّذِي دَفَعَهُ هُوَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ الَّذِي دَفَعَهُ الثَّانِي، وَالأَْوَّل هُوَ الصَّوَابُ.
وَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ الثَّانِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا دَفَعَهُ لِلأَْوَّل رِوَايَتَانِ، وَعَدَمُ الرُّجُوعِ هُوَ الأَْظْهَرُ وَالأَْصَحُّ.
وَيَجِبُ أَنْ يُجَدِّدَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَقْدَ زَوَاجِهِ إِنِ اخْتَارَ الأَْوَّل تَرْكَ الزَّوْجَةِ لَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقِيل: لاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. (1)
فَإِنْ رَجَعَ الْمَفْقُودُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَةِ عَلَى عِصْمَةِ الثَّانِي فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَهِيَ زَوْجَةُ الثَّانِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ يَرِثُهَا وَلاَ يَرِثُهَا الأَْوَّل، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَرِثُهَا. (2)
وَقَدْ جَعَل بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ التَّخْيِيرَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنْ شَاءَتِ اخْتَارَتِ الأَْوَّل، وَإِنْ شَاءَتِ اخْتَارَتِ الثَّانِيَ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَتْ، رَدَّتْ عَلَى الآْخَرِ مَا أَخَذَتْ مِنْهُ. (3)
__________
(1) المحرر 2 / 106، والمغني 8 / 98 - 100.
(2) كشاف القناع 6 / 489، والفروع 5 / 548.
(3) الفروع 5 / 548.(38/280)
ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لأَِمْوَالِهِ:
26 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْقُودَ إِنْ عَادَ حَيًّا، فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ بِمَا أَنْفَقُوهُ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَإِنْ بَاعُوا شَيْئًا مِنَ الأَْعْيَانِ ضَمِنُوهُ. (1) وَيَأْخُذُ أَيْضًا مَا بَقِيَ فِي أَيْدِي الْوَرَثَةِ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَلاَ يُطَالَبُ بِمَا ذَهَبَ، سَوَاءٌ أَظَهَرَ حَيًّا قَبْل الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا، أَمْ بَعْدَهُ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ بَعْدَ تَقْسِيمِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَأْخُذُ الْمَفْقُودُ مَا وَجَدَ مِنْ أَعْيَانِ أَمْوَالِهِ وَأَمَّا مَا تَلِفَ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَقَدِ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. (4)
مُفْلِسٌ
انْظُرْ: إِفْلاَسٌ
__________
(1) المبسوط 11 / 42.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 597، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 510.
(3) الشرح الكبير 2 / 482، وحاشية الشرقاوي 2 / 328.
(4) الفروع 5 / 37 - 38، وكشاف القناع 4 / 516، 5 / 38، ومطالب أولي النهى 4 / 631.(38/280)
مَفْهُومٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَفْهُومُ: هُوَ مَا دَل عَلَيْهِ اللَّفْظُ لاَ فِي مَحِل النُّطْقِ، أَيْ يَكُونُ حُكْمًا لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَحَالاً مِنْ أَحْوَالِهِ، كَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ الْمَفْهُومَةِ حُرْمَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} (1) الدَّال مَنْطُوقًا عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَنْطُوقُ:
2 - الْمَنْطُوقُ: هُوَ مَا دَل عَلَيْهِ اللَّفْظُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ مُطَابَقَةً، أَوْ تَضَمُّنًا، أَوِ الْتِزَامًا، أَيْ يَكُونُ حُكْمًا لِلْمَذْكُورِ وَحَالاً مِنْ أَحْوَالِهِ. (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ أَقْسَامِ الدَّلاَلَةِ، وَقِيل: مِنْ أَقْسَامِ
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) جمع الجوامع 1 / 240، وفواتح الرحموت 1 / 413، 414، وإرشاد الفحول ص 178. ط الحلبي، وابن عابدين 1 / 75، وقواعد الفقه للبركتي، والحطاب 1 / 37، وروضة الناظر 2 / 200.
(3) فواتح الرحموت 1 / 413، وإرشاد الفحول / 178 ط. الحلبي.(38/281)
الْمَدْلُول (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَفْهُومِ بِاخْتِلاَفِ قِسْمَيْهِ: مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ
4 - مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُوَافِقًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ، كَدَلاَلَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ، وَهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ.
وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَقَال الشَّوْكَانِيُّ نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ: الْقَوْل بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. (2)
ثُمَّ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ إِنْ كَانَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ يُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ، كَالْمِثَال السَّابِقِ، لأَِنَّ الضَّرْبَ أَشَدُّ مِنَ التَّأْفِيفِ فِي الإِْيذَاءِ.
وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ يُسَمَّى لَحْنَ الْخِطَابِ، كَتَحْرِيمِ إِحْرَاقِ مَال الْيَتِيمِ الْمَفْهُومَةِ حُرْمَتُهُ
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 413.
(2) ابن عابدين 1 / 75، وجمع الجوامع 1 / 240، وفواتح الرحموت 1 / 413، 414، وإرشاد الفحول 178 ط. مصطفى البابي الحلبي، والحطاب 1 / 37، وروضة الناظر 2 / 202.(38/281)
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (1) لأَِنَّ تَحْرِيمَ الإِْحْرَاقِ مُسَاوٍ لِتَحْرِيمِ الأَْكْل الْمَذْكُورِ فِي الآْيَةِ فِي الإِْتْلاَفِ (2) .
ب - مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ
5 - مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: هُوَ ثُبُوتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا، لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَيُسَمَّى دَلِيل الْخِطَابِ أَيْضًا، لأَِنَّ دَلِيلَهُ مِنْ جِنْسِ الْخِطَابِ، أَوْ لأَِنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عَلَيْهِ. (3)
وَالْمَفَاهِيمُ الْمُخَالِفَةُ بِأَقْسَامِهَا حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ مَفْهُومُ اللَّقَبِ، قَال الْجَلاَل الْمَحَلِّيُّ وَابْنُ عَبْدِ الشَّكُورِ: احْتَجَّ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ الدَّقَّاقُ وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، عَلَمًا كَانَ أَوِ اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوُ عَلَى زَيْدٍ حَجٌّ أَيْ: لاَ عَلَى عَمْرٍو، وَفِي النَّعَمِ زَكَاةٌ أَيْ: لاَ فِي غَيْرِهَا. (4)
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ التَّحْرِيرِ - يَنْفُونَ مَفْهُومَ
__________
(1) سورة النساء / 10.
(2) فواتح الرحموت 1 / 414، وجمع الجوامع 1 / 241 وما بعدها، وإرشاد الفحول 178 ط. الحلبي، والحطاب 1 / 37.
(3) المراجع السابقة.
(4) جمع الجوامع 1 / 254، وفواتح الرحموت 1 / 432، وروضة الناظر 2 / 202، وإرشاد الفحول / 179، والحطاب 1 / 37.(38/282)