لِحَاجَةِ الْكَافَّةِ إِلَيْهَا، أَعْوَزَتْ بِغَيْرِ طَلَبٍ (1) .
ثُمَّ إِنَّهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ جَعَل سَدَّ حَاجَةِ النَّاسِ وَتَوَصُّلَهُمْ إِلَى مَنَافِعِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: بِمَادَّةٍ وَكَسْبٍ.
فَأَمَّا الْمَادَّةُ فَهِيَ حَادِثَةٌ عَنِ اقْتِنَاءِ أُصُولٍ نَامِيَةٍ بِذَوَاتِهَا.
وَأَمَّا الْكَسْبُ فَيَكُونُ بِالأَْفْعَال الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَادَّةِ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقَلُّبٌ فِي تِجَارَةٍ،
وَالثَّانِي: تَصَرُّفٌ فِي صِنَاعَةٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا فَرْعٌ لِوَجْهَيِ الْمَادَّةِ، فَصَارَتْ أَسْبَابُ الْمَوَادِّ الْمَأْلُوفَةِ وَجِهَاتُ الْمَكَاسِبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: نَمَاءُ زِرَاعَةٍ، وَنِتَاجُ حَيَوَانٍ، وَرِبْحُ تِجَارَةٍ، وَكَسْبُ صِنَاعَةٍ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلِفَةِ:
11 - قَال السَّرَخْسِيُّ: الْمَكَاسِبُ أَرْبَعَةٌ: الإِْجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَكُل ذَلِكَ فِي الإِْبَاحَةِ سَوَاءٌ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَل أَنْوَاعِ الْكَسْبِ الْجِهَادُ؛ لأَِنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حُصُول الْكَسْبِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ (4) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص333 - 334.
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي ص335 - 336، وانظر روضة الطالبين 3 / 281.
(3) المبسوط 30 / 258 - 259، والكسب ص 63.
(4) الاختيار 4 / 171، والفتاوى الهندية 5 / 349.(34/238)
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ: فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَل مِنَ التِّجَارَةِ لأَِنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا، فَبِعَمَل الزِّرَاعَةِ يَحْصُل مَا يُقِيمُ بِهِ الْمَرْءُ صُلْبَهُ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ، وَبِالتِّجَارَةِ لاَ يَحْصُل ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْمُو الْمَال، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (1) ، وَالاِشْتِغَال بِمَا يَكُونُ نَفْعُهُ أَعَمُّ يَكُونُ أَفْضَل؛ وَلأَِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الزِّرَاعَةِ أَظْهَرُ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَل مِمَّا يَكْتَسِبُهُ الزُّرَّاعُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ، وَكُل ذَلِكَ صَدَقَةٌ لَهُ (2) ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ (3) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: التِّجَارَةُ أَفْضَل مِنَ الزِّرَاعَةِ (4) .
وَتَأْتِي الصِّنَاعَةُ بَعْدَ الْجِهَادِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ (5) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: أُصُول الْمَكَاسِبِ: الزِّرَاعَةُ
__________
(1) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " تقدم تخريجه ف7.
(2) الكسب ص 64 - 65، والمبسوط 30 / 259، والفتاوى الهندية 5 / 348.
(3) حديث: " ما من مسلم يغرس غرسًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 3) ومسلم (3 / 1189) من حديث أنس بن مالك.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 349، والمبسوط 30 / 259، والكسب ص 64.
(5) الاختيار 4 / 171، والفتاوى الهندية 5 / 349.(34/239)
وَالتِّجَارَةُ وَالصَّنْعَةُ، وَأَيُّهَا أَطْيَبُ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ مَذَاهِبَ لِلنَّاسِ: أَشْبَهُهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التِّجَارَةَ أَطْيَبُ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالأَْشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَطْيَبُ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّل.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَكَل أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَدِهِ (1) ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ الزِّرَاعَةِ وَالصَّنْعَةِ؛ لِكَوْنِهِمَا مِنْ عَمَل يَدِهِ، لَكِنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُهُمَا لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا لِلآْدَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا (2) .
سُؤَال الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ:
12 - الأَْصْل أَنَّ سُؤَال الْمَال، وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَسْئُول مِنْهُمَا حَرَامٌ (3) ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ:
أَحَدُهَا: إِظْهَارُ الشَّكْوَى.
وَالثَّانِي: إِذْلاَل نَفْسِهِ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِيذَاءُ الْمَسْئُول غَالِبًا.
__________
(1) حديث: " ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 303) من حديث المقدام بن معد يكرب.
(2) روضة الطالبين 3 / 281.
(3) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 3 / 225 ط. الحلبي، وإحياء علوم الدين 4 / 210 ط. مطبعة الاستقامة، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 322.(34/239)
وَإِنَّمَا يُبَاحُ السُّؤَال فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الْمُهِمَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الضَّرُورَةِ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمُحْتَاجُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى التَّكَسُّبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَسْأَل لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ سَأَل وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ خُمُوشٌ فِي وَجْهِهِ (2) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَال: أَخْبَرَنِي رَجُلاَنِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلاَهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَال: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ (3) مَعْنَاهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي السُّؤَال، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ (4) يَعْنِي لاَ يَحِل السُّؤَال لِلْقَوِيِّ الْقَادِرِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَأَل فَأُعْطِيَ حَل لَهُ أَنْ يَتَنَاوَل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا فَلَوْ
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص 322، وإحياء علوم الدين 4 / 211 - 212.
(2) حديث: " من سأل وهو غني عن المسألة. . . " أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 624) وقال: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به.
(3) حديث: عبيد الله بن عدي بن الخيار: " أن رجلين أخبراه. . " أخرجه أبو داود (2 / 285) وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (2 / 401) .
(4) حديث: " لا تحل الصدقة لغني. . . " أخرجه الترمذي (3 / 33) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن.(34/240)
كَانَ لاَ يَحِل التَّنَاوُل لَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا ذَلِكَ.
وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (1) وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَقِيرٌ (2) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَحِل لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَال بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَفِي الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَرَامٌ، وَالثَّانِي يَحِل بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُذِل نَفْسَهُ، وَلاَ يُلِحَّ فِي السُّؤَال، وَلاَ يُؤْذِيَ الْمَسْئُول، وَإِلاَّ حَرُمَ اتِّفَاقًا (4) .
وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَطُوفَ عَلَى الأَْبْوَابِ وَيَسْأَل، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ كَانَ آثِمًا عِنْدَ أَهْل الْفِقْهِ؛ لأَِنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَإِنَّ السُّؤَال يُوصِلُهُ إِلَى مَا يُقَوِّمُ بِهِ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْكَسْبِ، وَلاَ ذُل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَاحِبِهِ أَنَّهُمَا {أَتَيَا أَهْل قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} .
وَقَال بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ: السُّؤَال مُبَاحٌ لَهُ
__________
(1) سورة التوبة / 60.
(2) الكسب ص 90 - 91.
(3) بريقة محمودية 3 / 266.
(4) المرجع نفسه.(34/240)
بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لأَِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ (1) .
وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ طَلَبِ الْقُوتِ، فَفَرْضٌ عَلَى كُل مَنْ عَلِمَ بِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَدُل عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ؛ صَوْنًا لَهُ عَنِ الْهَلاَكِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الإِْثْمِ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ (2) وَإِنْ أَطْعَمَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ (3) .
نَفَقَةُ الْقَرِيبِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَجِبُ لِلْفَقِيرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْبَوَيْنِ وَقَالُوا: تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهُمَا إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ وَإِنْ قَدَرَا عَلَى الْكَسْبِ؛ لأَِنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا.
__________
(1) الكسب ص 91.
(2) حديث: " ما آمن بي من بات شبعان. . . " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1 / 232) من حديث أنس بن مالك، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 168) وقال: رواه الطبراني والبزار، وإسناد البزار حسن.
(3) الاختيار 4 / 175.(34/241)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَدَرَ الْقَرِيبُ الْفَقِيرُ عَلَى الْكَسْبِ فَأَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا كَمَا قَال النَّوَوِيُّ: تَجِبُ لأَِصْلٍ دُونَ فَرْعٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
إِجْبَارُ الْمُفَلِسِ عَلَى التَّكَسُّبِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُفَلِسِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكْتَسِبَ أَوْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِوَفَاءِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) ، أَمَرَ بِإِنْظَارِهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِاكْتِسَابِهِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أُصِيبَ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (3) .
وَلأَِنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَال فَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَيْهِ كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَمَا لاَ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 64، والدسوقي 2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 448، وكشاف القناع 5 / 481.
(2) سورة البقرة / 280.
(3) حديث: أبي سعيد: " أن رجلاً أصيب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1191) .(34/241)
التَّزْوِيجِ لِتَأْخُذَ الْمَهْرَ (1) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ عَصَى بِهِ - كَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ عَمْدًا - وَجَبَ عَلَيْهِ الاِكْتِسَابُ، وَأُمِرَ بِهِ، وَلَوْ بِإِيجَارِ نَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ عَلَى الرَّدِّ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَوَّارٍ الْعَنْبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ سُرَّقًا فِي دَيْنِهِ، وَكَانَ سُرَّقٌ رَجُلاً دَخَل الْمَدِينَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ وَرَاءَهُ مَالاً، فَدَايَنَهُ النَّاسُ، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَالٌ، فَسَمَّاهُ سُرَّقًا، وَبَاعَهُ بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ (3) ، وَالْحُرُّ لاَ يُبَاعُ، ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ مَنَافِعَهُ وَلأَِنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَتَحْرِيمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِ الْغِنَى بِهَا، فَكَذَلِكَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا، وَلأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ إِجْبَارُهُ عَلَيْهَا كَبَيْعِ مَالِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْكَسْبِ إِلاَّ مَنْ فِي كَسْبِهِ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَمُونُهُ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 63، وتبيين الحقائق 5 / 199، ومعين الحكام 232، والشرح الصغير 3 / 359، ونهاية المحتاج 4 / 319، والمغني 4 / 495.
(2) نهاية المحتاج 4 / 319 - 320، ومغني المحتاج 2 / 154.
(3) حديث: " بيع النبي صلى الله عليه وسلم سرقا في دينه. . " أخرجه الحاكم (2 / 54) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) المغني 4 / 495، 496.(34/242)
وَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى التَّكَسُّبِ إِذَا كَانَ صَانِعًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ التَّكَسُّبَ فِي عَقْدِ الدَّيْنِ (1) .
تَكْلِيفُ الصَّغِيرِ بِالتَّكَسُّبِ:
15 - نَدَبَ الإِْسْلاَمُ إِلَى الاِسْتِغْنَاءِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ تَكْلِيفِ الصَّغِيرِ بِالْكَسْبِ، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُهَيْل بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ يَخْطُبُ وَيَقُول: لاَ تُكَلِّفُوا الأَْمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا، وَلاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ، وَعُفُّوا إِذَا أَعَفَّكُمُ اللَّهُ، وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ بِمَا طَابَ مِنْهَا (2) .
وَقَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضِمْنَ تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّغِيرُ إِذَا كُلِّفَ الْكَسْبَ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْخَرَاجِ وَهُوَ لاَ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنَ الْخَرَاجِ بِأَنْ يَسْرِقَ (3) .
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الأَْثَرِ الْمَذْكُورِ: هَذَا كَلاَمٌ صَحِيحٌ وَاضِحُ الْمَعْنَى، مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَالْقَوْل فِي شَرْحِهِ تَكَلُّفٌ (4) .
__________
(1) الصاوي مع الشرح الصغير 3 / 359، وانظر منح الجليل 3 / 131 - 132.
(2) المنتقى شرح الموطأ للباجي 7 / 306، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 / 396.
(3) المنتقى 7 / 306.
(4) الاستذكار لابن عبد البر 27 / 288.(34/242)
التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ:
16 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِعَمَل الصِّنَاعَاتِ مِثْل الْخِيَاطَةِ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، وَلاَ يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَل، مِثْل رَقْعِ ثَوْبِهِ أَوْ خَصْفِ نَعْلِهِ (2) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: فَأَمَّا مَنْ يَنْسَخُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أَوِ اتَّفَقَ قُعُودُهُ فِيهِ فَخَاطَ ثَوْبًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَقْعَدًا لِلْخِيَاطَةِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَال فِي الرَّوْضَةِ: يُكْرَهُ عَمَل الصَّنَائِعِ مِنْهُ أَيِ الْمُدَاوَمَةُ، أَمَّا مَنْ دَخَل لِصَلاَةٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فَخَاطَ ثَوْبَهُ لَمْ يُكْرَهْ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ لأَِجْل حِفْظِ الْمَسْجِدِ لاَ لِلتَّكَسُّبِ (4) فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْخَيَّاطُ إِذَا كَانَ يَخِيطُ فِي الْمَسْجِدِ يُكْرَهُ، إِلاَّ إِذَا جَلَسَ لِدَفْعِ الصِّبْيَانِ وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ، فَحِينَئِذٍ لاَ بَأْسَ بِهِ (5) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ تَكَسُّبٌ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 632 ط. باكستان، والحطاب 6 / 13، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 325، وتحفة الراكع والساجد لتقي الدين الجراعي الحنبلي ص 209.
(2) إعلام الساجد ص325 - 326، وتحفة الراكع والساجد ص209.
(3) إعلام الساجد ص 325 - 326.
(4) الحموي على الأشباه 2 / 632.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 110.(34/243)
بِصَنْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِذَلِكَ غَيْرَ كِتَابَةٍ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ نَوْعٌ مِنْ تَحْصِيل الْعِلْمِ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ عَمَل الصِّنَاعَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةِ آحَادِ النَّاسِ مِمَّا يُتَكَسَّبُ بِهِ، فَلاَ يُتَّخَذُ الْمَسْجِدُ مَتْجَرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمَا يَشْمَل الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِثْل الْمُثَاقَفَةِ (وَهِيَ الْمُلاَعَبَةُ لإِِظْهَارِ الْمَهَارَةِ وَالْحِذْقِ) وَإِصْلاَحِ آلاَتِ الْجِهَادِ مِمَّا لاَ مِهْنَةَ فِي عَمَلِهِ لِلْمَسْجِدِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (2) .
وَأَمَّا التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَرَاهَتَهُ (3) ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ (4) .
وَفِي جَامِعِ الذَّخِيرَةِ: جَوَّزَ مَالِكٌ أَنْ يُسَاوِمَ رَجُلاً ثَوْبًا عَلَيْهِ أَوْ سِلْعَةً تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهَا، وَقَال الْجُزُولِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ وَلاَ الشِّرَاءُ، وَاخْتُلِفَ إِذَا رَأَى سِلْعَةً خَارِجَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 175.
(2) الحطاب 6 / 13.
(3) مواهب الجليل 6 / 14، وإعلام الساجد ص 324 - 325، وتحفة الراكع والساجد ص 208.
(4) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. . . " أخرجه الترمذي (3 / 601) وقال: حديث حسن غريب.(34/243)
الْمَسْجِدِ هَل يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لاَ؟ قَوْلاَنِ: مِنْ غَيْرِ سِمْسَارٍ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالسِّمْسَارِ فِيهِ فَمَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكُل عَقْدٍ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، بَل يَكُونُ مَا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ بِدُونِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْمَسْجِدِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَلاَ يَصِحَّانِ (3) .
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنَ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ (4) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ لاَ يُكْرَهُ بَل يُبَاحُ (5) ، وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ تَرْخِيصَ بَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ فِيهِ (6) .
الْكَسْبُ الْخَبِيثُ وَمَصِيرُهُ:
17 - طَلَبُ الْحَلاَل فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (7) ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالأَْكْل مِنَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 14.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 445، والحموي على الأشباه 2 / 633.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 175.
(4) تحفة الراكع والساجد ص 208، ومواهب الجليل 6 / 14.
(5) إعلام الساجد ص 325.
(6) إعلام الساجد ص 324.
(7) مختصر منهاج القاصدين ص 86، وانظر إحياء علوم الدين 2 / 90.(34/244)
الطَّيِّبَاتِ، فَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1) ، وَقَال فِي ذَمِّ الْحَرَامِ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (2) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ (3) .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَلاَ يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَلاَ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَل مِنْهُ، وَلاَ يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلاَّ كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ (4) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ (5) .
وَالْحَرَامُ كُلُّهُ خَبِيثٌ، لَكِنَّ بَعْضَهُ أَخْبَثُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي دَرَجَةِ الْمَغْصُوبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ، بَل الْمَغْصُوبُ أَغْلَظُ؛ إِذْ فِيهِ إِيذَاءُ الْغَيْرِ وَتَرْكُ طَرِيقِ الشَّرْعِ فِي الاِكْتِسَابِ،
__________
(1) سورة البقرة / 172.
(2) سورة البقرة / 188.
(3) مختصر منهاج القاصدين 87.
(4) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 188 ط. المطبعة الأزهرية، وتنبيه الغافلين 2 / 501 وحديث: " لا يكسب عبد مالاً من حرام. . . " أخرجه أحمد (1 / 387) ، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 53) وقال: رواه أحمد، وإسناده بعضهم مستور، وأكثرهم ثقات.
(5) الزواجر 1 / 188. وحديث: " لا يربو لحم نبت. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 513) من حديث كعب بن عجرة وقال: حديث حسن.(34/244)
وَلَيْسَ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إِلاَّ تَرْكُ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ ظُلْمًا مِنْ فَقِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَتِيمٍ أَخْبَثُ وَأَغْلَظُ مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوِيٍّ أَوْ غَنِيٍّ أَوْ فَاسِقٍ (1) .
وَالْكَسْبُ الْخَبِيثُ هُوَ أَخْذُ مَال الْغَيْرِ لاَ عَلَى وَجْهِ إِذْنِ الشَّرْعِ، فَيَدْخُل فِيهِ الْقِمَارُ وَالْخِدَاعُ وَالْغُصُوبُ وَجَحْدُ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ تَطِيبُ نَفْسُ مَالِكِهِ، أَوْ حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَإِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ مَالِكِهِ كَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَالْوَاجِبُ فِي الْكَسْبِ الْخَبِيثِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا، وَإِلاَّ إِلَى الْفُقَرَاءِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَرَامٌ، وَأَرَادَ التَّوْبَةَ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا وَجَبَ دَفْعُهُ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَالِكٍ لاَ يَعْرِفُهُ، وَيَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالْقَنَاطِرِ وَالرُّبُطِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَصَالِحِ طَرِيقِ
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص 87 - 88 وانظر إحياء علوم الدين 2 / 95 ط. الحلبي.
(2) تفسير القرطبي 2 / 317، وانظر الزواجر 1 / 187 - 188.
(3) منحة الخالق على البحر الرائق 2 / 221، والطحطاوي على الدر 1 / 390، والفتاوى الهندية 5 / 349، وحاشية ابن عابدين 5 / 247، وكشاف القناع 4 / 115.(34/245)
مَكَّةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ أَوْ فُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْقَاضِي إِنْ كَانَ عَفِيفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفِيفًا لَمْ يَجُزَ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ صَارَ الْمُسْلِمُ ضَامِنًا، بَل يَنْبَغِي أَنْ يُحَكِّمَ رَجُلاً مِنْ أَهْل الْبَلَدِ دَيِّنًا عَالِمًا، فَإِنَّ التَّحَكُّمَ أَوْلَى مِنَ الاِنْفِرَادِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّرْفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْفَقِيرِ لاَ يَكُونُ حَرَامًا عَلَى الْفَقِيرِ، بَل يَكُونُ حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، لأَِنَّ عِيَالَهُ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَالْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِيهِمْ، بَل هُمْ أَوْلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ؛ لأَِنَّهُ أَيْضًا فَقِيرٌ.
قَال النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَل قَوْل الْغَزَالِيِّ الْمَذْكُورَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْفَرْعِ ذَكَرَهُ الآْخَرُونَ مِنَ الأَْصْحَابِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ، وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْل الْوَرَعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُ هَذَا الْمَال وَرَمْيُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَمَنْ وَرِثَ مَالاً وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ
__________
(1) المجموع 9 / 351، وانظر إحياء علوم الدين 2 / 127 - 133.(34/245)
مُوَرِّثُهُ: أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ حَرَامٍ؟ وَلَمْ تَكُنْ عَلاَمَةٌ فَهُوَ حَلاَلٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الرَّجُل وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ، كَأَنْ كَانَ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوِ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ، فَالأَْوْلَى لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَرُدُّوا الْمَال إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا أَرْبَابَهُ تَصَدَّقُوا بِهِ؛ لأَِنَّ سَبِيل الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ (2) .
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: إِنْ عَلِمَ الْمَال الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ لاَ يَحِل لَهُ (لِلْوَارِثِ) أَخْذُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ حُكْمًا، وَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ الْخُصَمَاءِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَرِثَ مَالاً، وَعَلِمَ أَنَّ فِيهِ حَرَامًا وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ، أَخْرَجَ الْقَدْرَ الْحَرَامَ بِالاِجْتِهَادِ (4) .
وَيَمْنَعُ وَالِي الْحِسْبَةِ النَّاسَ مِنَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَمْنَعُ مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الآْخِذَ وَالْمُعْطِيَ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (حِسْبَةٌ ف 34) .
__________
(1) المجموع 9 / 351، وانظر إحياء علوم الدين 1 / 129.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 349، وحاشية ابن عابدين 5 / 247.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 193.
(4) المجموع 9 / 351.
(5) الأحكام السلطانية للماوردي ص 258.(34/246)
كَسْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: قَوْلُهُمْ كَسَرَ الشَّيْءَ: إِذَا هَشَّمَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَالْكَسْرُ مِنَ الْحِسَابِ جُزْءٌ غَيْرُ تَامٍّ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَاحِدِ كَالنِّصْفِ وَالْخُمُسِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْجُرْجَانِيِّ: الْكَسْرُ فَصْل الْجِسْمِ الصُّلْبِ بِدَفْعِ دَافِعٍ قَوِيٍّ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ جِسْمٍ فِيهِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَطْعُ:
2 - الْقَطْعُ إِبَانَةُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجِرْمِ مِنْ بَعْضٍ فَصْلاً (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ فَصْل الْجِسْمِ بِنُفُوذِ جِسْمٍ آخَرَ فِيهِ (4) . فَالْكَسْرُ أَعَمُّ وَالْقَطْعُ أَخَصُّ.
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) التعريفات.
(3) لسان العرب.
(4) التعريفات.(34/246)
ب - الْجُرْحُ:
3 - الْجُرْحُ مِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا: أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ (1) .
فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْرِ.
ج - الشَّجَّةُ:
4 - الشَّجَّةُ: الْجُرْحُ فِي الْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ خَاصَّةً (2) ، وَلاَ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ.
فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْرِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَسْرِ:
حُكْمُ كَسْرِ الْعَظْمِ:
5 - كَسْرُ عَظْمِ مَحْقُونِ الدَّمِ بِالإِْسْلاَمِ أَوِ الذِّمَّةِ أَوِ الْعَهْدِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا مَحْظُورٌ، كَحُرْمَةِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إِجْمَاعًا.
مَا يَجِبُ فِي كَسْرِ عَظْمِ الآْدَمِيِّ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ فِي كَسْرِ السِّنِّ عَمْدًا، إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَأُمِنَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَكْسُورِ، أَوِ انْقِلاَعِ السِّنِّ، أَوِ اسْوِدَادِ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوِ احْمِرَارِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (3) ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الزِّيَادَةِ فَلاَ قَوَدَ، وَيَجِبُ فِيهِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) سورة المائدة 54.(34/247)
الأَْرْشُ؛ لأَِنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ (ر: أَرْشٌ، ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهَا مِنَ الْعِظَامِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ قَوَدَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ؛ لِعَدَمِ وُثُوقِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا (1) . (ر: قِصَاصٌ) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجْرِي فِيهَا الْقَوَدُ كَسَائِرِ جِرَاحَاتِ الْجِسْمِ، إِلاَّ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ مِنْهَا، كَعَظْمِ الصَّدْرِ، وَالصُّلْبِ، وَعِظَامِ الْعُنُقِ وَالْفَخِذِ، أَمَّا مَا لاَ خَطَرَ فِي إِجْرَاءِ الْقِصَاصِ فِيهِ فَفِيهِ الْقَوَدُ، كَالزَّنْدَيْنِ، وَالذِّرَاعَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ، وَنَحْوِهَا (2) .
دِيَةُ كَسْرِ الْعَظْمِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَهِيَ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ أَوِ الْمُحَكَّمُ بِشَرْطِهِ (3) . (ر: حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْهَا السِّنَّ، فَفِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ لِلنَّصِّ (ر: سِنٌّ. ف 10) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: التَّرْقُوَتَيْنِ، وَالزَّنْدَيْنِ، وَالضِّلْعَ، فَفِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ،
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 285، وحاشية القليوبي 4 / 411، وابن عابدين 5 / 354، والمغني 7 / 710 - 711.
(2) مواهب الجليل 6 / 248.
(3) المغني 8 / 54، ونهاية المحتاج 7 / 344، وروض الطالب 4 / 58، وابن عابدين 5 / 374.(34/247)
قَالُوا: وَكَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيل وُجُوبَ الْحُكُومَةِ فِي الْعِظَامِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ لآِثَارٍ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ الأَْعْظُمِ، وَمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل، فَيَجِبُ فِي الزَّنْدَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ، وَفِي كَسْرِ السَّاقِ بَعِيرَانِ، وَفِي السَّاقَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْفَخِذِ بَعِيرَانِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَجِبْ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ قِصَاصٌ، وَبَرِئَ وَعَادَ الْعُضْوُ لِهَيْئِهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ بَرِئَ وَفِيهِ اعْوِجَاجٌ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ (1) (ر: دِيَاتٌ ف 63 - ف 68، حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4) .
كَسْرُ آلاَتِ اللَّهْوِ وَالصُّلْبَانِ وَظُرُوفِ الْخَمْرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي كَسْرِ آلاَتِ اللَّهْوِ، وَالصُّلْبَانِ، وَأَوْعِيَةِ الْخَمْرِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَسَرَ آلَةَ لَهْوٍ صَالِحَةً لِغَيْرِ اللَّهْوِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا صَالِحَةً لِغَيْرِ اللَّهْوِ؛ لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ صَالِحَةٌ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، فَلَمْ يُنَافِ الضَّمَانَ. فَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِغَيْرِ اللَّهْوِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا (2)
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ تُضْمَنُ قِيمَتُهَا مَكْسُورَةً (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصْنَامُ وَالصُّلْبَانُ وَآلاَتُ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 248.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 134 - 135، بدائع الصنائع 7 / 167 - 168.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 336.(34/248)
الْمَلاَهِي، وَالأَْوَانِي الْمُحَرَّمُ اتِّخَاذُهَا، غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَلاَ يَجِبُ فِي إِبْطَالِهَا شَيْءٌ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ، وَالْمُحَرَّمُ لاَ يُقَابَل بِشَيْءٍ مَعَ وُجُوبِ إِبْطَالِهَا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لاَ تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ؛ لإِِمْكَانِ إِزَالَةِ الْهَيْئَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، بَل تُفْصَل لِتَعُودَ كَمَا قَبْل التَّأْلِيفِ، لِزَوَال اسْمِهَا وَهَيْئَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ بِذَلِكَ، فَلاَ تَكْفِي إِزَالَةُ الأَْوْتَارِ مَعَ بَقَاءِ الْجِلْدِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهَا مُجَاوِرَةٌ لَهَا مُنْفَصِلَةٌ.
وَالثَّانِي لاَ يَجِبُ تَفْصِيل الْجَمِيعِ، بَل بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لِلاِسْتِعْمَال.
وَقَالُوا إِنْ عَجَزَ الْمُنْكِرُ عَنْ رِعَايَةِ هَذَا الْحَدِّ فِي الإِْنْكَارِ لِمَنْعِ صَاحِبِ الْمُنْكَرِ مَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَهُ لِقُوَّتِهِ، أَبْطَلَهُ كَيْفَ تَيَسَّرَ وَلَوْ بِإِحْرَاقٍ تَعَيَّنَ طَرِيقًا، وَإِلاَّ فَبِكَسْرٍ، فَإِنْ أَحْرَقَهَا وَلَمْ يَتَعَيَّنْ غَرِمَ قِيمَتَهَا مَكْسُورَةً بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، لِتَمَوُّل رُضَاضِهَا وَاحْتِرَامِهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ سِوَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَتِهَا مَكْسُورَةً بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ وَقِيمَتِهَا مُنْتَهِيَةً إِلَى الْحَدِّ الَّذِي أَتَى بِهِ
وَمِثْل آلاَتِ اللَّهْوِ فِي الأَْحْكَامِ: أَوَانِي الْخَمْرِ، وَظُرُوفُهَا، إِنْ تَعَذَّرَ إِرَاقَةُ الْخَمْرِ لِضِيقِ رُءُوسِ الأَْوَانِي، وَخَشْيَةِ لُحُوقِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ إِرَاقَتِهَا، فَيَكْسِرُ الظَّرْفَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ إِرَاقَتُهُ تَأْخُذُ مِنْ وَقْتِهِ زَمَنًا غَيْرَ تَافِهٍ،(34/248)
تَتَعَطَّل فِيهِ مَصَالِحُهُ إِذَا شُغِل بِكَسْرِهَا، هَذَا لِلآْحَادِ، أَمَّا الْوُلاَةُ، فَلَهُمْ كَسْرُ ظُرُوفِهَا مُطْلَقًا زَجْرًا وَتَأْدِيبًا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجِبُ فِي كَسْرِهَا شَيْءٌ مُطْلَقًا، كَالْمَيْتَةِ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَْصْنَامِ (2) ، وَوَرَدَ: أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَل بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ (3) وَكَذَا آنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلاَ يَضْمَنُ إِنْ كَسَرَهَا؛ لأَِنَّ اتِّخَاذَهَا مُحَرَّمٌ وَفِي ضَمَانِ أَوَانِي الْخَمْرِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ،
إِحْدَاهُمَا: يَضْمَنُهَا؛ لأَِنَّهُ مَالٌ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَيَحِل بَيْعُهُ، فَيَضْمَنُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا خَمْرٌ؛ لأَِنَّ جَعْل الْخَمْرِ فِيهَا لاَ يَقْتَضِي سُقُوطَ ضَمَانِهَا، كَالْبَيْتِ الَّذِي جُعِل مَخْزَنًا لِلْخَمْرِ، وَالثَّانِي: لاَ يَضْمَنُ (4) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ - وَهِيَ الشَّفْرَةُ - فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَرْسَل بِهَا فَأُرْهِقَتْ ثُمَّ أَعْطَانِيهَا، وَقَال: اغْدُ عَلَيَّ بِهَا فَفَعَلْتُ،
__________
(1) روض الطالب 2 / 344، ونهاية المحتاج 5 / 168 - 169.
(2) حديث: " إن الله ورسوله حرم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424) ط. السلفية ومسلم (3 / 1207) .
(3) حديث: " أمرني ربي عز وجل بمحق المعازف والمزامير " أخرجه أحمد (5 / 268) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 69) : فيه علي بن يزيد وهو ضعيف.
(4) المغني 5 / 301 - 302.(34/249)
فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إِلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا زُقَاقُ خَمْرٍ قَدْ جُلِبَتْ مِنَ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي، فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزُّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ وَأَعْطَانِيهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي وَأَنْ يُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الأَْسْوَاقَ كُلَّهَا فَلاَ أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إِلاَّ شَقَقْتُهُ فَفَعَلْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إِلاَّ شَقَقْتُهُ (1) .
الْكَسْرُ فِي سِهَامِ الْوَرَثَةِ مِنَ التَّرِكَةِ:
9 - إِذَا لَمْ تَقْبَل الْقِسْمَةَ سِهَامُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا إِلاَّ بِكَسْرٍ، يُصَحَّحُ الْكَسْرُ بِجَعْل السِّهَامِ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ بِدُونِ كَسْرٍ، وَتَصْحِيحُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَضْرِبَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ إِنْ عَالَتْ فِي أَقَل عَدَدٍ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُل وَارِثٍ بِقَدْرٍ مِنَ السِّهَامِ بِلاَ كَسْرٍ، وَحَاصِل الضَّرْبِ هُوَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ التَّصْحِيحِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ وَفْقَ قَوَاعِدَ تُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ ف 72) .
__________
(1) حديث: عبد الله بن عمر: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية. . " أخرجه أحمد (2 / 132 - 133) وقال الهيثمي في المجمع (5 / 54) : رواه أحمد بإسنادين، في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة وقد وثقه حمد بن عبد الله ابن عمار الموصلي، وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات.(34/249)
كُسُوف
انْظُرْ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ(34/250)
كِسْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِسْوَةُ - بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا - فِي اللُّغَةِ: الثَّوْبُ يُسْتَتَرُ بِهِ وَيُتَحَلَّى، وَالْجَمْعُ كُسًى، مِثْل مُدًى، وَالْكِسَاءُ: اللِّبَاسُ، وَالْجَمْعُ أَكْسِيَةٌ، يُقَال: كَسَوْتُهُ ثَوْبًا إِذَا أَلْبَسْتُهُ، وَالْكَاسِي خِلاَفُ الْعَارِي، وَجَمْعُهُ كُسَاةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَمَّ قَوْمًا عُرَاةً وَكُسَاةً.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَي اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْكِسْوَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلاً - كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْكِسْوَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا عَلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن والمغرب، والمعجم الوسيط.(34/250)
الْوَجْهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (3) .
وَلأَِنَّ الْكِسْوَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَزِمَتْهُ كَالنَّفَقَةِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكِسْوَةُ كَافِيَةً لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكِفَايَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طُولِهَا وَقِصَرِهَا وَسِمَنِهَا وَهُزَالِهَا، وَبِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
3 - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِسْوَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا حَال الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لاَ حَال الْمَرْأَةِ، هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَامَّةٌ تَجِبُ بِحَسَبِ حَال الزَّوْجَيْنِ مَعًا.
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا يَكْسُوهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمَلاَبِسِ الصَّيْفِيَّةِ وَالشَّتْوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يَكْسُوهَا أَرْفَعَ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) حديث: " وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن. . . " أخرجه الترمذي (3 / 458) من حديث عمرو بن الأحوص وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ". أخرجه مسلم (2 / 890) من حديث جابر بن عبد الله.(34/251)
مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ،
وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا كَسَاهَا أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ لأَِنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِي إِيجَابِ الْوَسَطِ مِنَ الْكِفَايَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ، فَيَكْفِيهَا مِنَ الْكِسْوَةِ فِي الصَّيْفِ، قَمِيصٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيل عَلَى قَدْرِ حَالِهِ مِنَ الْخُشُونَةِ وَاللُّيُونَةِ وَالْوَسَطِيَّةِ.
فَالْخَشِنُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَاللَّيِّنُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْغْنِيَاءِ، وَالْوَسَطُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْوْسَاطِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ الْبُلْدَانِ، إِلاَّ الْخِمَارَ، فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى الْغَنِيِّ خِمَارٌ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَجِبُ لَهَا كَذَلِكَ مَدَاسُ رِجْلِهَا وَالإِْزَارُ، وَالْمُكَعَّبُ وَمَا تَنَامُ عَلَيْهِ، وَتُزَادُ عَلَى ذَلِكَ جُبَّةٌ حَشْوِيًّا وَفَرْوَةٌ، لِحَافًا وَفِرَاشًا، وَكُل مَا يُدْفَعُ بِهِ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَيَجِبُ فِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ وَخُفٌّ وَجَوْرَبٌ لِدَفْعِ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ وَالأَْزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ وَالأَْعْرَافِ.
وَتُفْرَضُ الْكِسْوَةُ لِلزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُل نِصْفِ حَوْلٍ مَرَّةً؛ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حَرًّا وَبَرْدًا، وَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْكِسْوَةِ إِلَيْهَا فِي أَوَّل هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مُعَجَّلَةً لاَ بَعْدَ تَمَّامِ الْمُدَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ الْكِسْوَةَ(34/251)
مَا لَمْ يَتَخَرَّقْ مَا عِنْدَهَا، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَبَقِيَ مَا عِنْدَهَا صَالِحًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ أُخْرَى؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ فِي حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ لَهَا كِسْوَةً أُخْرَى إِذَا تَخَرَّقَتِ الْقَدِيمَةُ بِالاِسْتِعْمَال الْمُعْتَادِ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِظُهُورِ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيرِ، حَيْثُ وَقَّتَ وَقْتًا لاَ تَبْقَى مَعَهُ الْكِسْوَةُ.
أَمَّا إِذَا أَسْرَفَتْ فِي الاِسْتِعْمَال عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، أَوْ سُرِقَ مِنْهَا، أَوْ هَلَكَ عِنْدَهَا قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَهَا كِسْوَةٌ أُخْرَى (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى مِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَقَالُوا: وَتُقَدَّرُ الْكِسْوَةُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، بِالشِّتَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ فَرْوٍ وَلَبَدٍ وَلِحَافٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِالصَّيْفِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تُنَاسِبْ كِسْوَةُ كُلٍّ مِنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ الآْخَرَ عَادَةً، وَإِلاَّ كَفَتْ وَاحِدَةٌ إِذَا لَمْ تَخْلَقْ، قَالُوا: وَمِثْل ذَلِكَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ صَيْفًا وَشِتَاءً (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ كِسْوَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً
__________
(1) البدائع 4 / 24، وحاشية ابن عابدين 2 / 645، 649، 652، 654.
(2) جواهر الإكليل 1 / 403، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 513، ومواهب الجليل 4 / 187.(34/252)
مِنَ الشَّرْعِ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ، فَيَفْرِضُ لَهَا عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا فِي كُل سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَمِيصٌ، وَهُوَ ثَوْبٌ مَخِيطٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ - وَخِيَاطَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ - وَسَرَاوِيل - وَهُوَ ثَوْبٌ مَخِيطٌ يَسْتُرُ أَسْفَل الْبَدَنِ وَيَصُونُ الْعَوْرَةَ - وَقَدْ يَقُومُ الإِْزَارُ أَوِ الْفُوطَةُ مَقَامَ السَّرَاوِيل إِذَا اعْتَادَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى لُبْسِهِمَا.
وَخِمَارٌ، وَهُوَ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَمُكَعَّبٌ، وَهُوَ مَدَاسُ الرِّجْل مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَجِبُ لَهَا الْقَبْقَابُ إِنِ اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ جَرَتْ عَادَةُ نِسَاءِ أَهْل الْقُرَى أَنْ لاَ يَلْبَسْنَ فِي أَرْجُلِهِنَّ شَيْئًا فِي دَاخِل الْبُيُوتِ لَمْ يَجِبْ لأَِرْجُلِهِنَّ شَيْءٌ.
وَيُزَادُ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الْبِلاَدِ الْبَارِدَةِ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ قُطْنًا، فَإِنِ اشْتَدَّ الْبَرْدُ فَجُبَّتَانِ فَأَكْثَرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، وَقَدْ يَقُومُ الْفَرْوُ مَقَامَ الْجُبَّةِ إِذَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْل الْبَلَدِ عَلَى لُبْسِهَا.
وَيَجِبُ لَهَا تَوَابِعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ كُوفِيَّةٍ لِلرَّأْسِ، وَتِكَّةٍ لِلِّبَاسِ، وَزِرٍّ لِلْقَمِيصِ وَالْجُبَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالُوا: لاَ يَخْتَلِفُ عَدَدُ الْكِسْوَةِ بِاخْتِلاَفِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَكِنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 429، 430، وروضة الطالبين 9 / 47 - 48.(34/252)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَأَقَل الْكِسْوَةِ الْوَاجِبَةِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيل وَمُقَنِّعَةٌ وَمَدَاسٌ وَجُبَّةٌ لِلشِّتَاءِ، وَيَزِيدُ مِنْ عَدَدِ الثِّيَابِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ مِمَّا لاَ غِنَى عَنْهُ، دُونَ مَا لِلتَّجَمُّل وَالزِّينَةِ.
فَيُفْرَضُ مَثَلاً لِلْمُوسِرَةِ تَحْتَ الْمُوسِرِ مِنْ أَرْفَعِ الثِّيَابِ فِي الْبَلَدِ، مِنَ الْكَتَّانِ، وَالْحَرِيرِ، وَالإِْبْرَيْسَمِ، وَلِلْمُعْسِرَةِ تَحْتَ الْمُعْسِرِ غَلِيظُ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلِلْمُتَوَسِّطَةِ تَحْتَ الْمُتَوَسِّطِ الْمُتَوَسِّطُ مِنَ الثِّيَابِ، وَهَكَذَا يَكْسُوهَا مَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمَا بِهِ مِنَ الْكِسْوَةِ.
ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ الْكِسْوَةَ إِلَى زَوْجَتِهِ فِي كُل عَامٍ مَرَّةً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعَادَةُ، وَيَكُونُ الدَّفْعُ فِي أَوَّل الْعَامِ؛ لأَِنَّهُ أَوَّل وَقْتِ الْوُجُوبِ فَإِنْ بَلِيَتِ الْكِسْوَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبْلَى فِيهِ مِثْلُهَا لَزِمَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا كِسْوَةً أُخْرَى؛ لأَِنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ بَلِيَتْ قَبْل ذَلِكَ لِكَثْرَةِ دُخُولِهَا وَخُرُوجِهَا أَوِ اسْتِعْمَالِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِبْدَالُهَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْكِسْوَةِ فِي الْعُرْفِ.
وَإِنْ مَضَى الزَّمَانُ الَّذِي تَبْلَى فِي مِثْلِهِ الثِّيَابُ بِالاِسْتِعْمَال الْمُعْتَادِ وَلَمْ تَبْل، فَهَل يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا لأَِنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى الْكِسْوَةِ.(34/253)
ثَانِيهُمَا: يَلْزَمُهُ الْبَدَل لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ، بِدَلِيل أَنَّهَا لَوْ بَلِيَتْ قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهَا.
وَلَوْ أَهْدَى إِلَيْهَا كِسْوَةً لَمْ تَسْقُطْ كِسْوَتُهُ (1) .
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا لَوْ كَسَاهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ قَبْل أَنْ تَبْلَى الثِّيَابُ، فَهَل لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَوْ لِوَرَثَتِهِ الاِسْتِرْجَاعُ، لأَِنَّهُ وَفَّاهَا مَا عَلَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهَا الْكِسْوَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا النَّفَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل أَكْلِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ بَعْدَ دَفْعِ الْكِسْوَةِ إِلَيْهَا، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلَّقَهَا لِشَهْرَيْنِ أَوْ أَقَل، فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِسْوَةِ مِنْهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَ الْكِسْوَةِ مِنْهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْكِسْوَةَ لِمُدَّةٍ لَمْ تَأْتِ، كَنَفَقَةِ الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْل مُضِيِّهِ كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةً لِلْمُسْتَقْبَل ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَعْطَاهَا
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 568، 572.(34/253)
كِسْوَةَ سَنَةٍ فَمَاتَتْ أَوْ طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الْفَصْل الأَْوَّل اسْتَرَدَّ كِسْوَةَ الْفَصْل الثَّانِي، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ.
وَلَوْ لَمْ تَقْبِضِ الْكِسْوَةَ حَتَّى مَاتَتْ فِي أَثْنَاءِ فَصْلٍ أَوْ طُلِّقَتْ فِيهِ، اسْتَحَقَّتْ كِسْوَةَ كُل الْفَصْل كَنَفَقَةِ الْيَوْمِ؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ تُسْتَحَقُّ بِأَوَّل الْفَصْل.
وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا، حَكَمَ بِهَا قَاضٍ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكِسْوَةَ مُجَرَّدُ إِمْتَاعٍ لِلْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ تَمْلِيكًا لَهَا، كَالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، بِجَامِعِ الاِنْتِفَاعِ فِي كُلٍّ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، بِخِلاَفِ الطَّعَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنِ اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ، فَلاَ تَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ غَنِيًّا وَمَرَّتْ مُدَّةٌ لَمْ يُعْطِهَا الْكِسْوَةَ، فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، أَيْ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فَرَضَهَا حَاكِمٌ أَوْ لَمْ يَفْرِضْ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 660، 656، وجواهر الإكليل 1 / 404، والفواكه الدواني 2 / 104، ومغني المحتاج 3 / 434 - 435، وروضة الطالبين 9 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 572 وما بعدها.(34/254)
5 - وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ عَنْ كِسْوَةِ الزَّوْجَةِ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِكِسْوَةِ زَوْجَتِهِ فَلِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ إِنْ لَمْ تَصْبِرْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) .
فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الأَْوَّل - وَهُوَ الإِْمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ - تَعَيَّنَ الثَّانِي؛ وَلأَِنَّ الْكِسْوَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا وَلاَ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهَا وَلاَ يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهَا.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: سَكَتَ الشَّيْخَانِ عَنِ الإِْعْسَارِ بِبَعْضِ الْكِسْوَةِ، وَأَطْلَقَ الْفَارِقِيُّ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ، وَالتَّحْرِيرَ فِيهَا كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ: مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلاَحِ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ، كَالْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَجُبَّةِ الشِّتَاءِ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُ بُدٌّ كَالسَّرَاوِيل وَالنَّعْل وَبَعْضِ مَا يُفْرَشُ وَالْمِخَدَّةِ، فَلاَ خِيَارَ (2) .
وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْعَجْزُ عَنِ الْكِسْوَةِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ إِذَا طَلَبَتْ
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) مغني المحتاج 3 / 443.(34/254)
الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ حَقِّهَا، فَلَهَا أَنْ تَصْبِرَ وَتَرْضَى بِالْمَقَامِ مَعَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنِ الْكِسْوَةِ، بَل يَفْرِضُ الْحَاكِمُ لَهَا الْكِسْوَةَ ثُمَّ يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ لِتُحِيل عَلَيْهِ (1) .
ثَانِيًا: الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ لِلْقَرِيبِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ كِسْوَةِ الْقَرِيبِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ، بِشَرْطِ الْيَسَارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) .
وَلاَ شَكَّ أَنَّ كِسْوَتَهَا مِنَ الإِْحْسَانِ الَّذِي أَمَرَتْ بِهِ الآْيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} إِلَى أَنْ قَال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ} (3) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خُذِي مَا يَكْفِيكِ، وَوَلَدَكَ بِالْمَعْرُوفِ (4) .
وَالْوَاجِبُ فِي كِسْوَةِ الْقَرِيبِ هُوَ قَدْرُ الْكِفَايَةِ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ، فَتُقَدَّرُ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، مَعَ اعْتِبَارِ سِنِّهِ وَحَالِهِ وَعَادَةِ الْبَلَدِ.
__________
(1) المصادر السابقة كلها الواردة في الصفحة السابقة عمود (1) هامش (1) .
(2) سورة الإسراء / 23.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) من حديث عائشة.(34/255)
قَال ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَكُونُ قَدْرُهَا - أَيِ الْكِسْوَةِ - وَجَوْدَتُهَا عَلَى حَسَبِ حَال الْمُنْفِقِ وَعَوَائِدِ الْبِلاَدِ (1) .
ثَالِثًا: الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَحَدُ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْحَالِفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالإِْطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمِ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (2) .
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ مِنَ الْكِسْوَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلاَةُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلاً فَثَوْبٌ تُجْزِئُ الصَّلاَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَدِرْعٌ وَخِمَارٌ، أَيْ مَا تَصِحُّ صَلاَتُهَا فِيهِ (3) ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ كِسْوَةَ الْمِسْكِينِ تَتَقَدَّرُ بِمَا يَصْلُحُ لأَِوْسَاطِ النَّاسِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَال الْقَابِضِ، وَقِيل: يُعْتَبَرُ فِي الثَّوْبِ حَال الْقَابِضِ، إِنْ كَانَ يَصْلُحُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 678 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 222، ومغني المحتاج 3 / 446 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 594.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) القوانين الفقهية ص 163، والمغني لابن قدامة 8 / 742 وابن عابدين 3 / 61.(34/255)
لَهُ يَجُوزُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَبِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ؛ لأَِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ مُدَّةِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَدِيدًا.
وَبِمَا يَسْتُرُ عَامَّةَ الْبَدَنِ كَالْمُلاَءَةِ أَوِ الْجُبَّةِ أَوِ الْقَمِيصِ أَوِ الْقَبَاءِ لاَ السَّرَاوِيل؛ لأَِنَّ لاَبِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا، وَلاَ الْعِمَامَةِ وَلاَ الْقَلَنْسُوَةِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الإِْطْعَامِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الْكِسْوَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ كُل مَا يُسَمَّى كِسْوَةً مِمَّا يُعْتَادُ لُبْسُهُ، كَقَمِيصٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ طَيْلَسَانٍ أَوْ مِنْدِيلٍ أَوْ جُبَّةٍ أَوْ قَبَاءٍ أَوْ دِرْعٍ مِنْ صُوفٍ، لاَ خُفٍّ وَقُفَّازَيْنِ وَمُكَعَّبٍ وَقَلَنْسُوَةٍ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ صَلاَحِيَّتُهُ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ سَرَاوِيل صَغِيرٍ لِكَبِيرٍ لاَ يَصْلُحُ لَهُ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الْكِسْوَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَبِيسٌ لَمْ تَذْهَبْ قُوَّتُهُ، فَإِنْ ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَجُوزُ نَجِسُ الْعَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ، وَيَجُوزُ الْمُتَنَجِّسُ مِنْهُ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ مَنْ يُعْطِيهِ إِيَّاهَا بِتَنَجُّسِهَا حَتَّى يُطَهِّرَهَا مِنْهَا (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 61.
(2) مغني المحتاج 4 / 327.(34/256)
كَشْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَشْفُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: رَفْعُ الْحِجَابِ، وَكَشَفَ الشَّيْءَ وَكَشَفَ عَنْهُ كَشْفًا: رَفَعَ عَنْهُ مَا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ، وَيُقَال: كَشَفَ الأَْمْرَ وَعَنْهُ أَيْ أَظْهَرَهُ، وَكَشَفَ اللَّهُ غَمَّهُ: أَزَالَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} (1) ، وَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَنَحْوِهِ وَاكْتَشَفَتِ الْمَرْأَةُ: بَالَغَتْ فِي إِبْدَاءِ مَحَاسِنِهَا.
وَكُشِفَ فُلاَنٌ: انْحَسَرَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَانْهَزَمَ فِي الْحَرْبِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ: أَنْ يُرْفَعَ عَنِ الشَّيْءِ مَا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغِطَاءُ:
2 - الْغِطَاءُ - بِالْكَسْرِ - فِي اللُّغَةِ السِّتْرُ، وَهُوَ
__________
(1) سورة الدخان / 12.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني، والمفردات في غريب القرآن.(34/256)
مَا يُجْعَل فَوْقَ الشَّيْءِ مِنْ طَبَقٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ غِطَاءُ الْمَائِدَةِ وَغِطَاءُ الْفِرَاشِ.
وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِلْجَهَالَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْكَشْفِ وَالْغِطَاءِ هِيَ التَّضَادُّ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَشْفِ مِنْ أَحْكَامٍ:
تَتَعَلَّقُ بِالْكَشْفِ الأَْحْكَامُ التَّالِيَةُ:
أَوَّلاً - كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ كَالطَّهَارَةِ لَهَا، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ سَتْرَ عَوْرَتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِهَا تَبْطُل صَلاَتُهُ، أَوْ لاَ تَنْعَقِدُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 120) .
ثَانِيًا - كَشْفُ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ حَالَةَ الإِْحْرَامِ:
4 - يَجِبُ عَلَى الرَّجُل الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَشْفُ رَأْسِهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ كَشْفُ وَجْهِهَا، وَكَذَلِكَ الرَّجُل عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف، 62، 65) .
ثَالِثًا - كَشْفُ الْعَوْرَةِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْبَالِغِ
__________
(1) سورة ق / 22.
(2) المراجع السابقة.(34/257)
الْعَاقِل أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ أَمَامَ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَوْرَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ أَوْ مِنَ الْمُخَفَّفَةِ، وَأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ أَشَدُّ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ الْمُخَفَّفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِنَ الرَّجُل أَوْ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِلاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَأَنَّهَا أَفْحَشُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْكَشْفِ وَالنَّظَرِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُبُل وَالدُّبُرُ - وَهُمَا مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ بِاتِّفَاقٍ - السَّوْأَتَيْنِ لأَِنَّ كَشْفَهُمَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ أَشَدُّ مِنْ حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ الْمُخَفَّفَةِ.
6 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكْشِفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَوْرَتَهُ لِلآْخَرِ، وَالتَّفْصِيل فِي (عَوْرَةٌ ف 11) .
ب - إِذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ، فَيَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ لأَِجْل الْحَاجَةِ، كَالْعِلاَجِ وَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْخِتَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْشِفَهَا لِلشَّهَادَةِ تَحَمُّلاً وَأَدَاءً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ مِنْ عَوْرَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ كَمَا لاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ
__________
(1) سورة الأعراف / 22.(34/257)
يَنْظُرَ أَكْثَرَ مِمَّا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ لأَِنَّهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (1) (ر: عَوْرَةٌ ف 17 - 18) .
رَابِعًا: كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ.
فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، كَتَغَوُّطٍ وَاسْتِنْجَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، لإِِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالسُّتْرَةِ، وَهُوَ يَشْمَل الْخَلْوَةَ وَالْجَلْوَةَ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَرَى الْمَسْتُورَ كَمَا يَرَى الْمَكْشُوفَ، لَكِنَّهُ يَرَى الْمَكْشُوفَ تَارِكًا لِلأَْدَبِ وَالْمَسْتُورَ مُتَأَدِّبًا، وَهَذَا الأَْدَبُ وَاجِبٌ مُرَاعَاتُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُول حَاجَةٍ، قَال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ: يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ لأَِدْنَى غَرَضٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حُصُول الْحَاجَةِ، ثُمَّ قَال: وَمِنَ الأَْغْرَاضِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّبْرِيدِ وَصِيَانَةِ الثَّوْبِ مِنَ الأَْدْنَاسِ وَالْغُبَارِ عِنْدَ كَنْسِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَكَى فِي الْقُنْيَةِ أَقْوَالاً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 270 - 277، والفواكه الدواني 1 / 150، 251، ومغني المحتاج 1 / 184، 3 / 128 - 134، والمغني لابن قدامة 1 / 577 وما بعدها، 6 / 558.(34/258)
فِي تَجَرُّدِهِ لِلاِغْتِسَال مُنْفَرِدًا، مِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُعْذَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي بَيْتِ الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 270، والفواكه الدواني 1 / 150، 250، والمجموع للنووي 3 / 165، ومغني المحتاج 1 / 185، 3 / 135، والمغني لابن قدامة 1 / 601، 163، 231، والآداب الشرعية 3 / 338.(34/258)
كَعْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَعْبُ فِي اللُّغَةِ الْعُقْدَةُ بَيْنَ الأُْنْبُوبَيْنِ مِنَ الْقَصَبِ، وَكَعْبَا الرَّجُل: هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاشِزَانِ مِنْ جَانِبَيِ الْقَدَمِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْكَعْبَانِ: النَّاتِئَانِ فِي مُنْتَهَى السَّاقِ مَعَ الْقَدَمِ عَنْ يَمْنَةِ الْقَدَمِ وَيَسْرَتِهَا.
وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ وَجَمَاعَةٌ: الْكَعْبُ هُوَ الْمَفْصِل بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَالْجَمْعُ كُعُوبٌ وَأَكْعُبُ وَكِعَابٌ، وَأَنْكَرَ الأَْصْمَعِيُّ قَوْل النَّاسِ: إِنَّ الْكَعْبَ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ (1) .
وَالْكَعْبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْعَظْمُ النَّاتِئُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ فِي مَجْمَعِ مَفْصِل السَّاقِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْكَعْبُ يُطْلَقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْل الْجُمْهُورِ وَعَلَى الْعَظْمِ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَيُؤْخَذُ الْمَعْنَى
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي.(34/259)
الأَْوَّل فِي الْوُضُوءِ وَيُؤْخَذُ الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ احْتِيَاطًا (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَعْبِ:
غَسْل الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
قَطْعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِي الإِْحْرَامِ:
3 - مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فِي الإِْحْرَامِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَيَلْبَسُهُمَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ (3) .
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ. وَفَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْكَعْبَيْنِ
__________
(1) البناية 1 / 109، وعمدة القاري 3 / 73، وفتح القدير 2 / 142، وابن عابدين 2 / 162، والبحر الرائق 3 / 348، وحلية العلماء 1 / 154، والقوانين الفقهية ص29، والمغني 1 / 132.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " لا تلبسوا القمص. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 272) ، ومسلم (2 / 834) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.(34/259)
اللَّذَيْنِ يُقْطَعُ الْخُفُّ أَسْفَل مِنْهُمَا بِأَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِل السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمَفْصِل الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 95) .
سَتْرُ الْكَعْبَيْنِ بِالْخُفِّ الَّذِي يُمْسَحُ عَلَيْهِ:
4 - مِنْ شُرُوطِ الْخُفِّ الَّذِي يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا مَحَل فَرْضِ الْغَسْل فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْقَدَمُ بِكَعْبِهِ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
قَطْعُ الرِّجْل مِنَ الْكَعْبِ فِي السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ:
5 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَطْعِ رِجْل السَّارِقِ هُوَ مَفْصِل الْكَعْبِ، وَفَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ (1) .
وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَيُتْرَكُ لَهُ الْعَقِبُ؛ لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي ثَوْرٍ (2) .
__________
(1) المغني 8 / 260، والبحر الرائق 5 / 66، والقوانين الفقهية ص 352، وحلية العلماء 8 / 74، وروضة الطالبين 10 / 149.
(2) حلية العلماء 8 / 74، والمغني 8 / 260، والبحر الرائق 5 / 66.(34/260)
وَيُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ قَطْعِ رِجْل قَاطِعِ الطَّرِيقِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ.
ر: (حِرَابَةٌ ف 20، وَسَرِقَةٌ ف 66) .(34/260)
كَعْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَعْبَةُ فِي اللُّغَةِ الْبَيْتُ الْمُرَبَّعُ وَجَمْعُهُ كِعَابٌ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالْكَعْبَةُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ (1) .
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَرْبِيعِهَا، وَالتَّكْعِيبُ: التَّرْبِيعُ، وَأَكْثَرُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مُدَوَّرَةٌ لاَ مُرَبَّعَةٌ، وَقِيل: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزِهَا، وَكُل بَارِزٍ كَعْبٌ، مُسْتَدِيرًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ، وَمِنْهُ كَعْبُ الْقَدَمِ.
قَال تَعَالَى {جَعَل اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (2) الآْيَةَ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قَال النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَْسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: وَالْكَعْبَةُ الْمُعَظَّمَةُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِبْلَةُ:
2 - الْقِبْلَةُ - بِكَسْرِ الْقَافِ - فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ
__________
(1) لسان العرب.
(2) سورة المائدة / 97.
(3) تهذيب الأسماء واللغات 2 / 116.(34/261)
وَكُل مَا يُسْتَقْبَل مِنَ الشَّيْءِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: جِهَةٌ يُصَلَّى نَحْوَهَا مِمَّا يُحَاذِي الْكَعْبَةَ أَوْ جِهَتَهَا، وَغَلَبَ هَذَا الاِسْمُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ حَتَّى صَارَ كَالْعَلَمِ لَهَا وَصَارَتْ مَعْرِفَةً عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلاَتِهِمْ وَالْقِبْلَةُ أَعَمُّ مِنَ الْكَعْبَةِ (2) .
ب - الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ:
3 - يُطْلَقُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ كُلُّهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ كُلُّهَا مَعَ الْحَرَمِ حَوْلَهَا بِكَمَالِهِ.
وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِهَذِهِ الأَْقْسَامِ الأَْرْبَعَةِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) .
فَعَلَى الإِْطْلاَقِ الأَْوَّل وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ، يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهَا، وَعَلَى غَيْرِهِ تَكُونُ الْكَعْبَةُ أَخَصَّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَعْبَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
اسْتِقْبَال الْكَعْبَةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال الْكَعْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
__________
(1) تاج العروس، والقاموس.
(2) حاشية مراقي الفلاح 1 / 170.(34/261)
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1)
وَقَال الْفُقَهَاءُ إِنَّ مَنْ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، أَيْ: مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا وَلاَ يَكْفِي الاِجْتِهَادُ وَلاَ اسْتِقْبَال جِهَتِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَايِنِ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَالتَّفْصِيل فِي (اسْتِقْبَالٌ ف 9، 12) .
حُكْمُ الصَّلاَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ:
5 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلاً.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ أَتَى فَقِيل لَهُ: هَذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْكَعْبَةَ، فَقَال ابْنُ عُمَرَ: فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ وَأَجِدُ بِلاَلاً قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً فَقُلْتُ: أَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ؟ قَال: نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ (2) . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ صَحِيحَةٌ إِذَا اسْتَقْبَل الْمُصَلِّي جِدَارَهَا أَوْ بَابَهَا مَرْدُودًا أَوْ مَفْتُوحًا مَعَ ارْتِفَاعِ عَتَبَتِهِ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا أَوْ إِلَى مَا هُوَ كَالْجُزْءِ مِنْهَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ
__________
(1) سورة البقرة / 144.
(2) حديث ابن عمر: " أنه أتى فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 500) .
(3) رد المحتار 1 / 432، ومغني المحتاج 1 / 144.(34/262)
الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ نَفْلاً لاَ فَرْضًا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: لَمَّا دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَل حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَل الْكَعْبَةِ وَقَال: هَذِهِ الْقِبْلَةُ (2) ، فَحَمَلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عَلَى الْفَرْضِ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى النَّفْل جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ.
وَقَال ابْنُ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لاَ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَالٌ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
الصَّلاَةُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ (4) ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِل شَيْئًا مِنَ الْكَعْبَةِ، وَالْهَوَاءُ لَيْسَ هُوَ الْكَعْبَةَ وَالْمَطْلُوبُ اسْتِقْبَالُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِ
__________
(1) شرح منح الجليل 1 / 144، والروض المربع 1 / 47.
(2) حديث ابن عباس " لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 501) .
(3) المجموع للنووي 3 / 192، نيل الأوطار 2 / 141.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 229، والروض المربع 1 / 47.(34/262)
الْكَعْبَةِ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَقِفَ آخِرَ السَّطْحِ أَوِ الْعَرْصَةِ وَيَسْتَقْبِل الْبَاقِيَ، أَوْ يَقِفَ وَسَطَهُمَا وَيَكُونَ أَمَامَهُ شَاخِصٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْكَعْبَةِ بِقَدْرِ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ السَّطْحُ أَمَامَهُ كُلُّهُ أَوْ كَانَ أَمَامَهُ شَاخِصٌ فَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِلْقِبْلَةِ وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ بِدُونِ مَا تَقَدَّمَ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ لِهَوَائِهَا وَالْكَعْبَةُ عِنْدَهُمْ هَوَاءٌ لاَ بِنَاءٌ، إِلاَّ أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ الأَْدَبِ بِالاِسْتِعْلاَءِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ تَعْظِيمِهَا.
أَمَّا النَّافِلَةُ فَتَصِحُّ فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ أَمَامَهُ شَاخِصٌ.
وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي النَّافِلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ الْمَنْعُ ابْتِدَاءً وَالْجَوَازُ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَكَذَا الْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَ النَّافِلَةَ عَلَيْهَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْفَرْضَ عَلَيْهَا (2) .
أَمَّا الصَّلاَةُ فِي الأَْسْطُحِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا وَالْمُرْتَفَعَاتِ كَجَبَل أَبِي قُبَيْسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْعَالِيَةِ فَتَصِحُّ وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ
الصَّلاَةُ تَحْتَ الْكَعْبَةِ:
7 - مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْجَوَازُ، قَال
__________
(1) فتح القدير 2 / 110، والمجموع 3 / 198.
(2) فتح القدير 2 / 110، والشرح الصغير 1 / 412، والمجموع 3 / 198، والروض المربع 1 / 47.(34/263)
الْحَصْكَفِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِبْلَةِ الْعَرْصَةُ لاَ الْبِنَاءُ فَهِيَ مِنَ الأَْرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى الْعَرْشِ (1) .
أَمَّا الصَّلاَةُ تَحْتَ الْكَعْبَةِ فَلاَ تَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلاً لأَِنَّ مَا تَحْتَ الْمَسْجِدِ لاَ يُعْطَى حُكْمَهُ بِحَالٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الدُّخُول تَحْتَهُ وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الطَّيَرَانُ فَوْقَهُ (2) .
وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ فِي مَكَانٍ أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَال الْكَعْبَةِ وَمَا يُسَامِتُهَا مِنْ فَوْقِهَا أَوْ تَحْتِهَا بِدَلِيل مَا لَوْ زَالَتِ الْكَعْبَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَنَّهُ يُسْتَقْبَل مَحَلُّهَا وَهَذَا مَوْضِعُ وِفَاقٍ لاَ خِلاَفَ فِيهِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 290.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 229.
(3) المغني 1 / 440.(34/263)
كُفْءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُفْءُ فِي اللُّغَةِ: النَّظِيرُ وَالْمُسَاوِي، وَهَذَا كِفَاءُ هَذَا وَكَفِيئُهُ وَكُفْؤُهُ، أَيْ مِثْلُهُ، وَفُلاَنٌ كُفْءُ فُلاَنَةَ إِذَا كَانَ يَصْلُحُ لَهَا بَعْلاً، وَالْجَمْعُ أَكْفَاءٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ (1) .
وَكُل شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْكُفْءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
حُكْمُ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بِالْكُفْءِ:
2 - تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ بِالزَّوْجِ الْكُفْءِ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الأَْوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ حَقُّ الإِْجْبَارِ وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " المؤمنون تكافأ دماؤهم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 667 - 669) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) لسان العرب، ومختار الصحاح، والمغرب.
(3) فتح القدير 3 / 185، والعناية بهامش الفتح 3 / 186، والتعريفات للجرجاني.(34/264)
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ لاَ يُزَوِّجِ النِّسَاءَ إِلاَّ الأَْوْلِيَاءُ، وَلاَ يَزَوَّجْنَ إِلاَّ مِنَ الأَْكْفَاءِ (1) .
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: لاَ يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُزَوَّجْنَ إِلاَّ مِنَ الأَْكْفَاءِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلأَْوْلِيَاءِ نَهْيًا لَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوهُنَّ إِلاَّ مِنَ الأَْكْفَاءِ.
ثُمَّ قَال الْكَمَال: وَمُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْوُجُوبُ، أَعْنِي وُجُوبَ نِكَاحِ الأَْكْفَاءِ، ثُمَّ هَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالأَْوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَقًّا لِلأَْوْلِيَاءِ.
لَكِنْ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّ الأَْوْلِيَاءِ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لأَِنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لاَ يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إِلاَّ بِرِضَاهَا فَتَكُونُ حِينَئِذٍ تَارِكَةً لِحَقِّهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (كَفَاءَةٌ) .
حُكْمُ التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ:
3 - لاَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ غَيْرِ الْمُجْبِرِ تَزْوِيجُ مُوَلِّيَتِهِ بِغَيْرِ كُفْءٍ دُونَ رِضَاهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
فَأَمَّا إِذَا زَوَّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا جَازَ
__________
(1) حديث: " ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء. . . " أخرجه البيهقي (7 / 133) من حديث جابر بن عبد الله وأشار إلى ضعفه.
(2) فتح القدير 3 / 185 - 186، والبدائع 2 / 317، وابن عابدين 2 / 304، والاختيار 3 / 97، والمهذب 2 / 39، ومغني المحتاج 3 / 149، والمغني 6 / 480، 487 - 489، وكشاف القناع 5 / 44، 67 - 68.(34/264)
النِّكَاحُ لأَِنَّ الْكَفَاءَةَ حَقُّ الْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ، فَإِذَا اتَّفَقَتْ مَعَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا جَازَ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ بَنَاتِهِ، وَلاَ أَحَدَ يُكَافِئُهُ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ بِنِكَاحِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مَوْلَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (كَفَاءَةٌ) .
التَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَا بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ:
4 - لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ وَلِيٍّ وَرَضِيَ أَحَدُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ بِتَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَا الْبَاقِينَ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَيَكُونُ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِلْجَمِيعِ (3) .
عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَاءَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 164، والمهذب 2 / 39، والمغني 6 / 480 - 481، وكشاف القناع 5 / 67، 68، وأسهل المدارك 2 / 76 - 77، وجواهر الإكليل 1 / 288، والبدائع 2 / 317 - 319، وحاشية ابن عابدين 2 / 305.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس بنكاح أسامة بن زيد. . . " أخرجه مسلم (2 / 1114) من حديث فاطمة بنت قيس.
(3) البدائع 2 / 318، والفواكه الدواني 2 / 29، ومغني المحتاج 3 / 164، وكشاف القناع 5 / 67.(34/265)
امْتِنَاعُ الْوَلِيِّ مِنْ تَزْوِيجِ الْكُفْءِ:
5 - لَوْ طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا مِنْهُ فَامْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلاً، وَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّزْوِيجِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) ، قَال مَعْقِل بْنُ يَسَارٍ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَأَفْرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؛ لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلاً لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآْيَةَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (2) فَقُلْتُ: الآْنَ أَفْعَل يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ (3) .
وَلَوْ رَغِبَتِ الْمَرْأَةُ فِي كُفْءٍ بِعَيْنِهِ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا مِنْ كُفْءٍ غَيْرِهِ، فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: كُفْؤُهَا أَوْلَى أَيْ مُقَدَّمٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً أَوْ كَانَتْ مُجْبَرَةً وَتَبَيَّنَ ضَرَرُهَا، فَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مَنْ رَضِيَتْ بِهِ، ثُمَّ إِنِ امْتَنَعَ سَأَلَهُ عَنْ وَجْهِ امْتِنَاعِهِ، فَإِنْ رَآهُ صَوَابًا زَجَرَهَا وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَإِلاَّ عُدَّ عَاضِلاً، وَزَوَّجَ الْحَاكِمُ الْمَرْأَةَ لِخَاطِبِهَا
__________
(1) البدائع 2 / 248 - 249، ومنح الجليل 2 / 26، وأسهل المدارك 2 / 76، والدسوقي 2 / 231، ومغني المحتاج 3 / 154، ونهاية المحتاج 6 / 231، والمغني 6 / 477 - 478.
(2) سورة البقرة / 232.
(3) المغني 6 / 477، وحديث: " معقل بن يسار زوجت أختًا لي. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 183) .(34/265)
الَّذِي رَضِيَتْ بِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَيَّنَتِ الْمُجْبَرَةُ كُفْئًا، وَأَرَادَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ كُفْئًا غَيْرَهُ فَلَهُ ذَلِكَ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ أَكْمَل نَظَرًا مِنْهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَلْزَمُهُ إِجَابَتُهَا إِعْفَافًا لَهَا، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، أَمَّا غَيْرُ الْمُجْبَرَةِ فَالْمُعْتَبَرُ مَنْ عَيَّنَتْهُ جَزْمًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الشَّيْخَيْنِ؛ لأَِنَّ أَصْل تَزْوِيجِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهَا (2) .
وَيَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَزْوِيجُهَا مِنَ الَّذِي رَغِبَتْ فِيهِ إِذَا كَانَ كُفْئًا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ رَغِبَتْ فِي كُفْءٍ بِعَيْنِهِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَكْفَائِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنَ الَّذِي أَرَادَتْهُ كَانَ عَاضِلاً لَهَا (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 282، ومنح الجليل 2 / 26.
(2) مغني المحتاج 3 / 154، ونهاية المحتاج 6 / 231.
(3) المغني 6 / 478.(34/266)
كَفَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَفَاءَةُ لُغَةً: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ، يُقَال: كَافَأَ فُلاَنٌ فُلاَنًا مُكَافَأَةً وَكِفَاءً وَهَذَا كِفَاءُ هَذَا وَكُفْؤُهُ: أَيْ مِثْلُهُ، يَكُونُ هَذَا فِي كُل شَيْءٍ، وَفُلاَنٌ كُفْءُ فُلاَنَةَ: إِذَا كَانَ يَصْلُحُ بَعْلاً لَهَا، وَالْجَمْعُ أَكْفَاءٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْكَفَاءَةِ بِاخْتِلاَفِ مَوْطِنِ بَحْثِهَا: فِي الْقِصَاصِ، أَوِ الْمُبَارَزَةِ، أَوِ النِّكَاحِ.
فَفِي النِّكَاحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا مُسَاوَاةٌ مَخْصُوصَةٌ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ فِي التَّدَيُّنِ وَالْحَال، أَيِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا أَمْرٌ يُوجِبُ عَدَمُهُ عَارًا (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(2) الدر المختار 2 / 317.
(3) التاج والإكليل 3 / 460، وجواهر الإكليل 1 / 288.
(4) مغني المحتاج 3 / 165.(34/266)
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (1)
أَمَّا فِي الْقِصَاصِ، فَقَدْ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا مُسَاوَاةُ الْقَاتِل الْقَتِيل بِأَنْ لاَ يَفْضُلَهُ بِإِسْلاَمٍ أَوْ أَمَانٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ أَوْ سِيَادَةٍ (2) .
وَفِي الْمُبَارَزَةِ عَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنْ يَعْلَمَ الشَّخْصُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ خَصْمِهِ (3) .
حُكْمُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لاِعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فَيَجِبُ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِنَ الأَْكْفَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ.
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الرِّجَال لِلنِّسَاءِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَال؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِاعْتِبَارِهَا فِي جَانِبِ الرِّجَال خَاصَّةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ مُكَافِئَ لَهُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَتَزَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَقَال: ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ:
__________
(1) كشاف القناع 5 / 67 - 68.
(2) مغني المحتاج 4 / 16.
(3) المغني 8 / 368.(34/267)
الرَّجُل تَكُونُ لَهُ الأَْمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ تَأْدِيبَهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتِ الْكَفَاءَةُ مِنْ أَجْلِهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ اعْتِبَارِهَا بِجَانِبِ الرِّجَال؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَنْكِفُ لاَ الرَّجُل، فَهِيَ الْمُسْتَفْرَشَةُ، وَالزَّوْجُ هُوَ الْمُسْتَفْرِشُ، فَلاَ تَلْحَقُهُ الأَْنَفَةُ مِنْ قِبَلِهَا، إِذْ إِنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لِلدَّنِيِّ، وَالزَّوْجُ الْمُسْتَفْرِشُ لاَ تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ لاَ بِأُمِّهِ (2) .
وَنُقِل عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ (3) .
قَال الْكَمَال: مُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ وُجُوبُ إِنْكَاحِ الأَْكْفَاءِ، وَهَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالأَْوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا، وَبِهَا حَقًّا لَهُمْ لَكِنْ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِمْ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لأَِنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لاَ يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إِلاَّ بِرِضَاهَا، فَهِيَ تَارِكَةٌ لِحَقِّهَا، كَمَا إِذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِ حَقِّهِ حَيْثُ يَنْفُذُ (4) .
__________
(1) حديث: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. . . " أخرجه البخاري (6 / 145) ، ومسلم (1 / 135) من حديث أبي موسى، واللفظ للبخاري.
(2) بدائع الصنائع 2 / 320، ورد المحتار 2 / 317، والمغني 6 / 487.
(3) بدائع الصنائع 2 / 320، ورد المحتار 2 / 317.
(4) فتح القدير 2 / 418.(34/267)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا وَإِدْخَالٌ لِلْعَارِ عَلَيْهَا، وَيَفْسُقُ الْوَلِيُّ بِتَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ دُونَ رِضَاهَا، وَذَلِكَ إِنْ تَعَمَّدَهُ (1) .
وَاخْتَلَفَ الرَّأْيُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
فَقَال خَلِيلٌ: لِلْمَرْأَةِ وَلِلْوَلِيِّ تَرْكُهَا. . أَيِ الْكَفَاءَةِ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: لَهُمَا مَعًا تَرْكُهَا وَتَزْوِيجُهَا مِنْ فَاسِقٍ سِكِّيرٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَإِلاَّ رَدَّهُ الإِْمَامُ وَإِنْ رَضِيَتْ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَكَذَا تَزْوِيجُهَا مِنْ مَعِيبٍ، لَكِنَّ السَّلاَمَةَ مِنَ الْعُيُوبِ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ كَلاَمٌ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: حَاصِل مَا فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ظَاهِرَ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ وَغَيْرُهُ وَاسْتَظْهَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ رَحَّالٍ مَنْعُ تَزْوِيجِهَا مِنَ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً وَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلاَ لِلْوَلِيِّ الرِّضَا بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ مُخَالَطَةَ الْفَاسِقِ مَمْنُوعَةٌ، وَهَجْرُهُ وَاجِبٌ شَرْعًا، فَكَيْفَ بِخُلْطَةِ النِّكَاحِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عِنْدَ الرِّضَا إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: يُكْرَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً التَّزْوِيجُ مِنْ فَاسِقٍ إِلاَّ رِيبَةً تَنْشَأُ مِنْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 68، ومطالب أولي النهى 5 / 84.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 249.(34/268)
عَدَمِ تَزْوِيجِهَا لَهُ، كَأَنْ خِيفَ زِنَاهُ بِهَا لَوْ لَمْ يَنْكِحْهَا، أَوْ يُسَلِّطُ فَاجِرًا عَلَيْهَا (1) .
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - كَذَلِكَ - فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا فِي النِّكَاحِ أَوْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا، وَهَل هِيَ - فِي حَال اعْتِبَارِهَا - شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَمْ فِي لُزُومِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي شَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ كَمَا قَال فِي الْمُقْنِعِ وَالشَّرْحِ، إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لاَ لِصِحَّتِهِ غَالِبًا، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ فَقْدِهَا؛ لأَِنَّهَا حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَلِلأَْوْلِيَاءِ، فَإِنْ رَضُوا بِإِسْقَاطِهَا فَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ سِيرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَلاَ أَحَدَ يُكَافِئُهُ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلاَهُ، فَنَكَحَهَا بِأَمْرِهِ (2) ، وَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الأَْسَدِيَّةَ (3) ،
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 233، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 164.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد " أخرجه مسلم (2 / 1119) .
(3) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة ابنة عمته زينب. . . ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (22 / 11) .(34/268)
وَبِأَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ مَوْلَى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ، وَبِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا حَقًّا لِلْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُهَا.
وَوَجْهُ اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُمْ، أَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ يَكُونُ عَادَةً بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ، وَالنِّكَاحُ شُرِعَ لاِنْتِظَامِهَا، وَلاَ تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُتَكَافِئَيْنِ، فَالشَّرِيفَةُ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ، وَتُعَيَّرُ بِذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ النِّكَاحَ وُضِعَ لِتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ الصِّهْرِيَّةِ، لِيَصِيرَ الْبَعِيدُ قَرِيبًا عَضُدًا وَسَاعِدًا، يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّكَ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْمُوَافَقَةِ وَالتَّقَارُبِ، وَلاَ مُقَارِبَةَ لِلنُّفُوسِ عِنْدَ مُبَاعَدَةِ الأَْنْسَابِ، وَالاِتِّصَافِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعَقْدُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُكَافِئِ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ عَقْدٍ لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقَاصِدُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ - وَاللَّخْمِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ فَرْحُونَ وَابْنُ سَلْمُونٍ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. . إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، قَال أَحْمَدُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 318، وبدائع الصنائع 2 / 317، وفتح القدير 2 / 418، وحاشية الدسوقي 2 / 249، ومغني المحتاج 3 / 164، وروضة الطالبين 7 / 84، وكشاف القناع 5 / 67، والمغني 6 / 480 - 481.(34/269)
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَال فِي الرَّجُل يَشْرَبُ الشَّرَابَ: مَا هُوَ بِكُفْءٍ لَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَقَال: لَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ حَائِكًا فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأََمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الأَْحْسَابِ إِلاَّ مِنَ الأَْكْفَاءِ.
وَلِقَوْل سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثِنْتَانِ فَضَلْتُمُونَا بِهَا يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، لاَ نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ وَلاَ نَؤُمُّكُمْ، (1) وَلأَِنَّ التَّزَوُّجَ مَعَ فَقْدِ الْكَفَاءَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ مَنْ يَحْدُثُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا (2) .
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالْجَصَّاصُ وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ أَصْلاً، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا بَنِي بَيَاضَةَ أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ، قَال: وَكَانَ حَجَّامًا (3) ، أَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لَمَا أَمَرَ،
__________
(1) أثر عمر: " لأمنعن خروج ذوات الأحساب. . . " أخرجه عبد الرزاق (6 / 152) ، والبيهقي (7 / 133) . وأثر سلمان: " ثنتان فضلتمونا بها يا معشر العرب. . . " أخرجه البيهقي في سننه (7 / 134) .
(2) رد المحتار 2 / 318، وحاشية الدسوقي 2 / 249، والمغني 6 / 480.
(3) حديث أبي هريرة: " يا بني بياضة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 579 - 580) ، والحاكم (2 / 164) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(34/269)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ فَضْل لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَِحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى (1) ، وَبِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكَانَ أَوْلَى الأَْبْوَابِ بِالاِعْتِبَارِ بِهَا بَابُ الدِّمَاءِ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَاطُ فِيهِ مَا لاَ يُحْتَاطُ فِي سَائِرِ الأَْبْوَابِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ، حَتَّى يُقْتَل الشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكَفَاءَةَ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ غَالِبًا بَل لِكَوْنِهَا حَقًّا لِلْوَلِيِّ وَالْمَرْأَةِ إِلاَّ أَنَّهَا قَدْ تُعْتَبَرُ لِلصِّحَّةِ كَمَا فِي التَّزْوِيجِ بِالإِْجْبَارِ (3) .
وَقْتُ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مُسْتَوْفِيًا لِخِصَال الْكَفَاءَةِ ثُمَّ زَالَتْ هَذِهِ الْخِصَال أَوِ اخْتَلَّتْ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَبْطُل بِذَلِكَ. . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ
__________
(1) حديث: " لا فضل لعربي على أعجمي. . . ". أخرجه أحمد (5 / 411) ، وقال الهيثمي في المجمع (3 / 266) : ورجاله رجال الصحيح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 317، وفتح القدير 2 / 418.
(3) حاشية الجمل 4 / 163.(34/270)
الْعَقْدِ، فَلاَ يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَهُ، فَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ كُفُؤًا ثُمَّ زَالَتْ كَفَاءَتُهُ لَمْ يُفْسَخْ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ دَبَّاغًا فَصَارَ تَاجِرًا، فَإِنْ بَقِيَ عَارُهَا لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا، وَإِنْ تَنَاسَى أَمْرُهَا لِتَقَادُمِ زَمَانِهَا كَانَ كُفُؤًا.
(1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْعِبْرَةُ فِي خِصَال الْكَفَاءَةِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، نَعَمْ إِنْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الدَّنِيئَةَ قَبْلَهُ لاَ يُؤَثِّرُ إِلاَّ إِنْ مَضَتْ سَنَةٌ - كَمَا أَطْلَقَهُ جَمْعٌ - وَهُوَ وَاضِحٌ إِنْ تَلَبَّسَ بِغَيْرِهَا، بِحَيْثُ زَال عَنْهُ اسْمُهَا وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهَا أَصْلاً، وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُضِيِّ زَمَنٍ يَقْطَعُ نِسْبَتَهَا عَنْهُ، بِحَيْثُ لاَ يُعَيَّرُ بِهَا، وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ الْعِمَادِ وَالزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْفَاسِقَ إِذَا تَابَ لاَ يُكَافِئُ الْعَفِيفَةَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ لاَ يَعُودُ كُفُؤًا، كَمَا لاَ تَعُودُ عِفَّتُهُ، وَبِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلرَّشِيدَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ طُرُوَّ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ. وَهُوَ الأَْوْجَهُ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ بِالأَْسْبَابِ الْخَمْسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي بَابِهِ، وَبِالْعِتْقِ تَحْتَ رَقِيقٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ زَالَتِ الْكَفَاءَةُ بَعْدَ
__________
(1) الدر المختار، ورد المحتار عليه 2 / 322 - 323.
(2) نهاية المحتاج 6 / 250 - 251.(34/270)
الْعَقْدِ فَلِلزَّوْجَةِ فَقَطِ الْفَسْخُ دُونَ أَوْلِيَائِهَا، كَعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ؛ وَلأَِنَّ حَقَّ الأَْوْلِيَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لاَ فِي اسْتِدَامَتِهِ (1)
الْحَقُّ فِي الْكَفَاءَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَلِلأَْوْلِيَاءِ؛ لأَِنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي أَنْ تَصُونَ نَفْسَهَا عَنْ ذُل الاِسْتِفْرَاشِ لِمَنْ لاَ يُسَاوِيهَا فِي خِصَال الْكَفَاءَةِ، فَكَانَ لَهَا حَقٌّ فِي الْكَفَاءَةِ أَمَّا الأَْوْلِيَاءُ فَإِنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِعُلُوِّ نَسَبِ الْخَتَنِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الضَّرَرَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالاِعْتِرَاضِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ لاَ تَتَوَافَرُ فِيهِ خِصَال الْكَفَاءَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَقْرِيرَ الْحَقِّ لَهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الشَّافِعِيَّةُ: الْكَفَاءَةُ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْوَلِيُّ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً مُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةٍ، فَلاَ بُدَّ مَعَ رِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ مِنْ رِضَا الأَْوْلِيَاءِ بِهِ، لاَ رِضَا أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ رِضَا أَحَدِهِمْ لاَ يَكْفِي عَنْ رِضَا الْبَاقِينَ؛ لأَِنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْكَفَاءَةِ فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ بِتَرْكِهَا كَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ تَفَاوَتَ الأَْوْلِيَاءُ، فَلِلْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ بِرِضَاهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 84، والمغني 6 / 481.(34/271)
الاِعْتِرَاضُ، فَلَوْ كَانَ الَّذِي يَلِي أَمْرَهَا السُّلْطَانُ، فَهَل لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ إِذَا طَلَبَتْهُ؟ قَال النَّوَوِيُّ: قَوْلاَنِ أَوْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ؛ لأَِنَّهُ كَالنَّائِبِ، فَلاَ يَتْرُكُ الْحَظَّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَفَاءَةُ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، حَتَّى مَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِتَسَاوِيهِمْ فِي لُحُوقِ الْعَارِ بِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ (1) .
خِصَال الْكَفَاءَةِ:
6 - الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ لِدَفْعِ الْعَارِ وَالضِّرَارِ، وَخِصَالُهَا - أَيِ الصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهَا لِيُعْتَبَرَ فِي الزَّوْجِ مِثْلُهَا فِي الْجُمْلَةِ - هِيَ: الدِّينُ، وَالنَّسَبُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَسَبِ، وَالْحِرْفَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمَال، وَالتَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى اعْتِبَارِهَا كُلِّهَا كَامِلَةً، بَل كَانَ لَهُمْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ:
أ - الدِّينُ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ الدِّينَ، أَيِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي التَّدَيُّنِ بِشَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ، لاَ فِي
__________
(1) الاختيار 3 / 100، والدر المختار، ورد المحتار عليه 2 / 317، ومواهب الجليل 3 / 460، وروضة الطالبين 7 / 84، وأسنى المطالب 3 / 139، وكشاف القناع 5 / 67.(34/271)
مُجَرَّدِ أَصْل الإِْسْلاَمِ، وَلَهُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاسِقٍ، كَانَ لِلأَْوْلِيَاءِ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ؛ لأَِنَّ التَّفَاخُرَ بِالدِّينِ أَحَقُّ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَال، وَالتَّعْيِيرُ بِالْفِسْقِ أَشَدُّ وُجُوهِ التَّعْيِيرِ وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الآْخِرَةِ، وَالْكَفَاءَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلاَ يَقْدَحُ فِيهَا الْفِسْقُ إِلاَّ إِذَا كَانَ شَيْئًا فَاحِشًا، بِأَنْ كَانَ الْفَاسِقُ مِمَّنْ يُسْخَرُ مِنْهُ وَيُضْحَكُ عَلَيْهِ وَيُصْفَعُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُهَابُ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا قَتَّالاً فَإِنَّهُ يَكُونُ كُفْئًا لأَِنَّ هَذَا الْفِسْقَ لاَ يُعَدُّ شَيْئًا فِي الْعَادَةِ، فَلاَ يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ كَانَ مُعْلِنًا لاَ يَكُونُ كُفْئًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا يَكُونُ كُفْئًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ بِالدِّينِ الإِْسْلاَمُ مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ الْفِسْقِ، وَلاَ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الصَّلاَحِ، فَإِنْ فُقِدَ الدِّينُ وَكَانَ الزَّوْجُ فَاسِقًا فَلَيْسَ بِكُفْءٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ الدِّينُ وَالصَّلاَحُ وَالْكَفُّ عَمَّا لاَ يَحِل،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 320، والمغني لابن قدامة 6 / 482.
(2) مواهب الجليل 3 / 460.(34/272)
وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ، وَغَيْرُ الْفَاسِقِ - عَدْلاً كَانَ أَوْ مَسْتُورًا - كُفْءٌ لَهَا، وَلاَ تُعْتَبَرُ الشُّهْرَةُ بِالصَّلاَحِ، فَغَيْرُ الْمَشْهُورِ بِالصَّلاَحِ كُفْءٌ لِلْمَشْهُورَةِ بِهِ، وَالْفَاسِقُ كُفْءٌ لِلْفَاسِقَةِ مُطْلَقًا إِلاَّ إِنْ زَادَ فِسْقُهُ أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُهُ كَمَا بَحَثَهُ الإِْسْنَوِيُّ، وَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ أَوِ السُّنِّيَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الدِّينُ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ، فَلاَ تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ عَنِ الزِّنَا بِفَاجِرٍ، أَيْ بِفَاسِقٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: لاَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنْ حَرُورِيٍّ قَدْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ، وَلاَ مِنَ الرَّافِضِيِّ وَلاَ مِنَ الْقَدَرِيِّ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَدْعُو فَلاَ بَأْسَ، وَلاَ تُزَوَّجُ امْرَأَةٌ عَدْلٌ بِفَاسِقٍ كَشَارِبِ خَمْرٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ، سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنْ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُسْكِرِ لَيْسَ بِكُفْءٍ، قَال إِسْحَاقُ إِذَا زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهُ (2) .
ب - النَّسَبُ:
8 - مِنَ الْخِصَال الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ النَّسَبُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ بِالْمَنْصِبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 81 ونهاية المحتاج 6 / 253 ومغني المحتاج 3 / 166.
(2) مطالب أولي النهى 5 / 85.(34/272)
بِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأََمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الأَْحْسَابِ إِلاَّ مِنَ الأَْكْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتُ: وَمَا الأَْكْفَاءُ؟ قَال: فِي الأَْحْسَابِ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْعَرَبَ يَعْتَمِدُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ وَيَتَفَاخَرُونَ بِرِفْعَةِ النَّسَبِ، وَيَأْنَفُونَ مِنْ نِكَاحِ الْمَوَالِي، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَارًا؛ وَلأَِنَّ الْعَرَبَ فَضَلَتِ الأُْمَمَ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالاِعْتِبَارُ فِي النَّسَبِ بِالآْبَاءِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ تَفْتَخِرُ بِهِ فِيهِمْ دُونَ الأُْمَّهَاتِ، فَمَنِ انْتَسَبَتْ لِمَنْ تَشْرُفُ بِهِ لَمْ يُكَافِئْهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْعَجَمِيُّ أَبًا وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً لَيْسَ كُفْءَ عَرَبِيَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهَا عَجَمِيَّةً؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى الْعَرَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمَيَّزَهُمْ عَنْهُمْ بِفَضَائِل جَمَّةٍ، كَمَا صَحَّتْ بِهِ الأَْحَادِيثُ (2) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ، قِيل لِمَالِكٍ: إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَرَّقُوا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ وَمَوْلًى، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ إِعْظَامًا شَدِيدًا وَقَال: أَهْل الإِْسْلاَمِ كُلُّهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
__________
(1) أثر عمر. أورده ابن قدامة في المغني (6 / 483) وقال: رواه أبو بكر عبد العزيز بإسناده.
(2) بدائع الصنائع 2 / 319، ونهاية المحتاج 6 / 252، ومطالب أولي النهى 5 / 85، والمغني 6 / 483.(34/273)
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، (1) وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُول: لاَ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي النَّسَبِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ بِالْحَدِيثِ (2) ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ فَضْل لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَِحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى (3) ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، (4) وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ، وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ، وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ إِلاَّ حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ (5) .
__________
(1) سورة الحجرات الآية (13) .
(2) المدونة الكبرى 3 / 163، وشرح العناية بهامش فتح القدير 2 / 419.
(3) حديث: " لا فضل لعربي على أعجمي. . . ". تقدم في الفقرة (3) .
(4) سورة الحجرات الآية (13) .
(5) حديث: " قريش بعضهم أكفاء لبعض. . . ". أخرجه الحاكم دون ذكر قريش، كذا في نصب الراية للزيلعي (3 / 197) ونقل عن ابن عبد الهادي أنه أعل إسناده بالانقطاع، وقوله: " قريش بعضها لبعض أكفاء " أورده ابن أبي حاتم في علل الحديث (1 / 424) ونقل عن أبيه أنه قال: هذ(34/273)
وَقَالُوا: الْقُرَشِيُّ كُفْءٌ لِلْقُرَشِيَّةِ عَلَى اخْتِلاَفِ الْقَبِيلَةِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ التَّفَاضُل فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْكَفَاءَةِ، فَالْقُرَشِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كَالتَّيْمِيِّ وَالأُْمَوِيِّ، وَالْعَدَوِيُّ كُفْءٌ لِلْهَاشِمِيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَقُرَيْشٌ تَشْتَمِل عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَإِنْ كَانَ لِبَنِي هَاشِمٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَكَانَ أُمَوِيًّا لاَ هَاشِمِيًّا، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَتَهُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هَاشِمِيًّا بَل عَدَوِيًّا، فَدَل عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي قُرَيْشٍ لاَ تَخْتَصُّ بِبَطْنٍ دُونَ بَطْنٍ.
وَاسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ بَيْتَ الْخِلاَفَةِ، فَلَمْ يَجْعَل الْقُرَشِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كُفْئًا لَهُ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ قُرَشِيَّةٌ مِنْ أَوْلاَدِ الْخُلَفَاءِ قُرَشِيًّا لَيْسَ مِنْ أَوْلاَدِهِمْ، كَانَ لِلأَْوْلِيَاءِ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَلاَ تَكُونُ الْعَرَبُ كُفْئًا لِقُرَيْشٍ؛ لِفَضِيلَةِ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ(34/274)
وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتِ الإِْمَامَةُ بِهِمْ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ (1) .
وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَلاَ تَكُونُ الْمَوَالِي أَكْفَاءً لِلْعَرَبِ، لِفَضْل الْعَرَبِ عَلَى الْعَجَمِ، وَمَوَالِي الْعَرَبِ أَكْفَاءٌ لِمَوَالِي قُرَيْشٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ وَمُفَاخَرَةُ الْعَجَمِ بِالإِْسْلاَمِ لاَ بِالنَّسَبِ، فَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الإِْسْلاَمِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنَ الأَْكْفَاءِ لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الإِْسْلاَمِ لاَ يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالأَْبِ وَالْجَدِّ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لاَ يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرُ الْقُرَشِيِّ مِنَ الْعَرَبِ لَيْسَ كُفْءَ الْقُرَشِيَّةِ، لِخَبَرِ: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلاَ تَقَدَّمُوهَا (3) وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيِّ مِنْ قُرَيْشٍ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيَّةِ أَوِ الْمُطَّلِبِيَّةِ، لِخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ
__________
(1) حديث: " الأئمة من قريش " أخرجه أحمد (3 / 129) من حديث أنس بن مالك، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 192) : رجاله ثقات.
(2) بدائع الصنائع 2 / 319، وفتح القدير وشرح العناية 2 / 420 - 421.
(3) حديث: " قدموا قريشًا ولا تقدموها ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 25) وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو معشر، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.(34/274)
وَلَدِ إِسْمَاعِيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ (1) ، وَالْمُطَّلِبِيُّ كُفْءُ الْهَاشِمِيَّةِ وَعَكْسُهُ، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ (2) ، فَهُمَا مُتَكَافِئَانِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ شَرِيفَةً، أَمَّا الشَّرِيفَةُ فَلاَ يُكَافِئُهَا إِلاَّ شَرِيفٌ، وَالشَّرَفُ مُخْتَصٌّ بِأَوْلاَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَعَنْ أَبَوَيْهِمَا. . نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ ظَهِيرَةَ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي الْحُرَّةِ، فَلَوْ نَكَحَ هَاشِمِيٌّ أَوْ مُطَّلِبِيٌّ أَمَةً فَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمَالِكِ أُمِّهَا، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَقِيقٍ وَدَنِيءِ النَّسَبِ، لأَِنَّ وَصْمَةَ الرِّقِّ الثَّابِتِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَلْغَتِ اعْتِبَارَ كُل كَمَالٍ مَعَهُ، مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ لِسَيِّدِهَا لاَ لَهَا عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الشَّيْخَانِ.
أَمَّا غَيْرُ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ. . نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَقَال فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ إِنَّهُ مُقْتَضَى كَلاَمِ الأَْكْثَرِينَ.
وَقَالُوا: الأَْصَحُّ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ كَالْعَرَبِ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ، فَالْفُرْسُ أَفْضَل مِنَ
__________
(1) حديث: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1782) من حديث واثلة بن الأسقع.
(2) حديث: " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 484) من حديث جبير بن مطعم.(34/275)
الْقِبْطِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسٍ (1) ،
وَبَنُو إِسْرَائِيل أَفْضَل مِنَ الْقِبْطِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ النَّسَبُ فِي الْعَجَمِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَنُونَ بِحِفْظِ الأَْنْسَابِ وَلاَ يُدَوِّنُونَهَا بِخِلاَفِ الْعَرَبِ، وَالاِعْتِبَارُ فِي النَّسَبِ بِالأَْبِ، وَلاَ يُكَافِئُ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَجْدَادِهِ الأَْقْرَبِينَ أَقْدَمَ مِنْهُ فِي الإِْسْلاَمِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ كُفْءَ مَنْ لَهَا أَبٌ أَوْ أَكْثَرُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الإِْسْلاَمِ لَيْسَ كُفْءَ مَنْ لَهَا ثَلاَثَةُ آبَاءٍ فِيهِ (2) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ لاَ يُكَافِئُهَا، وَغَيْرُ بَنِي هَاشِمٍ لاَ يُكَافِئُهُمْ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلأَِنَّ الْعَرَبَ فُضِّلَتْ عَلَى الأُْمَمِ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٌ أَخَصُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَخَصُّ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَذَلِكَ قَال عُثْمَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ عَلَيْنَا لِمَكَانِكَ الَّذِي
__________
(1) حديث: " لو كان الدين عند الثريا. . . " أخرجه مسلم (4 / 1972) من حديث أبي هريرة.
(2) مغني المحتاج 3 / 166، ونهاية المحتاج 6 / 252، والجمل 4 / 166.(34/275)
وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَرَبَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْعَجَمَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ عُثْمَانَ، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ عُمَرَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ (1) .
وَالْكَفَاءَةُ فِي النَّسَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
ج - الْحُرِّيَّةُ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ، فَلاَ يَكُونُ الْقِنُّ أَوِ الْمُبَعَّضُ أَوِ الْمُدَبَّرُ أَوِ الْمُكَاتَبُ كُفْئًا لِلْحُرَّةِ وَلَوْ عَتِيقَةً؛ لأَِنَّهَا تَتَعَيَّرُ بِهِ، إِذِ النَّقْصُ وَالشَّيْنُ بِالرِّقِّ فَوْقَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ؛ وَلأَِنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِنِكَاحِهِ لأَِنَّهُ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ، وَلاَ يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، غَيْرُ مَالِكٍ لَهُ، مَشْغُولٌ عَنِ امْرَأَتِهِ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَمِلْكُ السَّيِّدِ رَقَبَتَهُ يُشْبِهُ مِلْكَ الْبَهِيمَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) المغني 4 / 166.
(2) جواهر الإكليل 6 / 483.
(3) حديث عائشة: " أن بريرة أعتقت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 138) ، ومسلم (3 / 1143) .(34/276)
زَوْجُهَا حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا (1) ، وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي كَفَاءَةِ الْعَبْدِ لِلْحُرَّةِ أَوْ عَدَمِهَا فِي تَأَوُّلَيْنِ.
فَأَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ نِكَاحَ الْعَبْدِ عَرَبِيَّةً، وَقَال عَبْدُ الْبَاقِي: إِنَّهُ الأَْحْسَنُ وَرَجَّحَ الدَّرْدِيرُ عَدَمَ كَفَاءَةِ الْعَبْدِ لِلْحُرَّةِ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ (2) .
د - الْحِرْفَةُ:
10 - الْحِرْفَةُ مَا يُطْلَبُ بِهِ الرِّزْقُ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَالْحِرْفَةُ الدَّنِيئَةُ مَا دَلَّتْ مُلاَبَسَتُهَا عَلَى انْحِطَاطِ الْمُرُوءَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ، كَمُلاَبَسَةِ الْقَاذُورَاتِ (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُفْتَى بِهِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى اعْتِبَارِ الْحِرْفَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ فَضَّل بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} ، أَيْ فِي سَبَبِهِ، فَبَعْضُهُمْ يَصِل إِلَيْهِ بِعِزٍّ وَرَاحَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِذُلٍّ وَمَشَقَّةٍ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِشَرَفِ الْحِرَفِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَتِهَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 319، والمبسوط 5 / 24 - 25، ونهاية المحتاج 6 / 251، ومغني المحتاج 3 / 165، والمغني 6 / 484، ومطالب أولي النهى 5 / 85.
(2) جواهر الإكليل 1 / 288، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 461 - 462، وحاشية الدسوقي 2 / 250.
(3) نهاية المحتاج 6 / 353، ومغني المحتاج 3 / 166.(34/276)
الْحِرْفَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِنْتِقَال وَالتَّحَوُّل عَنِ الْخَسِيسَةِ إِلَى النَّفِيسَةِ مِنْهَا، فَلَيْسَتْ وَصْفًا لاَزِمًا.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، حَيْثُ قَال: إِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً. .
كَحِرْفَةِ الْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ وَالدَّبَّاغِ، فَلاَ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ كُفْءَ بِنْتِ الْعَطَّارِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَالْجَوْهَرِيِّ.
وَوَفْقَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يَكُونُ الرَّجُل صَاحِبُ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ أَوِ الْخَسِيسَةِ كُفْءَ بِنْتِ صَاحِبِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْحِرْفَةِ الرَّفِيعَةِ أَوِ الشَّرِيفَةِ. . لِمَا سَبَقَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَشْبَهَ نَقْصَ النَّسَبِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ: الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَفِي آخِرِهِ " إِلاَّ حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ (1) "، قِيل لأَِحْمَدَ: كَيْفَ تَأْخُذُ بِهِ وَأَنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ قَال: الْعَمَل عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُوَافِقٌ لأَِهْل الْعُرْفِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ الْحِرْفَتَيْنِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالْبَزَّازِ مَعَ الْبَزَّازِ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَائِكِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِلاَفِ جِنْسِ الْحِرْفَةِ إِذَا كَانَ يُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَالْبَزَّازِ مَعَ الصَّائِغِ، وَالصَّائِغِ مَعَ الْعَطَّارِ، وَلاَ تَثْبُتُ
__________
(1) حديث: " العرب بعضهم أكفاء لبعض. . . " تقدم تخريجه ف (8) .(34/277)
فِيمَا لاَ مُقَارَبَةَ بَيْنَهُمَا، كَالْعَطَّارِ مَعَ الْبَيْطَارِ، وَالْبَزَّازِ مَعَ الْخَرَّازِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الاِعْتِبَارُ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ لِبَلَدِ الزَّوْجَةِ لاَ لِبَلَدِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى تَعْيِيرِهَا أَوْ عَدَمِهِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ لِحِرَفِ بَلَدِهَا، أَيِ الَّتِي هِيَ بِهَا حَالَةَ الْعَقْدِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: حِرْفَةُ الآْبَاءِ - كَحِرْفَةِ الزَّوْجِ - مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكَفَاءَةِ، وَالأَْوْجَهُ أَنَّ كُل ذِي حِرْفَةٍ فِيهَا مُبَاشَرَةُ نَجَاسَةٍ لَيْسَ كُفْءَ الَّذِي حِرْفَتُهُ لاَ مُبَاشَرَةَ فِيهَا لِلنَّجَاسَةِ، وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْحِرَفِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا تَفَاضُلاً مُتَسَاوِيَةٌ إِلاَّ إِنِ اطَّرَدَ الْعُرْفُ بِتَفَاوُتِهَا. . وَقَال: مَنْ لَهُ حِرْفَتَانِ: دَنِيَّةٌ وَرَفِيعَةٌ اعْتُبِرَ مَا اشْتُهِرَ بِهِ، وَإِلاَّ غَلَبَتِ الدَّنِيَّةُ، بَل لَوْ قِيل بِتَغْلِيبِهَا مُطْلَقًا لَمْ يَبْعُدْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو عَنْ تَعْيِيرِهِ بِهَا. (1)
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ: لَوْ تَرَكَ حِرْفَةً لأَِرْفَعَ مِنْهَا أَوْ عَكْسِهِ، اعْتُبِرَ قَطْعُ نِسْبَتِهِ عَنِ الأُْولَى، وَلَيْسَ تَعَاطِي الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لِتَوَاضُعٍ أَوْ كَسْرِ نَفْسٍ أَوْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مُضِرًّا فِي الْكَفَاءَةِ وَالْعِلْمِ - بِشَرْطِ عَدَمِ الْفِسْقِ - وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ أَرْفَعُ الْحِرَفِ كُلِّهَا، فَيُكَافِئَانِ سَائِرَ الْحِرَفِ، فَلَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ لاَ يُعْرَفُ نَسَبُهَا إِلَى قَاضٍ لِيُزَوِّجَهَا، لاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ مِنَ ابْنِ عَالِمٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 320، والاختيار 3 / 99، وفتح القدير 2 / 424، ونهاية المحتاج 6 / 353، ومغني المحتاج 3 / 166، والمغني 6 / 485، ومطالب أولي النهى 5 / 186.(34/277)
أَوْ قَاضٍ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لاِحْتِمَال شَرَفِهَا بِالنَّسَبِ إِلَى أَحَدِهِمَا.
وَالْمُرَادُ بِبِنْتِ الْعَالِمِ وَالْقَاضِي فِي ظَاهِرِ كَلاَمِهِمْ - كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ - مَنْ فِي آبَائِهَا الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِمْ أَحَدُهُمَا وَإِنْ عَلاَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَفْتَخِرُ بِهِ، وَبَحَثَ الأَْذْرَعِيُّ أَنَّ الْعِلْمَ مَعَ الْفِسْقِ لاَ أَثَرَ لَهُ، إِذْ لاَ فَخْرَ لَهُ حِينَئِذٍ فِي الْعُرْفِ فَضْلاً عَنِ الشَّرْعِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَقَال: إِنْ كَانَ الْقَاضِي أَهْلاً فَعَالِمٌ وَزِيَادَةٌ، أَوْ غَيْرَ أَهْلٍ فَفِي النَّظَرِ إِلَيْهِ نَظَرٌ.
وَالْجَاهِل - كَمَا أَضَافَ الرَّمْلِيُّ - لاَ يَكُونُ كُفْءَ عَالِمَةٍ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ إِذَا اعْتُبِرَ فِي آبَائِهَا فَلأََنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا بِالأَْوْلَى، إِذْ أَقَل مَرَاتِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ كَالْحِرْفَةِ، وَصَاحِبُ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لاَ يُكَافِئُ صَاحِبَ الشَّرِيفَةِ (1) .
وَلاَ يَعْتَبِرُ الْمَالِكِيَّةُ الْحِرْفَةَ مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ؛ إِذْ الْكَفَاءَةُ عِنْدَهُمْ فِي الدِّينِ وَالْحَال، وَأَمَّا الدِّينُ فَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ أَوِ الْمُقَارَبَةُ فِي التَّدَيُّنِ بِشَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ لاَ فِي مُجَرَّدِ أَصْل الإِْسْلاَمِ.
وَأَمَّا الْحَال فَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ أَوِ الْمُقَارَبَةُ فِي السَّلاَمَةِ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ، لاَ الْحَسَبُ وَالنَّسَبُ (2) .
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 236، ونهاية المحتاج 6 / 254.
(2) جواهر الإكليل 1 / 288.(34/278)
هـ - الْيَسَارُ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْيَسَارِ - وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمَال - مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى اعْتِبَارِهِ، فَلاَ يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْءَ الْغَنِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَال أَكْثَرُ مِنَ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً، وَلأَِنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا لاَزِمًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَلاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الْكَفَاءَةُ ثَمَّةَ فَلأََنْ تُعْتَبَرَ هَاهُنَا أَوْلَى؛ وَلأَِنَّ عَلَى الْمُوسِرَةِ ضَرَرًا فِي إِعْسَارِ زَوْجِهَا لإِِخْلاَلِهِ بِنَفَقَتِهَا وَمُؤْنَةِ أَوْلاَدِهَا، وَلِهَذَا مَلَكَتِ الْفَسْخَ بِإِخْلاَلِهِ بِنَفَقَتِهَا وَمُؤْنَةِ أَوْلاَدِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ نَقْصًا فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهِ كَتَفَاضُلِهِمْ فِي النَّسَبِ وَأَبْلَغَ، فَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَاءَةِ كَالنَّسَبِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ مِثْل الزَّوْجَةِ وَالنَّفَقَةُ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَاوِيهَا فِي الْمَال؛ لأَِنَّ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْمَال فِي الْيَسَارِ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِذْ إِنَّ مَنْ لاَ يَمْلِكُ مَهْرًا وَلاَ نَفَقَةً لاَ يَكُونُ كُفْئًا لأَِنَّ الْمَهْرَ بَدَل الْبُضْعِ فَلاَ بُدَّ(34/278)
مِنْ إِيفَائِهِ، وَبِالنَّفَقَةِ قِوَامُ الاِزْدِوَاجِ وَدَوَامُهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، وَلأَِنَّ مَنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يُسْتَحْقَرُ وَيُسْتَهَانُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، كَمَنْ لَهُ نَسَبٌ دَنِيءٌ، فَتَخْتَل بِهِ الْمَصَالِحُ كَمَا تَخْتَل عِنْدَ دَنَاءَةِ النَّسَبِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ؛ لأَِنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا، قَال الْبَابَرْتِيُّ: لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِهِ فَلاَ يُسْقِطُ الْكَفَاءَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الْمَهْرِ؛ لأَِنَّهُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمَهْرِ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَسَارِ أَبِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَسَاوِيَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْغِنَى شَرْطُ تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ، حَتَّى إِنَّ الْفَائِقَةَ الْيَسَارِ لاَ يُكَافِئُهَا الْقَادِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْغِنَى وَيَتَعَيَّرُونَ بِالْفَقْرِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لاَ يَتَقَدَّرَ الْمَال بِمِقْدَارِ مِلْكِ النِّصَابِ أَوْ غَيْرِهِ، بَل إِنْ كَانَ حَال أَبِيهَا مِمَّنْ لاَ يُزْرِي عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا بِالزَّوْجِ، بِأَنْ يَكُونَ مُوَازِيًا أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْمَال الَّذِي يَقْدِرُ بِهِ عَلَى نَفَقَةِ الْمُوسِرِينَ، بِحَيْثُ لاَ تَتَغَيَّرُ عَادَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا فِي بَيْتِهِ، فَذَلِكَ الْمُعْتَبَرُ.
وَالْقَائِلُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْيَسَارِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْكَفَاءَةِ،(34/279)
فَقِيل: يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَيَكُونُ بِهِمَا كُفْئًا لِصَاحِبَةِ الأُْلُوفِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَكْفِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ النَّاسَ أَصْنَافٌ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ وَمُتَوَسِّطٌ، وَكُل صِنْفٍ أَكْفَاءٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمَرَاتِبُ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَسَارَ لاَ يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ؛ لأَِنَّ الْمَال غَادٍ وَرَائِحٌ وَلاَ يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْل الْمُرُوءَاتِ وَالْبَصَائِرِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْيَسَارِ؛ لأَِنَّ الْفَقْرَ شَرَفٌ فِي الدِّينِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَسَارِ مَا يُقْدَرُ بِهِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ (1) .
و السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ السَّلاَمَةَ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِخِيَارِ فَسْخِ النِّكَاحِ مِنْ خِصَال الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ.
وَقَال ابْنُ رَاشِدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُرَادُ أَنْ يُسَاوِيَهَا فِي الصِّحَّةِ، أَيْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ شَاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْصْحَابِ (2) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مِنَ الْخِصَال
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 319 - 320، والهداية وشروحها فتح القدير، والعناية 2 / 423، وحاشية القليوبي 3 / 236، وروضة الطالبين 7 / 82، ومطالب أولي النهى 5 / 86، والمغني 6 / 484.
(2) مواهب الجليل 3 / 460، والشرح الكبير 2 / 249.(34/279)
الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ، فَمَنْ بِهِ بَعْضُهَا كَالْجُنُونِ أَوِ الْجُذَامِ أَوِ الْبَرَصِ لاَ يَكُونُ كُفْئًا لِسَلِيمَةٍ عَنْهَا؛ لأَِنَّ النَّفْسَ تَعَافُ صُحْبَةَ مَنْ بِهِ ذَلِكَ، وَيَخْتَل بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ بِهَا عَيْبٌ أَيْضًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْعَيْبَانِ فَلاَ كَفَاءَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا وَمَا بِهِ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ، وَكَذَا إِنْ تَسَاوَيَا أَوْ كَانَ مَا بِهَا أَكْثَرُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لاَ يَعَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا وَهِيَ رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ.
وَاسْتَثْنَى الْبَغَوِيُّ وَالْخُوَارِزْمِيُّ الْعُنَّةَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهَا، فَلاَ نَظَرَ إِلَيْهَا فِي الْكَفَاءَةِ وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الإِْسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي، قَال الشَّيْخَانِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَإِطْلاَقُ الْجُمْهُورِ يُوَافِقُهُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَجَّهَ بِأَنَّ الأَْحْكَامَ تُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحَقُّقِ.
وَأَلْحَقَ الرُّويَانِيُّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ الْعُيُوبَ الْمُنَفِّرَةَ، كَالْعَمَى وَالْقَطْعِ وَتَشَوُّهِ الصُّورَةِ، وَقَال: هِيَ تَمْنَعُ الْكَفَاءَةَ عِنْدِي، وَبِهِ قَال بَعْضُ الأَْصْحَابِ، وَهَذَا خِلاَفُ الْمَذْهَبِ.
وَاشْتِرَاطُ السَّلاَمَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَلِيِّ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ(34/280)
وَالْبَرَصُ، لاَ الْجَبُّ وَالْعُنَّةُ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ وَالْهَرَوِيُّ: وَالتَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الزَّوْجَيْنِ خَاصَّةً دُونَ آبَائِهِمَا، فَابْنُ الأَْبْرَصِ كُفْءٌ لِمَنْ أَبُوهَا سَلِيمٌ. . . قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالأَْوْجَهُ وَالأَْقْرَبُ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْئًا لَهَا لأَِنَّهَا تُعَيَّرُ بِهِ.
وَقَال الْقَاضِي: يُؤَثِّرُ فِي الزَّوْجِ كُل مَا يَكْسِرُ سُورَةَ التَّوَقَانِ (1) .
وَقَال الْمَقْدِسِيُّ وَالرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي اشْتِرَاطُهُ فِي الْكَفَاءَةِ فَقْدُ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِخِيَارِ الْفَسْخِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ شَرْطٌ، قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ: أَنَّهَا لاَ تُزَوَّجُ بِمَعِيبٍ وَإِنْ أَرَادَتْ، فَعَلَى هَذَا السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ جُمْلَةِ خِصَال الْكَفَاءَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ (3) ، لَكِنَّ ابْنَ عَابِدِينَ نَقَل عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ، أَنَّ غَيْرَ الأَْبِ وَالْجَدِّ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ لَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ عِنِّينٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْجِمَاعِ شَرْطُ الْكَفَاءَةِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، بَل
__________
(1) شرح المنهاج، وحاشية القليوبي 3 / 234، ومغني المحتاج 3 / 165، ونهاية المحتاج 6 / 251.
(2) مطالب أولي النهى 5 / 86.
(3) رد المحتار 2 / 324، والمغني 6 / 485.(34/280)
أَوْلَى، وَنَقَل عَنْ الْبَحْرِ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَوْ زَوَّجَهَا الْوَكِيل غَنِيًّا مَجْبُوبًا جَازَ، وَإِنْ كَانَ لَهَا التَّفْرِيقُ بَعْدُ (1) .
تَقَابُل خِصَال الْكَفَاءَةِ:
13 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ خِصَال الْكَفَاءَةِ لاَ يُقَابَل بِبَعْضٍ فِي الأَْصَحِّ، فَلاَ تُجْبَرُ نَقِيصَةٌ بِفَضِيلَةٍ، أَيْ لاَ تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ رَقِيقَةٌ بِفَاسِقٍ حُرٍّ، وَلاَ سَلِيمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ دَنِيئَةٌ بِمَعِيبٍ نَسِيبٍ. . لِمَا بِالزَّوْجِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النَّقْصِ الْمَانِعِ مِنَ الْكَفَاءَةِ، وَلاَ يَنْجَبِرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ دَنَاءَةَ نَسَبِ الزَّوْجِ تَنْجَبِرُ بِعِفَّتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّ الأَْمَةَ الْعَرَبِيَّةَ يُقَابِلُهَا الْحُرُّ الْعَجَمِيُّ.
وَفَصَّل الإِْمَامُ فَقَال: السَّلاَمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ لاَ تُقَابَل بِسَائِرِ فَضَائِل الزَّوْجِ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، وَكَذَا النَّسَبُ، وَفِي انْجِبَارِ دَنَاءَةِ نَسَبِهِ بِعِفَّتِهِ الظَّاهِرَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، قَال: وَالتَّنَقِّي مِنَ الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ يُقَابِلُهُ الصَّلاَحُ وِفَاقًا، وَالصَّلاَحُ إِنِ اعْتَبَرْنَاهُ يُقَابَل بِكُل خَصْلَةٍ، وَالأَْمَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِالْحُرِّ الْعَجَمِيِّ
__________
(1) رد المحتار 2 / 324. وترى اللجنة أن عامة الصفات المعتبرة في الكفاءة بحسب ما تقدم لدى الفقهاء مناط اعتبارها العرف، وقد عبر الفقهاء بما تقدم انطلاقًا من عرفهم، فإذا تغير العرف تغيرت صفات الكفاءة.(34/281)
عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ ذَا جَاهٍ كَالسُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ وَلَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ النَّفَقَةَ، قِيل: يَكُونُ كُفْئًا لأَِنَّ الْخَلَل يَنْجَبِرُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: الْفَقِيهُ الْعَجَمِيُّ كُفْءٌ لِلْعَرَبِيِّ الْجَاهِل، وَقَال: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ شَرَفَ النَّسَبِ أَوِ الْعِلْمِ يَجْبُرُ نَقْصَ الْحِرْفَةِ، بَل يَفُوقُ سَائِرَ الْحَرْفِ (2) .
تَخَلُّفُ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي خِصَال الْكَفَاءَةِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ فِي خِصَال الْكَفَاءَةِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْكَفَاءَةِ، كَالْكَرَمِ وَعَكْسِهِ، وَاخْتِلاَفِ الْبَلَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: لأَِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ (3) ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أ - كَفَاءَةُ الدَّمِيمِ لِلْجَمِيلَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَال لَيْسَ مِنَ الْخِصَال الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ لِلنِّكَاحِ، لَكِنَّ الرُّويَانِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْخِصَال، وَمَعَ مُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَكِنَّ النَّصِيحَةَ أَنْ يُرَاعِيَ
__________
(1) شرح المنهاج للمحلي 3 / 236، ومغني المحتاج 3 / 168، وروضة الطالبين 7 / 83.
(2) رد المحتار 2 / 321 - 322.
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 324، ومغني المحتاج 3 / 167، ومطالب أولي النهى 5 / 136.(34/281)
الأَْوْلِيَاءُ الْمُجَانَسَةَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَال (1) .
ب - كَفَاءَةُ وَلَدِ الزِّنَا لِذَاتِ النَّسَبِ:
16 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِيهَا فَنَقَل الْبُهُوتِيُّ أَنَّهُ قَدْ قِيل إِنَّهُ كُفْءٌ لِذَاتِ نَسَبٍ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَلاَّ يَكُونَ كُفْئًا لِذَاتِ نَسَبٍ، وَنَقَل الْبُهُوتِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَنْكِحُ وَيُنْكَحُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِهِ هِيَ وَوَلِيُّهَا، وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِعَرَبِيَّةٍ فَلاَ إِشْكَال فِيهِ، لأَِنَّهُ أَدْنَى حَالاً مِنَ الْمَوَالِي (2) .
ج - كَفَاءَةُ الْجَاهِل لِلْعَالِمَةِ:
17 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَصُحِّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ كَوْنُ الرَّجُل الْجَاهِل كُفْئًا لِلْعَالِمَةِ، وَرَجَّحَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ لَهَا، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْعِلْمَ فِي الأَْبِ، فَاعْتِبَارُهُ فِي الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَوْلَى، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ بَعْدَ أَنْ نَقَل مَا سَبَقَ: وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ (3) .
د - كَفَاءَةُ الْقَصِيرِ لِغَيْرِ الْقَصِيرَةِ:
18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطُّول أَوِ الْقِصَرَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 324، ومغني المحتاج 3 / 167.
(2) كشاف القناع 5 / 68، والمغني 6 / 486.
(3) مغني المحتاج 3 / 167.(34/282)
لاَ يُعْتَبَرُ أَيٌّ مِنْهُمَا فِي الْكَفَاءَةِ لِلنِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُوَ فَتْحٌ لِبَابٍ وَاسِعٍ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: فِيمَا إِذَا أَفْرَطَ الْقِصَرُ فِي الرَّجُل نُظِرَ، وَيَنْبَغِي أَلاَّ يَجُوزَ لِلأَْبِ تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ بِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ تَتَعَيَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ. (1)
هـ - كَفَاءَةُ الشَّيْخِ لِلشَّابَّةِ:
19 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ كُفْءٌ لِلشَّابَّةِ، لَكِنَّ الرُّويَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الشَّيْخَ لاَ يَكُونُ كُفْئًا لِلشَّابَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ، قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ خِلاَفُ مَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: هُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ (2) .
و كَفَاءَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ لِلرَّشِيدَةِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كُفْءٌ لِلرَّشِيدَةِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّهَا تَتَعَيَّرُ غَالِبًا بِالْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجِ، وَقَال الأَْنْصَارِيُّ: الأَْوْجَهُ أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ (3) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ الْكَفَاءَةِ:
21 - إِذَا تَخَلَّفَتِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَهَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا، أَمَّا مَنْ لاَ يَعْتَبِرُونَهَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَيَرَوْنَهَا حَقًّا لِلْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ فَإِنَّ تَخَلُّفَ الْكَفَاءَةِ لاَ يُبْطِل النِّكَاحَ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، بَل يَجْعَلُهُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 167، وروضة الطالبين 7 / 83.
(2) نهاية المحتاج 6 / 251.
(3) أسنى المطالب 3 / 138.(34/282)
عُرْضَةً لِلْفَسْخِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلْعَارِ مَا لَمْ يَجِئْ مِنْهُ دَلاَلَةُ الرِّضَا، وَالتَّفْرِيقُ إِلَى الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَتَشَبَّثُ بِدَلِيلٍ، فَلاَ يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ إِلاَّ بِفَصْل الْقَاضِي، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ فَأَحْكَامُ النِّكَاحِ ثَابِتَةٌ، يَتَوَارَثَانِ بِهِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْقَضَاءِ، وَلاَ يَكُونُ الْفَسْخُ طَلاَقًا؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا فَسْخٌ لأَِصْل النِّكَاحِ؛ وَلأَِنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ طَلاَقًا إِذَا فَعَلَهُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ الزَّوْجِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول، وَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِلدُّخُول فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا كَالدُّخُول.
وَقَالُوا: إِنْ قَبَضَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ أَوْ جَهَّزَ بِهِ أَوْ طَالَبَ بِالنَّفَقَةِ فَقَدْ رَضِيَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِلنِّكَاحِ وَأَنَّهُ يَكُونُ رِضًا، كَمَا إِذَا زَوَّجَهَا فَمَكَّنَتِ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا، وَإِنْ سَكَتَ لاَ يَكُونُ قَدْ رَضِيَ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، مَا لَمْ تَلِدْ، فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّفْرِيقُ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ لاَ يُبْطِلُهُ، لاِحْتِمَال تَأَخُّرِهِ إِلَى وَقْتٍ(34/283)
يَخْتَارُ فِيهِ الْخُصُومَةَ، وَعَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ أَنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ أَيْضًا.
وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَسْفَل مِنْهُ الاِعْتِرَاضُ، لأَِنَّ حَقَّ الأَْوْلِيَاءِ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ، فَجُعِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْمُنْفَرِدِ؛ لأَِنَّهُ صَحَّ الإِْسْقَاطُ فِي حَقِّهِ، فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ، كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا رَضِيَتْ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا غَيْرُ حَقِّهِمْ، إِذْ أَنَّ حَقَّهَا صِيَانَةُ نَفْسِهَا عَنْ ذُل الاِسْتِفْرَاشِ، وَحَقَّهُمْ دَفْعُ الْعَارِ، فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لاَ يَقْتَضِي سُقُوطَ الآْخَرِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لِلْبَاقِينَ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا رَضِيَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَبَقِيَ حَقُّ الآْخَرِينَ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْمُعْتَرِضُ أَقْرَبَ مِنَ الْوَلِيِّ الَّذِي رَضِيَ فَلَهُ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - وَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ وَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلاً، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ أَحْوَطُ، فَلَيْسَ كُل وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ إِلَى الْقَاضِي، وَلاَ كُل قَاضٍ يَعْدِل، فَكَانَ الأَْحْوَطُ سَدَّ هَذَا الْبَابِ، وَقَال فِي الْخَانِيَّةِ: هَذَا أَصَحُّ وَأَحْوَطُ.
وَقَدْ نَقَل الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنْ(34/283)
تَمْتَنِعَ عَنْ تَمْكِينِهِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لأَِنَّ مِنْ حُجَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُول: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُكَ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَ الْوَلِيُّ، وَعَسَى أَنْ لاَ يَرْضَى، فَيُفَرِّقَ (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا حَكَى الْبُنَانِيِّ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فِي الدِّينِ، فَيَتَحَصَّل فِي الْعَقْدِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لُزُومُ فَسْخِهِ لِفَسَادِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، وَشَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ.
الثَّالِثُ: لأَِصْبَغَ: إِنْ كَانَ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ رَدَّهُ الإِْمَامُ وَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ. وَقَال الْبُنَانِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَطَّابِ أَنَّ الْقَوْل الأَْوَّل هُوَ الرَّاجِحُ.
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ فَرْحُونَ أَنَّهُ قَال فِي تَبْصِرَتِهِ: مِنَ الطَّلاَقِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ كَرِهَتْ إِيقَاعَهُ نِكَاحُهَا الْفَاسِقَ، وَعَقَّبَ الْحَطَّابُ بِقَوْلِهِ: سَوَاءٌ كَانَ فَاسِقًا بِالْجَوَارِحِ أَوْ بِالاِعْتِقَادِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ يُفْسَخُ مُطْلَقًا بَعْدَ الدُّخُول وَقَبْلَهُ، ثُمَّ قَال: وَأَمَّا الْحَال - أَيْ تَخَلُّفُ الْكَفَاءَةِ بِسَبَبِ الْحَال وَلَيْسَ بِسَبَبِ الدِّينِ - فَلاَ إِشْكَال أَنَّ لِلْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا إِسْقَاطَهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْمُنْفَرِدُ الْمَرْأَةَ
__________
(1) الاختيار 3 / 100، وفتح القدير 2 / 419.
(2) شرح الزرقاني وبهامشه حاشية البناني 3 / 202، ومواهب الجليل 3 / 461، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 249.(34/284)
غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، أَوْ زَوَّجَهَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا وَرِضَا الْبَاقِينَ مِمَّنْ فِي دَرَجَتِهِ، صَحَّ التَّزْوِيجُ؛ لأَِنَّ الْكَفَاءَةَ حَقُّهَا وَحَقُّ الأَْوْلِيَاءِ - كَمَا سَبَقَ - فَإِنْ رَضُوا بِإِسْقَاطِهَا فَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ.
وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ غَيْرَ كُفْءٍ بِرِضَاهَا فَلَيْسَ لِلأَْبْعَدِ الاِعْتِرَاضُ؛ إِذْ لاَ حَقَّ لَهُ الآْنَ فِي التَّزْوِيجِ.
وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ بِغَيْرِ الْكُفْءِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَاءِ بَاقِي الْمُسْتَوِينَ لَمْ يَصِحَّ التَّزْوِيجُ بِهِ؛ لأَِنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْكَفَاءَةِ، فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ - وَيُسْتَثْنَى مَا لَوْ زَوَّجَهَا بِمَنْ بِهِ جَبٌّ أَوْ عُنَّةٌ بِرِضَاهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ - وَفِي قَوْلٍ: يَصِحُّ وَلَهُمُ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ النُّقْصَانَ يَقْتَضِي الْخِيَارَ لاَ الْبُطْلاَنَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى مَعِيبًا.
وَيَجْرِي الْقَوْلاَنِ فِي تَزْوِيجِ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ بِكْرًا صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَفِي الأَْظْهَرِ: التَّزْوِيجُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْغِبْطَةِ؛ لأَِنَّ وَلِيَّ الْمَال لاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِغَيْرِ الْغِبْطَةِ، فَوَلِيُّ الْبُضْعِ أَوْلَى، وَفِي الآْخَرِ: يَصِحُّ، وَلِلْبَالِغَةِ الْخِيَارُ فِي الْحَال، وَلِلصَّغِيرَةِ إِذَا بَلَغَتْ، وَيَجْرِي الْخِلاَفُ فِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْمُجْبَرِ إِذَا أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا.
وَلَوْ طَلَبَتْ مَنْ لاَ وَلِيَّ خَاصًّا لَهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا(34/284)
السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَفَعَل لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُمْ حَظٌّ فِي الْكَفَاءَةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَالْوَلِيِّ الْخَاصِّ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
وَلَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ خَاصٌّ، وَلَكِنْ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ لِغَيْبَتِهِ أَوْ عَضْلِهِ أَوْ إِحْرَامِهِ، فَلاَ تُزَوَّجُ إِلاَّ مِنْ كُفْءٍ قَطْعًا؛ لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَصِحُّ التَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مَعَ عَدَمِ إِذْنِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا وَفِيهِ مَانِعٌ مِنْ فِسْقٍ وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إِلاَّ السُّلْطَانُ، فَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا فَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِمْ طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ (1) .
ادِّعَاءُ الْمَرْأَةِ كَفَاءَةَ الْخَاطِبِ:
22 - وَإِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ كَفَاءَةَ الْخَاطِبِ وَأَنْكَرَهَا الْوَلِيُّ رُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ ثَبَتَتْ كَفَاءَتُهُ أَلْزَمَهُ تَزْوِيجَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ زَوَّجَهَا الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ كَفَاءَتُهُ فَلاَ يُلْزِمُهُ تَزْوِيجَهَا بِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُقْرِي وَالأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
تَزْوِيجُ مَنْ لاَ يُوجَدُ لَهَا كُفْءٌ:
23 - نَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 164 - 165.
(2) أسنى المطالب 3 / 140.(34/285)
الْمَرْأَةُ بِحَيْثُ لاَ يُوجَدُ لَهَا كُفْءٌ أَصْلاً جَازَ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا - لِلضَّرُورَةِ - بِغَيْرِ الْكُفْءِ (1) . قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ، وَكَانَتِ الْكَفَاءَةُ مَعْدُومَةً حَال الْعَقْدِ، فَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ وَالأَْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بَعْضُهُمْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِجَمِيعِهِمْ، وَالْعَاقِدُ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَحِيحٌ، بِدَلِيل أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي رُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْئِهَا، خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبْطِل النِّكَاحَ مِنْ أَصْلِهِ (2) ؛ وَلأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بِالإِْذْنِ، وَالنَّقْصُ الْمَوْجُودُ فِيهِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ خِيَارَ الْفَسْخِ، وَالْحَقُّ فِي الْخِيَارِ لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِالنِّكَاحِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، حَتَّى مَنْ يَحْدُثُ مِنْ عَصَبَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْعَارَ فِي تَزْوِيجِ مَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى التَّرَاخِي لأَِنَّهُ خِيَارٌ لِنَقْصٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خِيَارَ الْعَيْبِ، فَلاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ إِلاَّ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 137.
(2) حديث: " أن المرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أباها زوجها. . . " أخرجه النسائي (6 / 87) من حديث عائشة.(34/285)
بِإِسْقَاطِ الْعَصَبَةِ الأَْوْلِيَاءِ بِقَوْل مِثْل: أَسْقَطْنَا الْكَفَاءَةَ، أَوْ رَضِينَا بِهِ غَيْرَ كُفْءٍ، وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا سُكُوتُهُمْ فَلَيْسَ رِضًا، وَخِيَارُ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ بِمَا يَدُل عَلَى رِضَاهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، كَأَنْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا عَالِمَةً أَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ.
وَيَمْلِكُ الْحَقَّ فِي خِيَارِ الْفَسْخِ لِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ الأَْبْعَدُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ مَعَ رِضَا الأَْقْرَبِ مِنْهُمْ بِهِ، وَمَعَ رِضَا الزَّوْجَةِ؛ دَفْعًا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْعَارِ، فَلَوْ زَوَّجَ الأَْبُ بِنْتَهُ بِغَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا، فَلِلإِْخْوَةِ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ الْعَارَ فِي تَزْوِيجِ مَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (1) .
تَخَلُّفُ الْكَفَاءَةِ فِيمَنْ رَضِيَ بِهِ الأَْوْلِيَاءُ فِي نِكَاحٍ سَابِقٍ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ثَانِيًا، كَانَ لِذَلِكَ الْوَلِيِّ التَّفْرِيقُ، وَلاَ يَكُونُ الرِّضَا بِالأَْوَّل رِضًا بِالثَّانِي؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَبْعُدُ رُجُوعُهُ عَنْ خُلَّةٍ دَنِيئَةٍ، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ غَيْرَ كُفْءٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَزِمَهُ مَهْرٌ ثَانٍ، وَاسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ،
__________
(1) المغني 6 / 481، وكشاف القناع 5 / 67، ومطالب أولي النهى 5 / 84.(34/286)
وَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول فِي الثَّانِي. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِوَلِيٍّ رَضِيَ بِتَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ غَيْرَ كُفْءٍ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، فَطَلَّقَهَا طَلاَقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، امْتِنَاعٌ مِنْ تَزْوِيجِهَا لَهُ
ثَانِيًا - إِنْ رَضِيَتْ بِهِ - بِلاَ عَيْبٍ حَادِثٍ مُقْتَضٍ لِلاِمْتِنَاعِ، لِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْكَفَاءَةِ، حَيْثُ رَضِيَ بِهِ أَوَّلاً، فَإِنِ امْتَنَعَ عُدَّ عَاضِلاً، وَلَهُ الاِمْتِنَاعُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ رَضِيَ الأَْوْلِيَاءُ بِتَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ، ثُمَّ خَالَعَهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ زَوَّجَهَا أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ بِهِ بِرِضَاهَا دُونَ رِضَا الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلاَمِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِرِضَاهُمْ بِهِ أَوَّلاً، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الأَْنْوَارِ، وَفِي مَعْنَى الْمُخْتَلِعِ: الْفَاسِخُ وَالْمُطَلِّقُ رَجْعِيًّا إِذَا أَعَادَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَالْمُطَلِّقُ قَبْل الدُّخُول (3) .
تَكَلُّمُ الأُْمِّ إِنْ تَخَلَّفَتْ كَفَاءَةُ زَوْجِ ابْنَتِهَا:
25 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَسْأَلَةِ تَكَلُّمِ أُمِّ الزَّوْجَةِ فِي رَدِّ تَزْوِيجِ الأَْبِ ابْنَتَهُمَا الْمُوسِرَةَ الْمَرْغُوبَ فِيهَا مِنْ رَجُلٍ فَقِيرٍ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَتَتِ امْرَأَةٌ مُطَلَّقَةٌ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي ابْنَةً فِي حِجْرِي مُوسِرَةً مَرْغُوبًا فِيهَا، فَأَرَادَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 419.
(2) جواهر الإكليل 1 / 288.
(3) مغني المحتاج 3 / 164، وأسنى المطالب 3 / 139.(34/286)
أَبُوهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنَ ابْنِ أَخٍ لَهُ فَقِيرٍ، وَفِي الْمُهِمَّاتِ: مُعْدَمٌ لاَ مَال لَهُ، أَفَتَرَى لِي فِي ذَلِكَ تَكَلُّمًا؟ قَال: نَعَمْ، إِنِّي لأََرَى لَكَ تَكَلُّمًا، وَرُوِيَتْ الْمُدَوَّنَةُ أَيْضًا بِالنَّفْيِ، أَيْ نَعَمْ، لاَ أَرَى لَكَ تَكَلُّمًا.
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ أَرَى لَهَا تَكَلُّمًا، وَأَرَاهُ مَاضِيًا، إِلاَّ لِضَرَرٍ بَيِّنٍ فَلَهَا التَّكَلُّمُ.
قَال خَلِيلٌ وَالأَْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هَل قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وِفَاقٌ لِقَوْل مَالِكٍ بِحَمْل رِوَايَةِ الإِْثْبَاتِ عَلَى ثُبُوتِ الضَّرَرِ، وَرِوَايَةِ النَّفْيِ عَلَى عَدَمِهِ، أَوْ خِلاَفٌ بِحَمْل كَلاَمِ مَالِكٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ إِطْلاَقُ الْكَلاَمِ عَلَى رِوَايَةِ الإِْثْبَاتِ، وَإِطْلاَقُ عَدَمِهِ عَلَى رِوَايَةِ النَّفْيِ؟ فِيهِ تَأْوِيلاَنِ: التَّوْفِيقُ لأَِبِي عِمْرَانَ وَابْنِ مُحْرِزٍ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْخِلاَفُ لاِبْنِ حَبِيبٍ (1) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 288.(34/287)
كَفَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَفَالَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَل الْمَال وَبِالْمَال: ضَمِنَهُ وَكَفَل بِالرَّجُل يَكْفُل وَيَكْفِل كَفْلاً وَكُفُولاً، وَكَفَالَةً، وَكَفُل وَكَفِل وَتَكَفَّل بِهِ كُلِّهِ: ضَمِنَهُ، وَأَكْفَلَهُ إِيَّاهُ وَكَفَّلَهُ: ضَمَّنَهُ، وَكَفَلْتُ عَنْهُ الْمَال لِغَرِيمِهِ وَتَكَفَّل بِدَيْنِهِ تَكَفُّلاً.
وَفِي التَّهْذِيبِ: وَأَمَّا الْكَافِل فَهُوَ الَّذِي كَفَل إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: {الرَّبِيبُ كَافِلٌ (1) » ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ الْيَتِيمِ، كَأَنَّهُ كُفِّل نَفَقَةَ الْيَتِيمِ، وَالْمُكَافِل: الْمُعَاقِدُ الْمُحَالِفُ، وَالْكَفِيل مِنْ هَذَا أُخِذَ (2) .
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَثَرٍ.
فَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّة
__________
(1) حديث: " الربيب كافل " أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 181) بلفظ: (الراب كافل) ، ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية.
(2) تاج العروس، لسان العرب، المصباح المنير.(34/287)
الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ.
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الدَّيْنِ.
قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَالأَْوَّل هُوَ الأَْصَحُّ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ هِيَ: أَنْ يَلْتَزِمَ الرَّشِيدُ بِإِحْضَارِ بَدَنِ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْكَفَالَةَ عَلَى كَفَالَةِ الْمَال وَالْوَجْهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقْسِمُونَ الضَّمَانَ إِلَى ضَمَانِ الْمَال وَضَمَانِ الْوَجْهِ، وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الأَْعْيَانِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالضَّمَانُ يَكُونُ الْتِزَامَ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامٌ بِحُضُورِ بَدَنِهِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
وَيُسَمَّى الْمُلْتَزِمُ بِالْحَقِّ ضَامِنًا وَضَمِينًا وَحَمِيلاً وَزَعِيمًا وَكَافِلاً وَكَفِيلاً وَصَبِيرًا وَقَبِيلاً وَغَرِيمًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الضَّمِينَ يُسْتَعْمَل فِي الأَْمْوَال، وَالْحَمِيل فِي الدِّيَاتِ، وَالزَّعِيمَ فِي الأَْمْوَال الْعِظَامِ، وَالْكَفِيل فِي النُّفُوسِ، وَالْقَبِيل وَالصَّبِيرَ فِي الْجَمْعِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 2، وفتح القدير 6 / 283، 284، والمبسوط 19 / 160، 161، وقارن ابن عابدين في حاشية رد المحتار 5 / 281 - 283.
(2) ابن عابدين 4 / 249، وبدائع الصنائع 6 / 2، والاختيار 2 / 166، والقوانين الفقهية 330، وروضة الطالبين 4 / 240 والشرح الصغير 4 / 429، ومغني المحتاج 2 / 198، وقليوبي وعميرة 2 / 333 والمغني مع الشرح الكبير 5 / 71، والمغني 4 / 590.(34/288)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.
فَالإِْبْرَاءُ عَكْسُ الْكَفَالَةِ لأَِنَّهُ يُفِيدُ خُلُوَّ الذِّمَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ انْشِغَالَهَا (ر: إِبْرَاءٌ ف 1) .
ب - الْحَمَالَةُ:
3 - الْحَمَالَةُ بِالْفَتْحِ: مَا يَتَحَمَّلُهُ الإِْنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ (1) .
وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْحَمَالَةِ وَالْكَفَالَةِ: أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ الْحَمَالَةَ بِالدِّيَةِ وَالْغُرْمِ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَطْلَقَ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالنَّفْسِ (2) .
ج - الْحَوَالَةُ:
4 - الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّل وَالاِنْتِقَال (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والموسوعة الفقهية 18 / 121.
(2) قليوبي وعميرة 2 / 323، والشرقاوي على التحرير 2 / 118.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والموسوعة الفقهية 18 / 169.(34/288)
أُخْرَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ لِلدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، أَمَّا الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ فَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الاِلْتِزَامِ بِالْحَقِّ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ؛ لأَِنَّ بِالْحَوَالَةِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيل، وَفِي الْكَفَالَةِ لاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَكْفُول.
د - الْقَبَالَةُ:
5 - الْقَبَالَةُ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ قَبِل بِهِ إِذَا كَفَل، وَقَبِل إِذَا صَارَ كَفِيلاً، وَتَقَبَّل لَهُ: تَكَفَّل، وَالْقَبِيل: الْكَفِيل (2) .
وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَسْتَعْمِل لَفْظَ الْقَبَالَةِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَوَزْنِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ خَصَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ أَوِ الْعَيْنِ، وَعَمَّمَ الْقَبَالَةَ فِي الْمَال وَالدِّيَةِ وَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ (3) .
وَالْقَبَالَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْكَفَالَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الْكَفَالَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 171، والدسوقي والدردير 3 / 325، ومغني المحتاج 2 / 193، والمغني والشرح الكبير 5 / 54.
(2) تاج العروس، ولسان العرب، والكليات.
(3) الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، 3 / 142 دمشق 1974.(34/289)
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . أَيْ كَفِيلٌ: ضَامِنٌ (1) وقَوْله تَعَالَى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ، أَيْ: كَفِيلٌ. (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ (3) ، قَال الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الزَّعِيمُ الْكَفِيل، وَالزَّعَامَةُ الْكَفَالَةُ (4) ، وَمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، قَال أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْوَفَاءِ؟ قَال: بِالْوَفَاءِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ (5) .
وَقَدْ نَقَل كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ - وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ - لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَدِينِ (6) ، قَال فِي الاِخْتِيَارِ: بُعِثَ النَّبِيُّ
__________
(1) انظر تفسير الرازي 18 / 179.
(2) مختصر المزني بهامش الأم 2 / 227، والمبسوط 19 / 161، والمغني والشرح الكبير 5 / 70.
(3) حديث: " العارية مؤداة. . . " أخرجه الترمذي (3 / 556) من حديث أبي أمامة، وقال: حديث حسن.
(4) معالم السنن 3 / 177، ومختصر المزني 2 / 227.
(5) حديث أبي قتادة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 372) وقال: حديث حسن صحيح.
(6) المبسوط 19 / 161، وبداية المجتهد 2 / 291، والتحفة وحواشيها 5 / 241، وكشاف القناع 3 / 350، وتذكرة الفقهاء 2 / 85.(34/289)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَكَفَّلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ لَدُنِ الْمَصْدَرِ الأَْوَّل إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (1) .
وَلِهَذِهِ الأَْدِلَّةِ رَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الضَّمَانَ الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ مَنْدُوبٌ لِقَادِرٍ وَاثِقٍ بِنَفْسِهِ أَمِنَ غَائِلَتَهُ (2) .
أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ وَشُرُوطُهَا:
أَرْكَانُ الْكَفَالَةِ: الصِّيغَةُ، وَالْكَفِيل، وَالْمَكْفُول لَهُ، وَالْمَكْفُول عَنْهُ، وَالْمَكْفُول بِهِ
الرُّكْنُ الأَْوَّل - صِيغَةُ الْكَفَالَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ مِنَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، بَل هُوَ تَبَرُّعٌ يَنْشَأُ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، فَيَكْفِي فِيهِ إِيجَابُ الْكَفِيل (3) .
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ الرِّضَا ثُمَّ الْقَبُول، وَالثَّالِثُ يُشْتَرَطُ الرِّضَا دُونَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 166.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 118، قليوبي وعميرة 2 / 323، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 241.
(3) ابن عابدين 5 / 283، والدسوقي والدردير 3 / 334، وقليوبي وعميرة 2 / 325، والمغني والشرح الكبير 5 / 102، 103، وكشاف القناع 3 / 365.(34/290)
الْقَبُول لَفْظًا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ (1) ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْكَفَالَةِ تَتَرَكَّبُ مِنْ إِيجَابٍ يَصْدُرُ مِنَ الْكَفِيل، وَقَبُولٍ يَصْدُرُ عَنِ الْمَكْفُول لَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل أَوْ حَقًّا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ بِعِبَارَةِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَال، بَل لاَ بُدَّ مِنْ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ.
وَإِيجَابُ الْكَفِيل يَتَحَقَّقُ بِكُل لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَهُّدُ وَالاْلْتِزَامُ وَالضَّمَانِ، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِكُل تَعْبِيرٍ عَنِ الإِْرَادَةِ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى (3) .
8 - قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ أَوْ مُؤَقَّتَةٌ أَوْ مُقْتَرِنَةٌ بِشَرْطٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْكَفَالَةُ الْمُنَجَّزَةُ:
9 - وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ صِيغَتُهَا خَالِيَةً مِنَ
__________
(1) البدائع 6 / 2، والفتح القدير 6 / 314، وابن عابدين 5 / 283.
(2) تحفة المحتاج وحواشيها 5 / 245، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، وقليوبي وعميرة / 325.
(3) لمزيد من التفصيل انظر مصطلح (تعبير) ، الموسوعة الفقهية 12 / 214 - 218.(34/290)
التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوِ الإِْضَافَةِ لأَِجَلٍ، فَمَعْنَى التَّنْجِيزِ: أَنْ تَتَرَتَّبَ آثَارُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَال بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الصِّيغَةِ مُسْتَوْفِيَةٍ شُرُوطَهَا، فَإِذَا قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: أَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَى فُلاَنٍ وَقَبِل الدَّائِنُ الْكَفَالَةَ - عَلَى رَأْيِ مَنْ يُوجِبُ لِتَمَامِ الصِّيغَةِ قَبُول الدَّائِنِ - فَإِنَّ الْكَفِيل يَصِيرُ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَال إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل بِصِفَتِهِ مِنَ الْحُلُول وَالتَّأْجِيل مَتَى كَانَتْ صِيغَةُ الْكَفَالَةِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِشَرْطٍ يُغَيِّرُ مِنْ وَصْفِ الدَّيْنِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا أُطْلِقَتِ انْعَقَدَتْ حَالَّةً؛ لأَِنَّ كُل عَقْدٍ يَدْخُلُهُ الْحُلُول فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ (2) .
ب - الْكَفَالَةُ الْمُعَلَّقَةُ:
10 - وَهِيَ الَّتِي يُعَلَّقُ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَا إِذَا قَال شَخْصٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِالثَّمَنِ إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ الْكَفَالَةُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ مُنَجَّزَةً، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا أَفْلَسَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 322، وفتح القدير 6 / 300.
(2) المغني والشرح الكبير 5 / 98.(34/291)
فُلاَنٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لَكَ بِهَذَا الدَّيْنِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ فُلاَنًا هَذَا كَانَ قَدْ أَفْلَسَ فِعْلاً وَقْتَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ.
11 - وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ خِلاَفٌ يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى شَرْطٍ مُلاَئِمٍ، وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلْمُشْتَرِي: إِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فَأَنَا ضَامِنُ الثَّمَنِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا قَدِمَ فُلاَنٌ - أَيِ الْمَكْفُول عَنْهُ - فَأَنَا كَفِيلٌ بِدَيْنِكَ عَلَيْهِ، أَوِ الشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، كَقَوْل الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: إِذَا غَابَ فُلاَنٌ - الْمَدِينُ - عَنِ الْبَلَدِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ (1) .
وَذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل: إِنْ لَمْ يُؤَدِّ فُلاَنٌ مَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ، لأَِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَال بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ فَصَحَّ (2) .
فَأَمَّا إِذَا عُلِّقَتِ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ
__________
(1) البدائع 6 / 4، وفتح القدير 6 / 291 - 294، وابن عابدين 5 / 305، 306.
(2) ابن عابدين 5 / 295، 296، فتح القدير 6 / 290، 291.(34/291)
مُلاَئِمٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ إِنْ نَزَل الْمَطَرُ أَوْ إِنْ دَخَلَتُ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ، فَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ (1) ؛ لأَِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا مَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ، وَيَلْغُو التَّعْلِيقُ (2) .
وَيَبْدُو مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ فُرُوعٍ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُلاَئِمَةِ، وَلاَ تَكُونُ صَحِيحَةً إِذَا عُلِّقَتْ عَلَى شَرْطٍ غَيْرِ مُلاَئِمٍ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ عَقْدٌ كَالْبَيْعِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: جَوَازُ تَعْلِيقِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْقَبُول لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا، فَجَازَ تَعْلِيقُهُمَا كَالطَّلاَقِ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ دُونَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَاجَةِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ (5) : تَذْهَبُ أُولاَهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 271، وفتح القدير 6 / 291.
(2) ابن عابدين 5 / 307.
(3) الدسوقي والدردير 3 / 338.
(4) نهاية المحتاج 4 / 441، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، وقليوبي وعميرة 2 / 330، ومغني المحتاج 2 / 207.
(5) كشاف القناع 3 / 364، 365، والمغني والشرح الكبير 5 / 100 - 102، والإنصاف 5 / 213.(34/292)
إِلَى بُطْلاَنِ الْكَفَالَةِ مَعَ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ فِي التَّعْلِيقِ خَطَرًا فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ تُثْبِتُ حَقًّا لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ ثُبُوتِهِ عَلَى شَرْطٍ.
وَتَذْهَبُ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى إِلَى صِحَّةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحٍ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ (1) ، وَقَدْ مَال إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إِلَى سَبَبِ الْوُجُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ كَضَمَانِ الدَّرَكِ (2) .
ج - الْكَفَالَةُ الْمُضَافَةُ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَال إِلَى أَجَلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَنَا ضَامِنٌ لَكَ هَذَا الْمَال أَوْ هَذَا الدَّيْنَ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ كَفِيلاً إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلاَ يُعَدُّ كَفِيلاً وَلاَ يُطَالَبُ بِالْمَال، وَإِذَا تُوُفِّيَ قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ (3) بَيْنَ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ وَتَأْجِيل الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ، فَالْكَفَالَةُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 365.
(2) المغني والشرح الكبير 5 / 101.
(3) ابن عابدين 5 / 306 وما بعدها، وبدائع الصنائع 6 / 3، وفتح القدير 6 / 291، وما بعدها، والفتاوى الهندية 3 / 278، والمبسوط 19 / 172 وما بعدها.(34/292)
الْمُضَافَةُ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِدَيْنٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ عِنْدَ إِنْشَائِهَا، وَلَكِنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِهِ بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ لِفُلاَنٍ مِنَ الْمَال، أَوْ بِسَبَبِ تَعْلِيقِهَا بِهِ، كَمَا لَوْ قَال: إِنْ أَقْرَضْتُ فُلاَنًا مَبْلَغَ كَذَا فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَفَالَةِ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ بِهِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول مَوْجُودًا عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَجَّلاً، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول حَالًّا، وَأُضِيفَتْ كَفَالَتُهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل لِلدَّائِنِ: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الآْتِي، فَلاَ يَكُونُ لِلْكَفَالَةِ أَثَرٌ إِلاَّ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الآْتِي، وَيَتَأَجَّل الدَّيْنُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفِيل وَحْدَهُ بِسَبَبِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الدَّيْنِ بَل يَظَل حَالًّا؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ تَأْجِيل الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيل بِسَبَبِ كَفَالَتِهِ الْمُضَافَةِ تَأْجِيلُهُ عَلَى الْمَدِينِ الأَْصِيل، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَال، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول مُؤَجَّلاً عِنْدَ إِنْشَاءِ الْكَفَالَةِ، وَكَانَتِ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً بِأَنْ قَال الْكَفِيل: كَفَلْتُ لَكَ دَيْنَكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ،(34/293)
فَإِنَّ مُطَالَبَةَ الْكَفِيل تُرْجَأُ إِلَى وَقْتِ حُلُول الدَّيْنِ عَلَى الأَْصِيل؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْمُطْلَقَةَ بِدَيْنٍ تَلْزَمُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْحُلُول أَوِ التَّأْجِيل، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا تَكُونُ الْكَفَالَةُ مُنْعَقِدَةً فِي الْحَال، وَلَكِنَّ آثَارَهَا لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل.
وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ يُجِيزُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل، وَيُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ. أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ لاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا إِلَى الأَْجَل الَّذِي ذُكِرَ، وَذَلِكَ كَإِضَافَتِهَا إِلَى الْحَصَادِ أَوْ إِلَى الْمِهْرَجَانِ أَوْ إِلَى النَّيْرُوزِ، أَمَّا إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً فَاحِشَةً - كَنُزُول الْمَطَرِ - فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الآْجَال الْمُتَعَارَفَةِ أَوِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَإِذَا بَطَل الأَْجَل لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ فِيهِ وَعَدَمِ تَعَارُفِهِ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَكَانَتْ مُنَجَّزَةً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ إِضَافَةِ الْكَفَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعْلُومٍ، وَحِينَئِذٍ لاَ يُطَالَبُ الْكَفِيل إِلاَّ إِذَا حَل الأَْجَل، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً غَيْرَ فَاحِشَةٍ، كَخُرُوجِ الْعَطَاءِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلاً بِقَدْرِ مَا يَرَى، وَعِنْدَئِذٍ لاَ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.(34/293)
يَتَرَتَّبُ عَلَى الْكَفَالَةِ أَثَرُهَا إِلاَّ بِحُلُول الأَْجَل الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَفَل إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ فِيهِ وَهَكَذَا الضَّمَانُ، وَإِنْ جَعَلَهُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْجُزَازِ وَالْعَطَاءِ خَرَجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، كَالأَْجَل فِي الْبَيْعِ، وَالأَْوْلَى صِحَّتُهَا هُنَا، لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَعَل لَهُ عِوَضًا لاَ يَمْنَعُ مِنْ حُصُول الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَصَحَّ، كَالنَّذْرِ، وَهَكَذَا كُل مَجْهُولٍ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْكَفَالَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ وَشَرَطَ تَأْخِيرَ الْمَكْفُول بِهِ شَهْرًا كَضَمِنْتُ إِحْضَارَهُ، وَأَحْضَرَهُ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَ، لأَِنَّهُ الْتِزَامٌ بِعَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَ كَعَمَل الإِْجَارَةِ يَجُوزُ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً.
وَخَرَجَ بِشَهْرٍ مَثَلاً التَّأْجِيل بِمَجْهُولٍ، كَالْحَصَادِ فَلاَ يَصِحُّ التَّأْجِيل إِلَيْهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَال مُؤَجَّلاً أَجَلاً مَعْلُومًا؛ إِذْ الضَّمَانُ تَبَرُّعٌ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ وَيَثْبُتُ الأَْجَل فِي حَقِّ الضَّامِنِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ كَمَا الْتَزَمَ.
__________
(1) الحطاب 5 / 101، والدسوقي والدردير 3 / 331، 332، والمدونة 13 / 131 وما بعدها.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 100.(34/294)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ الضَّمَانُ لِلْمُخَالَفَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُحَرَّرِ تَصْحِيحُهُ، قَال فِي الدَّقَائِقِ: وَالأَْصَحُّ مَا فِي بَقِيَّةِ النُّسَخِ وَالْمِنْهَاجِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمُؤَجَّل مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ أَطْوَل مِنَ الأَْوَّل فَكَضَمَانِ الْحَال مُؤَجَّلاً (1) .
د - الْكَفَالَةُ الْمُؤَقَّتَةُ:
13 - تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكْفُل الْكَفِيل الدَّيْنَ مُدَّةً مَعْلُومَةً مُحَدَّدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ يَبْرَأُ بَعْدَهَا مِنَ الْتِزَامِهِ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ، وَذَلِكَ مِثْل قَوْل الْكَفِيل: أَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلاَنٍ أَوْ بِدِيَتِهِ مِنَ الْيَوْمِ إِلَى نِهَايَةِ هَذَا الشَّهْرِ، فَإِذَا انْقَضَى الشَّهْرُ بَرِئْتُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيل لاَ تُشْغَل بِالدَّيْنِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ فَقَطْ بِأَدَائِهِ، أَجَازَ الْكَفَالَةَ الْمُؤَقَّتَةَ، وَقَيَّدَ الْمُطَالَبَةَ بِالْمُدَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيل تَصِيرُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ إِلَى جَانِبِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَلَمْ يُجِزْ تَوْقِيتَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا شُغِلَتْ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 442، ومغني المحتاج 2 / 207.(34/294)
فَإِنَّهَا لاَ تَبْرَأُ مِنْهُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَقَبُول الْكَفَالَةِ لِلتَّوْقِيتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُقُوطُ الدَّيْنِ عَنِ الْكَفِيل دُونَ أَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَتَطْبِيقًا عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَغْلَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل لَوْ قَال: كَفَلْتُ فُلاَنًا مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَى شَهْرٍ، تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلَوْ قَال: كَفَلْتُ فُلاَنًا شَهْرًا أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. . . مِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَال: إِنَّ الْكَفِيل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُطَالَبُ فِي الْمُدَّةِ وَيَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. . . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كَفِيلاً أَبَدًا وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُوسِرًا وَلَوْ فِي أَوَّل الأَْجَل فَقَطْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا وَالْعَادَةُ أَنَّهُ لاَ يُوسِرُ فِي الأَْجَل الَّذِي ضَمِنَ الضَّامِنُ إِلَيْهِ، بَل بِمُضِيِّ ذَلِكَ الأَْجَل عَلَيْهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنْ لَمْ يُعْسِرْ فِي جَمِيعِهِ، بَل أَيْسَرَ فِي أَثْنَائِهِ كَبَعْضِ أَصْحَابِ الْغَلاَّتِ وَالْوَظَائِفِ، كَأَنْ يَضْمَنَهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَادَتُهُ الْيَسَارُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الزَّمَنَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ ابْتِدَاءِ يَسَارِهِ يُعَدُّ فِيهِ صَاحِبُ الْحَقِّ مُسَلِّفًا، لِقُدْرَةِ رَبِّ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ عِنْدَ الْيَسَارِ، هَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَرَقَّبَ كَالْمُحَقَّقِ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ لأَِنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 278، وابن عابدين 5 / 289.(34/295)
الأَْصْل اسْتِصْحَابُ عُسْرِهِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْكَفَالَةِ، كَأَنَا كَفِيلٌ بِزَيْدٍ إِلَى شَهْرٍ وَأَكُونُ بَعْدَهُ بَرِيئًا، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَسْلِيمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، بِخِلاَفِ الْمَال فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الأَْدَاءُ؛ فَلِهَذَا امْتَنَعَ تَأْقِيتُ الضَّمَانِ قَطْعًا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَيَبْرَأُ الْكَفِيل بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا وَفَاءٌ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّأْنَ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ (3) .
تَقْيِيدُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ:
14 - إِنْ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِشَرْطٍ، فَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ، وَقَدْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَقَدْ تَلْغُو الْكَفَالَةُ وَالشَّرْطُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ وَأَثَرِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْكَفَالَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَفَل رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَكْفُول عَنْهُ هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَى
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 3 / 331.
(2) مغني المحتاج 2 / 207، ونهاية المحتاج 4 / 441.
(3) الفروع 2 / 618، والإنصاف 5 / 213، وكشاف القناع 3 / 365.(34/295)
الطَّالِبِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَكْفُول عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَتَخَيَّرُ الْكَفِيل بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ شَرْطَهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَرَى بَيْنَ الْكَفِيل وَبَيْنَ الْمَكْفُول عَنْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى الطَّالِبِ بِأَنْ قَال لِلطَّالِبِ: أَكْفُل لَكَ بِهَذَا الْمَال عَلَى أَنْ يُعْطِيَنِي الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الْمَال عَبْدَهُ هَذَا رَهْنًا، فَكَفَل عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَأَبَى الْمَطْلُوبُ أَنْ يُعْطِيَهُ الرَّهْنَ فَإِنَّ الْكَفِيل يَتَخَيَّرُ.
وَلَوْ ضَمِنَهَا عَلَى أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ، فَبَاعَ الدَّارَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَال، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ يَغْرَمُ الْمَال إِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ، كَقَوْلِهِ: كَفَلْتُ بَدَنَهُ بِشَرْطِ الْغُرْمِ، أَوْ عَلَى أَنِّي أَغْرَمُ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لاَ يَغْرَمُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ أَيْ إِنَّهُ يَغْرَمُ الْمَال.
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل لِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
الثَّانِي: يَصِحُّ الضَّمَانُ وَالشَّرْطُ، لِمَا رَوَاهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 273.(34/296)
جَابِرٌ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْمَيِّتِ، قَال: فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيءٌ فَقَال: نَعَمْ. فَصَلَّى عَلَيْهِ (1) ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ فَقَطْ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال: كَفَلْتُ بِبَدَنِ فُلاَنٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ فُلاَنٌ الْكَفِيل أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَتَفْسُدُ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لأَِنَّهُ شَرْطُ تَحْوِيل الْوَثِيقَةِ الَّتِي عَلَى الْكَفِيل إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ الْمَكْفُول لَهُ الْكَفِيل الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا كَفَل بِهَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ تَثْبُتُ كَفَالَتُهُ بِدُونِ شَرْطِهِ.
وَإِنْ قَال: كَفَلْتُ لَكَ بِهَذَا الْغَرِيمِ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، أَوْ ضَمِنْتُ لَكَ هَذَا الدَّيْنَ بِشَرْطِ أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ الآْخَرِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنَ الْكَفَالَةِ بِفُلاَنٍ، خَرَجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَالأَْوْلَى: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ فَسْخَ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ فَسْخِ بَيْعٍ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ أَنْ
__________
(1) حديث: " هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء. . . " أخرجه الحاكم (2 / 58) وصححه.
(2) حاشية القليوبي وعميرة 2 / 329، 330، 331، ومغني المحتاج 2 / 205 - 208.(34/296)
يَتَكَفَّل الْمَكْفُول لَهُ، أَوِ الْمَكْفُول بِهِ بِآخَرَ، أَوْ يَضْمَنَ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَيْنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذُكِرَ (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي - الْكَفِيل:
15 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَفِيل أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَعْتُوهِ أَوِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا أَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ (3) .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَال: إِلاَّ إِذَا اسْتَدَانَ لَهُ وَلِيُّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُل الْمَال عَنْهُ فَتَصِحُّ، وَيَكُونُ إِذْنًا فِي الأَْدَاءِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يُطَالَبُ بِهَذَا الْمَال بِمُوجِبِ الْكَفَالَةِ، وَلَوْلاَهَا لَطُولِبَ الْوَلِيُّ، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ مَرِيضٍ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ (4) .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهُ وَلاَ كَفَالَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ كَفَالَةَ السَّفِيهِ تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ وَيُتْبَعُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 5 / 102.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 353، الاختيار 2 / 167، 5 / 78، والدسوقي 2 / 265، والروضة 8 / 22 - 23، وكشاف القناع 5 / 234، والمغني مع الشرح الكبير.
(3) قليوبي وعميرة 2 / 323، 327، وتحفة المحتاج وحواشيها ص 241، 258.
(4) ابن عابدين 4 / 251 - 252.
(5) نهاية المحتاج 4 / 434.(34/297)
بِهَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ (1) ، وَكَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مَعَ الإِْكْرَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَلْزَمُ الْكَفِيل الْمُكْرَهَ (2) .
أَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (3) -، وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكْفُل؛ لأَِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَالْحَجْرُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ لاَ بِذِمَّتِهِ، فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ الآْنَ، وَلاَ يُطَالَبُ إِلاَّ إِذَا انْفَكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ وَأَيْسَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ مِنْ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَجَاوَزُ - مَعَ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ - ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ جَاوَزَتْهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ وَهُوَ
__________
(1) المغني 5 / 78.
(2) ابن عابدين 4 / 4، 5 / 93، وانظر مصطلح: إكراه في الموسوعة الفقهية 6 / 98، والشرح الصغير 3 / 429، 432، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 241، 258، وكشاف القناع 3 / 366 - طبع دار الفكر، والخرشي 3 / 175 - 176، والدسوقي 2 / 239، وقليوبي وعميرة 2 / 156.
(3) نهاية المحتاج 4 / 306.
(4) شرح المنتهى 2 / 278، وقليوبي وعميرة 2 / 323، ومغني المحتاج 2 / 199، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 79.
(5) ابن عابدين 4 / 279، والزرقاني 5 / 262 وما بعدها، المغني 5 / 71 - 72، وكشاف القناع 3 / 363.(34/297)
مُعْسِرٌ وَاسْتَمَرَّ إِعْسَارُهُ إِلَى وَقْتِ وَفَاتِهِ، أَوْ ضَمِنَ ضَمَانًا لاَ يَسْتَوْجِبُ رُجُوعَهُ عَلَى الْمَدِينِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَإِذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَال الْمَرِيضِ - وَقَضَى بِهِ - بَطَل الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهُ الدَّائِنُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يُقَدَّمُ عَلَى الضَّمَانِ (1) .
كَفَالَةُ الْمَرْأَةِ:
16 - لاَ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَرْأَةِ - إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ - يَنْفُذُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا، أَمَّا إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَصِحُّ وَلَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الزَّوْجِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ الأَْيِّمُ غَيْرُ ذَاتِ الزَّوْجِ - إِذَا كَانَتْ لاَ يُوَلَّى عَلَيْهَا - فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل فِي الْكَفَالَةِ (2) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ - الْمَكْفُول لَهُ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلاً، وَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ بِالْكَفَالَةِ وَقَبُولِهِ لَهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
1 - كَوْنُ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 422 - 423، وقليوبي وعميرة 2 / 323.
(2) الخرشي 6 / 26، والدسوقي 3 / 330، القوانين الفقهية ص353، والمدونة 5 / 283.(34/298)
عِنْدَهُمْ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً لَهُ، كَمَا لَوْ قَال: أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَحْصُل مِنْ هَذَا الدَّلاَّل مِنْ ضَرَرٍ عَلَى النَّاسِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ تَشْدِيدًا وَتَسْهِيلاً وَلِيَعْلَمَ الضَّامِنُ هَل هُوَ أَهْلٌ لإِِسْدَاءِ الْجَمِيل إِلَيْهِ أَوْ لاَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَشْتَرِطَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ - بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ - فَلَوْ كَفَل الْكَفِيل لِشَخْصٍ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ، لاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمَا إِذَا لَمْ يَقْبَل عَنْهُ حَاضِرٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهِ لإِِتْمَامِ صِيغَةِ الْعَقْدِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: الرَّاجِحَةُ مِنْهُمَا تُجِيزُ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَجْلِسِ وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى قَبُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْمَكْفُول لَهُ مَجْهُولاً، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الْكَفَالَةِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 6، والمبسوط 20 / 9، فتح القدير 6 / 314، وما بعدها. والقليوبي وعميرة 2 / 324 - 325، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71 - 72.(34/298)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَدَا الْقَاضِي مِنْهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُول لَهُ لاَ تَضُرُّ، وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا قَال الضَّامِنُ: أَنَا ضَامِنُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِلنَّاسِ - وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ عَيْنَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ - صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ فَقَدْ كَفَل أَبُو قَتَادَةَ دَيْنَ الْمَيِّتِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْفُول لَهُ (1) .
2 - اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل فِي الْمَكْفُول لَهُ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل فِي الْمَكْفُول لَهُ (2) ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْعَقِدُ بِإِيجَابِ الْكَفِيل دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلْقَبُول، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ بَالِغًا عَاقِلاً؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ مِنَ الْكَفِيل وَقَبُولٍ مِنَ الْمَكْفُول لَهُ.
وَيَجُوزُ قَبُول الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّفِيهِ، لأَِنَّ ضَمَانَ حَقِّهِمَا نَفْعٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِمَا (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 334، وانظر المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 5 / 283، والدسوقي والدردير 3 / 334، والقليوبي وعميرة 2 / 325، والمغني والشرح الكبير 5 / 102 - 103، وكشاف القناع 3 / 365.
(3) ابن عابدين 5 / 283، وبدائع الصنائع 6 / 2، وفتح القدير 6 / 314.(34/299)
3 - قَبُول الْمَكْفُول لَهُ:
19 - تَقَدَّمَ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا يَرَيَانِ أَنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَأَنَّ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ رُكْنٌ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل أَوْ حَقًّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، إِذْ لاَ يَمْلِكُ إِنْسَانٌ حَقًّا رَغْمَ أَنْفِهِ، فَكَانَتْ كَالْبَيْعِ تُفِيدُ مِلْكًا، فَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ.
وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ وَتَتَحَقَّقُ بِإِيجَابِ الْكَفِيل وَحْدَهُ، فَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُول الْمَكْفُول لَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ صَادِرٍ مِنَ الْكَفِيل بِأَنْ يُوَفِّيَ مَا وَجَبَ لِلْمَكْفُول لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَكْفُول لَهُ عَلَى حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينِ، وَذَلِكَ الْتِزَامٌ لاَ مُعَاوَضَةَ فِيهِ، وَلاَ يَضُرُّ بِحَقِّ أَحَدِهِمَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ، بَل هُوَ تَبَرُّعٌ مِنَ الْكَفِيل فَيَتِمُّ بِعِبَارَتِهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَل الْمَيِّتَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ الدَّائِنَ أَوْ أَنْ يَطْلُبَ قَبُولَهُ فَأَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَالَتَهُ وَصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ بِنَاءً عَلَيْهَا (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283، وبدائع الصنائع 6 / 2، فتح القدير 6 / 314، والدسوقي والدردير 3 / 334، تحفة المحتاج 5 / 245، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، القليوبي وعميرة 2 / 325، كشاف القناع 3 / 365، المغني والشرح الكبير 5 / 70 - 71، 102 - 103، نيل الأوطار 5 / 252 - 253، ومغني المحتاج 2 / 200.(34/299)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ - الْمَكْفُول عَنْهُ:
اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُول بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
1 - كَوْنُ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ الْكَفِيل لِلْمَكْفُول عَنْهُ، لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْكَفَالَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَل الضَّامِنَ هَل يَعْرِفُ الْمَكْفُول عَنْهُ أَوْ لاَ (1) ، وَلأَِنَّ الضَّمَانَ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَبَرَّعُ عَنْهُ بِهِ كَالنَّذْرِ؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ حَقٍّ فَلاَ حَاجَةَ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهُ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَفِيل بِالْمَكْفُول عَنْهُ؛ لِيَعْلَمَ الضَّامِنُ مَا إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَهْلاً لاِصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ هَل الْمَكْفُول عَنْهُ مُوسِرٌ وَمِمَّنْ يُبَادِرُ إِلَى
__________
(1) حديث: " أنه قبل كفالة الضامن. . . " تقدم تخريجه ف 6.(34/300)
قَضَاءِ دَيْنِهِ أَوْ لاَ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْمَكْفُول عَنْهُ مَعْلُومًا لِلْكَفِيل هُوَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً أَوْ مُضَافَةً، أَمَّا فِي حَال التَّنْجِيزِ فَلاَ تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْمَكْفُول عَنْهُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: مَا بَايَعْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَوْ مَا أَقْرَضْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَأَنَا كَفِيلٌ بِهِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ لَوْ قَال لِشَخْصٍ: كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ، صَحَّتِ الْكَفَالَةُ، وَيَكُونُ لِلْكَفِيل حَقُّ تَعْيِينِ الْمَكْفُول عَنْهُ مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ الْمُلْتَزِمُ بِالدَّيْنِ (1) .
2 - رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ أَوْ إِذْنُهُ، بَل تَصِحُّ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ (2) ، فَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَالَةَ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ رِضَاءٌ وَلاَ إِذْنٌ؛ وَلأَِنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 307 - 308، وبدائع الصنائع 6 / 6، والدسوقي 3 / 334، ومنح الجليل 3 / 252، ومغني المحتاج 2 / 200 وما بعدها، ونهاية المحتاج 4 / 224، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 310، فتح القدير 6 / 303 - 304، وبلغة السالك 2 / 156 - 157، والدسوقي 3 / 334، والشرقاوي على التحرير 2 / 118، والقليوبي وعميرة 2 / 325، وكشاف القناع 3 / 354، والمغني 5 / 71.(34/300)
الاِلْتِزَامُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لأَِنَّ ضَرَرَهُ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ، وَلاَ رُجُوعَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَعِنْدَ أَمْرِهِ يَكُونُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، وَلأَِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ، فَالْتِزَامُهُ أَوْلَى، وَكَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً (1) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمَكْفُول عَنْهُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَائِبًا؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْكَفَالَةِ تَظْهَرُ غَالِبًا فِي مِثْل هَذِهِ الأَْحْوَال (2) .
3 - قُدْرَةُ الْمَكْفُول عَنْهُ عَلَى تَنْفِيذِ مَحَل الاِلْتِزَامِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ (مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول عَنْهُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِهِ، فَيَصِحُّ الضَّمَانُ عَنْ كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا، مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا، تَرَكَ كَفِيلاً بِهَذَا الدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، فَفِي الْحَدِيثِ: أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَالَةَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلاَ كَفِيلاً (3) ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا صِحَّةُ إِبْرَاءِ الْمُتَوَفَّى عَنْ دَيْنٍ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً، وَصِحَّةُ التَّبَرُّعِ بِالأَْدَاءِ عَنْهُ.
__________
(1) فتح القدير 6 / 304، ومغني المحتاج 2 / 200.
(2) بدائع الصنائع 6 / 6، وبداية المجتهد 2 / 294، ومغني المحتاج 2 / 204، وكشاف القناع 3 / 354.
(3) الحديث سبق تخريجه ف 14.(34/301)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْمَكْفُول بِهِ إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ ضَمَانُ مَيِّتٍ مَدِينٍ تُوُفِّيَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ وَلاَ عَنْ كَفِيلٍ بِالدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَيِّتَ فِي هَذِهِ الْحَال عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، غَيْرُ أَهْلٍ لِلْمُطَالَبَةِ، وَالضَّمَانُ: ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ أَوْ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ دَيْنَ هُنَا وَلاَ مُطَالَبَةَ لأَِنَّهُ بِالْوَفَاةِ عَنْ غَيْرِ مَالٍ وَلاَ كَفِيلٍ تَصِيرُ ذِمَّتُهُ خَرِبَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ لأََنْ تُشْغَل بِدَيْنٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ يُحْمَل عَلَى الإِْقْرَارِ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ لاَ عَلَى إِنْشَائِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَعْدٌ بِالتَّبَرُّعِ وَهُوَ جَائِزٌ عَنِ الْمَيِّتِ (1) .
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: مَحَل الْكَفَالَةِ:
قَدْ تَكُونُ الْكَفَالَةُ بِالْمَال، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الضَّمَانَ، وَقَدْ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا الْبَعْضُ: كَفَالَةَ الْبَدَنِ، وَكَفَالَةَ الْوَجْهِ.
أَوَّلاً - كَفَالَةُ الْمَال:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ فِي كُل حَالَةٍ:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 6، والفتاوى الهندية 3 / 253، وفتح القدير 6 / 317 - 318، والدسوقي والدردير 3 / 331، والمغني 5 / 73 - 74.(34/301)
أ - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
23 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ كَفَالَةِ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا:
يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا، وَهُوَ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَجُوزُ كَفَالَةُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاضِيَةً أَوْ حَاضِرَةً أَوْ مُسْتَقْبَلَةً.
وَقَال الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ -: تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَحِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (1) .
فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ صَحِيحًا، فَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَالْعَيْنِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ قَبِيل التَّبَرُّعِ، وَالتَّبَرُّعُ يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ كَالنَّذْرِ، وَقَدْ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّعَامُل بِهَا تُبَرِّرُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ مَجْهُولٍ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِهِ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283 - 284، والسوقي 3 / 333، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 74 - 75.(34/302)
كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ قِبَل فُلاَنٍ، وَلاَ يَعْلَمُ مِقْدَارَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ الْمَجْهُول، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَالْتِزَامُ الْمَجْهُول غَرَرٌ يَنْهَى عَنْهُ الشَّارِعُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا حَتَّى يَكُونَ الْكَفِيل عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ. (1)
2 - أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ:
يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ بِهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْكَفَالَةِ - لأَِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَقْرِضْ فُلاَنًا وَأَنَا كَفِيلٌ بِمَا سَتُقْرِضُهُ إِيَّاهُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَصِحُّ - عَلَى هَذَا
__________
(1) فتح القدير 6 / 298، وبداية المجتهد 2 / 294، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 72.
(2) ابن عابدين 5 / 303، والدسوقي 3 / 333، والقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 72 - 73.(34/302)
الْقَوْل - بِمَا سَيَكُونُ مِنْ دَيْنٍ مَوْعُودٍ بِهِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ قَبْل ثُبُوتِهِ، يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ قَبْل ثُبُوتِهِ لاَ تُشْغَل بِهِ ذِمَّةٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ - رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَلْزَمْ - لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ شَخْصٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَا بَذَلَهُ لِلآْخَرِ إِنْ خَرَجَ مُقَابِلُهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا وَرُدَّ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ كَانَ بَعْدَهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الدَّرْكِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُل الثَّمَنُ فِي ضَمَانِهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَضَمَانُ الدَّرْكِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا، أَوْ إِنْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْبَيْعِ بِبَيْعٍ آخَرَ، وَلاَ يَخْتَصُّ ضَمَانُ الدَّرْكِ بِالثَّمَنِ بَل يَجْرِي فِي الْمَبِيعِ فَيَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ إِنْ خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا أَوْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ سَابِقَةٍ (2) .
__________
(1) تحفة المحتاج وحواشيها 5 / 217، والشرقاوي على التحرير 2 / 102، والقليوبي وعميرة 2 / 325 - 326.
(2) فتح القدير 6 / 298، وبداية المجتهد 2 / 294، والشرقاوي على التحرير 2 / 121 - 122، والمغني 5 / 76 - 78، ومغني المحتاج 2 / 201.(34/303)
أَمَّا الْجُعْل فِي الْجَعَالَةِ فَأَجَازَ الْكَفَالَةَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل أَوْ كَانَتْ بَعْدَهُ لأَِنَّهُ آيِلٌ إِلَى اللُّزُومِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْجُعْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ آيِلٍ لِلُّزُومِ بِنَفْسِهِ، بَل بِالْعَمَل، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل (1) .
ب - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
24 - الْمَقْصُودُ بِضَمَانِ الْعَيْنِ أَوْ كَفَالَتِهَا: أَنْ يَلْتَزِمَ الْكَفِيل بِرَدِّ عَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إِذَا تَلِفَتْ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ كَفَالَةِ الأَْعْيَانِ تَفْصِيلٌ يَرْجِعُ إِلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الأَْصِيل أَوْ عَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
قَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا أَوْ مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يَكُونُ الْمَكْفُول بِهِ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهِ، فَهَذِهِ حَالاَتٌ ثَلاَثٌ تَفْصِيلُهَا كَمَا يَلِي:
1 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا:
25 - هِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ
__________
(1) فتح القدير 6 / 298، والدسوقي 3 / 333، وقليوبي وعميرة 2 / 326، والمغني 5 / 74.(34/303)
قِيمَتَهَا إِنْ تَلِفَتْ، وَذَلِكَ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ كَفَالَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْعْيَانِ: فَيَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِرَدِّ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَبِرَدِّ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَبِرَدِّ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالأَْعْيَانِ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ لَزِمَهُ عَيْنُهُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا ضَمِنَ الْمُعَيَّنَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ أَوْ بِرَدِّ مِثْلِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا ضَمِنَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ، وَلَكِنْ إِذَا كَفَلَهُ عَلَى أَنَّهُ مُلْزَمٌ بِضَمَانِهِ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ صَحَّ الضَّمَانُ (1) .
2 - الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا:
26 - وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى حَائِزِهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِذَا هَلَكَتْ لاَ يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْتِزَامٌ آخَرُ، مِثَال ذَلِكَ: الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَوَجَبَ عَلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، والدسوقي 3 / 334، والقليوبي وعميرة 2 / 329، والمغني 5 / 75 - 76.(34/304)
الْبَائِعِ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الدَّيْنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الأَْعْيَانِ يَجُوزُ ضَمَانُ تَسْلِيمِهِ فَقَطْ مَا دَامَ قَائِمًا، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ، لأَِنَّهُ إِذَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ بِهِ، فَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي (1) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الأَْعْيَانِ، عَلَى مَعْنَى تَسْلِيمِهَا بِذَاتِهَا (2) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا عَرْضُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، فَيَجْرِيَانِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (3) .
3 - الأَْمَانَةُ:
27 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الأَْعْيَانَ الَّتِي تُعَدُّ أَمَانَةً فِي يَدِ حَائِزِهَا قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى مَالِكِهِ، كَالْعَارِيَّةِ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَإِذَا هَلَكَ لاَ يَلْزَمُ الْكَفِيل
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، والمغني 5 / 75 - 76.
(2) الحطاب 5 / 98، والخرشي 5 / 28، والدسوقي 3 / 334.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.(34/304)
شَيْءٌ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً، وَالأَْمَانَةُ إِذَا هَلَكَتْ تَهْلِكُ مَجَّانًا.
وَالْقِسْمُ الآْخَرُ لاَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ تَسْلِيمُهُ، بَل عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْعَى إِلَى ذَلِكَ، كَالْوَدَائِعِ وَأَمْوَال الْمُضَارَبَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِهِ، كَمَا لاَ تَجُوزُ بِقِيمَتِهِ؛ إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا مَضْمُونًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ، وَلاَ كَفَالَةَ إِلاَّ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ضَمَانِ الْوَدَائِعِ وَالْعَارِيَّاتِ وَمَال الْقِرَاضِ، عَلَى أَنَّهَا. إِذَا تَلِفَتْ أَتَى بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ إِذَا ضَمِنَهَا عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ أَوْ رَدِّ الْمِثْل، صَحَّ الضَّمَانُ وَلَزِمَ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَال فِي يَدِ الشَّرِيكِ وَالْوَكِيل وَالْوَصِيِّ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا التَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْمَانَاتِ،
__________
(1) فتح القدير 6 / 312 - 313، الفتاوى الهندية 3 / 254.
(2) الحطاب 5 / 98، والخرشي 6 / 28، والدسوقي 3 / 334.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.(34/305)
كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إِلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا إِنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ، أَمَّا إِنْ ضَمِنَهَا إِنْ تَعَدَّى فِيهَا فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمِ الضَّامِنَ شَيْءٌ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَعَدٍّ لَزِمَ الْحَائِزَ ضَمَانُهَا، وَلَزِمَ ضَامِنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ (1)
ثَانِيًا - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
28 - هِيَ الْتِزَامُ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول إِلَى الْمَكْفُول لَهُ أَوْ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (2) ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَتَّحِدُ الْمَكْفُول بِهِ وَالْمَكْفُول عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَفِي مَضْمُونُهَا وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 76.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 119.(34/305)
أ - حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ، وَلِمَا رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيُّ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُل كُفَلاَءَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ، وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ (5) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْكَفَالَةِ بِالأَْبْدَانِ، فَإِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيَّ صَحَابِيٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ حِينَئِذٍ (6) ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ قَوْل جَرِيرٍ وَالأَْشْعَثِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 286، وبدائع الصنائع 6 / 4، وفتح القدير 6 / 285.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 344، والمواق 5 / 105، وبداية المجتهد 2 / 291.
(3) كشاف القناع 3 / 362، والمغني 5 / 95.
(4) المغني 5 / 95 - 96.
(5) أثر حمزة بن عمرو الأسلمي أن عمر - رضي الله عنه - بعثه مصدقًا. . . . " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3 / 147) وعلقه البخاري في صحيحه (الفتح 4 / 469) .
(6) فتح الباري 4 / 470 وما بعدها.(34/306)
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَّلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال ابْنُ الْمُنِيرِ: أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالأَْبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالأَْبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَال بِهَا الْجُمْهُورُ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ كَفَالَةِ الْبَدَنِ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَاسْتُؤْنِسَ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} .
وَفِي قَوْلٍ لاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْحُرَّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِالأَْوَّل (2) .
ب - مَضْمُونُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
30 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ كَفَالَةِ النَّفْسِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ قِصَاصٌ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لأَِنَّهَا مُجَرَّدُ الْتِزَامٍ بِإِحْضَارِ مَنْ يَجِبُ إِحْضَارُهُ إِلَى مَجْلِسٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ، وَلاَ تَتَضَمَّنُ الْتِزَامًا بِدَيْنِ الْمَكْفُول إِلاَّ بِالشَّرْطِ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ إِلَى مَجْلِسِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مغني المحتاج 2 / 203، وحاشية القليوبي 2 / 327.(34/306)
الْقَضَاءِ الْفُلاَنِيِّ فِي وَقْتِ كَذَا فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلاَ يَلِيقُ بِهَا الاِسْتِيثَاقُ، سَوَاءٌ طَابَتْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِالْكَفَالَةِ أَوْ لَمْ تَطِبْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِيهِ حَقٌّ لِلْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ طَابَتْ بِهَا نَفْسُ الْمَطْلُوبِ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ، فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيل، فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ.
وَإِنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيل بِلاَ جَبْرٍ - فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - فَلاَ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِعْطَاءِ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ يَحْضُرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لإِِثْبَاتِ ادِّعَاءِ خَصْمِهِ عَلَيْهِ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْبَدَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِوُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيَلِيقُ الاِسْتِيثَاقُ (1) .
وَيُمَيِّزُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ كَفَالَةِ الْوَجْهِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 297 - 298، وبدائع الصنائع 6 / 8، وفتح القدير 6 / 285 - 286.(34/307)
ضَمَانُ الْوَجْهِ:
31 - وَهُوَ الْتِزَامُ الإِْتْيَانِ بِذَاتِ الْمَضْمُونِ وَإِحْضَارِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْمُونُ مَدِينًا؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى الضَّمَانِ إِحْضَارُهُ إِلَى الطَّالِبِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْوَجْهِ فِيمَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ (1) ، وَلِلزَّوْجِ رَدُّ ضَمَانِ الْوَجْهِ إِذَا صَدَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ضَمَانُهَا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَضْمُونِ يَبْلُغُ ثُلُثَ مَالِهَا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِهَا لِطَلَبِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَرَّةٌ عَلَيْهِ (2) .
الضَّمَانُ بِالطَّلَبِ:
32 - وَهُوَ الْتِزَامُ طَلَبِ الْغَرِيمِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ إِنْ تَغَيَّبَ وَالدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ دُونَ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِهِ، وَقِيل: يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِهِ، وَلِذَا صَحَّ ضَمَانُ الطَّلَبِ فِيمَنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِسَبَبِ حَقٍّ مَالِيٍّ، أَوْ بِسَبَبِ قِصَاصٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ حُدُودٍ وَتَعْزِيرَاتٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِآدَمِيٍّ، كَأَنْ يَقُول الْكَفِيل: أَنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ الطَّلَبَ، أَوْ لاَ أَضْمَنُ إِلاَّ وَجْهَهُ، أَوْ أَضْمَنُ وَجْهَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ غُرْمِ الْمَال إِنْ لَمْ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 344 والمواق 5 / 105 وما بعدها.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 344.(34/307)
أَجِدْهُ (1) .
وَحَاصِل كَفَالَةِ الْبَدَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُول بِبَدَنِهِ، فَكُل مَنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ عِنْدَ الاِسْتِعْدَاءِ، أَوْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارُهُ، تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ، فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ لآِدَمِيٍّ كَمَدِينٍ وَأَجِيرٍ وَكَفِيلٍ، وَبِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ آدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ - عَلَى الأَْظْهَرِ - وَقِيل: لاَ تَصِحُّ قَطْعًا، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالْخَمْرِ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَقِيل: قَوْلاَنِ.
فَإِنْ كَفَل بَدَنَ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ لَمْ يُشْتَرَطَ الْعِلْمُ بِقَدْرِهِ؛ لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِلْكَفِيل، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارَهُمَا لإِِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى صُورَتِهِمَا فِي الإِْتْلاَفِ وَغَيْرِهِ، وَبِبَدَنِ مَحْبُوسٍ وَغَائِبٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيل الْغَرَضِ فِي الْحَال، وَبِبَدَنِ مَيِّتٍ قَبْل دَفْنِهِ لِيَشْهَدَ عَلَى صُورَتِهِ بِإِذْنِ الْوَارِثِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُل دَيْنٍ، لَوِ ادُّعِيَ بِهِ عَلَى شَخْصٍ عِنْدَ حَاكِمٍ لَزِمَهُ الْحُضُورُ لَهُ تَصِحُّ
__________
(1) الدسوقي والدردير 3 / 346، والمواق 5 / 105 وما بعدها.(34/308)
الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ مَالِيٌّ إِلَى رَبِّهِ، سَوَاءٌ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَلِذَا صَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لاَزِمٌ، مَعْلُومًا كَانَ الدَّيْنُ - لِلْكَفِيل - أَوْ مَجْهُولاً، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول مَحْبُوسًا عِنْدَ الْحَاكِمِ، إِذِ الْمَحْبُوسُ عِنْدَهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ، - كَحَدِّ الزِّنَا، أَوْ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: لاَ كَفَالَةَ فِي حَدٍّ (2) ؛ وَلأَِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الإِْسْقَاطِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، فَلاَ يَدْخُلُهُ الاِسْتِيثَاقُ وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ الْجَانِي، وَلاَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ، وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَبِبَدَنِ الْمَحْبُوسِ وَالْغَائِبِ.
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ - عِنْدَهُمْ - مَعَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَضْمَنَ الْمَال إِذَا لَمْ يَحْضُرِ الْمَكْفُول، وَتَصِحُّ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 253، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، والقليوبي وعميرة 2 / 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 431 وما بعدها، وتحفة المحتاج وحواشيها 5 / 258 - 261.
(2) حديث: " لا كفالة في حد " أخرجه البيهقي (6 / 77) ، وضعف إسناده.(34/308)
الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً، كَمَا صَحَّ الضَّمَانُ كَذَلِكَ (1) .
آثَارُ الْكَفَالَةِ:
أَوَّلاً: عَلاَقَةُ الْمَكْفُول لَهُ بِالْكَفِيل:
يَخْتَلِفُ الأَْمْرُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِالْمَال أَوْ بِالنَّفْسِ.
أ - كَفَالَةُ الْمَال:
قَدْ يَكُونُ الْمَال الْمَكْفُول بِهِ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا.
1 - كَفَالَةُ الدَّيْنِ:
يَتَعَلَّقُ بِكَفَالَةِ الدَّيْنِ أَحْكَامٌ هِيَ:
حَقُّ الْمُطَالَبَةِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الدَّائِنَ الْمَكْفُول لَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِهِ دُونَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِتَعَذُّرِ مُطَالَبَةِ الأَْصِيل الْمَكْفُول عَنْهُ، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيل بِهِ عِنْدَ حُلُول أَجَلِهِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذِمَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِالدَّيْنِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ اجْتِمَاعًا وَانْفِرَادًا (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 362 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 3 / 316، والمغني 5 / 96 - 99.
(2) بدائع الصنائع 6 / 10، ونهاية المحتاج 4 / 431، والمغني 5 / 83.(34/309)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ - جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَل فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ، تُقَرِّرُ نَفْسَ الْحُكْمِ.
وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أُخْرَى لاَ تُجِيزُ لِلدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالأَْصِيل حَاضِرٌ مُوسِرٌ لَيْسَ ذَا لَدَدٍ فِي الْخُصُومَةِ وَلاَ مُمَاطِلاً فِي الْوَفَاءِ، أَوْ كَانَ الأَْصِيل غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ بُعْدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا وَجَبَ ابْتِدَاءً عَلَى الأَْصِيل، وَالْكَفَالَةُ وَثِيقَةٌ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأَْصِيل، كَالرَّهْنِ (1) .
تَعَدُّدُ الْكُفَلاَءِ:
34 - لِلدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَلاَءِ بِكُل الدَّيْنِ إِذَا كَانَتْ كَفَالَتُهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَيَكُونُ الْكَفِيل الأَْوَّل بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل الثَّانِي كَالأَْصِيل بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل الْمُنْفَرِدِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِكُل الدَّيْنِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي ضَمَانِهِ أَنْ يَضْمَنَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالدَّيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ رُءُوسِهِمْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الخرشي 5 / 33، والدسوقي والدردير 3 / 337 وما بعدها، ومنح الجليل 3 / 259.(34/309)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّ الضَّامِنَ لِلدَّيْنِ مَجْمُوعُهُمْ، فَصَارُوا فِي ضَمَانِهِ شُرَكَاءَ، وَالْمَكْفُول بِهِ يَقْبَل الاِنْقِسَامَ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ لِلدَّائِنِ قِبَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَهُ قِبَل الْكَفِيل الْمُنْفَرِدِ، إِذْ يُعَدُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلاً بِكُل الدَّيْنِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الدَّائِنَ لَوِ اشْتَرَطَ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، كَانَ لَهُ أَخْذُ جَمِيعِ حُقُوقِهِ مِنْ أَحَدِهِمْ إِنْ غَابَ غَيْرُهُ أَوِ افْتَقَرَ فَصَارَ مُعْدَمًا، أَمَّا إِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا مَلاَءً فَإِنَّهُ يَتْبَعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ فَقَطْ حَسَبَ انْقِسَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِمْ (1) .
زَمَانُ وَمَكَانُ وَمَوْضُوعُ الْمُطَالَبَةِ:
35 - يَتَحَدَّدُ الْتِزَامُ الْكَفِيل بِمَا كَانَ يَلْتَزِمُ بِهِ الأَْصِيل مِنْ دَيْنٍ، فَيُؤَدِّيهِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْكَفَالَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَمَعَ مُرَاعَاةِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صِيغَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ تَنْجِيزٍ أَوْ تَعْلِيقٍ أَوْ إِضَافَةٍ إِلَى أَجَلٍ أَوْ تَأْقِيتٍ أَوِ اقْتِرَانٍ بِشَرْطٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل حَل
__________
(1) فتح القدير 6 / 238 - 239، والدسوقي 3 / 342، ونهاية المحتاج 4 / 444، والمغني 9 / 95.(34/310)
الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ ذِمَّتَهُ خَرِبَتْ، وَثَبَتَ لِلدَّائِنِ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَحِل بِالْمَوْتِ إِذَا مَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ قَبْل حُلُول أَجَل الدَّيْنِ، انْتَهَى ضَمَانُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَخُيِّرَ الطَّالِبُ بَيْنَ بَقَائِهِ إِلَى حِينِ حُلُول الأَْجَلِ، وَمِنْ ثَمَّ يُطَالَبُ الأَْصِيل، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَجَّل اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَيَأْخُذَهُ مِنْ تَرِكَةِ الضَّامِنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الأَْصِيل حَاضِرًا مَلِيئًا لِعَدَمِ حُلُول أَجَلِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الضَّامِنُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل أَوْ بَعْدَهُ فَلاَ يُؤْخَذُ الدَّيْنُ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ حَاضِرًا مَلِيئًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا كَانَ غَائِبًا مُعْدَمًا، أَوْ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ (1) .
حُقُوقُ الْكَفِيل قَبْل الدَّائِنِ:
36 - إِذَا كَانَ الضَّمَانُ بِإِذْنِ الأَْصِيل كَانَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي مُطَالَبَةِ الدَّائِنِ - إِذَا مَا تُوُفِّيَ الأَْصِيل قَبْل الْوَفَاءِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرِكَةِ مَدِينِهِ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ، أَوْ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 319، والدسوقي والدردير 3 / 337، والقليوبي وعميرة 2 / 331، والمغني 5 / 81.(34/310)
أَوْ يُبْرِئَهُ، لِيَتَجَنَّبَ بِذَلِكَ احْتِمَال تَلَفِهَا وَعَدَمَ الرُّجُوعِ فِيهَا إِذَا مَا وَفَّى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ، وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلضَّامِنِ عِنْدَمَا يُفَلِسُ الأَْصِيل، فَيَطْلُبُ الدَّائِنُ بَيْعَ مَال الأَْصِيل لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ أَوْ مَا يَخُصُّهُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَذَلِكَ قَبْل الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ - إِذَا مَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ - أَنْ يَدْفَعَ طَلَبَهُ بِأَنَّ الْمَدِينَ حَاضِرٌ مُوسِرٌ فَيَجِبُ مُطَالَبَتُهُ أَوَّلاً، أَوْ بِأَنَّ لِلْمَدِينِ مَالاً حَاضِرًا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ حَاضِرًا، وَلِلضَّامِنِ - عِنْدَهُمْ - حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَى تَأْجِيل الدَّائِنِ الدَّيْنَ لِلْمَدِينِ عِنْدَ يَسَارِهِ، فَيُخَيَّرُ الدَّائِنُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عُدُولُهُ عَنِ التَّأْجِيل، وَإِمَّا إِمْضَاؤُهُ التَّأْجِيل وَإِبْرَاؤُهُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
كَذَلِكَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُلْزِمَ الدَّائِنَ بِمُطَالَبَةِ الْمَدِينِ بِالدَّيْنِ إِذَا مَا حَل أَجَلُهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُفْلِسَ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ (1) .
2 - كَفَالَةُ الْعَيْنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل إِذَا كَفَل عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا - فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 338 - 340، ومنح الجليل 3 / 160، ونهاية المحتاج 4 / 444 - 445، وبدائع الصنائع 6 / 11، وانظر المغني 5 / 86 - 89.(34/311)
بِتَسْلِيمِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ أُلْزِمَ بِرَدِّ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً.
وَإِذَا كَفَل عَيْنًا مَضْمُونَةً بِغَيْرِهَا، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ تَسْلِيمُهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ سَقَطَتِ الْكَفَالَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا كَفَل أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ
بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَتْ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَفَل بِأَمَانَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل إِذَا ضَمِنَ الْعَيْنَ عَلَى أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ الْتَزَمَ بِرَدِّ الْمِثْل أَوْ دَفْعِ الْقِيمَةِ، يَكُونُ مُلْزَمًا بِهَذَا الضَّمَانِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَ تَسْلِيمَهَا بِذَاتِهَا، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ كَفَالَةِ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنْ هَلَكَتْ فَعِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا يُوجِبُ ضَمَانَهَا عَلَى الْكَفِيل، وَالآْخَرُ لاَ يَضْمَنُهُ وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، وفتح القدير 6 / 312 - 313، والمغني 5 / 75 - 76.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 334، والحطاب 5 / 98، والخرشي 5 / 28.
(3) القليوبي وعميرة 2 / 329، ونهاية المحتاج 4 / 441.(34/311)
ب - كَفَالَةُ النَّفْسِ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَكْفُول فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ الطَّالِبُ فِيهِ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، إِذْ يَحْصُل بِذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَلَّمَ الْكَفِيل الْمَطْلُوبَ فِي صَحْرَاءَ، فَلاَ يَكُونُ قَدْ أَوْفَى بِالْتِزَامِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْكَفَالَةِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ فِي مَكَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ خِلاَفَ مَجْلِسِهِ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ التَّقْيِيدِ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ، فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ أَمَامَ قَاضٍ مُخْتَصٍّ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِقَاضٍ دُونَ آخَرَ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل لاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ التَّسْلِيمِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ الطَّالِبَ وَضَعَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ يَقْصِدُ الإِْلْزَامَ بِهِ، فَقَدْ تَكُونُ حُجَّتُهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ تَعَدَّدَ الْكُفَلاَءُ بِالنَّفْسِ فَأَحْضَرَ(34/312)
الْمَطْلُوبَ أَحَدُهُمْ، بَرِئَ الْجَمِيعُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْمَكْفُول فِيهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ - هُوَ إِحْضَارُهُ - فَيَتِمُّ بِأَحَدِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِعَدَدِهِمْ، لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ مَنْ يُحْضِرُ الْمَطْلُوبَ؛ لأَِنَّ الْمَكْفُول حِينَئِذٍ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِعَدَدِهِمْ، فَفِعْل أَحَدِهِمْ لاَ يُعَدُّ فِعْلاً لِغَيْرِهِ.
وَيَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مُهْلَةً إِذَا كَانَ مَحَل الْمَطْلُوبِ مَعْلُومًا، فَإِذَا لَمْ يُحْضِرْهُ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ لاَزِمٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ دَيْنُ الْمَطْلُوبِ؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى كَفَالَةِ الْبَدَنِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مُجَرَّدُ الاِلْتِزَامِ بِالإِْحْضَارِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُول: إِنْ لَمْ أُحْضِرْهُ. . فَعَلَيَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، وَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِهِ، وَإِذَا رَفَضَ الْمَطْلُوبُ مُطَاوَعَةَ الْكَفِيل بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ لِيُعِينَهُ بِأَعْوَانِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ، فَلاَ يَمْلِكُ الْكَفِيل إِلاَّ إِرْشَادَ الْمَكْفُول لَهُ إِلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا ارْتَدَّ الْمَكْفُول وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَخْرُجِ الْكَفِيل مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّ لَحَاقَهُ بِدَارِ(34/312)
الْحَرْبِ إِنَّمَا اعْتُبِرَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فِي حَقِّ أَمْوَالِهِ وَقِسْمَتِهَا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، أَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إِلَى خَصْمِهِ، فَيَبْقَى الْكَفِيل عَلَى كَفَالَتِهِ، وَيُمْهِلُهُ الْقَاضِي مُدَّةً مُنَاسَبَةً.
وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُول بِهِ بَرِئَ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِحْضَارِهِ؛ وَلأَِنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنِ الأَْصِيل فَيَسْقُطُ الإِْحْضَارُ عَنِ الْكَفِيل، وَكَذَا إِذَا مَاتَ الْكَفِيل لأَِنَّهُ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَمَالُهُ لاَ يَصْلُحُ لإِِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلاَفِ الْكَفِيل بِالْمَال، وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِضَمَانِ الْوَجْهِ يَلْتَزِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ حُلُول الدَّيْنِ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ الطَّالِبُ عَلَى خَلاَصِ دَيْنِهِ مِنْهُ أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَهُ فِي مَكَانٍ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ قَاضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا يَبْرَأُ إِذَا سَلَّمَ الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ لِلدَّائِنِ بَعْدَ حُلُول دَيْنِهِ إِنْ أَمَرَهُ الضَّامِنُ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيمُ قَبْل حُلُول الدَّيْنِ، أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْكَفِيل، لَمْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 297 وما بعدها، وبدائع الصنائع 6 / 4 وما بعدها، وفتح القدير 6 / 285 وما بعدها.(34/313)
مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْضِرَ الضَّامِنُ الْمَضْمُونَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْدِ تَلَوُّمٍ (إِمْهَالٍ) خَفِيفٍ - كَالْيَوْمِ - إِنْ قَرُبَتْ غَيْبَةُ الْغَرِيمِ، وَبِلاَ تَلَوُّمٍ إِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ إِلاَّ بِإِحْضَارِهِ.
وَإِذَا أَثْبَتَ الْكَفِيل أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَلْتَزِمُ بِالضَّمَانِ إِذَا أَثْبَتَ أَنَّ الْمَكْفُول قَدْ مَاتَ قَبْل الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ؛ لأَِنَّ النَّفْسَ الْمَضْمُونَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْغُرْمُ مَاضٍ.
أَمَّا ضَمَانُ الطَّلَبِ: فَلاَ يَلْتَزِمُ فِيهِ الْكَفِيل إِلاَّ بِطَلَبِ الْغَرِيمِ بِمَا يَقْوَى عَلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ صُدِّقَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، فَإِذَا نَكَل عَنِ الْيَمِينِ غَرِمَ.
وَكَذَلِكَ يَغْرَمُ إِذَا فَرَّطَ فِي الإِْتْيَانِ بِهِ، أَوْ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَوْضِعِهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ (1) .
__________
(1) الدسوقي والدردير 3 / 345 وما بعدها، والمواق 5 / 105 - 116.(34/313)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِالْبَدَنِ يَلْتَزِمُ بِإِحْضَارِ الْغَرِيمِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ إِنْ كَانَ صَالِحًا، وَإِلاَّ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْكَفَالَةِ إِنْ صَلَحَ، وَقَيْدُ بَلَدِ التَّسْلِيمِ مُعْتَبَرٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَرْفُضَ التَّسْلِيمَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ عُيِّنَ مَكَانٌ مُحَدَّدٌ فِي الْبَلَدِ فَفِي الْمُهَذَّبِ: إِنْ أَحْضَرَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِقَبُولِهِ فِيهِ، أَوْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ وَجَبَ قَبُولُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ أَحْضَرَ الْكَفِيل الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيَتَسَلَّمَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ.
وَيَبْرَأُ الْكَفِيل إِذَا سَلَّمَ الْغَرِيمَ فِي مَكَانِ التَّسْلِيمِ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ الطَّالِبَ مِنْهُ، كَمُتَغَلِّبٍ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْرَأُ.
وَكَذَلِكَ يَبْرَأُ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُول نَفْسَهُ، مُظْهِرًا أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ بَرَاءَةً لِلْكَفِيل، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ حُضُورِهِ دُونَ إِظْهَارِ ذَلِكَ.
وَإِذَا غَابَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يُلْزَمِ الْكَفِيل بِإِحْضَارِهِ إِنْ جُهِل مَكَانُهُ لِقِيَامِ عُذْرِهِ، فَإِنْ عُلِمَ مَكَانُهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَيُمْهَل مُدَّةَ الذَّهَابِ وَالإِْيَابِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حُبِسَ مَا لَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ لأَِنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَقِيل: إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَسَافَةَ(34/314)
قَصْرٍ لَمْ يُلْزَمْ إِحْضَارَهُ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَكْفُول أَوْ هَرَبَ أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهُ لَمْ يُطَالَبَ الْكَفِيل بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَغْرَمُ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ تَغْرِيمَ الْكَفِيل الْمَال عِنْدَ عَدَمِ إِحْضَارِ الْمَكْفُول بَطَلَتْ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ إِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً عَنِ الْمَكَانِ تَعَيَّنَ إِحْضَارُ الْمَكْفُول فِي مَحَل الْكَفَالَةِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ إِحْضَارُهُ فِيهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُول نَفْسَهُ فِي زَمَانِ التَّسْلِيمِ وَمَكَانِهِ بَرِئَ الْكَفِيل بِذَلِكَ كَمَا يَبْرَأُ الْكَفِيل بِمَوْتِ الْمَكْفُول.
وَإِذَا غَابَ الْمَكْفُول، وَعَلِمَ الْكَفِيل بِمَكَانِهِ، أُمْهِل بِقَدْرِ مَا يَمْضِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ وَيُحْضِرُهُ، فَإِنْ مَضَى إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْضِرْهُ لِتَوَارِيهِ أَوْ هَرَبِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَال، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَزِمَهُ مَا عَلَى الْمَكْفُول مِنَ الدَّيْنِ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَقَصِّي حَالِهِ، فَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُتْلِفًا.
__________
(1) تحفة المحتاج 5 / 258 وما بعدها، وروضة الطالبين 4 / 253، وما بعدها، والشرقاوي على التحرير 2 / 119، والقليوبي وعميرة 2 / 327 - 328، ونهاية المحتاج 4 / 431 وما بعدها، والمهذب 1 / 351.(34/314)
وَإِذَا ضَمِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَعْرِفَةَ إِنْسَانٍ، كَأَنْ جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى آخَرَ يَسْتَدِينُ مِنْهُ - مَثَلاً - فَقَال لَهُ: لاَ أَعْرِفُكَ فَلاَ أُعْطِيكَ، فَجَاءَ شَخْصٌ وَضَمِنَ لَهُ مَعْرِفَتَهُ، فَدَايَنَهُ، ثُمَّ غَابَ الْمُسْتَدِينُ أَوْ تَوَارَى، أَخَذَ الضَّامِنَ بِالدَّيْنِ، مَا لَمْ يُعَرِّفِ الدَّائِنَ بِالْمَدِينِ (1) .
ثَانِيًا: عَلاَقَةُ الْكَفِيل بِالْمَكْفُول عَنْهُ:
39 - إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّ الْكَفِيل يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ لِلدَّائِنِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أ - مُطَالَبَةُ الْمَدِينِ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، ثَبَتَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طَالَبَهُ الدَّائِنُ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْحَقُّ كَذَلِكَ فِي مُلاَزَمَتِهِ إِذَا لاَزَمَهُ الدَّائِنُ، وَالْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ إِذَا مَا طَالَبَ الدَّائِنَ بِحَبْسِ الْكَفِيل، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَحُقَّ لَهُ أَنْ يُعَامِلَهُ بِمِثْل مَا يُعَامَل بِهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 362 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 3 / 316 وما بعدها، والمغني والشرح الكبير 5 / 96 وما بعدها.(34/315)
فَلَيْسَ لِلْكَفِيل الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْكَفَالَةِ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ إِلْزَامِ غَيْرِهِ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الْمَضْمُونِ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ لِيَخْلَصَ مِنَ الضَّمَانِ، وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، سَوَاءٌ طَالَبَهُ الدَّائِنُ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِ الْمَدِينِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدِينَ بِتَسْلِيمِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ؛ لأَِنَّ الْمَدِينَ لاَ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَضْمُونِ، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الضَّمَانِ بِإِذْنِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَخْلِيصُهُ مِنْهُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ طَالَبَهُ الدَّائِنُ، جَازَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ إِذَا غَرِمَ جَازَ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكَفَالَةِ إِذَا طُولِبَ، وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ الدَّائِنُ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ مُطَالَبَةَ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَرِّمَهُ قَبْل أَنْ يَغْرَمَ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 11، والزيلعي والشلبي 4 / 156.
(2) الدسوقي والدردير 3 / 340، ومنح الجليل 3 / 261 وما بعدها.(34/315)
لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْل أَنْ يُطَالَبَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ لَهُ حَقَّ مُطَالَبَتِهِ بِتَخْلِيصِهِ، لأَِنَّهُ شَغَل ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ بِإِذْنِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، كَمَا إِذَا أَعَارَهُ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْتَعِيرَ بِتَخْلِيصِهَا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، فَطُولِبَ الضَّامِنُ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِتَخْلِيصِهِ؛ لأَِنَّهُ لَزِمَهُ الأَْدَاءُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبَ الضَّامِنَ لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالدَّيْنِ قَبْل غَرَامَتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ قَبْل طَلَبِهِ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ؛ لأَِنَّهُ شَغَل ذِمَّتَهُ بِإِذْنِهِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَهَنَهَا، كَانَ لِصَاحِبِهَا مُطَالَبَتُهُ بِفِكَاكِهَا وَتَفْرِيغِهَا مِنَ الرَّهْنِ (2) .
ب - رُجُوعُ الضَّامِنِ عَلَى الْمَدِينِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الضَّامِنَ لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَدِينِ أَنْ يُسَلِّمَهُ مَا بِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ قَبْل قِيَامِهِ بِأَدَائِهِ لِلدَّائِنِ (3) .
__________
(1) المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 331، والمهذب 1 / 342 - 343.
(2) كشاف القناع 3 / 359 - 360، والمغني والشرح الكبير 5 / 90 - 91.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 314، والدسوقي والدردير 3 / 336، والقليوبي وعميرة 2 / 331، والمغني والشرح الكبير 5 / 86.(34/316)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى مَا عَلَى الْمَضْمُونِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّعِ عَنِ الْمَدِينِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى الضَّامِنُ حَقَّ الدَّائِنِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَفِي حُكْمِ رُجُوعِهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ كَمَا يَلِي:
1 - شُرُوطُ الرُّجُوعِ:
42 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِرُجُوعِ الْكَفِيل عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَدِينُ صَبِيًّا مُمَيِّزًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِعَتَهٍ أَوْ سَفَهٍ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ بِالأَْمْرِ فِي حَقِّ الْمَكْفُول عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَضَمَّنَ كَلاَمُ الْمَدِينِ مَا يَدُل عَلَى أَمْرِ الضَّامِنِ بِأَنْ يَقُومَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ، كَأَنْ يَقُول: اضْمَنْ عَنِّي، فَإِذَا قَال لَهُ: اضْمَنِ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ، دُونَ أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ هَذَا الأَْمْرَ لاَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ إِقْرَاضٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ تَمَّ بِنَاءً عَلَى الأَْمْرِ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي(34/316)
الأَْدَاءِ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَدَاءِ الْكَفِيل إِبْرَاءُ ذِمَّةِ الْمَكْفُول؛ لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى نِيَابَةِ الْكَفِيل عَنِ الْمَدِينِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَدَّى الْكَفِيل الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَدِينَ قَدْ قَامَ بِأَدَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا أَدَّى، وَإِنَّمَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِمَّنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ إِذَا أَدَّى دَيْنَ الْمَضْمُونِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ أَمْ كَانَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْ صَغِيرٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى فِي مَال الصَّغِيرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قَامَ بِوَفَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الأَْصِيل، فَيَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ فِي هَذِهِ السَّبِيل (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلضَّامِنِ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَضْمُونِ إِنْ وُجِدَ إِذْنُهُ فِي الضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ أَذِنَ الأَْصِيل فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأَْدَاءِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 314، وبدائع الصنائع 6 / 13، والشلبي على الزيلعي 4 / 153، وفتح القدير 6 / 304 - 305، والمبسوط 19 / 178.
(2) الخرشي 5 / 31، والدسوقي والدردير 3 / 337 وما بعدها، وبلغة السالك 2 / 158، وبداية المجتهد 2 / 294، والقوانين الفقهية ص 325.(34/317)
رَجَعَ الْكَفِيل عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ حَصَل بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَإِنْ أَذِنَ الأَْصِيل فِي الأَْدَاءِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الضَّمَانِ لاَ يَرْجِعُ الْكَفِيل عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَثْبُتُ لِلْكَفِيل حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الأَْصِيل؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ الَّذِي أَدَّى الدَّيْنَ الْمَضْمُونَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَدِينِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَوْفَاهُ كَذَلِكَ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ قَال لَهُ: اضْمَنْ عَنِّي وَأَدِّ عَنِّي، أَوْ أَطْلَقَ الإِْذْنَ بِالضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ فَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِإِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى بِدُونِ إِذْنِهِ، فَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي الضَّمَانِ يَتَضَمَّنُ الإِْذْنَ فِي الأَْدَاءِ عُرْفًا.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَكِنَّهُ أَدَّى الدَّيْنَ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 266، والشرقاوي على التحرير 2 / 122، والتحفة وحواشيها 5 / 273 - 275، والقليوبي وعميرة على المحلى 2 / 331، ومغني المحتاج 2 / 209، ونهاية المحتاج 4 / 446 وما بعدها(34/317)
بِإِذْنِهِ، فَلَهُ كَذَلِكَ حَقُّ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الْمَدِينِ بِالأَْدَاءِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ الْكَفِيل عَنْهُ فِيهِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّامِنُ قَدْ ضَمِنَ بِدُونِ إِذْنِ الْمَدِينِ، ثُمَّ أَدَّى بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لأَِنَّهُ أَدَاءٌ مُبْرِئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَقِيَامُ الإِْنْسَانِ بِقَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ يَسْتَلْزِمُ حَقَّ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى: لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لأَِنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ الْمَدِينِ، بَعْدَ ضَمَانِ دَيْنِهِ (1) تَدُل عَلَى أَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ لِلضَّامِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ بِمُجَرَّدِ ضَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ مَا بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ (2) .
2 - كَيْفِيَّةُ الرُّجُوعِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ بِمَا أَدَّى، إِذَا كَانَ مَا وَفَّاهُ مِثْل الدَّيْنِ وَمِنْ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْكَفِيل - وَقَدْ أَمَرَ بِالضَّمَانِ وَقَامَ بِالْوَفَاءِ بِنَاءً عَلَيْهِ - يَتَمَلَّكُ الدَّيْنَ بِذَلِكَ الْوَفَاءِ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِهِ حَل مَحَل الدَّائِنِ فِيهِ، وَإِذَا أَدَّى
__________
(1) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت المدين. . . " تقدم فقرة (6) .
(2) كشاف القناع 3 / 359، والمغني والشرح الكبير 5 / 86 وما بعدها.(34/318)
أَقَل مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، تَجَنُّبًا لِلرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْقَدْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُطْلَقًا، أَوْ تَصَالَحَ مَعَ الدَّائِنِ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمَا ضَمِنَ - وَهُوَ الدَّيْنُ - لأَِنَّهُ تَمَلَّكَ الدَّيْنَ بِالأَْدَاءِ، فَيَرْجِعُ بِمَا تَمَّتِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهِ، وَشُبْهَةُ الرِّبَا غَيْرُ وَارِدَةٍ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الضَّامِنَ - الَّذِي لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - يَرْجِعُ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْل مَا أَدَّى إِذَا كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا، لأَِنَّ الضَّامِنَ كَالْمُسَلِّفِ، وَفِي السَّلَفِ يَرْجِعُ بِالْمِثْل حَتَّى فِي الْمُقَوَّمَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَدَّاهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول بِالأَْقَل مِنَ الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا أَدَّى، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّامِنُ قَدِ اشْتَرَى مَا أَدَّى بِهِ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي شِرَائِهِ مُحَابَاةٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَإِذَا تَصَالَحَ الْحَمِيل وَالدَّائِنُ فَلاَ يَرْجِعُ الضَّامِنُ عَلَى الْمَدِينِ إِلاَّ بِالأَْقَل مِنَ الأَْمْرَيْنِ، الدَّيْنِ وَقِيمَةِ مَا صَالَحَ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ - إِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ - فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 314 - 315، وفتح القدير 6 / 304 - 306.
(2) الخرشي 5 / 31، والدسوقي والدردير 3 / 335 - 336.(34/318)
غَرِمَ، لاَ بِمَا لَمْ يَغْرَمْ، فَيَرْجِعُ بِالدَّيْنِ إِنْ أَدَّاهُ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى إِنْ كَانَ أَقَل، وَيَرْجِعُ بِالأَْقَل مِمَّا أَدَّى وَمِنَ الدَّيْنِ إِنْ صَالَحَ عَنِ الدَّيْنِ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ رُجُوعُهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ حَصَل الْبَرَاءَةُ مِنْهُ بِمَا فَعَل، وَالْمُسَامَحَةُ جَرَتْ مَعَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِأَقَل الأَْمْرَيْنِ مِمَّا قَضَى أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الأَْقَل الدَّيْنَ فَالزَّائِدُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ أَقَل، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ. وَإِنْ دَفَعَ عَنِ الدَّيْنِ عَرَضًا رَجَعَ بِأَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى الْمُؤَجَّل قَبْل أَجَلِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْل أَجَلِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ لَهُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ لِلْغَرِيمِ، فَإِنْ أَحَالَهُ كَانَتِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ تَقْبِيضِهِ، وَيَرْجِعُ بِالأَْقَل مِمَّا أَحَال بِهِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْغَرِيمُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ، أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ لِفَلَسٍ أَوْ مَطْلٍ، لأَِنَّ نَفْسَ الْحَوَالَةِ كَالإِْقْبَاضِ (2) .
انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ:
44 - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ يَعْنِي بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْكَفِيل
__________
(1) تحفة المحتاج 5 / 275، والقليوبي وعميرة 1 / 331، ونهاية المحتاج 4 / 446 وما بعدها.
(2) المغني مع الشرح الكبير 5 / 89، وكشاف القناع 3 / 359.(34/319)
مِمَّا الْتَزَمَ بِهِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ تَابِعَةً لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل تَابِعٌ لاِلْتِزَامِ الأَْصِيل، وَإِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ التَّبَعُ، كَمَا تَكُونُ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ، فَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ وَيَبْقَى الْتِزَامُ الأَْصِيل، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِهَاءِ الاِلْتِزَامِ التَّابِعِ انْتِهَاءُ الاِلْتِزَامِ الأَْصْلِيِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لاِنْتِهَاءِ الْكَفَالَةِ حَالَتَانِ: انْتِهَاؤُهَا تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأَْصِيل، وَانْتِهَاؤُهَا بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ.
أ - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْتِزَامِ الأَْصِيل:
45 - تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِانْقِضَاءِ الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ، كَالأَْدَاءِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْنٌ ف 70 - 78) .
أَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْعَيْنِ فَتَنْتَهِي بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ.
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فِي الْبَدَنِ فَتَنْتَهِي بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول بِبَدَنِهِ أَوْ مَوْتِهِ (1) .
ب - انْتِهَاءُ الْكَفَالَةِ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ:
تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِصِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ بِمَا يَأْتِي:
1 - مُصَالَحَةُ الْكَفِيل الدَّائِنَ:
46 - إِذَا صَالَحَ الْكَفِيل الدَّائِنَ عَلَى بَعْضِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 294، وكشاف القناع 3 / 359.(34/319)
الدَّيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ، انْتَهَتِ الْكَفَالَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ كُلِّهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الأَْصِيل إِزَاءَ دَائِنِهِ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيل عَلَى الْمَدِينِ وَفْقًا لِلشُّرُوطِ وَلِلأَْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا (ر: ف 39) .
2 - الإِْبْرَاءُ:
47 - إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْكَفِيل مِنَ الْتِزَامِهِ، فَإِنَّ هَذَا الإِْبْرَاءَ يُعَدُّ مِنْهُ تَنَازُلاً عَنِ الْكَفَالَةِ، وَتَنْتَهِي بِذَلِكَ. (ر: إِبْرَاءٌ ف 14) .
3 - إِلْغَاءُ عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
48 - إِذَا بَطَل عَقْدُ الْكَفَالَةِ، أَوْ فُسِخَ، أَوِ اسْتَعْمَل الْمَكْفُول لَهُ حَقَّ الْخِيَارِ، أَوْ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكَفَالَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفِيل، دُونَ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الأَْصِيل نَحْوَ دَائِنِهِ (ر: ف 7) .
4 - مَوْتُ الْكَفِيل بِالْبَدَنِ:
49 - إِذَا مَاتَ الْكَفِيل فِي ضَمَانِ الْوَجْهِ أَوْ فِي ضَمَانِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْتَهِي؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى إِحْضَارِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَلاَ التَّفْتِيشِ عَنْهُ أَوِ الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 4 وما بعدها، والتاج والإكليل 5 / 105 - 106، وتحفة المحتاج 5 / 258، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 96.(34/320)
5 - تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَكْفُولَةِ:
50 - إِذَا سَلَّمَ الْكَفِيل الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ بِنَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً، أَوْ رَدَّ مِثْلَهَا أَوْ دَفَعَ قِيمَتَهَا إِنْ كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْتِزَامِهِ، وَتَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 254، وفتح القدير 6 / 289، والدسوقي 3 / 334، والمحلى على المنهاج 2 / 329، والمغني والشرح الكبير 5 / 75(34/320)
كِفَايَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِفَايَةُ لُغَةً: مِنْ كَفَى يَكْفِي كِفَايَةً.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: مَا يَحْصُل بِهِ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَال: اكْتَفَيْتُ بِالشَّيْءِ: أَيِ اسْتَغْنَيْتُ بِهِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ بِالآْيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ (2) .
وَمِنْهَا: الْقِيَامُ بِالأَْمْرِ. فَيُقَال: اسْتَكْفَيْتُهُ أَمْرًا فَكَفَانِيهِ: أَيْ قَامَ بِهِ مَقَامِي، وَيُقَال: كَفَاهُ الأَْمْرَ إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ فَهُوَ كَافٍ وَكَفِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (3) .
وَمِنْهَا: سَدُّ الْخُلَّةِ أَيِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغُ الأَْمْرِ
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، والمصباح المنير للفيومي، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (كفى) ، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص437، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4 / 193، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 4 / 368.
(2) حديث: " من قرأ بالآيتين من آخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 55) ، ومسلم (1 / 555) من حديث أبي مسعود، واللفظ للبخاري.
(3) سورة الزمر / 36.(35/5)
فِي الْمُرَادِ، فَيُقَال: كَفَاهُ مَئُونَتَهُ يَكْفِيه كِفَايَةً، وَمِنْهُ الْكَفِيَّةُ: وَهِيَ مَا يَكْفِي الإِْنْسَانَ مِنَ الْعَيْشِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ لِلْكِفَايَةِ عِدَّةُ اسْتِعْمَالاَتٍ مِنْهَا:
الْكِفَايَةُ بِمَعْنَى: الأَْفْعَال الْمُهِمَّةِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ وُجُودَهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِ الأُْمَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تِلْكَ الأَْفْعَال فُرُوضُ الْكِفَايَاتِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ.
وَبِمَعْنَى: أَهْلِيَّةُ الشَّخْصِ لِلْقِيَامِ بِالأَْفْعَال الْمُهِمَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الأُْمَّةِ، كَالْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ وَالْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَقْصُودِ الْوِلاَيَةِ وَوَسَائِل تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ.
وَبِمَعْنَى: سَدُّ الْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ لِلشَّخْصِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَال مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ - الْكَفَافُ
2 - الْكَفَافُ لُغَةً مِنْ كَفَّ بِمَعْنَى: تَرَكَ،
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني 3 / 106، والأحكام السلطانية للماوردي ص22، والغياثي ص90، 91.(35/5)
يُقَال: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا: تَرَكَهُ، وَيُقَال: كَفَفْتُهُ كَفًّا: مَنَعْتُهُ، وَيُقَال: قُوتُهُ كَفَافٌ: أَيْ مِقْدَارُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَكُفُّ عَنْ سُؤَال النَّاسِ وَيُغْنِي عَنْهُمْ، وَيُقَال: اسْتَكَفَّ وَتَكَفَّفَ إِذَا أَخَذَ بِبَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ سَأَل كَفًّا مِنَ الطَّعَامِ، أَوْ مَا يَكُفُّ بِهِ الْجُوعَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَعَلَى ذَلِكَ عَرَّفَهُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: (مَا كَانَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلاَ يَفْضُل مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَكُفُّ عَنِ السُّؤَال (2)) .
وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْكَفَافِ فِي الإِْنْسَانِ عَنْ حَدِّ الْكِفَايَةِ، مِنْ أَنَّ حَدَّ الْكَفَافِ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ الْقُصْوَى مِنْ مَطْعَمٍ وَمَسْكَنٍ وَمَلْبَسٍ، أَمَّا حَدُّ الْكِفَايَةِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا لاَ بُدَّ لِلإِْنْسَانِ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، مِنْ نِكَاحٍ وَتَعْلِيمٍ وَعِلاَجٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَمَا يَتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَلاَبِسَ وَحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ب - الْحَاجَةُ
3 - الْحَاجَةُ لُغَةً: الاِفْتِقَارُ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِضْطِرَارُ إِلَيْهِ، جَمْعُهَا حَاجَاتٌ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، والمصباح المنير للفيومي مادة (كفّ) .
(2) التعريفات للجرجاني ص237.(35/6)
وَحَوَائِجُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَاجَةُ مَا يَفْتَقِرُ الإِْنْسَانُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَبْقَى بِدُونِهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا عُلَمَاءُ الأُْصُول بِأَنَّهَا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - فِي الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ التَّضَادُّ.
الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ:
4 - نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى حَاجَاتِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَطَلَبَ مِنَ النَّاسِ الْقِيَامَ بِهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ تُسَمَّى (الأَْمْرَ الْكِفَائِيَّ) ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل لِذَلِكَ.
أَقْسَامُ الأَْمْرِ الْكِفَائِيِّ
الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأُْمَّةِ كَمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ تُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ، وَلِذَلِكَ يَنْقَسِمُ الأَْمْرُ الْكِفَائِيُّ إِلَى: فَرْضِ كِفَايَةٍ، وَسُنَّةِ كِفَايَةٍ.
أ - فَرْضُ الْكِفَايَةِ:
5 - فَرْضُ الْكِفَايَةِ هُوَ: أَمْرٌ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لاَ يَنْتَظِمُ الأَْمْرُ إِلاَّ
__________
(1) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة مادة (حوج) .
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) الموافقات للشاطبي 2 / 10.(35/6)
بِحُصُولِهَا، قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهَا مِنْ مَجْمُوعِ الْمُكَلَّفِينَ لاَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ (1) .
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَلِفُ عَنْ (فَرْضِ الْعَيْنِ) ، وَهُوَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُل فَرْدٍ مِنَ الأَْفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ (2) ، مِثْل الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ لاَ يَسْقُطُ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَأَهَمُّ وُجُوهِ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمَا
أ - أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ مَثَلاً، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَمُنَاجَاتُهُ وَالتَّذَلُّل إِلَيْهِ وَالْمُثُول بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّفَهُّمُ لِخِطَابِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِهِ، وَهَذِهِ مَصَالِحُ تَتَكَرَّرُ كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الصَّلاَةُ فَتَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ.
أَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَلاَ تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ كَنُزُول الْبَحْرِ لإِِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ لاَ تَتَكَرَّرُ بِنُزُول كُل مُكَلَّفٍ، فَإِذَا أَنْقَذَ الْغَرِيقَ إِنْسَانٌ تَحَقَّقَتِ الْمَصْلَحَةُ بِنُزُولِهِ، وَالنَّازِل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْبَحْرِ لاَ تَحْصُل مِنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 123، الدر المنتقي بحاشية مجمع الأنهر للحلبي 1 / 632، وتهذيب الفروق 1 / 127، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 33، والبحر المحيط للزركشي 1 / 242، والأشباه والنظائر للسيوطي 410، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 33.
(2) الإحكام للآمدي 1 / 76، وشرح البدخشي 1 / 45(35/7)
مَصْلَحَةُ إِنْقَاذِ ذَلِكَ الْغَرِيقِ، فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى الْكِفَايَةِ نَفْيًا لِلْعَبَثِ فِي الأَْفْعَال (1) .
ب - فَرْضُ الْعَيْنِ يُقْصَدُ مِنْهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي حِينِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ حُصُول الْفِعْل دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْفَاعِل (2) .
ج - فَرْضُ الْعَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْفَرْدِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ فِي مَجَال الأَْمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ مَصْلَحَةِ الْمُجْتَمَعِ وَرَفْعِ شَأْنِهِ (3) .
د - فَرْضُ الْعَيْنِ يُطَالَبُ بِهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، وَلاَ يَسْقُطُ الإِْثْمُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ، لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى التَّارِكِينَ لَهُ، فِي حِينِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ عَنِ التَّارِكِينَ لَهُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَكَانَ كَافِيًا (4) .
ب - سُنَّةُ الْكِفَايَةِ:
6 - سُنَّةُ الْكِفَايَةِ مِثْل ابْتِدَاءِ السَّلاَمِ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ مِنْ جَمَاعَةٍ وَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنْ سُنَّةِ الْعَيْنِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصِيَامِ الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَالطَّوَافِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ (5) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 166، والأشباه والنظائر للسبكي 2 / 89.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 242.
(3) الدر المنتقي على هامش مجمع الأنهر 1 / 632.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 538، 4 / 123، وكشاف القناع 3 / 33.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 538، والبحر المحيط 1 / 243، والفروق للقرافي 1 / 177، ومغني المحتاج 4 / 214، ونهاية المحتاج 8 / 53.(35/7)
الْمَصَالِحُ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ
مِنْ مَصَالِحِ الأُْمَّةِ مَا يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ وَهُوَ أَقْسَامٌ
أَوَّلاً: الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ
7 - مِنْهَا الاِشْتِغَال بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ كَطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَصْنِيفِ كُتُبِهِ، وَحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحِفْظِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ وَحَل الْمُشْكِلاَتِ وَالاِجْتِهَادِ فِي الْقَضَايَا الْمُسْتَجَدَّةِ.
وَمِنْهَا إِقَامَةُ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالأَْذَانِ وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَالاِعْتِكَافِ وَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلاَةِ وَالطَّوَافِ وَالأُْضْحِيَةِ.
وَمِنْهَا الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَإِفْشَاءُ السِّلاَمِ وَرَدُّهُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
ثَانِيًا: الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ
8 - مِنْهَا الاِشْتِغَال بِالْعُلُومِ الْحَيَاتِيَّةِ وَتَعَلُّمُ أُصُول الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ كَالصَّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ.(35/8)
ثَالِثًا: الْمَصَالِحُ الْمُشْتَرَكَةُ
9 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تُوجَدُ مَصَالِحُ مُشْتَرَكَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ طَلَبَ الشَّرْعُ مِنَ الأُْمَّةِ فِعْلَهَا.
مِنْهَا تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا، وَالْتِقَاطُ اللَّقِيطِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَغُسْل الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ، وَالْقِيَامُ بِالْوِلاَيَاتِ وَالْوَظَائِفِ، وَبَيَانُهَا كَالتَّالِي:
أ - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا
10 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُشْهَدُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا كَانَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ عَنِ التَّحَمُّل أَثِمُوا جَمِيعًا، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ التَّحَمُّل فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، لأَِنَّ التَّحَمُّل يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَيُخْشَى ضَيَاعُ الْحُقُوقِ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (2) ، فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآْيَةُ الأَْمْرَيْنِ: التَّحَمُّل وَالأَْدَاءَ.
__________
(1) الهداية 3 / 16، ومجمع الأنهر 2 / 115، 186، والشرح الصغير 4 / 284، والقوانين الفقهية 339، وأسهل المدارك 3 / 212، والمهذب 2 / 324، وأدب القضاء لابن أبي الدم 322، والأشباه للسيوطي 414، والإنصاف 12 / 3، والكافي لابن قدامة 3 / 515.
(2) سورة البقرة / 282.(35/8)
وَأَمَّا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُتَحَمِّل إِذَا طَلَبَهَا الْمُدَّعِي فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّلُونَ جَمَاعَةً، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَثِمُوا جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَحَمِّل وَاحِدًا تَعَيَّنَ الأَْدَاءُ فِيهِ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَدَلِيل الْفَرْضِيَّةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (شَهَادَةٌ ف 5) .
ب - الْتِقَاطُ اللَّقِيطِ
11 - اللَّقِيطُ: هُوَ الطِّفْل الْمَنْبُوذُ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ فِي الشَّرْعِ الإِْسْلاَمِيِّ تَسْتَحِقُّ الْحِفْظَ وَالرِّعَايَةَ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْتِقَاطَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ الْوَاجِدُونَ لَهُ جَمَاعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ فَرْدًا وَاحِدًا وَخَافَ عَلَيْهِ الْهَلاَكَ إِنْ تَرَكَهُ صَارَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلاَ يَحِل لَهُ تَرْكُهُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (لَقِيطٌ) .
ج - عِيَادَةُ الْمَرِيضِ:
12 - الْمَرِيضُ: هُوَ الَّذِي أُصِيبَ بِمَرَضٍ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) الدر المنتقى مع مجمع الأنهر 1 / 710، والهداية 2 / 173، والشرح الصغير 4 / 178، والقوانين الفقهية 372، والمهذب 1 / 441، والمنثور 3 / 73، والأشباه للسيوطي 413، والكافي لابن قدامة 2 / 363.(35/9)
يُضْعِفُ جِسْمَهُ وَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُوَاسِيهِ وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ وَيَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ لِحَدِيثِ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيل: وَمَا هِيَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْعِيَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْعْيَانِ، لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَرِيضِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَال بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَصَوَّبَهُ (2) .
__________
(1) حديث: " حق المسلم على المسلم ست. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1705) .
(2) الهداية 3 / 103، والشرح الصغير 4 / 763، ومغني المحتاج 1 / 329، والمغني 2 / 449، والإنصاف 2 / 461، والآداب الشرعية 3 / 554، وصحيح البخاري 7 / 3 باب وجوب عيادة المريض.(35/9)
وَالتَّفْصِيل فِي (عِيَادَةٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - غُسْل الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَتَشْيِيعُهُ وَدَفْنُهُ:
13 - غُسْل الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَمَاتَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 2) .
وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَيِّتِ غَيْرِ الشَّهِيدِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ بَعِيرِهِ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (تَكْفِينٌ ف 2، 3) .
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 182، والقوانين الفقهية 108، والشرح الصغير 1 / 543، 2 / 273، وأسهل المدارك 1 / 351، والمهذب 1 / 134، والمنثور 3 / 37، والأذكار للنووي 141، ورحمة الأمة 64، والإفصاح 1 / 182، الإنصاف 2 / 470، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(2) حديث: " اغسلوه بماء وسدر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 137) ، ومسلم (2 / 866) من حديث ابن عباس.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين. . . ". # أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 137) ، ومسلم (2 / 866) من حديث ابن عباس، واللفظ للبخاري.(35/10)
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا عَلَى مَنْ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ ف 20) .
وَأَمَّا تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) ، لِحَدِيثِ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ. . . وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جَنَائِزُ ف 14) .
وَأَمَّا دَفْنُ الْمَيِّتِ فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (5) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (6) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دَفْنٌ ف 2) .
__________
(1) مجمع الأنهر والدر المنتقى 1 / 182، والشرح الصغير 1 / 543، 2 / 273، والمنثور 3 / 37، والمهذب 1 / 139، والأذكار 141، والأشباه للسيوطي 411، ورحمة الأمة 64، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 182، والإنصاف 2 / 472، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(2) حديث: " صلوا على من قال: لا إله إلا الله ". أخرجه الدارقطني (2 / 56) من حديث ابن عمر، وذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 35) أن في إسناده راويًا اتهم بالكذب.
(3) الهداية 3 / 103، والفواكه الدواني 1 / 339، والأشباه للسيوطي 411، والآداب الشرعية 3 / 554.
(4) حديث: " حق المسلم على المسلم ست. . . وإذا مات فاتبعه ". سبق تخريجه ف (12) .
(5) مجمع الأنهر 1 / 182، والمقدمات لابن رشد 1 / 176، والأشباه للسيوطي 411، والإنصاف 2 / 470، والفتاوى لابن تيمية 28 / 80.
(6) سورة عبس / 21.(35/10)
الْكِفَايَةُ فِي الْوِلاَيَاتِ وَالْوَظَائِفِ
14 - الْوِلاَيَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلإِْنْسَانِ لِتَنْظِيمِ مَا يَنْشَأُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ تَعَاوُنٍ، وَمَنْعِ التَّظَالُمِ، وَحِفْظِ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا، وَإِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَحِمَايَتِهِ، وَوَقْفِ الْمُعْتَدِي عَنْ عُدْوَانِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ نَصْبَ الإِْمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ تَنْصِيبُ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (1) ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (3) .
الْمُكَلَّفُ بِتَحْقِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى
15 - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الإِْمَامَةَ الْعُظْمَى فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ حُرِّجَ النَّاسُ جَمِيعًا، وَيُطَالَبُ بِهَا فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ هُمَا:
__________
(1) البدائع 7 / 2، والشرح الصغير 2 / 273، والأحكام السلطانية للماوردي 5، والأشباه للسيوطي 414، والأحكام السلطانية للفراء 19، والآداب الشرعية 3 / 554.
(2) سورة النساء / 59.
(3) حديث: " إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ". أخرجه أبو داود (3 / 81) من حديث أبي هريرة.(35/11)
أ - أَهْل الاِخْتِيَارِ، أَوْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَنُوبُونَ عَنِ الأُْمَّةِ فِي اخْتِيَارِ الْخَلِيفَةِ.
ب - أَهْل الإِْمَامَةِ: وَهُمُ الَّذِينَ تَوَافَرَتْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الإِْمَامَةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْوِلاَيَاتِ الأُْخْرَى وَالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (إِمَارَةٌ ف 4، وَإِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا، وَقَضَاءٌ، وَفَتْوَى) .
الْكِفَايَةُ فِي حَاجَاتِ الأَْفْرَادِ الْخَاصَّةِ:
16 - تَكُونُ كِفَايَةُ الإِْنْسَانِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَدْفَعُ عَنِ الإِْنْسَانِ الْهَلاَكَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَحَال مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ (2) .
وَتَوْفِيرُ حَدِّ الْكِفَايَةِ لِلأَْفْرَادِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَذَلِكَ عَلَى الْفَرْدِ نَفْسِهِ أَوَّلاً ثُمَّ عَلَى أَقَارِبِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَتَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا قِوَامُ الْعَيْشِ وَسَدَادُ الْخُلَّةِ مُعْتَبَرٌ فِي كُل إِنْسَانٍ بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 5، 6، والأحكام السلطانية للفراء 19، 20.
(2) ابن عابدين 2 / 262، وتبيين الحقائق 1 / 253، والزرقاني على خليل 2 / 174، والمغني لابن قدامة 3 / 222، ومغني المحتاج 3 / 106.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 377، وفتاوى الشاطبي 186، وحاشية القليوبي 4 / 215، وكشاف القناع 2 / 273.(35/11)
أ - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَل الْفَرْدِ نَفْسِهِ:
17 - بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الإِْنْسَانَ جُبِل عَلَى الاِهْتِمَامِ بِنَفْسِهِ وَتَوْفِيرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ بَيَّنَتْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَحُدُودَهَا عَلَى النَّفْسِ فَقَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا (2) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا (3) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ أَوِ الْقَادِرَ عَلَى الْعَمَل يُكَلَّفُ بِالْقِيَامِ بِسَدِّ حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ بِنَفْسِهِ وَلاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ (4) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ (5) .
ب - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ مِنْ قِبَل الأَْقَارِبِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ الْوَاجِبَةَ عَلَى قَرِيبِهِ هِيَ نَفَقَةُ كِفَايَةٍ بِحَسَبِ
__________
(1) سورة الفرقان / 67.
(2) حديث: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها ". أخرجه مسلم (2 / 693) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " إن لنفسك عليك حقا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 209) من حديث أبي جحيفة.
(4) ابن عابدين 2 / 59، 64، والمجموع 6 / 135، 191، حاشية الدسوقي 1 / 454، 494، والمغني 2 / 661، 6 / 423.
(5) حديث: " لا تحل الصدقة لغني ولا. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 42) من حديث عبد الله بن عمرو قال: حديث حسن.(35/12)
حَاجَتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) ، فَيَجِبُ لَهُ بِذَلِكَ الْمَأْكَل وَالْمَشْرَبُ وَالْمَلْبَسُ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعُ إِنْ كَانَ رَضِيعًا وَالْخَادِمُ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَةٍ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ) .
ج - تَوْفِيرُ كِفَايَةِ الزَّوْجَةِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ (3) وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فِي مِقْدَارِهَا لِقَوْلِهِ لِهِنْدَ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ لِزَوْجَتِهِ مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ وَجَبَ اللاَّئِقُ بِالزَّوْجِ،
__________
(1) حديث: " خذي من ماله ما يكفيك وولدك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 405) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع 4 / 38، وفتح القدير 3 / 346، وحاشية الدسوقي 2 / 509، ونهاية المحتاج 7 / 210، وكشاف القناع 5 / 482 - 483، والمغني 7 / 595.
(3) مجمع الأنهر 1 / 490، وقوانين الأحكام ص 245، والمهذب 2 / 160، والمغني لابن قدامة 7 / 564.
(4) الحديث سبق تخريجه فقرة 18.(35/12)
وَيَجِبُ أُدْمُ غَالِبِ الْبَلَدِ وَكِسْوَةٌ تَكْفِيهَا، وَمَا تَقْعُدُ عَلَيْهِ أَوْ تَنَامُ عَلَيْهِ، وَإِخْدَامُهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا، وَيَجِبُ مَسْكَنٌ يَلِيقُ بِهَا، وَيَجِبُ فِي الْمَسْكَنِ إِمْتَاعٌ لاَ تَمْلِيكٌ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَفَقَةٌ) .
طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ:
تَتَعَدَّدُ طُرُقُ تَوْفِيرِ الْكِفَايَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ الزَّكَاةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى أَقَل مِنَ النِّصَابِ، فَإِذَا أُعْطِيَ نِصَابًا جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال زُفَرُ: لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ نِصَابًا، لأَِنَّ الْغِنَى قَارَنَ الأَْدَاءَ فَكَأَنَّ الأَْدَاءَ حَصَل لِلْغِنَى وَهُوَ لاَ يَجُوزُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَ الْعِيَال بِحَيْثُ لَوْ فُرِّقَ عَلَيْهِمْ لاَ يَخُصُّ كُلًّا مِنْهُمْ نِصَابًا وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالْبَغَوِيِّ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُل سَنَةٍ فَيَحْصُل كِفَايَتُهُ مِنْهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 426، وما بعدها.
(2) تبيين الحقائق 1 / 35، والهداية 2 / 28، ومجمع الأنهر 1 / 235، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 138، وابن عابدين 2 / 68.(35/13)
سَنَةً بِسَنَةٍ (1) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْبِسُ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمْرِ الْغَالِبِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مَرَّةً أُخْرَى (3) .
ب - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ بَيْتِ الْمَال:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لاَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ كِفَايَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهَا كَفُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ يُصْرَفُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال (4) .
ج - تَوْفِيرُ الْكِفَايَةِ عَنْ طَرِيقِ تَوْظِيفِ الضَّرَائِبِ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ فَرْضَ ضَرَائِبَ عَلَى الْقَادِرِينَ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَلِسَدِّ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 494، ومواهب الجليل 2 / 348، والمجموع 6 / 140، وكشاف القناع 2 / 272، والمبدع 2 / 426.
(2) حديث: " كان يحبس لأهله قوت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 502) ، ومسلم (3 / 1379) من حديث ابن عمر.
(3) المجموع 6 / 139، والأحكام السلطانية 205، والإنصاف 3 / 238، والأموال لأبي عبيد 750.
(4) بدائع الصنائع 2 / 68، 89، والشهب اللامعة لابن رضوان 372، والأحكام السلطانية للماوردي 140، والأحكام السلطانية للفراء 138.(35/13)
قَال القرطبي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَال إِلَيْهَا (1) .
__________
(1) القرطبي 2 / 242، وابن عابدين 2 / 57.(35/14)
كُفْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، يُقَال: كَفَرَ النِّعْمَةَ، أَيْ: غَطَّاهَا، مُسْتَعَارٌ مِنْ كَفَرَ الشَّيْءَ: إِذَا غَطَّاهُ، وَهُوَ أَصْل الْبَابِ.
وَالْكُفْرُ نَقِيضُ الإِْيمَانِ، وَالْكُفْرُ: كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ: جَحَدَهَا، وَكَفَرَ بِكَذَا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي} (1) ، وَيُقَال: كَفَرَ بِالصَّانِعِ: نَفَاهُ وَعَطَّل، وَهُوَ الدَّهْرِيُّ الْمُلْحِدُ، وَكَفَّرَهُ - بِالتَّشْدِيدِ: نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ: إِذَا فَعَل الْكَفَّارَةَ، وَأَكْفَرْتُهُ إِكْفَارًا: جَعَلْتُهُ كَافِرًا.
وَالْكُفْرُ شَرْعًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَإِنْكَارِ وُجُودِ الصَّانِعِ، وَنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) سورة إبراهيم / 22.
(2) المنثور في القواعد 3 / 84.(35/14)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
2 - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (1) .
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلاَفِ الرِّدَّةِ.
ب - الإِْشْرَاكُ:
3 - الإِْشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَال: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَل لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ. وَالاِسْمُ: الشِّرْكُ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْشْرَاكَ بِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى (3) .
وَالإِْشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الإِْشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَيَشْمَل الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
ج - الإِْلْحَادُ:
4 - الإِْلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول عَنِ الشَّيْءِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
__________
(1) لسان العرب، والصحاح والخرشي 8 / 62، والقليوبي 4 / 174.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) حاشية الجمل 3 / 177، 179، 4 / 199، والفواكه الدواني 1 / 91.
(4) المصباح المنير.(35/15)
الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْل عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الإِْلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِْلْحَادِ:
أَنَّ الإِْلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3) ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (4) .
جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
6 - جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (5) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 296.
(2) المستصفى 1 / 99، والزواجر لابن حجر 1 / 24، والفواكه الدواني 1 / 91.
(3) سورة لقمان / 13.
(4) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ، ومسلم (1 / 91) من حديث أبي بكرة
(5) سورة التغابن / 10.(35/15)
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْل الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لأَِنَّ كُل مَنْ يُقَاتِل يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْل الْحَرْبِ ف 11)
وَلاَ يَجُوزُ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لاَ يُقَاتِل لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَل لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لاَ يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُقْتَل الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (1) .
(ر: جِهَادٌ ف 29) .
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْل الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ) .
الإِْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
7 - مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
__________
(1) المغني 8 / 479.(35/16)
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَمَّارًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلاَلاً فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: أَحَدٌ أَحَدٌ (3) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (4) ، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْقْرَارِ (5) .
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حديث: " أن عمارًا أخذه المشركون. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 357) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " تعذيب بلال وقوله: أحد أحد. . . ". أخرجه البيهقي في السنن (8 / 209) .
(4) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) ، والحاكم (2 / 198) واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(5) المغني 8 / 145 - 146، والبدائع 7 / 176 - 177، والدردير مع الدسوقي 2 / 369، والشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وأسنى المطالب 4 / 9.(35/16)
لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا (1) ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَوْ سَبَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ (2) .
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لاَ يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَل وَقَال: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلاَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لأَِنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَل مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لاَ قَضَاءً وَلاَ دِيَانَةً، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ
__________
(1) البدائع 7 / 176.
(2) تكملة فتح القدير والهداية 8 / 174 نشر دار إحياء التراث، وأشباه ابن نجيم ص 282.(35/17)
يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْل وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لاَ فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لأَِنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الإِْكْرَاهِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْقَتْل فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَل جَازَ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْل كَالضَّرْبِ وَقَتْل الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَال وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 83 - 84، وتكملة فتح القدير 8 / 174 - 176.
(2) بدائع الصنائع 7 / 176 - 177، وتكملة فتح القدير 8 / 175.
(3) سورة النحل / 106.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 369.(35/17)
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال عَلَى بَعْضِ الأَْشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} ، ثُمَّ قَال: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الإِْكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَال نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ (2) .
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لإِِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَال عَنْهُ الإِْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلاَمِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لأَِنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ (3) .
8 - وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ
__________
(1) أسنى المطالب مع هامشه حاشية الرملي 4 / 9.
(2) المغني 8 / 145، 146.
(3) المغني 8 / 146.(35/18)
عَلَى الإِْيمَانِ مَعَ الإِْكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْل أَفَضْل مِنَ الإِْقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِل كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُل فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَل فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الأَْفْضَل الإِْتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ (2) .
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الإِْنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالأَْفْضَل أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ.
أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
9 - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلاً، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ
__________
(1) حديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 315 - 316) من حديث خباب بن الأرت.
(2) الشبراملسي مع نهاية المحتاج 7 / 247، وحاشية الجمل 5 / 9.(35/18)
تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (1) .
مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
10 - الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالأَْوَّل: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ (2) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِدَّةٌ ف 10 - 21) .
مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
11 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: حُصُول الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
__________
(1) البدائع 7 / 102 - 103، وينظر المغني 8 / 362، والشبراملسي بهامش نهاية المحتاج 2 / 421.
(2) الفروق للقرافي 1 / 123 - 124، وتهذيب الفروق بهامشه 1 / 136 - 137.(35/19)
التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُول الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلاً (1) .
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ - مَذَاهِبُ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الإِْيمَانِ بِالْمُرْسَل كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلاَةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (2) ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) .
فَالآْيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْل وَالزِّنَا، لاَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 1 / 397 - 398.
(2) سورة المدثر / 42 - 43.
(3) سورة الفرقان / 68 - 69.(35/19)
الْكُفْرِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ.
وَكَذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَال، وَذَمَّ قَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِانْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى تَعْذِيبِ الْكَافِرِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْل الْمَشَايِخِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاءِ الْبُخَارِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفِرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الإِْبْيَارِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِمِنْدَادَ الْمَالِكِيُّ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالإِْيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ كَذَلِكَ.
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 398، 399، والحطاب 2 / 413، وحاشية الجمل 2 / 285، وكشاف القناع 1 / 223، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 3 / 231.(35/20)
أَمَّا فِي حَقِّ الأَْدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلاَفِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مُخَاطَبَتِهِمْ بِالْفُرُوعِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ لاَ تُتَصَوَّرُ مَعَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا فَلاَ مَعْنًى لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهِ فِي الْكُفْرِ وَمَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ لَوْ أَسْلَمَ، فَكَيْفَ يَجِبُ مَا لاَ يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ (1) ؟ .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الأَْوَامِرِ، لأَِنَّ الاِنْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكْلِيفُ بِهَا دُونَ الأَْوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَ الأَْوَامِرِ الْعَزِيمَةُ، وَفِعْل التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْل بِالْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالأَْوَامِرِ.
وَنَقَل ذَلِكَ الْقَوْل صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقِيل: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالأَْوَامِرِ فَقَطْ.
وَقِيل: إِنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ.
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 91، 92، وفواتح الرحموت 1 / 128، والبحر المحيط 1 / 399، 400، وحاشية ابن عابدين 2 / 4، والحطاب 2 / 413، والفواكه الدواني 1 / 407، والفروق للقرافي 3 / 207، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.(35/20)
وَقِيل: إِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ.
وَقِيل: بِالتَّوَقُّفِ (1) .
وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تُجَاهَ الْكُفَّارِ
12 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، وَلاَ يُقَاتَلُونَ قَبْل الدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ لأَِنَّ قِتَال الْكُفَّارِ لَمْ يُفْرَضْ لِعَيْنِ الْقِتَال بَل لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالدَّعْوَةُ بِالْبَيَانِ أَهْوَنُ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقِتَال لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتُمِل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا، وَقَدْ " رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُقَاتِل الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ " (3) .
ثُمَّ إِذَا دَعَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) البحر المحيط 1 / 401، وفواتح الرحموت 1 / 128، وتهذيب الفروق 3 / 231 - 232.
(2) سورة النحل / 125.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام ". ورد ضمن حديث بريدة أنه كان إذا أمر أميرًا أمره بذلك، أخرجه مسلم (3 / 1357) .(35/21)
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (1) ، فَإِنْ أَبَوُا الإِْجَابَةَ إِلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ (2) وَإِنْ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ وَوَثِقُوا بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جَهْدَهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِزْيَةٌ ف 25 - 30، وَجِهَادٌ ف 24) .
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ
13 - قَال الْقَرَافِيُّ: أَحْوَال الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ وَأَجْرُ الإِْجَارَاتِ وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلاَ يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ وَلاَ الْغَصْبُ وَلاَ النَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا لأَِنَّهُ عَقَدَ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". سبق تخريجه ف 6.
(2) حديث: " فإن هم أبوا فسلهم الجزية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1357) .
(3) بدائع الصنائع 7 / 100، والمغني 8 / 361، 362، والمواق بهامش الحطاب 3 / 350.(35/21)
الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَلْزَمُهُ - وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا - مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ لاَ ظِهَارٌ وَلاَ نَذْرٌ وَلاَ يَمِينٌ مِنَ الأَْيْمَانِ وَلاَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَلاَ الزَّكَوَاتِ وَلاَ شَيْءٌ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (1) .
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْهَا رَضِيَ بِهِ حَال كُفْرِهِ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، فَهَذَا لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ لِرِضَاهُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ كَالْقَتْل وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ إِنَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لأَِنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَمْ يَرْضَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الإِْسْلاَمَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعِبَادَاتُ وَنَحْوُهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلَمَّا
__________
(1) حديث: " الإسلام يهدم ما كان قبله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 112) من حديث عمرو بن العاص.(35/22)
كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِحُصُول الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.
وَأَمَّا حَقُّ الآْدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الآْدَمِيِّينَ وَالإِْسْلاَمُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَل لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَاسَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيل حَقِّ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ تُنَاسِبُ رَحْمَتُهُ الْمُسَامَحَةَ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ، وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَا بِهِ (1) .
مُعَامَلَةُ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
14 - أَمَرَ الإِْسْلاَمُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا سَوَاءً أَكَانَ الْوَالِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَمْ كَافِرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 3) .
نَجَاسَةُ الْكَافِرِ وَطَهَارَتُهُ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْحَيَّ طَاهِرٌ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 184 - 185، وينظر المنثور في القواعد للزركشي 3 / 100، والبحر المحيط 1 / 409، وأسنى المطالب 4 / 209.(35/22)
لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ، وَالآْدَمِيُّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا (1) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (3) ، نَجَاسَةَ الأَْبْدَانِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَجَاسَةُ مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ (4) .
مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُصْحَفِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْكَافِرُ الْمُصْحَفَ إِذَا اغْتَسَل، لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَال بِالْغُسْل، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لاَ فِي يَدِهِ (5) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ أَنْ يَحْمِل حِرْزًا مِنْ قُرْآنٍ وَلَوْ بِسَاتِرٍ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى امْتِهَانِهِ (6) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 148، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 50، ونهاية المحتاج 1 / 221، وكشاف القناع 1 / 193.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) سورة التوبة / 28.
(4) حديث: " ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد وهو ثمامة بن أثال " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 555) ، ومسلم (3 / 1386) من حديث أبي هريرة
(5) بدائع الصنائع 1 / 37، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 119.
(6) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 126.(35/23)
دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2) .
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُرَادٌ بِهِ الْحَرَمُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى} (3) ، إِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.
أَمَّا الْمَسَاجِدُ الأُْخْرَى غَيْرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَى عِيَاضٌ الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ فَقَال: قُل لِكَاتِبِكَ هَذَا: يَقْرَأُ لَنَا كِتَابًا، فَقَال: إِنَّهُ لاَ يَدْخُل الْمَسْجِدَ، فَقَال: لِمَ؟ أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَال: لاَ، هُوَ نَصْرَانِيٌّ، قَال: فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ.
فَإِنْ دَخَل مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ لِمَا رَوَتْ أُمُّ غُرَابٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ فَنَزَل
__________
(1) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 531، والدسوقي 1 / 139، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 248.
(2) سورة التوبة / 28.
(3) سورة الإسراء / 1.(35/23)
فَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.
وَإِنْ وَفَدَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَكُنْ لِلإِْمَامِ مَوْضِعٌ يُنْزِلُهُمْ فِيهِ جَازَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (2) ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُول، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ نَجَّارٌ أَوْ بَنَّاءٌ وَغَيْرُهُ وَالْمَسْجِدُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ لَكِنْ كَانَ الْكَافِرُ أَتْقَنَ لِلصَّنْعَةِ، فَلَوْ وُجِدَ مُسْلِمٌ مُمَاثِلٌ لَهُ فِي إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ لَكِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمُسْلِمِ أَزْيَدَ مِنْ أُجْرَةِ الْكَافِرِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَإِلاَّ كَانَ مِنْهَا عَلَى الظَّاهِرِ.
وَإِذَا دَخَل الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ لِلْعَمَل فَيُنْدَبُ أَنْ يَدْخُل مِنْ جِهَةِ عَمَلِهِ (4) .
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ.
__________
(1) المهذب 2 / 259، والمغني 8 / 532.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة في مسجد المدينة. أورده الشيرازي في المهذب (2 / 259) ، ولم نهتد إلى من أخرجه من المصادر الحديثية
(3) حديث: " ربط ثمامة بن أثال في المسجد ". تقدم في ف 15.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 139.(35/24)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُول الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَمْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي مَسْجِدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ (1) ، وَلأَِنَّ الْخُبْثَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} مَحْمُولٌ عَلَى الْحُضُورِ اسْتِيلاَءً وَاسْتِعْلاَءً، أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ الْمَمْنُوعُ نَفْسَ الدُّخُول (2) .
تَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ:
18 - قَال الإِْسْنَوِيُّ: لَوْ كَانَ - أَيِ الْمُحْتَضِرُ - كَافِرًا لُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِمَا (3) ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَال لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَال لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ (4) .
وَتَلْقِينُ الْكَافِرِ الْمُحْتَضِرِ الشَّهَادَةَ يَكُونُ
__________
(1) حديث: " إنزال وفد ثقيف في مسجده صلى الله عليه وسلم ". ذكره ابن إسحاق في سيرته كما في السيرة النبوية لابن هشام (4 / 184) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 148، 5 / 248.
(3) حاشية الجمل 2 / 136.
(4) حديث: " كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 219) .(35/24)
وُجُوبًا إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ إِسْلاَمُهُ فَيُنْدَبُ ذَلِكَ.
قَال الْجَمَل: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُلَقَّنُ إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ وَإِنْ بَلَغَ الْغَرْغَرَةَ وَلاَ بُعْدَ فِيهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ حَاضِرًا وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا خِلاَفُهُ وَإِنْ كُنَّا لاَ نُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ (1) .
وِلاَيَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَوِلاَيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ
19 - لاَ يُعْتَبَرُ الْكَافِرُ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلاَيَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ إِلاَّ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ كَوِلاَيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (3) . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْمُسْلِمَةَ، وَلاَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5) ، وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 136.
(2) سورة النساء / 141.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 312، والمهذب 2 / 37، والمغني 6 / 472، والدسوقي 2 / 221، والخرشي 3 / 181 - 182.
(5) سورة التوبة / 71.(35/25)
: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) .
ب - الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمْ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قَضَاءٌ ف 22) .
أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ:
20 - أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فِي الْحَال، وَلاَ يُنْظَرُ صِفَةُ عَقْدِهِمْ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ أَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَصِيغَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا فِي الْحَال مَعًا أَنَّ لَهُمَا الْمَقَامَ عَلَى نِكَاحِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ وَلاَ رَضَاعٌ، وَقَدْ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ رَسُول
__________
(1) سورة الأنفال / 73.
(2) بدائع الصنائع 7 / 3، والدسوقي 4 / 129، والمهذب 2 / 291، وكشاف القناع 6 / 295، والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.(35/25)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ وَلاَ كَيْفِيَّتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ يَقِينًا، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الْحَال فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا أُقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا كَإِحْدَى الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ أَوِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لَمْ يُقَرَّ (1) .
وَإِنْ أَسْلَمَ الْحُرُّ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ وَيُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْلاَنَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى تِسْعِ نِسْوَةٍ: أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُسْلِمِ الآْخَرُ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الآْخَرُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ وَإِسْلاَمٌ ف 5) .
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ كَافِرَةً وَنِكَاحُ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً:
21 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِمَّنْ لاَ كِتَابَ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 310، والدسوقي 2 / 267، 269، والمهذب 2 / 53، والمغني 6 / 613.
(2) المهذب 2 / 53، والمغني 6 / 620، والبدائع 2 / 314، والدسوقي 2 / 271 - 272. وحديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 183) وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 169) : رجال إسناده ثقات(35/26)
لَهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لاَ يَحْصُل السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ (3) .
50
22 - وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زَوَاجُ الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ تَزَوَّجُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ فَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَسْلَمَتْ عِنْدَهُ، وَتَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِيَهُودِيَّةٍ مِنْ أَهْل الْمَدَائِنِ (5) . وَإِنَّمَا جَازَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إِسْلاَمِهَا،
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) البدائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 592.
(3) بدائع الصنائع 2 / 270.
(4) سورة المائدة / 5.
(5) بدائع الصنائع 2 / 270، والدسوقي 2 / 267، والمهذب 2 / 45، والمغني 6 / 589.(35/26)
لأَِنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ وَالرُّسُل فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَمَعَ الْحُكْمِ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الزَّوَاجُ مِنْهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيل إِلَيْهَا فَتَفْتِنَهُ عَنِ الدِّينِ، أَوْ يَتَوَلَّى أَهْل دِينِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَالْكَرَاهِيَةُ أَشَدُّ، لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ أَيْضًا، وَلأَِنَّهُ يُكْثِرُ سَوَادَ أَهْل الْحَرْبِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُسْبَى وَلَدُهُ مِنْهَا فَيُسْتَرَقُّ.
وَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّذِينَ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ: طَلِّقُوهُنَّ فَطَلَّقُوهُنَّ إِلاَّ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: طَلِّقْهَا قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ (2) طَلِّقْهَا، قَال: تَشْهَدُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ قَال: هِيَ خَمْرَةٌ، قَال: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهَا خَمْرَةٌ، وَلَكِنَّهَا لِي حَلاَلٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ طَلَّقَهَا، فَقِيل لَهُ: أَلاَ طَلَّقْتَهَا حِينَ أَمَرَكَ عُمَرُ؟ قَال: كَرِهْتُ أَنْ يَرَى النَّاسُ أَنِّي رَكِبْتُ أَمْرًا لاَ يَنْبَغِي لِي (3) .
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا مَالِكٌ لأَِنَّهَا تَتَغَذَّى بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَتُغَذِّي وَلَدَهُ بِهِمَا، وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُضَاجِعُهَا وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ التَّغَذِّي، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِرَائِحَتِهِ، وَلاَ مِنَ الذَّهَابِ لِلْكَنِيسَةِ، وَقَدْ تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 270.
(2) وفي بعض النسخ " جمرة ".
(3) المهذب 2 / 45، والمغني 6 / 590، والدسوقي 2 / 267.(35/27)
فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَهِيَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ (1) .
23 - وَلاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) ، وَلأَِنَّ فِي نِكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفُ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إِلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَال فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنَ الأَْفْعَال وَيُقَلِّدْنَهُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ الآْيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (3) ، لأَِنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إِلَى النَّارِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إِلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ تَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ (4) .
24 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِأَهْل الْكِتَابِ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّوَاجِ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِّ الْكَافِرَةِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 267.
(2) سورة البقرة / 221.
(3) سورة البقرة / 221.
(4) بدائع الصنائع 2 / 271 - 272.(35/27)
كِتَابِيًّا وَالآْخَرُ وَثَنِيًّا.
وَكَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فَانْتَقَلَتْ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ،. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ) .
وَصِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
25 - إِسْلاَمُ الْمُوصِي لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ بِالْمَال لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ.
وَكَمَا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْكَافِرِ:
26 - قَال الْكَاسَانِيُّ: إِسْلاَمُ الْعَاقِدِ فِي الإِْجَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلاً، فَتَجُوزُ الإِْجَارَةُ وَالاِسْتِئْجَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لأَِنَّ هَذَا مِنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 98) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 176.(35/28)
27 - أَمَّا اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ فَإِنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَقِصَارَتِهِ جَازَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ " (1) .
أَمَّا إِجَارَتُهُ لِخِدْمَتِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلاَلَهُ لَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ ف 104) .
الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
: 28 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الْجَوَازِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: لاَ تَجُوزُ
__________
(1) حديث: " أن عليًا أجر نفسه من يهودي. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 53) .
(2) المغني 5 / 554.(35/28)
الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لأَِنَّ الْكَافِرَ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ. وَالتَّفْصِيل فِي (شَرِكَةٌ ف 41) .
الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَفَّارِ فِي الْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ (1) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بَحْرَةُ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُ لأَِتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُل فَقَال لَهُ كَمَا قَال لَهُ أَوَّل مَرَّةٍ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: قَال: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَال: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَال لَهُ كَمَا قَال أَوَّل مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَال: نَعَمْ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْطَلِقْ (2) .
__________
(1) المغني 8 / 414 - 415، والمهذب 2 / 231، وحاشية ابن عابدين 3 / 235، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 178.
(2) حديث عائشة: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1449 - 1450) .(35/29)
وَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (اسْتِعَانَةٌ ف 5، أَهْل الْكِتَابِ ف 11، جِهَادٌ ف 26) .
الْوَقْفُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَهُ:
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ وَقْفِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ.
كَمَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 361، حاشية الدسوقي 4 / 78، المهذب 1 / 448 وشرح منتهى الإرادات 2 / 493.(35/29)
كَفّ
التَّعْرِيفُ
: 1 - الْكَفُّ فِي اللُّغَةِ: رَاحَةُ الْيَدِ مَعَ الأَْصَابِعِ، يُؤَنَّثُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُذَكَّرُ، وَجَمْعُهَا كُفُوفٌ وَأَكُفٌّ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ.
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لأَِنَّهَا تَكُفُّ الأَْذَى عَنِ الْبَدَنِ.
وَتَكَفَّفَ الرَّجُل النَّاسَ وَاسْتَكَفَّهُمْ: مَدَّ كَفَّهُ إِلَيْهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (1) .
وَقِيل: مَعْنَى اسْتَكَفَّ النَّاسَ: أَخَذَ الشَّيْءَ بِيَدِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) حديث: " إنك إن تذر ورثتك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 123) ، ومسلم (3 / 1251) من حديث سعد بن أبي وقاص، واللفظ لمسلم.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمغرب في ترتيب المعرب مادة (كف) .(35/30)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْصْبَعُ:
2 - الإِْصْبَعُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى السُّلاَمَى وَالظُّفُرُ وَالأُْنْمُلَةُ وَالأُْطْرَةُ وَالْبُرْجُمَةُ مَعًا. وَيُسْتَعَارُ لِلأَْمْرِ الْحِسِّيِّ فَيُقَال: لَكَ عَلَى فُلاَنٍ إِصْبَعٌ كَقَوْلِكَ: لَكَ عَلَيْهِ يَدٌ، وَالْجَمْعُ أَصَابِعُ.
وَالإِْصْبَعُ مُؤَنَّثَةٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهَا مِثْل الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ، قَال الصَّغَانِيُّ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْغَالِبُ التَّأْنِيثُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْكَفِّ وَالإِْصْبَعِ الْجُزْئِيَّةُ حَيْثُ إِنَّ الإِْصْبَعَ أَحَدُ أَطْرَافِ الْكَفِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَفِّ:
أَوَّلاً: غَسْل الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غَسْل الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصْفَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعَا بِإِنَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَل يَمِينَهُ فِي الإِْنَاءِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة
(2) حديث " عثمان في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 259) ، ومسلم (1 / 204) واللفظ للبخاري.(35/30)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْغَسْل عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ غَسْلَهُمَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الْقَائِمِ مِنَ النُّوُمِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ غَسْل الْكَفَّيْنِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ قَامَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا النَّوْمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل أَوْ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ، لأَِنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ لَمْ تَذْكُرْ غَسْل الْكَفَّيْنِ مِنْ بَيْنِ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَلأَِنَّ الْحَدِيثَ يَدُل عَلَى الاِسْتِحْبَابِ لِتَعْلِيلِهِ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (1) ، حَيْثُ إِنَّ طُرُوءَ الشَّكِّ عَلَى الْيَقِينِ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ هِيَ وُجُوبُ غَسْل الْكَفَّيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ لِلأَْمْرِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
__________
(1) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 263) ، ومسلم (1 / 233) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.(35/31)
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ فِي أَيِّ نَوْمٍ يَجِبُ مِنْهُ الْغَسْل؟
فَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِالْوُجُوبِ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْغَسْل يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل وَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ بِدَلاَلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَال: فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ، وَالْمَبِيتُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِلَيْلٍ، وَلأَِنَّ نَوْمَ اللَّيْل مَظِنَّةُ الاِسْتِغْرَاقِ فَإِصَابَتُهُ فِيهِ بِالنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ احْتِمَالاً.
وَسَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْل وَنَوْمِ النَّهَارِ فِي الْوُجُوبِ (1) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نُوُمِهِ. . . إِلَخْ.
ثَانِيًا: غَسْل الْكَفَّيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ
: 4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْل الْكَفَّيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) .
وَلِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وَصْفِ وُضُوءِ النَّبِيِّ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَل وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ غَسَل يَدَهُ الْيُمْنَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 75، وجواهر الإكليل 1 / 16، والمجموع للنووي 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 57، والمغني لابن قدامة 1 / 97.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 66، ومغني المحتاج 1 / 52، وجواهر الإكليل 1 / 14، والمغني لابن قدامة 1 / 122.(35/31)
حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ. . . (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ) .
ثَالِثًا: مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ الْكَفَّيْنِ بِالتُّرَابِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ وَأَنَّ هَذَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) ، وَلِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، مِنْهَا: عَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُول بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَْرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَال عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ (3) .
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْحِ مَا عَدَا الْكَفَّيْنِ مِنَ السَّاعِدِ وَالْمِرْفَقِ (4) .
__________
(1) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 216) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث عمار: " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت. . . ". أخرجه مسلم (1 / 280) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 153، وجواهر الإكليل 1 / 27، ومغني المحتاج 1 / 99، والمغني لابن قدامة 1 / 244.(35/32)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ ف 7 - 11) .
رَابِعًا: غَسْل الْكَفَّيْنِ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْل الْكَفَّيْنِ قَبْل الأَْكْل وَبَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إِذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ (1) .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَن إِلاَّ نَفْسَهُ (2) .
قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ هُوَ غَسْل الْيَدَيْنِ لاَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ.
وَقَال الصَّاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: غَسْل الْيَدِ قَبْل الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً عِنْدَنَا فَهُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، أَمَّا بَعْدَ الأَْكْل فَيُنْدَبُ الْغَسْل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الْغَسْل قَبْل الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ ( x663 ;) .
__________
(1) حديث: " من أحب أن يكثر الله خير بيته. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1085) من حديث أنس بن مالك، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 174) .
(2) حديث: " من بات وفي يده ريح غمر. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 289) من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص47، بلغة السالك 2 / 526 - 527، ومغني المحتاج 3 / 250، والمغني لابن قدامة 7 / 14، والآداب الشرعية 3 / 231.(35/32)
خَامِسًا: قَطْعُ الْكَفِّ فِي الْقِصَاصِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الْكَفِّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الْجِنَايَةِ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ وَلإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمَجْنِي عَلَيْهِ مِنْ مَفْصِل الْكُوعِ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْمَجْنِي عَلَيْهِ، وَلَهُ قَطْعُ يَدِ الْجَانِي مِنْ مَفْصِل الْكُوعِ، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ دُونَ الْخَوْفِ مِنْ حَيْفٍ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ لَيْسَ لَهُ الْتِقَاطُ - أَيْ قَطْعُ - أَصَابِعِ الْجَانِي لأَِنَّ هَذَا غَيْرُ مَحَل الْجِنَايَةِ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَحَل الْجِنَايَةِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَهُ الْمُمَاثَلَةَ فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُول عَنْهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: حَتَّى لَوْ طَلَبَ قَطْعَ أُنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَل وَقَطَعَ الأَْصَابِعَ عُزِّرَ لِعُدُولِهِ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ وَلاَ غُرْمَ لأَِنَّ لَهُ إِتْلاَفَ الْجُمْلَةِ فَلاَ يَلْزَمُهُ بِإِتْلاَفِ الْبَعْضِ غُرْمٌ.
وَالأَْصَحُّ أَنَّ لَهُ قَطْعَ الْكَفِّ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
سَادِسًا: دِيَةُ الْكَفِّ
8 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نِصْفِ دِيَةٍ فِي قَطْعِ الْيَدِ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ الصَّحِيحِ إِذَا
__________
(1) البدائع 7 / 297، و298، وجواهر الإكليل 2 / 259، ومغني المحتاج 4 / 25 - 29، والمغني لابن قدامة 7 / 708.(35/33)
كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ أَوْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ لِحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ (1) الْحَدِيثَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (2) .
وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَدِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ هِيَ الْكَفُّ، لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا بِدَلِيل: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) كَانَ الْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ، وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْيَدِ مِنَ الْبَطْشِ وَالأَْخَذِ وَالدَّفْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَتِمُّ بِالْكَفِّ، وَمَا زَادَ تَابِعٌ لِلْكَفِّ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 43) .
__________
(1) حديث: " وفي اليدين الدية ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 371) من حديث سعيد بن المسيب، وقال: " غريب ".
(2) حديث: " وفي اليد خمسون من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 59) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(3) سورة المائدة / 38.
(4) البدائع 7 / 314، والقوانين الفقهية ص 344، ومغني المحتاج 4 / 65، والمغني 8 / 27.(35/33)
سَابِعًا: قَطْعُ كَفِّ السَّارِقِ
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ السَّرِقَةِ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ وَهُوَ الْكُوعُ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْمَفْصِل (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالاَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ "، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ مِنَ الْمَفْصِل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِل الزَّنْدِ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنَ الآْيَةِ الشَّرِيفَةِ، كَأَنَّهُ نَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا مِنْ مَفْصِل الزَّنْدِ، وَعَلَيْهِ عَمَل الأُْمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا (2) .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تُقْطَعُ مِنْ مَنْبَتِ الأَْصَابِعِ.
وَقِيل: تُقْطَعُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَأَدِلَّةُ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا ظَاهِرُ آيَةِ السَّرِقَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآْيَةَ، قَالُوا: إِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ إِلَى
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل ". أخرجه البيهقي (8 / 271) من حديث جابر بن عبد الله
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7 / 88.(35/34)
الْمَنْكِبِ بِدَلِيل أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهِمَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) ، فَمَسَحَ بِالتُّرَابِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلَمْ يَخْطَأْ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ ف 65 و66) .
ثَامِنًا: قَطْعُ كَفِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ
10 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَطْعِ تُقْطَعُ مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَدٌّ ف 33) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) تفسير القرطبي 6 / 171، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 510، والبدائع 7 / 88، جواهر الإكليل 2 / 289، ومغني المحتاج 4 / 178، والمغني لابن قدامة 8 / 259.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 493، وتفسير القرطبي 6 / 147، والبدائع 7 / 96، ومغني المحتاج 4 / 180، والمغني لابن قدامة 8 / 286.(35/34)
كَفُّ النَّفْسِ
التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي الْكَفِّ فِي اللُّغَةِ التَّرْكُ وَالْمَنْعُ، يُقَال: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا مِنْ بَابِ قَتَل، إِذَا تَرَكَهُ، وَكَفَفْتُهُ كَفًّا مَنَعْتُهُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَعَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِأَنَّهُ الاِنْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَال فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: إِنَّ الْفِعْل الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي النَّهْيِ هُوَ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، أَيِ انْتِهَاؤُهُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} (2) نَهْيٌ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيِ الزِّنَا إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُهُ (3) .
فَلاَ يَحْصُل الْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِقْبَال النَّفْسِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (كفف) ، وانظر أيضًا لسان العرب في المادة نفسها.
(2) سورة الإسراء / 32.
(3) التقرير والتحبير 2 / 81، وانظر حاشية الشربيني على هامش شرح جمع الجوامع 1 / 214
(4) جمع الجوامع 1 / 69.(35/35)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرْكُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ التَّخْلِيَةُ وَالإِْسْقَاطُ وَعَدَمُ الْفِعْل، يُقَال: تَرَكْتُ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّيْتُهُ، وَتَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا (1) .
فَالتَّرْكُ قَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْوَاجِبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْحَرَامِ أَوِ الْمَكْرُوهِ. كَمَا يُسْتَعْمَل فِي الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ كَفِّ النَّفْسِ الَّذِي لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ حَتْمًا لِفِعْل غَيْرِ كَفٍّ فَالإِْيجَابُ. أَوْ تَرْجِيحًا فَالنَّدْبُ، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا لِكَفٍّ فَالتَّحْرِيمُ، أَوْ غَيْرَ حَتْمٍ فَالْكَرَاهَةُ (2) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تَكْلِيفَ - أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا - إِلاَّ بِفِعْلٍ كَسْبِيٍّ لِلْمُكَلَّفِ، وَالْفِعْل الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، وَيَسْتَلْزِمُ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ سَبْقَ الدَّاعِيَةِ أَيَّ دَاعِيَةٍ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) التقرير والتحبير 2 / 80.(35/35)
الْمَنْهِيِّ إِلَى فِعْلِهِ، فَلاَ تَكْلِيفَ قَبْل الدَّاعِيَةِ، فَإِذَا قَال الشَّارِعُ: لاَ تَزْنِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَعْنَاهُ كُفَّ نَفْسَكَ مِنَ الزِّنَا لَزِمَ أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ قَبْل طَلَبِ النَّفْسِ لِلزِّنَا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْطُرْ طَلَبُهَا لِلزِّنَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَفُّهَا عَنْهُ؟ فَلَوْ طَلَبَ مِنْهُ كَفَّ النَّفْسِ فِي حَال عَدَمِ طَلَبِهَا طَلَبَ مَا هُوَ مُحَالٌ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْوُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} (1) تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ، أَيْ إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُكَ فَكُفَّهَا (2) .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ الْقَادِرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل، لاَ إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَيَدْخُل فِي الْمَقْدُورِ عَدَمُ الْفِعْل إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ الْفِعْل مِمَّا يَصِحُّ تَرَتُّبُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، فَتُخْرَجُ الْعَدَمِيَّاتُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ لَيْسَ مُجَرَّدُ عَدَمِ الْفِعْل، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَكَفُّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا عَدَمُ الْفِعْل، فَكَانَ مُتَحَقِّقًا مِنْ قَبْل وَاسْتَمَرَّ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ أَصْلاً، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشِّرْبِينِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ
__________
(1) سورة الإسراء / 32.
(2) التقرير والتحبير 2 / 81.
(3) نفس المرجع، وجمع الجوامع 1 / 69، 213، 214.(35/36)
الْعَلاَّمَةِ الْبُنَانِيِّ (1) .
وَنَقَل ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ عَنِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَلِيلَيْنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ (2) ، أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَال الرَّسُول يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (3) إِذِ الاِتِّخَاذُ افْتِعَالٌ، وَالْمَهْجُورُ الْمَتْرُوكُ.
وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَسَكَتُوا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَال: هُوَ حِفْظُ اللِّسَانِ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ
4 - لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَفَّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ مُمْتَثِل التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَال تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (5) وَقَال تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (6) .
__________
(1) حاشية البناني مع جمع الجوامع 1 / 213.
(2) التقرير والتحبير 2 / 82.
(3) سورة الفرقان / 30.
(4) حديث أبي جحيفة السوائي: " أي الأعمال أحب إلى الله. . . ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4 / 245) وأورده المنذري في الترغيب (3 / 506) وقال: في إسناده من لا يحضرني الآن حاله.
(5) سورة الأنعام / 160.
(6) سورة النجم / 31.(35/36)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، كَمَا حَقَّقَهُ الآْمِدِيُّ فِي مَعْرِضِ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ (1) ، لَكِنْ يَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ بِقَصْدِ الاِمْتِثَال.
قَال الشِّرْبِينِيُّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ: إِنَّ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلاَثَةَ أُمُورٍ: الأَْوَّل: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الاِمْتِثَال بِالْفِعْل، بَل مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَال النَّفْسِ عَلَى الْفِعْل ثُمَّ كَفُّهَا عَنْهُ.
الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ لِلاِمْتِثَال.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
كفار
انْظُرْ: كُفْر
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 147 - 148.
(2) تقريرات الشربيني بهامش حاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 69.(35/37)
كَفَّارَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الكفارة فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ، لأَِنَّهَا تُغَطِّي الذَّنْبَ وَتَسْتُرُهُ، فَهِيَ اسْمٌ مَنْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ الذَّنْبَ، أَيْ مَحَاهُ لأَِنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، وَكَأَنَّهُ غَطَّى عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ. وَفِي التَّهْذِيب: سُمِّيَتِ الْكَفَّارَاتُ كَفَّارَاتٍ، لأَِنَّهَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، أَيْ تَسْتُرُهَا مِثْل كَفَّارَةِ الأَْيْمَانِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْل الْخَطَأِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَمَرَ بِهَا عِبَادَهُ. وَالْكَفَّارَةُ: مَا كَفَّرَ بِهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَكْفِيرُ الْيَمِينِ فِعْل مَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَالتَّكْفِيرُ فِي الْمَعَاصِي: كَالإِْحْبَاطِ فِي الثَّوَابِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال النَّوَوِيُّ: الْكَفَّارَةُ مِنَ الْكَفْرِ - بِفَتْحِ الْكَافِ - وَهُوَ السَّتْرُ لأَِنَّهَا تَسْتُرُ الذَّنْبَ وَتُذْهِبُهُ، هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، ومختار الصحاح للرازي، والمصباح المنير مادة (كفر) .(35/37)
اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ صُورَةٌ مُخَالِفَةٌ أَوِ انْتِهَاكٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ كَالْقَتْل خَطَأً وَغَيْرَهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاستغفار
2 - الاِسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (2) . وَشَرْعًا: سُؤَال الْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزُ بِهَا عَنِ الذَّنْبِ وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ (3) . وَقَدْ يَأْتِي الاِسْتِغْفَارُ بِمَعَانٍ أُخْرَى، فَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4) . يَقُول مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: أَيْ يُسْلِمُونَ. كَمَا يَأْتِي بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ، هَكَذَا يَقُول الْقُرْطُبِيُّ (5) . وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالاِسْتِغْفَارِ يَكُونُ - بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى - سَبَبًا لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ.
__________
(1) المجموع 6 / 333، والبحر الرائق 4 / 108، وكشاف القناع 6 / 65.
(2) القاموس المحيط.
(3) الفتوحات الربانية للكريدي 7 / 267 المكتبة الإسلامية، والبحر المحيط 5 / 201 طبعة مطبعة السعادة.
(4) سورة الأنفال / 33.
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7 / 399.(35/38)
ب - التَّوْبَةُ:
3 - التوبة فِي اللُّغَةِ: الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. يُقَال: تَابَ عَنْ ذَنْبِهِ، إِذَا رَجَعَ عَنْهُ وَأَقْلَعَ، وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ (1) . وَشَرْعًا: هِيَ النَّدَمُ وَالإِْقْلاَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا إِذَا قَدَرَ (2) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالتَّوْبَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا - بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى - سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ.
ج - الْعُقُوبَةُ:
4 - العقوبة فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَقِبِ، وَهُوَ الْجَرْيُ بَعْدَ الْجَرْيِ وَالْوَلَدُ بَعْدَ الْوَلَدِ. وَالْعُقْبَةُ بِالضَّمِّ: النَّوْبَةُ وَالْبَدَل وَاللَّيْل وَالنَّهَارُ، لأَِنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: زَوَاجِرُ شَرَعَهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَل - لِلرَّدْعِ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَظَرَ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ، لِيَرْدَعَ بِهَا ذَوِي الْجَهَالَةِ حَذَرًا مِنْ أَلَمِ الْعُقُوبَةِ (4) . وَهَذِهِ الزَّوَاجِرُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً، فَتُسَمَّى حَدًّا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ فَتُسَمَّى تَعْزِيرًا. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَالْعُقُوبَةِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) كشاف القناع 1 / 418، والمغني 9 / 200.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، ومختار الصحاح.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي: ص221 بتصرف.(35/38)
فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَلَيْسَتِ الْعُقُوبَةُ كَذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الكفارة مَشْرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ جَبْرًا لِبَعْضِ الذُّنُوبِ وَالْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَدَلِيل ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ: أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة النساء / 92.(35/39)
ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (1)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسْأَل الإِْمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ (2) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَصْرِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْكَفَّارَةِ (3) .
الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ لِلْكَفَّارَةِ
6 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ. قَال ابن نُجَيْمٍ: وَأَمَّا صِفَتُهَا أَيِ الْكَفَّارَةِ مُطْلَقًا فَهِيَ عُقُوبَةٌ وُجُوبًا، لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ أَجْزِيَةً لأَِفْعَالٍ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ، عِبَادَةُ أَدَاءٍ، لِكَوْنِهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَالإِْعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ وَهِيَ قُرَبٌ،
__________
(1) سورة المجادلة / 3، 4.
(2) حديث: " لا تسأل الإمارة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 608) .
(3) المجموع شرح المهذب للنووي 18 / 115، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة 11 / 250 طبع مطبعة المنار بمصر - الطبعة الأولى 1348 هـ.(35/39)
وَالْغَالِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، إِلاَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ بِدَلِيل أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ، وَلاَ تَجِبُ مَعَ الْخَطَأِ، بِخِلاَفِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِوُجُوبِهَا مَعَ الْخَطَأِ، وَكَذَا كَفَّارَةُ الْقَتْل الْخَطَأِ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ فَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبٌ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَل الْكَفَّارَاتُ بِسَبَبِ حَرَامٍ زَوَاجِرُ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ لِلْخَلَل الْوَاقِعِ؟ وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، لأَِنَّهَا عِبَادَاتٌ وَلِهَذَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (2) .
وَقَال الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَلِيٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ هَل هِيَ زَوَاجِرُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاقِّ تَحَمُّل الأَْمْوَال وَغَيْرِهَا، أَوْ هِيَ جَوَابِرُ لأَِنَّهَا عِبَادَاتٌ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّاتِ، وَلَيْسَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زَجْرًا، بِخِلاَفِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرُبَاتٌ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلاً لِلْمَزْجُورِينَ (3) .
أَسْبَابُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَسْبَابٌ عِدَّةٌ:
__________
(1) البحر الرائق 4 / 109.
(2) مغني المحتاج 3 / 359.
(3) حاشية تهذيب الفروق والقواعد السنية على الفروق للقرافي 1 / 211.(35/40)
أَوَّلاً: الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِالْحِنْثِ فِيهِ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُوجِبَ الْحِنْثِ هُوَ الْمُخَالَفَةُ لِمَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَذَلِكَ بِفِعْل مَا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ، أَوْ تَرَكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَرَاخَى عَنْ فِعْل مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، إِلَى وَقْتٍ لاَ يُمْكِنُهُ فِيهِ فِعْلُهُ. وَلاَ خِلاَفَ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا. كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَوِ الْحَال، نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَال كَاذِبَةٌ يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ (1) .
__________
(1) المبسوط لشمس الدين السرخسي 8 / 147، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 4 / 301، 302، 303، 304، والتاج والإكليل لمختصر خليل مطبوع بهامش مواهب الجليل 3 / 275 طبع دار الفكر، والمدونة للكبرى للإمام مالك ابن أنس 3 / 100 وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 / 275 وما بعدها، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني 11 / 617، 618 وما بعدها، طبع دار الريان، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 108 وما بعدها طبع المطبعة المصرية، وروضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي 11 / 12 طبع المكتب الإسلامي ببيروت، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 243.(35/40)
وَفِي وُجُوبِهَا فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل.
وَفِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَاتِ بِتَعَدُّدِ الأَْيْمَانِ، وَفِي رَفْعِ الْكَفَّارَةِ الْحِنْثُ.
الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَهُوَ قَوْل سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَهْل الْعِرَاقِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الشَّامِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَكَمُ وَعَطَاءٌ وَمَعْمَرٌ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 4 / 301، 302، 303، 304، وبدائع الصنائع وترتيب الشرائع للكاساني 3 / 3 طبع دار الكتب العلمية - بيروت، التاج والإكليل لمختصر خليل مطبوع بهامش مواهب الجليل للحطاب 3 / 266، وكشاف القناع 6 / 235.
(2) الجامع لأحكام القرآن 6 / 266، 267، وفتح الباري 11 / 566.
(3) روضة الطالبين 11 / 3، وفتح الباري 11 / 566.(35/41)
وَسَبَبُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ لِلأَْثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) ، تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَفَّارَةٌ لِكَوْنِهَا مِنَ الأَْيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ.
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مِنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوَجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (2) ، يُوجِبُ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ (3) . وَقَدِ اسْتَدَل كُل فَرِيقٍ بِأَدِلَّةٍ تُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
فَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهَا جَزَاءَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِالْوَعِيدِ فِي الآْخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةً لَكَانَ الأَْوْلَى بَيَانَهَا، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ وَجَبَتْ إِنَّمَا تَجِبُ لِرَفْعِ هَذَا الْوَعِيدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الآْيَةِ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) حديث: " من اقتطع حق امرئ مسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 122) من حديث أبي أمامة.
(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد 1 / 349 طبع المكتبة التجارية الكبرى.
(4) سورة آل عمران / 77.(35/41)
فَيَسْقُطُ جُرْمُهُ، وَيَلْقَى اللَّهَ - تَعَالَى - وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا لاَ يَقُول بِهِ أَحَدٌ (1) .
قَال القرطبي: وَكَيْفَ لاَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِفُ: الْكَذِبَ، وَاسْتِحْلاَل مَال الْغَيْرِ، وَالاِسْتِخْفَافَ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ - تَعَالَى - وَالتَّهَاوُنَ بِهَا وَتَعْظِيمَ الدُّنْيَا؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّهُ، وَحَسْبُكَ. وَلِهَذَا قِيل: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَمِينُ غَمُوسًا لأَِنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ (2) .
وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الآْيَةِ قَال: فَهَذِهِ الْيَمِينُ فِي الْكَذِبِ وَاقْتِطَاعِ الْحُقُوقِ، فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا كَفَّارَةٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ السَّكْسَكِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ فَقَال: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يُعْطَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} (3) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي
__________
(1) المبسوط 8 / 128، والجامع لأحكام القرآن 6 / 268، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 266.
(2) الجامع لأحكام القرآن 6 / 268.
(3) المدونة الكبرى 3 / 100، 101، والآية من سورة آل عمران / 77.(35/42)
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبُهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ (1) . وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَال: الْكَبَائِرُ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ قَال: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قَال: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: ثُمَّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَال الَّذِي يَقْتَطِعُ مَال امْرِئٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ (2) . فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْكَبَائِرُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهَا التَّوْبَةُ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذُكِرَتْ مَعَهُ (3) . وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ
__________
(1) حديث: " خمس ليس لهن كفارة. . . ". أخرجه أحمد (2 / 362) وإسناده حسن.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " الكبائر: الإشراك بالله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 264) .
(3) فتح الباري 11 / 566.(35/42)
عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، فَقَدْ رَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي مُسْنَدِ شُعْبَةَ، وَإِسْمَاعِيل الْقَاضِي فِي الأَْحْكَامِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لاَ كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ، أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُل عَلَى مَال أَخِيهِ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَهُ قَال: وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْغَمُوسَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ، كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (3) ، مَعَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (4) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الآْيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ الْيَمِينِ اللَّغْوِ، وَهِيَ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَأَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ لِلْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ بِقَوْلِهِ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} أَيْ قَصَدْتُمْ وَصَمَّمْتُمْ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْيَمِينَ
__________
(1) فتح الباري 11 / 566
(2) المبسوط للسرخسي 8 / 128.
(3) سورة البقرة / 225.
(4) سورة المائدة / 89.(35/43)
الْغَمُوسَ مَقْصُودَةٌ فَتَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ (1) . وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ: لاَ تَسْأَل الإِْمَارَةَ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ (2) . وَقَالُوا: إِنَّ الْحَالِفَ كَذِبًا أَحْوَجُ لِلْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لاَ تَزِيدُهُ إِلاَّ خَيْرًا، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَكَفَّرَ، فَالْكَفَّارَةُ لاَ تَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ التَّعَدِّي بَل تَنْفَعُهُ فِي الْجُمْلَةِ (3) .
الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل - نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا - عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّهَا لَغْوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، وَبِهِ قَال ربيعة ومكحول وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
__________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 267، 268 طبع دار المنار، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 476
(2) حديث: " لا تسأل الإمارة. . . ". تقدم فقرة (5) .
(3) فتح الباري 11 / 557 ط. دار المعرفة.
(4) انظر: مواهب الجليل للحطاب 3 / 266، والروضة 11 / 3، وكشاف القناع 6 / 236، 237(35/43)
وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَعَنِ الْقَاسِمِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا، فَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلاَ كَفَّارَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلاَفُهُ، مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً.
قَال فِي التَّوْضِيحِ: مِثَال الْمَاضِي: وَاللَّهِ مَا جَاءَ زَيْدٌ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، وَمِثَال الْمُسْتَقْبَل: وَاللَّهِ مَا يَأْتِي غَدًا وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ (2) . وَقَال الدَّرْدِيرُ: اللَّغْوُ وَالْغَمُوسُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِمَا إِنْ تَعَلَّقَا بِمَاضٍ، وَفِيهِمَا الْكَفَّارَةُ إِنْ تَعَلَّقَا بِالْمُسْتَقْبَل (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (4) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَل يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ، وَالْيَمِينُ الْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَكَانَتِ الْيَمِينُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ اللَّغْوِ
__________
(1) فتح الباري 11 / 556.
(2) مواهب الجليل 3 / 266.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 129.
(4) سورة البقرة / 225.(35/44)
تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ (1) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْل الرَّجُل: لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ اللَّغْوِ مُطْلَقًا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ كَفَّارَةَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ لَغْوًا وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ عَنْهُ (4) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (5) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (6) . وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ: هِيَ الْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَل، لأَِنَّ الْحِفْظَ عَنِ الْحِنْثِ وَهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 476، وروضة الطالبين 11 / 3، وكشاف القناع 6 / 236.
(2) فتح الباري 11 / 556.
(3) فتح الباري 11 / 556، ونيل الأوطار للشوكاني 10 / 168، 169.
(4) بدائع الصنائع للكاساني 3 / 3، 4، والبحر الرائق لابن نجيم 4 / 302، 303، والمبسوط 8 / 129، 130.
(5) سورة المائدة / 89.
(6) سورة المائدة / 89.(35/44)
لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي الْمُسْتَقْبَل (1) ، وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَل يَمِينٌ مَعْقُودٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَمْ لاَ، وَوُجُوبُ الْحِفْظِ يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخَذُوا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَأَبَاهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَحْلَفُوهُمَا أَنْ لاَ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ (2) . وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ حُذَيْفَةَ بِالْوَفَاءِ رَغْمَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ غَيْرُ قَاصِدٍ فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ (3) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: اللَّغْوُ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ عَنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ فَكَانَ لَغْوًا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَل فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لاَ يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْل وَالْجِدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ (4) .
تَعَدُّدُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع للكساني 3 / 4، والبحر الرائق 4 / 303.
(2) حديث: " أن المشركين أخذوا حذيفة بن اليمان وأباه واستحلفوهما. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1414) .
(3) المبسوط 8 / 130.
(4) المبسوط 8 / 130.(35/45)
أُمُورٍ شَتَّى بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ قَال: وَاللَّهِ لَنْ آكُل وَلَنْ أَشْرَبَ وَلَنْ أَلْبَسَ، فَحَنِثَ فِي الْجَمِيعِ فَكَفَّارَتُهُ وَاحِدَةٌ، لأَِنَّ الْيَمِينَ وَاحِدَةٌ وَالْحِنْثَ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ بِفِعْل وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَتَنْحَل الْيَمِينُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ حَلَفَ بِأَيْمَانٍ شَتَّى عَلَى أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ.
أ - الْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً كَأَنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، ثُمَّ يَفْعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّهُ يَجِبُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ (2) . فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَال: (قُلْتُ) أَرَأَيْتَ إِنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أُجَامِعُكِ، وَاللَّهِ لاَ أُجَامِعُكِ، أَيَكُونُ عَلَى هَذَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: نَعَمْ (قُلْتُ) أَرَأَيْتَ الرَّجُل يَحْلِفُ أَنْ لاَ يَدْخُل دَارَ فُلاَنٍ، ثُمَّ يَحْلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: أَنَّهُ لاَ يَدْخُل دَارَ فُلاَنٍ لِتِلْكَ
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 115، والمغني والشرح الكبير 11 / 211.
(2) المدونة الكبرى 3 / 116.(35/45)
الدَّارَ بِعَيْنِهَا الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَوَّل مَرَّةٍ؟ قَال: قَال مَالِكٌ: إِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَال: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَأَمَانَتُهُ وَكَفَالَتُهُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَيَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الأَْلْفَاظِ تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ فِيهَا إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَنْ كَرَّرَ يَمِينًا مُوجِبُهَا وَاحِدٌ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ آكُل وَاللَّهِ لاَ آكُل فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لأَِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّأْكِيدَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَرَّرَ الْمُقْسَمَ بِهِ - وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى - وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقُول: وَاللَّهِ اللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَقُول: وَاللَّهِ وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَكَذَا، وَبَيْنَ مَا إِذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَعَادَهُمَا جَمِيعًا، كَأَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا اللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، أَوْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا. وَفِي الْحَالَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ بِحَرْفِ
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 115.
(2) روضة الطالبين 11 / 16.
(3) كشاف القناع 6 / 224.(35/46)
الْعَطْفِ أَوْ بِدُونِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الأَْمْثِلَةِ. فَإِذَا كَانَ تَكْرَارُ الْمُقْسَمِ بِهِ بِدُونِ حَرْفِ عَطْفٍ - كَمَا فِي الْمِثَال الأَْوَّل - كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً بِلاَ خِلاَفٍ فِي الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ كَانَ الاِسْمُ مُتَّفِقًا كَمَا ذُكِرَ أَوْ مُخْتَلِفًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَكَذَا. أَمَّا إِذَا دَخَل بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ حَرْفُ عَطْفٍ - كَمَا فِي الْمِثَال الثَّانِي - فَهُمَا يَمِينَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (1) . وَإِذَا كَانَ تَكْرَارُهُمَا جَمِيعًا، كَمَا إِذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَهُمَا يَمِينَانِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُمَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ بِدُونِهِ، كَمَا فِي الأَْمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ فِي
__________
(1) وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، أنه يكون يمينًا واحدة، وبه أخذ زفر، وقد روى هذا - أيضًا - عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، وهو رواية محمد في النوادر، ومروي عنه في المنتقى. وجه رواية الحسن: أن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف، وقد يستعمل للصفة، فإنه ي(35/46)
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، بِلاَ خِلاَفٍ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
الأَْدِلَّةُ:
أَوَّلاً: اسْتَدَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ وَاحِدٌ، فَتَلْزَمُ عَنْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الأَْلْفَاظِ فَإِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ، لأَِنَّ الثَّانِيَةَ لاَ تُفِيدُ إِلاَّ مَا أَفَادَتْهُ الأُْولَى، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ (2) .
ثَانِيًا: وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ وَالاِسْمُ مُخْتَلِفٌ نَحْوُ أَنْ يَقُول: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ الاِسْمَ الثَّانِي يَصْلُحُ صِفَةً لِلأَْوَّل، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ الصِّفَةَ، فَيَكُونُ حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ، لاَ بِاسْمِ الذَّاتِ عَلَى حِدَةٍ، وَلاَ بِاسْمِ الصِّفَةِ عَلَى حِدَةٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِسْمُ مُتَّفِقًا نَحْوُ أَنْ يَقُول: وَاللَّهِ اللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا، فَإِنَّ الثَّانِيَ لاَ يَصْلُحُ نَعْتًا لِلأَْوَّل، إِنَّمَا يَصْلُحُ تَأْكِيدًا لَهُ، فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ يَمِينَيْنِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اللَّهِ ابْتِدَاءُ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَهُوَ قَسَمٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا ذَكَرَ حَرْفَ الْعَطْفِ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ بِأَنْ قَال: وَاللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لاَ أَفْعَل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 10.
(2) كشاف القناع 6 / 244، وروضة الطالبين 11 / 16، والمدونة الكبرى 3 / 116.(35/47)
كَذَا، فَقَدِ اسْتَدَل مَنْ قَال إِنَّهُمَا يَمِينَانِ بِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ أَحَدَ الْيَمِينَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الأَْوَّل، لأَِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى حِدَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْطِفْ، أَحَدَهُمَا عَلَى الآْخَرِ فَيَجْعَل الثَّانِيَ صِفَةً لِلأَْوَّل، لأَِنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً، لأَِنَّ الاِسْمَ يَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالأَْسْمَاءِ وَالصِّفَّاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَيَقُول: وَاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. أَمَّا إِذَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَعَ الاِسْمِ الثَّانِي، عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا أُخْرَى، إِذْ لَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ أَوِ التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ (1) .
ب - الْحَلِفُ بِأَيْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْحِنْثِ فِي الْحَلِفِ بِأَيْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى أُمُورٍ شَتَّى (2) نَحْوُ أَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَدْخُل دَارَ فُلاَنٍ، وَاللَّهِ لاَ أُكَلِّمُ فُلاَنًا فَفَعَل ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ لِكُل يَمِينٍ كَفَّارَةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 10.
(2) المغني والشرح الكبير 11 / 212.(35/47)
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَرِوَايَةُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَالِفِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، قَال الْقَاضِي: وَهِيَ الصَّحِيحَةُ وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ الْكَفَّارَاتِ بِأَنَّهُنَّ أَيْمَانٌ لاَ يَحْنَثُ فِي إِحْدَاهُنَّ بِالْحِنْثِ فِي الأُْخْرَى، فَلَمْ تُتَكَفَّرْ إِحْدَاهَا بِكَفَّارَةِ الأُْخْرَى، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ إِحْدَاهَا قَبْل الْحِنْثِ فِي الأُْخْرَى، وَكَالأَْيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الأَْيْمَانَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ مَتَى حَنِثَ فِي إِحْدَاهَا كَانَ حَانِثًا فِي الأُْخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ وَاحِدًا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاحِدَةً، وَهَاهُنَا تَعَدَّدَ الْحِنْثُ، فَتَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَاتُ. وَفَارَقَ الْحُدُودَ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلاَفِ مَسْأَلَتِنَا، وَلأَِنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَالْمُوَالاَةُ بَيْنَهَا رُبَّمَا أَفْضَتْ إِلَى التَّلَفِ فَاجْتُزِئَ بِإِحْدَاهَا، وَهَاهُنَا الْوَاجِبُ إِخْرَاجُ مَالٍ يَسِيرٍ أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَلاَ يَلْزَمُ
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 4 / 316، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 3 / 714، والمدونة الكبرى 3 / 115، والتاج والإكليل لمختصر خليل 3 / 269، 270، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 279، 280، ونهاية المحتاج 8 / 181، والمغني والشرح الكبير 11 / 212.
(2) المغني والشرح الكبير 11 / 212، وكشاف القناع 6 / 244، وحاشية رد المحتار على الدر المختار 3 / 214.(35/48)
الضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِالْمُوَالاَةِ فِيهِ، وَلاَ يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ (1) .
بَيْنَمَا اسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الثَّانِي بِأَنَّهَا كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ فَتَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَحَالُّهَا بِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ يَزْنِيَ بِنِسَاءٍ (2) .
تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْل الْيَمِينِ، لأَِنَّهُ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ قَبْل سَبَبِهِ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْل مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَتَقْدِيمِ الصَّلاَةِ قَبْل دُخُول وَقْتِهَا.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ.
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ - أَيْضًا - فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَبْل الْحِنْثِ (3) .
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْل الْحِنْثِ (4) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ قَبْل الْحِنْثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 11 / 212، 213.
(2) كشاف القناع 6 / 244، والمغني والشرح الكبير 11 / 212.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 11 / 109، والجامع لأحكام القرآن 6 / 275، وفتح الباري 11 / 617، 618، ونيل الأوطار 10 / 171.
(4) فتح الباري 11 / 618، والمجموع شرح المهذب 18 / 117.(35/48)
وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ رَأْيُ رَبِيعَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ: أَنَّ عِدَّةَ مَنْ قَال بِجَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا (3) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ قَبْل الْحِنْثِ بِمَا إِذَا كَفَّرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَلَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ التَّكْفِيرُ عِنْدَ الْحِنْثِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ (4) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ عَدَمَ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْل الْحِنْثِ، إِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ (5) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 116، 117، وروضة الطالبين للنووي 11 / 17، وكشاف القناع 6 / 243.
(2) كشاف القناع للبهوتي 6 / 243، وفتح الباري 11 / 617، ونيل الأوطار 10 / 171، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 109.
(3) فتح الباري 11 / 617، ونيل الأوطار 10 / 171، والمجموع شرح المهذب 18 / 117، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 109.
(4) المراجع السابقة.
(5) المبسوط للسرخسي 8 / 147، والبحر الرائق 4 / 316، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 275، وفتح الباري 11 / 617، ونيل الأوطار 10 / 171، والجامع لأحكام القرآن 6 / 275، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 109.(35/49)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تُجْزِئُ قَبْل الْحِنْثِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِإِرَادَةِ الْحِنْثِ لأَِنَّ التَّقْدِيرَ: إِذَا حَلَفْتُمْ فَأَرَدْتُمُ الْحِنْثَ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ الآْيَةِ يُفِيدُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْيَمِينِ فَيَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْل الْحِنْثِ، لِتَكُونَ الْكَفَّارَةُ مُحَلِّلَةً لِلْيَمِينِ (2) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ (3) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، حَيْثُ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْفِيرِ عَنِ الْيَمِينِ، ثُمَّ عَطَفَ الإِْتْيَانَ بِغَيْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِثُمَّ الَّتِي تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، فَدَل هَذَا دَلاَلَةً وَاضِحَةً
__________
(1) سورة المائدة / 89.
( x662 ;) فتح الباري 11 / 617، ونيل الأوطار 10 / 170، والجامع لأحكام القرآن 6 / 275.
(3) حديث: " يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1274) ، والرواية الأخرى لأبي داود (3 / 585) .(35/49)
عَلَى إِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ قَبْل الْحِنْثِ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَكَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْعَوْدِ، وَالْقَتْل الْخَطَأُ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْل الْمَوْتِ كَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ، لأَِنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ سَبَبِهِ فَجَازَ (2) .
وَبِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمَّا كَانَ يُحِلُّهُ الاِسْتِثْنَاءُ وَهُوَ كَلاَمٌ، فَلأَِنْ تُحِلَّهُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ فِعْلٌ مَالِيٌّ أَوْ بَدَنِيٌّ أَوْلَى (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْل الْحِنْثِ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (4) مَعَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (5) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْحِنْثِ وَلَيْسَتْ لِلْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: تَصْوِيرُهُ فِي صَدْرِ الآْيَةِ نَفْيُ مُؤَاخَذَتِنَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُؤَاخِذُنَا بِمَا عَقَّدْنَا مِنَ الأَْيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (6) ، فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ
__________
(1) فتح الباري 11 / 616، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 112.
(2) فتح الباري 11 / 617، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 244.
(3) فتح الباري 11 / 617.
(4) سورة المائدة / 89.
(5) سورة المائدة / 89.
(6) سورة النحل / 91.(35/50)
فَكَفَّارَتُهُ كَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} تَقْدِيرُهُ: أَيْ فَتَرَكْتُمُ الْمُحَافَظَةَ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَال عَزَّ وَجَل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) ، وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ الْحِنْثِ، أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ، وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ، أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) ، مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ عَامِدًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) ، مَعْنَاهُ: فَتَحَلَّل. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) ، فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَال الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا لاَ تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَل جَلاَلُهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) سورة البقرة / 184.(35/50)
التَّكْفِيرِ، فَيَجِبُ إِضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ (2) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا (3) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ " مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَأَلْزَمَ الْحِنْثَ إِذَا كَانَ خَيْرًا ثُمَّ التَّكْفِيرَ. فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنَ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ، عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا لاَ تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ (4) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 2 / 274 وما بعدها.
(2) حديث: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1272) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 608) ، ومسلم (3 / 1270) من حديث أبي موسى الأشعري.
(4) بدائع الصنائع 3 / 19، والمبسوط 8 / 147، 148، والبحر الرائق 4 / 316.(35/51)
وَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ التَّكْفِيرُ قَبْل الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَال أَوْ بِالصَّوْمِ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلاَ جِنَايَةَ، وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ، لأَِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنَ الْحِنْثِ غَيْرُ مُفْضِيَةٍ بِخِلاَفِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْل الْمَوْتِ لأَِنَّهُ مَفْضِيٌّ (1) .
ثَانِيًا: الْقَتْل:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ.
الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، وقَوْله تَعَالَى:
__________
(1) البحر الرائق 4 / 316.
(2) تبيين الحقائق 6 / 99، 100 - المطبعة الأميرية الكبرى، والمبسوط 25 / 67، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل 6 / 268، والمغني 8 / 96، والجامع لأحكام القرآن 5 / 331.(35/51)
00 {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} .
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَوْجَبَ فِي الآْيَةِ الأُْولَى كَفَّارَةَ الْقَتْل الْخَطَأِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الثَّانِيَةِ الْقَتْل الْعَمْدَ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، جَعَل جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَذَكَرَهَا، فَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِهَا دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل رَجُلاً، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْل فَلاَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَا الْمُحْصَنِ (3) ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِالْمُبَاحِ وَالْعُقُوبَةِ بِالْمَحْظُورِ، وَقَتْل الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، فَلاَ تُنَاطُ بِهِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، مِثْل الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَلِعَدَمِ جَوَازِ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَطَأِ، لأَِنَّهُ دُونَهُ فِي الإِْثْمِ، فَشَرْعُهُ لِدَفْعِ الأَْدْنَى لاَ يَدُل عَلَى دَفْعِ الأَْعْلَى،
__________
(1) المغني 8 / 96.
(2) حديث: " إن الحارث بن سويد بن الصامت قتل رجلاً. . . ". أورده ابن سعد في الطبقات (3 / 553) دون إسناد.
(3) المغني 8 / 96.(35/52)
وَلأَِنَّ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَعِيدًا مُحْكَمًا، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَال يَرْتَفِعُ الإِْثْمُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ وُجُودِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَمَنِ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا مِنْهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَلاَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هُوَ كُل مُوجِبِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخًا، وَلاَ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً، يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ (3) ، فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وَلاَ تُسْتَوْجَبُ النَّارُ إِلاَّ فِي قَتْل الْعَمْدِ (4) ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 99، 100، والجامع لأحكام القرآن 5 / 331.
(2) روضة الطالبين للنووي 9 / 380، والمغني 8 / 96.
(3) حديث واثلة بن الأسقع: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. . . " أخرجه ابن حبان (الإحسان 10 / 145 - 146) والحاكم (2 / 212) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) مغني المحتاج 4 / 107.(35/52)
الْقَتْل الْعَمْدَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي قَتْل الْخَطَأِ مَعَ عَدَمِ الْمَأْثَمِ، فَلأَِنْ تَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَقَدْ تُغَلَّظُ بِالإِْثْمِ أَوْلَى، لأَِنَّهُ أَعْظَمُ إِثْمًا وَأَكْبَرُ جُرْمًا وَحَاجَةُ الْقَاتِل إِلَى تَكْفِيرِ ذَنْبِهِ أَعْظَمُ (1) .
الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْل قَدْ وَقَعَ عَلَى سَبِيل الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ.
وَلأَِنَّهُ قَتَل آدَمِيًّا مَمْنُوعًا مِنْ قَتْلِهِ لِحُرْمَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ (3) . وَلأَِنَّ السَّبَبَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ، فَكَانَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 107.
(2) مواهب الجليل 6 / 242، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني 8 / 17، وروضة الطالبين 9 / 380، والمغني 8 / 93.
(3) مغني المحتاج 4 / 108.
(4) مغني المحتاج 4 / 108.(35/53)
وَلأَِنَّ فِعْل الْقَاتِل سَبَبٌ لإِِتْلاَفِ الآْدَمِيِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَأَوْطَأَ دَابَّتَهُ إِنْسَانًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَحَقُّقِ الْقَتْل، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَتْل بِالْمُبَاشَرَةِ، أَمَّا الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ، فَلَمْ يَسْتَنِدِ الْفِعْل إِلَيْهِ (2) .
الْكَفَّارَةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ أَوْ ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ بَطْنَ نَفْسِهَا، أَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً لِتُسْقِطَ وَلَدَهَا عَمْدًا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينًا مَيِّتًا، بِعُدْوَانٍ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 93.
(2) تبيين الحقائق 6 / 142، 144.
(3) الجامع لأحكام القرآن 5 / 323، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد 2 / 381، ومغني المحتاج 4 / 108، والمغني 8 / 96، وكشاف القناع 6 / 65.(35/53)
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي كُل قَتْلٍ خَطَأٍ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ جَنِينٍ وَغَيْرِهِ، وَالْجَنِينُ مَقْتُولٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُل فِي هَذَا الْعُمُومِ، لأَِنَّنَا حَكَمْنَا لَهُ بِالإِْيمَانِ تَبَعًا لأَِبَوَيْهِ، فَيَكُونُ دَاخِلاً فِي عُمُومِ هَذَا النَّصِّ وَلاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ دَلِيلٌ آخَرُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ (1) ، وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ وَبِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْجَنِينِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ (3) ، فَقَدْ قَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لَذَكَرَهَا، لأَِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، لأَِنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً، وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، لأَِنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَقَدْ عُرِفَ وُجُوبُهَا فِي النَّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ - وَالْجَنِينُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ - فَلاَ يَتَعَدَّاهَا، لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ لاَ يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ.
وَإِنَّ الْجَنِينَ جُزْءٌ أَوْ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ، فَلاَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 66.
(2) مغني المحتاج 4 / 108.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالغرة في الجنين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 247) ، ومسلم (3 / 1309) من حديث أبي هريرة.(35/54)
يَدْخُل تَحْتَ مُطْلَقِ النَّصِّ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ كُل الْبَدَل، فَكَذَا لاَ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، لأَِنَّ الأَْعْضَاءَ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، فَإِذَا تَقَرَّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَل لَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا صَنَعَ مِنَ الْجَرِيمَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَتْل غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِجَوَازِ أَنَّ الْحَيَاةَ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلاَ سَلاَمَتُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَحَقُّقِ الْقَتْل (1) .
تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِل
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ وَاتِّحَادِ الْمَقْتُول عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُل مَنِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لاَ عَلَى سَبِيل الْبَدَل عَنِ النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهَا، لأَِنَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ يَجِبُ عَلَى
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 128، 141، 143، وبدائع الصنائع 7 / 326.
(2) بدائع الصنائع 7 / 252، والبناية شرح الهداية للعيني 10 / 49، والجامع لأحكام القرآن 5 / 331، ومغني المحتاج 4 / 108، والمغني 8 / 95.(35/54)
كُل وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا، كَكَفَّارَةِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ.
وَبِأَنَّهَا لاَ تَتَبَعَّضُ، وَهِيَ مِنْ مُوجِبِ قَتْل الآْدَمِيِّ، فَكَمُلَتْ فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِكِينَ كَالْقِصَاصِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ حِكَايَةٌ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ، وَحَكَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .
وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَةَ (مَنْ) تَتَنَاوَل كُل قَاتِلٍ، الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ وَلَمْ تُوجِبِ الآْيَةُ إِلاَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَدِيَةً، وَالدِّيَةُ لاَ تَتَعَدَّدُ فَكَذَلِكَ لاَ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ.
وَلأَِنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ فَلَمْ تَتَعَدَّدْ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ مَعَ اتِّحَادِ الْمَقْتُول، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ (3) .
تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَتْلَى وَالْقَاتِل وَاحِدٌ
19 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْتُولِينَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اصْطَدَمَتْ حَامِلاَنِ وَأَسْقَطَتَا جَنِينَيْهِمَا وَمَاتَتَا فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 108، والمغني 8 / 96.
(2) المغني 8 / 95، ومغني المحتاج 4 / 108.
(3) المغني 8 / 95، 96.(35/55)
فِي تَرِكَتِهَا أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ، وَأَنَّهَا لاَ تَتَجَزَّأُ، فَتَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ لِنَفْسِهَا وَثَانِيَةٌ لِجَنِينِهَا وَثَالِثَةٌ لِصَاحِبَتِهَا وَرَابِعَةٌ لِجَنِينِهَا لأَِنَّهُمَا اشْتَرَكَتَا فِي إِهْلاَكِ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ: تَجِبُ كَفَّارَتَانِ (1) .
ثَالِثًا: الإِْفْطَارُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل (2) .
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ إِنْزَالٌ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلاً، وَفِي وُجُوبِهَا بِتَعَمُّدِ الإِْفْطَارِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَسَنَعْرِضُ هَذَا الْخِلاَفَ فِي الْفُرُوعِ الآْتِيَةِ:
الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 91، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 143، 66، والمغني لابن قدامة 7 / 358.
(2) المغني 3 / 120 - 121.(35/55)
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بَيْنَ كَوْنِ الْفَرْجِ قُبُلاً أَوْ دُبُرًا، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ فِي الْفَرْجِ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْوَطْءِ (2) .
وَبِأَنَّ الْجَمِيعَ وَطْءٌ، وَلأَِنَّ الْجَمِيعَ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ إِفْسَادُ الصَّوْمِ وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ (3) ، وَبِأَنَّهُ مَحِلٌّ مُشْتَهًى، فَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُل (4) .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ لاَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ لأَِنَّ الْمَحِل مُسْتَقْذَرٌ، وَمَنْ لَهُ طَبِيعَةٌ سَلِيمَةٌ لاَ يَمِيل إِلَيْهِ، فَلاَ يَسْتَدْعِي زَاجِرًا، لِلاِمْتِنَاعِ بِدُونِهِ، فَصَارَ كَالْحَدِّ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ (5) .
الْكَفَّارَةُ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ
22 - وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ فِي فَرْجِ الْبَهِيمَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: لاَ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
__________
(1) المجموع 6 / 341، والمغني 3 / 122، وتبيين الحقائق 1 / 327.
(2) المغني 3 / 122.
(3) المجموع 6 / 341.
(4) تبيين الحقائق 1 / 327.
(5) المرجع نفسه.(35/56)
خَيْرَانَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ (1) . وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِوَطْءِ الآْدَمِيَّةِ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهِ (2) .
وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْزَل أَمْ لاَ (3) .
الثَّانِي: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ، لأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُوجِبٍ لِلْغُسْل، مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الآْدَمِيَّةِ (4) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الإِْنْزَال لاَ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الإِْنْزَال عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالإِْنْزَال بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (5) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (6) ،
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 327، والمجموع 6 / 341، والمغني 2 / 123.
(2) المغني 3 / 123.
(3) المجموع 6 / 341.
(4) المجموع 6 / 341، وحاشية الدسوقي 1 / 522.
(5) تبيين الحقائق 1 / 329.
(6) المجموع 6 / 341.(35/56)
وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ تَامٍّ فَأَشْبَهَ الْقُبْلَةَ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلاَ نَصَّ فِي وُجُوبِهَا، وَلاَ إِجْمَاعَ وَلاَ قِيَاسَ، وَلاَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، لأَِنَّهُ أَبْلَغُ بِدَلِيل أَنَّهُ يُوجِبُهَا مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ، وَيَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا، وَلأَِنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْصْل الْجِمَاعُ بِدُونِ الإِْنْزَال، وَالْجِمَاعُ هَاهُنَا غَيْرُ مُوجِبٍ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُهُ بِهِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ، وَالاِسْتِمْنَاءِ وَالْمُبَاشَرَاتِ الْمُفْضِيَاتِ إِلَى الإِْنْزَال، فَلاَ كَفَّارَةَ، لأَِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ (3) .
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: وَلاَ كَفَّارَةَ بِالإِْنْزَال فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، لاِنْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِوُجُودِهِ مَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ غَيْرِ الْقُبُل وَالدُّبُرِ كَالْفَخِذِ وَالإِْبِطِ وَالْبَطْنِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى اللَّمْسِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْقُبْلَةِ (4) . وَقَال: وَلَوْ أَنْزَل بِقُبْلَةٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الإِْنْزَال بِالْمُبَاشَرَةِ، دُونَ
__________
(1) المغني 3 / 121.
(2) المغني 3 / 121.
(3) المجموع 6 / 341.
(4) تبيين الحقائق 1 / 329.(35/57)
الْكَفَّارَةِ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ، فَانْعَدَمَ صُورَةُ الْجِمَاعِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَكْفِي لِوُجُوبِهِ وُجُودَ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى، وَلاَ يَكْفِي ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى، لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالإِْنْزَال بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: وَلَوْ تَعَمَّدَ إِنْزَال مَنِيٍّ بِتَقْبِيلٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ بِإِدَامَةِ فِكْرٍ أَوْ نَظَرٍ وَكَانَ عَادَتُهُ الإِْنْزَال (2) .
وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) ، وَأَبِي خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ مِنْ تَلاَمِذَةِ الْقَفَّال الْمَرْوَزِيِّ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ فُطِّرَ بِجِمَاعٍ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ (5) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا وَمَا أَشْبَهَهُ:
24 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي الْقُبُل مُتَعَمِّدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ،
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 324.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 528، 529) .
(3) المغني 3 / 121.
(4) المجموع 6 / 341.
(5) المغني 3 / 121.(35/57)
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلاً عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلاً.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَبِهِ قَال: إِسْحَاقُ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ (4) ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالثَّوْرِيِّ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (6) .
فَفِي الآْيَةِ وَالْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالإِْكْرَاهِ، وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْحُكْمِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ مَوْجُودٌ حِسًّا، وَالْحُكْمُ نَوْعَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَأُخْرَوِيٌّ وَهُوَ الإِْثْمُ، وَمُسَمَّى الْحُكْمِ يَشْمَلُهُمَا، فَيَتَنَاوَل الرَّفْعُ الْحُكْمَيْنِ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ
__________
(1) المبسوط 3 / 71.
(2) مواهب الجليل للحطاب 2 / 431، 437، الجامع لأحكام القرآن 2 / 321.
(3) روضة الطالبين 2 / 374، والمجموع 6 / 324.
(4) الجامع لأحكام القرآن 2 / 321، 322.
(5) المغني 3 / 121، 122، والجامع لأحكام القرآن 2 / 322.
(6) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(35/58)
لِرَفْعِ الإِْثْمِ وَهُوَ مَحْطُوطٌ عَنِ النَّاسِ (1) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ (2) .
وَالدَّلاَلَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا سَوَاءٌ كَانَ الْفِطْرُ بِالْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
وَبِأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانِ تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ حَيْثُ تَجِبُ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، أَمَّا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَتَسْقُطُ مَعَ الشُّبْهَةِ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ لأَِجْل جَبْرِ الْفَائِتِ، وَفِي الصَّوْمِ حَصَل الْجَبْرُ بِالْقَضَاءِ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ زَاجِرَةً فَقَطْ، فَشَابَهَتِ الْحُدُودَ فَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (4) .
وَبِقِيَاسِ الْجِمَاعِ عَلَى الأَْكْل وَالشُّرْبِ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَذَلِكَ مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلاً لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (5) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 322.
(2) حديث: " من أفطر في شهر رمضان ناسيًا. . . ". أخرجه الدارقطني (2 / 178) ، وقال النووي في المجموع (6 / 324) : بإسناد صحيح أو حسن.
(3) المجموع 6 / 324.
(4) تبيين الحقائق 1 / 324.
(5) المجموع 6 / 323.(35/58)
جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلاً. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَطَاءٍ (2) ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ (3) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكْتُ. قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ. قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَل - قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا. قَال: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرِ مِنِّي يَا رَسُول اللَّه؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (4) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى
__________
(1) كشاف القناع 2 / 324، والمغني 3 / 121.
(2) الجامع لأحكام القرآن 2 / 322، والمغني 3 / 122.
(3) الجامع لأحكام القرآن 2 / 322.
(4) حديث أبي هريرة: " بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 163) ، ومسلم (2 / 781 - 782) والسياق للبخاري.(35/59)
مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَامِدًا أَمْ سَاهِيًا أَمْ جَاهِلاً أَمْ مُخْطِئًا مُخْتَارًا كَانَ أَوْ مُكْرَهًا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِل الأَْعْرَابِيَّ وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لاَسْتَفْصَلَهُ، لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ، وَالسُّؤَال مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قَال: إِذَا وَاقَعْتَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَكَفِّرْ (1) .
وَبِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَغَيْرُهُ كَالْحَجِّ (2) .
وَبِأَنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ حُكْمَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِالْجِمَاعِ، لاَ تُسْقِطُهُمَا الشُّبْهَةُ، فَاسْتَوَى فِيهِمَا الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ (3) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَمُّدِ الإِْفْطَارِ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا:
25 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُخْطِئًا.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا بِتَعَمُّدِ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَمُّدِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
__________
(1) كشاف القناع 2 / 324، والمغني 3 / 120، 121.
(2) كشاف القناع 2 / 324.
(3) المغني 3 / 122.(35/59)
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً (4) .
وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ (5) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي الْحَدِيثِ الأَْوَّل مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً دُونَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ إِفْطَارٍ وَإِفْطَارٍ، وَجَعَل جَزَاءَ الْفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي جَزَاءَ الْمُظَاهِرِ مُطْلَقًا، وَالْمُظَاهِرُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَتَجِبُ عَلَى كُل مَنْ أَفْطَرَ بِأَكْلٍ أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَلَّقُ بِالإِْفْسَادِ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَلَى سَبِيل الْكَمَال لاَ بِالْجِمَاعِ، لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الإِْفْسَادُ دُونَ الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِوَطْءِ مَنْكُوحَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ إِذَا كَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 327.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 527، 528.
(3) المغني 3 / 115، والمجموع 6 / 330.
(4) حديث أبي هريرة: " أن رجلاً أفطر في رمضان. . . ". أخرجه الدارقطني (2 / 191) ورجح إرساله.
(5) حديث: " من أفطر في رمضان متعمدًا. . . ". قال عنه الزيلعي في نصب الراية (2 / 449) : حديث غريب بهذا اللفظ، لم أجده.(35/60)
بِالنَّهَارِ لِوُجُودِ الإِْفْسَادِ، لاَ بِاللَّيْل لِعَدَمِهِ، بِخِلاَفِ الْحَدِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَل عِلَّةً لَهَا بِقَوْلِهِ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ. . . الْحَدِيثَ، فَبَطَل الْقَوْل بِتَعَلُّقِهَا بِالْجِمَاعِ.
وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ أَشَدُّ هَيَجَانًا وَلاَ الصَّبْرَ عَنِ اقْتِضَائِهِ أَشَدُّ عَلَى الْمَرْءِ، بَل شَهْوَةُ الْبَطْنِ أَشَدُّ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ، وَلِهَذَا رَخَّصَ فِيهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِئَلاَّ يَهْلِكَ، بِخِلاَفِ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّ الصَّوْمَ يُضْعِفُ شَهْوَةَ الْفَرْجِ، وَلِهَذَا أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَزَبَ بِالصَّوْمِ وَالأَْكْل يُقَوِّي شَهْوَةَ الْبَطْنِ، فَكَانَ أَدْعَى إِلَى الزَّاجِرِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَمُّدِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَحَمَّادٌ وَدَاوُدُ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْكَفَّارَةِ إِلاَّ فِيمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْجِمَاعِ، وَمَا سِوَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، لأَِنَّ الْجِمَاعَ أَغْلَظُ، وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فِي
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 328.
(2) المجموع 6 / 328، 329.
(3) المغني 3 / 115.
(4) المجموع 6 / 329.(35/60)
مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلاَ يَجِبُ فِيمَا سِوَاهُ فَبَقِيَ عَلَى الأَْصْل، وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ عَزَّرَهُ، لأَِنَّهُ مُحَرَّمٌ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ، فَثَبَتَ فِيهِ التَّعْزِيرُ، كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ (1) .
وَبِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، فَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ، كَبَلْعِ الْحَصَاةِ أَوِ التُّرَابِ، أَوْ كَالرَّدَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا، وَلاَ إِجْمَاعَ.
وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَمَسُّ، وَالْحُكْمُ فِي التَّعَدِّي بِهِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَيَخْتَصُّ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ دُونَ سَائِرِ مَحْظُورَاتِهِ، وَوُجُوبِ الْبَدَنَةِ، وَلأَِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يُفْسِدُ صَوْمَ اثْنَيْنِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ (2) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالإِْكْرَاهِ عَلَى الْجِمَاعِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ إِذَا أُكْرِهَا عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
أ - إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ رَجُلاً:
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُل الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
__________
(1) المجموع 6 / 328.
(2) المغني 3 / 116.(35/61)
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُل الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي الْخَطَّابِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (5) .
وَبِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً أَوْ مَاحِيَةً لِلذَّنْبِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا مَعَ إِكْرَاهٍ، لِعَدَمِ الإِْثْمِ فِيهِ (6) .
وَبِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ، لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي وُجُودِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ (7) .
وَبِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ بِالإِْيلاَجِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ كُل مَنِ انْتَشَرَتْ آلَتُهُ يُجَامِعُ (8) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 327، وابن عابدين 2 / 101، 102.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 527، ومواهب الجليل للحطاب 2 / 437.
(3) مغني المحتاج 1 / 443، والشرواني على تحفة المحتاج 3 / 447، وأسنى المطالب 1 / 425
(4) المغني 3 / 124.
(5) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". تقدم فقرة 24.
(6) المغني 3 / 124.
(7) المغني 3 / 124، 125.
(8) شرح فتح القدير لابن الهمام 2 / 255، وتبيين الحقائق 1 / 322.(35/61)
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُل الْمُكْرَهِ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكْتُ، قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ. فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَل - قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا، قَال: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرِ مِنِّي يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (3) .
فَفِي الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 324، والمغني 3 / 124، 125.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 527، ومواهب الجليل 2 / 437.
(3) حديث أبي هريرة قال: " بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". تقدم فقرة 24.(35/62)
عَلَى كُل مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُخْتَارًا كَانَ أَوْ مُكْرَهًا لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِل الأَْعْرَابِيَّ، وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لاَسْتَفْصَلَهُ، لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ، وَالسُّؤَال مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قَال: إِذَا وَاقَعْتَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَكَفِّرْ (1) .
وَبِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَغَيْرُهُ كَالْحَجِّ (2) .
وَبِأَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ لاَ يُمْكِنُ، لأَِنَّهُ لاَ يَطَأُ حَتَّى يَنْتَشِرَ، وَلاَ يَنْتَشِرُ إِلاَّ عَنْ شَهْوَةٍ، فَكَانَ كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ، لأَِنَّهُ مُلْتَذٌّ بِالْجِمَاعِ، لأَِنَّ الاِنْتِشَارَ أَمَارَةُ الاِخْتِيَارِ (3) .
ب - إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ امْرَأَةً:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا إِذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (5) ،
__________
(1) كشاف القناع 2 / 324.
(2) كشاف القناع 2 / 324.
(3) المغني 3 / 124، وتبيين الحقائق 1 / 327، ومواهب الجليل للحطاب 2 / 437.
(4) تبيين الحقائق 1 / 327.
(5) المجموع 6 / 336.(35/62)
وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِعْلٌ، فَلَمْ تُفْطِرْ كَمَا لَوْ صُبَّ فِي حَلْقِهَا مَاءٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا (3) .
وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرِ الأَْعْرَابِيَّ الَّذِي وَاقَعَ إِلاَّ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ (4) . وَبِأَنَّ صَوْمَ الْمَرْأَةِ نَاقِصٌ، لأَِنَّهُ يُعْرَّضُ أَنْ يَبْطُل بِعُرُوضِ الْحَيْضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِل الْحُرْمَةِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الْكَفَّارَةُ (5) .
وَبِأَنَّ الْوَاجِبَ لَوْ تَعَلَّقَ بِهَا لأَُمِرَتْ بِإِخْرَاجِهِ (6) ، فَعَدَمُ أَمْرِهَا بِإِخْرَاجِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَيَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ عَنْهَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (7) ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) المغني 3 / 123.
(2) المغني 3 / 123، وكشاف القناع 2 / 325.
(3) المغني 3 / 124.
(4) المجموع 6 / 444.
(5) المجموع 6 / 444.
(6) المجموع 6 / 444.
(7) مواهب الجليل 2 / 436، 437.(35/63)
مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ (1) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الزَّوْجَ بِإِكْرَاهِ زَوْجَتِهِ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجَةِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهَا، فَيَتَحَمَّلُهُ هُوَ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عَنْهَا (2)
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ النَّزْعِ فِي الْحَال مَعَ أَوَّل طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَبَيْنَ اسْتِدَامَةِ الْجِمَاعِ، وَخَصُّوا كُل حَالَةٍ بِأَحْكَامِهَا.
أ - النَّزْعُ مَعَ أَوَّل طُلُوعِ الْفَجْرِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ نَزَعَ مَعَ أَوَّل طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَبِهِ قَال أَبُو حَفْصٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّزْعَ تَرْكٌ لِلْجِمَاعِ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، لأَِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْل شَيْءٍ لاَ يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارًا وَهُوَ فِيهَا، فَخَرَجَ مِنْهَا، أَوْ حَلَفَ لاَ يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ يَنْزِعُهُ،
__________
(1) المجموع 6 / 336.
(2) مواهب الجليل 2 / 436.
(3) تبيين الحقائق 1 / 344، ومواهب الجليل 2 / 441، والمجموع 6 / 309، والمغني 3 / 126.(35/63)
فَلاَ يَحْنَثُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَبِأَنَّ الإِْنْزَال مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ قِصَاصًا فَمَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ.
وَبِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُسْتَطَاعُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ، وَمِمَّا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَبِهِ قَال ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ فِي حَال النَّزْعِ مُبَاشِرٌ لِلْجِمَاعِ، لأَِنَّ النَّزْعَ جِمَاعٌ يُتَلَذَّذُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالاِسْتِدَامَةِ (3) .
ب - اسْتِدَامَةُ الْجِمَاعِ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ، فَاسْتَدَامَ الْجِمَاعَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَنْعُ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ
__________
(1) المغني 3 / 126، والمجموع 6 / 303، 322، والمبسوط للسرخسي 3 / 140، 141.
(2) المغني 3 / 126، كشاف القناع 2 / 325، وتبيين الحقائق 1 / 344.
(3) تبيين الحقائق 1 / 344، المغني 3 / 126.
(4) مواهب الجليل 2 / 441، والمجموع 6 / 309، والمغني 3 / 126.(35/64)
بِجِمَاعٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَأَثِمَ بِهِ لِحُرْمَةِ الصَّوْمِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ فِي أَثَنَاءِ النَّهَارِ.
وَبِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْل هُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ كَفَّارَةٌ، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ، لِئَلاَّ يَخْلُوَ جِمَاعٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا مِنْ كَفَّارَةٍ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْفِطْرُ عَلَى وَجْهٍ تَتَكَامَل بِهِ الْجِنَايَةُ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِيمَا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُخَالِطٌ لأَِهْلِهِ، فَدَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ الْمُجَامَعَةِ، وَالْفِطْرُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَقَالُوا أَيْضًا: وَلَئِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الْجِمَاعَ الْمُعْدِمَ لِلصَّوْمِ فَالْجِمَاعُ هُوَ إِدْخَال الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَلاَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِدْخَال الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ الاِسْتِدَامَةُ وَذَلِكَ غَيْرُ الإِْدْخَال، أَلاَ تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارًا وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ مَكَثَ فِي الدَّارِ سَاعَةً، فَهَذَا مِثْلُهُ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 126، 127، والمجموع 6 / 309، 310.
(2) تبيين الحقائق 1 / 340، والمبسوط 3 / 141.
(3) المبسوط 3 / 141.(35/64)
ج - كَفَّارَةُ مَنْ جَامَعَ يَظُنُّ عَدَمَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ بَعْدُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ طَلَعَ، عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَطَاءٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الْمَأْثَمِ وَهُوَ مَحْطُوطٌ عَنِ الْمُخْطِئِ (3) .
وَبِأَنَّهُ جَامَعَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحِل لَهُ ذَلِكَ، وَكَفَّارَةُ الصَّوْمِ عُقُوبَةٌ تَجِبُ مَعَ الْمَأْثَمِ، فَلاَ تَجِبُ مَعَ اعْتِقَادِ الإِْبَاحَةِ كَالْحَدِّ، لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ. وَأَنَّهُ بَنَى الأَْمْرَ عَلَى الأَْصْل، فَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِتَصَوُّرِ الْجِنَايَةِ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدِ انْتِهَاكَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 242، ومواهب الجليل 2 / 427، 428، والمجموع 6 / 307 - 309.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". تقدم تخريجه ف 24.
(3) تبيين الحقائق 1 / 322.(35/65)
حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُجَامِعِ الْمَذْكُورِ آنِفًا حَيْثُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ وَلاَ تَفْصِيلٍ.
وَبِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِجِمَاعِ تَامٍّ، فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ عَلِمَ (3) .
أَثَرُ الْعَارِضِ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ جَامَعَ فِي أَوَّل النَّهَارِ، ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ فَحَاضَتْ أَوْ نُفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِحُدُوثِ الْعَارِضِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْرٍ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ
__________
(1) المجموع 6 / 337، 338، 340، وتبيين الحقائق 1 / 342، ومواهب الجليل 1 / 427، 438.
(2) المغني 3 / 126.
(3) المغني 3 / 127.
(4) المدونة 1 / 221، والمغني 2 / 125، والمجموع 6 / 340، 351.(35/65)
الْكَفَّارَةِ، فَلَمْ يُسْقِطْهَا كَالسَّفَرِ.
وَبِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمًا وَاجِبًا فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ، فَاسْتَقَرَّتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَطْرَأْ عُذْرٌ.
وَأَنَّهُ قَصَدَ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ أَوَّلاً بِمَا فَعَل (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِحُدُوثِ الْعَارِضِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبِهِ قَال الثَّوْرِيّ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَرَضَ الطَّارِئَ يُبِيحُ الْفِطْرَ، فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَقَعْ مُسْتَحَقًّا، لأَِنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى يُوجِبُ تَغَيُّرَ الطَّبِيعَةِ إِلَى الْفَسَادِ، يَحْدُثُ أَوَّلاً فِي الْبَاطِنِ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ، فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ الْمُرَخِّصُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْفِطْرِ، فَمُنِعَ انْعِقَادُهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ.
وَبِأَنَّ وُجُودَ أَصْل الْمَرَضِ شُبْهَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ لاَ تَجِبُ مَعَهَا.
وَبِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي الرَّحَمِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى يَتَهَيَّأَ لِلْبُرُوزِ فَلَمَّا بَرَزَ مِنْ يَوْمِهِ، ظَهَرَ تَهَيُّؤُهُ وَيَجِبُ الْفِطْرُ، أَوْ تَهَيُّؤُ أَصْلِهِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ.
__________
(1) المغني 3 / 127، والمجموع 6 / 340، 351.
(2) تبيين الحقائق 1 / 340، والمجموع 6 / 340.(35/66)
وَبِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي الصَّوْمَ، فَتَبَيَّنَ بِعُرُوضِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا ذَلِكَ بِالْعَارِضِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي لاَ صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلاَ فِي سَبَبِهِ فَإِنْ كَانَ الْعَارِضُ بِصُنْعِهِ كَالسَّفَرِ وَجُرْحِ نَفْسِهِ فَالْمُعْتَمَدُ لُزُومُهَا (2) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ فِي صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ
32 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، أَوْ فِي صَوْمٍ هُوَ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ صَوْمِ النَّذْرِ، عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَرَدَتْ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، إِذْ لاَ يَجُوزُ إِخْلاَؤُهُ عَنِ الصَّوْمِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ الزَّمَانِ. وَبِأَنَّهُ جَامَعَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ جَامَعَ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ،
__________
(1) المجموع 6 / 451، وشرح فتح القدير لابن الهمام 2 / 262.
(2) ابن عابدين 2 / 110.
(3) تبيين الحقائق 1 / 329، مواهب الجليل 2 / 433، والمجموع 6 / 342، 345، والمغني 3 / 125.(35/66)
وَيُفَارِقُ الْقَضَاءُ الأَْدَاءَ، لأَِنَّهُ مُتَعَيَّنٌ بِزَمَانٍ مُحْتَرَمٍ فَالْجِمَاعُ فِيهِ هَتْكٌ لَهُ، بِخِلاَفِ الْقَضَاءِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ، وَبِهِ قَال قَتَادَةُ (2) .
وَاسْتَدَل عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ بِالْمَعْقُول فَقَال: إِنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي أَدَائِهَا، فَوَجَبَتْ فِي قَضَائِهَا كَالْحَجِّ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي نَذْرِ صَوْمِ الدَّهْرِ كُلِّهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَحْنُونٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِيمَا لاَ يُجْبَرُ بِقَضَاءٍ، أَشْبَهَ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ بِقَضَاءٍ، إِذْ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ (4) .
تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَكَرَّرَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 329، والمجموع 6 / 342، والمغني 3 / 125.
(2) المجموع 6 / 345، والمغني 3 / 125.
(3) المغني 3 / 125.
(4) مواهب الجليل 2 / 433.(35/67)
جِمَاعُهُ فِي نَهَارِ يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْل تَكْفِيرِهِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً فِي يَوْمٍ آخَرَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً فِي نَفْسِ الْيَوْمِ، وَإِلَيْكَ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
أ - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ:
34 - إِذَا جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكَفِّرْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِأَنَّ صَوْمَ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ،
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 346، والمجموع 6 / 333، 337، والمغني 3 / 133.(35/67)
لَمْ تَتَدَاخَل كَفَّارَاتُهَا، كَرَمَضَانَيْنِ، وَكَالْحَجَّتَيْنِ، وَكَالْعُمْرَتَيْنِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلاَقِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) . وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِأَنَّهَا جَزَاءٌ عَنْ جِنَايَاتٍ تَكَرَّرَ سَبَبُهَا قَبْل اسْتِيفَائِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَتَدَاخَل كَالْحَدِّ (3) .
ب - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً فِي نَفْسِ الْيَوْمِ:
35 - إِذَا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَكَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيَةً فِي نَفْسِ الْيَوْمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (4)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْجِمَاعَ الثَّانِي لَمْ يُصَادِفْ
__________
(1) المغني 3 / 132.
(2) بدائع الصنائع 2 / 101، والمغني 3 / 132، 133، والمجموع 6 / 336.
(3) بدائع الصنائع 2 / 101.
(4) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1 / 240، ومواهب الجليل 2 / 436، والمجموع 6 / 336، 337.(35/68)
صَوْمًا مُنْعَقِدًا، وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا كَالْجِمَاعِ فِي اللَّيْل، بِخِلاَفِ الْجِمَاعِ الأَْوَّل (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِيهَا، فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْوَطْءِ إِذَا كَانَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ كَالْحَجِّ.
وَبِأَنَّهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ كَالأَْوَّل، وَفَارَقَ الْوَطْءَ فِي اللَّيْل فَإِنَّهُ غَيْرُ، مُحَرَّمٍ (3) .
مَنْ تَقَيَّأَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ تَقَيَّأَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَعَلْقَمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ
__________
(1) المجموع 6 / 337، 450.
(2) المغني 3 / 133.
(3) المغني 3 / 133.(35/68)
وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنِ اسْتَقَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ.
وَبِأَنَّ الإِْفْطَارَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يَتَحَقَّقْ صُورَةً فَقَصُرَتْ، فَانْتَفَتِ الْكَفَّارَةُ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ أَقْصَى عُقُوبَةً فِي الإِْفْطَارِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى كَمَال الْجِنَايَةِ، لأَِنَّ فِي نُقْصَانِهَا شُبْهَةَ الْعَدَمِ وَهِيَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ (4) .
رَابِعًا: مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ أَوِ الإِْحْرَامِ
37 - قَدْ يَعْرِضُ لِقَاصِدِ الْحَجِّ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 325، ومواهب الجليل 2 / 422، والمجموع 6 / 319، 320، والمغني 3 / 117.
(2) حديث: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 89) من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب.
(3) فتح القدير 2 / 260، والمدونة الكبرى 1 / 200.
(4) المجموع 6 / 320.(35/69)
إِتْمَامِهِ أَوِ الإِْتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، كَمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ أَوْ مَوْتٍ، أَوْ فَوَاتِ وَقْتٍ أَوْ تَجَاوُزِ مِيقَاتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِجَبْرِ ذَلِكَ شُرِعَتِ الْكَفَّارَةُ، وَالْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ فِي ذَلِكَ إِمَّا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَإِمَّا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (الإِْحْرَامُ ف 145 - و 185 - وَإِحْصَارٌ ف 33 وَحَرَمٌ ف 13) .
تَعَدُّدُ الْجَزَاءِ بِتَعَدُّدِ الصَّيْدِ
38 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ قَتْل الصَّيْدِ وَالدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ، كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَل الصَّيْدَ، أَوِ اصْطَادَ أَوْ دَل عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِلنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْجَزَاءِ بِتَعَدُّدِ الصَّيْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: فِي كُل صَيْدٍ جَزَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 306، 307.
(2) المبسوط 4 / 107، وحاشية الدسوقي 2 / 69، والمجموع 7 / 436، والمغني 3 / 522.(35/69)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهَا أَوْجَبَتِ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَامِدِ بِعُمُومِهَا، وَذِكْرُ الْعُقُوبَةِ فِي الثَّانِيَةِ لاَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
فَأَثْبَتَ أَنَّ الْعَائِدَ لَوِ انْتَهَى كَانَ لَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ (1) .
يَقُول النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلاَلَتَانِ:
الأُْولَى: أَنَّ لَفْظَ الصَّيْدِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، لأَِنَّ الأَْلِفَ وَاللاَّمَ يَدْخُلاَنِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، وَلَيْسَ فِي الصَّيْدِ مَعْهُودٌ، فَتَعَيَّنَ الْجِنْسُ وَأَنَّ الْجِنْسَ يَتَنَاوَل الْجُمْلَةَ وَالأَْفْرَادَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} يَعُودُ إِلَى جُمْلَةِ الْجِنْسِ وَآحَادِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} وَحَقِيقَةُ الْمُمَاثَلَةِ: أَنْ يَفْدِيَ الْوَاحِدَ بِوَاحِدٍ، وَالاِثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ، وَالْمِائَةَ بِمِائَةٍ، وَلاَ يَكُونُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّعَمِ مَثَلاً لِجَمَاعَةٍ صَيُودٌ (2) .
__________
(1) المغني 3 / 522، 523.
(2) المجموع 7 / 323.(35/70)
وَقَالُوا إِنَّ الصَّيْدَ نَفْسٌ تُضْمَنُ بِالْكَفَّارَةِ، فَتَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْقَتْل، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ كَقَتْل الآْدَمِيِّ (1) .
وَإِنَّهَا غَرَامَةُ مُتْلِفٍ يَجِبُ بِهِ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةُ، فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الإِْتْلاَفِ، كَمَا فِي الآْدَمِيِّ (2) .
وَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ قِيَاسُ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّ جَزَاءَهُ مُقَدَّرٌ بِهِ وَيَخْتَلِفُ بِصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، وَإِنَّمَا يُقَاسُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ صَيْدَيْنِ مَعًا، حَيْثُ يَجِبُ جَزَاؤُهُمَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَفَرَّقَا (3) .
قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلأَِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَل صَيْدَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَزِمَهُ جَزَاءَانِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ قَتْلُهُمَا مَعًا، وَجَبَ تَكَرُّرُهُ بِقَتْلِهِمَا مُرَتَّبًا كَالْعَبْدَيْنِ وَسَائِرِ الأَْمْوَال (4) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَجِبُ الْجَزَاءُ بِالصَّيْدِ الأَْوَّل دُونَ مَا بَعْدَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إِنْ كَفَّرَ عَنِ الأَْوَّل فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لِلثَّانِي (5) .
__________
(1) المجموع 7 / 323.
(2) المغني 3 / 522، والمجموع 7 / 436.
(3) المغني 3 / 523.
(4) المجموع 7 / 323، 324.
(5) المغني 3 / 522.(35/70)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل} وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى لَفْظِ " مَنْ ".
قَالُوا: وَمَا عُلِّقَ عَلَى لَفْظِ " مَنْ " لاَ يَقْتَضِي تَكْرَارًا، كَمَا لَوْ قَال: مَنْ دَخَل الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، أَوْ مَنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ فَإِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إِلاَّ دِرْهَمًا بِالدُّخُول الأَْوَّل، وَإِذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهَا لاَ يَقَعُ إِلاَّ طَلْقَةٌ بِالدُّخُول الأَْوَّل، فَلاَ يَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكْرَارِ الْقَتْل، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَى الْعَوْدِ غَيْرَ الاِنْتِقَامِ، إِذْ لَوْ كَانَ تَكَرُّرُ الْجَزَاءِ وَاجِبًا لَرَتَّبَهُ عَلَى الْعَوْدِ مَعَ الاِنْتِقَامِ، فَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِهِ دَلِيلاً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ وَتَكَرُّرِهِ.
صَيْدُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ:
39 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْل صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ جَزَاءَ فِيهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالرِّوَايَةُ الأُْولَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
__________
(1) المبسوط 4 / 105، والجامع لأحكام القرآن 6 / 306، والمجموع 7 / 480، 514، والمغني 3 / 354.(35/71)
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ، وَبِأَنَّ كُل مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا اسْتَحَقَّ الطَّرْدَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَاسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ (2) .
وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بَعْضَ الصِّبْيَانِ بِالْمَدِينَةِ طَائِرًا، فَطَارَ مِنْ يَدِهِ، فَجَعَل يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ (3) - اسْمُ ذَلِكَ الطَّيْرِ وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ مِثْل الْعُصْفُورِ - فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ
__________
(1) حديث: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1147) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) الجامع لأحكام القرآن 6 / 307.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بعض. . . ". أورده السرخسي (المبسوط 4 / 105) والذي ورد في صحيح البخاري (فتح الباري 10 / 582) ومسلم (3 / 1692، 1693) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على الصبي وعنده الطير، وزاد النسائي في عمل اليوم والليلة (ص286) أنه دخل عليه وقد مات الطير.(35/71)
بِصَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِصَيْدِ الْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ، لَمَا نَاوَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صَبِيًّا (1) . وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَلاَ يَجِبُ بِصَيْدِ حَرَمِهَا جَزَاءٌ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ، بِخِلاَفِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهُ إِلاَّ مُحْرِمًا (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِقَتْل صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَِهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ (4) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، فَيَجِبُ فِي قَتْل صَيْدِهِ الْجَزَاءُ كَمَا يَجِبُ فِي قَتْل صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ، لاِسْتِوَائِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ (5) .
تَعَدُّدُ الْجَزَاءِ بِقَتْل الصَّيْدِ وَالأَْكْل مِنْهُ:
40 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا
__________
(1) المبسوط 4 / 105.
(2) المبسوط 4 / 105، والمغني 3 / 354.
(3) المغني 3 / 354، والمجموع 7 / 480 - 514.
(4) حديث: " إن إبراهيم حرم مكة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 991) عن عبد الله بن زيد بن عاصم.
(5) المغني 3 / 354، المجموع 7 / 480، 514.(35/72)
قَتَل صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَل مِنْهُ أَثِمَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَزَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، إِذَا قَتَل صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَل مِنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَلَمْ يُضْمَنْ ثَانِيًا كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ الأَْكْل.
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا قَتَلَهُ أَوْ أَكَلَهُ.
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ، ثُمَّ أَكَل هَذَا مِنْهُ (2) .
وَبِأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَيْتَاتِ، لأَِنَّ الْمَيْتَةَ لاَ تُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الاِسْتِغْفَارَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَلَيْهِ جَزَاءَانِ:
وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَعَطَاءٌ.
وَاسْتَدَلاَّ بِأَنَّ قَتْل هَذَا الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ إِحْرَامِهِ، وَالْقَتْل غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَل لِلتَّنَاوُل مِنَ الصَّيْدِ، فَإِذَا كَانَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ إِحْرَامِهِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 6 / 302، والمجموع 7 / 330 - 508، والمغني 3 / 314، والمبسوط 4 / 86.
(2) المجموع 7 / 330.
(3) المبسوط 4 / 86، المغني 3 / 314.(35/72)
بِهِ، فَمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِذَلِكَ أَوْلَى (1) .
مَنْشَأُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
وَيَرْجِعُ سَبَبُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي اعْتِبَارِ أَكْل الصَّيْدِ تَعَدِّيًا ثَانِيًا عَلَيْهِ سِوَى تَعَدِّي الْقَتْل أَمْ لاَ؟ وَإِذَا كَانَ تَعَدِّيًا فَهَل هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّعَدِّي الأَْوَّل أَمْ لاَ؟ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل كُل فَرِيقٍ بِأَدِلَّةٍ تُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
الْجَزَاءُ فِي إِتْلاَفِ بَيْضِ الصَّيْدِ:
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ بَيْضِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا كَسَرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِيهِ (3) .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (5) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (6) ، وَالْحَنَابِلَةُ (7) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِنَّ الْجَزَاءَ فِي إِتْلاَفِ الْمُحْرِمِ بَيْضَ الصَّيْدِ هُوَ الْقِيمَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
__________
(1) المبسوط 4 / 86، والمجموع 7 / 330، والمغني 3 / 304.
(2) بداية المجتهد 1 / 307.
(3) بداية المجتهد 1 / 308، والمبسوط 4 / 101، والمجموع 7 / 319، المغني 3 / 515.
(4) المبسوط 4 / 87، 101.
(5) بداية المجتهد 1 / 308، وحاشية الدسوقي 2 / 84.
(6) المجموع 6 / 317، 318، 332.
(7) المغني 3 / 515، 516.(35/73)
فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ ثَمَنُهُ (1) ، وَلأَِنَّ الْبَيْضَ لاَ مِثْل لَهُ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لِكَوْنِهِ مَذَرًا فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، إِلاَّ بَيْضَ النَّعَامِ فَإِنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةً فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَزَاءَ الْوَاجِبَ فِي إِتْلاَفِ بَيْضِ الصَّيْدِ هُوَ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ جَزَاءَ فِي إِتْلاَفِ الْمُحْرِمِ بَيْضَ الصَّيْدِ، وَبِهِ قَال الْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَاسْتَدَل بِأَنَّهُ لاَ رُوحَ فِيهِ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ (2) .
إِزَالَةُ الشَّعَرِ:
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ إِزَالَةِ الشَّعَرِ قَبْل التَّحَلُّل وَأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ (وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٌ ف 155) .
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ، وَإِمَاطَةِ الأَْذَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ
43 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَإِمَاطَةِ الأَْذَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعام يصيبه المحرم: " ثمنه ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1031) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 147) .
(2) المجموع 7 / 317.(35/73)
الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ: الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ فَقَطْ.
وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) (وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٌ ف 152 - 159) .
الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ بِالْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ:
44 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} .
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ وَطِئَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (3) ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَطِئَ مِنَ الْمُعْتَمِرِينَ قَبْل أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ قَبْل التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ فِي الْفَرْجِ أَوْ دُونَهُ، مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل.
__________
(1) المدونة الكبرى 1 / 428، والمجموع 7 / 248، وروضة الطالبين 3 / 136، والمغني 3 / 492، 493، والجامع لأحكام القرآن 2 / 383.
(2) المبسوط 4 / 73، 75، 77، 122، 128، والمغني 3 / 493.
(3) المجموع 7 / 290.(35/74)
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِمُبَاشَرَةِ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَتَكْرَارِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (1) .
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا طَاوَعَتْهُ وَفِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ وَأَثَرِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْل فِي سُقُوطِهَا.
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا طَاوَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى الْوَطْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا كَمَا هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: اهْدِ نَاقَةً وَلْتُهْدِ نَاقَةً. وَلأَِنَّهَا أَحَدُ الْمُتَجَامِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ،
__________
(1) المجموع 7 / 291.
(2) المبسوط 4 / 118.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 70، والمغني 3 / 335، 336، والمجموع 7 / 395.(35/74)
فَلَزِمَهَا الْكَفَّارَةُ كَالرَّجُل (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا، وَيُجْزِئُهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبْ أَكْثَرَ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كَحَالَةِ الإِْكْرَاهِ (3) .
تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ:
46 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ الثَّانِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ عَنِ الأَْوَّل (4) .
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ قَبْل التَّكْفِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ أَوْ دَوَاعِيهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَبِهِ قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ جِمَاعٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَإِذَا
__________
(1) المغني 3 / 335، المجموع 7 / 395.
(2) المجموع 7 / 395، والمغني 3 / 336.
(3) المغني 3 / 336.
(4) المغني 3 / 336، 337.
(5) بداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 336، والمجموع 7 / 407، 472، والمبسوط 4 / 119.(35/75)
تَكَرَّرَ قَبْل التَّكْفِيرِ عَنِ الأَْوَّل، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً ثَانِيَةً كَالصِّيَامِ.
وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الأَْوَّل، تَتَدَاخَل كَفَّارَتُهُ، كَمَا يَتَدَاخَل حُكْمُ الْمَهْرِ وَالْحَدِّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْجِمَاعِ أَوْ دَوَاعِيهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كُل وَطْءٍ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِانْفِرَادِهِ، فَأَوْجَبَهَا كَالْوَطْءِ الأَْوَّل.
وَأَنَّ الإِْحْرَامَ وَوُجُوبَ الْفِدْيَةِ بَاقِيَانِ بِارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ، بِخِلاَفِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ بِالْجِمَاعِ الأَْوَّل قَدْ خَرَجَ عَنْهُ (3) .
أَثَرُ النِّسْيَانِ وَالْجَهْل فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَمَّنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً لإِِحْرَامِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالْجَهْل أَوِ النِّسْيَانِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (4) .
__________
(1) المغني 3 / 336، والمجموع 7 / 472.
(2) المجموع 7 / 407، 472، والمغني 3 / 336.
(3) المغني 3 / 336، والمجموع 7 / 472.
(4) المبسوط 4 / 121، وبداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 340، والمجموع 7 / 475، 395، 478.(35/75)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَطْءَ لاَ يَكَادُ يَتَطَرَّقُ النِّسْيَانُ إِلَيْهِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
وَأَنَّ الْجِمَاعَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، بِخِلاَفِ مَا دُونَهُ.
وَأَنَّهُ سَبَبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْفَوَاتِ (1) -.
وَبِعَدِمِ الْقِيَاسِ فِيهِ عَلَى الصَّوْمِ، لأَِنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَحْصُل الْفِطْرُ فِيهِ قَبْل تَمَامِ حَقِيقَةِ الْجِمَاعِ، وَغَيْرُ الْجِمَاعِ فِي الصَّوْمِ لاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِخُصُوصِ الْجِمَاعِ فَافْتَرَقَا (2) .
وَأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ، لأَِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الإِْحْرَامِ الرَّفَثُ وَالرَّفَثُ اسْمٌ لِلْجِمَاعِ، وَبِسَبَبِ النِّسْيَانِ لاَ يَنْعَدِمُ عَيْنُ الْجِمَاعِ، وَهَذَا لأَِنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ، وَهُوَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمِينَ، فَلاَ يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي الصَّلاَةِ إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ، بِخِلاَفِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ، فَجُعِل النِّسْيَانُ فِيهِ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ إِفْسَادِهِ، بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْجَاهِل وَالنَّاسِي.
__________
(1) المغني 3 / 340.
(2) المغني 3 / 341.
(3) المبسوط 4 / 121.(35/76)
وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِالْعَمْدِ وَالسَّهْوِ كَالصَّوْمِ (2) .
مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِدُونِ إِحْرَامٍ
48 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِدُونِ إِحْرَامٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْل تِلْكَ النَّاحِيَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، كَالشَّامِيِّ يَمُرُّ بِمِيقَاتِ الْمَدِينَةِ، وَسَوَاءٌ تَجَاوَزَهُ عَالِمًا بِهِ أَوْ جَاهِلاً، عَلِمَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَوْ جَهِلَهُ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ وَالإِْحْرَامُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِدُونِ إِحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يُحْرِمَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِدُونِ إِحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَلَيْهِ الدَّمُ مُطْلَقًا، أَيْ وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَبِهِ قَال زُفَرُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 143، والمجموع 7 / 395، 475.
(2) المجموع 7 / 478.(35/76)
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ (2) ، وَلأَِنَّهُ أَحْرَمَ دُونَ مِيقَاتِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ.
وَلأَِنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمُجَاوَزَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ، وَجِنَايَتُهُ لاَ تَنْعَدِمُ بِعَوْدِهِ فَلاَ يَسْقُطُ الدَّمُ الَّذِي وَجَبَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ إِنْ أَحْرَمَ وَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ وَرَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ الدَّمُ عَنْهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الدَّمِ إِذَا لَمْ يَتَلَبَّسْ بِنُسُكٍ بِأَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَافَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا وَأَدَّى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا بَعْدَهُ فَكَانَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْهُ.
وَبِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 317، والشرح الصغير 1 / 24، 25، والمغني 3 / 266، والمبسوط 4 / 170.
(2) حديث: " من ترك نسكًا فعليه دم "، أخرجه ابن حزم مرفوعًا كما في التلخيص لابن حجر (2 / 229) ، ونقل عنه أن في إسناده جهالة. وورد من قول ابن عباس موقوفًا عليه بلفظ: من نسي نسكًا شيئًا أو تركه فيهرق دمًا. أخرجه مالك في الموطأ (1 / 419) .
(3) المراجع السابقة.(35/77)
الْمِيقَاتِ لاَ أَنْ يُنْشِئَ الإِْحْرَامَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْل أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا وَلَمْ يُلَبِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ وَلَمْ يُلَبِّ لأَِنَّهُ تَدَارَكَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ (1) .
وَعَلَّلُوا عَدَمَ سُقُوطِ الدَّمِ بَعْدَ تَلَبُّسِهِ بِنُسُكٍ بِأَنَّ النُّسُكَ تُؤَدَّى بِإِحْرَامٍ نَاقِصٍ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ إِنْ رَجَعَ قَبْل أَنْ يَتَلَبَّسَ بِأَعْمَال الْحَجِّ وَلَبَّى، فَإِنْ تَلَبَّسَ أَوْ رَجَعَ وَلَمْ يُلَبِّ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ (3) ، وَاسْتَدَل بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِذَلِكَ الرَّجُل: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ وَإِلاَّ فَلاَ حَجَّ لَكَ.
وَلأَِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمِيقَاتِ حَلاَلاً وَجَبَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَالإِْحْرَامِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ عَادَ فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ أَحْرَمَ قَبْل أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ، لأَِنَّ مِيقَاتَهُ هُنَاكَ مَوْضِعُ إِحْرَامِهِ،
__________
(1) المبسوط 4 / 170، 171، ومغني المحتاج 1 / 474، 475.
(2) المراجع السابقة.
(3) المبسوط 4 / 170.(35/77)
وَقَدْ لَبَّى عِنْدَهُ، فَقَدْ خَرَجَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلإِْحْرَامِ فِي حَقِّهِ، فَلِهَذَا لاَ يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَهُ، بِخِلاَفِ مَا نَحْنُ فِيهِ (1) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ غَسَل رَأْسَهُ بِالْخَطْمِيِّ وَالسِّدْرِ:
49 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ اغْتِسَال الْمُحْرِمِ بِالْمَاءِ وَالاِنْغِمَاسِ فِيهِ لِلنَّصِّ (2) .
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي كَرَاهِيَةِ غَسْل الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ غَسَل رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِهِمَا أَوْ بِأَيِّهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالثَّوْرِيُّ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَهُ بَعِيرُهُ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ - أَوْ قَال: ثَوْبَيْهِ - وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (4) فَقَدْ أَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِهِ
__________
(1) المبسوط 4 / 171.
(2) المغني 3 / 299.
(3) المجموع 7 / 355، 463، والمغني 3 / 299.
(4) حديث: " اغسلوه بماء وسدر. . . ". أخرجه البخاري (فتح البخاري 4 / 64) ومسلم (2 / 865) والسياق للبخاري.(35/78)
بِالسِّدْرِ مَعَ إِثْبَاتِ حُكْمِ الإِْحْرَامِ فِي حَقِّهِ، وَالْخَطْمِيُّ كَالسِّدْرِ، فَلاَ فِدْيَةَ فِي غَسْل الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ بِهِمَا.
وَقَالُوا إِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالتُّرَابِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْخَطْمِيَّ مِنَ الطِّيبِ، فَلَهُ رَائِحَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً، وَهُوَ يَقْتُل الْهَوَامَّ. أَيْضًا فَتَتَكَامَل الْجِنَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ (3) .
شَمُّ الْعُصْفُرِ وَاسْتِعْمَالُهُ
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِاسْتِعْمَال الْعُصْفُرِ أَوْ مَا صُبِغَ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِاسْتِعْمَال الْعُصْفُرِ أَوْ مَا صُبِغَ بِهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَعَقِيل بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (4) .
__________
(1) المغني 3 / 300.
(2) المبسوط 4 / 124، وبداية المجتهد 1 / 317، والمغني 4 / 299.
(3) المبسوط 4 / 125، وبداية المجتهد 1 / 317.
(4) بداية المجتهد 1 / 279.(35/78)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَاكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيل، أَوْ خُفٍّ أَوْ قَمِيصٍ (1) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ (2) . فَقَدْ أَبَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ فِدْيَةَ فِي لُبْسِهِ (3) .
وَلأَِنَّهُ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ يُكْرَهْ مَا صُبِغَ بِهِ كَالسَّوَادِ وَالْمَصْبُوغِ بِالْمُغْرَةِ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَى الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ بِخِلاَفِ مَسْأَلَتِنَا.
__________
(1) حديث ابن عمر " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 487) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث عائشة بنت سعد: " كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن في المعصفرات ". أخرجه الإمام مالك في المناسك كما في المغني لابن قدامة (3 / 318) .
(3) المغني 3 / 318.(35/79)
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِاسْتِعْمَال الْعُصْفُرِ أَوْ مَا صُبِغَ بِهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقِسِيِّ الْمُعَصْفَرِ (2) .
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ، لأَِنَّهُ صَبْغٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ (3) .
وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِلُبْسِ السَّرَاوِيل عِنْدَ عَدَمِ الإِْزَارِ
51 - الْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقُمُصِ وَالْعَمَائِمِ وَالسَّرَاوِيلاَتِ وَالْخِفَافِ وَالْبَرَانِسِ وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فِي الإِْحْرَامِ فَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْحَلْقِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيل عِنْدَ عَدَمِ الإِْزَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ
__________
(1) المبسوط 4 / 7، والمغني 3 / 318.
(2) حديث علي بن أبي طالب: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي " أخرجه مسلم (3 / 1648) .
(3) بداية المجتهد 1 / 279، والمغني 3 / 318.(35/79)
وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ يَقُول: مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل (2) . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الإِْبَاحَةِ، ظَاهِرٌ فِي إِسْقَاطِ الْفِدْيَةِ، لأَِنَّهُ أَمَرَ بِلُبْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ فِدْيَةً.
كَمَا يَقْتَضِي تَجْوِيزَ اللُّبْسِ عِنْدَ فَقْدِ الإِْزَارِ، وَالأَْصْل فِي مُبَاشَرَةِ الْجَائِزَاتِ نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ، فَدَل هَذَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِاسْتِعْمَال السَّرَاوِيل لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الإِْزَارِ (3) .
وَقَالُوا: لُبْسُ السَّرَاوِيل مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ (الإِْزَارِ) فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ، فَإِنَّ لَهُ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْقَمِيصِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الرِّدَاءَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الإِْزَارِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
__________
(1) المجموع 7 / 249، 260، 451، 453، والمغني 1 / 301، وبداية المجتهد 1 / 318.
(2) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 57) ، ومسلم (2 / 835) واللفظ للبخاري.
(3) المغني 3 / 301.(35/80)
لُبْسُهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ عَدَل إِلَى السَّرَاوِيل وَلأَِنَّ السَّرَاوِيل لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ، وَيُمْكِنَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ الْقَمِيصَ (لِذَا قُلْنَا) لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِالسَّرَاوِيل لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ (1) .
وَقَالُوا إِنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّهْيُ مُطْلَقًا عَنْ لُبْسِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَيُحْمَل الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ.
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى لُبْسِ الْقَمِيصِ، فَكَمَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الرِّدَاءَ وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِهِ، فَكَذَا السَّرَاوِيل إِذَا لَمْ يَجِدِ الإِْزَارَ فَإِنَّهُ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ (3) .
لُبْسُ الْخُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ
52 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْطَعْهُمَا إِذَا لَبِسَهُمَا لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ، وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ لَبِسَهُمَا مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ.
__________
(1) المغني 3 / 301، والمجموع 7 / 266.
(2) المبسوط 4 / 128، وبداية المجتهد 1 / 318.
(3) المبسوط 4 / 126، 128.(35/80)
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْطَعِ الْخُفَّيْنِ عِنْدَ لُبْسِهِمَا لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِعَدَمِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ (2) .
وَهُوَ نَصٌّ فِي وُجُوبِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَطْعِهِمَا، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا
__________
(1) المبسوط 4 / 126، 127، وحاشية الدسوقي 2 / 56، وروضة الطالبين 3 / 128، والمجموع 7 / 453، 265، والمغني 3 / 301.
(2) حديث: ابن عمر: " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 401) ومسلم (2 / 834) واللفظ لمسلم.(35/81)
لَمْ يَقْطَعْهُ فَقَدْ خَالَفَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، كَمَا أَنَّهُ تَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِعَدَمِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ:
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السَّرَاوِيل لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِْزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ (3) .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل (4) .
فَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، وَالسَّرَاوِيل لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِْزَارَ، فَدَل هَذَا بِعُمُومِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ
__________
(1) المغني 3 / 301، والمجموع 7 / 266.
(2) المغني 3 / 301.
(3) حديث: ابن عباس: " السراويل لمن لم يجد الإزار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 57) ومسلم (2 / 835) واللفظ لمسلم.
(4) حديث: جابر بن عبد الله: " من لم يجد نعلين. . . ". أخرجه مسلم (2 / 836) .(35/81)
الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْطَعِ الْخُفَّيْنِ، إِذَا لَبِسَهُمَا عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْل عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ فَسَادٌ، يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا.
وَقَالُوا إِنَّهُ مَلْبُوسٌ أُبِيحَ لِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ السَّرَاوِيل.
وَإِنْ قَطَعَهُ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الْحَظْرِ، فَإِنَّ لُبْسَ الْمَقْطُوعِ مُحَرَّمٌ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ كَلُبْسِ الصَّحِيحِ.
وَإِنَّ فِي الْقَطْعِ إِتْلاَفَ الْمَال وَإِضَاعَتَهُ (1) ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال (2) .
لُبْسُ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ
54 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِلُبْسِ الْمَقْطُوعِ مَعَ وُجُودِ النَّعْل.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 301.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 306) ومسلم (3 / 1314) من حديث المغيرة بن شعبة.
(3) بداية المجتهد 1 / 279، 318، والمغني 3 / 302، 303، والمجموع 7 / 249، 250، وفتح العزيز مع المجموع 7 / 453، والمغني 3 / 302، 303.(35/82)
وَاسْتَدَلُّوا بِالأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِبَاحَةِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ عَدَمَ النَّعْلَيْنِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اللُّبْسُ مَعَ وُجُودِهِمَا.
وَقَالُوا: إِنَّهُ مَخِيطٌ لِعُضْوٍ عَلَى قَدْرِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ كَالْقُفَّازَيْنِ، وَلأَِنَّهُ يُتْرِفُهُ بِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ فِي دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالأَْذَى، فَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِلُبْسِ الْمَقْطُوعِ مَعَ وُجُودِ النَّعْل.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صَارَ كَالنَّعْل بِدَلِيل عَدَمِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بِالْقَطْعِ صَارَ فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتُرُ الْكَعْبَ (3) .
لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ
55 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الرَّجُل بِلُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَبِسَتِ الْقُفَّازَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) المجموع 7 / 250، والمغني 3 / 302.
(2) المبسوط 4 / 127، وفتح القدير 2 / 141 - 142، والمجموع 7 / 250.
(3) فتح القدير 2 / 141 - 142، والمجموع 7 / 250.(35/82)
الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِلُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ (2) .
وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَال إِحْرَامِهَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا لَبِسَتْ مَا نُهِيَتْ عَنْ لُبْسِهِ فِي الإِْحْرَامِ، فَلَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ كَالنِّقَابِ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْيَدَ عُضْوٌ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا سَتْرُهُ فِي الإِْحْرَامِ كَالْوَجْهِ.
وَإِنَّ الرَّجُل لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ تَعَلَّقَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي سَائِرِ بَدَنِهِ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا لَزِمَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الإِْحْرَامِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْيَدَانِ.
وَإِنَّ الإِْحْرَامَ تَعَلَّقَ بِيَدِهَا تَعَلُّقَهُ بِوَجْهِهَا،
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 280، 318، والمغني 3 / 329، والمجموع 7 / 269، 454.
(2) حديث: ابن عمر: " لا تنتقب المحرمة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 52) .
(3) المغني 3 / 329، 330.(35/83)
لأَِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَبِسَتِ الْقُفَّازَيْنِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وعَائِشَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا (3) .
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَجِبُ كَشْفُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ هُوَ وَجْهُهَا، وَهَذَا يَدُل عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِتَغْطِيَةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ لأَِنَّهُ خَصَّ الْوَجْهَ بِالْحُكْمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلاَفِهِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتَهُ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ عُضْوٌ يَجُوزُ سَتْرُهُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، فَجَازَ سَتْرُهُ بِهِ كَالرِّجْلَيْنِ (4) .
تَخْمِيرُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ
56 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ
__________
(1) المجموع 7 / 454، 455، والمغني 3 / 329.
(2) المبسوط 4 / 128، والمجموع 7 / 269، 454، والمغني 3 / 329، وبداية المجتهد 1 / 280.
(3) حديث: " إحرام المرأة في وجهها. . . ". أخرجه الدارقطني (2 / 294) ، وأشار البيهقي في السنن (5 / 47) إلى ترجيح كونه موقوفًا على ابن عمر.
(4) المجموع 7 / 454، والمبسوط 4 / 128، والمغني 3 / 329.(35/83)
فِي وَجْهِهَا، وَأَنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا وَتَسْتُرَ شَعْرَهَا، كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الرَّجُل الْمُحْرِمَ لاَ يُخَمِّرُ رَأْسَهُ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الرَّجُل الْمُحْرِمِ بِتَخْمِيرِ وَجْهِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِتَخْمِيرِ الْوَجْهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقَاسِمِ وَطَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَإِحْرَامُ الرَّجُل فِي رَأْسِهِ (2) .
وَبِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الرَّجُل الَّذِي وَقَصَهُ بَعِيرُهُ: خَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ (3) .
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانُوا
__________
(1) المجموع 7 / 250، 254، 268، 439، 440، والمغني 3 / 325، وبداية المجتهد 1 / 279.
(2) حديث: " إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه " سبق تخريجه في (ف 55) .
(3) حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصة بعيره تقدم (ف49) ، وتقدم تخريجه.(35/84)
يُخَمِّرُونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ حُرُمٌ (1) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَال: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، قَدْ غَطَّى وَجْهَهُ بِقَطِيفَةٍ أُرْجُوَانٍ (2) .
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: فَبِهَذَا عَمِل عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ قَوْل غَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَمَّيْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِتَخْمِيرِ الْوَجْهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَوَقَصَتْهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي (5) .
__________
(1) المجموع 7 / 268.
(2) أثر عبد الله بن عامر: " رأيت عثمان بن عفان بالعرج. . . ". أخرجه البيهقي (5 / 54) وصحح إسناده النووي في المجموع (7 / 268) .
(3) المغني 3 / 325، وانظر المجموع 7 / 268.
(4) المبسوط 4 / 127، 128، وبداية المجتهد 1 / 279، 325، والمغني 3 / 325.
(5) حديث: " اغسلوه بماء وسدر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 64) و (مسلم 2 / 866) واللفظ لمسلم.(35/84)
فَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ لاَ يُغَطِّي رَأْسَهُ وَلاَ وَجْهَهُ، فَمَنْ فَعَل خِلاَفَ ذَلِكَ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِمَحْظُورٍ تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ (1) .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّقْنِ مِنَ الرَّأْسِ لاَ يُخَمِّرُهُ الْمُحْرِمُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إِحْرَامِهَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ (3) .
خَامِسًا - كَفَّارَةُ الظِّهَارِ
57 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ إِذَا قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهَا، وَيَلْزَمُهُ لِلْعَوْدِ إِلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ.
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالظِّهَارِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ يَكُونُ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَكَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ.
__________
(1) المبسوط 4 / 7.
(2) بداية المجتهد 1 / 279.
(3) المغني 3 / 326.(35/85)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ عَلَى تَوَافُرِ شَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ قَبْل التَّكْفِيرِ يَكُونُ آثِمًا وَعَاصِيًا لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ظِهَارٌ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا ظَاهَرَتْ مِنْ زَوْجِهَا
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا ظَاهَرَتْ مِنْ زَوْجِهَا كَأَنْ تَقُول لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، أَوْ تَقُول: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنًا فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ الظِّهَارِ مِنْهَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَسَالِمٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ (1) .
__________
(1) المبسوط 6 / 227، والجامع لأحكام القرآن 17 / 276، وروضة الطالبين 8 / 265، وتفسير الرازي 29 / 253. والمغني 7 / 384.(35/85)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا مُوَجَّهٌ لِلرِّجَال، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ، لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} وَلَمْ يَقُل: وَاللاَّئِي تُظَاهِرْنَ مِنْكُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ إِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَال (1) .
وَقَالُوا إِنَّ الظِّهَارَ قَوْلٌ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فِي الزَّوْجَةِ، وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ رَفْعَهُ، لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِالْقَوْل كَالطَّلاَقِ (2) .
وَأَضَافُوا إِنَّ الْحَل وَالْعَقْدَ (التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمَ) فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَال وَلَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ حَقٌّ لِلرَّجُل، فَلَمْ تَمْلِكِ الْمَرْأَةُ إِزَالَتَهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
قَال الْقَاضِي: لاَ تَكُونُ مُظَاهِرَةً رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْكَفَّارَةِ.
فَنَقَل عَنْهُ جَمَاعَةٌ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَائِشَةَ
__________
(1) المغني 7 / 384، والجامع لأحكام القرآن 17 / 276.
(2) المغني 7 / 384، والمبسوط 5 / 227، وتفسير الرازي 29 / 253.
(3) المغني 7 / 384، والجامع لأحكام القرآن 17 / 276.(35/86)
بِنْتَ طَلْحَةَ قَالَتْ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَسَأَلَتُ أَهْل الْمَدِينَةِ فَرَأَوْا أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ، وَلأَِنَّهَا زَوْجٌ أَتَى بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْل وَالزُّورِ فَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ، لأَِنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ وَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ: قَال ابْنُ قُدَامَةَ وَهَذَا أَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَشْبَهُ بِأُصُولِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْل مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لاَ يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّهُ ظِهَارٌ وَعَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، لأَِنَّ الْمَعْنَى فِي جَانِبِ الرَّجُل تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا، وَالْحِل مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا (2) .
سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِالاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِالاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي الظِّهَارِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
__________
(1) المغني 7 / 384، والجامع لأحكام القرآن 17 / 276.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 575، والمبسوط 6 / 227.(35/86)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حِنْثٍ (2) .
وَفِي لَفْظٍ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ (3) .
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَدُل بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ قَصْدَ التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ يَمْنَعُ الاِنْعِقَادَ فِي الطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْيْمَانِ لأَِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الظِّهَارِ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى بِجَامِعِ التَّكْفِيرِ فِي كُلٍّ، وَلَمَّا كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ فِيهَا وَيُمْنَعُ انْعِقَادُهَا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ.
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي الظِّهَارِ لاِنْعِقَادِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الطَّلاَقَ وَالْعِتَاقَ وَالْمَشْيَ وَالصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ، لَيْسَتْ أَيْمَانًا شَرْعِيَّةً، بَل هِيَ إِلْزَامَاتٌ، بِدَلِيل أَنَّ حُرُوفَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 232، 235، وإعانة الطالبين 4 / 24، والمغني 7 / 350.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف فاستثنى فإن شاء مضى، وإن شاء ترك غير حنث ". أخرجه النسائي (7 / 12) .
(3) حديث: " من حلف على يمين فقال. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 108) وقال حديث حسن.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 129.(35/87)
الْقَسَمِ لاَ تَدْخُل عَلَيْهَا وَأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مَمْنُوعٌ، فَلَوْ قَال: يَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ يَلْزَمُهُ الظِّهَارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَزِمَهُ وَلاَ اعْتِبَارَ لِمَشِيئَتِهِ (1) .
سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ
60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ كَأَنْ يَقُول الزَّوْجُ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَنْسَلِخَ الشَّهْرُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (ظِهَارٌ ف 6) .
تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الظِّهَارِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ، وَفِي تَعَدُّدِهَا، عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ.
أ - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ
__________
(1) المرجع السابق.(35/87)
كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ، نَوَى بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ أَوِ الاِسْتِئْنَافَ أَوْ أَطْلَقَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَطَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ 17 وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .
فَفِيهَا دَلاَلَةٌ عَلَى عَدَمِ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا، لأَِنَّهَا عَامَّةٌ تَتَنَاوَل مَنْ ظَاهَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّكْفِيرَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي الظِّهَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ مِرَارًا كَثِيرَةً (2) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيمًا فِي الزَّوْجَةِ، لأَِنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ بِالْقَوْل الأَْوَّل، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى (3) .
وَأَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ، فَإِذَا كَرَّرَهُ كَفَاهُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني 7 / 386، وروضة الطالبين 8 / 276.
(2) تفسير الرازي 29 / 360.
(3) المغني 7 / 286.(35/88)
وَاحِدَةٌ، كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ مِرَارًا وَلَمْ يُكَفِّرْ إِذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ التَّأْكِيدُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَقَتَادَةَ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهَا تُفِيدُ تَعَدُّدَ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الظِّهَارِ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الظِّهَارِ عِلَّةً لإِِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الظِّهَارُ الثَّانِي وُجِدَتْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الظِّهَارُ الثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْكَفَّارَةِ الأُْولَى، أَوْ لِكَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَالأَْوَّل بَاطِلٌ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ الأُْولَى وَجَبَتْ بِالظِّهَارِ الأَْوَّل، فَتَكْوِينُ الْكَائِنِ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّ تَأَخُّرَ الْعِلَّةِ عَنِ الْحُكْمِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ يُوجِبُ كَفَّارَةً ثَانِيَةً (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الظِّهَارِ عَلَى الطَّلاَقِ، فَإِذَا نَوَى الاِسْتِئْنَافَ تَعَلَّقَ بِكُل مَرَّةٍ حُكْمٌ كَالطَّلاَقِ (4) .
وَأَنَّ كُل ظِهَارٍ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ
__________
(1) المغني 7 / 286.
(2) المبسوط 5 / 226، والمغني 7 / 386.
(3) تفسير الرازي 29 / 259.
(4) المغني 7 / 386.(35/88)
بِالْكَفَّارَةِ، فَيَجِبُ فِي كُل ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ (1) .
وَأَنَّ تَكْرَارَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَتَكْرَارِ الْيَمِينِ، فَكَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ كُل يَمِينٍ كَفَّارَةً، فَكَذَلِكَ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ كُل ظِهَارٍ كَفَّارَةً (2) .
وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِهِ التَّأْكِيدَ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُكَرِّرُ اللَّفْظَ، وَيَقْصِدُ بِهِ التَّغْلِيظَ وَالتَّشْدِيدَ دُونَ إِرَادَةِ التَّجْدِيدِ.
وَلأَِنَّ الظِّهَارَ لاَ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فِي الطَّلاَقِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطَلاَقٍ وَلاَ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُوجِبُ زَوَال الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ قَبْل التَّكْفِيرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ (3) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَكْرِيرًا مُتَّصِلاً وَقَصَدَ بِهِ تَأْكِيدًا فَظِهَارٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ اسْتِئْنَافًا فَالأَْظْهَرُ الْجَدِيدُ التَّعَدُّدُ، وَإِنْ فَصَل بَيْنَ أَلْفَاظِ الظِّهَارِ الْمُكَرَّرِ وَقَصَدَ بِتَكْرِيرِ الظِّهَارِ اسْتِئْنَافًا فَالأَْظْهَرُ التَّعَدُّدُ وَكَذَا لَوْ قَصَدَ تَأْكِيدًا فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي الأَْصَحِّ (4) .
ب - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 235.
(2) المبسوط 5 / 226.
(3) بدائع الصنائع 3 / 235.
(4) مغني المحتاج 3 / 358.(35/89)
مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعُرْوَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ التَّعَدُّدِ بِمَا إِذَا لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ وَإِلاَّ تَعَدَّدَتْ (2) .
وَاسْتَدَل هَذَا الْفَرِيقُ بِمَا حُكِيَ مِنْ عُمُومِ قَوْل عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ قَالاَ: إِذَا كَانَ تَحْتَ الرَّجُل أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَظَاهَرَ مِنْهُنَّ يُجْزِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا - وَرَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلاَ نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .
وَقَالُوا: إِنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني 7 / 357، وروضة الطالبين 8 / 275.
(2) الخرشي 4 / 108، والدسوقي 2 / 445.
(3) الجامع لأحكام القرآن 17 / 278، المغني 7 / 357.
(4) كشاف القناع 5 / 375.(35/89)
وَإِنَّ الظِّهَارَ كَلِمَةٌ تَجِبُ بِمُخَالَفَتِهَا الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي جَمَاعَةٍ أَوْجَبَتْ كَفَّارَةً وَاحِدَةً كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَإِنَّ الظِّهَارَ هَاهُنَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ تَرْفَعُ حُكْمَهَا وَتَمْحُو إِثْمَهَا، فَلاَ يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ النِّسْوَةِ اللاَّئِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَالْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّهَا أَفَادَتْ تَعَدُّدَ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ اللَّوَاتِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ، لأَِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الظِّهَارِ عِلَّةً لإِِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الظِّهَارُ وُجِدَتْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِ اللَّوَاتِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنْ هَذِهِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ
__________
(1) المغني 7 / 357.
(2) المغني 7 / 357.
(3) المبسوط 5 / 266، وروضة الطالبين 8 / 275، وتفسير الرازي 29 / 260، والمغني 7 / 357.(35/90)
بِسَبَبِ هَذَا الظِّهَارِ، وَظَاهَرَ أَيْضًا مِنَ الثَّانِيَةِ، فَالظِّهَارُ الثَّانِي لاَ بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ كَفَّارَةً أُخْرَى وَهَكَذَا (1) .
وَقَالُوا إِنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا أَضَافَهُ إِلَى مَحَالٍّ مُخْتَلِفَةٍ، يَثْبُتُ فِي كُل مَحِلٍّ حُرْمَةٌ لاَ تَرْتَفِعُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ كَالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلاَثِ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً تَرْتَفِعُ بِزَوْجٍ آخَرَ، فَإِذَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُرْمَةٌ لاَ تَرْتَفِعُ إِلاَّ بِزَوْجٍ (2) .
وَإِنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا تَتَنَاوَل كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِيَالِهَا، فَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَالظِّهَارُ لاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا تَعَدَّدَ التَّحْرِيمُ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ (3) .
وَإِنَّهُ وَجَبَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ فِي حَقِّ كُل امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ عَنْ كُل وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهَا بِهِ (4) .
ج - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلِمَاتٍ
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ عَلَى
__________
(1) تفسير الرازي 29 / 260.
(2) المبسوط 5 / 226.
(3) بدائع الصنائع 3 / 234، 235.
(4) المغني 7 / 357.(35/90)
مَنْ ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلِمَاتٍ، كَأَنْ قَال لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلِمَاتٍ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَبِهِ قَال عُرْوَةُ وَعَطَاءٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْحَكَمُ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ ظَاهَرَ مِنْ نِسَائِهِ الأَْرْبَعِ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَإِنْ لَمْ يُوَالِهَا كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهُنَّ لِوُجُودِ لَفْظِ الظِّهَارِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ أَمْسَكَهُنَّ زَمَنًا يَسَعُ طَلاَقَهُنَّ فَعَائِدٌ مِنْهُنَّ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ لِوُجُودِ الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ فِي حَقِّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
وَإِنْ وَالاَهَا صَارَ بِظِهَارِ الثَّانِيَةِ عَائِدًا فِي الأُْولَى، وَبِظِهَارِ الثَّالِثَةِ عَائِدًا فِي الثَّانِيَةِ وَبِظِهَارِ الرَّابِعَةِ عَائِدًا فِي الثَّالِثَةِ، فَإِنْ فَارَقَ الرَّابِعَةَ عَقِبَ ظِهَارِهَا فَعَلَيْهِ ثَلاَثُ كَفَّارَاتٍ، وَإِلاَّ فَأَرْبَعٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مُتَكَرِّرَةٌ عَلَى أَعْيَانٍ
__________
(1) المبسوط 5 / 226، وحاشية الدسوقي 3 / 445، والجامع لأحكام القرآن 17 / 278، والمغني 7 / 357، 358، وروضة الطالبين 8 / 275.
(2) روضة الطالبين 8 / 275.(35/91)
مُتَفَرِّقَةٍ فَكَانَ لِكُل وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ.
وَأَنَّهَا أَيْمَانٌ لاَ يَحْنَثُ فِي إِحْدَاهَا بِالْحِنْثِ فِي الأُْخْرَى، فَلاَ تُكَفِّرُهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالأَْصْل.
وَأَنَّ الظِّهَارَ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْمَحَال الْمُخْتَلِفَةِ كَالْقَتْل (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
قَال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا، وَقَال: هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَرَبِيعَةَ وَقَبِيصَةَ ( x662 ;) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهَا كَالْحَدِّ (3) .
د - تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ
64 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَعَدَمِ تَعَدُّدِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) المغني 7 / 358.
(2) المغني 7 / 358.
(3) المغني 7 / 358.(35/91)
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
فَهَذِهِ الآْيَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ لأَِنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَفَّارَةٌ قَبْل الْعَوْدِ، فَإِذَا جَامَعَ قَبْل التَّكْفِيرِ فَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ الْقَبْلِيَّةُ، فَيَبْقَى أَصْل الْوُجُوبِ، وَلأَِنَّهُ لاَ دَلاَلَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، يُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى (2) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَال: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، فَقَال لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْكَ (3) .
__________
(1) المبسوط 5 / 225، وفتح القدير 4 / 94، وبداية المجتهد 2 / 98، والجامع لأحكام القرآن 17 / 283، وتفسير الرازي 29 / 260، والمغني 7 / 383.
(2) تفسير الرازي 29 / 260.
(3) حديث: " أن رجلا ظاهر من زوجته. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 666) والترمذي (3 / 493) من حديث ابن عباس، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح.(35/92)
فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي عَدَمِ تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِاعْتِزَال زَوْجَتِهِ حَتَّى يُكَفِّرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْرَارِ التَّكْفِيرِ لِجِمَاعِهِ زَوْجَتِهِ قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ تَكْفِيرًا وَاحِدًا (1) ، إِذْ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ مُتَعَدِّدًا لَبَيَّنَهُ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ.
وَبِهِ قَال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ شِهَابٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الأُْولَى لِلظِّهَارِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ، وَالثَّانِيَةُ وَجَبَتْ لِلْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَبِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَدَّدُ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى الْحَرَامِ (3) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 98، والمغني 7 / 384.
(2) المغني 7 / 383، والجامع لأحكام القرآن 17 / 283 وتفسير الرازي 29 / 260، وبداية المجتهد 2 / 98.
(3) المغني 7 / 383.(35/92)
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدِ
65 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الْعَوْدِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهَا نَصٌّ فِي مَعْنَى وُجُوبِ تَعَلُّقِ الْكَفَّارَةِ بِالْعَوْدِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِي الآْيَةِ بِأَمْرَيْنِ هُمَا: ظِهَارٌ وَعَوْدٌ، فَلاَ تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا (2) .
وَبِقِيَاسِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَكَمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ إِنَّمَا تَلْزَمُ بِالْمُخَالَفَةِ أَوْ بِإِرَادَةِ الْمُخَالَفَةِ، فَكَذَلِكَ الأَْمْرُ فِي الظِّهَارِ (3) .
وَبِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَلاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 237، وحاشية الدسوقي 2 / 446، وروضة الطالبين 8 / 270، والمغني 7 / 351، وبداية المجتهد 2 / 91.
(2) بداية المجتهد 2 / 91، والمغني 7 / 352.
(3) بداية المجتهد 2 / 91.(35/93)
يَحْنَثُ بِغَيْرِ الْحِنْثِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ، وَالْحِنْثُ فِيهَا هُوَ الْعَوْدُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدِ
وَبِهِ قَال طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهَا تُفِيدُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ، لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} وَالْعَوْدُ: هُوَ الْعَوْدُ بِالظِّهَارِ فِي الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ مَعْنَى الآْيَةِ: أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلاَقَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنُسِخَ تَحْرِيمُهُ بِالْكَفَّارَةِ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ الظِّهَارَ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ (4) وَأَنَّهُ مَعْنًى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْعُلْيَا، فَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَهَا بِنَفْسِهِ لاَ بِمَعْنًى زَائِدٍ، تَشْبِيهًا بِكَفَّارَةِ الْقَتْل وَالْفِطْرِ (5) .
وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِقَوْل الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ،
__________
(1) المغني 7 / 352.
(2) بداية المجتهد 2 / 91، والمغني 7 / 351، وتفسير الرازي 29 / 259.
(3) بداية المجتهد 2 / 92.
(4) المغني 7 / 351.
(5) بداية المجتهد 2 / 91.(35/93)
وَهَذَا يَحْصُل بِمُجَرَّدِ الظِّهَارِ (1) .
الْعَوْدُ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْعَوْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: الْعَهْدُ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ قَال الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: الْعَوْدُ هُوَ الْوَطْءُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: الْعَهْدُ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي النِّكَاحِ زَمَنًا يُمْكِنُهُ فِيهِ مُفَارَقَتَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (4) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: الْعَوْدُ: هُوَ تَكْرَارُ لَفْظِ الظِّهَارِ وَإِعَادَتُهُ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بُكَيْرُ بْنُ الأَْشَجِّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَهُوَ قَوْل الْفَرَّاءِ (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 351.
(2) بدائع الصنائع 3 / 236، وحاشية الدسوقي 2 / 447، وبداية المجتهد 2 / 91، والمغني 7 / 353.
(3) تفسير الرازي 29 / 258، والمغني 7 / 352، 353، وحاشية الدسوقي 2 / 447، وبداية المجتهد 2 / 91.
(4) روضة الطالبين 8 / 271، وتفسير الرازي 29 / 257.
(5) الجامع لأحكام القرآن 17 / 281، وبداية المجتهد 2 / 91، والمغني 7 / 353، وتفسير الرازي 29 / 259.(35/94)
وَقَدِ اسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ أَنَّهَا نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَال: إِذَا عَزَمْتَ عَلَى الْوَطْءِ فَكَفِّرْ قَبْلَهُ (1) ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
وَقَالُوا: إِنَّهُ قَصَدَ بِالظِّهَارِ تَحْرِيمَهَا، فَالْعَزْمُ. عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَ.
وَإِنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، فَكَانَ عَائِدًا (2) .
وَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الظِّهَارِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرَادَتِهِ الْعَوْدَةَ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ، وَهُوَ الْوَطْءُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَوْدَةُ إِمَّا الْوَطْءُ نَفْسُهُ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ (3) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الثَّانِي: بِأَنَّ الْعَوْدَ فِعْلٌ ضِدُّ قَوْلِهِ، وَمِنْهُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ هُوَ الرَّاجِعُ فِي الْمَوْهُوبِ، وَالْعَائِدُ فِي عِدَتِهِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 236.
(2) المغني 7 / 353.
(3) بداية المجتهد 2 / 91.(35/94)
التَّارِكُ لِلْوَفَاءِ بِهَا، وَالْعَائِدُ فِيهَا نَهْيٌ عَنْهُ: فَاعِل الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَال تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فَالْمُظَاهِرُ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَانِعٌ لَهَا مِنْهُ، فَالْعَوْدُ فِعْلُهُ (1) ، أَيْ فِعْل الْوَطْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِظِهَارِهِ.
وَبِأَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، فَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا، وَهُوَ فِعْل مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْوَطْءِ، لأَِنَّهَا يَمِينٌ تَقْتَضِي تَرْكَ الْوَطْءِ، فَلاَ تَجِبُ كَفَّارَتُهَا إِلاَّ بِهِ كَالإِْيلاَءِ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الثَّالِثِ: بِأَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ فَقَدْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ وَصَل ذَلِكَ بِالطَّلاَقِ، فَقَدْ تَمَّمَ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنِ الطَّلاَقِ، فَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (3) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الرَّابِعِ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} .
وَهَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ إِعَادَةُ مَا فَعَلُوهُ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّكْرَارِ، لأَِنَّ الْعَوْدَ فِي الشَّيْءِ إِعَادَتُهُ (4) .
__________
(1) المغني 7 / 353.
(2) المغني 7 / 354.
(3) تفسير الرازي 29 / 257، ومغني المحتاج 3 / 356.
(4) تفسير الرازي 29 / 259، المغني 7 / 353.(35/95)
وَقَالُوا إِنَّ الَّذِي يُعْقَل مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي الْعَوْدِ إِلَى الشَّيْءِ، إِنَّمَا هُوَ فِعْل مِثْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، كَمَا أَنَّ الْعَوْدَ فِي الْقَوْل عِبَارَةٌ عَنْ تَكْرَارِهِ، قَال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْقَوْل الأَْوَّل فَيُكَرِّرُونَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ عَوْدَهُمْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ، هُوَ إِتْيَانُهُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً بِمِثْل مَا نُهُوا عَنْهُ، وَمَا فَعَلُوهُ أَوَّل مَرَّةٍ (1) .
شُرُوطُ الْكَفَّارَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلْكَفَّارَةِ شُرُوطًا عَامَّةً وَأُخْرَى خَاصَّةً تَتَعَلَّقُ بِكُل سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِهَا:
أَوَّلاً: الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ فِي الْكَفَّارَاتِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَّارَاتِ عُمُومًا شُرُوطٌ، مِنْهَا:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: النِّيَّةُ:
67 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ لِصِحَّتِهَا وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَا ظِهَارٍ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ لاَ يَنْوِي عَنْ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا جَازَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 236.(35/95)
عَنْهُمَا، وَكَذَا إِذَا صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا جَازَ، لأَِنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى نِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُمَا رَقَبَةً وَاحِدَةً أَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَل ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ لَمْ يَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لأَِنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَتَلْغُو وَفِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ مُفِيدٌ، وَقَال زُفَرُ لاَ يَجْزِيهِ عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ عَنْ كَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فِطْرٍ فِي رَمَضَانَ وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ.
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْ كَفَّارَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَامَ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى يَصُومَ عَنْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَهْرَيْنِ، وَقَدْ قِيل: إِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيهِ.
وَلَوْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ إِحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً أُخْرَى، وَلَوْ عَيَّنَ الْكَفَّارَةَ عَنْ إِحْدَاهُمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ الْكَفَّارَةَ عَنِ الأُْخْرَى، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَأَعْتَقَ عَنْهُنَّ ثَلاَثَ رِقَابٍ، وَصَامَ شَهْرَيْنِ، لَمْ يُجْزِهِ الْعِتْقُ وَلاَ الصِّيَامُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا صَامَ عَنْ كُل وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُنَّ بِالإِْطْعَامِ جَازَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُنَّ مِائَتَيْ
__________
(1) الهداية وشروحها 4 / 109.(35/96)
مِسْكِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَّقَ بِخِلاَفِ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ، لأَِنَّ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ لاَ يُفَرَّقُ وَالإِْطْعَامُ يُفَرَّقُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْكَفَّارَةِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِأَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الإِْطْعَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ لأَِنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ تَطْهِيرًا كَالزَّكَاةِ، وَالأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهَا بِأَنْ تُقَيَّدَ بِظِهَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِي زَكَاةِ الْمَال تَعْيِينُ الْمَال الْمُزَكَّى بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ بَل تَكْفِي نِيَّةُ أَصْلِهَا، فَلَوْ أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ قَتْلٍ وَظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً وَقَعَتْ عَنْ إِحْدَاهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ تَعْيِينُهَا فِي النِّيَّةِ كَالصَّلاَةِ لأَِنَّهَا فِي مُعْظَمِ خِصَالِهَا نَازِعَةٌ إِلَى الْغَرَامَاتِ فَاكْتُفِيَ فِيهَا بِأَصْل النِّيَّةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُجْزِئُ إِطْعَامٌ وَعِتْقٌ وَصَوْمٌ إِلاَّ بِنِيَّةٍ، بِأَنْ يَنْوِيَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3) ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيل الطُّهْرَةِ فَافْتَقَرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَنَوَى عَنْ كَفَّارَتَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَعْيِينُ سَبَبِهَا
__________
(1) تفسير القرطبي 17 / 285.
(2) مغني المحتاج 3 / 359.
(3) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب.(35/96)
سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ، لأَِنَّ النِّيَّةَ تَعَيَّنَتْ لَهَا، وَلأَِنَّهُ نَوَى عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلاَ مُزَاحِمَ لَهَا فَوَجَبَ تَعْلِيقُ النِّيَّةِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجِبْ تَعْيِينُ سَبَبِهَا فَلَوْ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ أَرْبَعٍ فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ إِحْدَاهُنَّ وَحَلَّتْ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَأَجْزَأَتْهُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَخْرُجُ بِقُرْعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ، فَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ مِنْ ثَلاَثِ نِسْوَةٍ فَأَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِ إِحْدَاهُنَّ وَصَامَ عَنْ ظِهَارِ أُخْرَى لِعَدَمِ مَنْ يُعْتِقُهُ وَمَرِضَ فَأَطْعَمَ ظِهَارَ أُخْرَى أَجْزَأَهُ لِمَا تَقَدَّمَ وَحَل لَهُ الْجَمِيعُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلاَ تَعْيِينٍ، لأَِنَّ التَّكْفِيرَ حَصَل عَنِ الثَّلاَثِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَاتُ مِنْ أَجْنَاسٍ كَظِهَارٍ وَقَتْلٍ وَجِمَاعٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَيَمِينٍ لَمْ يَجِبْ تَعْيِينُ السَّبَبِ أَيْضًا، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ أَدَائِهَا إِلَى تَعْيِينِ سَبَبِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ مِنْ ظِهَارٍ بِأَنْ قَال لِكُل مِنْ زَوْجَتَيْهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ مِنْ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ فَقَال: أَعْتَقْتُ هَذَا عَنْ هَذِهِ الزَّوْجَةِ أَوْ أَعْتَقْتُ هَذَا عَنْ هَذِهِ الزَّوْجَةِ الأُْخْرَى، أَوْ قَال: أَعْتَقْتُ هَذَا عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهَذَا عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْل. أَجْزَأَهُ، أَوْ قَال أَعْتَقْتُ هَذَا عَنْ(35/97)
إِحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ وَأَعْتَقْتُ هَذَا عَنِ الْكَفَّارَةِ الأُْخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَجْزَأَهُ لِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ أَعْتَقَهُمَا أَيِ الْعَبْدَيْنِ عَنِ الْكَفَّارَتَيْنِ مَعًا أَوْ قَال أَعْتَقْتُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَنْهُمَا أَيِ الْكَفَّارَتَيْنِ جَمِيعًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْقُدْرَةُ:
68 - يُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكَفِّرِ عَلَى التَّكْفِيرِ، لأَِنَّ إِيجَابَ الْفِعْل عَلَى غَيْرِ الْقَادِرِ مُمْتَنِعٌ.
فَإِذَا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةً فَلاَ يُجْزِئُهُ الاِنْتِقَال مِنْ خَصْلَةٍ إِلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى يَعْجِزَ عَنِ الأُْولَى، فَمَنْ مَلَكَ رَقَبَةً مَثَلاً لاَ يُجْزِئُهُ الاِنْتِقَال عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الصِّيَامِ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ الصِّيَامَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِقَال إِلَى الإِْطْعَامِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْمُكَفِّرُ فِيهِ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ التَّكْفِيرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُعْتَبَرَ لِلْقُدْرَةِ وَالْيَسَارَ هُوَ وَقْتُ الأَْدَاءِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَاعْتُبِرَ حَال أَدَائِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ، فَكَانَ الاِعْتِبَارُ بِحَالَةِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 388، 389.(35/97)
الْوُجُوبِ كَالْحَدِّ (1) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ الْكَفَّارَاتِ الْخَاصَّةِ
تَخْتَلِفُ هَذِهِ الشُّرُوطُ بِاخْتِلاَفِ أَسْبَابِهَا وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ:
شُرُوطُ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
69 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْل وَالاِنْعِقَادَ شُرُوطٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، لأَِنَّ الْقَلَمَ - أَيِ التَّكْلِيفَ - مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ (2) .
كَمَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ لَغَا فِي يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (3) وَالْمُرَادُ بِالْعَقْدِ الْقَصْدُ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الإِْسْلاَمِ، وَالاِخْتِيَارِ، وَالْعَمْدِ، هَل تُعْتَبَرُ شُرُوطًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَمْ لاَ؟ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَيْمَانٌ ف 51 - 54)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 97، 98، والكافي لابن عبد البر 1 / 454، ومغني المحتاج 3 / 365، وكشاف القناع (5 / 376) .
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 558) والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) سورة المائدة / 89.(35/98)
شُرُوطُ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ
70 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْل شَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُظَاهِرِ، لأَِنَّ عَبَّارَةَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَغْوٌ فَلاَ تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَعَلَى الْمُكْرَهِ وَغَيْرِ الْعَامِدِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ظِهَارٌ ف 16، 21)
شُرُوطُ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْقَتْل الْخَطَأِ
مِنَ الشُّرُوطِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَا يَلِي:
أ - الإِْسْلاَمُ
71 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْقَاتِل لإِِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَاتِل، لأَِنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَالْكَفَّارَةُ مِنْ فُرُوعِهَا (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 297، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 286، ومغني المحتاج 4 / 107، والمغني 8 / 93، 94.(35/98)
ب - الْبُلُوغُ وَالْعَقْل:
72 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَاتِل، فَتَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَهُمْ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ فَتَجِبُ فِي مَالِهِمَا، فَيُعْتِقُ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا وَلاَ يَصُومُ بِحَالٍ، وَإِنْ صَامَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ أَجْزَأَهُ.
وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَيْ جَعَل الشَّيْءَ سَبَبًا، فَالشَّارِعُ جَعَل الْقَتْل سَبَبًا لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالصَّوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَمْ يَجْعَل ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِلصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَل.
وَقَالُوا: إِنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لأَِنَّ سَبَبَهَا قَوْلٌ وَالْقَوْل غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مِنْهُمَا، بِخِلاَفِ كَفَّارَةِ الْقَتْل فَإِنَّ سَبَبَهَا فِعْلٌ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنَ الْجَمِيعِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْل شَرْطَانِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى الْقَاتِل الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَلأَِنَّ الْقَتْل مَعْدُومٌ مِنْهُمَا حَقِيقَةً (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 286، ومغني المحتاج 4 / 107، والكافي لابن قدامة 4 / 143.
(2) البناية على الهداية 10 / 18، وبدائع الصنائع 7 / 293.(35/99)
ج - الاِخْتِيَارُ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَاتِل أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا، وَأَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل الْمُكْرَهِ لأَِنَّهُ مَسْلُوبُ الإِْرَادَةِ (1) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى نَفْيِ الإِْثْمِ عَنِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ، وَنَفْيُ الإِْثْمِ يُوجِبُ نَفْيَ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لِمَحْوِهِ.
الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الاِخْتِيَارُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُكْرَهِ لأَِنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْل، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا (3) .
د - الْحُرِّيَّةُ فِي الْقَاتِل:
74 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ اشْتِرَاطَ حُرِّيَّةِ الْقَاتِل لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْعَبْدَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) مغني المحتاج 4 / 107، 108.(35/99)
عِنْدَهُمْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ وَمَا مَلَكَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، وَالصَّوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ يُضْعِفُهُ فَيَضُرُّ بِسَيِّدِهِ (1) .
الثَّانِي: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَتَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآْيَةَ (3) ، فَالآْيَةُ عَامَّةٌ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ لأَِنَّ " مَنْ " مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَلاَ تُخَصَّصُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.
شُرُوطُ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
75 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْسْلاَمَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْل شُرُوطٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِسَبَبِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يُعْتَبَرُ صَوْمُهُ شَرْعًا وَالْمَجْنُونُ كَذَلِكَ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ صَوْمُهُ لَكِنَّهُ لاَ يَعْقِل حُرْمَةَ هَذَا الشَّهْرِ (4) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَلاَ تَجِبُ فِي غَيْرِهِ كَقَضَائِهِ أَوْ صَوْمِ النَّذْرِ وَنَحْوِهِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِهَتْكِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 286، بدائع الصنائع 7 / 297.
(2) روضة الطالبين 9 / 380، والكافي لابن قدامة 4 / 143.
(3) سورة النساء / 92.
(4) شرح منح الجليل 1 / 397 ط مكتبة النجاح - ليبيا، ومغني المحتاج 1 / 442، والكافي لابن قدامة 1 / 343.(35/100)
حُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ (1) .
76 - وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَمْدِ وَالاِخْتِيَارِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَمْدَ وَالاِخْتِيَارَ شَرْطَانِ فِي وُجُوبِهَا، فَلَمْ يُوجِبُوا الْكَفَّارَةَ بِالْجِمَاعِ الْحَادِثِ عَلَى وَجْهِ الإِْكْرَاهِ أَوِ الْخَطَأِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَمْدِ وَالاِخْتِيَارِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَتَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِل السَّائِل عَنْ حَالِهِ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لاَسْتَفْصَلَهُ (3) .
وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (ف 25 - 27) .
مَا يُشْتَرَطُ لإِِجْزَاءِ الْكَفَّارَاتِ
وَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي أَفْرَادِ الْكَفَّارَاتِ حَتَّى تَكُونَ مُجْزِئَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 409 ط مصطفى الحلبي، مواهب الجليل 2 / 433، وروضة الطالبين 2 / 374، والكافي 1 / 356.
(2) البناية شرح الهداية 3 / 300 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 2 / 409، ومواهب الجليل 2 / 431، وشرح منح الجليل 2 / 402، ومغني المحتاج 2 / 443، وروضة الطالبين 2 / 374.
(3) كشاف القناع 2 / 323، والكافي لابن قدامة1 / 356.(35/100)
الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالإِْطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ:
أَوَّلاً: مِنْ حَيْثُ الْكَيْفِيَّةُ:
77 - التَّمْلِيكُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي الإِْطْعَامِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقُ الأَْوَّل: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الإِْطْعَامُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَكُل الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ فَإِذَا قَدَّمَ الْمُكَفِّرُ الطَّعَامَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى وَجْهِ الإِْبَاحَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ التَّكْفِيرَ وَاجِبٌ مَالِيٌّ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِيَتَمَكَّنَ الْفَقِيرُ مِنْ أَخْذِهِ، وَالْقَوْل بِالإِْبَاحَةِ وَالتَّمْكِينِ لاَ يُفِيدُ ذَلِكَ، حَيْثُ إِنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَأْخُذُ حَقَّهُ كَامِلاً وَقَدْ لاَ يَأْخُذُهُ لاَ سِيَّمَا وَأَنَّ كُل مِسْكِينٍ يَخْتَلِفُ عَنِ الآْخَرِ صِغَرًا وَكِبَرًا، جُوعًا وَشِبَعًا.
وَأَنَّ الطَّعَامَ عَلَى سَبِيل الإِْبَاحَةِ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِ الْمُكَفِّرِ وَلاَ كَفَّارَةَ بِمَا هَلَكَ فِي مِلْكِهِ (1) .
الْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَشْتَرِطُونَ تَمْلِيكَ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ، بَل الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ، فَيَكْفِي عِنْدَهُمْ دَعْوَةُ الْمَسَاكِينِ إِلَى قُوتِ يَوْمٍ - غَدَاءً وَعَشَاءً - فَإِذَا حَضَرُوا وَتَغَدَّوْا وَتَعَشَّوْا كَانَ ذَلِك مُجْزِئًا (2) .
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 2 / 132، وحاشية القليوبي 4 / 274، والمغني 8 / 734 وما بعدها.
(2) تبيين الحقائق 3 / 11، والمبسوط 8 / 151 - ط. دار المعرفة.(35/101)
وَاسْتَدَلُّوا. بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) وَالإِْطْعَامُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنَ الطَّعَامِ لاَ أَنْ يَمْتَلِكَهُ، وَالْمَسْكَنَةُ: الْحَاجَةُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى أَكْل الطَّعَامِ دُونَ تَمَلُّكِهِ.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (2) ، وَالإِْطْعَامُ لِلأَْهْل يَكُونُ عَلَى سَبِيل الإِْبَاحَةِ لاَ عَلَى سَبِيل التَّمَلُّكِ.
ثَانِيًا: مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ:
78 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطَى كُل مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ قِيمَةِ الطَّعَامِ عَمَلاً بِنَصِّ الآْيَةِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يُنْقِصَ الْحِصَصَ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى عِشْرِينَ مِسْكِينًا عَشْرَةَ أَمْدَادٍ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ مُدٍّ إِلاَّ أَنْ يُكْمِل لِعَشَرَةٍ مِنْهُمْ مَا نَقَصَ.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الإِْطْعَامُ لِلْعَشَرَةِ فَلاَ يَصِحُّ التَّلْفِيقُ، فَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً لاَ يُجْزِئُ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ الْمُدَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة المائدة / 89.(35/101)
الْمَالِكِيَّةِ تَكَرُّرُ الإِْعْطَاءِ لِوَاحِدٍ، فَلَوْ أَطْعَمَ وَاحِدًا عَشْرَةَ أَمْدَادٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ لاَ يُجْزِئُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطَى لِكُل مِسْكِينٍ مُدَّانِ أَيْ نِصْفُ صَاعٍ (2) مِنَ الْقَمْحِ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ مِنَ النُّقُودِ أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ بِالْقِيمَةِ.
أَمَّا مِقْدَارُ طَعَامِ الإِْبَاحَةِ عِنْدَهُمْ: فَأَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، أَيْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُغَدِّيَ كُل مِسْكِينٍ وَيُعَشِّيَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَشَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ، أَوْ غَدَّاهُمْ غَدَاءَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُمَا أَكْلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ.
أَمَّا إِذَا غَدَّى وَاحِدًا، وَعَشَّى وَاحِدًا آخَرَ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَرَّقَ طَعَامَ الْعَشْرَةِ عَلَى عِشْرِينَ، وَهُوَ لاَ يَصِحُّ.
كَذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ لاَ يُعْطِيَ الْكَفَّارَةَ كُلَّهَا لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً عَلَى عَشْرِ مَرَّاتٍ.
أَمَّا لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشْرَةَ أَيَّامٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 132، والقوانين الفقهية ص 163، ومغني المحتاج 4 / 327، وحاشية القليوبي وعميرة 4 / 275، والمغني 8 / 736، والعدة شرح العمدة 483.
(2) الصاع: أربعة أمداد. والمد: رطل وثلث بالرطل العراقي، والرطل العراقي (130 درهمًا) ، ويقدر بالكيل بثلث قدح مصري. يراجع مختار الصحاح ص 373 مادة " صوع "، مادة " مدد ".(35/102)
غَدَاءً وَعَشَاءً، أَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشْرَةَ أَيَّامٍ كُل يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ جَازَ لأَِنَّ تَجَدُّدَ الْحَاجَةِ كُل يَوْمٍ يَجْعَلُهُ كَمِسْكِينٍ آخَرَ فَكَأَنَّهُ صَرَفَ الْقِيمَةَ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ (1) .
ثَالِثًا: مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ:
79 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُجْزِئَ فِي الإِْطْعَامِ هُوَ الْبُرُّ، أَوِ الشَّعِيرُ، أَوِ التَّمْرُ، دَقِيقُ كُل وَاحِدٍ كَأَصْلِهِ كَيْلاً أَيْ نِصْفُ صَاعٍ فِي دَقِيقِ الْبُرِّ وَصَاعٌ فِي دَقِيقِ الشَّعِيرِ، وَقِيل: الْمُعْتَبَرُ فِي الدَّقِيقِ الْقِيمَةُ، لاَ الْكَيْل، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْطْعَامَ يَكُونُ مِنَ الْقَمْحِ إِنِ اقْتَاتُوهُ، فَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُهُ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنِ اقْتَاتُوا غَيْرَ الْقَمْحِ فَمَا يَعْدِلُهُ شِبَعًا لاَ كَيْلاً (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْطْعَامَ يَكُونُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، لأَِنَّ الأَْبْدَانَ تَقُومُ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الإِْطْعَامُ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَدَقِيقِهِمَا وَالتَّمْرِ
__________
(1) المبسوط 8 / 149 وما بعدها، وبدائع الصنائع 5 / 101 وما بعدها، وتحفة الفقهاء 2 / 506.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 478، 479.
(3) القوانين الفقهية ص 241، وحاشية الدسوقي 2 / 454.
(4) مغني المحتاج 3 / 366، 367.(35/102)
وَالزَّبِيبِ وَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قُوتَ بَلَدِهِ إِلاَّ إِذَا عُدِمَتْ تِلْكَ الأَْقْوَاتُ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (2) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3) .
رَابِعًا: الْمُسْتَحِقُّ لِلإِْطْعَامِ:
80 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحَل الْمُنْصَرَفِ إِلَيْهِ الطَّعَامُ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ - أَنْ لاَ يَكُونَ مَنْ تُصْرَفُ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مِمَّنْ يَلْزَمُ الْمُكَفِّرَ نَفَقَتُهُ، كَالأُْصُول وَالْفُرُوعِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ إِشْعَارُ الْمُكَفِّرِ بِأَلَمٍ حِينَ يُخْرِجُ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ كَفَّارَةً عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ إِذَا أَطْعَمَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ.
ب - أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِطْعَامُ الْكَافِرِ مِنَ الْكَفَّارَاتِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَمُحَمَّدٌ إِعْطَاءَ فُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (4) ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 466.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) سورة المجادلة / 4.
(4) سورة المائدة / 89.(35/103)
الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِهِ.
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ هَاشِمِيًّا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لَهُمْ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ خُمُسِ الْغَنَائِمِ (1) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْكِسْوَةِ:
81 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلتَّكْفِيرِ بِالْكِسْوَةِ شُرُوطًا مُجْمَلُهَا - عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي بَعْضِهَا - مَا يَلِي: أ - أَنْ تَكُونَ الْكِسْوَةُ عَلَى سَبِيل التَّمْلِيكِ.
ب - أَنْ تَكُونَ الْكِسْوَةُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ قَدِيمًا أَوْ جَدِيدًا رَقِيقًا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ.
ج - أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُسَمَّى كِسْوَةً، فَتُجْزِئُ الْمُلاَءَةُ وَالْجُبَّةُ وَالْقَمِيصُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلاَ تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ وَلاَ السَّرَاوِيل عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ لاَبِسَهَا لاَ يُسَمَّى مُكْتَسِيًا عُرْفًا بَل يُسَمَّى عُرْيَانًا خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا الْكِسْوَةَ بِالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيل، لأَِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْكِسْوَةِ.
د - أَنْ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ ثَوْبًا سَاتِرًا وَخِمَارًا يُجْزِئُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ (2) .
__________
(1) المبسوط 8 / 150 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 2 / 454، ونهاية المحتاج 7 / 102، والمغني 7 / 375.
(2) المبسوط 8 / 153، والشرح الكبير بهامش الدسوقي 2 / 132، والقليوبي وعميرة 4 / 274، والمغني 8 / 743.(35/103)
مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ:
82 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ مَا يَلِي:
أ - النِّيَّةُ: فَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ الْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْل لأَِنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ.
ب - التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل وَجِمَاعِ نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنْ قَطَعَ التَّتَابُعَ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ الأَْخِيرِ وَجَبَ الاِسْتِئْنَافُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَتَابُعٌ ف 3، 9 - 17) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْفِيرِ بِالإِْعْتَاقِ:
83 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الْمُجْزِئَةِ فِي الْكَفَّارَةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً مِلْكًا كَامِلاً لِلْمُعْتِقِ، فَلاَ يَجُوزُ إِعْتَاقُ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يَعْتِقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
ب - أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةَ الرِّقِّ، فَلاَ يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْمُدَبَّرِ، لأَِنَّهُ سَيُصْبِحُ حُرًّا بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ.
أَمَّا الْمُكَاتِبُ فَيَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ج - أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ الْمُخِلَّةِ بِالْعَمَل وَالْكَسْبِ، فَلاَ يَجُوزُ إِعْتَاقُ(35/104)
مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ أَشَلِّهِمَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
د - أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ مُؤْمِنَةً، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ يَرَوْنَ جَوَازَ إِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الْقَتْل (1) .
خِصَال الْكَفَّارَةِ:
84 - خِصَال الْكَفَّارَةِ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ: الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَالإِْطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل مُرَتَّبَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَعَلَى الْمُكَفِّرِ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً إِذَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِأَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ حِسًّا كَأَنْ يَكُونَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَوْ شَرْعًا كَأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ثَمَنِهَا زَائِدًا عَلَى مَا يَفِي بِمُؤَنِهِ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُظَاهِرُ أَوِ الْمُجَامِعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَنِ الصَّوْمِ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ خَافَ مِنَ الصَّوْمِ زِيَادَةَ مَرَضٍ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 7، والمبسوط 8 / 144، ومراقي الفلاح ص 366، وبداية المجتهد 2 / 285، والقوانين الفقهية ص 241، ومغني المحتاج 1 / 441، والمهذب مع المجموع 8 / 743، وكشاف القناع 5 / 379 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 2 / 99 و5 / 95 وما بعدها، والمدونة 1 / 218، ومغني المحتاج 1 / 442 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 3 / 127 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 327.(35/104)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ إِفْسَادِ الصَّوْمِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَأَنَّ أَفْضَل خِصَالِهَا الإِْطْعَامُ لِكَثْرَةِ تَعَدِّي نَفْعِهِ.
وَأَمَّا كَفَّارَتَا الظِّهَارِ وَالْقَتْل فَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ (1) .
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْجَمِيعِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِكَفَّارَةِ الصَّوْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِخِلاَفِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَتَسْتَقِرُّ عِنْدَهُمْ.
وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ بِدَلِيل أَنَّ الأَْعْرَابِيَّ لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى لَمَّا دَفَعَ إِلَيْهِ التَّمْرَ (2) .
أَمَّا كَفَّارَةُ الْقَتْل فَلَيْسَ فِيهَا إِطْعَامٌ بَل هِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ ابْتِدَاءً وَمُرَتَّبَةٌ انْتِهَاءً فَيَخْتَارُ فِي أَوَّلِهَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 150 - 151، والقوانين الفقهية ص 121، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 245 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 2 / 99، 5 / 95 - 96، 112، والقوانين الفقهية 120 - 122، ومغني المحتاج 1 / 444 - 445، 3 / 367، والمغني 3 / 129 - 132.(35/105)
بَيْنَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتِهِمْ أَوْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ إِلاَّ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَالِمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَل وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (3) وَمَا عَدَا كَفَّارَةِ الْقَتْل فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ أَمَةً. أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ إِلاَّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل لإِِطْلاَقِ النُّصُوصِ فِي غَيْرِ الْقَتْل، وَلاِمْتِنَاعِ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِيجَابَ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ وَهُوَ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 453، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 158 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 327، والمغني لابن قدامة 8 / 734.
(2) سورة المائدة / 89.
(3) سورة النساء / 92.
(4) حديث: " أعتقها فإنها مؤمنة ". أخرجه مسلم (1 / 382) من حديث معاوية بن الحكم السلمي.(35/105)
يُوجِبُ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ (1) .
كَفَنٌ
.
انْظُرْ: تَكْفِينٌ
كَفِيلٌ
. انْظُرْ: كَفَالَة.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 425، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 316، وجواهر الإكليل 1 / 151، ومغني المحتاج 3 / 360، 1 / 444، والمغني 7 / 359، 3 / 127، وكشاف القناع 2 / 323، 5 / 379 وما بعدها.(35/106)
كَلأٌَ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْكَلأَُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
الْعُشْبُ رَطْبًا كَانَ أَمْ يَابِسًا، وَالْجَمْعُ أَكْلاَءٌ مِثْل سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، يُقَال: مَكَانٌ مُكْلِئٌ: فِيهِ كَلأٌَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْكَاسَانِيُّ: الْكَلأَُ حَشِيشٌ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ مَا يَنْبَسِطُ وَيَنْتَشِرُ وَلاَ سَاقَ لَهُ كَالإِْذْخِرِ وَنَحْوِهِ (3) ، وَقَال الدَّرْدِيرُ: الْكَلأَُ: الْعُشْبُ (4) .
حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِالْكَلأَِ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا نَبَتَ مِنَ الْكَلأَِ فِي الأَْمَاكِنِ الْمُبَاحَةِ كَالأَْوْدِيَةِ، وَالْجِبَال وَالأَْرَاضِي الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ كَلَئِهَا وَلاَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وسبل السلام 3 / 86.
(2) بدائع الصنائع 6 / 193.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 283.
(4) الشرح الكبير 4 / 70 هامش حاشية الدسوقي.(35/106)
رَعْيِ مَاشِيَتِهِ فِيهَا (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلأَِ (2) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ثَلاَثٌ لاَ يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ (3) .
وَالْحَدِيثَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي الْكَلأَِ النَّابِتِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، وَفِي الْجِبَال وَالأَْوْدِيَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَحْمِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ أَخْذِهِ أَوْ رَعْيِ مَاشِيَتِهِ (4) ، أَمَّا النَّابِتُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ مُحَجَّرَةٍ فَفِي جَوَازِ حِمَاهُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَا نَبَتَ - أَيْ مِنَ الْكَلأَِ - فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ بِلاَ إِنْبَاتِ صَاحِبِهَا حُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ، أَيْ لاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنَ الأَْخَذِ مِنْهُ وَلاَ رَعْيُ مَاشِيَتِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ لِرَبِّ الأَْرْضِ الْمَنْعَ مِنَ الدُّخُول فِي أَرْضِهِ (5) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُل مِلْكَ غَيْرِهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 283، والمغني 5 / 580، وشرح الزرقاني 7 / 74.
(2) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث: الماء. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 751) من حديث رجل من المهاجرين.
(3) حديث: " ثلاث لا يمنعن: الماء. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 826) من حديث أبي هريرة، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 65) .
(4) ابن عابدين 5 / 283، وسبل السلام 3 / 84 - 86، ونيل الأوطار 6 / 48 - 50، والمغني 5 / 580، وشرح الزرقاني 7 / 74، ومغني المحتاج 2 / 368.
(5) ابن عابدين 5 / 283.(35/107)
لاِحْتِشَاشِ الْكَلأَِ فَإِذَا كَانَ يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلِصَاحِبِ الأَْرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الدُّخُول وَإِنْ كَانَ لاَ يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
يُقَال لِصَاحِبِ الأَْرْضِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُول وَإِمَّا أَنْ تَحُشَّ بِنَفْسِكَ فَتَدْفَعَهُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا احْتَشَّ مَالِكٌ آخَرُ الْكَلأََ الَّذِي نَبَتَ فِي أَرْضِهِ دُونَ إِنْبَاتٍ كَانَ أَنْبَتَهُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ بِوَجْهٍ لِحُصُولِهِ بِكَسْبِهِ (2) .
وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لأَِبِي يُوسُفَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْل قَرْيَةٍ لَهُمْ مُرُوجٌ يَرْعَوْنَ فِيهَا، وَيَحْتَطِبُونَ مِنْهَا، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهَا لَهُمْ فَهِيَ لَهُمْ عَلَى حَالِهَا، يَتَبَايَعُونَهَا، وَيَتَوَارَثُونَهَا، وَيُحْدِثُونَ فِيهَا مَا يُحْدِثُ الرَّجُل فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْكَلأََ وَلاَ الْمَاءَ، وَلأَِصْحَابِ الْمَوَاشِي أَنْ يَرْعَوْا فِي تِلْكَ الْمُرُوجِ وَيَسْتَقُوا مِنْ تِلْكَ الْمِيَاهِ، وَلَيْسَتِ الآْجَامُ كَالْمُرُوجِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَحْتَطِبَ مِنْ أَجَمَةِ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ بَقَرٍ رَعَى بَقَرَهُ فِي أَجَمَةِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَضَمِنَ مَا رَعَى وَأَفْسَدَ.
وَالْكَلأَُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُدْفَعُ مُعَامَلَةً. ثُمَّ قَال: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لأَِهْل هَذِهِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ تَكُونُ لَهُمْ هَذِهِ الْمُرُوجُ، وَفِي مِلْكِهِمْ مَوْضِعُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 193.
(2) ابن عابدين 5 / 283.(35/107)
مَسْرَحٍ وَمَرْعًى لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ غَيْرِ هَذِهِ الْمُرُوجِ، وَكَانُوا مَتَى أَذِنُوا لِلنَّاسِ فِي رَعْيِ هَذِهِ الْمُرُوجِ أَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ وَبِمَوَاشِيهِمْ وَدَوَابِّهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا كُل مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْعَى أَوْ يَحْتَطِبَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَرْعًى وَمَوْضِعُ احْتِطَابٍ حَوْلَهُمْ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ وَلاَ يَحِل لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الاِحْتِطَابَ وَالرَّعْيَ مِنَ النَّاسِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَمْنَعُ مَالِكُ أَرْضٍ تَرَكَهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا وَلَمْ يُبَوِّرْهَا لِلرَّعْيِ مِنْ رَعْيِ كَلأٍَ لَمْ يَزْرَعْهُ فِيهَا، وَلاَ يَمْنَعُ رَعْيَ كَلأٍَ نَبَتَ فِي أَرْضٍ لَهُ لاَ تَقْبَل الزَّرْعَ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ رَعْيَ مَاشِيَتِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَحَل عَدَمِ مَنْعِهِمَا، حَيْثُ لَمْ يَكْتَنِفْهُ زَرْعٌ لَهُ يَخْشَى أَنْ تُفْسِدَهُ الْمَوَاشِي، فَإِنِ اكْتَنَفَهُ فَلَهُ مَنْعُهُ، وَلَهُ مَنْعُ كَلأَِ مَرْجِ دَوَابِّهِ مِنْ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا.
وَحِمَاهُ الَّذِي بَوَّرَهُ مِنْ أَرْضِهِ لِلْمَرْعَى، لَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ رَعْيِ كَلأَِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَبَيْعِهِ، هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، أَمَّا غَيْرُهَا كَالْفَيَافِي، فَقَال ابْنُ رُشْدٍ: النَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ اتِّفَاقًا (2) .
وَإِنْ سَبَقَ شَخْصٌ إِلَى مَوْضِعٍ فِيهِ كَلأٌَ وَقَصَدَهُ مِنْ بُعْدٍ، فَتَرَكَهُ وَرَعَى مَا حَوْلَهُ فَهَل
__________
(1) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 102 - 104.
(2) شرح الزرقاني 7 / 74.(35/108)
لَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الرَّعْيِ فِيهِ؟ قَال الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَفِي قَوْلٍ: يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَفِي قَوْلٍ: إِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوْضِعِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
قَال الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ أَعْدَل الأَْقْوَال وَأَوْلاَهَا بِالصَّوَابِ: لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ عَلَى الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ مَرْعًى فَتَذْهَبُ نَفَقَتُهُ فِي الْبِئْرِ بَاطِلاً (1) .
مَا يُحْمَى مِنْ مَوَاضِعِ الْكَلأَِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ وَضَالَّةٍ وَضَعِيفٍ عَنِ النُّجْعَةِ بِأَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِ مَا حَمَاهُ بِحَيْثُ لاَ يَضُرُّهُمْ، أَنْ يَكُونَ قَلِيلاً مِنْ كَثِيرٍ تَكْفِي بَقِيَّتُهُ النَّاسَ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَا النَّقِيعَ لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ (3) .
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ لِخَبَرِ:
__________
(1) شرح الزرقاني 7 / 74.
(2) الرتاج 1 / 696 - 699، وعمدة القاري 12 / 212 وما بعدها، والزرقاني 7 / 67، ومغني المحتاج 2 / 368، والمغني 5 / 585 وما بعدها.
(3) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حمى النقيع. . . ". أخرجه البيهقي في سننه (6 / 146) من حديث ابن عمر، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (5 / 45) .(35/108)
00 لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ (1) وَفِي شُرُوطِ الْجَوَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِل الْحِمَى تَفْصِيلٌ فِي مُصْطَلَحِ (حِمًى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
رَعْيُ نَبَاتِ الْحَرَمِ:
4 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَكَلَئِهِ لأَِنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تُسَاقُ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا فِي الْحَرَمِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: حَرَمٌ. ف 10 - 12) .
__________
(1) حديث: " لا حمى إلا لله ورسوله " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 44) من حديث الصعب بن جثامة.(35/109)
كَلاَلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَلاَلَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَلاَل: وَهُوَ التَّعَبُ وَذَهَابُ الْقُوَّةِ مِنَ الإِْعْيَاءِ، أَوْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الإِْكْلِيل: بِمَعْنَى. الإِْحَاطَةِ: مِنْ تَكَلَّلَهُ أَحَاطَ بِهِ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْكَلاَلَةِ فَقِيل: الْكَلاَلَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ: مَا عَدَا الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْكَلاَلَةُ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ الَّذِي لاَ وَالِدَ لَهُ وَلاَ وَلَدَ، فَالأَْبُ وَالاِبْنُ طَرَفَانِ لِلْمَيِّتِ فَإِذَا ذَهَبَا تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ أَطَافُوا بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْكَلاَلَةِ، فَقَال: مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلاَ وَالِدٌ (2) .
قَال الرَّاغِبُ فَجَعَلَهُ اسْمًا لِلْمَيِّتِ، وَكِلاَ
__________
(1) لسان العرب، وتفسير البغوي 1 / 404، وروح المعاني 3 / 229، والبحر المحيط لابن حيان 3 / 188، والمغني 6 / 167 - 168، وتفسير القرطبي في سورة النساء آية / 12، ومغني المحتاج 3 / 11، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم " سئل عن الكلالة. . . ". ورد بمعناه عند أبي داود في المراسيل (ص 272) من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف.(35/109)
الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ.
2 - وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَلاَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (1) إِلَخْ الآْيَةِ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .
مِيرَاثُ الْكَلاَلَةِ:
3 - الَّذِينَ يَرِثُونَ كَلاَلَةً أَصْنَافٌ مِنَ الْوَرَثَةِ يَجْمَعُهُمْ أَنَّهُمْ مَنْ عَدَا وَالِدِ الْمَيِّتِ وَوَلَدِهِ، وَهَؤُلاَءِ مِنْهُمُ: الإِْخْوَةُ الأَْشِقَّاءُ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ ف 42 - 45 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة النساء / 12.
(2) سورة النساء / 176.(35/110)
كَلاَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَلاَمُ اسْمٌ مِنْ كَلَّمْتُهُ تَكْلِيمًا، وَالْكَلاَمُ فِي أَصْل اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَصْوَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ لِمَعْنًى مَفْهُومٍ.
وَفِي اصْطِلاَحِ النَّحْوِيِّينَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا تَرَكَّبَ مِنْ مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: وَالْكَلاَمُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ لأَِنَّهُ يُقَال فِي نَفْسِي كَلاَمٌ (1) ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} (2) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّفْظُ
2 - اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ، يُقَال: لَفَظَ رِيقَهُ وَغَيَّرَهُ لَفْظًا: رَمَى بِهِ، وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ،
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (كلم) .
(2) سورة المجادلة / 8.(35/110)
وَاسْتُعْمِل الْمَصْدَرُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى أَلْفَاظٍ (1) . وَاللَّفْظُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَا يَنْطِقُ بِهِ الإِْنْسَانُ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ مُهْمَلاً كَانَ أَوْ مُسْتَعْمَلاً (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْكَلاَمِ: أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ الْكَلاَمِ.
ب - الإِْشَارَةُ
3 - الإِْشَارَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّلْوِيحُ بِشَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ النُّطْقِ، كَالإِْيمَاءِ بِالرَّأْسِ، وَالْكَفِّ وَالْعَيْنِ (3) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْشَارَةِ وَالْكَلاَمِ أَنَّهُمَا وَسِيلَةٌ لإِِفَادَةِ الْمَعْنَى.
ج - السُّكُوتُ
4 - السُّكُوتُ فِي اللُّغَةِ الصَّمْتُ وَانْقِطَاعُ الْكَلاَمِ، وَالسُّكُوتُ خِلاَفُ النُّطْقِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ، قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلاَمِ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(4) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمفردات للراغب الأصفهاني مادة (سكت) .
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 135.(35/111)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالْكَلاَمِ التَّضَادُّ.
د - الْخِطَابُ.
5 - الْخِطَابُ فِي اللُّغَةِ الْكَلاَمُ بَيْنَ مُتَكَلِّمٍ وَسَامِعٍ (1) ، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْكَلاَمُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ (2) .
وَالْخِطَابُ أَخَصُّ مِنَ الْكَلاَمِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - كَلاَمُ الْعَاقِل الْبَالِغِ مُبَاحٌ فِي الأَْصْل لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: (الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةِ) (3) إِلاَّ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِمَا قَدْ يُحِيطُ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ حَرَامًا، إِلَى جَانِبِ حُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ وَهُوَ الإِْبَاحَةُ وَذَلِكَ كَمَا يَلِي:
فَمِنَ الْكَلاَمِ الْوَاجِبِ: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِلدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَمٌ ف 17) .
وَمِنَ الْكَلاَمِ الْوَاجِبِ تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) البحر المحيط 1 / 126.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 97.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 300 - 324، وحاشية الدسوقي 1 / 231، ومغني المحتاج 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 330.(35/111)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ ف 2) .
وَمِنَ الْكَلاَمِ الْمَنْدُوبِ التَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ فِي بَعْضِ أَفْعَال الصَّلاَةِ، كَالاِفْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالتَّلْبِيَةِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْبِيحٌ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَمِنَ الْكَلاَمِ الْمَكْرُوهِ:
الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 27) .
وَمِنَ الْكَلاَمِ الْمُحَرَّمِ: الْقَذْفُ وَالتَّلَفُّظُ بِالْكُفْرِ وَالسَّبِّ (3) .
وَأَمَّا كَلاَمُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فَهُوَ لَغْوٌ وَلاَ حُكْمَ لَهُ لاِنْعِدَامِ التَّكْلِيفِ فِي حَقِّهِمَا (4) لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة والقليوبي وعميرة 2 / 98.
(2) ابن عابدين 1 / 550 - 551، وكشاف القناع 2 / 47، ومغني المحتاج 1 / 187، وحاشية الدسوقي 1 / 387.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 166، ومغني المحتاج 4 / 155، والمغني 8 / 215.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 285، 2 / 389، ومغني المحتاج 4 / 137.
(5) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 560) والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(35/112)
وَالتَّفْصِيل فِي (أَهْلِيَّةٌ ف 14 - 27) .
اشْتِرَاطُ الْكَلاَمِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ:
7 - الْكَلاَمُ قَدْ يَكُونُ رُكْنًا فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَنَحْوِهَا كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ، وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (1) ، وَالإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى فَإِنَّ الْكَلاَمَ فِيهَا رُكْنٌ مَا دَامَ مُمْكِنًا، وَلاَ تَصِحُّ بِدُونِهِ وَلاَ تَنْعَقِدُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْكَلاَمُ كَالأَْخْرَسِ وَالْغَائِبِ قَامَتِ الْكِتَابَةُ وَالإِْشَارَةُ مَقَامَهُ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَنْوَاعُ الْكَلاَمِ وَطُرُقُ دِلاَلَتِهِ عَلَى مَعْنَاهُ:
8 - لِلْكَلاَمِ أَنْوَاعٌ لَدَى الْعُلَمَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ عِلْمِهِمْ، فَعُلَمَاءُ النَّحْوِ يُقَسِّمُونَهُ إِلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ.
وَعُلَمَاءُ أُصُول الْفِقْهِ يُقَسِّمُونَ الْكَلاَمَ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ، ثُمَّ يُقَسِّمُونَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُطْلَقِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300، 322، وحاشية الدسوقي 1 / 231، ومغني المحتاج 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 330.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 262، ومغني المحتاج 3 / 139، وكشاف القناع 5 / 37.(35/112)
وَالْمُقَيَّدِ، كَمَا يُقَسِّمُونَ الْكَلاَمَ مِنْ حَيْثُ دِلاَلَتُهُ عَلَى مَعْنَاهُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَكِنَايَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْخِل الْكِنَايَةَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي الْمَجَازِ وَلاَ يَجْعَلُهَا قَسِيمًا لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ الْكَلاَمَ إِلَى عِبَارَةٍ وَإِشَارَةٍ وَدِلاَلَةٍ، وَاقْتِضَاءٍ، وَإِلَى مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ، وَإِلَى مُشْكِلٍ وَمُشْتَرَكٍ، وَإِلَى مَنْطُوقٍ وَمَفْهُومٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
هَل يُعَدُّ السُّكُوتُ كَلاَمًا؟ :
9 - الأَْصْل أَنَّ السُّكُوتَ لاَ يُعَدُّ كَلاَمًا، وَلاَ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِمَّا يُبْنَى عَلَى الْقَوْل لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) (2) .
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ يَنْزِل السَّاكِتُ فِيهَا مَنْزِلَةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَيُبْنَى عَلَى سُكُوتِهِ أَحْكَامُ الْقَائِل الْمُتَكَلِّمِ لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ (السُّكُوتُ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ) (3) .
فَإِذَا اسْتَأْذَنَ الأَْبُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الْعَاقِلَةَ الْبَالِغَةَ فِي أَمْرِ زَوَاجِهَا مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَسَكَتَتْ، عُدَّ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى رِضَاهَا بِالزَّوَاجِ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذْنُهَا
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 406.
(2) المادة / 66 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) المادة / 67 من مجلة الأحكام العدلية.(35/113)
صُمَاتُهَا (1) وَذَلِكَ مَا لَمْ يُرَافِقِ السُّكُوتَ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَدُل عَلَى الرَّفْضِ كَالْبُكَاءِ وَالإِْعْرَاضِ، وَإِلاَّ لَمْ يُعَدَّ رِضًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُكُوتٌ ف 11) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلاَمِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ وَالْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ وَالْكَلاَمِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الإِْشَارَةُ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُل شَيْءٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلاَمِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا.
وَقَال الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ الْعَقْدَ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الإِْشَارَةُ كَالْكَلاَمِ وَتَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ وَالْكَلاَمِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ ف 4، وَعَقْدٌ ف 15) .
الْكَلاَمُ حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَفِي الْخَلاَءِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) حديث: " إذنها صماتها ". أخرجه مسلم (2 / 1037) من حديث ابن عباس.
(2) درر الحكام لعلي حيدر 1 / 59، والمغني لابن قدامة 6 / 493.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 343 - 344، والفواكه الدواني 2 / 57، ومغني المحتاج 2 / 217، والمغني لابن قدامة 7 / 239، والإنصاف 2 / 98، ومطالب أولي النهى 4 / 422، 6 / 657.(35/113)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ أَثْنَاءَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَفِي الْخَلاَءِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ بِأَنْ رَأَى ضَرِيرًا يَقَعُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً أَوْ غَيْرَهَا تَقْصِدُ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْتَرَمَاتِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
وَقَال ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ: لاَ بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَحْمُودٌ عَلَى كُل حَالٍ (1) .
الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ بِكَلاَمِ النَّاسِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَإِنْ دَعَتْ إِلَى الْكَلاَمِ حَاجَةٌ يَخَافُ فَوْتَهَا بِتَرْكِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْكُ الأَْدَبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ حَال الْوُضُوءِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الأَْذَانِ:
13 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْفَصْل بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَسُكُوتٍ أَوْ كَلاَمٍ أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 165، والفتاوى الهندية 1 / 50، ومواهب الجليل 1 / 275، وكفاية الأخيار 2 / 19، والمجموع 2 / 90 - 91، والمغني 1 / 166 - 167، وكشاف القناع 1 / 63.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 8، ومواهب الجليل 1 / 255، والشرح الصغير 1 / 127، والمجموع 1 / 465، وكفاية الأخيار 1 / 17، وكشاف القناع 1 / 103 - 104، والفروع 1 / 152.(35/114)
غَيْرِهِ إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلاَ يُبْطِل الأَْذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ الْكَلاَمِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ، وَقَالُوا. يُكْرَهُ الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الأَْذَانِ حَتَّى وَلَوْ بِرَدِّ السَّلاَمِ وَيُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَيَرُدُّ السَّلاَمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الأَْذَانِ، وَيُبْطِلُهُ الْكَلاَمُ الطَّوِيل لأَِنَّهُ يَقْطَعُ الْمُوَالاَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الأَْذَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ رَدَّ السَّلاَمِ فِي أَثْنَاءِ الأَْذَانِ (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ ف 23) .
الْكَلاَمُ بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالصَّلاَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ فِي الإِْقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ فِي الإِْقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْل مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ أَوْ رَأَى مَنْ قَصَدَتْهُ حَيَّةٌ وَجَبَ إِنْذَارُهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلاَمُ الْقَلِيل لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الْكَلاَمُ بَل يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الأَْفْضَل (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 149، والبحر الرائق 1 / 272، وحاشية ابن عابدين 1 / 260، ومواهب الجليل 1 / 427، وأسنى المطالب 1 / 128، والمجموع 3 / 112، والمغني 1 / 424 - 425، وكشاف القناع 1 / 241.
(2) بدائع الصنائع 1 / 409، وحاشية ابن عابدين 1 / 260، وأسنى المطالب 1 / 128، ونهاية المحتاج 1 / 411 - 412، والمجموع 3 / 115.(35/114)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَوَافَقَهُمُ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الإِْقَامَةِ وَبَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالصَّلاَةِ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، لأَِنَّ الإِْقَامَةَ حَدْرٌ وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا (1)
. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقَامَةٌ ف 16) .
الْكَلاَمُ بَعْدَ النِّيَّةِ وَقَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلاَمِ بَعْدَ النِّيَّةِ وَقَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْوِي الصَّلاَةَ الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِنِيَّةٍ لاَ يَفْصِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّحْرِيمَةِ بِعَمَلٍ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ التَّكْبِيرُ مِمَّا يَدُل عَلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ بَعْدَ النِّيَّةِ وَقَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، هَذَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لأَِمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: كَرَاهَةَ الْكَلاَمِ حِينَ الإِْقَامَةِ وَحُرْمَتَهُ بَعْدَ إِحْرَامِ الإِْمَامِ، وَلاَ يَخْتَصُّ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 427، وحاشية الدسوقي 1 / 179، والمغني 1 / 425، والإنصاف 1 / 420، وكشاف القناع 1 / 241.
(2) فتح القدير 1 / 231، والفتاوى الهندية 1 / 71 - 72، وعمدة القاري 2 / 681.(35/115)
ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْكَلاَمُ بَعْدَ النِّيَّةِ وَقَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لاَ يَجُوزُ وَيُبْطِل الصَّلاَةَ، وَلَوْ قَال: نَوَيْتُ أُصَلِّي الظُّهْرَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَوَيْتُ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ لأَِنَّ قَوْلَهُ (نَوَيْتُ) بَعْدَ التَّكْبِيرِ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الصَّلاَةِ وَقَدْ طَرَأَ بَعْدَ انْعِقَادِ الصَّلاَةِ فَأَبْطَلَهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ النِّيَّةِ وَقَبْل التَّكْبِيرِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ لأَِنَّ الْكَلاَمَ لاَ يُنَافِي الْعَزْمَ الْمُتَقَدِّمَ وَلاَ يُنَاقِضُ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فَتَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مُنَاقِضٌ (3) .
الْكَلاَمُ فِي الصَّلاَةِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِالْكَلاَمِ (4) لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُل صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ (5) ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 385.
(2) حاشية الباجوري 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 149، والمجموع 3 / 289.
(3) كشاف القناع 1 / 316.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 413، والمبسوط 1 / 170، وحاشية الدسوقي 1 / 289، ومغني المحتاج 1 / 195، ومطالب أولي النهى 1 / 520 - 538، والمغني 2 / 46،47.
(5) حديث زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة. . أخرجه مسلم (1 / 383) .(35/115)
00 بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَلَمَّا صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صَلاَةٌ ف) .
الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ وَقَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ يَحْرُمُ أَثْنَاءَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَيَجِبُ الإِْنْصَاتُ مِنْ حِينِ يَأْخُذُ الإِْمَامُ فِي الْخُطْبَةِ فَلاَ يَجُوزُ الْكَلاَمُ لأَِحَدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ، وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَأَيْتَهُ يَتَكَلَّمُ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَأَقْرِعْ رَأْسَهُ بِالْعَصَا (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) قَال
__________
(1) حديث معاوية بن الحكم السلمي: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . أخرجه مسلم (1 / 381 - 382) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 147، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 281 - 283، وحاشية الدسوقي 1 / 386، وشرح الزرقاني 2 / 64، وكفاية الأخيار 1 / 93، والمجموع 4 / 523، والمغني 2 / 323، وكشاف القناع 2 / 36 - 38.
(3) سورة الأعراف / 204.(35/116)
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ وَسُمِّيَتِ الْخُطْبَةُ قُرْآنًا لاِشْتِمَالِهَا عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي يُتْلَى فِيهَا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ (1) وَاللَّغْوُ الإِْثْمُ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: يَحْرُمُ فِي الْخُطْبَةِ كَلاَمٌ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا وَالأَْكْل وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ، وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلاَمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ يُكْرَهُ الرَّدُّ لأَِنَّهُ فَرْضٌ (2) .
وَصَرَّحَ الدَّرْدِيرُ بِحُرْمَةِ رَدِّ السَّلاَمِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ وَتَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَنَهْيِ لاَغٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ (3)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا سَمِعَ الإِْنْسَانُ مُتَكَلِّمًا لَمْ يَنْهَهُ بِالْكَلاَمِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ وَلَكِنْ يُشِيرُ إِلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَيَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى فِيهِ، وَمِمَّنْ رَأَى أَنْ يُشِيرَ وَلاَ يَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَرِهَ
__________
(1) حديث: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 414) ومسلم (2 / 582) .
(2) فتح القدير 2 / 37 - 38 نشر دار إحياء التراث العربي.
(3) الشرح الصغير 1 / 512 - 513.(35/116)
الإِْشَارَةَ طَاوُسٌ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ، وَالإِْنْصَاتُ سُنَّةٌ (2) ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهِ رَجُلٌ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَال: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَلَمْ يَفْعَل وَأَعَادَ الْكَلاَمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ: وَيْحَكَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَال: حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَال: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ (3) . وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلاَمَهُمْ وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ لأََنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ.
وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاةُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. . . (4) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَوَرَدَ أَنَّ عُثْمَانَ دَخَل وَعُمَرُ يَخْطُبُ فَقَال عُمَرُ: مَا بَال رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ، فَقَال عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ (5) ، فَدَلَّتِ
__________
(1) المغني 2 / 323.
(2) المجموع 4 / 523، كفاية الأخيار 1 / 93، والمغني 2 / 320.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه رجل وهو يخطب يوم الجمعة. أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3 / 149) .
(4) حديث أنس: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 412 - 413) .
(5) أثر: أن عثمان دخل وعمر يخطب. . أخرجه مسلم (2 / 580) .(35/117)
الأَْحَادِيثُ عَلَى جَوَازِ الْكَلاَمِ حَال الْخُطْبَةِ.
18 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ الْكَلاَمُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَقَبْل الصَّلاَةِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ خِلاَفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُهَذَّبِ، هَذَا فِي الْكَلاَمِ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ، فَأَمَّا إِذَا رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا تَدِبُّ عَلَى إِنْسَانٍ فَأَنْذَرَهُ فَلاَ يَحْرُمُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَا لَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ فَإِنَّهُ لاَ يَحْرُمُ قَطْعًا وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَْصْحَابُ (1) .
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي جَوَازِ الْكَلاَمِ قَبْل الْخُطْبَتَيْنِ وَبَعْدَهُمَا وَبَيْنَهُمَا إِذَا سَكَتَ الإِْمَامُ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلاَةَ وَالْكَلاَمَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ بَأْسَ بِالْكَلاَمِ إِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَل قَبْل أَنْ يُكَبِّرَ، وَاخْتَلَفَا فِي جُلُوسِهِ إِذَا سَكَتَ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ الْكَلاَمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 65، وحاشية الدسوقي 1 / 387، والمغني لابن قدامة 2 / 323، والفتاوى الهندية 1 / 147، والطحطاوي 1 / 281 - 283.
(2) المجموع 4 / 523، وكفاية الأخيار 1 / 93.(35/117)
الْكَرَاهَةَ لِلإِْخْلاَل بِفَرْضِ الاِسْتِمَاعِ وَلاَ اسْتِمَاعَ هُنَا (1) .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يُبَاحُ الْكَلاَمُ لإِِطْلاَقِ الأَْمْرِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَيَجُوزُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ (3) .
الْكَلاَمُ فِي الْمَسَاجِدِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلاَمِ فِي الْمَسَاجِدِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ فِي الْمَسَاجِدِ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا (4) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَالْكَلاَمُ الْمُبَاحُ فِيهِ مَكْرُوهٌ يَأْكُل الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُل النَّارُ الْحَطَبَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَخُوضَ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا، وَيُشْتَغَل بِالطَّاعَةِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكَلاَمِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ، قَال النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ التَّحَدُّثُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 470.
(2) مراقي الفلاح ص 282 - 283، وفتح القدير 2 / 37.
(3) الخرشي 2 / 88، والشرح الصغير 1 / 509.
(4) فتح القدير 1 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 203، وكشاف القناع 1 / 327، 2 / 369.
(5) كشاف القناع 1 / 327، 2 / 369، وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 3 / 269 - 270.(35/118)
بِالْحَدِيثِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَإِنْ حَصَل فِيهَا ضَحِكٌ وَنَحْوُهُ مَا دَامَ مُبَاحًا (1) لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَقُومُ مِنْ مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ (2) .
الْكَلاَمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى حُرْمَةِ الْكَلاَمِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ وَالإِْنْصَاتَ لَهُ أَيِ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْكَلاَمِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ فِي الصَّلاَةِ أَوْ خَارِجِهَا سَوَاءٌ فُهِمَ الْمَعْنَى أَوْ لاَ (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) .
وَيُكْرَهُ السَّلاَمُ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمًا عِنْدَ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ عَلَى الْقَارِئِ جَهْرًا كَانَ أَوْ خُفْيَةً، أَمَّا غَيْرُ الْقَارِئِ فَيُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا.
قَال الْحَلِيمِيُّ: يُكْرَهُ الْكَلاَمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 / 180.
(2) حديث جابر بن سمرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 463) .
(3) بريقة محمودية شرح طريقة محمدية 3 / 268.
(4) سورة الأعراف / 240.(35/118)
الْقُرْآنِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِمُكَالَمَةِ أَحَدٍ، وَاسْتَدَل بِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، وَلأَِنَّ كَلاَمَ اللَّهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيْهِ كَلاَمُ غَيْرِهِ (1) .
وَيُسَنُّ الاِسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَرْكُ الْكَلاَمِ وَاللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ لِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وَتِلاَوَةٌ ف 17، وَقُرْآنٌ ف 16) .
الْكَلاَمُ فِي الطَّوَافِ:
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الْكَلاَمِ أَثْنَاءَ الطَّوَافِ لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لاَ حَاجَةَ فِيهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنِ الدُّعَاءِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْكَلاَمِ فِي الطَّوَافِ وَلاَ يَبْطُل بِهِ وَلاَ يُكْرَهُ، لَكِنِ الأَْوْلَى وَالأَْفْضَل تَرْكُ الْكَلاَمِ فِي الطَّوَافِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَلاَمًا فِي خَيْرٍ كَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ تَعْلِيمِ جَاهِلٍ أَوْ جَوَابِ فَتْوَى (4) ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) أثر ابن عمر أنه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم. . أخرجه البخاري (الفتح 8 / 189) .
(2) بريقة محمودية 3 / 268، والبرهان في علوم القرآن 1 / 464، 475، والإتقان 1 / 109.
(3) بدائع الصنائع 1 / 131، وشرح اللباب ص 110، ومواهب الجليل 3 / 68.
(4) المجموع 8 / 45 - 46.(35/119)
تَعَالَى أَحَل لَكُمْ فِيهِ الْكَلاَمَ فَمَنْ يَتَكَلَّمْ فَلاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ بِخَيْرٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدَعَ الْحَدِيثَ وَالْكَلاَمَ فِي الطَّوَافِ إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ فَأَقِلُّوا مِنَ الْكَلاَمِ (3) ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ مِثْل الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِالْخَيْرِ (4) ، قَال التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ الرَّجُل فِي الطَّوَافِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْعِلْمِ (5) .
وَالْكَلاَمُ الْمُبَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لاَ بَأْسَ بِهِ، أَمَّا الْكَلاَمُ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَقِلُّوا الْكَلاَمَ فِي
__________
(1) حديث: " الطواف بالبيت صلاة. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 459) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه البيهقي.
(2) المغني 3 / 378، ومطالب أولي النهى 2 / 394.
(3) حديث: " الطواف بالبيت صلاة. . . ". أخرجه النسائي (5 / 222) وصححه ابن حجر في التلخيص (1 / 130) .
(4) حديث: " الطواف حول البيت مثل الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 284) .
(5) سنن الترمذي (3 / 284) .(35/119)
الطَّوَافِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ فِي صَلاَةٍ. (1) وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَال: ". . . . طُفْتُ خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا سَمِعْتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا مُتَكَلِّمًا ". (2)
الْحَلِفُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمَ أَوْ لاَ يُكَلِّمَ، وَالنَّذْرُ كَذَلِكَ:
22 - إِذَا حَلَفَ إِنْسَانٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُ فُلاَنًا أَوْ يُكَلِّمُهُ أَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا إِذَا تَكَلَّمْتُ مَعَ فُلاَنٍ أَوْ لَمْ أَتَكَلَّمْ مَعَهُ فَلَهُ حَالاَتٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي (أَيْمَانٌ ف 136 وَمَا بَعْدَهَا، وَنَذْرٌ) .
الْكَلاَمُ عَلَى الطَّعَامِ:
23 - قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مِنْ آدَابِ الأَْكْل أَنْ لاَ يَسْكُتُوا عَلَى الطَّعَامِ بَل يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَاسِطَ الإِْخْوَانَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ عِنْدَ الأَْكْل وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَال إِذَا كَانُوا مُنْقَبِضِينَ لِيَحْصُل لَهُمُ الاِنْبِسَاطُ وَيَطُول جُلُوسُهُمْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُسْتَقْذَرُ بَل يَذْكُرُ نَحْوَ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّ مِنْ آدَابِ الأَْكْل - الْكَلاَمَ عَلَى الطَّعَامِ وَلاَ يَسْكُتُ عَنِ الْكَلاَمِ فَإِنَّ السُّكُوتَ الْمَحْضَ مِنْ سِيَرِ الأَْعَاجِمِ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِالْمُبَاحِ
__________
(1) أثر ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البيهقي (5 / 85) .
(2) أثر ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البيهقي (5 / 85) .(35/120)
وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَمِنْ هَذَا قِيل: الصَّمْتُ عَلَى الطَّعَامِ، مِنْ سِيرَةِ الْجُهَلاَءِ وَاللِّئَامِ، لاَ مِنْ سِيرَةِ الْعُلَمَاءِ الْكِرَامِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ الْحَدِيثُ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ كَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ عَلَى الطَّعَامِ، وَتَقْلِيل الْكَلاَمِ أَوْلَى.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِمَنْ يَأْكُل مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يُسْتَقْذَرُ أَوْ بِمَا يُضْحِكُهُمْ أَوْ يُخْزِيهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ (1) .
الْكَلاَمُ عِنْدَ الْجِمَاعِ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ عِنْدَ الْجِمَاعِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ الْكَلاَمُ عِنْدَ الْجِمَاعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَقِيل مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَقِيل تَحْرِيمًا، قَالُوا: يُكْرَهُ الْكَلاَمُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْخَلاَءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ لأَِنَّهُ أَقْوَى فِي إِسَاءَةِ الأَْدَبِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُجَامِعُ يُكْرَهُ لَهُ التَّكَلُّمُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ عَطَسَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعٍ حَمِدَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلاَ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَتُكْرَهُ كَثْرَةُ الْكَلاَمِ حَال الْوَطْءِ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 244، وبريقة محمودية في شرح طريقة محمودية 4 / 107، وأسنى المطالب 3 / 227، ومغني المحتاج 3 / 250، وكشاف القناع 5 / 176 - 180.(35/120)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُكْرَهُ الإِْكْثَارُ مِنَ الْكَلاَمِ حَال الْجِمَاعِ لأَِنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلاَمُ حَال الْبَوْل وَحَال الْجِمَاعِ فِي مَعْنَاهُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهَ عَلَى حَالَيْنِ: عَلَى الْخَلاَءِ وَالرَّجُل يُوَاقِعُ أَهْلَهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلرَّجُل أَنْ يُكَلِّمَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ الْوَطْءِ وَلاَ إِشْكَال فِي جَوَازِهِ وَلاَ وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَطْءٌ) .
هَجْرُ الْكَلاَمِ مَعَ الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا:
25 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَهْجُرَ زَوْجَتَهُ بِالْكَلاَمِ.
فَقَال الرَّمْلِيُّ: يَحْرُمُ هَجْرُ الزَّوْجَةِ بِالْكَلاَمِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لِكُل أَحَدٍ مِنْهُمَا إِلاَّ إِنْ قَصَدَ بِهِ رَدَّهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَإِصْلاَحَ دِينِهَا لاَ حَظَّ نَفْسِهِ، وَلاَ الأَْمْرَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ، لِجَوَازِ الْهَجْرِ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَكَوْنِ الْمَهْجُورِ نَحْوَ فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ وَكَصَلاَحِ دِينِهِ أَوْ دِينِ الْهَاجِرِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ هَجْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى زِيَادَةِ الْفِسْقِ فَيَنْبَغِي امْتِنَاعُهُ عَنِ الْهَجْرِ.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: هَجْرُ الزَّوْجَةِ فِي الْكَلاَمِ
__________
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 3 / 267، وأسنى المطالب 1 / 46، وكشاف القناع 5 / 194، والمغني لابن قدامة 7 / 25.
(2) عمدة القاري 1 / 665.
(3) مواهب الجليل 3 / 406، والقوانين الفقهية ص 141.(35/121)
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ لاَ فَوْقَهَا (1) ، لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (2) .
وَيَحْرُمُ الْهِجْرَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ لِبِدْعَةٍ فِي الْمَهْجُورِ أَوْ تَظَاهُرٍ بِفِسْقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ هَجَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَنَهَى الصَّحَابَةَ عَنْ كَلاَمِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (3) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هَجْرٌ، وَنُشُوزٌ) .
مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ كَلاَمِ أَبَوَيْهَا:
26 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ كَلاَمِ أَبَوَيْهَا (4) .
قَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلاَ يَمْلِكُ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ كَلاَمِ أَبَوَيْهَا، وَلاَ يَمْلِكُ مَنْعَهُمَا مِنْ زِيَارَتِهَا، لأَِنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ إِلاَّ مَعَ ظَنِّ حُصُول ضَرَرٍ يُعْرَفُ بِقَرَائِنِ الْحَال بِسَبَبِ زِيَارَتِهِمَا (5) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ لأَِبَوَيْهَا وَسَائِرِ أَهْلِهَا يُنْظَرُ فِي (زِيَارَةٌ ف 8) .
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 383، ومطالب أولي النهى 5 / 287.
(2) حديث: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 21) ومسلم (4 / 1984) .
(3) عمدة القاري 9 / 490.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 272، والمغني لابن قدامة 7 / 20.
(5) كشاف القناع 5 / 197.(35/121)
الْكَلاَمُ مَعَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّكَلُّمُ مَعَ الشَّابَّةِ الأَْجْنَبِيَّةِ بِلاَ حَاجَةٍ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَقَالُوا إِنَّ الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ إِذَا سَلَّمَتْ عَلَى الرَّجُل إِنْ كَانَتْ عَجُوزًا رَدَّ الرَّجُل عَلَيْهَا لَفْظًا أَمَّا إِنْ كَانَتْ شَابَّةً يُخْشَى الاِفْتِتَانُ بِهَا أَوْ يُخْشَى افْتِتَانُهَا هِيَ بِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا فَالسَّلاَمُ عَلَيْهَا وَجَوَابُ السَّلاَمِ مِنْهَا حُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرَّجُل يَرُدُّ عَلَى سَلاَمِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ إِنْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَتَرُدُّ هِيَ فِي نَفْسِهَا إِنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (سَلاَمٌ ف 19) .
الْغِيبَةُ بِالْكَلاَمِ:
28 - الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَكُونُ بِالْكَلاَمِ، وَتَكُونُ بِغَيْرِهِ كَالإِْشَارَةِ وَالإِْيمَاءِ وَالْغَمْزِ وَالْهَمْزِ وَالْكِتَابَةِ وَالْحَرَكَةِ وَكُل ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (غِيبَةٌ ف 7، 8) .
قَطْعُ كَلاَمِ الْغَيْرِ:
29 - يُكْرَهُ قَطْعُ كَلاَمِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ
__________
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 4 / 1577، وحاشية ابن عابدين 1 / 272، 5 / 233، والفواكه الدواني 2 / 224، وشرح الزرقاني 3 / 110، وروضة الطالبين 10 / 229، والمغني 6 / 558 - 560.(35/122)
لِكَلاَمِهِ خُصُوصًا إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ الْمَقْطُوعُ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ أَوْ تَكْرَارِ الْفِقْهِ فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً (1) .
الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ:
30 - يُكْرَهُ الْكَلاَمُ أَثْنَاءَ الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَكَذَا بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ حَتَّى قِيل: التَّكَلُّمُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ يُنْقِصُ الثَّوَابَ وَلاَ يُسْقِطُهُ (2) .
تَخَلُّل الْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَتَخَلَّل الْعَقْدَ كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِي الْبَيْعِ الْفَصْل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول إِلاَّ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْبَيْعِ لِغَيْرِهِ عُرْفًا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا) .
مَا يَجِبُ فِي إِذْهَابِ الْكَلاَمِ:
32 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي إِذْهَابِ الْكَلاَمِ إِنْ بَقِيَ اللِّسَانُ وَذَهَبَتِ الْجِنَايَةُ بِالْكَلاَمِ وَحْدَهُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً بِإِذْهَابِ
__________
(1) بريقة محمودية شرح طريقة محمدية 3 / 299 - 300.
(2) بريقة محمودية شرح طريقة محمدية 3 / 300.
(3) ابن عابدين 4 / 20، والشرح الصغير 3 / 17، ومغني المحتاج 2 / 5 - 6، وكشاف القناع 3 / 145 - 148.(35/122)
الْكَلاَمِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 57 وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 22) .
كَلاَمُ الْقَاضِي مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا:
33 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي الْكَلاَمُ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا دُونَ الآْخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَرُبَّمَا أَضْعَفَهُ ذَلِكَ عَنْ إِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ حُجَّتَهُ، لأَِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا وَلِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَى الْقَاضِي الْعَدْل بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُل شَيْءٍ مِنَ الْكَلاَمِ، وَاللَّحْظِ، وَاللَّفْظِ، وَالإِْشَارَةِ وَالإِْقْبَال، وَالدُّخُول عَلَيْهِ، وَالإِْنْصَاتِ إِلَيْهِمَا وَالاِسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْقِيَامِ لَهُمَا، وَرَدِّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ لَهُمَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَةٌ ف 9 وَقَضَاءٌ ف 41) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 30.
(2) فتح القدير 6 / 373، والقوانين الفقهية ص 300، وروضة الطالبين 11 / 161، ومغني المحتاج 4 / 400، ومطالب أولي النهى 6 / 477. المغني لابن قدامة 9 / 80 - 81 - 82.(35/123)
كَلْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَلْبُ فِي اللُّغَةِ: كُل سَبُعٍ عَقُورٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَكْلُبٌ وَكِلاَبٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ: أَكَالِبُ، وَالأُْنْثَى كَلْبَةٌ وَجَمْعُهَا كِلاَبٌ. أَيْضًا وَكَلْبَاتٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ النَّبَّاحُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِنْزِيرُ
2 - الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ (3) وَيَشْتَرِكُ الْخِنْزِيرُ مَعَ الْكَلْبِ فِي نَجَاسَةِ الْعَيْنِ، وَنَجَاسَةِ كُل مَا نَتَجَ عَنْهُمَا وَحُرْمَةِ أَكْل لَحْمِهِمَا وَالاِنْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهِمَا وَأَشْعَارِهِمَا وَجُلُودِهِمَا وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَيَفْتَرِقَانِ فِي جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلاَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ بِحَالٍ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (كلب) .
(2) المفردات للراغب الأصفهاني.
(3) المصباح المنير.(35/123)
ب - السَّبُعُ
3 - السَّبُعُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَكَل السَّبُعُ} (1) أَيْ " وَمَا أَكَل مِنْهُ السَّبُعُ.
وَيُجْمَعُ عَلَى سِبَاعٍ، مِثْل رَجُلٍ وَرِجَالٍ وَلاَ جَمْعَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَالسَّبُعُ: كُل مَا لَهُ نَابٌ يَعْدُو بِهِ وَيَفْتَرِسُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كُل مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادَةً (3) .
وَالسَّبُعُ أَعَمُّ مِنَ الْكَلْبِ فَكُل كَلْبٍ سَبُعٌ وَلَيْسَ كُل سَبُعٍ كَلْبًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَلْبِ:
هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ اقْتِنَاؤُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَحِل صَيْدِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ: كَالصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْهَا (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُهُ لِغَيْرِ زَرْعٍ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) المصباح المنير.
(3) الدر المختار 6 / 304.
(4) ابن عابدين 5 / 134، 147، 217، وجواهر الإكليل 2 / 4، 35، حاشية القليوبي 2 / 157، وفتح الباري 5 / 7، والشرح الكبير مع المغني 4 / 14.(35/124)
أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ، وَقَال بَعْضُهُمْ بِجَوَازِهِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَال: مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاطٌ (2) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاطَانِ (3) .
وَأَمَّا اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ عَلَى الأَْصَحِّ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا زَالَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لَهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ زَوَال الْيَدِ عَنِ الْكَلْبِ بِفَرَاغِهَا، وَقَالُوا يَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجِرْوِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ تَعْلِيمُهُ لِذَلِكَ (5) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا فِي الْمُغْنِي - (6) أَنَّ مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِصَيْدٍ، ثُمَّ تَرَكَ الصَّيْدَ مُدَّةً، وَهُوَ
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 2 / 447.
(2) حديث أبي هريرة: " من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 5) ومسلم (3 / 1203) واللفظ لمسلم.
(3) حديث ابن عمر: " من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1201) .
(4) الشرح الكبير مع المغني 4 / 14.
(5) حاشية القليوبي 2 / 157، ومغني المحتاج 2 / 11.
(6) الشرح الكبير مع المغني 4 / 14.(35/124)
يُرِيدُ الْعَوْدَ إِلَيْهِ، لَمْ يَحْرُمِ اقْتِنَاؤُهُ فِي مُدَّةِ تَرْكِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الزَّرْعِ.
وَلَوْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ، فَأَرَادَ شِرَاءَ غَيْرِهَا فَلَهُ إِمْسَاكُ كَلْبِهَا لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الَّتِي يَشْتَرِيهَا.
وَإِنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِصَيْدِ مَنْ لاَ يَصِيدُ بِهِ، احْتَمَل الْجَوَازَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَاحْتَمَل الْمَنْعَ، لأَِنَّهُ اقْتَنَاهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنَ الْكِلاَبِ.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ لأَِمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ اقْتِنَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيمُهُ، لأَِنَّ التَّعْلِيمَ إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ جَوَازِ الإِْمْسَاكِ، فَيَكُونُ التَّعْلِيمُ حَرَامًا، وَالْحِل لاَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، " وَلأَِنَّهُ عُلِّل بِكَوْنِهِ شَيْطَانًا، وَمَا قَتَلَهُ الشَّيْطَانُ لاَ يُبَاحُ أَكْلُهُ كَالْمُنْخَنِقَةِ (1) .
وَتَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجِرْوِ الصَّغِيرِ لأَِحَدِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ - فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ قَصَدَهُ لِذَلِكَ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ نَفْعَ فِيهِ فِي الْحَال لِمَآلِهِ إِلَى الاِنْتِفَاعِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الصَّغِيرَ مَا أَمْكَنَ جَعْل الْكَلْبِ كَذَلِكَ، إِذْ لاَ يَصِيرُ مُعَلَّمًا إِلاَّ بِالتَّعْلِيمِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ إِلاَّ بِتَرْبِيَتِهِ وَاقْتِنَائِهِ مُدَّةً يُعَلِّمُهُ فِيهَا (2) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 348 - 349.
(2) المغني مع الشرح الكبير 4 / 14.(35/125)
الْتِقَاطُ الْكَلْبِ:
5 - يُبَاحُ الْتِقَاطُ كُل حَيَوَانٍ لاَ يَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ الْتِقَاطُ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَعَلَى مُلْتَقِطِهِ أَنْ يُعَرِّفَهُ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُهُ صَارَ مِلْكًا لِمُلْتَقِطِهِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا لَيْسَ بِمَالٍ: كَكَلْبٍ يُقْتَنَى، فَمَيْل الإِْمَامِ وَالآْخِذِينَ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ عَلَى قَصْدِ الْحِفْظِ أَبَدًا، لأَِنَّ الاِخْتِصَاصَ بِهِ بِعِوَضٍ مُمْتَنِعٌ، وَبِلاَ عِوَضٍ يُخَالِفُ وَضْعَ اللُّقَطَةِ، وَقَال الأَْكْثَرُونَ: يُعَرِّفُهُ سَنَةً، ثُمَّ يَخْتَصُّ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ صَاحِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَلِفَ فَلاَ ضَمَانَ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ الْتِقَاطُ مَا يَقْوَى عَلَى الاِمْتِنَاعِ بِنَفْسِهِ: لِكِبَرِ جُثَّتِهِ، كَالإِْبِل، أَوْ لِطَيَرَانِهِ، أَوْ لِسُرْعَتِهِ، كَالظِّبَاءِ، أَوْ بِنَابِهِ، كَالْكِلاَبِ وَالْفُهُودِ (3) .
الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ:
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِنَجَاسَةٍ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا لِثُبُوتِ الاِخْتِصَاصِ فِيهَا، كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ أَيْ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيمِ بِخِلاَفِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِكَلْبٍ مِنْ كِلاَبِهِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فِي
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 166.
(2) روضة الطالبين 5 / 405.
(3) المغني 5 / 740 ط. الرياض.(35/125)
صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَهَا بِتَعْيِينِ الْوَارِثِ أَيْ حَسَبَ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي كَلْبٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَغَتْ وَصِيَّتُهُ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَكِلاَبٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، وَوَصَّى بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا، فَالأَْصَحُّ نُفُوذُهَا وَإِنْ كَثُرَتِ الْكِلاَبُ الْمُوصَى بِهَا وَقَل الْمَال، لأَِنَّهُ خَيْرٌ مِنْهَا، إِذْ لاَ قِيمَةَ لَهَا.
وَالثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ، لاَ تَنْفُذُ إِلاَّ فِي ثُلُثِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَالٌ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى تُضَمَّ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: تُقَوَّمُ بِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَتُضَمُّ إِلَى الْمَال، وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ، أَيْ فِي قَدْرِهِ مِنَ الْكِلاَبِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، لأَِنَّهَا نَقْلٌ لِلْيَدِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَتَصِحُّ هِبَتُهُ لِذَلِكَ، وَقَال الْقَاضِي: لاَ تَصِحُّ، لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ لأَِنَّهُ يُؤْخَذُ عِوَضُهُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ (2) .
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَإِنْ وَصَّى بِكَلْبٍ وَلَهُ كِلاَبٌ، فَلِلْوَرَثَةِ إِعْطَاؤُهُ أَيَّ كَلْبٍ شَاءُوا.
وَإِنْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِكِلاَبِهِ، وَوَصَّى لآِخَرَ
__________
(1) القليوبي وعميرة 3 / 160 - 161.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 280 ط. مطبعة الرياض الحديثة.(35/126)
بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الْمَال، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْكِلاَبِ ثُلُثُهَا، إِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، لأَِنَّ مَا حَصَل لِلْوَرَثَةِ مِنْ ثُلُثَيِ الْمَال قَدْ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَال، وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْكِلاَبِ (1) .
سَرِقَةُ الْكَلْبِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ لِحِرَاسَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ (2) بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ مُبَاحُ الأَْصْل وَبِاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي مَالِيَّتِهِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ - وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ، لأَِنَّ الْقَطْعَ جُعِل لِصِيَانَةِ الأَْمْوَال، وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ لَيْسَتْ بِمَالٍ.
وَهَذَا خِلاَفًا لأَِشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِل بِالْقَطْعِ فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ (3) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 495.
(2) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكلب ". أخرجه مسلم (3 / 1198) من حديث أبي مسعود الأنصاري. بلفظ: " نهى عن ثمن الكلب ".
(3) ابن عابدين 4 / 94 ط. الحلبي، وجواهر الإكليل 2 / 290 - 291، والشرح الصغير 4 / 474، وروضة الطالبين 5 / 405، والقليوبي وعميرة 4 / 195، والمهذب 2 / 359، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 282.(35/126)
غَصْبُ الْكَلْبِ:
8 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ غَصْبَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ وَيَجِبُ رَدُّهُ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْرَمُ إِذْ لاَ قِيمَةَ لَهُ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ رَدُّ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَغْرَمْهُ.
(ر: مُصْطَلَحَ غَصْبٌ ف 13) .
مَا يُشْتَرَطُ لِحِل صَيْدِ الْكَلْبِ:
9 - يُشْتَرَطُ لِحِل الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ كَلْبُ الصَّيْدِ مُعَلَّمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (1) . وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِل الْكِلاَبَ الْمُعَلَّمَةَ فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَقَال: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُل. قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَال: وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا (2) .
وَيُعْتَبَرُ فِي تَعْلِيمِ الْكَلْبِ شُرُوطٌ إِذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ اسْتَرْسَل، وَإِذَا زَجَرَهُ انْزَجَرَ وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُل.
(وَالتَّفْصِيل: فِي مُصْطَلَحِ صَيْدٌ ف 38 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة المائدة / 4.
(2) حديث عدي بن حاتم: " إني أرسل الكلاب المعلمة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1529) .(35/127)
الاِنْتِفَاعُ بِالْكَلْبِ:
10 - تَقَدَّمَ جَوَازُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِحَاجَةٍ كَالصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ الشَّارِعُ عَنْهَا
اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ:
11 - مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ إِجَارَةَ الْكَلْبِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحِرَاسَةِ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْهِنْدِيَّةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا بَيَّنَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِلصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ بَاطِلٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل يَجُوزُ، كَالْفَهْدِ وَالْبَازِيِّ، وَالشَّبَكَةِ لِلاِصْطِيَادِ، وَالْهِرَّةِ لِدَفْعِ الْفَأْرِ (2) ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ تَجُوزُ إِجَارَتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ لِخَبَثِهِ، فَحَرُمَتْ إِجَارَتُهُ كَالْخِنْزِيرِ (3) .
(وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي: مُصْطَلَحِ إِجَارَةٌ ف) .
بَيْعُ الْكَلْبِ:
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا " لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ " (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 454.
(2) روضة الطالبين 5 / 178.
(3) المغني 4 / 280 ط. مطبعة الرياض الحديثة.
(4) حديث: " نهى عن ثمن الكلب. . . ". سبق تخريجه ف7.(35/127)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ مُطْلَقًا لأَِنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَحَكَى فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاً بَيْنَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَمَنَعُوا بِاتِّفَاقٍ بَيْعَ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ سَابِقًا.
وَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِيهِ، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَهُمْ.
الْمَنْعُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْجَوَازُ. وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعُ (1) .
بَيْعُ جِلْدِ الْكَلْبِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلاَ يُبَاعُ وَلَوْ دُبِغَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ جُلُودَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ، لِحَدِيثِ إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (2) فَيَجُوزُ بَيْعُ جِلْدِ الْكَلْبِ بَعْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 142 - 143، والفواكه الدواني 2 / 138، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 3 / 11، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 22، والمغني 4 / 189.
(2) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر ". أخرجه مسلم (1 / 277) من حديث ابن عباس.(35/128)
الدِّبَاغَةِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ بِالدَّبْغِ مَا عَدَا الْخِنْزِيرِ لأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 12، دِبَاغَةٌ ف 8، جِلْدٌ ف 10 وَمَا بَعْدَهَا) .
الاِسْتِصْبَاحُ بِدُهْنِهِ وَوَدَكِهِ:
14 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِصْبَاحِ بِمَا كَانَ نَجِسًا بِعَيْنِهِ، فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
أَمَّا مَا كَانَ مُتَنَجِّسًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ - مَعَ الْكَرَاهَةِ - فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ وَكَذَلِكَ دُهْنُ الدَّوَابِّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِالْمُتَنَجِّسِ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ (2) .
أَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْجِيسِهِ، كَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلأَْذْرَعِيِّ
__________
(1) مراقي الفلاح ص91، وتبيين الحقائق 1 / 51، ورد المحتار 1 / 137، وبدائع الصنائع 1 / 86، وحاشية الدسوقي 1 / 54، والمجموع 1 / 245 - 246، والمغني 1 / 71.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن. . . ". أورده ابن عبد البر في التمهيد (9 / 45) من حديث أبي هريرة، ونقل (9 / 36) عن البخاري أن هذه الرواية غير محفوظة، وإنما الحديث عن ميمونة ليس فيه ذكر الاستصباح.(35/128)
وَالزَّرْكَشِيِّ،. وَصَرَّحَ. بِذَلِكَ. الإِْمَامُ. وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَمَحَل ذَلِكَ فِي غَيْرِ وَدَكٍ نَحْوِ الْكَلْبِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: مُصْطَلَحَ اسْتِصْبَاحٌ ف 4) .
نَجَاسَةُ الْكَلْبِ:
15 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ سُؤْرُهُ وَرُطُوبَاتُهُ نَجِسَةٌ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِمْ: الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الطَّهَارَةِ. فَكُل حَيٍّ - وَلَوْ كَلْبًا وَخِنْزِيرًا - طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ، وَإِلاَّ مَا خَرَجَ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ بَيْضٍ أَوْ مُخَاطٍ أَوْ دَمْعٍ أَوْ لُعَابٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلاَ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ - فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا، فَهَذَا فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي مِيتَتُهُ نَجِسَةٌ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 2 / 373.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 204.
(3) الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك 1 / 43، 44.
(4) الأم 1 / 8، والقليوبي وعميرة 1 / 69، والمغني لابن قدامة 1 / 35.(35/129)
حُكْمُ شَعْرِ الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ شَعْرِ الْكَلْبِ أَوْ طَهَارَتِهِ سَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى طَهَارَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى نَجَاسَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 19) .
حُكْمُ مُعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ مُعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ، مِمَّا يَصِيدُهُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مُعَضِّ الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى نَجَاسَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (صَيْدٌ ف 44) .
تَطْهِيرُ الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ:
18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الإِْنَاءِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ (1) .
__________
(1) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 234) من حديث أبي هريرة.(35/129)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ غَسْل الإِْنَاءِ سَبْعًا وَلاَ تَتْرِيبَ مَعَ الْغَسْل.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ غَسْل الإِْنَاءِ ثَلاَثًا، وَلَهُمْ قَوْلٌ بِغَسْلِهِ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا (1) .
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَسْل تَعَبُّدٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِطَهَارَةِ الْكَلْبِ. وَقِيل: لِقَذَارَتِهِ، وَقِيل: لِنَجَاسَتِهِ، وَعَلَيْهِمَا فَكَوْنُهُ سَبْعًا، تَعَبُّدًا، وَقِيل: لِتَشْدِيدِ الْمَنْعِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ كَوْنَ الْمَنْعِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ كَلِبًا، فَيَكُونُ قَدْ دَاخَل مِنْ لُعَابِهِ الْمَاءَ مَا يُشْبِهُ السُّمَّ، قَال: وَيَدُل عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيل تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ، لأَِنَّ السَّبْعَ مِنَ الْعَدَدِ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّدَاوِي، لاَ سِيَّمَا فِيمَا يُتَوَقَّى مِنْهُ السُّمُّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ (2)
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِنَقْل الأَْطِبَّاءِ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ يَمْتَنِعُ عَنْ وُلُوغِ الْمَاءِ.
وَأَجَابَ حَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ، أَنَّهُ يَمْتَنِعُ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 13، 14، 175، 176، 177، والدسوقي على الدردير 1 / 83 - 84، والمغني 1 / 52 - 54 ط. الرياض، وأسنى المطالب 1 / 21.
(2) حديث: " من تصبح بسبع تمرات. . . ". أخرجه مسلم (8 / 1618) من حديث سعد بن أبي وقاص.(35/130)
إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ الْكَلْبُ، أَمَّا فِي أَوَائِلِهِ، فَلاَ (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ تَتْرِيبٌ ف 2) .
تَعَدُّدُ الْوُلُوغِ:
19 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَتَعَدَّدُ الْغَسْل سَبْعًا بِسَبَبِ وُلُوغِ كَلْبٍ وَاحِدٍ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ وُلُوغِ كِلاَبٍ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَبْل غَسْلِهِ، لِتَدَاخُل مُسَبِّبَاتِ الأَْسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ فِي الْمُسَبَّبِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمُوجِبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (2) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ وَلَغَ كَلْبَانِ، أَوْ كَلْبٌ وَاحِدٌ مَرَّاتٍ فِي إِنَاءٍ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ، أَنَّهُ يَكْفِيهِ لِلْجَمِيعِ سَبْعُ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ لِكُل وَلْغَةٍ سَبْعٌ، وَالثَّالِثُ: يَكْفِي لِوَلَغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ سَبْعٌ، وَيَجِبُ لِكُل كَلْبٍ سَبْعٌ.
وَلاَ تَقُومُ الْغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ، وَلاَ غَمْسُ الإِْنَاءِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَمُكْثُهُ فِيهِ قَدْرَ سَبْعِ غَسَلاَتٍ مَقَامَ التُّرَابِ عَلَى الأَْصَحِّ (3) .
قَال الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَكَفَتِ السَّبْعُ مَعَ التَّتْرِيبِ فِي إِحْدَاهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْكِلاَبُ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 177.
(2) جواهر الإكليل 1 / 14، ومواهب الجليل 1 / 179.
(3) شرح صحيح مسلم 3 / 185 ط. المطبعة المصرية ومكتبتها.
(4) أسنى المطالب 1 / 21 ط. المكتبة الإسلامية.(35/130)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ دَمَهُ أَوْ رَوَثَهُ، فَلَمْ يَزَل عَنْهُ إِلاَّ بِسِتِّ غَسَلاَتٍ، فَهَل يُحْسَبُ ذَلِكَ سِتَّةُ غَسَلاَتٍ، أَمْ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمْ لاَ يُحْسَبُ مِنَ السَّبْعِ؟ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا وَاحِدَةٌ (1) .
مُرُورُ الْكَلْبِ الأَْسْوَدِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِمُرُورِ شَيْءٍ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَطْعِ الصَّلاَةِ بِمُرُورِ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ نَقْصُ الصَّلاَةِ لِشَغْل قَلْبِ الْمُصَلِّي بِمَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبْطَال الصَّلاَةِ.
وَنَقَل الْجَمَاعَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ يَقْطَعُهَا إِلاَّ الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ الْبَهِيمُ، قَال الأَْثْرَمُ: سُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ؟ قَال: لاَ يَقْطَعُهَا عِنْدِي شَيْءٌ إِلاَّ الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ الْبَهِيمُ (2) .
وَالْبَهِيمُ الَّذِي لَيْسَ فِي لَوْنِهِ شَيْءٌ سِوَى السَّوَادِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ تُخَالِفَانِ لَوْنَهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا عَنْ كَوْنِهِ بَهِيمًا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ، مِنْ قَطْعِ الصَّلاَةِ، وَتَحْرِيمِ صَيْدِهِ وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ: عَلَيْكُمْ بِالأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي
__________
(1) شرح صحيح مسلم 3 / 185.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 182، 184، 185، 186، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 227.(35/131)
النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ (1) . وَقَطْعُهُ لِلصَّلاَةِ قَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَمَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الأَْحْوَصِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْل مُؤَخِّرَةِ الرَّحْل (2) .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْل آخِرَةِ الرَّحْل، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْل آخِرَةِ الرَّحْل، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الأَْسْوَدُ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَال الْكَلْبِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الأَْحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الأَْصْفَرِ؟ قَال: يَا ابْنَ أَخِي، سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَال: الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ شَيْطَانٌ (3) .
أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ:
21 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حُرْمَةَ أَكْل لَحْمِ كُل ذِي نَابٍ يَفْتَرِسُ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَهْلِيَّةً
__________
(1) حديث: " عليكم بالأسود البهيم. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1200) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 366) .
(3) حديث أبي ذر: " إذا قام أحدكم يصلي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 365) .(35/131)
كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ الأَْهْلِيِّ، أَمْ وَحْشِيَّةً كَالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ.
اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ قَوْلاَنِ: الْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَصَحَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّحْرِيمَ، قَال الْحَطَّابُ وَلَمْ أَرَ فِي الْمَذْهَبِ مَنْ نَقَل إِبَاحَةَ أَكْل الْكِلاَبِ (2) .
(وَلِلتَّفْصِيل ر: أَطْعِمَةٌ ف 24) .
هِبَةُ الْكَلْبِ:
22 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - إِلَى صِحَّةِ هِبَةِ الْكَلْبِ لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ وَأَخَفُّ مِنَ الْبَيْعِ.
وَالأَْصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - بُطْلاَنُ هِبَةِ الْكَلْبِ قِيَاسًا عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِهِ (3) .
وَقْفُ الْكَلْبِ:
23 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ جَوَازِ وَقْفِ الْكَلْبِ.
__________
(1) حديث أبي هريرة: " كل ذي ناب من السباع. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1534) .
(2) مواهب الجليل 3 / 236، وحاشية الدسوقي 2 / 117.
(3) جواهر الإكليل 2 / 212، وروضة الطالبين 5 / 274، وكشاف القناع 4 / 306.(35/132)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَوِ الَّذِي يَقْبَل التَّعْلِيمَ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَالثَّانِي يَصِحُّ عَلَى رَأْيٍ، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ أَوِ الْقَابِل لِلتَّعْلِيمِ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُهُ جَزْمًا (1) .
رَهْنُ الْكَلْبِ:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُ الْكَلْبِ لأَِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ رَهْنُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ رَهْنِهِ بِاعْتِبَارِهِ مَالاً (2) .
(ر: رَهْنٌ ف 9) .
ضَمَانُ عَقْرِ الْكَلْبِ:
2 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَكُل حَيَوَانٍ خَطَرٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 109) .
قَتْل الْكَلْبِ:
26 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ قَتْل كُل كَلْبٍ أَضَرَّ وَمَا عَدَاهُ جَائِزٌ قَتْلُهُ لأَِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلاَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 361، وحاشية الدسوقي 4 / 76، والخرشي مع حاشية العدوي 7 / 79، ومغني المحتاج 2 / 378، والمغني 5 / 641.
(2) بدائع الصنائع 5 / 142 - 143، 6 / 135، ومغني المحتاج 2 / 122(35/132)
اخْتِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْل كِلاَبِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ.
قَال الْحَطَّابِ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل مِنَ الْكِلاَبِ أَسْوَدُ وَلاَ غَيْرُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَقُورًا، مُؤْذِيًا، وَقَالُوا: الأَْمْرُ بِقَتْل الْكِلاَبِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (1) فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ كَلْبًا مِنْ غَيْرِهِ.
وَاحْتَجُّوا - كَذَلِكَ - بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْكَلْبِ الَّذِي كَانَ يَلْهَثُ عَطَشًا، فَسَقَاهُ الرَّجُل، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَقَال: قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ (2) قَالُوا: فَإِذَا كَانَ الأَْجْرُ فِي الإِْحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالْوِزْرُ فِي الإِْسَاءَةِ إِلَيْهِ، وَلاَ إِسَاءَةَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ شَيْطَانٌ مَا يَدُل عَلَى قَتْلِهِ، لأَِنَّ شَيَاطِينَ الإِْنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرٌ، وَلاَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلاَ ضَرَرٌ - كَالْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقُورٍ - يُكْرَهُ قَتْلُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَمُقْتَضَى
__________
(1) حديث: " لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا " أخرجه مسلم (3 / 1549) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: " في كل كبد رطبة أجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 40 - 41) ومسلم (4 / 1761) من حديث أبي هريرة.
(3) مواهب الجليل 3 / 236 - 237.(35/133)
كَلاَمِ بَعْضِهِمُ التَّحْرِيمُ.
وَالْمُرَادُ الْكَلْبُ الَّذِي لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ مُبَاحَةً، فَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ بِلاَ شَكٍّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْسْوَدُ وَغَيْرُهُ.
وَالأَْمْرُ بِقَتْل الْكِلاَبِ مَنْسُوخٌ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ: يَحْرُمُ قَتْل الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ. وَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ، وَكَذَلِكَ كُل كَلْبٍ مُبَاحٌ إِمْسَاكُهُ، لأَِنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ، فَحَرُمَ إِتْلاَفُهُ، كَالشَّاةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَلاَ غُرْمَ عَلَى قَاتِلِهِ (2) .
قَال الرَّحِيبَانِيُّ (3) : لاَ يُبَاحُ قَتْل شَيْءٍ مِنَ الْكِلاَبِ سِوَى الأَْسْوَدِ وَالْعَقُورِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَال: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِقَتْل الْكِلاَبِ ثُمَّ قَال: مَا بَالُهُمْ وَبَال الْكِلاَبِ؟ (4) وَيُبَاحُ قَتْل الْكَلْبِ الْعَقُورِ.
فَكُل مَا آذَى النَّاسَ وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يُبَاحُ قَتْلُهُ، لأَِنَّهُ يُؤْذِي بِلاَ نَفْعٍ، أَشْبَهَ الذِّئْبَ، وَمَا لاَ مَضَرَّةَ فِيهِ لاَ يُبَاحُ قَتْلُهُ (5) ، وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: يَجِبُ قَتْلُهُ.
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 146.
(2) المغني 4 / 190، 191.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 349.
(4) حديث عبد الله بن مغفل: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 235) .
(5) المغني 4 / 281 ط. مكتبة الرياض الحديثة.(35/133)
27 - وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْحَرَمِ لِلْحَدِيثِ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ، عَمَلاً بِنَصِّ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ (2) .
دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْكَلْبِ:
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْكَلْبِ غَيْرِ الْعَقُورِ وَحِفْظُ حَيَاتِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَل بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُل الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَال: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْل الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأََ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقَا، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَال: فِي كُل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ (3) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى
__________
(1) حديث: " خمس من الدواب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 34) ومسلم (2 / 857 واللفظ للبخاري) .
(2) كشاف القناع 2 / 439.
(3) حديث: " بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش. . . ". سبق تخريجه ف26.(35/134)
مَنْ مَعَهُ مَاءٌ وَخَافَ - بِاسْتِعْمَالِهِ - مَرَضًا، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْءٍ، أَوْ عَطَشَ مُحْتَرَمٍ، مَعَهُ أَيْ مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ بَهِيمِيًّا، وَمِنْهُ كَلْبُ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، أَيْ فَيَجِبُ سَقْيُهُ، وَلَوْ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ (2) : كَمَا يَجِبُ بَذْل الْمَال لإِِبْقَاءِ الآْدَمِيِّ الْمَعْصُومِ يَجِبُ بَذْلُهُ لإِِبْقَاءِ الْبَهِيمَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْغَيْرِ، وَلاَ يَجِبُ الْبَذْل لِلْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ - غَيْرُ عَقُورٍ - جَائِعٌ، وَشَاةٌ، لَزِمَهُ ذَبْحُ الشَّاةِ لإِِطْعَامِ الْكَلْبِ.
كَلْبُ الْمَاءِ
انْظُرْ: أَطْعِمَة.
كُلِّيَّات
انْظُرْ: ضَرُورِيَّات.
__________
(1) مراقي الفلاح ص62، ومواهب الجليل 3 / 237، وكشاف القناع 1 / 164.
(2) روضة الطالبين 3 / 288.(35/134)
كِنَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمَكْنِيِّ عَنْهُ كَالرَّفَثِ وَالْغَائِطِ، وَهِيَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَيْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا مِنْ بَابِ رَمَى (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كَلاَمٌ اسْتُتِرَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالاِسْتِعْمَال، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ أَمِ الْمَجَازَ، فَيَكُونُ تَرَدُّدٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلاَلَةِ الْحَال.
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الاِحْتِمَالاَتِ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الصَّرِيحِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّرِيحُ:
2 - الصَّرِيحُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صَرُحَ الشَّيْءُ - بِالضَّمِّ - خَلَصَ مِنْ تَعَلُّقَاتِ غَيْرِهِ فَهُوَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وفتح القدير 3 / 78 - 88.(35/135)
صَرِيحٌ، وَكُل خَالِصٍ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ الْقَوْل الصَّرِيحُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ تَأْوِيلٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصَّرِيحُ هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا الْمُقَابَلَةُ.
فَالصَّرِيحُ يُدْرَكُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، بِخِلاَفِ الْكِنَايَةِ فَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
ب - الْمَجَازُ:
2 - الْمَجَازُ اسْمٌ لِمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ مُنَاسَبَةً بَيْنَهُمَا، كَتَسْمِيَةِ الشُّجَاعِ أَسَدًا، وَسُمِّيَ مَجَازًا لأَِنَّهُ جَاوَزَ وَتَعَدَّى مَحَلَّهُ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْكِنَايَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَجَازُ (3) .
ج - التَّعْرِيضُ:
4 - التَّعْرِيضُ هُوَ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ هُوَ تَضْمِينُ الْكَلاَمِ دَلاَلَةً لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ، كَقَوْل الْمُحْتَاجِ: جِئْتُك لأُِسَلِّمَ عَلَيْك،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الأشباه للسيوطي ص293.
(3) التعريفات، والمصباح المنير.
(4) التعريفات.(35/135)
فَيَقْصِدُ مِنَ اللَّفْظِ السَّلاَمَ وَمِنَ السِّيَاقِ طَلَبَ الْحَاجَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكِنَايَةِ:
5 - التَّعْبِيرُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا قَدْ يَكُونُ بِالصَّرِيحِ مِنَ الْقَوْل أَوْ بِالْكِنَايَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمْيِيزِ الْكِنَايَةِ مِنَ الصَّرِيحِ وَفِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْكِنَايَةِ، وَمَا يَلْزَمُ فِيهَا.
التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالصَّرِيحِ:
6 - لِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالصَّرِيحِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَقْدِ وَالْفُسُوخِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا. قَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الأَْلْفَاظِ إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ أَوْ لاَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ حَتَّى اشْتَهَرَ - كَالْبَيْعِ وَالطَّلاَقِ - فَهُوَ صَرِيحٌ إِذَا اسْتُعْمِل فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي الْعَادَةِ، لأَِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ هُوَ الْمُتَّبَعُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: يَحْمِل الدَّرَاهِمَ فِي الأَْقَارِيرِ عَلَى النَّقْرَةِ (1) الْخَالِصَةِ قَطْعًا وَإِنْ غَلَبَ الْعُرْفُ بِخِلاَفِهَا، وَأَلْحَقُوا الْفِرَاقَ وَالسَّرَاحَ بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، بَل ذُكِرَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَرَّةً فَقَطْ وَلَمْ يَشِعْ عَلَى لِسَانِ الْفُقَهَاءِ كَالْمُفَادَاةِ فِي الْخُلْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
__________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الفضة، (المصباح المنير) .(35/136)
افْتَدَتْ بِهِ} (1) ، وَالإِْمْسَاكُ فِي الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (2) ، فَوَجْهَانِ: وَالأَْصَحُّ الاِلْتِحَاقُ بِالصَّرِيحِ فِي الْكُل.
أَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ، وَشَاعَ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ شَاعَ فِي الْعُرْفِ فِي الطَّلاَقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرِدْ شَرْعًا فِي الطَّلاَقِ فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمُ: الْتِحَاقُهُ بِالْكِنَايَةِ.
وَمَا لَمْ يَرِدْ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلَكِنْ شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ وَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ كَلَفْظِ التَّمْلِيكِ فِي الْبَيْعِ، وَلَفْظِ الْفَسْخِ فِي الْخُلْعِ فَفِي كَوْنِهِ كِنَايَةٌ وَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: صَرَاحَتُهُ (3) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يَكُونُ اللَّفْظُ صَرِيحًا إِلاَّ فِيمَا لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي مَا وُضِعَ لَهُ (4) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَقَعُ فِيهِ الْكِنَايَةُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ يَنْعَقِدُ
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) سورة البقرة / 231.
(3) المنثور في القواعد 2 / 306، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 293.
(4) بداية المجتهد 2 / 80، وكشاف القناع 5 / 245 - 246، وبدائع الصنائع 3 / 106.(35/136)
بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ بَل يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ كَالنِّكَاحِ، فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
ثَانِيهِمَا: مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا يَقْبَل مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ، فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ الْعِتْقُ، وَمَقْصُودَ الْخُلْعِ الطَّلاَقُ، وَهُمَا يَصِحَّانِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الاِنْعِقَادُ (1) .
وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ اخْتِلاَفَ الْحَنَابِلَةِ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ
قَال الْقَاضِي: لاَ كِنَايَةَ إِلاَّ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَلاَ تَحِل الْعُقُودُ بِالْكِنَايَاتِ غَيْرِ النِّكَاحِ وَالرِّقِّ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: تَدْخُل الْكِنَايَاتُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ سِوَى النِّكَاحِ
__________
(1) المجموع 9 / 153 تحقيق المطيعي، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 296.(35/137)
لاِشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ لاَ تَقَعُ عَلَى النِّيَّةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا، وَكَلاَمُ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ يَدُل عَلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 6) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ:
تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
أ - كِنَايَاتُ الطَّلاَقِ:
8 - كِنَايَاتُ الطَّلاَقِ كَثِيرَةٌ، بَل لاَ تَكَادُ تَنْحَصِرُ، وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لَهَا، اتَّفَقُوا فِي أَكْثَرِهَا مِثْل: أَنْتِ بَائِنٌ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، خَلِيَّةٌ، بَرِيَّةٌ، بَرِيئَةٌ، بَتَّةٌ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، اخْتَارِي، اعْتَدِّي، اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، خَالَعْتُكِ بِدُونِ ذِكْرِ الْعِوَضِ) لاَ سَبِيل لِي عَلَيْكِ، أَنْتِ حُرَّةٌ، قُومِي، اخْرُجِي، اغْرُبِي، اعْزُبِي، انْطَلِقِي، انْتَقِلِي، تَقَنَّعِي، اسْتَتِرِي، تَزَوَّجِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظَيْنِ هُمَا: سَرَّحْتُكِ، وَفَارَقْتُكِ، فَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا كِنَايَتَانِ فِي الطَّلاَقِ، لأَِنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا فِيهِ اشْتِهَارَ الطَّلاَقِ،
__________
(1) القواعد لابن رجب ص50.
(2) نهاية المحتاج 6 / 430، وبدائع الصنائع 3 / 105، وبداية المجتهد 2 / 80 - 81، وكشاف القناع 5 / 250.(35/137)
وَيُسْتَعْمَلاَنِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمَشْهُورِ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِي الطَّلاَقِ، لاِشْتِهَارِهِمَا فِيهِ وَوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (3) مُرَادَانِ بِالطَّلاَقِ مَعَ تَكَرُّرِ الْفِرَاقِ فِيهِ، وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهِ مِنْهُمَا بِمَا تَكَرَّرَ، وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ يَرِدْ مِنْ مُشْتَقَّاتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا وَرَدَ فِيهِ لأَِنَّهُ بِمَعْنَاهُ (4) .
9 - وَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ هَذِهِ وَنَحْوُهَا تَحْتَمِل الطَّلاَقَ، وَتَحْتَمِل غَيْرَهُ، فَاسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهَا فَقَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ: يَحْتَمِل الْبَيْنُونَةَ عَنِ الشَّرِّ أَوِ الْخَيْرِ أَوِ النِّكَاحِ، وَخَلِيَّةٌ: يَحْتَمِل الْخُلُوَّ عَنِ الزَّوْجِ، وَالنِّكَاحِ، وَيَحْتَمِل الْخُلُوَّ عَنِ الأَْمْرَاضِ أَوِ الْعَيْبِ، وَفَارَقْتُكِ: يَحْتَمِل الْمُفَارَقَةَ عَنِ النِّكَاحِ، وَيَحْتَمِل الْمُفَارَقَةَ عَنِ الْمَضْجَعِ وَالْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ بَرِيئَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ، يَحْتَمِل الْبَرَاءَةَ مِنَ النِّكَاحِ، وَيَحْتَمِل
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 426، وبدائع الصنائع 3 / 106، وبداية المجتهد 2 / 80 - 81، وكشاف القناع 5 / 245، والإنصاف 8 / 462.
(2) سورة الأحزاب / 28.
(3) سورة النساء / 130.
(4) المراجع السابقة.(35/138)
الْبَرَاءَةَ عَنِ الشَّرِّ أَوِ الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ: بَتَّةٌ مِنَ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، فَيَحْتَمِل الْقَطْعَ عَنِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِل الْقَطْعَ عَنِ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، يَحْتَمِل الطَّلاَقَ، وَيَحْتَمِل أَمْرًا آخَرَ، وَهَكَذَا (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ مَسَائِل الْكِنَايَةِ.
10 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ كُل لَفْظٍ يُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ، وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَخَلِيَّةٌ، وَبَرِيَّةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الأَْلْفَاظُ الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ فَقَدِ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ.
وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَقَعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَال: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلاَقَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَل يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؟ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ:
فَإِنْ كَانَتِ الْحَال حَال الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْحَال حَال مُذَاكَرَةِ الطَّلاَقِ
__________
(1) المصادر السابقة.(35/138)
وَسُؤَالِهِ أَوْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَالْكِنَايَاتُ أَقْسَامٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ بِأَحَدِ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَاخْتَارِي، وَاعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ، فَهَذِهِ لاَ يَدِينُ فِيهَا، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ فِي حَالَتَيِ الْمُذَاكَرَةِ وَالْغَضَبِ، وَلاَ يُعْتَدُّ قَضَاءً بِإِنْكَارِهِ النِّيَّةَ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ بِأَحَدِ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الْخَمْسَةِ: وَهِيَ: خَلِيَّةٌ، وَبَرِيئَةٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَائِنٌ، وَحَرَامٌ، فَهَذِهِ يَدِينُ فِيهَا فِي حَالَةِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ، وَلاَ يَدِينُ فِي حَالَةِ ذِكْرِ الطَّلاَقِ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ قَضَاءً.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ بَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَيَدِينُ فِيهَا جَمِيعًا فِي كُل الأَْحْوَال (1) .
11 - وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْكِنَايَةَ فِي الطَّلاَقِ إِلَى نَوْعَيْنِ:
كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ.
وَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَهُمْ هِيَ:
بَتَّةٌ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ.
وَيَلْزَمُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا الثَّلاَثُ مُطْلَقًا، دَخَل بِهَا أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْبَتَّ الْقَطْعُ، وَقَطْعُ الْعِصْمَةِ شَامِلٌ لِلثَّلاَثِ وَلَوْ لَمْ يَدْخُل، وَالْحَبْل عِبَارَةٌ عَنِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ إِذَا رَمَى الْعِصْمَةَ عَلَى كَتِفِهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ مُطْلَقًا.
وَالْبَيْنُونَةُ بَعْدَ الدُّخُول بِغَيْرِ عِوَضٍ إِنَّمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 105 - 109.(35/139)
تَكُونُ ثَلاَثًا، فَاعْتُبِرَ لَفْظُ بَائِنَةٌ، وَأُلْغِيَ لَفْظُ وَاحِدَةٌ.
وَمِنَ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ.
وَيَلْزَمُهُ فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ الثَّلاَثُ مُطْلَقًا، دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل مَا لَمْ يَنْوِ أَقَل مِنَ الثَّلاَثِ، فَإِنْ نَوَى الأَْقَل لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ.
وَهُنَاكَ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظٌ تُشْبِهُ الْوَاحِدَةَ الْبَائِنَةَ. وَهِيَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَوَهَبْتُكِ لأَِهْلِكِ، أَوْ رَدَدْتُكِ، أَوْ لاَ عِصْمَةَ لِي عَلَيْكِ، وَأَنْتِ حَرَامٌ، أَوْ خَلِيَّةٌ لأَِهْلِكِ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ خَالِصَةٌ، أَوْ بَائِنَةٌ، أَوْ أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ، أَوْ خَلِيٌّ، أَوْ بَرِيءٌ، أَوْ خَالِصٌ، فَيَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ أَقَل، فَإِنْ نَوَى الأَْقَل لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ وَحَلَفَ إِنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا: أَنَّهُ مَا أَرَادَ إِلاَّ الأَْقَل، لاَ إِنْ لَمْ يُرِدْهُ.
أَمَّا الأَْلْفَاظُ التَّالِيَةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ، أَوْ وَجْهِي عَلَى وَجْهِكِ حَرَامٌ - وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مِنْ وَعَلَى - وَقَوْلُهُ: لاَ نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ، أَوْ لاَ مِلْكَ لِي عَلَيْكِ، أَوْ لاَ سَبِيل لِي عَلَيْكِ، فَيَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ فِي الْمَدْخُول بِهَا فَقَطْ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الصِّيَغَ الثَّلاَثَ الأَْخِيرَةَ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْعِتَابَ، فَإِنْ قَصَدَ الْعِتَابَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَالْعِتَابُ قَرِينَةٌ وَبِسَاطٌ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِ الطَّلاَقَ.(35/139)
أَمَّا لَفْظُ: فَارَقْتُكِ فَيَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ مُطْلَقًا دَخَل أَوْ لَمْ يَدْخُل، إِلاَّ لِنِيَّةٍ أَكْثَرَ وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ: ادْخُلِي وَاذْهَبِي وَانْطَلِقِي إِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً لَزِمَهُ الثَّلاَثُ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَوَاحِدَةٌ فَقَطْ فِي غَيْرِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ (1) .
12 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ مَعَ النِّيَّةِ وَلاَ يَقَعُ بِلاَ نِيَّةٍ.
وَهِيَ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، بَل لاَ تَنْحَصِرُ: كَأَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَبَرِيَّةٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَبَائِنٌ، وَاعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَاعْزُبِي، وَاغْرُبِي، وَدَعِينِي، وَوَدِّعِينِي.
وَقَالُوا: إِنَّ الْكِنَايَةَ هِيَ مَا احْتَمَل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، وَلَكِنْ بِنِيَّةٍ لإِِيقَاعِهِ، وَمَعَ قَصْدِ حُرُوفِهِ.
وَأَمَّا الأَْلْفَاظُ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الطَّلاَقَ إِلاَّ عَلَى تَقْدِيرٍ مُتَعَسِّفٍ فَلاَ أَثَرَ لَهَا، فَلاَ يَقَعُ بِهَا طَلاَقٌ وَإِنْ نَوَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَأَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكَ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ شَرْطَ نِيَّةِ الْكِنَايَةِ اقْتِرَانُهَا بِكُل اللَّفْظِ، وَقِيل: يَكْفِي بِأَوَّلِهِ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 566 - 567.(35/140)
وَيَقَعُ الطَّلاَقُ - عِنْدَهُمْ - بِالْكِنَايَةِ حَسْبَ مَا نَوَاهُ عَدَدًا، كَأَنْتِ بَائِنٌ إِذَا نَوَى فِيهَا عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ لاِحْتِمَال اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ لأَِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ (1) .
13 - وَالْكِنَايَاتُ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرَةٌ، وَخَفِيَّةٌ.
فَالظَّاهِرَةُ: هِيَ الأَْلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَيْنُونَةِ، لأَِنَّ مَعْنَى الطَّلاَقِ فِيهَا أَظْهَرُ، وَهِيَ سِتَّ عَشْرَةَ كِنَايَةً: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَبَرِيئَةٌ، وَبَائِنٌ،. وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، أَنْتِ حُرَّةٌ، وَأَنْتِ الْحَرَجُ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْتِ، وَحَلَلْتِ لِلأَْزْوَاجِ، وَلاَ سَبِيل لِي عَلَيْكِ، وَلاَ سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ، وَأَعْتَقْتُكِ، وَغَطِّي شَعْرَكِ، وَتَقَنَّعِي، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ.
وَالْخَفِيَّةُ: هِيَ الأَْلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِلطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ نَحْوَ: اخْرُجِي، وَاذْهَبِي، وَتَجَرَّعِي، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَلاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ.
وَالْكِنَايَةُ - وَلَوْ ظَاهِرَةً - لاَ يَقَعُ بِهَا طَلاَقٌ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، لأَِنَّ الْكِنَايَةَ لَمَّا قَصُرَتْ رُتْبَتُهَا عَنِ الصَّرِيحِ وَقَفَ عَمَلُهَا عَلَى نِيَّةِ الطَّلاَقِ تَقْوِيَةً لَهَا، وَلأَِنَّهَا لَفْظٌ يَحْتَمِل غَيْرَ مَعْنَى الطَّلاَقِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ لَهُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 281 وما بعدها.(35/140)
النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلَفْظِ الْكِنَايَةِ، فَلَوْ تَلَفَّظَ بِالْكِنَايَةِ غَيْرَ نَاوٍ لِلطَّلاَقِ ثُمَّ نَوَى بِهَا الطَّلاَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، أَوْ يَأْتِي مَعَ الْكِنَايَةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الطَّلاَقِ كَحَال خُصُومَةٍ وَغَضَبٍ وَجَوَابِ سُؤَالِهَا الطَّلاَقَ، فَيَقَعُ الطَّلاَقُ مِمَّنْ أَتَى بِكِنَايَةٍ إِذَنْ وَلَوْ بِلاَ نِيَّةٍ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْحَال كَالنِّيَّةِ، فَلَوِ ادَّعَى فِي هَذِهِ الأَْحْوَال - أَيْ حَال الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ وَسُؤَالِهَا الطَّلاَقَ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ الطَّلاَقَ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَهُ دِينَ لاِحْتِمَال صِدْقِهِ، وَلَمْ يُقْبَل فِي الْحُكْمِ لأَِنَّهُ خِلاَفُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَال.
وَيَقَعُ مَعَ النِّيَّةِ بِالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ ثَلاَثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ (1) .
ب - أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فِي الإِْيلاَءِ:
14 - الْكِنَايَةُ فِي الإِْيلاَءِ
كُل مَا يَحْتَمِل الْجِمَاعَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَأَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ رَأْسُكِ وَرَأْسِي بِشَيْءٍ، وَلاَ قَرُبْتُ فِرَاشَكِ، وَلأََسُوءَنَّكِ، وَلأََغِيظَنَّكِ، وَلَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْكِ، وَلاَ يَمَسُّ جِلْدِي جِلْدَكِ، وَلاَ أَوَيْتُ مَعَكِ، وَلاَ أَنَامُ مَعَكِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ تُسْتَعْمَل فِي الْجِمَاعِ وَفِي غَيْرِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 250، 251.(35/141)
النِّيَّةِ، لِيَكُونَ إِيلاَءً (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (إِيلاَءٌ ف 5) .
ج - كِنَايَاتُ الظِّهَارِ:
15 - كِنَايَاتُ الظِّهَارِ كَثِيرَةٌ: كَأَنْتِ أُمِّي: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، أَوْ رَأْسِهَا أَوْ رُوحِهَا، وَكُل لَفْظٍ يَحْتَمِل التَّحْرِيمَ وَيَحْتَمِل الْكَرَامَةَ فَهُوَ كِنَايَةٌ فِيهِ (2) .
ر: (ظِهَارٌ ف 13) .
د - كِنَايَاتُ الْقَذْفِ:
16 - كِنَايَاتُ الْقَذْفِ كَقَوْلِهِ يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، لاَ تَرُدِّينَ يَدَ لاَمِسٍ، لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ (3) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (قَذْفٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - كِنَايَاتُ الْوَقْفِ:
11 - كِنَايَاتُ الْوَقْفِ كَقَوْلِهِ: تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ، وَأَبَّدْتُ (4) ، فَإِنْ قَصَدَ الْوَقْفَ صَارَ مَوْقُوفًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ، لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (وَقْفٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 162، والمغني 7 / 316، والأشباه والنظائر للسيوطي ص304.
(2) نهاية المحتاج 7 / 183، والأشباه والنظائر للسيوطي ص305.
(3) كشاف القناع 6 / 111، والأشباه للسيوطي ص305.
(4) المغني 5 / 602(35/141)
و - كِنَايَاتُ الْخُلْعِ:
18 - كِنَايَاتُ الْخُلْعِ كَقَوْلِهِ: بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَلاَ يَقَعُ الْخُلْعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةِ مَنْ تَلَفَّظَ بِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 30) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 360.(35/142)
كَنْز
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا:
الْجَمْعُ وَالاِدِّخَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: نَاقَةٌ كَنَّازُ اللَّحْمِ أَيْ مُجْتَمِعَةٌ، وَكَنَزْتُ التَّمْرَ فِي وِعَائِهِ أَكْنِزُهُ، وَزَمَنُ الْكِنَازِ هُوَ أَوَانُ كَنْزِ التَّمْرِ وَجَمْعِهِ.
الثَّانِي: الْمَال الْمَدْفُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ كُنُوزٌ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ.
الثَّالِثُ: كُل كَثِيرٍ مَجْمُوعٍ يُتَنَافَسُ فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّكَازُ:
2 - الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ أَيِ الإِْثْبَاتُ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ إِذَا خَفِيَ، وَالرِّكْزُ بِكَسْرِ الرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: كنز.
(2) التعريفات للجرجاني، والمفردات للراغب الأصفهاني.(35/142)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى كُل مَا كَانَ مَالاً عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ.
وَخَصَّهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَالٌ مَرْكُوزٌ تَحْتَ أَرْضٍ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْكَنْزِ وَالرِّكَازِ أَنَّ الْكَنْزَ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ.
(ر: رِكَازٌ ف 1 - 3) .
ب - الْمَعْدِنُ:
3 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: مَكَانُ كُل شَيْءٍ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَرْكَزُهُ، وَمَوْضِعُ اسْتِخْرَاجِ الْجَوْهَرِ مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوِهِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْكَمَال: أَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الأَْرْضَ حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ قَرِينَةٍ (2) .
أَنْوَاعُ الْكَنْزِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْكَنْزَ تَقْسِيمَاتٍ مُتَنَوِّعَةً بِالنَّظَرِ إِلَى عَدِيدٍ مِنَ الاِعْتِبَارَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ.
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 2 / 178.(35/143)
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ.
أَوَّلاً: تَقْسِيمُ الْكَنْزِ بِالنَّظَرِ لِنِسْبَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ:
أ - الْكُنُوزُ الإِْسْلاَمِيَّةُ:
أ - الْكُنُوزُ الإِْسْلاَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ نِسْبَتُهَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا نَقْشٌ مِنَ النُّقُوشِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، كَكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ اسْمِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الإِْسْلاَمِ أَوْ أَيَّةِ عَلاَمَةٍ أُخْرَى مِنَ الْعَلاَمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نِسْبَةِ الْكَنْزِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَفِي الْحُكْمِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ اتِّجَاهَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ وَيَلْزَمُ وَاجِدُهُ أَنْ يَحْفَظَهُ أَبَدًا، قَال النَّوَوِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُمْسِكُهُ الْوَاجِدُ أَبَدًا وَلِلسُّلْطَانِ حِفْظُهُ فِي بَيْتِ الْمَال كَسَائِرِ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ، فَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ حِفْظَهُ أَبَدًا فَعَل، وَإِنْ رَأَى اقْتِرَاضَهُ لِمَصْلَحَةٍ فَعَل، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لاَ يَمْلِكُهُ الْوَاجِدُ بِحَالٍ، قَال أَبُو عَلِيٍّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللُّقَطَةِ أَنَّ اللُّقَطَةَ تَسْقُطُ مِنْ مَالِكِهَا فِي مَضْيَعَةٍ، فَجَوَّزَ الشَّارِعُ لِوَاجِدِهَا تَمَلُّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي أَخْذِهَا وَحِفْظِهَا، وَأَمَّا الْكَنْزُ الْمَذْكُورُ فَمُحْرَزٌ بِالدَّفْنِ غَيْرُ مُضَيَّعٍ، فَأَشْبَهَ الإِْبِل الْمُمْتَنِعَةَ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا
__________
(1) المجموع 6 / 97.(35/143)
وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا لِلتَّمْلِيكِ (1) .
أَمَّا الاِتِّجَاهُ الآْخَرُ: فَهُوَ إِلْحَاقُ مَا يُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْكُنُوزِ بِاللُّقَطَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ عُرِفَ، وَفِي التَّعْرِيفِ، وَفِي التَّصَرُّفِ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْوَاجِبَ فِي اللُّقَطَةِ، وَيُوَضِّحُ إِلْحَاقُ الْكَنْزِ بِاللُّقَطَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِغْفَالَهُمْ لِلرَّأْيِ السَّابِقِ وَعَدَمَ إِشَارَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ هَذَا الْكَنْزَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، فَعَلَيْهِ (أَيْ عَلَى وَاجِدِهِ) أَنْ يُعَرِّفَ مَا يَجِدُهُ مِنْهُ (2) .
أَمَّا وُجُوبُ التَّعْرِيفِ بِهَا وَعَدَمُ كِتْمَانِهَا أَوْ إِخْفَائِهَا فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنْ يَضُرَّ بِهِ هَذَا التَّعْرِيفُ فَيُعْذَرُ عَنْهُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: اطَّرَدَتِ الْعَادَةُ فِي زَمَانِنَا بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ بِالأَْذَى وَاتِّهَامِهِ أَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا وَجَدَهُ، فَهَل يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي عَدَمِ الإِْعْلاَمِ، وَيَكُونُ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ وَمُرَاعَاتُهُ أَبَدًا، أَوْ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ مَصْرِفَ بَيْتِ الْمَال كَمَنْ وَجَدَ مَالاً أَيِسَ مِنْ مَالِكِهِ، وَخَافَ مِنْ دَفْعِهِ لأَِمِينِ بَيْتِ الْمَال أَنَّ أَمِينَ بَيْتِ الْمَال لاَ يَصْرِفُهُ مَصْرِفَهُ؟ فِيهِ نَظَرٌ،
__________
(1) المجموع 6 / 98.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 613، وانظر الدسوقي 1 / 492.(35/144)
وَلاَ يَبْعُدُ الثَّانِي لِلْعُذْرِ الْمَذْكُورِ، وَيَنْبَغِي لَهُ إِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ لِمَنْ مَلَكَ مِنْهُ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِبَيْتِ الْمَال (1) .
وَمُدَّةُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَنَةٌ فِيمَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَمَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ عَنْ ذَلِكَ يُعَرَّفُ أَيَّامًا عِنْدَهُمْ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دَفْعِ الْكَنْزِ لِصَاحِبِهِ إِنْ وُجِدَ أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُهُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يَجِبُ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي لاَ يُدْرَى صَاحِبُهَا بَعْدَ تَعْرِيفِهَا التَّعْرِيفَ الْوَاجِبَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ ف 14) .
ب - كُنُوزُ الْجَاهِلِيَّةِ:
5 - يُطْلَقُ اصْطِلاَحُ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا يَنْتَسِبُ إِلَى مَا قَبْل ظُهُورِ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ انْتَسَبَ إِلَى قَوْمٍ أَهْل جَهْلٍ لاَ يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الدِّينِ مِمَّنْ عَاشُوا فِي فَتَرَاتِ الرُّسُل، أَوِ انْتَسَبَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، وَيَتَقَيَّدُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكُنُوزِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ دَفِينَ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَلاَ ذِمِّيٍّ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ إِشَارَةِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُنُوزِ بِأَنَّهُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَعْنِي اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ مَدْفُونًا فِي بَاطِنِ
__________
(1) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 3 / 99.
(2) الجامع الصغير لمحمد بن الحسن ص107.(35/144)
الأَْرْضِ لِتَرَتُّبِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ، إِذْ يَذْكُرُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الدُّسُوقِيُّ.
أَنَّ مَا وُجِدَ فَوْقَ الأَْرْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ رِكَازٌ، وَأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالدَّفْنِ لأَِنَّهُ شَأْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْغَالِبِ (1) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اشْتِرَاطَ الدَّفْنِ لاِعْتِبَارِهِ مِنَ الرِّكَازِ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ غَيْرُ الْمَدْفُونِ مِنَ الأَْمْوَال يَلْتَحِقُ بِالْمَدْفُونِ قِيَاسًا عَلَيْهِ، يَدُل عَلَى هَذَا الرَّأْيِ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ غَيْرَ الْمَدْفُونِ لَيْسَ بِرِكَازٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْخُمُسُ قِيَاسًا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مَدْفُونًا، فَلَوْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا وَعَلِمَ أَنَّ السَّيْل أَوِ السَّبُعَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا فَلُقَطَةٌ، فَإِنْ شَكَّ كَانَ لُقَطَةً كَمَا لَوْ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ ضَرْبَ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (3) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِْشَارَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُنُوزِ بِهَذَا الاِصْطِلاَحِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَعْدُ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: الْكَنْزُ نَجِدُهُ فِي الْخَرِبِ وَفِي الآْرَامِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 489.
(2) المرجع السابق 1 / 490.
(3) نهاية المحتاج 3 / 98.(35/145)
وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (1) .
وَالضَّابِطُ فِي الْتِحَاقِ مَا يُكْتَشَفُ مِنَ الأَْمْوَال بِكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا مِنْ دَفْنِهِمْ، وَلَمْ تَدْخُل فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يُظَنُّ ذَلِكَ ظَنًّا غَالِبًا بِأَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ أَوْ نُقُوشُهُمْ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ آخَرُ يَدُل عَلَيْهِمْ، جَاءَ فِي الْمُغْنِي اعْتِبَارُ الْكَنْزِ دَفْنًا جَاهِلِيًّا بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَمِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبَعْضُ أَنْ يُوجَدَ فِي قُبُورِهِمْ (3) ، أَوْ أَنْ يُوجَدَ فِي قِلاَعِهِمْ وَخَرَائِبِهِمْ (4) .
وَحُكْمُ هَذَا الْكَنْزِ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ لِلنَّصِّ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ (5) .
ج - الْكَنْزُ الْمُشْتَبِهُ الأَْصْل
6 - وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْكُنُوزِ فَهِيَ الَّتِي لاَ نَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا، بِأَنْ لاَ يُوجَدَ عَلَيْهَا أَثَرٌ مُطْلَقًا كَتِبْرٍ وَآنِيَةٍ وَحُلِيٍّ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا أَثَرٌ لاَ يَكْشِفُ
__________
(1) حديث: " أن رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أحمد (2 / 186) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11 / 34) .
(2) المغني لابن قدامة 2 / 613.
(3) تحفة المحتاج 3 / 288.
(4) نهاية المحتاج 3 / 98.
(5) المبسوط 2 / 211، البحر الرائق 2 / 252، حاشية الدسوقي 1 / 489 والمغني 2 / 615.(35/145)
عَنْ أَصْلِهَا، كَمَا إِذَا كَانَتْ نَقْدًا يُضْرَبُ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ (1) .
وَإِنَّمَا يَصْدُقُ هَذَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْكَنْزِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ، كَمَا إِذَا وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ لَمْ يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُعَدُّ جَاهِلِيًّا، وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمُ الَّذِينَ اخْتَطُّوهَا وَلَمْ يَسْكُنْهَا جَاهِلِيٌّ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يُعَدُّ كَنْزًا إِسْلاَمِيًّا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْكَنْزِ، فَأَلْحَقَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيُعْطَى حُكْمَ الرِّكَازِ.
وَأَلْحَقَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ بِالْكُنُوزِ الإِْسْلاَمِيَّةِ فَيُعْطَى حُكْمَ اللُّقَطَةِ (2) .
ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ بِالنَّظَرِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا:
يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْكَنْزِ الَّذِي يَجِدُهُ الْوَاجِدُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الَّذِي يُوجَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذَا التَّقْسِيمِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 98.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65، والبحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 498 - 499، والمجموع 6 / 96، ونهاية المحتاج 3 / 98، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 613.(35/146)
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْكَنْزُ الَّذِي يُوجَدُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
7 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الْكُنُوزِ الَّتِي تُوجَدُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مِلْكِيَّةِ الأَْرْضِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهَا وَسَبِيل هَذِهِ الْمِلْكِيَّةِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ الْفِقْهِيُّ إِلَى مَا يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِشِرَاءٍ أَوْ بِمِيرَاثٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِالإِْحْيَاءِ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي بَيْنَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ:
أ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَنْزَ الْجَاهِلِيَّ الَّذِي يُوجَدُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي أَرْضٍ لاَ يُعْلَمُ لَهَا مَالِكٌ مِثْل الأَْرْضِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا، آثَارُ الْمِلْكِ كَالأَْبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ وَالتُّلُول وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ. فَهَذَا فِيهِ الْخُمُسُ وَلَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ خَرَابٍ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ وَلاَ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (1) .
__________
(1) حديث: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة. . . ". أخرجه النسائي (5 / 44) ، وإسناده حسن.(35/146)
وَمِنْهُ كَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ كَالْجِبَال وَالْمَفَاوِزِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَمْلِكُ الْوَاجِدُ الرِّكَازَ وَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِيهِ إِذَا وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي خَرَائِبِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ قِلاَعِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ (2) .
ب - وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ يَمْلِكُهَا الْوَاجِدُ نَفْسُهُ بِشِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ فَالاِتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ بِاعْتِبَارِهِ كَانَ مَال الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ (3) .
وَأَمَّا الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إِنْ عُرِفُوا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفُ صَاحِبَ الْخُطَّةِ وَلاَ وَرَثَتَهُ تَكُونُ لأَِقْصَى مَالِكٍ لِلأَْرْضِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ (4) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ الأَْخْمَاسِ الأَْرْبَعَةِ فِي الْكَنْزِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَاجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَتْ لِلْوَاجِدِ وَلاَ لِمَالِكِ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 491، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 613.
(2) نهاية المحتاج 3 / 98.
(3) بدائع الصنائع 2 / 66.
(4) بدائع الصنائع 2 / 66.(35/147)
الأَْرْضِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ هَذَا الْمِلْكُ إِلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ الأَْوَّل الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ بِمَا فِيهَا بَعْدَ تَقْسِيمِ الإِْمَامِ لَهَا عَقِبَ فَتْحِهَا عَلَى أَيْدِي الْجَيْشِ الْمُسْلِمِ، وَيُعَرِّفُ الْمَرْغِينَانِيُّ الْمُخْتَطَّ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الإِْمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّل الْفَتْحِ، وَيُعَقِّبُ الْكَمَال عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: لاَ نَقُول إِنَّ الإِْمَامَ يُمَلِّكُ الْمُخْتَطَّ لَهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ، بَل يُمَلِّكُهُ الْبُقْعَةَ وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَيَقْطَعُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِيهَا، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا أَقْوَى الاِسْتِيلاَءَاتِ، وَهُوَ بِيَدِ خُصُوصِ الْمِلْكِ السَّابِقَةِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ مِنَ الْمَال الْمُبَاحِ، لِلاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُمْ مِلْكٌ فِي هَذَا الْكَنْزِ بَعْدَ الاِخْتِطَاطِ، وَإِلاَّ لَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَال وَاللاَّزِمُ مُنْتَفٍ، ثُمَّ إِذَا مَلَكَهُ (أَيِ الْكَنْزَ) لَمْ يَصِرْ مُبَاحًا فَلاَ يَدْخُل فِي بَيْعِ الأَْرْضِ، فَلاَ يَمْلِكُهُ مُشْتَرِي الأَْرْضِ كَالدُّرَّةِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ يَمْلِكُهَا الصَّائِدُ لِسَبْقِ يَدِ الْخُصُوصِ إِلَى السَّمَكَةِ حَال إِبَاحَتِهَا، ثُمَّ لاَ يَمْلِكُهَا مُشْتَرِي السَّمَكَةِ لاِنْتِفَاءِ الإِْبَاحَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي السَّمَكَةِ مِنَ الإِْطْلاَقِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْمُخْتَطُّ لَهُ وَلاَ وَرَثَتُهُ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْكَنْزَ أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّرَخْسِيِّ، خِلاَفًا لأَِبِي الْيَسَرِ الْبَزْدَوِيِّ(35/147)
الَّذِي اخْتَارَ اسْتِحْقَاقَ بَيْتِ الْمَال لِلْكَنْزِ، يَقُول السَّرَخْسِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخْتَطُّ لَهُ بَاقِيًا أَوْ وَارِثُهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ لأَِقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَعَل أَبَا الْيَسَرِ قَدْ نَظَرَ إِلَى تَعَذُّرِ التَّعَرُّفِ عَلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ فِي عَصْرِهِ فَأَوْجَبَ مِلْكَ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ لِبَيْتِ الْمَال (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مُلِّكَتِ الأَْرْضُ بِإِرْثٍ فَأَرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ الْبَاقِيَةِ لِمَالِكِهَا، وَإِنْ مُلِّكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ فَهِيَ لِلْبَائِعِ الأَْصْلِيِّ أَوِ الْوَاهِبِ إِنْ عُلِمَ وَإِلاَّ فَلُقَطَةٌ، وَقِيل لِمَالِكِهَا فِي الْحَال (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مِلْكَ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ بِشِرَاءٍ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ يَخْتَصُّ بِمَالِكِ تِلْكَ الأَْرْضِ حُكْمًا وَهُوَ الْجَيْشُ الَّذِي فَتَحَهَا عَنْهُ، فَيُدْفَعُ الْبَاقِي لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْجَيْشُ فَلِوَارِثِهِ إِنْ وُجِدَ، فَإِنِ انْقَرَضَ الْوَارِثُ فَقَال سَحْنُونٌ: إِنَّهُ لُقَطَةٌ فَيَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ وَيُعْمَل فِيهِ مَا يُعْمَل فِي اللُّقَطَةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا انْقَرَضَ الْوَارِثُ حَل مَحَلَّهُ بَيْتُ الْمَال مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ، لأَِنَّهُ مَالٌ جُهِلَتْ أَرْبَابُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ مَا مَشَى
__________
(1) المبسوط 2 / 214، فتح القدير 1 / 540 ط. الأميرية.
(2) الشرح الصغير 1 / 655، والدسوقي 1 / 491.(35/148)
عَلَيْهِ الشَّارِحُ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُول: كُل كَنْزٍ وُجِدَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي بِلاَدِ قَوْمٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا فَأَرَاهُ لأَِهْل تِلْكَ الدَّارِ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ هُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ، وَمَا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْعِتْقِ فَأَرَاهُ لِجَمَاعَةِ مُسْلِمِي أَهْل تِلْكَ الْبِلاَدِ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا، وَلَيْسَ هُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ دُونَهُمْ، لأَِنَّ مَا فِي دَاخِلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا فِي خَارِجِهَا فَهُوَ لِجَمِيعِ أَهْل تِلْكَ الْبِلاَدِ، وَيُخَمَّسُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ انْتَقَلَتْ إِلَى وَاجِدِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِل لِلْوَاجِدِ أَخْذُهُ، بَل يَلْزَمُهُ عَرْضُهُ عَلَى مَنْ مَلَكَ الأَْرْضَ عَنْهُ، ثُمَّ الَّذِي قَبْلَهُ إِنْ لَمْ يَدَعْهُ، ثُمَّ هَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُحْيِي (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ لِوَاجِدِهَا لأَِنَّهَا مَال كَافِرٍ مَظْهُورٍ عَلَيْهِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ هِيَ لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَهِيَ لِلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ إِلَى أَوَّل مَالِكٍ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَوَّل مَالِكٍ فَهُوَ كَالْمَال الضَّائِعِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ (3) .
__________
( x661 ;) حاشية الدسوقي 1 / 499، والخرشي 2 / 211، والمدونة 1 / 291.
(2) المجموع 6 / 94.
(3) المغني مع الشرح الكبير 2 / 613.(35/148)
ج - مَا يُوجَدُ مِنَ الْكَنْزِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِالإِْحْيَاءِ فَيُخَمَّسُ مَا يُوجَدُ (1) ، وَيَسْتَحِقُّ الْمُحْيِي الأَْخْمَاسَ الأَْرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ لِلْوَاجِدِ إِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا بِالإِْحْيَاءِ أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِمِيرَاثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
د - مَا يُوجَدُ مِنَ الْكَنْزِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ فَالْكَنْزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الأَْرْضُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ (3) .
النَّوْعُ الثَّانِي: الْكُنُوزُ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ مَا يَجِدُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ مِنْ كُنُوزٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ فِيهِ الْخُمُسُ (4) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (5) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ
__________
(1) المجموع 6 / 94.
(2) كشاف القناع 2 / 227.
(3) المجموع 6 / 94.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 491، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 615.
(5) حديث: " وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 364) ومسلم (3 / 1334) من حديث أبي هريرة.(35/149)
لِلْوَاجِدِ، وَلاَ يُخَمَّسُ، لأَِنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لاَ عَنْ طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لاِنْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْل الإِْسْلاَمِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً، وَلاَ خُمُسَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْكُل لَهُ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَسَوَاءٌ دَخَل بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ، لأَِنَّ حُكْمَ الأَْمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لاَ فِي الْمُبَاحِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي مَوَاتٍ لاَ يَذُبُّونَ عَنْهُ فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ فِيهِ الْخُمُسُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.
وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَذُبُّونَ عَنْهُ ذَبَّهُمْ عَنِ الْعُمْرَانِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رِكَازٌ كَالَّذِي لاَ يَذُبُّونَ عَنْهُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ (2) .
9 - أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لأَِهْل هَذِهِ الدَّارِ فَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا، أَنْ يَدْخُل بِأَمَانٍ فَلاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي أَمْتِعَتِهِمْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِلاَّ مَلَكَهُ مِلْكًا خَبِيثًا، لِتَمَكُّنِ خَبَثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لَكِنْ لاَ يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 66، والسير الكبير 5 / 2165.
(2) المجموع 6 / 94.(35/149)
بِخِلاَفِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا (1) ، وَيُعَدُّ سَارِقًا إِنْ أَخَذَهُ خُفْيَةً، وَمُخْتَلِسًا إِنْ أَخَذَهُ جِهَارًا (2) .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَل بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيَحِل لِلْوَاجِدِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَظْفَرُ بِهِ مِنْ كُنُوزِهِمْ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بِقِتَالٍ وَحَرْبٍ كَمَا لَوْ دَخَل جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. لِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُول الأَْخْذِ عَنْ طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُمْ نُظِرَ: إِنْ أُخِذَ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لأَِهْل خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ، وَإِذَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْل الْفَيْءِ، كَذَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (4) .
مِلْكِيَّةُ الْكَنْزِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ مِلْكِيَّةِ الْكَنْزِ مِنْ حَيْثُ طَبِيعَةُ مِلْكِيَّةِ الْخُمُسِ وَسَبَبُ مِلْكِيَّةِ الأَْرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ الْبَاقِيَةِ وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ مِلْكِيَّةِ الأَْرْضِ وَمِلْكِيَّةِ الْكُنُوزِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 66.
(2) المجموع 6 / 64.
(3) بدائع الصنائع 2 / 66.
(4) المجموع 6 / 94.(35/150)
أ - مِلْكِيَّةُ الْخُمُسِ:
10 - يُمَيِّزُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحُقُوقِ:
أَوَّلُهُمَا: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، كَدَيْنِ الْقَرْضِ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَالأُْجْرَةِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ، وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ.
الثَّانِي: الْحُقُوقُ الْقَائِمَةُ بِنَفْسِهَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْشْيَاءِ ذَاتِهَا لاَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ، وَهِيَ الَّتِي عَرَّفَهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِأَنَّهَا حُقُوقٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لاَ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ، فَالْخُمُسُ فِيهِمَا مَفْرُوضٌ عَلَى عَيْنِ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ قَبْل الاِسْتِيلاَءِ أَوِ الْكَشْفِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى شَخْصِ الْغَانِمِ أَوِ الْوَاجِدِ لِلْمَعْدِنِ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْوَاجِدِ مِنْهُمْ، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لِلْوَاجِدِ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنْ بَلَغَتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الأَْخْذُ مِنَ الْخُمُسِ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: مَنْ أَصَابَ كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا وَسِعَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُمُسِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا أَطْلَعَ الإِْمَامَ عَلَى ذَلِكَ أَمْضَى لَهُ مَا صَنَعَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَقَدْ
__________
(1) التوضيح لصدر الشريعة ص 736 طبعة كراتشي.(35/150)
أَوْصَلَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: يَجُوزُ دَفْعُ الْخُمُسِ إِلَى الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ، وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلاَ تُغْنِيهِ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ بِأَنْ كَانَتْ تَقِل عَنِ الْمِائَتَيْنِ، أَمَّا إِذَا بَلَغَتِ الأَْخْمَاسُ الأَْرْبَعَةُ الْمِائَتَيْنِ فَلَيْسَ لِلْوَاجِدِ الأَْخْذُ مِنَ الْخُمُسِ لِغِنَاهُ، وَلاَ يُقَال يَنْبَغِي أَلاَّ يَجِبَ الْخُمُسُ مَعَ الْفَقْرِ كَاللُّقَطَةِ، لأَِنَّا نَقُول إِنَّ النَّصَّ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: خُمُسُ الرِّكَازِ مَصْرِفُهُ لَيْسَ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ يَحِل لِلأَْغْنِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِدُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَدِينًا، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى كَبِيرِ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الأَْرْضِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بُلُوغُ النِّصَابِ وَلاَ غَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ الزَّكَاةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ، فَأَشْبَهَ الْوَاجِبَ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ أَهْلاً
__________
(1) المبسوط 3 / 17.
(2) بدائع الصنائع 2 / 68، 7 / 124 - 125، وانظر السير الكبير 5 / 2173، والبحر الرائق 2 / 252.
(3) التاج والإكليل 2 / 339، وحاشية الدسوقي 1 / 489 - 490.(35/151)
لِلزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ لأَِهْل الْخُمُسِ، لأَِنَّهُ مَالٌ جَاهِلِيٌّ حَصَل الظَّفْرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، فَكَانَ كَالْفَيْءِ، وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْكَافِرِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِنِيَّةٍ.
وَشَرْطُهُ النِّصَابُ - وَلَوْ بِالضَّمِّ - وَالنَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْرُوبًا عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعْدِنِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَشْتَرِطَانِ لِلْخَبَرِ الْمَارِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْحَوْل بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُمُسَ يَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ، اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ عَلَى كُل مَنْ وَجَدَهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، إِلاَّ أَنَّ الْوَاجِدَ لَهُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا وَيُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ زَكَاةٌ، جَزَمَ بِهِ الْخِرَقِيُّ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ لأَِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ صَاحِبَ الْكَنْزِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 97 - 98.(35/151)
وَإِذَا كَانَ الْخُمُسُ زَكَاةً فَلاَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (1) .
ب - مِلْكِيَّةُ الأَْخْمَاسِ الأَْرْبَعَةِ:
11 - يَمْلِكُ وَاجِدُ الْكَنْزِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ صَرْفِ الْخُمُسِ بِالشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا اشْتُرِطَ سَبْقُ إِذْنِ الإِْمَامِ لَهُ بِالْعَمَل فِي التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ، وَيَتَقَيَّدُ حَقُّهُ فِي الْكَنْزِ بِاتِّفَاقِهِ مَعَ الإِْمَامِ، وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا عَمِل فِي الْمَفَاوِزِ بِإِذْنِ الإِْمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ (2) .
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْكَنْزُ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَدْخُل فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ وَلاَ ذِمِّيٍّ وَإِلاَّ أَخَذَ الْكَنْزُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ.
ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ كَالْجِبَال وَالْمَفَاوِزِ وَالطُّرُقِ الْمَهْجُورَةِ الَّتِي لاَ يَأْتِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَلاَ أَهْل الذِّمَّةِ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ يَمْلِكُ الرِّكَازَ، لأَِنَّهُ كَسْبٌ لَهُ فَيَمْلِكُهُ بِالاِكْتِسَابِ، وَإِذَا مَلَكَهُ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ وَهِيَ الْخُمُسُ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا (4) .
__________
(1) الإنصاف 3 / 123 - 125، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 615 - 616.
(2) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية ابن عابدين 2 / 51.
(3) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 491، والإنصاف 3 / 126.
(4) المجموع 6 / 92.(35/152)
ج - مِلْكِيَّةُ الْكَنْزِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَمْلُوكَةً لِمُعَيَّنٍ، وَالأَْرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ هِيَ الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِلاَ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، وَكَذَا الَّتِي آلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال لِمَوْتِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَرَاضِي مِصْرَ (1) ، وَتَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْرَضِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَال وَتَصِيرُ أَمْلاَكَ دَوْلَةٍ، فَيَمْلِكُهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقْفًا، وَحُكْمُ مَا يُوجَدُ مِنْ كَنْزٍ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْرَاضِيِ أَنْ يَذْهَبَ خُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَال أَمَّا الْبَاقِي وَهُوَ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْوَاجِدِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ، أَوْ إِلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ الأَْوَّل إِنْ عُرِفَ، وَإِلاَّ فَلِبَيْتِ الْمَال أَوْ لِلْجَيْشِ وَوَرَثَتِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ حَسْبَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَفِي هَذَا يَذْكُرُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ حُكْمَ مَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَقُول: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْكُل لِبَيْتِ الْمَال، أَمَّا الْخُمُسُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَلِوُجُودِ الْمَالِكِ - وَهُوَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ - فَيَأْخُذُهُ وَكِيلُهُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 44.(35/152)
وَهُوَ السُّلْطَانُ (1) .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي صَرْفِ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ دَفْعِ نِسْبَةِ الزَّكَاةِ إِلَى مَالِكِ الأَْرْضِ، وَيُفَسِّرُ الْخَرَشِيُّ هَذَا الأَْصْل بِقَوْلِهِ: بَاقِي الرِّكَازِ سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ أَوِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ فِي الأَْوَّل وَالْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي الثَّانِي لِمَالِكِ الأَْرْضِ، وَأَرَادَ بِالْمَالِكِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِدَلِيل قَوْلِهِ: وَلَوْ جَيْشًا، فَإِنَّ الأَْرْضَ لاَ تُمَلَّكُ لِلْجَيْشِ، لأَِنَّهَا بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ 1تَصِيرُ وَقْفًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ مَالٌ جُهِلَتْ أَرْبَابُهُ، قَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ نَافِعٍ: لِوَاجِدِهِ، وَحَكَى ابْنُ شَاسٍ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ كَاللُّقَطَةِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ تَذْهَبُ إِلَى مَالِكِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ (2) .
مِلْكِيَّةُ الْكُنُوزِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
13 - تَأْخُذُ هَذِهِ الْكُنُوزُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ، لأَِنَّهَا مَال مُسْلِمٍ لاَ يُعْرَفُ عَلَى التَّعْيِينِ، مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الاِلْتِقَاطِ، وَالتَّعْرِيفُ وَمُدَّتُهُ وَالتَّمَلُّكُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَضَمَانُهَا بَعْدَ التَّصَدُّقِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. (ر: لُقَطَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 48.
(2) الخرشي 2 / 211.(35/153)
مَسَائِل فِقْهِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِالْكَنْزِ.
أ - حُكْمُ التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ:
14 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ الْمُسْلِمُونَ حُكْمَ التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ وَلَمْ يَرَوْا حُرْمَتَهُ فِيمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، لإِِيجَابِ الشَّرِيعَةِ الْخُمُسَ فِيمَا خَرَجَ مِنْهَا، مِمَّا يَدُل بِوَجْهِ الاِقْتِضَاءِ عَلَى حِل اسْتِخْرَاجِهِ وَجَوَازِ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَاهَةِ أَوِ الْحُرْمَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى آخَرَ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ كَرِهَ الْحَفْرَ فِي الْقُبُورِ وَلَوْ كَانَتْ لِمَوْتَى الْجَاهِلِيَّةِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْمَوْتِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ حَفْرَ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالطَّلَبَ فِيهَا وَلَسْتُ أَرَاهُ حَرَامًا، فَمَا نِيل فِيهَا مِنْ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ (1) ، وَذَلِكَ - كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ - لإِِخْلاَلِهِ بِالْمُرُوءَةِ، وَخَوْفِ مُصَادَفَةِ قَبْرِ صَالِحٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْل قَبْرِ الْجَاهِلِيِّ فِي كَرَاهَةِ الْحَفْرِ لأَِجْل أَخْذِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَال قَبْرُ مَنْ لاَ يُعْرَفُ هَل هُوَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْكُفَّارِ، وَكَذَا قُبُورُ أَهْل الذِّمَّةِ، أَيِ الْكُفَّارِ تَحْقِيقًا، وَأَمَّا نَبْشُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَحَرَامٌ، وَحُكْمُ مَا وُجِدَ فِيهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ (2) ، وَقَدْ خَالَفَ أَشْهَبُ فِي هَذَا، وَرَأَى جَوَازَ نَبْشِ قَبْرِ الْجَاهِلِيِّ وَأَخْذَ مَا فِيهِ مِنْ مَالٍ وَعَرَضٍ، وَفِيهِ
__________
(1) المدونة 1 / 290.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 490، والخرشي 2 / 211.(35/153)
الْخُمُسُ (1) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَْحْنَافِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِنَبْشِ قُبُورِ الْكُفَّارِ طَلَبًا لِلْمَال (2) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ فِي التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ لِيَأْخُذَ الْوَاجِدُ حَقَّهُ عِنْدَ الأَْحْنَافِ، فَفِي السِّيَرِ: أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ أَوِ الْعَبْدُ أَوِ الْمُكَاتَبُ أَوِ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ مَعْدِنًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ رِكَازًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ، وَكَانَتِ الْبَقِيَّةُ لِمَنْ أَصَابَهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ هَؤُلاَءِ يَثْبُتُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ حَقٌّ وَإِنْ أَصَابُوهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَزَوْا مَعَ عَسْكَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ رَضَخَ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ ثَبَتَ لَهُمْ حَقٌّ فِيمَا أَصَابُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (3) .
وَلَوْ أَذِنَ الإِْمَامُ لأَِحَدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ أَوِ الْكُنُوزِ عَلَى شَرْطٍ لَزِمَ هَذَا الشَّرْطُ، فَكُل شَيْءٍ قَدَّرَهُ الإِْمَامُ صَارَ كَالَّذِي ظَهَرَ تَقْدِيرُهُ بِالشَّرِيعَةِ (4) ، فِيمَا لاَ يُصَادِمُ نَصًّا وَلاَ أَصْلاً مِنَ الأُْصُول الشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الاِتِّفَاقُ عَلَى إِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ لِحَظِّ الْفُقَرَاءِ، فَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتِبًا أَوِ امْرَأَةً أَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 246.
(3) السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني 5 / 2168.
(4) المرجع السابق 5 / 2169.(35/154)
وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ لاَ خُمُسَ فِيهِ فَأَصَابَ مَالاً كَثِيرًا مِنَ الْمَعَادِنِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ لَهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، لأَِنَّ مَا يُصَابُ مِنَ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ هُوَ غَنِيمَةٌ، وَالْخُمُسُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْطِل حَقَّ الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مُحْتَاجًا عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ لاَ يَصِيرُ غَنِيًّا بِالأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ فَرَأَى الإِْمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ الْخُمُسَ لَهُ جَازَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، هَذَا الَّذِي أَصَابَهُ فَقِيرٌ، فَقَدْ صَرَفَ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِذَلِكَ الرَّجُل الَّذِي أَصَابَ الرِّكَازَ: إِنْ وَجَدْتَهَا فِي أَرْضٍ خَرِبَةٍ فَالْخُمُسُ لَنَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ، ثُمَّ قَال: وَسَنُتِمُّهَا لَكَ، وَإِنَّمَا قَال ذَلِكَ لأَِنَّهُ رَآهُ أَهْلاً لِلصَّدَقَةِ (1) ، وَلَوِ اشْتَرَطَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الشَّرْطُ، فَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَذِنَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ فَأَصَابَ كَنْزًا أَوْ أَمْوَالاً مِنَ الْمَعَادِنِ، فَإِنَّ الإِْمَامَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُمُسَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ (2) ، وَهَذَا لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالإِْصَابَةِ لاَ بِالشَّرْطِ، وَلِذَا لاَ يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ.
__________
(1) السير الكبير 5 / 2173.
(2) السير الكبير 5 / 2170.(35/154)
احْتِفَارُ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِلْكُنُوزِ:
15 - الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي إِيجَابِ الْخُمُسِ وَفِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإِْمَامِ لاِسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ.
يَقُول الشَّيْبَانِيُّ: وَمَا أَصَابَ الذِّمِّيُّ مِنْ رِكَازٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ مَعْدِنٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ زِئْبَقٍ فَهُوَ وَالْمُسْلِمُ فِيهِ سَوَاءٌ، يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِنَا وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ (1)
أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَال الشَّيْبَانِيُّ: إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَأَصَابَ رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَدِيدًا فَإِنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ كُلَّهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْجَفُوا عَلَيْهَا الْخَيْل، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً لَكَانَ لاَ خُمُسَ فِيهِ، وَالْحَرْبِيُّ لاَ حَقَّ لَهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ اسْتَأْذَنَ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ وَالْعَمَل فِيهِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَعَمِل فَأَصَابَ شَيْئًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، لأَِنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ قَاتَل
__________
(1) السير الكبير 5 / 2163.(35/155)
الْمُشْرِكِينَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ صَارَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ، حَتَّى أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ كَمَا يُرْضَخُ لِلذِّمِّيِّ (1) .
وَقَال: لَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ اسْتَأْذَنَ الإِْمَامَ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ، فَأَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُصِيبُ النِّصْفَ وَلَهُ النِّصْفُ، فَعَمِل عَلَى هَذَا فَأَصَابَ رِكَازًا مَعْدِنًا فَإِنَّ الإِْمَامَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا أَصَابَ وَالْحَرْبِيُّ نِصْفَهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الرِّكَازِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ إِذْنِ الإِْمَامِ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّرْطِ. وَالإِْمَامُ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ.
ثُمَّ الإِْمَامُ يَأْخُذُ خُمُسَ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيُّ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ فَيَجْعَلُهُ لِلْفُقَرَاءِ، وَيَجْعَل النِّصْفَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ يُصَيِّرُ مَا أَصَابَهُ الْحَرْبِيُّ غَنِيمَةً يَجِبُ فِيهَا الْخُمُسُ (2) .
ب - الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْعَمَل فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:
1 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الاِسْتِئْجَارَ عَلَى الْعَمَل فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ شَرِيطَةَ
__________
(1) السير الكبير 5 / 2161 - 2163.
(2) المرجع السابق 5 / 2170.(35/155)
اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ مَعْلُومَةً وَأَنْ يَكُونَ الْعَمَل مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْصُل بِهِ الضَّبْطُ، كَحَفْرِ كَذَا وَإِزَالَةِ جِدَارٍ أَوْ نَقْل قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التُّرَابِ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل الأَْجْرَ وَيَذْهَبُ مَا يُخْرِجُ مِنَ الْكُنُوزِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، جَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ لِلْعَمَل فِي الْمَعْدِنِ فَالْمُصَابُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لأَِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ (1) .
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ أَيِ الْمَعْدِنِ لِمَنْ يَعْمَل فِيهِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَأْخُذُهَا مِنَ الْعَامِل فِي نَظِيرِ أَخْذِهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ بِشَرْطِ كَوْنِ الْعَمَل مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ عَمَلٍ خَاصٍّ كَحَفْرِ قَامَةٍ أَوْ قَامَتَيْنِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَسُمِّيَ الْعِوَضُ الْمَدْفُوعُ أُجْرَةً لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ ذَاتٍ، بَل فِي مُقَابَلَةِ إِسْقَاطِ الاِسْتِحْقَاقِ (2) ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ لِرَبِّهِ وَالأُْجْرَةُ يَدْفَعُهَا رَبُّهُ لِلْعَامِل فَيَجُوزُ وَلَوْ بِأُجْرَةِ نَقْدٍ. وَفِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَعْدِنِ بِجُزْءٍ لِلْعَامِل مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ كَنِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ كَالْقِرَاضِ وَمَنْعِهِ. . . قَوْلاَنِ رُجِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا (3) .
وَإِنَّمَا جَازَتِ الإِْجَارَةُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 252.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 488.
(3) المرجع السابق 1 / 489.(35/156)
لِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، يَقُول السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا تَقَبَّل الرَّجُل مِنَ السُّلْطَانِ مَعْدِنًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فِيهِ أُجَرَاءَ، وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ مَالاً قَال يُخَمَّسُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمُتَقَبِّل، لأَِنَّ عَمَل أُجَرَائِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّ عَمَلَهُمْ صَارَ مُسَلَّمًا إِلَيْهِ حُكْمًا بِدَلِيل وُجُوبِ الأُْجْرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَمِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لَهُمْ دُونَهُ، لأَِنَّهُمْ وَجَدُوا الْمَال، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لِلْوَاجِدِ، وَالتَّقَبُّل مِنَ السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنٌ، وَالتَّقَبُّل فِي مِثْلِهِ لاَ يَصِحُّ، كَمَنْ تَقَبَّل أَجَمَةً فَاصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ غَيْرُهُ كَانَ لِلَّذِي اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَبَّل بَعْضَ الْمَقَانِصِ مِنَ السُّلْطَانِ فَاصْطَادَ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقَبُّل مِنْهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ (1) .
وَمَعْنَى التَّقَبُّل الاِلْتِزَامُ بِالْعَمَل بِعَقْدٍ
(ر: تَقَبُّلٌ ف 1) .
لَكِنْ لَوْ فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ تَجِبَ الأُْجْرَةُ لِلأَْجِيرِ وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ فِيمَا لَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَعْيِينِ الْعَمَل بِمَا لاَ يَضْبِطُهُ - كَأَنْ لاَ يَذْكُرَا وَقْتًا يُحَدِّدَانِهِ لِهَذَا الْعَمَل - أَنَّ الرِّكَازَ هُنَا لِلْعَامِل أَيْضًا، إِذَا لَمْ يُوَقِّتَا، لأَِنَّهُ إِذَا فَسَدَ
__________
(1) المبسوط 2 / 217، وانظر في هذه المسألة بنصها أو بما يقاربه في الأصل لمحمد 2 / 139.(35/156)
الاِسْتِئْجَارُ بَقِيَ مُجَرَّدُ التَّوْكِيل، وَالتَّوْكِيل فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لاَ يَصِحُّ بِخِلاَفِ مَا إِذَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ الآْخَرِ، فَإِنَّ لِلْمُعِينِ أَجْرَ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ عَمِل لَهُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فَتَأَمَّلْهُ (1) .
ج - الاِشْتِرَاكُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:
17 - انْقَسَمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحُكْمُ بِفَسَادِ الشَّرِكَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَرُجُوعِ مَا يَسْتَخْرِجُهُ كُل شَرِيكٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: لَوْ عَمِل رَجُلاَنِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِلآْخَرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا حَفَرَ أَحَدُهُمَا مَثَلاً، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَتَمَّ الْحَفْرَ وَاسْتَخْرَجَ الرِّكَازَ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَكَا فِي طَلَبِ ذَلِكَ فَسَيُذْكَرُ فِي بَابِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ فِي احْتِشَاشٍ وَاصْطِيَادٍ وَاسْتِقَاءٍ وَسَائِرِ مُبَاحَاتٍ كَاجْتِنَاءِ ثِمَارٍ مِنْ جِبَالٍ وَطَلَبِ مَعْدِنٍ مِنْ كَنْزٍ وَطَبْخِ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ مُبَاحٍ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ، وَالتَّوْكِيل فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لاَ يَصِحُّ، وَمَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا فَلَهُ، وَمَا حَصَّلاَهُ مَعًا فَلَهُمَا نِصْفَيْنِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَا لِكُلٍّ، وَمَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ صَاحِبِهِ فَلَهُ، وَلِصَاحِبِهِ أَجْرُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 52.(35/157)
مِثْلٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ (1) ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرِكَةً فِي تَحْصِيل الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاسِدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَلاَ تَقْبَل التَّوْكِيل فِي أَخْذِهَا، وَالشَّرِكَةُ إِنَّمَا تَقُومُ عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ، فَكُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ فِي التَّقَبُّل وَالْعَمَل حَتَّى يَشْتَرِكَا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل لَهُمَا، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الاِشْتِرَاكِ فِي التَّحْصِيل بِآلَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ أَوْ بِآلاَتٍ مُشْتَرَكَةٍ (2) .
الثَّانِي: جَوَازُ الاِشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لاِتِّجَاهِ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ جَوَازُ الاِشْتِرَاكِ فِي الْحَفْرِ عَلَى الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَالآْبَارِ وَالْعُيُونِ وَكَذَا الْبُنْيَانُ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَوْضِعِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ هَذَا فِي غَارٍ فِيهِ مَعْدِنٌ وَهَذَا فِي غَارٍ آخَرَ (3) ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازَ الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُبَاحِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْجِبَال وَالْمَعَادِنِ وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا جَائِزٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 52، 3 / 382.
(2) الفتاوى الخانية مع الفتاوى الهندية 3 / 624 - 625، والمبسوط 11 / 217.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 362.
(4) المغني لابن قدامة 5 / 111.(35/157)
وَيَسْتَدِل الْحَنَابِلَةُ لِمَذْهَبِهِمْ مِنَ الْمَنْقُول بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: " 100 اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ " (1) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَمِثْل هَذَا لاَ يَخْفَى عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ.
أَمَّا مِنَ الْمَعْقُول فَيَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْعَمَل أَحَدُ جِهَتَيِ الْمُضَارَبَةِ وَصِحَّةُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِ كَالْمَال (2) .
د - الاِخْتِصَاصُ وَالْمُزَاحَمَةُ:
18 - لاَ يَتَوَقَّفُ الْعَمَل فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ عَلَى إِذْنِ الإِْمَامِ إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا إِذْنَ الإِْمَامِ لِلْعَمَل فِي الْمَعَادِنِ مَنْعًا لِلْهَرْجِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَعَادِنَ قَدْ يَجِدُهَا شِرَارُ النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ إِلَى الإِْمَامِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ (3)
وَلاَ يَعْنِي عَدَمُ اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإِْمَامِ فِي الْعَمَل فِي الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ إِثْبَاتَ حَقِّ كُل أَحَدٍ فِي مُزَاحَمَةِ الْعَامِل فِيهَا، فَلاَ تَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِيمَا اخْتُصَّ بِهِ بِسِبْقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي الأَْصْل لِلشَّيْبَانِيِّ فِيمَا لَوْ كَانَ الرَّجُل يَعْمَل فِي
__________
(1) حديث " ابن مسعود اشتركت أنا وعمار بن ياسر. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 681) وقال المنذري في مختصر السنن (53: 5) : هو منقطع، فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 5 / 112.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 487.(35/158)
الْمَكَانِ يَوْمًا فَيَجِئُ آخَرُ مِنَ الْغَدِ فَيَعْمَل فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيُصِيبُ مِنْهُ الْمَال مُعْتَبِرًا أَحَقِّيَّتَهُ، قَال مُحَمَّدٌ: يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَهُوَ لِلَّذِي عَمِل فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخِيرًا (1) ، إِذْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَخْرِجَ الأَْوَّل تَرَكَ مَكَانَ الْحَفْرِ فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي عَمِل فِيهَا الآْخَرُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْعَمَل فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لأَِحَدٍ فِي مُزَاحَمَتِهِ، لِسَبْقِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ (2) وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَمَل فِي مَكَانٍ لِلْبَحْثِ عَمَّا فِيهِ مِنْ كُنُوزٍ أَوْ مَعَادِنَ لاَ يُوجِبُ مِلْكَ مَا يُوجَدُ فِيهِ، إِذِ الْوَاقِعُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ لَمْ يَعُدْ مَالِكًا، طِبْقًا لِمَا حَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ (3) .
إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَوَاهِرَ الأَْرْضِ، بَعْدَ أَنْ قَسَّمُوهَا إِلَى مَعَادِنَ ظَاهِرَةٍ وَمَعَادِنَ بَاطِنَةٍ، فَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (إِقْطَاعٌ ف 17، 18 وَمَعْدِنٌ) .
__________
(1) الأصل أو المبسوط للشيباني 2 / 129.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 86.
(3) الفروق 3 / 20 وما بعدها.(35/158)
أَثَرُ النَّفَقَةِ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ:
20 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الرِّكَازَ فِيهِ الْخُمُسُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ وَهُمَا: إِذَا مَا تَوَقَّفَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الأَْرْضِ عَلَى كَبِيرِ نَفَقَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ رُبُعِ الْعُشْرِ، وَيُخَالِفُ ابْنُ يُونُسَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَيُوجِبُ الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ افْتَقَرَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الأَْرْضِ إِلَى كَبِيرِ نَفَقَةٍ وَإِلَى كَبِيرِ جُهْدٍ وَعَمَلٍ أَمْ لَمْ يَفْتَقِرْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْعَمَل فِي الْحُصُول عَلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِتَحْصِيلِهِ غَالِبًا، لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى الْوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَفَقَةٍ وَلاَ تَعَبٍ، أَوْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ خِلاَفًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمُسْتَخْرَجَيْنِ مِنَ الْمَعْدِنِ فَاعْتُبِرَتِ النَّفَقَةُ وَالْعَمَل فِي مِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِمَا، لأَِنَّ الْوَاجِبَ يَزْدَادُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَتِهَا كَالْمُعَشَّرَاتِ (2) .
نَوْعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْيِيفِ الْخُمُسِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْكَنْزِ، هَل هُوَ كَالزَّكَاةِ أَوْ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْغَنِيمَةِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 490.
(2) مغني المحتاج 1 / 95، ونهاية المحتاج 3 / 97، والمهذب مع المجموع 9 / 91.(35/159)
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيل الزَّكَاةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِكَازٌ ف 10 - 15) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:
أ - التَّمَوُّل وَالتَّقَوُّمُ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَمَوُّل الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، أَمَّا مَا لاَ يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ وَلاَ يَبْذُلُونَ الأَْثْمَانَ لِلْحُصُول عَلَيْهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْثْمَانِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ أَوْ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْكَنْزِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَوْنُهُ مِنَ الأَْثْمَانِ بَل قَالُوا: إِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عَيْنًا كَانَ أَوْ عَرَضًا كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَجَوْهَرٍ وَرُخَامٍ وَصُخُورٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا أَيْ ذَهَبًا وَفِضَّةً، سَوَاءٌ أَكَانَا مَضْرُوبَيْنِ أَمْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ كَالسَّبَائِكِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ، فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعْدِنِ (1) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 254، وتبيين الحقائق 1 / 291، والشرح الصغير 1 / 653، وحاشية الدسوقي 1 / 490، ومغني المحتاج 1 / 395 - 396، وكشاف القناع 2 / 226.(35/159)
ب - سَبْقُ الْيَدِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مِلْكِ الْكَنْزِ:
23 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْمَال الْمَدْفُونِ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ مِنَ الْكُنُوزِ الَّتِي يَجِبُ تَخْمِيسُهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لأَِهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْمَال مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصِنَاعَتِهِمْ، بَل أَنْ يَكُونَ مِنْ دَفْنِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِمْ (1) .
ج - اسْتِخْرَاجُ الْكَنْزِ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ:
24 - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِخْرَاجَ الْكَنْزِ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ رِكَازٌ مَعْدِنًا كَانَ أَوْ كَنْزًا وُجِدَ فِي صَحْرَاءِ دَارِ الْحَرْبِ، بَل كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ، وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا، لأَِنَّهُ كَالْمُتَلَصِّصِ (2) .
وَيُخَالِفُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا، فَيُخَمَّسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ كَمَوَاتِ أَرْضِ الإِْسْلاَمِ وَأَرْضِ الْحَرْبِ، وَلِوَاجِدِهِ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ الْمَوْجُودُ الْجَاهِلِيُّ فِي مَوَاتٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانُوا
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 396، وانظر نهاية المحتاج 3 / 98.
(2) تنوير الأبصار بهامش حاشية ابن عابدين 2 / 52، والمغني 2 / 615.(35/160)
يَذُبُّونَا عَنْهُ، وَسَوَاءٌ أَحْيَاهُ الْوَاجِدُ أَمْ أَقْطَعَهُ أَمْ لاَ (1) .
د - الاِسْتِخْرَاجُ مِنَ الْبَرِّ لاَ مِنَ الْبَحْرِ:
25 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَ الْكَنْزِ مِنَ الْبَرِّ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ عَلَى حِينِ لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ هَذَا الشَّرْطَ، وَمَبْنَاهُ اخْتِلاَفُهُمْ فِي إِلْحَاقِ الْكُنُوزِ بِالْغَنِيمَةِ أَوْ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَفِي تَحْقِيقِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْكُنُوزِ، وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَرِدُ تَوْضِيحُهُ فِيمَا يَلِي:
يَحْكِي الْكَاسَانِيُّ اخْتِلاَفَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُل حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ لِلْوَاجِدِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ، مَا فِيهَا؟ قَال: فِيهَا الْخُمُسُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ الْخُمُسَ مِنَ الْعَنْبَرِ. . . وَلأَِنَّ الْمَعْنَى هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالاً مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ، إِذِ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمُ، انْتَزَعْنَاهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 491، ونهاية المحتاج 3 / 98.(35/160)
الْعَنْبَرِ؟ فَقَال: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لاَ خُمُسَ فِيهِ، وَلأَِنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ، فَلَمْ يَكُنِ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ، فَلاَ يَكُونُ غَنِيمَةً فَلاَ يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَعَلَى هَذَا قَال أَصْحَابُنَا: إِنِ اسْتَخْرَجَ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلاَ شَيْءَ فِيهِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ، فَكَانَ مَالاً مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ (1) ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِل أَنَّ الْكَنْزَ يُخَمَّسُ كَيْفَ كَانَ. سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ أَوْ لاَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَالاً مُتَقَوِّمًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ جَمِيعُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَلَوْ ذَهَبًا كَانَ كَنْزًا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ. أَيْ وَلَوْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا مَكْنُوزًا بِصُنْعِ الْعِبَادِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ لاَ خُمُسَ فِيهِ، وَكُلُّهُ لِلْوَاجِدِ. لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً -. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِيمَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَنَحْوِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 68.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 51، وانظر هذا الخلاف في البحر الرائق 2 / 254. وتبيين الحقائق 1 / 291.(35/161)
فِي ظَاهِرِ قَوْل الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعَطَاءٌ والثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَعْدِنٍ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ (1) وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ (2) لأَِنَّهُ لَمْ تَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالأَْصْل عَدَمُ الْوُجُوبِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ كَعَنْبَرٍ مِمَّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لأَِحَدٍ فَلِوَاجِدِهِ بِلاَ تَخْمِيسٍ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِجَاهِلِيٍّ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَرِكَازٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلُقَطَةٌ (4) .
هـ - النِّصَابُ:
26 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النِّصَابَ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكُنُوزِ فَكُل مَا يُوجَدُ مِنْهُ، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا مَحَلٌّ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ فِي ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سَحْنُونٍ مِنْ أَنَّ الْيَسِيرَ الَّذِي يَقِل عَنِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 620.
(2) الشرح الكبير مع المغني 2 / 584.
(3) كشاف القناع 2 / 225، والمبدع 2 / 357.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 492.(35/161)
النِّصَابِ لاَ يُخَمَّسُ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ، وَلَوْ بِالضَّمِّ لأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعَادِنِ (1) .
و حَوَلاَنُ الْحَوْل:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَى الْخَارِجِ لِحُصُولِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ الْحَوْل لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الْحَوْل لِلنَّمَاءِ وَهَذَا كُلُّهُ نَمَاءٌ (2) .
ز - إِسْلاَمُ الْوَاجِدِ:
28 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِسْلاَمَ الْوَاجِدِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُسْلِمُ كَنْزًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَتِ الْبَقِيَّةُ لِمَنْ أَصَابَهُ (3) ، وَيَسْتَوِي - كَمَا قَال السَّرَخْسِيُّ - أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَال كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا (4) .
__________
(1) حاشية الشلبي وتبيين الحقائق 1 / 288، والمهذب 1 / 163، تحفة المحتاج 3 / 287، والمجموع 6 / 79، وحاشية الجمل 2 / 261، ومغني المحتاج 1 / 395، وحاشية الدسوقي 1 / 490، الخرشي 2 / 210، وكشاف القناع 2 / 226، والإنصاف 3 / 123، المبدع 2 / 358.
(2) تبيين الحقائق 1 / 288، وحاشية الدسوقي 1 / 456، وتحفة المحتاج 3 / 287، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 619.
(3) السير الكبير 5 / 2168، والمجموع 6 / 101.
(4) المبسوط للسرخسي 2 / 212.(35/162)
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا يُصِيبُ الرَّجُل مِنْ كُنُوزٍ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى دِينِهِ (1) ، وَفِي الإِْنْصَافِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخَمِّسَ كُل أَحَدٍ وَجَدَ ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنْ يُؤْخَذَ الرِّكَازُ كُلُّهُ مِنَ الذِّمِّيِّ لِبَيْتِ الْمَال وَلاَ خُمُسَ عَلَيْهِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الأَْوَّل وَهُوَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ حُكْمَ الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ حُكْمُهُ فِي الْمَعْدِنِ. فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ وَجَدَهُ مَلَكَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الرِّكَازِ كَوْنَ وَاجِدِهِ مُسْلِمًا لأَِنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ كَالذِّمِّيِّ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ (3) .
وَأَوْجَبَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ الْخُمُسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) المدونة 1 / 290.
(2) الإنصاف للمرداوي 3 / 124.
(3) المجموع 6 / 91.
(4) المجموع 6 / 101 - 102.(35/162)
ح - أَهْلِيَّةُ الْوَاجِدِ:
29 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ صَلاَحِيَةُ الْوَاجِدِ لِلاِسْتِحْقَاقِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِذَا يَجِبُ الْخُمُسُ عَلَى الْوَاجِدِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ لِتَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِالْعَيْنِ، فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْوَاجِدِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ أَوْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَال كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمَرْأَةَ يُرْضَخُ لَهُمْ (1) ،
وَيَسْتَدِل الْجُمْهُورُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) ، وَلأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْغَنِيمَةِ فِي تَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِعَيْنِهَا، وَلأَِنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ فَكَانَ لِمُكْتَسِبِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوِ امْرَأَةً (3) .
مَوَانِعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ
يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْخُمُسِ أَوْ بَعْضِهِ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ أَهَمُّهَا:
تَلَفُ الْكَنْزِ بَعْدَ خُرُوجِهِ تَلَفًا
__________
(1) المبسوط 2 / 212.
(2) حديث: " وفي الركاز الخمس ". سبق تخريجه ف5.
(3) المغني مع الشرح الكبير 2 / 616، والخرشي 2 / 210.(35/163)
جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا وَظُهُورُ مَالِكِهِ، وَاشْتِرَاطُ الإِْمَامِ عَلَى الْوَاجِدِ الْعَمَل فِي احْتِفَارِ الْكُنُوزِ وَاسْتِخْرَاجِهَا لِبَيْتِ الْمَال، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَفِيمَا يَلِي تَوْضِيحُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ بِوَجْهِ الإِْجْمَال وَالإِْيجَازِ:
أ - تَلَفُ الْكَنْزِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا:
30 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرِّكَازَ يَأْخُذُ مَأْخَذَ الزَّكَاةِ إِذَا احْتَاجَ لِكَبِيرِ نَفَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ فَإِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ بَعْدَ إِمْكَانِ الأَْدَاءِ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الرِّكَازُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَكَانَ التَّلَفُ بِدُونِ تَفْرِيطٍ فِي حِفْظِهِ، فَلاَ يَجِبُ الْخُمُسُ، قِيَاسًا عَلَى الْمَال الْمُزَكَّى قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: زَكَاةٌ -) .
ب - مَدْيُونِيَّةُ الْوَاجِدِ:
31 - لاَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَاجِدِ وُجُوبَ الْخُمُسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَكْتُمَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ وَلاَ يُخْرِجَهُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ مَدِينًا مُحْتَاجًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَأَوَّل أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَال وَنَصِيبًا فِي الْفَيْءِ فَأَجَازُوا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ
__________
(1) حاشية العدوي مع الخرشي 2 / 209 - 210.
(2) مغني المحتاج 1 / 418.(35/163)
عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لاَ أَنَّهُمْ أَسَقَطُوا الْخُمُسَ عَنِ الْمَعَادِنِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَظْهَرُ الأَْقْوَال عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْوَاجِبَ فِي الْمَال الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ، وَالرِّكَازُ وَالْعَرَضُ، وَلاَ يَمْنَعُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعْدِنُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الظَّاهِرَ يَنْمُو بِنَفْسِهِ، وَالْبَاطِنَ إِنَّمَا يَنْمُو بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالدَّيْنُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُحْوِجُ إِلَى صَرْفِهِ فِي قَضَائِهِ (2) ، وَمَحَل الْخِلاَفِ كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل أَلاَّ يَزِيدَ الْمَال عَلَى الدَّيْنِ بِمِقْدَارِ النِّصَابِ، فَإِنْ زَادَ بِمَا يَبْلُغُ النِّصَابَ زَكَّى الزَّائِدَ، وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ مَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَال الْمُزَكَّى، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ قَطْعًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الدَّيْنُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الأَْثْمَانُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَال رَبِيعَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ لاَ يَمْنَعُ، لأَِنَّهُ حُرٌّ
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3 / 365، والبحر الرائق 2 / 252، والخرشي 2 / 210.
(2) مغني المحتاج 1 / 411.
(3) حاشية الجمل 2 / 289.(35/164)
مُسْلِمٌ مَلَكَ نِصَابًا حَوْلاً فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَنْ لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ (1) ، وَدَلِيل الْقَوْل بِمَنْعِ الدَّيْنِ زَكَاةَ مَا يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (2) .
أَمَّا الأَْمْوَال الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّفَقَةِ فَيُزَكِّيهِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، صَدَقَةٌ فِي إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ زَرْعٍ، وَهَذَا قَوْل عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالثَّوْرِيِّ واللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ (3)
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ إِلاَّ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فِيمَا اسْتَدَانَهُ لِلإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا خَاصَّةً، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: زَكَاةٌ ف 33 - 34) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 2 / 450.
(2) حديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى ". أخرجه أحمد (2 / 230) من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح.
(3) الشرح الكبير مع المغني 2 / 452.
(4) الشرح الكبير مع المغني 2 / 452.(35/164)
ج - الشَّرْطُ وَالاِتِّفَاقُ مَعَ الإِْمَامِ:
32 - إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ فِي الْعَمَل لاِسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ كَأَنْ يَأْخُذَ الْوَاجِدُ أُجْرَةً مُعَيَّنَةً وَيَكُونُ الْخَارِجُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ مِثْل هَذَا الشَّرْطِ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ. سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. . . إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) ، وَلأَِنَّهُ إِذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ جَعَل الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ (2) ، وَيَذْكُرُ الْخَرَشِيُّ اعْتِبَارَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الاِتِّفَاقِ (هِبَةً لِلثَّوَابِ) حَتَّى لاَ يُنَازَعَ فِي صِحَّةِ الإِْجَارَةِ لِجَهَالَةِ الأُْجْرَةِ أَوِ الْمَأْجُورِ عَلَيْهِ (3) .
كَنْزُ الْمَال:
33 - اتَّجَهَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَفْهُومِ كَنْزِ الْمَال اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةً:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ هُوَ " مَا فَضَل عَنِ الْحَاجَةِ (4) "، وَأَشْهَرُ مَنْ دَعَا إِلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 635) من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65 - 66.
(3) الخرشي 2 / 209.
(4) تفسير القرطبي 8 / 125، وانظر الأحاديث الواردة في ذم الكنز في صحيح مسلم في كتاب الزكاة.(35/165)
هَذَا الاِتِّجَاهِ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَال الرَّازِيُّ: الْمَال الْكَثِيرُ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ سَوَاءٌ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تُؤَدَّ لِعُمُومِ (1) قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2) فَظَاهِرُ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمَال، وَلِمَا رَوَى ثَوْبَانُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ: فَأَيُّ مَالٍ نَكْنِزُ؟ قَال: قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً صَالِحَةً (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَال الَّذِي لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، أَمَّا مَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، قَال ابْنُ عُمَرَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَكُل مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الأَْرْضِ (4) .
وَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ كَمَا قَال الأَْكْثَرُونَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ} (5) ،
__________
(1) تفسير الرازي 16 / 44.
(2) سورة التوبة / 34.
(3) حديث: لما نزلت آية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أخرجه الترمذي (5 / 277) والواحدي في أسباب النزول (ص244) واللفظ للواحدي، وقال الترمذي: حديث حسن.
(4) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 8 / 125 وصحيح سنن ابن ماجه ترتيب الألباني 1 / 298.
(5) سورة التوبة / 34.(35/165)
يُرِيدُ الَّذِينَ لاَ يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَبِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (1) ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ كُل مَا اكْتَسَبَهُ الإِْنْسَانُ فَهُوَ حَقُّهُ (2) ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: نِعْمَ الْمَال الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ لِلْمَال بِأَنَّهُ مَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ الْعَارِضَةُ كَفَكِّ الأَْسِيرِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (4) .
كَنِيسَةٌ
انْظُرْ: مَعَابِدُ.
__________
(1) سورة البقرة / 134.
(2) تفسير الرازي 16 / 44.
(3) حديث: " نعم المال الصالح للمرء الصالح ". أخرجه أحمد (4 / 197) والحاكم (2 / 136) من حديث عمرو بن العاص، واللفظ لأحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) القرطبي 8 / 126.(35/166)
كُنْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُنْيَةُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي الْحَسَنِ، أَوْ عَلاَمَةً عَلَيْهِ كَأَبِي تُرَابٍ (1) ، وَهُوَ مَا كَنَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْذًا مِنْ حَالَتِهِ عِنْدَمَا وَجَدَهُ مُضْطَجِعًا إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَفِي ظَهْرِهِ تُرَابٌ (2) .
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْكُنْيَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُكَنَّى عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُسْتَفْحَشُ ذِكْرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُكَنَّى الرَّجُل بِاسْمٍ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَقُومَ الْكُنْيَةُ مَقَامَ الاِسْمِ فَيُعْرَفُ صَاحِبُهَا بِهَا كَمَا يُعْرَفُ بِاسْمِهِ كَأَبِي لَهَبٍ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى عُرِفَ بِكُنْيَتِهِ فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى علي بن أبي طالب بأبي تراب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 587) من حديث سهل بن سعد.
(3) لسان العرب.(35/166)
وَالْكُنْيَةُ: مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ بِأُمٍّ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ الْخَيْرِ (1) ، وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: الْكُنْيَةُ مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوِ ابْنٍ أَوْ بِنْتٍ (2) .
وَتَكُونُ عَلَمًا غَيْرِ الاِسْمِ وَاللَّقَبِ وَتُسْتَعْمَل مَعَهُمَا أَوْ بِدُونِهِمَا تَفْخِيمًا لِشَأْنِ صَاحِبِهَا أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ مُجَرَّدًا وَتَكُونُ لأَِشْرَافِ النَّاسِ.
وَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْكُنَى فِي الْعَرَبِ حَتَّى رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الأَْسْمَاءِ كَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ كُنْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَكْثَرُ وَقَدْ يَشْتَهِرُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ جَمِيعًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّقَبُ:
2 - اللَّقَبُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِهِ الإِْنْسَانُ بَعْدَ اسْمِهِ الْعَلَمِ مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ لِمَعْنًى فِيهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (4) .
وَاللَّقَبُ وَالْكُنْيَةُ مُشْتَرِكَانِ فِي تَعْرِيفِ الْمَدْعُوِّ بِهِمَا، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ اللَّقَبَ يُفْهِمُ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَالْكُنْيَةُ مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ (5) .
__________
(1) شرح ابن عقيل 1 / 119، وفتح الباري 6 / 560.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) فتح الباري 6 / 560.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات، والمفردات مادة: لقب، ومغني المحتاج 4 / 295، وتفسير القرطبي 16 / 328، وفتح الباري 6 / 560.
(5) تحفة المودود ص115.(35/167)
ب - الاِسْمُ:
3 - الاِسْمُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّيْءُ وَيُسْتَدَل بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، أَوْ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ الْعَلاَمَةُ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ.
وَهُوَ عِنْدَ النُّحَاةِ مَا دَل عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُقْتَرِنٍ بِزَمَنٍ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ، وَالاِسْمُ الأَْعْظَمُ الاِسْمُ الْجَامِعُ لِمَعَانِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، اسْمُ الْجَلاَلَةِ اسْمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالاِسْمِ أَنَّ الْكُنْيَةَ مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ وَنَحْوِهِمَا، وَالاِسْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكُنْيَةِ:
حُكْمُ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ (2) .
4 - الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: أَبُو الْقَاسِمِ وَهُوَ اسْمُ وَلَدِهِ الْقَاسِمِ وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلاَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ، وَيَجُوزُ بَعْدَ وَفَاتِهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْمُ صَاحِبِ الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي (3) ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات، والمعجم الوسيط، فتح الباري 6 / 560.
(2) فتح الباري 10 / 572 - 573.
(3) حديث: " سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 339) .(35/167)
حَيْثُ إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً قَال فِي السُّوقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ فِيهِ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَفَهِمُوا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ خَاصَّةٌ بِزَمَنِ حَيَاتِهِ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ زَالَتِ الْعِلَّةُ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَال: نَعَمْ (1) ، وَلأَِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْقَاسِمِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدٌ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَالأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، مُخَصَّصٌ بِزَمَنِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ مَا بَعْدَهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ كُلٍّ
__________
(1) حديث: علي: " إن ولد لي. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 250) والترمذي (5 / 137) وقال: حديث صحيح.
(2) ابن عابدين 5 / 268، مواهب الجليل 3 / 256، فتح الباري 6 / 560، 10 / 572 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 9، 4 / 295، المغني 8 / 647، والفروع 3 / 562 - 565.(35/168)
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمَنْ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ لأَِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي قَدْ نُسِخَ وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى النَّسْخِ بِقَوْلِهِ: لَعَل وَجْهَهُ زَوَال عِلَّةِ النَّهْيِ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَال عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَفُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْنِيَةِ بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَنْسُوخٌ (2) .
5 - الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ اسْمُ صَاحِبِ الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لاَ، لِحَدِيثِ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
6 - الثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثِ: لاَ تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي (4) ، وَلِحَدِيثِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 268، والفتاوى الهندية 5 / 362.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وانظر الفتح 10 / 573.
(3) فتح الباري 10 / 572 - 574، 6 / 560، ومغني المحتاج 1 / 9، الفروع 3 / 565 وما بعدها.
(4) حديث: " لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ". أخرجه أحمد (2 / 433) من حديث أبي هريرة، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 48) وقال: رجاله رجال الصحيح.(35/168)
00 سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَقَال: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ وَاللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أَقْسِمُ (1) ، وَلِحَدِيثِ: مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلاَ يُكَنَّى بِكُنْيَتِي (2) .
قَال الرَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، لأَِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
7 - الرَّابِعُ: لاَ يَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِمُحَمَّدٍ مُطْلَقًا وَلاَ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: تُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ: لاَ تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ، قَال عِيَاضٌ: وَالأَْشْبَهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث أبي هريرة أنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين اسمه وكنيته " أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص294 وأخرجه الترمذي (5 / 136) مختصرًا وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " من تسمى باسمي فلا يكنى بكنيتي ". أخرجه أحمد (3 / 312) .
(3) فتح الباري 10 / 572، والفروع 3 / 565 - 566.
(4) حديث: " تسمونهم محمدًا ثم تلعنونهم ". أخرجه أبو يعلى (6 / 116) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 48) : فيه الحكم بن عطية وثقه ابن معين وضعفه غيره.(35/169)
إِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ إِعْظَامًا لاِسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِئَلاَّ يُنْتَهَكَ، وَقَدْ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ يَا مُحَمَّدُ فَعَل اللَّهُ بِكَ وَفَعَل فَدَعَاهُ وَقَال: لاَ أَرَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبُّ بِكَ فَغَيَّرَ اسْمَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) .
8 - الْخَامِسُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ اسْمُ صَاحِبِ الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا أَمْ لاَ، وَيُفْصَل بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ أَحْمَدَ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: هُوَ أَعْدَل الْمَذَاهِبِ مَعَ غَرَابَتِهِ (2) .
حُكْمُ التَّكَنِّي:
9 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُسَنُّ أَنْ يُكَنَّى أَهْل الْفَضْل مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَنَّى وَكَذَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
كَمَا يُسَنُّ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُل بِأَكْبَرِ أَوْلاَدِهِ إِذَا كَانَ لَهُ أَوْلاَدٌ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُسَنُّ أَنْ تُكَنَّى بِأَكْبَرِ أَوْلاَدِهَا إِذَا كَانَ لَهَا أَوْلاَدٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 572 وما بعدها، والفروع 3 / 565.
(2) فتح الباري 10 / 574 والفروع 3 / 565 - 566.(35/169)
يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ بِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلاَدِهِ (1) ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ، يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَال: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَال: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، قَال: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ قَال: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ (2) .
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُكَنَّى الإِْنْسَانُ بِأَكْبَرِ أَوْلاَدِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلاَدِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ (3) ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ.
__________
(1) فتح الباري 6 / 560، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 / 295، والفروع 3 / 562 وما بعدها، وتفسير القرطبي 6 / 330، والآداب الشرعية 1 / 508 - 509.
(2) حديث هانئ بن يزيد: " لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 240) .
(3) حديث: " أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم يا أبا إبراهيم. . . ". أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ص110 - قسم السيرة النبوية) وأشار الذهبي في تاريخ الإسلام (ص 34 قسم السيرة) إلى ضعفه.(35/170)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَلَدٌ فَيَجُوزُ تَكَنِّيهِمَا بِوَلَدِ غَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1) حِينَ وَجَدَتْ عَلَى كَوْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ تَتَكَنَّى بِهِ فَقَال لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَاكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ أُخْتِهَا قَال مُسَدَّدٌ - رَاوِي الْحَدِيثِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) .
وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْكُنَى بِالْحَالَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الشَّخْصُ كَأَبِي تُرَابٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا أَشَبَهَهُمَا (3) .
الْكُنْيَةُ لِلْعَاصِي:
10 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ يُكَنَّى كَافِرٌ وَلاَ فَاسِقٌ وَلاَ مُبْتَدِعٌ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ بَل أُمِرْنَا بِالإِْغْلاَظِ عَلَيْهِمْ إِلاَّ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ مِنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ، أَوْ تَعْرِيفٍ كَمَا قِيل بِهِ فِي أَبِي لَهَبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (4) وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى (5) .
الْكُنْيَةُ لِلصَّبِيِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كُنْيَةِ الصَّغِيرِ
__________
(1) فتح الباري 6 / 560، 10 / 571، والفروع 3 / 63، ومواهب الجليل 3 / 256، وسبل السلام 1 / 54.
(2) حديث عائشة: " حين وجدت على كونها لم يكن لها ولد تتكنى به. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 253) .
(3) فتح الباري 10 / 582 - 587 - 588، ومواهب الجليل 3 / 256، 257.
(4) سورة المسد / 1.
(5) مغني المحتاج 4 / 295، وتفسير القرطبي 16 / 330، ودليل الفالحين 4 / 532.(35/170)
وَكَذَا كُل مَنْ لاَ يُولَدُ لَهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِكُنْيَةِ الصَّغِيرِ، أَوْ مَنْ لاَ يُولَدُ لَهُ (1) لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَال: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَال: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ؟ (2) وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِّلُوا بِكُنَى أَوْلاَدِكُمْ لاَ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الأَْلْقَابُ السُّوءُ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْل أَنْ يُولَدَ لَهُ (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ: كَانُوا يُكَنُّونَ الصَّبِيَّ تَفَاؤُلاً بِأَنَّهُ سَيَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ وَلِلأَْمْنِ مِنَ التَّلْقِيبِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَنَّى ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَعَامَّتُهُمْ لاَ يَكْرَهُ، لأَِنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهِ التَّفَاؤُل (4) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 582 - 584، وابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 / 295، والآداب الشرعية 1 / 509.
(2) حديث أنس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 582) ومسلم (4 / 1692) .
(3) حديث ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولد له ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9 / 58) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 56) : رجاله رجال الصحيح.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 268.(35/171)
كَهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَهَانَةُ
فِي اللُّغَةِ: مِنْ كَهَنَ يَكْهَنُ كَهَانَةً: قَضَى لَهُ بِالْغَيْبِ، وَالْكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى الْخَبَرَ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي مُسْتَقْبَل الزَّمَانِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأَْسْرَارِ وَمُطَالَعَةَ الْغَيْبِ (1) .
وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ الرَّجُل وَيَسْعَى فِي حَاجَتِهِ: كَاهِنًا، كَمَا يُسَمُّونَ كُل مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ وَالطَّبِيبَ كَاهِنًا.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّنْجِيمُ:
1 - التنجيم
عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، والمغرب، وحاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31.
(2) المصادر السابقة.(35/171)
السُّفْلِيَّةِ (1) .
وَالتَّنْجِيمُ بِهَذَا الْمَعْنَى ضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَهَانَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّكَهُّنَ وَالْكَهَانَةَ بِمَعْنَى ادِّعَاءِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالاِكْتِسَابُ بِهِ حَرَامٌ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ الْكَاهِنِ لِلسُّؤَال عَنْ عَوَاقِبِ الأُْمُورِ حَرَامٌ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ بِمَا يَقُولُهُ: كُفْرٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، وَنَهَى عَنْ أَكْل مَا اكْتَسَبَهُ بِالْكَهَانَةِ، لأَِنَّهُ سُحْتٌ، جَاءَ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ، رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ (3) "، وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى كَهَانَتِهِ، وَتَشْمَل الْكَهَانَةُ كُل ادِّعَاءٍ بِعِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَيَشْمَل اسْمُ الْكَاهِنِ: كُل مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مِنْ مُنَجِّمٍ وَعَرَّافٍ وَضَرَّابٍ بِالْحَصْبَاءِ وَنَحْوِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 31.
(2) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا. . . ". أخرجه أحمد (2 / 429) والحاكم (1 / 8) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1198) .(35/172)
ذَلِكَ. (1)
وَكَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَهَانَةٌ قَبْل مَبْعَثِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُمْ كَهَنَةٌ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ وَرَئِيًّا (2) ، يُلْقِي إِلَيْهِ الأَْخْبَارَ (3) .
وَيُرْوَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَتُلْقِيهِ إِلَى الْكَهَنَةِ فَتَزِيدُ فِيهِ مَا تَزِيدُهُ فَيَقْبَلُهُ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَصْعَدُ الشَّيَاطِينُ أَفْوَاجًا تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَيَنْفَرِدُ الْمَارِدُ مِنْهَا فَيَعْلُو فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيُصِيبُ جَبْهَتَهُ، أَوْ جَنْبَهُ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَلْتَهِبُ فَيَأْتِي أَصْحَابَهُ وَهُوَ يَلْهَبُ فَيَقُول: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الأَْمْرِ كَذَا وَكَذَا فَيَذْهَبُ أُولَئِكَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكَهَنَةِ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ مِنَ الْكَذِبِ فَيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا قَالُوا قَدْ كَانَ، صَدَّقُوهُمْ بِمَا جَاءُوهُمْ مِنَ الْكَذِبِ (4) ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَسَتِ السَّمَاءُ بَطَلَتِ الْكَهَانَةُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، وَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) سبل السلام 3 / 14، وحاشية ابن عابدين 1 / 31، 5 / 272.
(2) الرَّئِيّ كَفَتِيّ: جِنّيّ.
(3) لسان العرب مادة: كهن، وحاشية ابن عابدين 1 / 30، 31، 5 / 272، وسبل السلام 3 / 14.
(4) جامع البيان لابن جرير الطبري 14 / 11 ط. دار المعرفة ببيروت.(35/172)
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالْوَحْيِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ الَّتِي عَجَزَتِ الْكَهَانَةُ عَنِ الإِْحَاطَةِ بِهِ وَأَغْنَاهُ بِالتَّنْزِيل، وَأَزْهَقَ أَبَاطِيل الْكَهَانَةِ (1) .
وَأَبْطَل الإِْسْلاَمُ الْكَهَانَةَ بِأَنْوَاعِهَا، وَحَرَّمَ مُزَاوَلَتَهَا وَقَرَّرَ أَنَّ الْغَيْبَ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {قُل لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (2) ، وَكَذَّبَ مَزَاعِمَ الْكَهَنَةِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَأْتِي لَهُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، وَقَال تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (3)
حُكْمُ الْكَاهِنِ مِنْ حَيْثُ الرِّدَّةِ وَعَدَمِهَا:
4 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْكَاهِنُ يَكْفُرُ بِادِّعَاءِ عِلْمِ الْغَيْبِ (4) ، لأَِنَّهُ يَتَعَارَضُ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (5) أَيْ عَالِمُ الْغَيْبِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ فَلاَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَاهُ لِلرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ فِي غَيْبِهِ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 31، 5 / 272.
(2) سورة النمل / 65.
(3) سورة الشعراء / 211، 212.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 297.
(5) سورة الجن / 25.(35/173)
يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ (1) ".
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ التَّتَارْخَانِيَّةَ: يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ أَنَا أَعْلَمُ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ أَنَا أُخْبِرُ عَنْ إِخْبَارِ الْجِنِّ إِيَّايَ (2) ، وَقَال: كُل مُسْلِمٍ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يُقْتَل إِنْ لَمْ يَتُبْ وَلاَ تُقْبَل تَوْبَةُ أَحَدَ عَشَرَ، وَذَكَرَ مِنْهُمَ الْكَاهِنَ (3) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ الْمُنَجِّمُ وَمَنْ ضَاهَاهُ مِمَّنْ يَضْرِبُ بِالْحَصَى وَيَنْظُرُ فِي الْكُتُبِ وَيَزْجُرُ بِالطَّيْرِ مِمَّنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ فَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ بَل هُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِحَدْسِهِ وَتَخْمِينِهِ وَكَذِبِهِ (4) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُنَجِّمُ مِنَ الْغَيْبِ مِنْ نُزُول الأَْمْطَارِ وَغَيْرِهِ فَقِيل ذَلِكَ كُفْرٌ يُقْتَل بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا بِفَضْل اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ (5) "، وَقِيل: يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل قَالَهُ أَشْهَبُ، وَقِيل يُزْجَرُ عَنْ
__________
(1) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا. . . ". تقدم في فقرة (3) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 297.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 298.
(4) تفسير القرطبي 19 / 28.
(5) حديث: قال الله: " أصبح من عبادي مؤمن بي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 439) ومسلم (1 / 83 - 84) من حديث زيد بن خالد، واللفظ لمسلم.(35/173)
ذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ وَلَيْسَ اخْتِلاَفًا فِي قَوْلٍ بَل اخْتِلاَفٌ فِي حَالٍ، فَإِنْ قَال إِنَّ الْكَوَاكِبَ مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ قُتِل وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِنْ كَانَ يُسِرُّهُ لأَِنَّهُ زِنْدِيقٌ وَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِل عِنْدَهَا زُجِرَ عَنِ الاِعْتِقَادِ الْكَاذِبِ، لأَِنَّهُ بِدْعَةٌ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ (1) .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: يَقُول فِي إِحْدَاهُمَا: يُسْتَتَابُ، قِيل لَهُ أَيُقْتَل؟ قَال: لاَ. يُحْبَسُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: السَّاحِرُ، وَالْكَاهِنُ حُكْمُهُمَا: الْقَتْل، أَوِ الْحَبْسُ حَتَّى يَتُوبَا، لأَِنَّهُمَا يُلْبِسَانِ أَمْرَهُمَا، وَحَدِيثُ عُمَرَ: اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الإِْسْلاَمِ (2) ".
وَجَاءَ فِي الْفُرُوعِ: الْكَاهِنُ وَالْمُنَجِّمُ كَالسَّاحِرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ فَسَّقَهُ فَقَطْ إِنْ قَال: أَصَبْتُ بِحَدْسِي وَفَرَاهَتِي، فَإِنْ أَوْهَمَ قَوْمًا بِطَرِيقَتِهِ: أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلِلإِْمَامِ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ (3) .
كَوْسَج
انْظُرْ: أَمْرَد
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 259.
( x662 ;) المغني 8 / 155.
(3) الفروع 6 / 177.(35/174)
كُوعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الكوع فِي اللُّغَةِ: طَرَفُ الزَّنْدِ الَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ، وَالْجَمْعُ أَكْوَاعٌ، وَالْكَاعُ لُغَةٌ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْكُوعُ طَرَفُ الْعَظْمِ الَّذِي يَلِي رُسْغَ الْيَدِ الْمُحَاذِي لِلإِْبْهَامِ، وَهُمَا عَظْمَانِ مُتَلاَصِقَانِ فِي السَّاعِدِ، أَحَدُهُمَا أَدَقُّ مِنَ الآْخَرِ وَطَرَفَاهُمَا يَلْتَقِيَانِ عِنْدَ مَفْصِل الْكَفِّ، فَالَّذِي يَلِي الْخِنْصَرَ يُقَال لَهُ: الْكُرْسُوعُ، وَالَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ يُقَال لَهُ: الْكُوعُ، وَهُمَا عَظْمَا سَاعِدِ الذِّرَاعِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكُوعِ:
أ - غَسْل الْكُوعِ فِي الْوُضُوءِ
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غَسْل الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفٌّ ف 3) .
__________
(1) المصباح المنير والكليات للكفوي 5 / 124، والقليوبي 4 / 114، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 224.(35/174)
ب - مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ. فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَاللَّيْثُ بُلُوغَ الْمِرْفَقَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضًا وَاجِبًا، وَبِهِ قَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ نَافِعٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالطَّبَرِيُّ (2) ، وَقَال ابْنُ شِهَابٍ: يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْمَنَاكِبِ (3) .
وَحُكِيَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: أَنَّ الْكُوعَيْنِ فَرْضٌ وَالآْبَاطَ فَضِيلَةٌ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَيَمُّمٌ ف 11) .
ج - قَطْعُ الْيَدِ مِنَ الْكُوعِ فِي السَّرِقَةِ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 26، ومغني المحتاج 1 / 99، وتفسير القرطبي 5 / 239.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 151 ط. الحلبي، والمبدع 1 / 222، وشرح الزركشي لمختصر الخرقي 1 / 351، وتفسير القرطبي 5 / 240.
(3) تفسير القرطبي 5 / 239.
(4) تفسير القرطبي 5 / 240.(35/175)
أَنَّ أَوَّل مَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ وَهُوَ الْكُوعُ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْمَفْصِل (1) (الْكُوعِ) ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالاَ: إِذَا سَرَقَ سَارِقٌ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ (2) ، وَلأَِنَّ كُل مَنْ قَطَعَ مِنَ الأَْئِمَّةِ قَطَعَ مِنَ الرُّسْغِ فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا فَلاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 66) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل ". أخرجه البيهقي (8 / 271) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 / 264، وشرح الزرقاني 8 / 92، ونهاية المحتاج 7 / 445، والمبسوط 9 / 133، والفتاوى الهندية 2 / 182، وبدائع الصنائع 7 / 88.
(3) تبيين الحقائق 3 / 224.(35/175)
كَوَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الكوة - بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَعَ تَشْدِيدِ الْوَاوِ - فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الثُّقْبَةِ فِي الْحَائِطِ، وَجَمْعُ الْمَفْتُوحِ عَلَى لَفْظِهِ كَوَّاتٍ مِثْل حَبَّةٍ وَحَبَّاتٍ، وَكِوَاةٌ أَيْضًا بِالْكَسْرِ مِثْل ظَبْيَةٍ وَظِبَاءٍ، وَجَمْعُ الْمَضْمُومِ كُوًى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ مِثْل مُدْيَةٍ وَمُدًى، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا الرَّوْشَنُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِهَا (بِالْكَوَّةِ) مَا يُفْتَحُ - فِي حَائِطِ الْبَيْتِ لأَِجْل الضَّوْءِ أَوْ مَا يُخْرَقُ فِيهِ بِلاَ نَفَاذٍ لأَِجْل وَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ (2) . وَفَسَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْكَوَّةَ بِالطَّاقَةِ (3) .
قَال أَبُو الْحَسَنِ: كَوَّةٌ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّاقِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي ص418، ولسان العرب مادة رشن.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 358.
(3) الدر المختار 4 / 358، وحاشية الدسوقي 3 / 369.
(4) حاشية العدوي على الخرشي 4 / 59.(35/176)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفِ الإِْنْسَانِ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ بِجَارِهِ كَفَتْحِ كَوَّةٍ نَافِذَةٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِهِ، وَفَصَّل آخَرُونَ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ جِوَارٌ فِقْرَةٌ (5) ، وَمُصْطَلَحِ حَائِطٌ فِقْرَةٌ (3) ، وَمُصْطَلَحِ ارْتِفَاقٌ فِقْرَةٌ (17) ، وَمُصْطَلَحِ إِشْرَافٌ فِقْرَةٌ (4) .(35/176)
كَيْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَيْل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَال يَكِيل، يُقَال: كِلْتُ زَيْدًا الطَّعَامَ كَيْلاً مِنْ بَابِ بَاعَ، وَكَال الطَّعَامَ كَيْلاً: عَرَفَ مِقْدَارَهُ، وَكَال الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: قَاسَهُ بِهِ.
وَيُطْلَقُ الْكَيْل عَلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ الْمِقْدَارُ بِالْقَفِيزِ وَالْمُدِّ وَالصَّاعِ، وَالاِسْمُ (الْكِيلَةُ) بِالْكَسْرِ، وَالْمِكْيَال مَا يُكَال بِهِ، قَال الْفَيُّومِيُّ: وَالْكَيْل مِثْلُهُ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَيْل يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وِعَاءٍ يُكَال بِهِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا (2) ، وَالْكَيْلِيُّ مَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْل، وَكَذَلِكَ الْمَكِيل (3) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْكَيْل.
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، ولسان العرب.
(2) المعجم الوسيط.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون، وقواعد الفقه للبركتي، والمفردات للراغب الأصفهاني.(35/177)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَزْنُ:
1 - الْوَزْنُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ، يُقَال: وَزَنَ الشَّيْءَ: قَدَّرَهُ بِوَسَاطَةِ الْمِيزَانِ (1) ، وَقَال الأَْصْفَهَانِيُّ: الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ (2) . وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَزْنِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ أَنَّ الْكَيْل يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمِ، وَالْوَزْنُ يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ الثِّقَل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَيْل
الْحَثُّ عَلَى إِيفَاءِ الْكَيْل:
3 - حَثَّ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَلَى إِيفَاءِ الْكَيْل، قَال تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} (3) وَتَوَعَّدَ الْمُطَفِّفِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (4) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) المفردات للأصفهاني.
(3) سورة الشعراء / 181.
(4) سورة المطففين / 1 - 3. والمطفف من الطفيف وهو القليل، فالمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن (تفسير القرطبي 20 / 248) .(35/177)
قَال الْقُرْطُبِيُّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: هِيَ أَوَّل سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةَ نَزَل الْمَدِينَةَ، وَكَانَ هَذَا فِيهِمْ، كَانُوا إِذَا اشْتَرَوُا اسْتَوْفَوْا بِكَيْلٍ رَاجِحٍ، فَإِذَا بَاعُوا بَخَسُوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ انْتَهَوْا، فَهُمْ أَوْفَى النَّاسِ كَيْلاً إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا (1) .
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ إِلاَّ قُطِعَ مِنْهُمُ الرِّزْقُ (2) ، وَعَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَخْسَ فِي الْكَيْل مِنَ الْكَبَائِرِ (3) .
أُجْرَةُ الْكَيَّال
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كَيْل الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمَكِيل وَأُجْرَةَ وَزْنِهِ فِي بَيْعِ الْمَوْزُونِ عَلَى الْبَائِعِ لأَِنَّ عَلَيْهِ تَقْبِيضَ الْمَبِيعِ، وَالْقَبْضُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِذَلِكَ (4) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل} (5) كَانَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - هُوَ الَّذِي يَكِيل، وَكَذَلِكَ الْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ، لأَِنَّ الرَّجُل إِذَا بَاعَ عِدَةً مَعْلُومَةً مِنْ طَعَامِهِ وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ
__________
(1) تفسير القرطبي 20 / 248، 249، وتفسير روح المعاني للألوسي 30 / 89.
(2) القرطبي 7 / 136.
(3) الزواجر للهيثمي 1 / 192.
(4) مجلة الأحكام العدلية المادة (289) ، والقرطبي 9 / 254، وجواهر الإكليل 2 / 50، ومغني المحتاج 2 / 273، والمغني لابن قدامة 4 / 126.
(5) سورة يوسف / 88.(35/178)
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِزَهَا وَيُمَيِّزَ حَقَّ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَ التَّوْفِيَةِ، وَإِنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْهُ قَبْل التَّوْفِيَةِ (1) .
أَمَّا أُجْرَةُ كَيْل الثَّمَنِ وَمُؤْنَةِ إِحْضَارِهِ إِلَى مَحَل الْعَقْدِ إِذَا كَانَ غَائِبًا فَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف 58) .
اعْتِبَارُ الْكَيْل فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا
5 - وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ (3) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَإِنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهَا إِلَى سَائِرِ الأَْجْنَاسِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ هِيَ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَعُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ،
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 254.
(2) المراجع السابقة، ومجلة الأحكام المادة (288) .
(3) حديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) من حديث عبادة بن الصامت.(35/178)
وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (1) ، وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَيُعْنَى بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال، وَالْوَزْنُ فِيمَا يُوزَنُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ " (2) ، وَلِحَدِيثِ: لاَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَلاَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ (3) ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُل مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَحَرُمَ الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ (4) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ، قَال الْخِرَقِيُّ: وَكُل مَا كِيل أَوْ وُزِنَ مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُل إِذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا (5) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهُنَّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَعِلَّةُ الأَْعْيَانِ الأَْرْبَعَةِ مَكِيل جِنْسٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي
__________
(1) حديث: " التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " وكذلك كل ما يكال. . . ". أورد هذا الشطر الموصلي في الاختيار (2 / 30) ، ولم نهتد إلى من أخرجه.
(3) حديث: " لا صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 311) ومسلم (2 / 1216) من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ للبخاري.
(4) المبسوط للسرخسي 12 / 113، والاختيار للموصلي 2 / 30.
(5) المغني مع الشرح الكبير 4 / 123.(35/179)
فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ. ثُمَّ عُلِّل هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ قَضِيَّةَ الْبَيْعِ الْمُسَاوَاةُ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِهَا الْكَيْل وَالْوَزْنُ وَالْجِنْسُ، فَإِنَّ الْوَزْنَ أَوِ الْكَيْل يُسَوِّي بَيْنَهُمَا صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا مَعْنًى، فَكَانَا عِلَّةً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ (1) .
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ.
وَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ عِنْدَهُمْ فَالْعِلَّةُ فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَالْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأَْثْمَانِ غَالِبًا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِلَّةُ فِي النُّقُودِ غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، أَوْ مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الطَّعَامِ فَالاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا ف 21 - 25) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 4 / 125، 126.
(2) مغني المحتاج 2 / 22 - 25.(35/179)
تَعْيِينُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَيْل
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا مُبَيَّنًا بِمَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ وَيَسُدُّ بَابَ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) .
وَهَل يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِقْدَارِ بِالْكَيْل فِي الْمَكِيلاَتِ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ الْمَكِيل بِالْكَيْل، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ سَوَاءٌ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ (3) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلاً فَأَعْلَمَ قَدْرَهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ، أَوْ كَانَ مَوْزُونًا فَأَعْلَمَ قَدْرَهُ بِالْكَيْل الْمَعْلُومِ جَازَ، لأَِنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ فَقْدُهُ وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا بَاعَ الْمَكِيل بِالْمَكِيل وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ أَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ كَيْلاً بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، لأَِنَّ شَرْطَ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كَمَا يَحْصُل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 207، والخرشي 5 / 213، ونهاية المحتاج 4 / 190، والمغني 4 / 310.
(2) حديث: " من أسلف في شيء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 429) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس، واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 5 / 208، ومغني المحتاج 2 / 107.(35/180)
بِالْكَيْل يَحْصُل بِالْوَزْنِ.
فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْل وَالْوَزْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَثَبَتَ نَصًّا، فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ مُجَازَفَةً فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ بَعْضَ الأَْجْنَاسِ، فَلاَ يُسْلَمُ فِيهَا إِلاَّ بِالْوَزْنِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيَصِحُّ سَلَمُ الْمَكِيل وَزْنًا، وَعَكْسُهُ أَيِ الْمَوْزُونُ الَّذِي يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَيْلاً، وَحَمَل الإِْمَامُ إِطْلاَقَ الأَْصْحَابِ جَوَازَ كَيْل الْمَوْزُونِ عَلَى مَا يُعَدُّ الْكَيْل فِي مِثْلِهِ ضَابِطًا، بِخِلاَفِ نَحْوِ فُتَاتِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ لأَِنَّ لِلْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْهُ مَالِيَّةً كَثِيرَةً وَالْكَيْل لاَ يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ النَّقْدَيْنِ أَيْضًا، فَلاَ يُسْلَمُ فِيهِمَا إِلاَّ بِالْوَزْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي كُل مَا فِيهِ خَطَرٌ فِي التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ السَّلَمِ عِلْمُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِمِعْيَارِهِ الْعَادِيِّ فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ (3) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي جَوَازِ سَلَمِ الْمَكِيل وَزْنًا أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208.
(2) مغني المحتاج 2 / 107.
(3) المواق بهامش الحطاب 4 / 530.(35/180)
بِالْعَكْسِ رِوَايَتَانِ: قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَسْلَمَ فِيمَا يُكَال وَزْنًا، أَوْ فِيمَا يُوزَنُ كَيْلاً فَنَقَل الأَْثْرَمُ أَنَّهُ سَأَل أَحْمَدَ فِي التَّمْرِ وَزْنًا، فَقَال: لاَ، إِلاَّ كَيْلاً، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ هَاهُنَا لاَ يَعْرِفُونَ الْكَيْل، قَال: وَإِنْ كَانُوا لاَ يَعْرِفُونَ الْكَيْل، فَيَحْتَمِل هَذَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الْمَكِيل إِلاَّ كَيْلاً، وَلاَ فِي الْمَوْزُونِ إِلاَّ وَزْنًا. ثُمَّ نَقَل قَوْل الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا يَدُل عَلَى إِبَاحَةِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيل وَزْنًا، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلاً، لأَِنَّ اللَّبَنَ لاَ يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَقَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
اشْتِرَاطُ الْكَيْل فِي بَيْعِ الْمَكِيل
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَكِيلاَتِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْل وَالْوَزْنَ (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 318 - 319.
(2) الهداية مع الفتح 5 / 267.(35/181)
الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (1) ".
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَيْل الْمَبِيعِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فَقَالُوا: لَوْ بِيعَ الشَّيْءُ تَقْدِيرًا. كَحِنْطَةٍ كَيْلاً اشْتُرِطَ فِي قَبْضِهِ مَعَ النَّقْل كَيْلَهُ بِأَنْ يُكَال، وَذَلِكَ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ (2) "، قَال الشِّرْبِينِيُّ: فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْصُل فِيهِ الْقَبْضُ إِلاَّ بِالْكَيْل. فَتَعَيَّنَ فِيمَا قُدِّرَ بِكَيْلٍ الْكَيْل (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِكَيْلِهِ ثُمَّ بَاعَهُ بِذَلِكَ الْكَيْل فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلَوْ كَانَ طَعَامًا وَآخَرُ يُشَاهِدُهُ فَلِمَنْ شَاهَدَ الْكَيْل شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ كَيْلٍ ثَانٍ، لأَِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ أَشْبَهَ مَا لَوْ كِيل لَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ لِلْخَبَرِ (4) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 570) من حديث جابر، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 16) .
(2) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ". أخرجه مسلم (3 / 1160) من حديث ابن عباس.
(3) مغني المحتاج 2 / 73.
(4) الشرح الكبير بذيل المغني 4 / 36.(35/181)
كَيْلِيّ
انْظُرْ: مِثْلِيّ
كَيّ
انْظُرْ: تَدَاوِي(35/182)
لُؤْلُؤٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللؤلؤ مَعْرُوفٌ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ لُؤْلُؤَةٍ، وَهِيَ الدُّرَّةُ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى لآَلِئُ. وَيُقَال تَلأَْلأََ النَّجْمُ وَالْقَمَرُ وَالنَّارُ وَالْبَرْقُ:. أَضَاءَ وَلَمَعَ. وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: يَتَكَوَّنُ اللُّؤْلُؤُ فِي الأَْصْدَافِ مِنْ رَوَاسِبَ أَوْ جَوَامِدَ صُلْبَةٍ لَمَّاعَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ فِي بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَائِيَّةِ الدَّنِيَّا مِنَ الرِّخْوِيَّاتِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِاللُّؤْلُؤِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - زَكَاةُ اللُّؤْلُؤِ
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي لُؤْلُؤٍ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ - وَإِنْ سَاوَتْ أُلُوفًا كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ - لأَِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلاِسْتِعْمَال
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.(35/182)
فَأَشْبَهَتِ الْمَاشِيَةَ الْعَامِلَةَ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ فَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ. وَقَال النَّوَوِيُّ: لاَ زَكَاةَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ. وَإِنْ حَسُنَتْ صَنْعَتُهَا وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا. وَقَال الزُّهْرِيُّ: يَجِبُ الْخُمُسُ فِي اللُّؤْلُؤِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ، لأَِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَعْدِنٍ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ عَنْ مَعْدِنِ الأَْرْضِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهِ، لأَِنَّهُ صَيْدٌ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ كَصَيْدِ الْبَرِّ، وَلأَِنَّهُ لاَ نَصَّ وَلاَ إِجْمَاعَ عَلَى الْوُجُوبِ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، فَلاَ وَجْهَ لإِِيجَابِهَا فِيهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (زَكَاةٌ ف) .
ب - رَمْيُ الْجِمَارِ بِاللُّؤْلُؤِ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ اللُّؤْلُؤُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، لاِشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَرْمِيِّ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، وَكَوْنِ الْمَرْمِيِّ حَجَرًا، وَلأَِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ بِاللُّؤْلُؤِ فِيهِ إِعْزَازٌ لاَ إِهَانَةَ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 14، وحاشية الدسوقي 1 / 461، ومغني المحتاج 1 / 394، والمجموع للنووي 6 / 6، وكشاف القناع 2 / 235، والمغني لابن قدامة 3 / 27 - 28.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 180، والقليوبي وعميرة 2 / 121، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 50، وكشاف القناع 2 / 501، ومطالب أولي النهى 2 / 420.(35/183)
ج - السَّلَمُ فِي اللُّؤْلُؤِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا لَوِ اسْتَقْصَى وَصْفَهُ - الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي السَّلَمِ - عَزَّ وُجُودُهُ كَاللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ وَالْيَوَاقِيتِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْحَجْمِ وَالشَّكْل وَالْوَزْنِ وَالصَّفَاءِ، وَاجْتِمَاعُ مَا يُذْكَرُ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الأَْوْصَافِ نَادِرٌ، أَمَّا اللُّؤْلُؤُ الصِّغَارُ فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا كَيْلاً وَوَزْنًا، وَلاَ نَظَرَ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِيهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي اللُّؤْلُؤِ إِلاَّ أَنْ يَنْدُرَ وُجُودُهُ لِكَوْنِهِ كَبِيرًا كِبَرًا خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي اللُّؤْلُؤِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ لاَ يَنْضَبِطُ كَالْجَوَاهِرِ كُلِّهَا، لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا مُتَبَايِنًا بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالْحُسْنِ وَالتَّدْوِيرِ وَزِيَادَةِ ضَوْئِهَا (1) .
د - اللُّؤْلُؤُ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الْمَبِيعَةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اللُّؤْلُؤِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الْمَبِيعَةِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا لُؤْلُؤَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّدَفِ تَكُونُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 205، وحاشية الدسوقي 3 / 215، والقليوبي وعميرة 2 / 252، وكشاف القناع 3 / 291.(35/183)
لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الصَّدَفِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ اصْطَادَ السَّمَكَةَ يَرُدُّهَا الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، وَتَكُونُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُعَرِّفُهَا حَوْلاً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَلَوْ وَجَدَ لُؤْلُؤَةً فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الَّتِي فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا صَدَفًا فِيهِ لَحْمٌ وَفِي اللَّحْمِ لُؤْلُؤَةٌ كَمَا تَكُونُ اللُّؤْلُؤُ فِي الأَْصْدَافِ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى أَصْدَافًا لِيَأْكُل مَا فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ فَوَجَدَ فِي بَعْضِهَا لُؤْلُؤَةً فِي اللَّحْمِ فَهِيَ لَهُ.
قَالُوا: وَلَوِ اشْتَرَى دَجَاجَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا لُؤْلُؤَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَثْقُوبَةً فَلُقَطَةٌ مَوْضِعُهَا بَيْتُ الْمَال، وَإِلاَّ فَقِيل لِلْبَائِعِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقِيل لِلْمُشْتَرِي (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ لُؤْلُؤَةٌ وُجِدَتْ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَل هِيَ لِلصَّيَّادِ إِلاَّ إِنْ كَانَ فِيهَا أَثَرُ مِلْكٍ كَثُقْبٍ وَلَمْ يَدَّعِهَا فَتَكُونُ لُقَطَةً لَهُ، لأَِنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي مَبْنِيَّةٌ عَلَى يَدِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ صَادَهَا فِي بَحْرِ الْجَوَاهِرِ وَإِلاَّ فَهِيَ لُقَطَةٌ مُطْلَقًا (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ اصْطَادَ سَمَكَةً
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 38.
(2) شرح الزرقاني على خليل 5 / 182.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 195.(35/184)
فِي الْبَحْرِ فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ فَهِيَ لِلصَّائِدِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ ابْتِلاَعُهَا مِنْ مَعْدِنِهَا لأَِنَّ الدُّرَّ يَكُونُ فِي الْبَحْرِ، قَال تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (1) ؛ وَإِنْ بَاعَ الصَّائِدُ السَّمَكَةَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالدُّرَّةِ لَمْ يَزَل مِلْكُهُ عَنْهَا فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَ مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَبِعْهُ وَلَمْ يَرْضَ بِزَوَال مِلْكِهِ عَنْهُ فَلَمْ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّرَّةُ مَثْقُوبَةً أَوْ مُتَّصِلَةً بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَلُقَطَةٌ لاَ يَمْلِكُهَا الصَّيَّادُ بَل يُعَرِّفُهَا، وَكَذَا لَوْ وَجَدَهَا فِي عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ - وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ مُتَّصِلاً بِالْبَحْرِ - فَلُقَطَةٌ، عَلَى الصَّيَّادِ تَعْرِيفُهَا.
وَمِثْلُهُ لَوِ اصْطَادَ السَّمَكَةَ مِنْ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِالْبَحْرِ فَكَالشَّاةِ فِي أَنَّ مَا وُجِدَ فِي بَطْنِهَا مِنْ دُرَّةٍ مَثْقُوبَةٍ لُقَطَةٌ، لأَِنَّ الْعَيْنَ وَالنَّهْرَ غَيْرَ الْمُتَّصِل لَيْسَ مَعْدِنًا لِلدُّرِّ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ مُتَّصِلاً بِالْبَحْرِ وَكَانَتِ الدُّرَّةُ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ فَهِيَ لِلصَّيَّادِ (2) .
هـ - لُبْسُ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِلَى حُرْمَةِ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال لِكَوْنِهِ مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ فَفِي
__________
(1) سورة النحل / 14.
(2) كشاف القناع 4 / 222 - 223(35/184)
لُبْسِهِ تَشَبُّهٌ بِهِنَّ (1) . وَنَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةَ لُبْسِ اللُّؤْلُؤِ لِلرِّجَال، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَحَلَّى بِاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 269 - 270.
(2) نهاية المحتاج 2 / 361.
(3) كشاف القناع 2 / 239، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 511(35/185)
لاَحِقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللاحق فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَحِقَ، يُقَال: لَحِقْتُ بِهِ أَلْحَقُ لَحَاقًا: أَدْرَكْتُهُ، وَأَلْحَقْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو: أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ اصْطِلاَحٌ خَاصٌّ بِهِمْ - بِأَنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ، كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ وَسَبْقِ حَدَثٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ وَسُجُودٍ (2) . وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّل الصَّلاَةِ وَفَاتَهُ مِنَ الآْخِرِ بِسَبَبِ النَّوْمِ أَوِ الْحَدَثِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَسْبُوقُ:
2 - المسبوق - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح مادة: (لحق) .
(2) الدر المختار بهامش رد المختار 1 / 399.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 138(35/185)
بِكُل الرَّكَعَاتِ، بِأَنِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ، أَوْ بِبَعْضِهَا بِأَنِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللاَّحِقِ وَالْمَسْبُوقِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّل الصَّلاَةِ، وَاللاَّحِقُ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ آخِرِ الصَّلاَةِ أَوْ وَسَطِهَا، وَهَذَا إِذَا كَانَ اقْتِدَاؤُهُ فِي أَوَّل الصَّلاَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلاَةِ بِالنَّوْمِ أَوْ نَحْوِهِ يَكُونُ لاَحِقًا مَسْبُوقًا، كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (2) .
ب - الْمُدْرِكُ:
3 - المدرك - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَنْ صَلَّى الصَّلاَةَ كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ، أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى إِلَى أَنْ قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الأَْخِيرَةَ. فَالْمُدْرِكُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ رَكَعَاتِ صَلاَتِهِ بِخِلاَفِ اللاَّحِقِ وَالْمَسْبُوقِ (3) .
الْحَالاَتُ الَّتِي يَشْمَلُهَا حُكْمُ اللاَّحِقِ
4 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ اللاَّحِقَ يَشْمَل حَالاَتٍ مُخْتَلِفَةً فِي بَعْضِهَا يَكُونُ التَّخَلُّفُ بِعُذْرٍ، كَمَا إِذَا نَامَ الْمُؤْتَمُّ بَعْدَ الاِقْتِدَاءِ بِالإِْمَامِ نَوْمًا
__________
(1) رد المحتار وبهامشه الدر المختار 1 / 400 - 401.
(2) نفس المرجع 1 / 399.
(3) نفس المرجع(35/186)
لاَ يُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ، أَوْ زُوحِمَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ فِي الْجُمُعَةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى مَعَ الإِْمَامِ وَقَدَرَ عَلَى الْبَاقِي، أَوْ سَبَقَهُ حَدَثٌ فَخَرَجَ مِنَ الصَّفِّ لِلْوُضُوءِ فَفَاتَتْهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ ثُمَّ عَادَ، أَوِ الطَّائِفَةُ الأُْولَى فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ الَّذِينَ بِهِمُ الإِْمَامُ أَوَّل الصَّلاَةِ فَرَجَعُوا إِلَى مَكَانِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَيَكُونُ التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا إِذَا سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَيَقْضِي رَكْعَةً، لأَِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَبْل الإِْمَامِ لَغْوٌ فَيَنْتَقِل مَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الأُْولَى فَبَقِيَتْ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ هُوَ لاَحِقٌ فِيهَا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللاَّحِقِ
أَوَّلاً - كَيْفِيَّةُ إِتْمَامِ صَلاَةِ اللاَّحِقِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ الصَّلاَةَ إِذَا سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِرُكْنٍ أَوْ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَهُمَا فِي الصَّلاَةِ وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ لاَحِقًا بَيْنَمَا لاَ يَصْطَلِحُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِوَصْفِهِ لاَحِقًا، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ.
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: اللاَّحِقُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي
__________
(1) رد المحتار 1 / 399، والفتاوى الهندية 1 / 92.
(2) رد المحتار وبهامشه الدر المختار 1 / 399 - 400(35/186)
خَلْفَ الإِْمَامِ فَيُصَلِّي عَلَى تَرْتِيبِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَيَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ بِلاَ قِرَاءَةٍ، وَلاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إِذَا سَهَا فِيهِ، ثُمَّ يُتَابِعُ الإِْمَامَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ فَرَغَ عَكْسَ الْمَسْبُوقِ، فَإِنَّهُ يُتَابِعُ إِمَامَهُ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ وَيَقْرَأُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إِذَا سَهَا فِيهِ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُ اللاَّحِقِ بِنِيَّةِ الإِْقَامَةِ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا بِخِلاَفِ الْمَسْبُوقِ.
وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل أَنَّ اللاَّحِقَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَ الإِْمَامِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْتَمِّ، وَالْمُؤْتَمُّ لاَ قِرَاءَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا سَهَا لاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إِذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَالْقِرَاءَةُ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ (1) .
وَإِذَا كَانَ اللاَّحِقُ مَسْبُوقًا أَيْضًا بِأَنِ اقْتَدَى فِي أَثْنَاءِ صَلاَةِ الإِْمَامِ وَسُبِقَ بِرَكْعَةٍ يُصَلِّي مَا سُبِقَ بِهِ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: لَوْ سُبِقَ بِرَكْعَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ، وَنَامَ فِي رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّي أَوَّلاً مَا نَامَ فِيهِ، ثُمَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الإِْمَامِ ثُمَّ مَا سُبِقَ بِهِ فَيُصَلِّي رَكْعَةً مِمَّا نَامَ فِيهِ مَعَ الإِْمَامِ وَيَقْعُدُ مُتَابَعَةً لَهُ لأَِنَّهَا ثَانِيَةُ إِمَامِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الأُْخْرَى مِمَّا نَامَ فِيهِ وَيَقْعُدُ لأَِنَّهَا ثَانِيَتُهُ ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي انْتَبَهَ فِيهَا، وَيَقْعُدُ مُتَابَعَةً لإِِمَامِهِ لأَِنَّهَا رَابِعَةٌ،
__________
(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار 1 / 400، وبدائع الصنائع للكاساني 1 / 175، والفتاوى الهندية 1 / 92.(35/187)
وَكُل ذَلِكَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، لأَِنَّهُ مُقْتَدٍ، ثُمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ (1) .
وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي إِتْمَامِ صَلاَةِ اللاَّحِقِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ - خِلاَفًا لِزُفَرَ - حَتَّى لَوِ صَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي أَدْرَكَهَا مَعَ الإِْمَامِ ثُمَّ مَا نَامَ فِيهِ، ثُمَّ مَا سُبِقَ بِهِ، أَوْ صَلَّى أَوَلاَ مَا سُبِقَ بِهِ ثُمَّ مَا نَامَ فِيهِ ثُمَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الإِْمَامِ أَوْ عَكَسَ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ عِنْدَهُمْ خِلاَفًا لِزُفَرَ (2) .
7 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:
إِنْ زُوحِمَ مُؤْتَمٌّ عَنْ رُكُوعٍ مَعَ إِمَامٍ حَتَّى رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنْهُ مُعْتَدِلاً مُطْمَئِنًّا قَبْل إِتْيَانِ الْمَأْمُومِ بِأَدْنَى الرُّكُوعِ، أَوْ نَعَسَ أَيْ نَامَ الْمُؤْتَمُّ نَوْمًا خَفِيفًا لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَوْ حَصَل لَهُ نَحْوُهُ كَسَهْوٍ وَإِكْرَاهٍ وَحُدُوثِ مَرَضٍ مَنَعَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مَعَ إِمَامِهِ اتَّبَعَ الْمَأْمُومُ الإِْمَامَ أَيْ فَعَل مَا فَاتَهُ بِهِ إِمَامُهُ لِيُدْرِكَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ سُجُودٍ أَوْ جُلُوسٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وُجُوبًا، وَهَذَا إِذَا حَصَل الْمَانِعُ لِلْمَأْمُومِ فِي غَيْرِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى، لِثُبُوتِ مَأْمُومِيَّتِهِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى مَا لَمْ يَرْفَعِ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِ غَيْرِ الأُْولَى بِأَنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي ثَانِيَةِ سَجْدَتَيْهِ، فَإِنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ أَوْ
__________
(1) (1) حاشية رد المحتار 1 / 400، وشرح منية المصلي ص469 - 470
(2) (2) شرح منية المصلي ص469 - 470، ورد المحتار 1 / 400، والفتاوى الهندية 1 / 92.(35/187)
ظَنَّهُ فَاتَّبَعَهُ فَرَفَعَ الإِْمَامُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ قَبْل أَنْ يَلْحَقَهُ فِيهَا أَلْغَى مَا فَعَلَهُ وَانْتَقَل مَعَ الإِْمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَيَقْضِي رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، هَذَا فِي غَيْرِ الأُْولَى.
أَمَّا فِي الأُْولَى فَمَتَى رَفَعَ الإِْمَامُ مِنَ الرُّكُوعِ مُعْتَدِلاً مُطْمَئِنًّا تَرَكَ الرُّكُوعَ الَّذِي فَاتَهُ مَعَهُ فَيَخِرُّ سَاجِدًا إِنْ كَانَ الإِْمَامُ مُتَلَبِّسًا بِهِ، وَيَقْضِي رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، فَإِنْ خَالَفَ وَرَكَعَ وَلَحِقَهُ بَطَلَتْ إِنِ اعْتَدَّ بِالرَّكْعَةِ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ فِي صُلْبِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، وَإِنْ أَلْغَاهُ لَمْ تَبْطُل وَيَحْمِلُهُ عَنْهُ الإِْمَامُ.
وَإِذَا زُوحِمَ عَنْ سَجْدَةٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ مِنَ الأُْولَى أَوْ غَيْرِهَا فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى قَامَ الإِْمَامُ لِمَا تَلِيهَا فَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي سُجُودِهَا قَبْل عَقْدِ إِمَامِهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي تَلِيهَا تَمَادَى وُجُوبًا عَلَى تَرْكِ السَّجْدَةِ أَوِ السَّجْدَتَيْنِ وَتَبِعَ إِمَامَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَقَضَى رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ، وَإِنْ طَمِعَ فِيهَا قَبْل عَقْدِ إِمَامِهِ سَجَدَهَا وَتَبِعَهُ فِي عَقْدِ مَا بَعْدَهَا، فَإِنْ تَخَلَّفَ ظَنُّهُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ بَطَلَتْ عَلَيْهِ الرَّكْعَةُ الأُْولَى لِعَدَمِ الإِْتْيَانِ بِسُجُودِهَا، وَالثَّانِيَةُ لِعَدَمِ إِدْرَاكِ رُكُوعِهَا مَعَهُ.
وَإِنْ تَمَادَى عَلَى تَرْكِ السَّجْدَةِ وَقَضَى رَكْعَةً لاَ سُجُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ سَلاَمِهِ لِزِيَادَةِ رَكْعَةِ النَّقْصِ إِذِ الإِْمَامُ يَحْمِلُهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ إِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَهُ، وَأَمَّا إِنْ شَكَّ فِي تَرْكِهَا وَقَضَى الرَّكْعَةَ(35/188)
فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ لاِحْتِمَال زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ (1) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْغَفْلَةِ وَالنُّعَاسِ وَالْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ أَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ فِي أَنَّهُ يُبَاحُ مَعَهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ، وَنَقَل الْمَوَّاقُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْمُزَاحِمَ أُعْذِرَ، لأَِنَّهُ مَغْلُوبٌ (2) وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى أَنَّ الْمُزَاحَمَةَ بِخِلاَفِ الْغَفْلَةِ وَالنُّعَاسِ، فَلاَ يُبَاحُ مَعَهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الرُّكُوعِ، لأَِنَّ الزِّحَامَ فِعْل آدَمِيٍّ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَعُدَّ الْمُزَاحِمُ عَنِ الرُّكُوعِ مُقَصِّرًا فَتُلْغَى تِلْكَ الرَّكْعَةُ، وَالنَّاعِسُ وَالْغَافِل مَغْلُوبَانِ بِفِعْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَعُذِرَا (3) .
8 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ فِعْلِيٍّ عَامِدًا بِلاَ عُذْرٍ بِأَنْ فَرَغَ الإِْمَامُ مِنْهُ وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهُ، كَأَنْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَفْعَ الاِعْتِدَال وَالْمَأْمُومُ فِي قِيَامِ الْقِرَاءَةِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ تَخَلُّفٌ يَسِيرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ طَوِيلاً كَالْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ أَمْ قَصِيرًا كَأَنْ رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الأُْولَى وَهَوَى مِنَ الْجِلْسَةِ بَعْدَهَا لِلسُّجُودِ وَالْمَأْمُومُ فِي السَّجْدَةِ الأُْولَى.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ: تَبْطُل لِمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69 - 70، والشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 / 302 - 303.
(2) التاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 54.
(3) نفس المرجع السابق.(35/188)
فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. أَمَّا إِذَا تَخَلَّفَ بِدُونِ رُكْنٍ، كَأَنْ رَكَعَ الإِْمَامُ دُونَ الْمَأْمُومِ ثُمَّ لَحِقَهُ قَبْل أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، أَوْ تَخَلَّفَ بِرُكْنٍ بِعُذْرٍ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ قَطْعًا. وَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ فِعْلِيَّيْنِ بِأَنْ فَرَغَ الإِْمَامُ مِنْهُمَا وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، كَأَنْ تَخَلَّفَ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ أَوْ لِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِكَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَا طَوِيلَيْنِ أَوْ طَوِيلاً وَقَصِيرًا. وَإِنْ كَانَ عُذْرٌ بِأَنْ أَسْرَعَ الإِْمَامُ قِرَاءَتَهُ مَثَلاً، أَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ بَطِيءَ الْقِرَاءَةِ وَرَكَعَ الإِْمَامُ قَبْل إِتْمَامِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ فَقِيل يَتْبَعُهُ لِتَعَذُّرِ الْمُوَافَقَةِ، وَتَسْقُطُ الْبَقِيَّةُ لِلْعُذْرِ فَأَشْبَهَ الْمَسْبُوقَ، وَالصَّحِيحُ: لاَ يَتْبَعُهُ بَل يُتِمُّهَا وُجُوبًا، وَيَسْعَى خَلْفَ الإِْمَامِ عَلَى نَظْمِ صَلاَةِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يُسْبَقْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَرْكَانٍ بَل بِثَلاَثَةٍ فَمَا دُونَهَا - كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ - مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا وَهِيَ الطَّوِيلَةُ أَخْذًا مِنْ صَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ، فَلاَ يُعَدُّ مِنْهُمَا الْقَصِيرُ، وَهُوَ الاِعْتِدَال وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَإِنْ سُبِقَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّلاَثَةِ فَقِيل: يُفَارِقُهُ بِالنِّيَّةِ لِتَعَذُّرِ الْمُوَافَقَةِ. وَالأَْصَحُّ: لاَ تَلْزَمُهُ الْمُفَارَقَةُ بَل يَتْبَعُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَدَارَكُ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ مَا فَاتَهُ كَالْمَسْبُوقِ.(35/189)
وَلَوْ لَمْ يُتِمَّ الْمَأْمُومُ الْفَاتِحَةَ لِشَغْلِهِ بِدُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ أَوِ التَّعَوُّذِ وَقَدْ رَكَعَ الإِْمَامُ فَمَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ لإِِتْمَامِهَا كَبَطِيءِ الْقِرَاءَةِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ (1) .
9 - وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ إِذَا سَبَقَ الْمَأْمُومَ بِرُكْنٍ كَامِلٍ، مِثْل أَنْ يَرْكَعَ وَيَرْفَعَ قَبْل رُكُوعِ الْمَأْمُومِ لِعُذْرٍ مِنْ نُعَاسٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ زِحَامٍ أَوْ عَجَلَةِ الإِْمَامِ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَفْعَل مَا سُبِقَ بِهِ وَيُدْرِكُ إِمَامَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَحَكَى فِي الْمُسْتَوْعَبِ رِوَايَةً أَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. وَإِنْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ إِمَامَهُ، وَيَقْضِي مَا سَبَقَهُ بِهِ كَالْمَسْبُوقِ، قَال أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ نَعَسَ خَلْفَ الإِْمَامِ حَتَّى رَكْعَتَيْنِ قَال: كَأَنَّهُ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْهُ: يُعِيدُ الصَّلاَةَ. وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ وَأَقَل مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ زَال عُذْرُهُ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتْبَعُ إِمَامَهُ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ إِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنَيْنِ بَطَلَتْ تِلْكَ الرَّكْعَةُ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِأَقَل مِنْ ذَلِكَ فَعَلَهُ وَأَدْرَكَ إِمَامَهُ، ثُمَّ نُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ فِيمَنْ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ زَوَال الزِّحَامِ ثُمَّ يَسْجُدُ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 256 - 257.(35/189)
وَيَتْبَعُ الإِْمَامَ مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرُّكُوعِ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ الإِْمَامِ، فَعَلَى هَذَا يَفْعَل مَا فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ رُكْنٍ (1) .
حُكْمُ صَلاَةِ اللاَّحِقِ بِمُحَاذَاةِ الْمَرْأَةِ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَاذَتِ الْمُقْتَدِيَ مُشْتَهَاةٌ فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ تَحْرِيمَةً وَأَدَاءً فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ بِلاَ حَائِلٍ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَالْمُدْرِكُ وَاللاَّحِقُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لأَِنَّ اللاَّحِقَ بَانٍ تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الإِْمَامِ حَقِيقَةً لاِلْتِزَامِهِ مُتَابَعَتَهُ، كَمَا أَنَّهُ بَانٍ أَدَاءَهُ فِيمَا يَقْضِيهِ عَلَى أَدَاءِ الإِْمَامِ تَقْدِيرًا بِالْتِزَامِهِ الْمُتَابَعَةَ، فَتَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ تَنْتَهِ أَفْعَال الصَّلاَةِ فَاللاَّحِقُ فِيمَا يَقْضِي كَأَنَّهُ خَلْفَ الإِْمَامِ تَقْدِيرًا، وَلِهَذَا لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ بِسَهْوِهِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَا مَسْبُوقَيْنِ وَحَاذَتْهُ فِيمَا يَقْضِيَانِ حَيْثُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ وَإِنْ كَانَا بَانِيَيْنِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمَةِ، لأَِنَّهُمَا مُنْفَرِدَانِ فِيمَا يَقْضِيَانِ، وَلِهَذَا يَقْرَآنِ، وَيَلْزَمُهُمَا السُّجُودُ بِسَهْوِهِمَا (2) .
اسْتِخْلاَفُ اللاَّحِقِ
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الإِْمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلاً نَامَ عَنْ
__________
(1) الشرح الكبير بذيل المغني 2 / 14 - 15.
(2) تبيين الحقائق 1 / 136 - 138، وفتح القدير 5 / 256 - 257.(35/190)
هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أَوْ كَانَ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لاَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ، وَلاَ لِذَلِكَ الرَّجُل أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَيُقَدِّمُ هُوَ غَيْرَهُ، لأَِنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إِتْمَامِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَتَقَدَّمَ جَازَ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الإِْتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِيُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أَوْ ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الأَْوَّل فَالأَْوَّل (1) . (ر: اسْتِخْلاَفٌ ف 27 - 31) .
لاَزِم
انْظُرْ: لُزُوم.
لاَطِيَة
انْظُرْ: شِجَاج، وَسِمْحَاق
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 152، وبدائع الصنائع 1 / 228.(35/190)
لِبَأٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّبَأُ عَلَى وَزْنِ فِعَلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَفَتْحِ الْعَيْنِ، فِي اللُّغَةِ: أَوَّل مَا يَنْزِل مِنَ اللَّبَنِ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ، وَقَال أَبُو زَيْدٍ: وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ثَلاَثَ حَلْبَاتٍ، وَأَقَلُّهُ حَلْبَةٌ، يُقَال: لَبَأَتِ الشَّاةُ وَلَدَهَا: أَرْضَعَتْهُ اللِّبَأَ، وَلَبَأَتِ الشَّاةُ حَلَبَتْ لِبَأَهَا. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَصْحُ:
2 - الْفَصْحُ هُوَ مِنْ أَفْصَحَ اللَّبَنُ: ذَهَبَ عَنْهُ اللِّبَأُ، يُقَال: أَفْصَحَتِ الشَّاةُ، وَالنَّاقَةُ: خَلَصَ لَبَنُهَا: صَفَا، وَأَفْصَحَتِ النَّاقَةُ إِذَا انْقَطَعَ لِبَؤُهَا، وَجَاءَ اللَّبَنُ بَعْدَهُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ونهاية المحتاج 7 / 211، وروض الطالب 3 / 445.
(2) لسان العرب " فصح ".(35/191)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا اللِّبَأَ وَإِنْ وُجِدَتْ غَيْرُهَا، وَقَالُوا: لأَِنَّ الْوَلَدَ لاَ يَعِيشُ أَوْ لاَ يَقْوَى غَالِبًا بِدُونِهِ. وَمُدَّتُهُ يَسِيرَةٌ: قِيل يُقَدَّرُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيل بِسَبْعَةٍ، وَقِيل: يُرْجَعُ فِي مُدَّتِهِ لأَِهْل الْخِبْرَةِ، وَمَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهَا، لَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ إِنْ كَانَ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ، كَمَا يَجِبُ إِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ بِالْبَدَل " ثَمَنِ الْمِثْل " وَهَل تَضْمَنُ إِنِ امْتَنَعَتْ وَمَاتَ؟ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ: الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ عَدَمُ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل مِنْهَا فِعْلٌ يُحَال عَلَيْهِ سَبَبُ الْهَلاَكِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَمْسَكَ الطَّعَامَ عَنِ الْمُضْطَرِّ وَهَلَكَ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ (1) .
لِبَاس
انْظُرْ: أَلْبِسَة
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 211 مع حاشية الشبراملسي، وروض الطالب 3 / 445، وتحفة المحتاج 8 / 350 مع حاشية الشرواني على هامشه.(35/191)
لِبَاسُ الْمَرْأَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللباس مَا يَسْتُرُ الْجِسْمَ. جَمْعُهُ أَلْبِسَةٌ وَلُبُسٌ. يُقَال: لَبِسَ الثَّوْبَ لُبْسًا اسْتَتَرَ بِهِ، وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِبَاسٌ لِلآْخَرِ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (1) وَلِبَاسُ كُل شَيْءٍ غِشَاؤُهُ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى الإِْيمَانُ أَوِ الْحَيَاءُ أَوِ الْعَمَل الصَّالِحُ. وَيُقَال: رَجُلٌ لِبَاسٌ: كَثِيرُ اللِّبَاسِ وَكَثِيرُ اللُّبْسِ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الزِّينَةُ:
2 - الزينة فِي اللُّغَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَيَوْمُ الزِّينَةِ يَوْمُ الْعِيدِ، وَالزَّيْنُ ضِدُّ الشَّيْنِ (4) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) مختار الصحاح للرازي.
(3) حاشية الجمل 2 / 78، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(4) مختار الصحاح.(35/192)
اللُّغَوِيِّ.
وَالزِّينَةُ أَعَمُّ مِنَ اللِّبَاسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مِنَ الْمَلاَبِسِ مَا يُغَطِّي جَمِيعَ عَوْرَتِهَا (1) لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أَيْ لاَ يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلأَْجَانِبِ إِلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ يَعْنِي عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 270، 5 / 223، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 41، وحاشية الجمل 4 / 508، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 2 / 5 - 6، والمجموع شرح المهذب 3 / 165، والمغني 1 / 615.
(2) سورة النور / 31.(35/192)
مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُقَنَّعَةِ الَّتِي تُجَلِّل ثِيَابَهَا وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِل الثِّيَابِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ لأَِنَّ هَذَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ (1) . وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (2) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ. وَالتَّفْصِيل فِي (سَتْرُ الْعَوْرَةِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) وَ (عَوْرَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
اللِّبَاسُ الَّذِي يَصِفُ أَوْ يَشِفُّ
4 - لِبَاسُ الْمَرْأَةِ قَدْ يَكْشِفُ عَنِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ يَسْتُرُهَا وَلَكِنَّهُ يَصِفُ حَجْمَهَا، وَهُوَ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ. فَإِنْ كَانَ يَكْشِفُ عَنْهَا بِحَيْثُ يُرَى لَوْنُ الْجِلْدِ مِنْ تَحْتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمَامَ زَوْجِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الأَْجَانِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ خَارِجَهَا. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَلْبِسَةٌ ف 15)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 / 274.
(2) حديث عائشة " أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 358) من حديث عائشة وقال: هذا حديث مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها.(35/193)
و (سَتْرُ الْعَوْرَةِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَ (صَلاَةٌ ف) ، وَ (عَوْرَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
اللِّبَاسُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
5 - يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ اللِّبَاسَ الْمَنْسُوجَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لِلْحَاجَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَثُرَ أَوْ قَل، وَسَوَاءٌ زَادَ الطَّرْزُ عَلَى قَدْرِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُطَرَّزُ قَدْرَ الْعَادَةِ أَمْ لاَ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:. أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (2) ". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَكَذَلِكَ الْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ بِسَائِرِ وُجُوهِ الاِسْتِعْمَال (3) .
تَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال فِي اللِّبَاسِ:
6 - يَحْرُمُ تَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَال فِي زِيِّهِنَّ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ لِبَاسًا خَاصًّا بِالرِّجَال (4) ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 224، وحاشية الجمل 2 / 86، والمغني لابن قدامة 1 / 626.
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث من أمتي وحرم على ذكورها ". أخرجه النسائي (8 / 161) وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53) .
(3) حاشية الجمل 2 / 81.
(4) حاشية الجمل 2 / 78، وكشاف القناع 1 / 82.(35/193)
الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال (1) ". وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوِ اخْتَصَّتِ النِّسَاءُ أَوْ غَلَبَ فِيهِنَّ زِيٌّ مَخْصُوصٌ فِي إِقْلِيمٍ، وَغَلَبَ فِي غَيْرِهِ تَخْصِيصُ الرِّجَال بِذَلِكَ الزِّيِّ - كَمَا قِيل إِنَّ نِسَاءَ قُرَى الشَّامِ يَتَزَيَّنَّ بِزِيِّ الرِّجَال الَّذِينَ يَتَعَاطَوْنَ الْحَصَادَ وَالزِّرَاعَةَ وَيَفْعَلْنَ ذَلِكَ - فَهَل يَثْبُتُ فِي كُل إِقْلِيمٍ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ بِهِ، أَوْ يُنْظَرُ لأَِكْثَرِ الْبِلاَدِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالأَْقْرَبُ الأَْوَّل. وَقَدْ صَرَّحَ الإِْسْنَوِيُّ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي لِبَاسِ وَزِيِّ كُلٍّ مِنَ النَّوْعَيْنِ حَتَّى يَحْرُمَ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ بِعُرْفِ كُل نَاحِيَةٍ حَسَنٌ (2) .
لِبَاسُ الْمَرْأَةِ أَمَامَ الْخَاطِبِ
7 - الْمَخْطُوبَةُ أَجْنَبِيَّةٌ عَنِ الْخَاطِبِ وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَلْبَسَ مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا خَلاَ الْقَدْرِ الَّذِي يُبَاحُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَةٌ ف 29) .
لِبَاسُ الْمَرْأَةِ فِي الإِْحْدَادِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْمُحَدِّةِ لِبَعْضِ الثِّيَابِ عَلَى وَجْهِ الزِّينَةِ، وَفِي لُبْسِ
__________
(1) (1) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 332) من حديث ابن عباس.
(2) حاشية الجمل 2 / 78.(35/194)
الْحُلِيِّ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَادٌ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا) .
لِبَاسُ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ
9 - يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلاَةِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي حَال تَوَفُّرِ السَّاتِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (1) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (2) ": أَيِ الْبَالِغَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ ف 13) .
لِبَاسُ الْمَرْأَةِ فِي الإِْحْرَامِ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ مَا يُغَطِّي وَجْهَهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، وَيَحْتَمِل أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّيهِ بِالسُّدْل عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلاَ يَكُونُ اخْتِلاَفًا (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 66 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) (2) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود (1 / 421) والترمذي (1 / 215) من حديث عائشة، وحسنه الترمذي.
(3) الهداية مع فتح القدير 2 / 403، والخرشي 2 / 345، وجواهر الإكليل 1 / 186، وحاشية الجمل 4 / 501، ونهاية المحتاج 3 / 330، والمغني لابن قدامة 3 / 305.(35/194)
لَبَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللبة فِي اللُّغَةِ وَسَطُ الصَّدْرِ وَالْمَنْحَرُ وَمَوْضِعُ الْقِلاَدَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وَالْجَمْعُ لَبَّاتٌ وَلِبَابٌ (1) . وَاللَّبَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْمَنْحَرُ مِنَ الصَّدْرِ، وَهِيَ الْوَهْدَةُ الَّتِي بَيْنَ أَصْل الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّذْكِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلإِْبِل تَحْصُل بِالنَّحْرِ فِي اللَّبَّةِ فِي حَال الاِخْتِيَارِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدَيْل بْنَ وَرْقَاءَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى أَلاَ إِنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ (3) ".
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (لبب) .
(2) المغرب ص 419، وكشاف القناع 6 / 206.
(3) (3) حديث أبي هريرة: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء. . . ". أخرجه الدارقطني (4 / 283) ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 185) عن ابن عبد الهادي أنه قال: هذا إسناد ضعيف بمرة.(35/195)
وَحَقِيقَةُ النَّحْرِ عِنْدَهُمْ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ فِي اللَّبَّةِ (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ تَذْكِيَةُ الإِْبِل بِالنَّحْرِ وَحَقِيقَتُهُ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ طَعْنًا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ تَقْطَعِ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَانِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (ذَبَائِحُ ف 43) .
لَبْس
انْظُرْ: الْتِبَاس
لُبْس
انْظُرْ: أَلْبِسَة
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 192، وروضة الطالبين 3 / 207، وكشاف القناع 6 / 206.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 100، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 220، والشرح الصغير 2 / 157 - 158.(35/195)
لَبَن
التَّعْرِيفُ:
1 - اللبن فِي اللُّغَةِ: سَائِلٌ أَبْيَضُ يَكُونُ فِي إِنَاثِ الآْدَمِيِّينَ وَالْحَيَوَانِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْجَمْعُ أَلْبَانٌ، وَوَاحِدَتُهُ لَبِنَةٌ.
وَاللِّبَأُ: أَوَّل اللَّبَنِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَلَبَنُ كُل شَجَرَةٍ: مَاؤُهَا عَلَى التَّشْبِيهِ، وَشَاةٌ لَبُونٌ: ذَاتُ اللَّبَنِ غَزِيرَةً كَانَتْ أَوْ بَكِيئَةً (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّبَنِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِاللَّبَنِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
الطَّاهِرُ وَالنَّجِسُ مِنَ الأَْلْبَانِ وَمَا يَحِل شُرْبُهُ مِنْهَا:
2 - اللَّبَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ مِنْ آدَمِيٍّ فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُول اللَّحْمِ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلاَ خِلاَفٍ (2) ،
__________
(1) مختار الصحاح. والبكيئة: قليلة اللبن.
(2) بدائع الصنائع 1 / 63، 5 / 43، وحاشية ابن عابدين 1 / 138، 5 / 194، 216، وحاشية الدسوقي 1 / 50 - 51، ونهاية المحتاج 1 / 227، وكشاف القناع 1 / 194.(35/196)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (1) . إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ لَبَنِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حِل أَكْلِهَا، فَمَا حَل أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - لَبَنُ الْفَرَسِ:
3 - لبن الْفَرَسِ طَاهِرٌ حَلاَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،. وَاخْتَلَفَ النَّقْل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ فِي سُؤْرِهِ كَمَا فِي لَبَنِهِ، وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِلَبَنِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي شُرْبِهِ تَقْلِيل آلَةِ الْجِهَادِ (2) . وَلَبَنُ الْفَرَسِ نَجِسٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ اللَّبَنِ لِلَّحْمِ، فَقَدْ قَالُوا: لَبَنُ غَيْرِ الآْدَمِيِّ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ فَإِنْ كَانَ لَحْمُهُ طَاهِرًا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَهُوَ الْمُبَاحُ وَالْمَكْرُوهُ الأَْكْل فَلَبَنُهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَهُوَ مُحَرَّمُ الأَْكْل فَلَبَنُهُ نَجِسٌ، وَالْفَرَسُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَهُمْ (3) .
__________
(1) سورة النحل / 66.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 216، وتكملة فتح القدير 8 / 421، نشر دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 1 / 227، ومغني المحتاج 1 / 80، والمغني 8 / 591.
(3) شرح الدردير مع حاشية الدسوقي 1 / 50 - 51، وجواهر الإكليل 1 / 9، 218.(35/196)
ب - لَبَنُ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ:
4 - رَخَّصَ فِي أَلْبَانِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، بَيْنَمَا هِيَ نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ج - لَبَنُ الْجَلاَّلَةِ
5 - الْجَلاَّلَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ كَالإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ الَّتِي يَكُونُ أَغْلَبُ أَكْلِهَا النَّجَاسَةَ كَرِهَ شُرْبَ لَبَنِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - إِذَا ظَهَرَ نَتْنُ مَا تَأْكُلُهُ فِي رِيحِهَا وَعَرَقِهَا. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ شُرْبَ لَبَنِهَا حَرَامٌ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا (2) ". وَلأَِنَّ لَحْمَهَا إِذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَبَنُ الْجَلاَّلَةِ طَاهِرٌ، وَلاَ يُكْرَهُ شُرْبُهُ، كَمَا رَخَّصَ الْحَسَنُ فِي لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا، لأَِنَّ الْحَيَوَانَاتِ لاَ تَنْجُسُ بِأَكْل النَّجَاسَاتِ بِدَلِيل أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لاَ يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِ أَعْضَائِهِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 216، ومغني المحتاج 1 / 80، ونهاية المحتاج 1 / 227، وكشاف القناع 1 / 195، والمغني 8 / 587، وجواهر الإكليل 1 / 9، 218، والدسوقي 1 / 50 - 51، 2 / 117.
(2) (3) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها ". أخرجه الترمذي (4 / 270) وقال: حديث حسن غريب.
(3) بدائع الصنائع 5 / 40، وحاشية ابن عابدين 5 / 216، وجواهر الإكليل 1 / 216 - 217، ومغني المحتاج 4 / 304، وأسنى المطالب 1 / 568، والمغني 8 / 593 - 594.(35/197)
د - لَبَنُ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ:
6 - لَبَنُ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ مِنَ الْحَيَوَانِ نَجِسٌ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّبَنَ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَكَانَ نَجِسًا كَمَا لَوْ حُلِبَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ. وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَبَنُ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ طَاهِرٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (1) "، وَصَفَ اللَّبَنَ مُطْلَقًا بِالْخُلُوصِ وَالسُّيُوغِ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَهَذَا آيَةُ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا الآْيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الاِمْتِنَانِ، وَالْمِنَّةُ فِي مَوْضِعِ النِّعْمَةِ تَدُل عَلَى الطَّهَارَةِ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَكَلُوا الْجُبْنَ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ، وَهُوَ يُعْمَل بِالإِْنْفَحَةِ، وَهِيَ تُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِ الْمَعْزِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ (2) . مَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُول اللَّحْمِ وَمَيْتَتِهِ،
7 - وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ
__________
(1) سورة النحل / 66.
(2) بدائع الصنائع 1 / 63، والكافي لابن عبد البر 1 / 440، ونهاية المحتاج 1 / 227، ومغني المحتاج 1 / 80، والمغني 1 / 74.(35/197)
لَبَنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِهَا نَجِسٌ حَيَّةً كَانَتْ أَوْ مَيِّتَةً، يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: حُكْمُ الأَْلْبَانِ حُكْمُ اللَّحْمَانِ (1) ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَبَنُ مَا لاَ يُؤْكَل كَلَبَنِ الأَْتَانِ نَجِسٌ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُسْتَحِيلاَتِ فِي الْبَاطِنِ فَهُوَ نَجِسٌ (2) ، وَفِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: لَبَنُ غَيْرِ الآْدَمِيِّ الْمَحْلُوبِ فِي حَال الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا (3) ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْحِمَارُ الأَْهْلِيُّ لَحْمُهُ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ لَبَنُهُ (4) .
لَبَنُ الآْدَمِيِّ:
8 - لَبَنُ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ امْرَأَةٍ أَمْ مِنْ رَجُلٍ إِذْ لاَ يَلِيقُ بِكَرَامَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْشَؤُهُ نَجِسًا. أَمَّا لَبَنُ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ اللَّبَنَ لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بَل هُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ تَنَجَّسَ الْوِعَاءُ الأَْصْلِيُّ لَهُ، وَنَجَاسَةُ الظَّرْفِ إِنَّمَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّرْفُ مَعْدِنًا لِلْمَظْرُوفِ وَمَوْضِعًا لَهُ فِي الأَْصْل، فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الأَْصْل مَوْضِعُهُ وَمَظَانُّهُ فَنَجَاسَتُهُ لاَ تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ.
__________
(1) المغني 8 / 587.
(2) نهاية المحتاج 1 / 227.
(3) جواهر الإكليل 1 / 9.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 290.(35/198)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ لَبَنَ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ نَجِسٌ، وَقِيل: إِنَّهُ طَاهِرٌ (1) .
بَيْعُ اللَّبَنِ:
9 - بَيْعُ لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ بَعْدَ حَلْبِهِ جَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ مَسَائِل.
أ - بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَقَدْ عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَجْهُول الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ، فَقَدْ يَرَى امْتِلاَءَ الضَّرْعِ مِنَ السِّمَنِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، وَلأَِنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَكُونُ صَافِيًا وَقَدْ يَكُونُ كَدِرًا، وَذَلِكَ غَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، وَلأَِنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ تُخْلَقْ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْمَنْعَ بِأَنَّ اللَّبَنَ لاَ يَجْتَمِعُ فِي الضَّرْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَل شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ (2) ".
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 8 - 9، والدسوقي 1 / 50 - 51، والحطاب 1 / 93، ونهاية المحتاج 1 / 227، والمغني 4 / 288، 7 / 540.
(2) (3) حديث: " نهى أن يباع صوف على ظهر غنم، أو لبن في ضرع " أخرجه الدارقطني (3 / 14) والبيهقي (5 / 340) ورجح البيهقي أن المحفوظ هو عن ابن عباس موقوفًا عليه.(35/198)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لِشِيَاهٍ بِأَعْيَانِهَا فِي إِبَّانِ لَبَنِهَا إِذَا سَمَّى شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً وَكَانَ قَدْ عَرَفَ وَجْهَ حِلاَبِهَا وَكَانَتِ الْغَنَمُ كَثِيرَةً. أَمَّا إِنْ كَانَ الشَّاةَ أَوِ الشَّاتَيْنِ فَاشْتَرَى رَجُلٌ حِلاَبَهَا عَلَى كَذَا وَكَذَا شَهْرًا بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَلاَ، إِلاَّ أَنْ يَبِيعَ لَبَنَهَا كَيْلاً كُل قِسْطٍ بِكَذَا وَكَذَا. وَكَذَلِكَ أَجَازَ بَيْعَ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ الْحَسَنُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ (1) .
بَيْعُ لَبَنِ الآْدَمِيِّ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ لَبَنِ الآْدَمِيَّةِ إِذَا حُلِبَ، لأَِنَّهُ لَبَنٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَلأَِنَّهُ لَبَنٌ أُبِيحَ شُرْبُهُ، فَأُبِيحَ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الأَْنْعَامِ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي إِجَارَةِ الظِّئْرِ، فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ. وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْقُول، أَمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 148، وحاشية ابن عابدين 4 / 108، والمدونة 4 / 296 - 297، ونهاية المحتاج 3 / 416، والمهذب 1 / 273، والمغني 4 / 231.(35/199)
إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ، وَبِالْعَقْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَطْءِ، وَمَا حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِالاِسْتِهْلاَكِ، وَلَوْ كَانَ مَالاً لَحَكَمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا الْمَعْقُول فَلأَِنَّهُ لاَ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَل لِضَرُورَةِ تَغْذِيَةِ الطِّفْل، وَمَا حَرُمَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ لاَ يَكُونُ مَالاً، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ لاَ يَعُدُّونَهُ مَالاً، وَلاَ يُبَاعُ فِي سُوقٍ مِنَ الأَْسْوَاقِ، وَلأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الآْدَمِيِّ، وَالآْدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالاِحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَكَرِهَ بَيْعَهُ أَحْمَدُ (1) .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ وَلَبَنِ الأَْمَةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الآْدَمِيَّ لَمْ يُجْعَل مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إِلاَّ بِحُلُول الرِّقِّ فِيهِ، وَالرِّقُّ لاَ يَحِل إِلاَّ فِي الْحَيِّ، وَاللَّبَنُ لاَ حَيَاةَ فِيهِ، فَلاَ يُحِلُّهُ الرِّقُّ، فَلاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الأَْمَةِ لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ آدَمِيٍّ هُوَ مَالٌ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 145، والفروق للقرافي وتهذيبه 3 / 240 - 241، ونهاية المحتاج 1 / 227، والمغني 4 / 288.
(2) بدائع الصنائع 5 / 145.(35/199)
السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ:
12 - يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ جِنْسِ حَيَوَانِهِ وَنَوْعِهِ وَمَأْكُولِهِ مِنْ مَرْعًى أَوْ عَلَفٍ مُعَيَّنٍ بِنَوْعِهِ.
وَاللَّبَنُ الْمُطْلَقُ يُحْمَل عَلَى الْحُلْوِ وَإِنْ جَفَّ.
وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ كَيْلاً وَوَزْنًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُوزَنُ بِرَغْوَتِهِ، وَلاَ يُكَال بِهَا لأَِنَّهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْمِيزَانِ.
وَنَقَل الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ إِذَا كَانَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لأَِنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْجَهَالَةِ وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، فَبِأَيِّ قَدْرٍ قَدَّرَهُ جَازَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي حَامِضِ اللَّبَنِ لأَِنَّ حُمُوضَتَهُ عَيْبٌ إِلاَّ فِي مَخِيضٍ لاَ مَاءَ فِيهِ، فَيَصِحُّ فِيهِ وَلاَ يَضُرُّ وَصْفُهُ بِالْحُمُوضَةِ لأَِنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِيهِ. وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْمَخِيضِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ، لأَِنَّ الْمَاءَ يَسِيرٌ يُتْرَكُ لأَِجْل الْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 109، والمغني 4 / 319.(35/200)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَل الْمَوَّاقُ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: لاَ بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ وَالْجِصِّ وَالزِّرْنِيخِ وَشِبْهِ ذَلِكَ (1) . وَاخْتَلَفَتِ النُّقُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي الْبَدَائِعِ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الأَْجَل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ مَحَل الأَْجَل، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَكِنَّهُ انْقَطَعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَاللَّبَنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ عِنْدَنَا.
بَيْنَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا أَسْلَمَ فِي اللَّبَنِ فِي حِينِهِ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ جَازَ (2) .
الاِنْتِفَاعُ بِلَبَنِ مَاشِيَةِ الْغَيْرِ
: 13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَنْ مَرَّ بِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِبَهَا لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتَهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ، فَلاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 537.
(2) بدائع الصنائع 5 / 211، والفتاوى الهندية 3 / 182.(35/200)
بِإِذْنِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ -: فَإِنَّ مَا فِي ضُرُوعِ مَوَاشِيهِمْ مِثْل مَا فِي مَشَارِبِهِمْ (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ (2) .
وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مَا إِذَا عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِذْنٌ خَاصٌّ وَلاَ عَامٌّ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لأَِحْمَدَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ مَرَّ بِمَاشِيَةٍ أَنْ يَحْلِبَ وَيَشْرَبَ وَلاَ يَحْمِل مَعَهُ شَيْئًا، لِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا: صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ فَيُصَوِّتُ ثَلاَثًا: فَإِنْ أَجَابَهُ أَحَدٌ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلاَ يَحْمِل (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَالأَْقْوَال الَّتِي رُدَّتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ
__________
(1) (1) حديث: " لا يحلبن أحد ماشية أحدٍ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 88) ومسلم (3 / 1325) واللفظ للبخاري، والرواية الثانية للبيهقي (9 / 358) .
(2) (2) حديث: " لا يحل لامرئ في مال أخيه. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 97) من حديث ابن عباس، وإسناده حسن.
(3) حديث: " إذا أتى أحدكم على ماشية. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 581) من حديث سمرة بن جندب، وقال: حديث حسن غريب.(35/201)
بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْتَاجِ فَقَدْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ (1) (أَيْ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ) .
بَيْعُ اللَّبَنِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ:
14 - الأَْلْبَانِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِذَا كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنَ الأَْلْبَانِ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ.
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهُرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الأَْلْبَانُ أَجْنَاسٌ، لأَِنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ أَجْنَاسٌ، فَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لاَ يُبَاعُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لاَ يُبَاعُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْبَقَرِ بِلَبَنِ الْغَنَمِ مُتَفَاضِلاً.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الأَْلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، أَلْبَانُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ فَلاَ يُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ (2) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 375، وفتح الباري 5 / 88 - 89، والمجموع للنووي 9 / 46 - 47 تحقيق المطيعي، والمغني 8 / 599 - 600.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 185، والدسوقي 3 / 50، وجواهر الإكليل 2 / 19، ومغني المحتاج 2 / 24 - 27، والمغني 4 / 37.(35/201)
لِثَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّثَامُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَا عَلَى الْفَمِ أَوِ الشَّفَةِ مِنَ النِّقَابِ، وَالْجَمْعُ لُثُمٌ، وَالتَّلَثُّمُ هُوَ شَدُّ اللِّثَامِ، وَالْمَلْثَمُ: مَوْضِعُ اللَّثْمِ وَهُوَ الأَْنْفُ مَا حَوْلَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِنَاعُ
2 - الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعَةُ مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ تُغَطِّي رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا (2) .
وَالتَّقَنُّعُ - كَمَا عَرَّفَهُ الْعَيْنِيُّ - هُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَأَكْثَرِ الْوَجْهِ بِرِدَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
ب - الْخِمَارُ:
3 - الْخِمَارُ بِكَسْرِ الْخَاءِ هُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ
__________
(1) المغرب للمطرزي، والمعجم الوسيط.
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(3) عمدة القاري 21 / 308.(35/202)
رَأْسَهَا، وَكُل مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارٌ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
شَدُّ اللِّثَامِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ التَّلَثُّمِ - وَهُوَ تَغْطِيَةُ الأَْنْفِ وَالْفَمِ - فِي الصَّلاَةِ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَكْرَهُ التَّلَثُّمَ وَتَغْطِيَةَ الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ كَرِهَ التَّلَثُّمَ وَرَخَّصَ فِي تَغْطِيَةِ الْفَمِ. وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ التَّلَثُّمَ فِي الصَّلاَةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَةٌ ف 86) .
شَدُّ اللِّثَامِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهَا سَتْرُ وَجْهِهَا، وَإِذَا احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِ الْوَجْهِ لِمَنْعِ أَبْصَارِ الأَْجَانِبِ سَدَلَتْ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهَا مُتَجَافِيًا عَنْ بَشَرَةِ الْوَجْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٍ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع ص 22.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 107، والقوانين الفقهية ص57، وروضة الطالبين 1 / 289، وكشاف القناع 1 / 275.
(3) الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر 3 / 265 - 266.(35/202)
جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزْنَا كَشَفْنَاهُ، وَقَالَتْ كَذَلِكَ: الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ إِلاَّ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَلاَ تَتَبَرْقَعُ وَلاَ تَتَلَثَّمُ وَتُسْدِل الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا إِنْ شَاءَتْ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِحْرَامٌ ف 67) .
__________
(1) (1) شرح السنة للبغوي 7 / 240، وعمدة القاري 9 / 166، وفتح الباري 3 / 405 وحديث عائشة: كان الركبان يمرون بنا. . . أخرجه أبو داود (2 / 416) ، وذكر المنذري في مختصر السنن (2 / 354) في إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد وأما قولها: المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت. فأخرجه البيهقي في سننه (5 / 47) .(35/203)
لَحَاق
التَّعْرِيفُ
1 - اللَّحَاقُ وَاللُّحُوقُ وَاللَّحْقُ لُغَةً الإِْدْرَاكُ.
يُقَال: لَحِقَ الشَّيْءَ وَأَلْحَقَهُ وَلَحِقَ بِهِ وَأَلْحَقَ لَحَاقًا أَدْرَكَهُ، وَلَحِقْتُ بِهِ أَلْحَقُ: مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَمَصْدَرُهُ لَحَاقٌ بِالْفَتْحِ، وَأَلْحَقْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو أَتْبَعْتَهُ إِيَّاهُ فَلَحِقَ هُوَ بِهِ وَأَلْحَقَ أَيْضًا: وَفِي الدُّعَاءِ: إِنَّ عَذَابَكَ الْجَدُّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ.
وَأَلْحَقَ الْقَائِفُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ: أَخْبَرَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ لَهُ، وَاسْتَلْحَقْتُ الشَّيْءَ ادَّعَيْتَهُ.
وَلَحِقَهُ الثَّمَنُ لُحُوقًا لَزِمَهُ، فَاللُّحُوقُ اللُّزُومُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِلْحَاقُ
2 - الاِسْتِلْحَاقُ لُغَةً مَصْدَرُ اسْتَلْحَقَ: يُقَال
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.(35/203)
اسْتَلْحَقَهُ ادَّعَاهُ، وَالاِسْتِلْحَاقُ أَيْضًا طَلَبُ لُحُوقِ الشَّيْءِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: ادِّعَاءُ رَجُلٍ أَنَّهُ أَبٌ لِهَذَا الْوَلَدِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّحَاقِ وَالاِسْتِلْحَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَاللَّحَاقُ يَكُونُ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ وَالاِسْتِلْحَاقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي النَّسَبِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّحَاقِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللَّحَاقِ أَحْكَامٌ مُتَنَوِّعَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
لَحَاقُ الْوَلَدِ فِي اللِّعَانِ بِأُمِّهِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ بِالزِّنَا أَوْ نَفَى الْحَمْل وَلاَعَنَهَا لَمْ يَلْحَقِ الْوَلَدُ بِهِ وَلَحِقَ بِأُمِّهِ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ ف 25) .
لَحَاقُ الْوَلَدِ لأَِقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ لَحَاقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ مَوْتٍ وَلَمْ تَنْكِحْ حَتَّى أَتَتْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (لحق) .
(2) حاشية الدسوقي 3 / 112.
(3) فتح القدير 3 / 251، والخرشي 4 / 135، ومغني المحتاج 3 / 373، 380، والمغني لابن قدامة 7 / 397، 416.(35/204)
بِوَلَدٍ لأَِرْبَعِ سِنِينَ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل سَنَتَانِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا أَتَتْ بِهِ فِي السَّنَتَيْنِ.
وَالْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل خَمْسُ سِنِينَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَمْلٌ ف 7، وَنَسَبٌ) .
لَحَاقُ اللَّقِيطِ بِالرَّجُل:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ نَسَبَ لَقِيطٍ لَحِقَ بِهِ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا إِذَا أَقَامَ مُدَّعِي نَسَبِ اللَّقِيطِ بَيِّنَةً أَوْ كَانَتْ دَعْوَاهُ مَبْنِيَّةً عَلَى مُجَرَّدِ الإِْقْرَارِ وَفِيمَا إِذَا كَانَ مُدَّعِي النَّسَبِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِيمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ (3) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ، ف 11، وَنَسَبٌ) .
__________
(1) الخرشي 1 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 387، وروضة الطالبين 2 / 141، 142، والمغني لابن قدامة 7 / 477، 483.
(2) الاختيار 3 / 179، 180، وفتح القدير 4 / 172، وحاشية الدسوقي 2 / 460، والمغني 7 / 477.
(3) بدائع الصنائع 6 / 197، 199، والخرشي 7 / 132، 133، وحاشية الدسوقي 3 / 412، والمغني 5 / 747، 772.(35/204)
لَحَاقُ اللَّقِيطِ بِالْمَرْأَةِ
: 6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ نَسَبَ لَقِيطٍ هَل يَلْحَقُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا وَهَل يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا؟ وَهَل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَلْحِقَ مَجْهُول النَّسَبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ ف 11، وَنَسَبٌ) .
لَحَاقُ الْوَلَدِ الَّذِي تَخَلَّقَ مِنْ مَنِيٍّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ
: 7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ إِذَا حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَنِيٍّ دَخَل فَرْجَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ كَحَمَّامٍ وَنَحْوِهِ فَيَلْحَقُ الْوَلَدُ بِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِهِ، بِأَنْ مَضَى مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ (2) .
لَحَاقُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ
: 8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ إِذَا حُمِل بِهِ فِي الإِْسْلاَمِ يَكُونُ مُسْلِمًا، وَكَذَا مَنْ حُمِل بِهِ فِي حَال رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالآْخَرُ مُسْلِمٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ حَمْلُهُ خِلاَل رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 46) .
لَحَاقُ الطَّلاَقِ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا
: 9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 200، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 412، وروضة الطالبين 5 / 441 - 442، والمغني 5 / 764 - 765.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 130.(35/205)
الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي يَمْلِكُ مُطَلِّقُهَا رَجْعَتَهَا يَلْحَقُهَا الطَّلاَقُ سَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً، وَيَلْحَقُهَا الظِّهَارُ وَاللِّعَانُ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُزِيل الْمِلْكَ وَلاَ الْحِل لِبَقَاءِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهَا، وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ يَقْطَعُ النِّكَاحَ وَيُزِيل الْمِلْكَ بِدَلِيل تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَمَنْعِ الْخُلْعِ عَلَى قَوْلٍ.
وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ مَوْقُوفٌ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ تَبَيَّنَ زَوَال الْمِلْكِ بِالطَّلاَقِ، وَإِنْ رَاجَعَ تَبَيَّنَ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ (2) .
لَحَاقُ وَلَدِ الْمَجْبُوبِ
: 10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْحَاقِ وَلَدِ الْمَجْبُوبِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالإِْصْطَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَيُحْكَى قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ امْرَأَةَ الْمَجْبُوبِ إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، لِتَوَهُّمِ شَغْل رَحِمِهَا بِمَائِهِ بِالسَّحْقِ، وَقَدْ أَتَتْ بِهِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا اسْتِحْسَانًا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 134، وحاشية الدسوقي 2 / 422، وروضة الطالبين 8 / 222، وكشاف القناع 5 / 343، والمغني 7 / 289.
(2) روضة الطالبين 8 / 222.(35/205)
لِتَوَهُّمِ الشَّغْل، وَالْعِدَّةُ وَالْوَلَدُ حَقُّ الشَّرْعِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ مِنَ امْرَأَتِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَجْبُوبًا بَقِيَ أُنْثَيَاهُ وَكَذَا مَسْلُولٌ خُصْيَتَاهُ وَبَقِيَ ذَكَرُهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيل: لاَ يَلْحَقُهُ (2) .
وَقَال مَالِكٌ إِنَّ الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ أَرَى أَنْ يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَإِلاَّ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ (3) .
لَحَاقُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ
: 11 - إِذَا انْعَقَدَتِ الْجُمُعَةُ صَحِيحَةً وَانْفَضَّ عَدَدٌ مِنَ الْمَأْمُومِينَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ ثُمَّ لَحِقَ بِالإِْمَامِ مَا يَكْمُل بِهِ الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ فَفِي ذَلِكَ لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 20) .
النَّادِرُ هَل يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ
: 12 - الأَْصْل أَنَّ " الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ لاَ لِلنَّادِرِ " وَقَال عَلِيٌّ حَيْدَرْ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 208، وفتح القدير 3 / 218 - 219.
(2) المغني 7 / 480، والقليوبي وعميرة 4 / 50.
(3) المدونة 2 / 445.(35/206)
الشَّائِعُ هُوَ الأَْمْرُ الَّذِي يُصْبِحُ مَعْلُومًا لِلنَّاسِ وَذَائِعًا بَيْنَهُمْ، مِثَال: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ لِمُرُورِ 90 سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مُسْتَنِدٌ عَلَى الشَّائِعِ الْغَالِبِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ عَامًا، عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ بَل يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْعُرْفِ الشَّائِعِ وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، كَذَلِكَ يُحْكَمُ بِبُلُوغِ مَنْ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لأَِنَّهُ هُوَ السِّنُّ الشَّائِعُ لِلْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ لاَ يَبْلُغُ إِلاَّ فِي السَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَوِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ إِلاَّ أَنَّهُ نَادِرٌ فَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِسَبْعِ سِنِينَ لِمُدَّةِ حَضَانَةِ الصَّبِيِّ وَتِسْعٍ لِحِضَانَةِ الْبِنْتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّائِعِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ السَّابِعَةَ مِنْ عُمُرِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ مُعِينٍ لَهُ فِي لِبَاسِهِ وَأَكْلِهِ وَاسْتِنْجَائِهِ مَثَلاً، وَالْبِنْتُ إِذَا صَارَ عُمُرُهَا تِسْعَ سَنَوَاتٍ تُصْبِحُ مُشْتَهَاةً فِي الْغَالِبِ، وَاخْتِلاَفُ النُّمُوِّ فِي الْبَعْضِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالإِْقْلِيمِ لاَ عِبْرَةَ لَهُ بَل الْمُعْتَبَرُ السَّبْعُ سَنَوَاتٍ لِلصَّبِيِّ وَالتِّسْعُ لِلْبِنْتِ، لأَِنَّهُ الشَّائِعُ الْغَالِبُ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِل وَأَلْحَقُوا النَّادِرَ فِيهَا بِالْغَالِبِ، فَقَدْ ذَكَرَ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 45، 46، نشر مكتبة النهضة.(35/206)
الْقَرَافِيُّ عِنْدَ شَرْحِ قَاعِدَةِ مَا اعْتُبِرَ مِنَ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا لُغِيَ مِنَ الْغَالِبِ أَمْثِلَةً لِمَا لُغِيَ فِيهِ الْغَالِبُ وَقُدِّمَ النَّادِرُ عَلَيْهِ وَأُثْبِتَ حُكْمُهُ دُونَهُ مِنْهَا
: أ - غَالِبُ الْوَلَدِ أَنْ يُوضَعَ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ مِنَ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زِنًا وَهُوَ الْغَالِبُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ، أَلْغَى الشَّارِعُ الْغَالِبَ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ وَهُوَ تَأَخُّرُ الْحَمْل
. ب - طِينُ الْمَطَرِ الْوَاقِعُ فِي الطُّرُقَاتِ وَمَمَرِّ الدَّوَابِّ وَالْمَشْيِ بِالأَْحْذِيَةِ الَّتِي يُجْلَسُ بِهَا فِي الْمَرَاحِيضِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا وُجُودُ النَّجَاسَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كُنَّا لاَ نُشَاهِدُ عَيْنَهَا وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا مِنْهَا وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ فَيُصَلَّى بِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ (1)
. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يَنْقَسِمُ هَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا - مَا يَلْحَقُ قَطْعًا، كَمَنْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ الأَْبْكَارِ قَطْعًا فِي الاِسْتِئْذَانِ فِي الزَّوَاجِ، وَكَمَا إِذَا خُلِقَ لَهُ وَجْهَانِ وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الزَّائِدُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا قَطْعًا، وَكَذَلِكَ إِلْحَاقُ الْوَلَدِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنَّ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 104 - 105.(35/207)
بَقَاءَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نَادِرٌ جِدًّا فَأَلْحَقُوهُ بِالْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَحْظَتَيْنِ مِنْ زَمَنِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ جِدًّا وَلَكِنَّ الشَّارِعَ أَعْمَل النَّادِرَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ سَتْرًا لِلْعِبَادِ.
الثَّانِي - مَا لاَ يَلْحَقُ قَطْعًا: كَالأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ لاَ تَلْحَقُ بِالأَْصْلِيَّةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ قَطْعًا وَنِكَاحِ مَنْ بِالْمَشْرِقِ مَغْرِبِيَّةً لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ.
الثَّالِثُ - مَا يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ إِلْحَاقًا بِالْغَالِبِ الْمُتَّصِل، وَقِيل لاَ، لِلنُّدْرَةِ بِخِلاَفِ مَسِّ الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ لاَ يَنْقُضُ، وَكَالنَّقْضِ بِخُرُوجِ النَّادِرِ مِنَ الْفَرْجِ وَجِوَازِ الْحَجْرِ مِنَ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ قَطْعًا، وَكَذَا كَثِيرُهُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ هَذَا الْجِنْسَ يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ فَأُلْحِقَ نَادِرُهُ بِغَالِبِهِ، وَكَذَا لَوْ طَال مُدَّةُ اجْتِمَاعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَيَّامًا وَأَشْهُرًا وَهُوَ نَادِرٌ، فَالْمَذْهَبُ بَقَاءُ خِيَارِهِمَا إِذَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَقِيل: لاَ يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ كَالْغَالِبِ.
الرَّابِعُ - مَا لاَ يُلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، كَالَّذِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوْ رَاجَتِ الْفُلُوسُ رَوَاجَ النُّقُودِ فَهَل تُعْطَى(35/207)
حُكْمَهَا فِي بَابِ الرِّبَا؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لاَ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ (1) .
لَحَاقُ التَّمْرِ بِأُصُول الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ
: 13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لَحَاقِ التَّمْرِ بِأُصُول الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: اشْتِرَاطُ التَّأْبِيرِ وَعَدِمُهُ، وَمِنْهَا اشْتِرَاطُ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَمِنْهَا لَحَاقُ بُرُوزِ النَّوْرِ أَوِ الثَّمَرِ بِتَشَقُّقِ الطَّلْعِ فِي النَّخْل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ثِمَارٌ ف 14) .
مَا يَلْحَقُ بِالثَّمَنِ
: 14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ هَل يَلْتَحِقَانِ بِأَصْل الْعَقْدِ أَمْ لاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (بَيْعٌ ف 56 وَمَا بَعْدَهَا، ثَمَنٌ ف 25 وَمَا بَعْدَهَا) .
لَحْد
انْظُرْ: قَبْر
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 243، 244.(35/208)
لَحْمٌ
التَّعْرِيفُ
: 1 - اللَّحْمُ وَاللَّحَمُ لُغَتَانِ، وَهُوَ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيْرِ: الْجُزْءُ الْعَضَلِيُّ الرَّخْوُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ.
وَلَحْمُ كُل شَيْءٍ لُبُّهُ، وَاللَّحْمَةُ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، وَجَمْعُهُ أَلْحُمٌ وَلُحُومٌ وَلِحَامٌ وَلُحْمَانٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّعَامُ:
2 - الطَّعَامُ لُغَةً
: كُل مَا يُؤْكَل مُطْلَقًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالطَّعَامُ يَعُمُّ اللَّحْمَ وَغَيْرَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ: 3 - الأَْصْل فِي اللُّحُومِ الْحِل وَلاَ يُصَارُ إِلَى
__________
(1) القاموس، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (لحم) .
(2) لسان العرب، وتاج العروس مادة (طعم) .(35/208)
التَّحْرِيمِ إِلاَّ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} (1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَعْضِ اللُّحُومِ مِنْ حَيْثُ الْحِل وَالْحُرْمَةُ وَالطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
اللَّحْمُ الْمَقْطُوعُ مِنْ حَيَوَانٍ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ مَا أُبِينَ أَوْ قُطِعَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولٍ - غَيْرَ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ - فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ لِنَجَاسَتِهِ (3) .
لِحَدِيثِ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (4) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 74) .
أَكْل اللَّحْمِ النَّتِنِ
: 5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل اللَّحْمِ إِذَا أَنْتَنَ لأَِنَّهُ يَضُرُّ لاَ لأَِنَّهُ نَجِسٌ (5) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدِمُ كَرَاهَةِ أَكْل
__________
(1) سورة البقرة / 29.
(2) سورة الأعراف / 157.
(3) بدائع الصنائع 5 / 44 - 45، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 108، والبجيرمي على الخطيب 4 / 256، والقليوبي وعميرة 4 / 242، والمغني 11 / 53 - 54.
(4) (3) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه الترمذي (4 / 74) من حديث أبي واقد الليثي، وقال: حديث حسن.
(5) الفتاوى الهندية 5 / 339.(35/209)
اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى، وَكَرِهَ الْمَرْدَاوِيُّ أَكْل اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ (1) .
وَاللَّحْمُ الْمُنْتِنُ إِنْ كَانَ لَحْمَ جَلاَّلَةٍ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَقِيل: يَحْرُمُ. وَإِنْ كَانَ لَحْمَ غَيْرِ الْجَلاَّلَةِ وَذُكِّيَ تَذْكِيَةً شَرْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ إِذَا نَتَنَ وَتَرَوَّحَ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (2) .
اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِنَجِسٍ
: 6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ بِنَجِسٍ لاَ يَطْهُرُ لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَدْ تَأَصَّلَتْ فِيهِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ (4) ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ، فِقْرَةُ 31) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ طُبِخَ لَحْمٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ كَفَى غَسْلُهُ
، قَال النَّوَوِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّاشِيُّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ (5) . وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُطْبَخُ بِالْمَاءِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
__________
(1) الإنصاف 10 / 368، والفروع 6 / 302، وكشاف القناع 6 / 195، وشرح منتهى الإرادات 3 / 400.
(2) مغني المحتاج 4 / 304، والمجموع 9 / 28.
(3) البحر الرائق 1 / 251 - 252، وحاشية ابن عابدين 1 / 223، والفتاوى الهندية 1 / 42، ومواهب الجليل 1 / 114، والخرشي على خليل 1 / 95 - 96، والمبدع 1 / 243، والإنصاف 1 / 321، والمجموع 2 / 600، ومغني المحتاج 1 / 86.
(4) مواهب الجليل 1 / 114، والإنصاف 1 / 321.
(5) المجموع 2 / 600.(35/209)
وَيُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ (1) .
الْوُضُوءُ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ
: 7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَال: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ (3) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأْ قَال: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل؟ قَال: نَعَمْ، فَتَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل (4) ، وَمُقْتَضَى الأَْمْرِ الإِْيجَابُ (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 42، والبحر الرائق 1 / 251.
(2) بدائع الصنائع 1 / 32، والكافي لابن عبد البر 1 / 151، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 92، وروضة الطالبين 1 / 72، والمجموع. 2 / 57 - 59، والمغني 1 / 179، والإنصاف 1 / 216.
(3) حديث جابر: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 133) ، ونقل ابن حجر في الفتح (1 / 311) عن ابن خزيمة وابن حبان أنهما صححاه.
(4) حديث جابر بن سمرة: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 275) .
(5) روضة الطالبين 1 / 72، والمجموع 2 / 57 - 59، وكشاف القناع 1 / 130، والمغني 1 / 179 - 182، والإنصاف 1 / 216.(35/210)
لَحْمُ الأُْضْحِيَّةِ
: 8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ مَسْنُونَاتِ الأُْضْحِيَّةِ أَنْ يَأْكُل الْمُضَحِّي مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمَ وَيَدَّخِرَ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لأَِقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ.
أَمَّا الأُْضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ فَلاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَنْذُورَةَ كَغَيْرِهَا فِي جِوَازِ الأَْكْل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أُضْحِيَّةٌ ف 59) .
لَحْمُ الْعَقِيقَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ طَبْخُ لَحْمِ الْعَقِيقَةِ كُلِّهَا حَتَّى مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقِيقَةِ تَفْرِيقُهَا نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً.
انْظُرْ (عَقِيقَةٌ ف 13) .
لَحْمُ الْخَيْل:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ أَكْل لَحْمِ الْخَيْل لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْل (1) .
__________
(1) حديث جابر: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 648) ومسلم (3 / 1541) واللفظ للبخاري.(35/210)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى حِل أَكْلِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ الأَْحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْبَابِ لاِخْتِلاَفِ السَّلَفِ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْخَيْل مُحَرَّمٌ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 44) .
لَحْمُ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ (3) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لَحْمَ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ يُؤْكَل مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 46) .
لَحْمُ الْخِنْزِيرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 38 - 39، وحاشية ابن عابدين 5 / 193، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 117، ونهاية المحتاج 8 / 143، والمغني 11 / 69 - 70.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 177، والحطاب 3 / 235.
(3) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ". تقدم في (ف10) .
(4) بدائع الصنائع 5 / 37، والفتاوى الهندية 5 / 290، وابن عابدين 5 / 193، وحاشية الدسوقي 2 / 117، ونهاية المحتاج 8 / 144، والمغني 11 / 65 - 66.(35/211)
الْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (خِنْزِيرٌ ف 3) .
لَحْمُ الْبَغْل:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْبَغْل لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ أَصْلَيْنِ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْحِل وَالْحُرْمَةُ فَيُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْبَغْل يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحِل وَالْحُرْمَةِ (3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ بِقَاعِدَةِ التَّبَعِيَّةِ لِلأُْمِّ فِي الْحُكْمِ (4) ، مَعَ بَعْضِ الاِخْتِلاَفِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 59 - 60) .
لَحْمُ الْكَلْبِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ - صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل ذِي نَابٍ مِنَ
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) نهاية المحتاج 8 / 144 - 146، والمغني 11 / 66.
(3) بدائع الصنائع 5 / 37.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 117، وبداية المجتهد 1 / 455.(35/211)
السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ (1) .
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 24 - 29) مُصْطَلَحِ (كَلْبٌ) .
لَحْمُ الإِْنْسَانِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ:
15 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الإِْنْسَانِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (4) وَوَرَدَ الْخِلاَفُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمُضْطَرِّ لَحْمَ الإِْنْسَانِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَرُورَةٌ ف 10) .
غَسْل الْفَمِ وَالْيَدِ مِنْ أَكْل اللَّحْمِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْل الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ لِحَدِيثِ: مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ (5) .
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِاسْتِحْبَابِ غَسْل
__________
(1) حديث أبي هريرة: " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1534) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 39، وجواهر الإكليل 1 / 218، ونهاية المحتاج 8 / 143، والمجموع 9 / 8، والمغني 11 / 66.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 136، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 114، وفتح العزيز مع المجموع 1 / 162، والقليوبي وعميرة 4 / 262، ومطالب أولي النهى 6 / 323.
(4) سورة الإسراء / 70.
(5) حديث: " من بات وفي يده ريح غمر. . . ". أخرجه الترمذي 4 / 289 من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن.(35/212)
الْفَمِ وَالْيَدِ مِنْ أَكْل اللَّحْمِ خَاصَّةً، لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ (1) ، وَهُوَ أَيْسَرُ مِنَ اللَّحْمِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَسَل يَدَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَتَمَضْمَضَ مِنْهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَكْلٌ ف 14 - 15، وَيَدٌ) .
الْحَلِفُ عَلَى عَدَمِ أَكْل اللَّحْمِ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ اللَّحْمِ يَحْنَثُ بِأَكْل مَا لَيْسَ بِلَحْمٍ مِنَ الشَّحْمِ وَنَحْوِهِ لأَِنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ اللَّحْمِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ شَحْمَ الأَْلْيَةِ إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ فِي الْيَمِينِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لأَِنَّهُ لاَ يُسْمَى لَحْمًا وَيَنْفَرِدُ عَنْهُ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ (4) .
بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض من السويق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 312) من حديث سويد بن النعمان.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 337، والمنتقى 1 / 66، ومواهب الجليل 1 / 302، وروضة الطالبين 7 / 340، وشرح صحيح مسلم 4 / 46، والإنصاف 8 / 324، والمغني 8 / 120. وأثر عثمان. أخرجه مالك 1 / 26.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 235، والمغني 11 / 318.
(4) القليوبي وعميرة 4 / 280، والمغني 11 / 318.(35/212)
عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ (1) لِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ (3) ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 60) .
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَبِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 60 - 62) .
السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ:
19 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ بِشَرْطِ ضَبْطِ صِفَاتِهِ بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (4) ، وَلأَِنَّهُ إِذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ فَاللَّحْمُ أَوْلَى (5) .
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 68، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 174 - 175، والمغني4 / 146 - 149.
(2) حديث: " نهى عن بيع الحيوان باللحم. . . ". أخرجه مالك في الموطأ 2 / 665 من حديث سعيد بن المسيب مرسلا، وذكر له ابن حجر في التلخيص (2 / 10) شواهد تقويه.
(3) بدائع الصنائع 5 / 189، وتبيين الحقائق 4 / 91.
(4) حديث: " من أسلف في شيء ففي كيل معلوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري / 429) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس واللفظ للبخاري.
(5) بداية المجتهد 2 / 202، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 189، ومغني المحتاج 2 / 112، والمغني 4 / 316.(35/213)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِوُجُودِ الْجَهَالَةِ. (1)
بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ خِلاَفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ اللَّحْمِ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَمَنْ قَال بِأَنَّ اللَّحْمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ بَيْعُ لَحْمٍ بِلَحْمٍ إِلاَّ مُتَمَاثِلاً، وَمَنْ جَعَلَهُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً جَازَ عِنْدَهُ بَيْعُهُ مُتَفَاضِلاً، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي كُل مَذْهَبٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 27 - 30) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 210.(35/213)
لَحْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّحْنُ: فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ. يُقَال: لَحِنَ فُلاَنٌ لِفُلاَنٍ لَحْنًا: قَال لَهُ قَوْلاً يَفْهَمُهُ عَنْهُ، وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَطَأِ فِي الإِْعْرَابِ وَمُخَالَفَةِ الصَّوَابِ فِيهِ، يُقَال: لَحِنَ الْقَارِئُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْمُتَكَلِّمُ فِي كَلاَمِهِ، يَلْحَنُ لَحْنًا: أَخْطَأَ فِي الإِْعْرَابِ، وَخَالَفَ وَجْهَ الصَّوَابِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِطْنَةِ، فَفِي الأَْثَرِ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ (1) . . . أَيْ أَفْطَنَ بِحُجَّتِهِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَفْطَنَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ فِي حُجَّتِهِ مِنَ الآْخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْصْوَاتِ الْمَصُوغَةِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي فِيهَا تَغْرِيدٌ، وَتَطْرِيبٌ، وَجَمْعُهُ أَلْحَانٌ، وَلُحُونٌ، وَيُقَال: لَحْنُ الْقَوْل أَيْ فَحْوَاهُ
__________
(1) حديث: " إنكم تختصمون إليَّ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 339) من حديث أم سلمة.(35/214)
وَمَعْنَاهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ النَّحْوِيِّينَ هُوَ: الْخَطَأُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ، أَوْ تَصْحِيحُ الْمُفْرَدِ. وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ هُوَ: خَلَلٌ يَطْرَأُ عَلَى اللَّفْظِ فَيُخِل بِالْمَعْنَى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّحْنِ:
تَعَمُّدُ اللَّحْنِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
2 - الْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْقُول بِالتَّوَاتُرِ، فَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ اللَّحْنِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَغَيَّرَ الْمَعْنَى أَمْ لَمْ يُغَيِّرْ، لأَِنَّ أَلْفَاظَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ نُقِلَتْ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظٍ مِنْهُ بِتَغْيِيرِ الإِْعْرَابِ أَوْ بِتَغْيِيرِ حُرُوفِهِ بِوَضَعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ.
وَلأَِنَّ فِي تَعَمُّدِ اللَّحْنِ عَبَثًا بِكَلاَمِ اللَّهِ، وَاسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ، وَهُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ (3) ، قَال تَعَالَى: {قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (4) .
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالأَْلْحَانِ إِذَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الْكَلِمَةُ عَنْ وَضْعِهَا، وَلَمْ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة، والكليات مادة (لحن) ، وفتح الباري 12 / 339.
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 4 / 172.
(3) كشاف القناع 1 / 481.
(4) سورة التوبة / 66.(35/214)
يَحْصُل بِاللَّحْنِ تَطْوِيلٌ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحَرْفُ حَرْفَيْنِ، أَوْ يَصِل بِهِ إِلَى مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ بَل كَانَ لِمُجَرَّدِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ، وَتَزْيِينِ الْقِرَاءَةِ، بَل يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ (1) ، وَفِي أَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَاللَّحْنَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيَّ أَنَّهُ قَال: الْقِرَاءَةُ بِالأَْلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ إِنْ أَخْرَجَتْ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَال حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ، أَوْ تَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ بَعْضُ اللَّفْظِ وَيَلْتَبِسُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ، لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ إِلَى الاِعْوِجَاجِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (3) قَال: وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ مُبَاحًا، لأَِنَّهُ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي تَحْسِينِهِ (4) .
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الشَّاشِيِّ أَنَّهُ نَسَبَ فِي حِلْيَتِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (5) .
__________
(1) المحلي وعميرة 4 / 320، وابن عابدين 5 / 272، 1 / 424.
(2) أثر عمر: " تعلموا الفرائض. . . ". أخرجه الدارمي (2 / 341) .
(3) سورة الزمر / 27.
(4) التبيان في آداب حملة القرآن ص146 - 147.
(5) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 70.(35/215)
وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِنْ قَرَأَ بِالأَْلْحَانِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ إِنْ غَيَّرَ الْكَلِمَةَ وَيَقِفُ فِي مَوْضِعِ الْوَصْل أَوْ فَصَل فِي مَوْضِعِ الْوَقْفِ يُكْرَهُ وَإِلاَّ لاَ يُكْرَهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِرَاءَةٌ ف 9، غِنَاءٌ ف 11) .
اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ اللَّحْنِ فِي الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ اللَّحْنُ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَرَفْعِ هَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَتْ إِمَامَتُهُ مَكْرُوهَةً كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ وَصَلاَةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ.
وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَضَمِّ " تَاءِ " أَنْعَمْتَ، وَكَسْرِهَا، وَكَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِينَ بَدَل " الْمُسْتَقِيمَ ".
فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ لَهُ التَّعَلُّمُ فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِلْحَرَامِ، وَيَلْزَمُهُ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّعَلُّمِ، فَإِنْ قَصَّرَ، وَضَاقَ الْوَقْتُ لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَيَقْضِيَ، وَلاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمُ لِعَجْزٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ لَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 317.(35/215)
التَّعَلُّمُ فِيهَا فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا صَلاَةُ مَنْ خَلْفَهُ، هَذَا إِذَا وَقَعَ اللَّحْنُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ لَحِنَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَالسُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَصَلاَةُ كُل أَحَدٍ صَلَّى خَلْفَهُ، لأَِنَّ تَرْكَ السُّورَةِ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ فَلاَ يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بِهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِاللَّحْنِ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا سَوَاءٌ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لاَ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي تَبْدِيل الْجُمَل مَفْصُولاً بِوَقْفٍ تَامٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى بَعِيدٌ، وَيَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِهِ أَيْضًا، كَـ " هَذَا الْغُبَارِ " بَدَل " هَذَا الْغُرَابِ " وَكَذَا إِنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ مَعْنَى لَهُ مُطْلَقًا، كَالسَّرَائِل، بَدَل " السَّرَائِرِ ".
وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ وَكَانَ الْمَعْنَى بَعِيدًا وَلَكِنْ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَفْسُدُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ الْمَعْنَى نَحْوَ: " قَيَّامِينَ " بَدَل: " قَوَّامِينَ " فَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ بِالْعَكْسِ: فَالْمُعْتَبَرُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَ عَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى كَثِيرًا وُجُودُ الْمِثْل فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَالْمُوَافَقَةُ فِي الْمَعْنَى
__________
(1) المجموع 4 / 268 - 269، والمغني 2 / 297.(35/216)
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَهَذِهِ قَوَاعِدُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: كَابْنِ مُقَاتِلٍ، وَابْنِ سَلاَّمٍ، وَإِسْمَاعِيل الزَّاهِدِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَلْخِيِّ، وَالْهِنْدُوَانِيِّ، وَابْنِ الْفَضْل فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الإِْعْرَابِ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَدَّى اعْتِقَادُهُ كُفْرًا، كَكَسْرِ " وَرَسُولِهِ "، فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} لأَِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الإِْعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ بِإِبْدَال حَرْفٍ بِحَرْفٍ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِلاَ كُلْفَةٍ كَالصَّادِ مَعَ الطَّاءِ بِأَنْ قَرَأَ الطَّالِحَاتِ، بَدَل " الصَّالِحَاتِ " فَهُوَ مُفْسِدٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ كَالظَّاءِ مَعَ الضَّادِ وَالصَّادِ مَعَ السِّينِ فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى عَدَمِ الْفَسَادِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى (1) ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال عِنْدَهُمْ: لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِلَحْنٍ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَوْ بِالْفَاتِحَةِ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى، وَأَثِمَ الْمُقْتَدِي بِهِ إِنْ وَجَدَ غَيْرَهُ، مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ (2) .
اللَّحْنُ بِمَعْنَى التَّغْرِيدِ وَالتَّطْرِيبِ
4 - اللَّحْنُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِنْ كَانَ بِلاَ آلَةٍ، وَلَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 423، وفتح القدير 1 / 281.
(2) الشرح الصغير 1 / 437، مختصر خليل 1 / 78.(35/216)
يَكُنْ فِي أَلْفَاظِهِ مَا يَحْرُمُ كَوَصْفِ امْرَأَةٍ، أَوْ أَمْرَدَ مُعَيَّنَيْنِ حَيَّيْنِ، وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إِلَيْهَا وَهِجَاءِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْجُمْلَةِ لِشَغْلِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ لَهْوٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ آلَةٍ، وَفُحْشِ الْقَوْل فَهُوَ حَرَامٌ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ حِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ وَخَلاَ مِنَ الآْلَةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ مِنْهُ الاِسْتِشْهَادَ، أَوْ لِيَعْلَمَ فَصَاحَتَهُ، وَبَلاَغَتَهُ، أَوْ أَنْشَدَ فِي خَلْوَةٍ وَحْدَهُ لِيَطْرُدَ عَنْ نَفْسِهِ الْمَلَل، فَلاَ بَأْسَ بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّفْصِيل فِي (غِنَاءٌ، شِعْرٌ ف 17، تَشْبِيبٌ ف 2 - 3) .(35/217)
لُحُوقُ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللُّحُوقُ فِي اللُّغَةِ: الإِْدْرَاكُ، مِنْ لَحِقَ بِهِ لَحْقًا وَلَحَاقًا: أَدْرَكَهُ، وَكُل شَيْءٍ أَدْرَكَ شَيْئًا فَهُوَ لاَحِقٌ بِهِ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلاَفِ الأَْبْوَابِ الَّتِي يُسْتَعْمَل فِيهَا، وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ مَادَّةَ لَحِقَ وَمُشْتَقَّاتِهَا فِي مَسَائِل ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالْتِحَاقِ الذِّمِّيِّ وَالْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِلْحَاقِ جَنِينِ الْمُذَكَّاةِ بِأُمِّهِ فِي الْحِل، وَإِلْحَاقِ صِغَارِ السَّائِمَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلُحُوقِ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ بِهِ فِي الْبَيْعِ، كَمَا اسْتَعْمَلَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ وَهُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل فِي الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّحُوقِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللُّحُوقِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.(35/217)
اللُّحُوقُ فِي النَّسَبِ:
2 - اللُّحُوقُ فِي النَّسَبِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَانْتِسَابِهِ لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَأَسْبَابُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أَوَلاَ - الزَّوَاجُ الصَّحِيحُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوَاجًا صَحِيحًا يَلْحَقُ زَوْجَهَا، لِحَدِيثِ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (1) ، وَالْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ الزَّوْجَةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْحَمْل عَادَةً، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَأَنْ يَبْلُغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عِنْدَ بَعْضٍ، وَعَشْرَ سَنَوَاتٍ عِنْدَ آخَرِينَ، فَلاَ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ إِنْ كَانَ طِفْلاً دُونَ التَّاسِعَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لاَ يَلْحَقُ بِالْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَبٌّ ف 9) .
ب - أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الزَّوَاجِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ،
__________
(1) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 465، وحاشية الدسوقي 2 / 460، وروضة الطالبين 8 / 357، والمغني 7 / 427.(35/218)
وَمِنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الْوَطْءِ عِنْدَ آخَرِينَ، فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنَ الْحَدِّ الأَْدْنَى لِمُدَّةِ الْحَمْل لاَ يَلْحَقُهُ، وَكَذَا إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ تَارِيخِ الْفِرَاقِ وَهِيَ سَنَتَانِ عِنْدَ الأَْحْنَافِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَرْبَعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَخَمْسٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِنَّ أَقْصَى الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَمْلٌ ف 6، 7) .
ج - إِمْكَانُ تَلاَقِي الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ جَرَى الْعَقْدُ وَالزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ لَمْ يَلْحَقْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .
ثَانِيًا - النِّكَاحُ الْفَاسِدُ:
4 - النِّكَاحُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، نِكَاحٌ) .
ثَالِثًا - الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ:
5 - إِنْ وَطِئَ امْرَأَةً لاَ زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 396، والمغني 7 / 430، وحاشية الدسوقي 2 / 460.
(2) روضة الطالبين 8 / 320، 358، والمغني 7 / 427، وحاشية ابن عابدين 2 / 607، وحاشية الدسوقي 2 / 257.(35/218)
الْوَطْءِ لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَزَاهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - مِنْهُمْ -: أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ، فَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ فِيهِ كَالزِّنَا.
وَقَال أَحْمَدُ: كُل مَنْ دَرَأْتَ عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءٍ أَلْحَقْتَ الْوَلَدَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ، وَإِنْ وَطِئَ ذَاتَ زَوْجٍ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ زَوْجُهَا، فَاعْتَزَلَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ لَحِقَ الْوَاطِئَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، نِكَاحٌ) .
رَابِعًا - الإِْقْرَارُ أَوِ الاِسْتِلْحَاقُ:
6 - وَهُوَ مَعَ الصِّدْقِ وَاجِبٌ، وَمَعَ الْكَذِبِ: فِي إِلْحَاقِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَرَامٌ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
- إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ.
- وَإِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالإِْقْرَارُ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ أَنْ يَقُول: هَذَا ابْنِي، أَوْ أَنَا أَبُوهُ، أَوْ هَذَا أَبِي، فَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اللُّحُوقِ بِهَذَا الإِْقْرَارِ:
__________
(1) المغني 7 / 431 - 432، وابن عابدين 2 / 607، والقليوبي 4 / 350.(35/219)
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ قِنًّا أَوْ كَافِرًا. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْمُقِرِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 68) .
ب - أَنْ لاَ يُكَذِّبَهُ الْحِسُّ، بِأَنْ كَانَ الْمُقِرُّ فِي سِنٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْحِسُّ بِأَنْ يَكُونَ فِي سِنٍّ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِهِ مِثْل الْمُسْتَلْحَقِ: بِأَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا أَوْ يَكُونَ فِي سِنِّهِ، أَوْ طَرَأَ عَلَى الْمُسْتَلْحَقِ قَطْعُ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ قَبْل إِمْكَانِ عُلُوقِ ذَلِكَ الْوَلَدِ لَمْ يَلْحَقْهُ (1) .
ج - أَلاَّ يُكَذِّبَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ: بِأَنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَلْحِقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَقْبَل النَّقْل.
د - وَأَنْ يُصَدِّقَ الْمُسْتَلْحِقَ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّصْدِيقِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِيَمِينٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا لَحِقَ بِهِ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، مَا عَدَا التَّصْدِيقَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 109 - 110، وتحفة المحتاج 5 / 401، والمغني 5 / 199 - 200، 7 / 394 - 395، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ورد المحتار 4 / 464 - 465، وبدائع الصنائع 6 / 252، 7 / 228.
(2) نهاية المحتاج 5 / 107 وما بعده، وتحفة المحتاج 5 / 400، وابن عابدين 4 / 465، والمغني 5 / 199 - 200.(35/219)
وَيَجُوزُ أَنَّ يَسْتَلْحِقَ مَيِّتًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا بِطَلَبِ الإِْرْثِ، أَوْ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ (1) .
(ر: نَسَبٌ - إِقْرَارٌ ف 63) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ اسْتِلْحَاقُ مَنْفِيٍّ بِلِعَانِ وَلَدٍ عَلَى فِرَاشِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ النَّافِي، إِذْ لِلْمُلاَعِنِ اسْتِلْحَاقُهُ بَعْدَ نَفْيِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ نَفْيُ قَائِفٍ وَلاَ انْتِسَابٌ يُخَالِفُ حُكْمَ الْفِرَاشِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَسَبٌ، لِعَانٌ ف 29 إِقْرَارٌ ف 63) .
7 - أَمَّا إِذَا أُلْحِقَ النَّسَبُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَدَّى النَّسَبُ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الأَْبُ كَهَذَا أَخِي، أَوْ بِثِنْتَيْنِ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ كَهَذَا عَمِّي، أَوْ بِثَلاَثَةٍ: كَهَذَا ابْنُ عَمِّي لَحِقَ نَسَبُهُ مِنَ الْمُلْحَقِ بِهِ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ مُوَرِّثَهُ فِي حُقُوقِهِ وَالنَّسَبُ مِنْهَا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِيمَا إِذَا أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ.
وَيُشْتَرَطُ زِيَادَةً عَلَى الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ: كَوْنُ الْمُلْحَقِ بِهِ مَيِّتًا، فَيَمْتَنِعُ الإِْلْحَاقُ بِالْحَيِّ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَأَهَّل، فَلَوْ أَلْحَقَ حَيًّا، ثُمَّ صَدَّقَهُ لَحِقَهُ بِتَصْدِيقِهِ دُونَ الإِْلْحَاقِ. (ر: إِقْرَارٌ ف 63، نَسَبٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) نهاية المحتاج 5 / 107 وما بعده، وتحفة المحتاج 5 / 401.(35/220)
وَلاَ يُقِرُّ الْحَنَفِيَّةُ لُحُوقَ النَّسَبِ بِالإِْقْرَارِ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَقَرُّ بِنَسَبِهِ أَوْ كَذَّبَهُ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الإِْنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أَوْ دَعْوَى، وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال - وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ - غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَالإِْقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْل نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ - لاَ عَلَى نَفْسِهِ - شَهَادَةً أَوْ دَعْوَى، وَذَلِكَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِحُجَّةٍ (1) (ر: نَسَبٌ، إِقْرَارٌ ف 63) .
خَامِسًا - الْقِيَافَةُ:
8 - لَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ صَغِيرًا مَجْهُول النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ فَيُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا.
انْظُرْ: (لَقِيطٌ، قِيَافَةٌ) .
وَإِنِ اسْتَلْحَقَا بَالِغًا عَاقِلاً، وَوُجِدَتِ الشُّرُوطُ لَحِقَ بِمِنْ يُصَدِّقُهُ الْمُسْتَلْحَقُ، فَإِنْ سَكَتَ، وَلَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ فَيُلْحَقُ بِمَنْ تُلْحِقُهُ بِهِ الْقَافَةُ (2) .
(ر: نَسَبٌ، إِقْرَارٌ ف 63، قِيَافَةٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 228.
(2) تحفة المحتاج 5 / 403، ونهاية المحتاج 5 / 110 - 463، والمغني 5 / 766.(35/220)
سَادِسًا - الشَّهَادَةُ:
9 - يَلْحَقُ النَّسَبُ بِالشَّهَادَةِ بِشُرُوطِهَا. انْظُرْ: (شَهَادَةٌ ف 29، 37، وَنَسَبٌ، وَتَسَامُعٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
سَابِعًا - الاِسْتِفْرَاشُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
10 - إِذَا عَاشَرَ مَمْلُوكَتَهُ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْل مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ، بِهَذَا قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لاَ تَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَلَحِقَهُ أَوْلاَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ (1) . (ر: تَسَرِّي ف 18) .
لُحُوقُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ
11 - يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ صَارَ بِلُحُوقِهِ دَارَ الْحَرْبِ حَرْبًا عَلَيْنَا، فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ دَفْعُ شَرِّهِ عَنَّا.
(ر: أَهْل الذِّمَّةِ ف 42) .
لُحُوقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَأَثَرُهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ صَارَ الْبَيْعُ لاَزِمًا (2) ، وَإِنِ ارْتَدَّ فِي الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَال وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 398، المحلي على المنهاج 3 / 243.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 92 ط. دار الفكر - دمشق.(35/221)
الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ اللاَّحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا، لأَِنَّ لَهُ عِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَلاَ يُوقَفُ مِلْكُ رَبِّ الْمَال فَبَقِيَتِ الْمُضَارَبَةُ (1) .
وَإِنِ ارْتَدَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلاَ بُدَّ مِنْهَا لَتَحَقُّقِ الشَّرِكَةِ، وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ (2) .
وَتَبْطُل الْوَكَالَةُ بِلُحُوقِ الْوَكِيل بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لأَِنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لاَزِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الأَْمْرِ فَبَطَل بِعَارِضِ الرِّدَّةِ، لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ، فَكَذَا وَكَالَتُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ قُتِل أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ: تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلاَ تَبْطُل وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يُقْتَل بِالرِّدَّةِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ (3) . (ر: وَكَالَةٌ) .
__________
(1) الهداية 3 / 208.
(2) الهداية 3 / 12، وبدائع الصنائع 6 / 78.
(3) فتح القدير 6 / 126، والهداية 3 / 153، وبدائع الصنائع 6 / 38 - 39.(35/221)
لِحْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّحْيَةُ لُغَةً: الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقْنِ، وَالْجَمْعُ اللِّحَى وَاللُّحَى. وَرَجُلٌ أَلْحَى وَلِحْيَانِيٌّ: طَوِيل اللِّحْيَةِ، وَاللَّحْيُ وَاحِدُ اللَّحْيَيْنِ وَهُمَا: الْعَظَمَاتُ اللَّذَانِ فِيهِمَا الأَْسْنَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَيْهِمَا تَنْبُتُ اللِّحْيَةُ (1) . وَاللِّحْيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِاللِّحْيَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِهِمُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ مِنْ عَذَارٍ، وَعَارِضٍ، وَالذَّقْنِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِذَارُ
2 - الْعِذَارَانِ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: جَانِبَا اللِّحْيَةِ، وَكَانَ الْفُقَهَاءُ أَكْثَرَ تَحْدِيدًا لِلْعِذَارِ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ، فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ
__________
(1) لسان العرب.
(2) رد المحتار على الدر المختار المشهور بحاشية ابن عابدين 1 / 68 القاهرة، مطبعة بولاق 1272 هـ.(35/222)
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ قُدَامَةَ وَالْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ الْمُحَاذِي لِصِمَاخِ الأُْذُنِ (أَيْ خَرْقَهَا) يَتَّصِل مِنَ الأَْعْلَى بِالصُّدْغِ، وَمِنَ الأَْسْفَل بِالْعَارِضِ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الَّذِي تُصَرِّحُ بِهِ عِبَارَاتُهُمْ أَنَّهُ إِذَا جُعِل خَيْطٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَعْلَى الأُْذُنِ وَأَعْلَى الْجَبْهَةِ فَمَا تَحْتَ ذَلِكَ الْخَيْطِ مِنَ الْمُلاَصِقِ لِلأُْذُنِ، الْمُحَاذِي لِلْعَارِضِ هُوَ الْعِذَارُ، وَمَا فَوْقَهُ هُوَ الصُّدْغُ، وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ الْقَدْرُ الْمُحَاذِي لِلأُْذُنِ.
وَيُصَرِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّ الْعِذَارَ جُزْءٌ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لاَ يَدْخُل مُنْتَهَى الْعِذَارِ (أَيْ أَعْلاَهُ الَّذِي فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ) لأَِنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّهِ، أَشْبَهَ الصُّدْغَ، وَالصُّدْغُ مِنَ الرَّأْسِ (وَلَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ) لِحَدِيثِ الرَّبِيعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً (1) ، وَلَمْ يَنْقُل أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُ مَعَ الْوَجْهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ
__________
(1) حديث الربيع " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه مرة واحدة " أخرجه أبو داود (1 / 91) والترمذي (1 / 49) ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 68، وحاشية القليوبي على شرح المحلي لمنهاج الطالبين 1 / 48، القاهرة ط. عيسى الحلبي، والمغني لابن قدامة الحنبلي شرح مختصر الخرقي 1 / 115 القاهرة، مكتبة المنار 1367 هـ، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي الحنبلي 1 / 52 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية 1367هـ.(35/222)
فَكُل عِذَارٍ لِحْيَةٌ وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْعَارِضُ:
3 - الْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ: الْخَدُّ، وَعَارِضَتَا الإِْنْسَانِ: صَفْحَتَا خَدَّيْهِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْعَارِضُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدِّ وَيَمْتَدُّ مِنْ أَسْفَل الْعِذَارِ حَتَّى يُلاَقِيَ الشَّعْرَ النَّابِتَ عَلَى الذَّقْنِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْعَارِضُ هُوَ مَا نَزَل عَنْ حَدِّ الْعِذَارِ، وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى اللَّحْيَيْنِ، وَنُقِل عَنِ الأَْصْمَعِيِّ وَالْمُفَضَّل بْنِ سَلَمَةَ: مَا جَاوَزَ وَتِدَ الأُْذُنِ عَارِضٌ، فَالْعَارِضَانِ مِنَ اللِّحْيَةِ. وَقِيل لَهُ الْعَارِضُ - فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الأَْثِيرِ - لأَِنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى عَرْضِ اللَّحْيِ فَوْقَ الذَّقْنِ (1) .
ج - الذَّقْنُ:
4 - الذَّقْنُ وَالذَّقْنُ: مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا (2) .
د - الْعَنْفَقَةُ:
5 - الْعَنْفَقَةُ:
مَا بَيْنَ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَالذَّقْنِ قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخِفَّةِ شَعْرِهَا، وَالْعَنْفَقُ: قِلَّةُ الشَّيْءِ وَخِفَّتُهُ. وَقِيل: الْعَنْفَقَةُ مَا نَبَتَ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى
__________
(1) المغني 1 / 115، وشرح المنتهى 1 / 52، ولسان العرب المحيط.
(2) لسان العرب عن ابن سيدة.(35/223)
مِنَ الشَّعْرِ (1) . وَيُجَاوِزُ الْعَنْفَقَةَ يَمِينًا وَشِمَالاً الْفَنِيكَانِ، وَهُمَا: الْمَوْضِعَانِ الْخَفِيفَا الشَّعْرِ بَيْنَ الْعَنْفَقَةِ وَالْعَارِضَيْنِ وَقِيل: هُمَا جَانِبَا الْعَنْفَقَةِ (2) .
هـ - السِّبَال:
6 - السِّبَال لُغَةً: جَمْعُ السَّبَلَةِ، وَسَبَلَةُ الرَّجُل: الدَّائِرَةُ الَّتِي فِي وَسَطِ شَفَتِهِ الْعُلْيَا، وَقِيل: السَّبَلَةُ مَا عَلَى الشَّارِبِ مِنَ الشَّعْرِ، وَقِيل: طَرَفُهُ، وَقِيل: هِيَ مُقَدَّمُ اللِّحْيَةِ، وَقِيل: هِيَ اللِّحْيَةُ (3) ، وَعَلَى كَوْنِهِ بِمَعْنَى مَا عَلَى الشَّارِبِ مِنَ الشَّعْرِ وَرَدَ الْحَدِيثُ: قُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ، وَخَالِفُوا أَهْل الْكِتَابِ (4) ، وَعَلَى كَوْنِهِ بِمَعْنَى اللِّحْيَةِ وَرَدَ قَوْل جَابِرٍ: " كُنَّا نُعْفِي السِّبَال إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ".
أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ جَعَلُوا السِّبَال مُفْرَدًا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: طَرَفُ الشَّارِبِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: السِّبَالاَنِ طَرَفَا الشَّارِبِ، قَال: قِيل: وَهُمَا مِنَ الشَّارِبِ،
__________
(1) لسان العرب، والفتاوى الهندية 5 / 358.
(2) ابن عابدين 5 / 261، ولسان العرب.
(3) لسان العرب.
(4) حديث: " قصوا سبالكم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 265) وقال الهيثمي في المجمع (5 / 131) : رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد الصحيح خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر.(35/223)
وَقِيل مِنَ اللِّحْيَةِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ مِثْل ذَلِكَ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللِّحْيَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللِّحْيَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ:
7 - إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا اتِّفَاقًا، لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ (2) ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَفْظِ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ (3) ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ (4) ، فَعَدَّ مِنْهَا " إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ ".
قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ مُخَالِفَةُ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْلِقُهَا، وَقَال: ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنْ " أَعْفُوا " بِمَعْنَى كَثِّرُوا، أَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، وفتح الباري 10 / 346 القاهرة ط. المكتبة السلفية 1375 هـ.
(2) حديث ابن عمر: " خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 349) .
(3) حديث أبي هريرة: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 222) .
(4) حديث عائشة: " عشر من الفطرة ". أخرجه مسلم (1 / 223) .(35/224)
وَفِّرُوا، وَنُقِل عَنِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَفْسِيرُ الإِْعْفَاءِ بِالتَّكْثِيرِ مِنْ إِقَامَةِ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الإِْعْفَاءِ التَّرْكُ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلِّحْيَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْثِيرَهَا.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ تَرْكُهَا حَتَّى تَكِثَّ وَتَكْثُرَ (1) .
تَكْثِيرُ اللِّحْيَةِ بِالْمُعَالَجَةِ
8 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا فَهِمَ مِنَ الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْفُوا اللِّحَى تَجْوِيزَ مُعَالَجَتِهَا بِمَا يُغْزِرُهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، قَال: وَكَأَنَّ الصَّارِفَ عَنْ ذَلِكَ قَرِينَةُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّرْكِ (2) .
الأَْخَذُ مِنَ اللِّحْيَةِ:
9 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنْ لاَ يُتَعَرَّضَ لِلْحَيَّةِ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي الأَْمْرِ بِتَوْفِيرِهَا، قَال: الْمُخْتَارُ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا، وَأَنْ لاَ يُتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرٍ وَلاَ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَادَ طُول اللِّحْيَةِ عَنِ الْقَبْضَةِ يَجُوزُ أَخْذُ
__________
(1) فتح الباري 10 / 351، وحاشية ابن عابدين 2 / 205.
(2) فتح الباري 10 / 351.(35/224)
الزَّائِدِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ " كَانَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَل أَخَذَهُ ". قَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَخُصُّ هَذَا بِالنُّسُكِ بَل كَانَ يَحْمِل الأَْمْرَ بِالإِْعْفَاءِ عَلَى غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي تَتَشَوَّهُ فِيهَا الصُّورَةُ بِإِفْرَاطِ طُول شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ عَرْضِهِ (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَخْذَ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ سُنَّةٌ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْقَصُّ سُنَّةٌ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الرَّجُل عَلَى لِحْيَتِهِ، فَإِنْ زَادَ مِنْهَا عَنْ قَبْضَتِهِ شَيْءٌ قَطَعَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَال: وَبِهِ نَأْخُذُ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ قَطْعُ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ وَمُقْتَضَاهُ كَمَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ (4) ، الإِْثْمُ بِتَرْكِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ مِنْهَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَنَقَلُوا عَنْهُ
__________
(1) أثر ابن عمر " أنه كان إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 396) ، والرواية الأخرى أخرجها البخاري (فتح الباري 10 / 349) .
(2) فتح الباري 10 / 350.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 358، وابن عابدين 2 / 113، 205 و5 / 261.
(4) ابن عابدين 2 / 113.(35/225)
أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ عَارِضَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ مِنَ اللِّحْيَةِ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا تَشَوَّهَتْ بِإِفْرَاطِ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا، نَقَلَهُ الطَّبَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَحَمَل عَلَيْهِ فِعْل ابْنَ عُمَرَ، وَقَال: إِنَّ الرَّجُل لَوْ تَرَكَ لِحْيَتَهُ لاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا حَتَّى أَفْحَشَ طُولُهَا أَوْ عَرْضُهَا لَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَنْ يَسْخَرُ بِهِ، وَقَال عِيَاضٌ: الأَْخَذُ مِنْ طُول اللِّحْيَةِ وَعَرْضِهَا إِذَا عَظُمَتْ حَسَنٌ، بَل تُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا تُكْرَهُ فِي تَقْصِيرِهَا (2) ، وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْل مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا (3) ، أَمَّا الأَْخْذُ مِنَ اللِّحْيَةِ وَهِيَ دُونَ الْقَبْضَةِ لِغَيْرِ تَشَوُّهٍ فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ (4) .
حَلْقُ اللِّحْيَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ لأَِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلأَْمْرِ النَّبَوِيِّ
__________
(1) شرح المنتهى 1 / 40، ونيل المآرب 1 / 57 الكويت، دار الفلاح 1403هـ.
(2) فتح الباري 10 / 350.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها ". أخرجه الترمذي (5 / 94) من حديث عمرو بن العاص وقال: هذا حديث غريب، وذكر ابن حجر في الفتح (10 / 350) تضعيف أحد رواته.
(4) ابن عابدين 2 / 113.(35/225)
بِإِعْفَائِهَا وَتَوْفِيرِهَا، وَتَقَدَّمَ قَوْل ابْنِ عَابِدِينَ فِي الأَْخْذِ مِنْهَا وَهِيَ دُونَ الْقَبْضَةِ: لَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ، فَالْحَلْقُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ الْمَالِكِيِّ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل حَلْقُ لِحْيَتِهِ، وَيُؤَدَّبُ فَاعِل ذَلِكَ، وَقَال أَبُو شَامَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: قَدْ حَدَثَ قَوْمٌ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا نُقِل عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَهَا.
ثُمَّ قَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلاَ يَحْلِقُ شَعْرَ حَلْقِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ أَخْذُ الرَّجُل مَا تَحْتَ حَلْقِهِ مِنَ الشَّعْرِ أَيْ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللِّحْيَةِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ مَكْرُوهٌ (2) .
قَصُّ السِّبَالَيْنِ
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ السِّبَالَيْنِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمَا هَل هُمَا مِنَ الشَّارِبَيْنِ أَمْ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْخِلاَفُ فِيهِمَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَمَّا طَرَفَا الشَّارِبِ وَهُمَا السِّبَالاَنِ، فَقِيل: هُمَا مِنَ الشَّارِبِ وَقِيل: مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَقَدْ قِيل: لاَ بَأْسَ بِتَرْكِهِمَا، وَقِيل: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 358، وحاشية الدسوقي على الدردير 1 / 90، 422، 423، وفتح الباري 10 / 351، وشرح المنتهى 1 / 40.
(2) القليوبي 4 / 205.(35/226)
بِالأَْعَاجِمِ وَأَهْل الْكِتَابِ، قَال: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي السِّبَالَيْنِ فَقِيل: هُمَا مِنَ الشَّارِبِ وَيُشْرَعُ قَصُّهُمَا مَعَهُ، وَقِيل: هُمَا مِنْ جُمْلَةِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا الْقَصُّ فَهُوَ الَّذِي فِي أَكْثَرِ الأَْحَادِيثِ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السِّبَالَيْنِ مِنَ الشَّارِبِ فَيُشْرَعُ قَصُّهُمَا مَعَهُ (3) .
قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: ذَكَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسَ فَقَال: إِنَّهُمْ يُوفُونَ سِبَالَهُمْ وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ (4) قَال: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَعْرِضُ سَبَلَتَهُ فَجَزَّهَا (5) .
الْعِنَايَةُ بِاللِّحْيَةِ:
12 - الْعِنَايَةُ بِاللِّحْيَةِ بِأَخْذِ مَا طَال مِنْهَا وَتَشَوَّهَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
وَيُسَنُّ إِكْرَامُهَا (6) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (7) ، قَال الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ لِلرَّجُل تَرْكُ لِحْيَتِهِ شَعِثَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، 205.
(2) فتح الباري 10 / 346.
(3) شرح المنتهى 1 / 41.
(4) حديث ابن عمر: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 151) وابن حبان في صحيحه (12 / 290 - الإحسان) .
(5) حديث ابن عمر: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 151) وابن حبان في صحيحه (12 / 290 - الإحسان) .
(6) المغني 1 / 89.
(7) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395) من حديث أبي هريرة، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10 / 368) .(35/226)
إِيهَامًا لِلزُّهْدِ (1) . لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلاً شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَال: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسْكِنُ بِهِ شَعْرَهُ (2) .
وَيُسَنُّ تَرْجِيلُهَا، قَال ابْنُ بَطَّالٍ: التَّرْجِيل تَسْرِيحُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَدَهْنُهُ، وَهُوَ مِنَ النَّظَافَةِ وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ (3) ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (4) ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ لاَ يُفَارِقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَاكُهُ وَمُشْطُهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ (5) .
وَيُسَنُّ تَطْيِيبُهَا لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (6) .
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِغَالِيَةِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ (7) ، وَالْغَالِيَةُ: طِيبٌ يَجْمَعُ طُيُوبًا.
__________
(1) فتح الباري 10 / 351.
(2) حديث جابر: " أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 333) والحاكم (4 / 186) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) فتح الباري 10 / 368.
(4) سورة الأعراف / 31.
(5) حديث عائشة: " كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه. . . ". أورده ابن حجر في فتح الباري (10 / 367) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(6) حديث عائشة: " كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 366) .
(7) الفتاوى الهندية 5 / 359.(35/227)
وَانْظُرْ (تَرْجِيلٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، شَعْرٌ ف 16) .
صَبْغُ اللِّحْيَةِ:
13 - يُسَنُّ صَبْغُ اللِّحْيَةِ بِغَيْرِ السَّوَادِ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا الشَّيْبُ، أَمَّا بِالسَّوَادِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ صَبْغُهَا بِالسَّوَادِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَحْرُمُ لِغَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اخْتِضَابٌ ف 9 - 11) .
أُمُورٌ تُكْرَهُ فِي اللِّحْيَةِ
14 - قَال ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ مِمَّا يُكْرَهُ: تَبْيِيضَ اللِّحْيَةِ اسْتِعْجَالاً لِلشَّيْخُوخَةِ لِقَصْدِ التَّعَاظُمِ عَلَى الأَْقْرَانِ، وَنَتْفُهَا إِبْقَاءً لِلْمُرُودَةِ وَكَذَا تَحْذِيفُهَا وَنَتْفُ الشَّيْبِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَهُ لِثُبُوتِ الزَّجْرِ عَنْهُ، وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ تَصَنُّعًا وَمَخِيلَةً، وَعَقْدُهَا لِحَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ (1) ، قَال الْخَطَّابِيَّ: قِيل: الْمُرَادُ عَقْدُهَا فِي الْحَرْبِ، وَهُوَ مِنْ زِيِّ الأَْعَاجِمِ، وَقِيل: الْمُرَادُ مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ حَتَّى يَنْعَقِدَ وَذَلِكَ مِنْ فِعْل أَهْل التَّأْنِيثِ (2) .
__________
(1) حديث: " من عقد لحيته فإن محمدًا منه بريء ". أخرجه أبو داود (1 / 35 - 36) .
(2) فتح الباري 10 / 350 - 351) .(35/227)
غَسْل اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ
15 - تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِنْ كَانَ خَفِيفًا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ مِنْ تَحْتِهِ، فَيَغْسِل الْبَشَرَةَ وَيَغْسِل اللِّحْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالْمُرَادُ بِظُهُورِ الْبَشَرَةِ ظُهُورُهَا فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، وَوَجْهُ الْوُجُوبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَحْصُل فِي اللِّحْيَةِ ذَاتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ بِبَشَرَةِ الْوَجْهِ وَبِالشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهَا.
وَهَذَا الاِتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الشَّعْرِ فِي حَيِّزِ دَائِرَةِ الْوَجْهِ، دُونَ الْمُسْتَرْسِل مِنَ اللِّحْيَةِ تَحْتَ الذَّقْنِ طُولاً، وَدُونَ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ عَرْضًا، فَإِنَّ فِي هَذَا خِلاَفًا يَأْتِي بَيَانُهُ (1) .
أَمَّا اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ فَتَتَّفِقُ الأَْقْوَال الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل بَاطِنِهَا وَلاَ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَمَنَابِتِ الشَّعْرِ، لِعَدَمِ حُصُول الْمُوَاجَهَةِ بِهِ لأَِنَّهُ لاَ يُرَى فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، فَلاَ يَكُونُ مِنَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهِ، وَفِي نَيْل الْمَآرِبِ: لَوِ اجْتَزَأَ بِغَسْل بَاطِنِهَا عَنْ غَسْل ظَاهِرِهَا لَمْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، وحاشية ابن عابدين 1 / 68 - 69، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والذخيرة للقرافي 1 / 249، وشرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 48، والمغني لابن قدامة 1 / 116 - 117، وشرح المنتهى 1 / 52.(35/228)
يُجْزِئْهُ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ غُرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَل بِهَا وَجْهَهُ (1) قَالُوا: وَالْغُرْفَةُ لاَ تَكْفِي لِغَسْل الْوَجْهِ وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ وَبَاطِنِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَال يَنْتَقِل حُكْمُ مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِ مَا فِي حَدِّ الْوَجْهِ مِنْهَا.
وَلاَ يُسَنُّ غَسْل بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ، عَلَى مَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ غَسْل بَاطِنِهَا مَكْرُوهٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَغْسِل اللِّحْيَةَ الْكَثِيفَةَ فِي الْوُضُوءِ وَلاَ يَغْسِل مَا تَحْتَهَا أَيْضًا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ اسْمٌ لِلْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْصُل بِهَا الْمُوَاجَهَةُ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ بِبَشَرَةٍ، وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَشَرَةِ لاَ تَحْصُل بِهِ الْمُوَاجَهَةُ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الأُْولَى هِيَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ، وَمَا عَدَاهَا مَرْجُوعٌ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ضَعَّفَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْغَسْل عَنْ أَحْمَدَ وَأَوَّلَهَا. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الْبَشَرَةِ وَبَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ غرفة من ماء فغسل بها وجهه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 303) من حديث عبد الله بن زيد.(35/228)
- كَغَيْرِ الْكَثِيفَةِ - فِي الْوُضُوءِ كَمَا فِي الْغَسْل، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَشَرَةِ، وَتَدْخُل اللِّحْيَةُ تَبَعًا، وَنَقَل الْقَرَافِيُّ قَوْلاً مِثْل هَذَا لِلْمَالِكِيَّةِ. قَال: لأَِنَّ الْخِطَابَ مُتَنَاوِلٌ لَهُ بِالأَْصَالَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِالرُّخْصَةِ، وَالأَْصْل عَدَمُهَا.
وَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ، يَكُونُ غَسْل ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ - عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ بِغَسْل ظَاهِرِهَا إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَيْهَا بِالْمَاءِ وَتَحْرِيكُهَا بِهِ لأَِنَّ الشَّعْرَ يَدْفَعُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، فَإِذَا حَرَّكَهُ حَصَل الاِسْتِيعَابُ، قَالُوا: وَهَذَا التَّحْرِيكُ خِلاَفُ التَّخْلِيل (1) . 50
مَا اسْتَرْسَل مِنَ اللِّحْيَةِ أَوْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْل مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَرْضِ مِنَ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ وَلاَ مَسْحُهُ وَلاَ تَخْلِيلُهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ، لأَِنَّهُ شَعْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَحِل الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، ابن عابدين 1 / 68، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 86، والذخيرة 1 / 249، 251، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 48، والمغني لابن قدامة 1 / 105 - 116 - 117، ونيل المآرب 1 / 63.(35/229)
مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنِ الرَّأْسِ، لاَ يَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ غَسْل هَذَا الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسِل مِنَ اللِّحْيَةِ مَسْنُونٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، إِلَى وُجُوبِ غَسْل ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ نَابِتٌ فِي مَحَل الْفَرْضِ سَوَاءٌ حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ أَوْ جَاوَزَهُ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنَّمَا يَجِبُ غَسْل مَا جَاوَزَ مَحَل الْفَرْضِ بِالتَّبَعِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّ اللِّحْيَةَ تُشَارِكُ الْوَجْهَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْمُوَاجَهَةِ، بِخِلاَفِ مَا نَزَل مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُشَارِكُ الرَّأْسَ فِي التَّرَؤُّسِ (1) .
حَلْقُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ بَعْدَ غَسْلِهِ فِي الْوُضُوءِ
إِذَا تَوَضَّأَ فَغَسَل ظَاهِرَ لِحْيَتِهِ، أَوْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، ثُمَّ أَزَالَهَا بِحَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَانْظُرْ (وُضُوءٌ) .
تَخْلِيل اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فِي الْوُضُوءِ:
17 - يُسَنُّ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 68 - 69، والذخيرة 1 / 249، 258، والقليوبي 1 / 48، والمغني 1 / 117، وشرح المنتهى 1 / 51.
(2) ابن عابدين 1 / 69، والفتاوى الهندية 1 / 4، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 90.(35/229)
وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ خَلَّل لِحْيَتَهُ (1) ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ فَضِيلَةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَالأَْدِلَّةُ تُرَجِّحُهُ وَهُوَ الصَّوَابُ. اهـ.
وَقَدْ وَرَدَّ التَّرْخِيصُ فِي تَرْكِ التَّخْلِيل عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَال مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّخْلِيل، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ حَكَى وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكِ أَنَّهُ خَلَّل لِحْيَتَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيفَهَا، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَل بِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: التَّخْلِيل مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْل مَالِكٍ: تُحَرَّكُ اللِّحْيَةُ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: التَّخْلِيل وَاجِبٌ، وَالتَّخْلِيل عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ يَكُونُ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ نَقَلُوا عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ أَنَّ التَّخْلِيل يَكُونُ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ أَوْ إِنْ شَاءَ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته ". أخرجه أحمد (6 / 234) من حديث عائشة، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 86) : إسناده حسن.(35/230)
وَصِفَتُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ أَنْ يَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ يَضَعُهُ مِنْ تَحْتِهَا فَيُخَلِّلُهَا بِأَصَابِعِهِ مُشْتَبِكَةً، أَوْ يَضَعُهُ مِنْ جَانِبَيْهَا وَيُحَرِّكُهَا بِهِ (1) .
غَسْل الْعَنْفَقَةِ فِي الْوُضُوءِ
18 - يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْعَنْفَقَةِ وَالْبَشَرَةِ تَحْتَهَا إِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً فَالأَْكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا فَقَطْ، كَاللِّحْيَةِ، وَقِيل: يَجِبُ غَسْلُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِكُل حَالٍ لأَِنَّهَا لاَ تَسْتُرُ مَا تَحْتَهَا عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ (2) .
غَسْل اللِّحْيَةِ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ
19 - يَجِبُ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ غَسْل الْبَشَرَةِ تَحْتَ اللِّحْيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا أَوْ خَفِيفًا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ (3) قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 79، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والذخيرة 1 / 250، والمغني 1 / 105، 106، 117، وشرح المنتهى 1 / 43، 52، ونيل المآرب 1 / 64.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والمغني لابن قدامة 1 / 116.
(3) حديث: " من ترك موضع شعرة من جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 173) وذكره ابن حجر في التلخيص (1 / 142) وقال: قيل: إن الصواب وقفه.(35/230)
عَادَيْتُ شَعْرِي، وَكَانَ يَجِزُّ شَعْرَهُ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (1) .
وَالشَّعْرُ نَفْسُهُ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى أَثْنَائِهِ حَتَّى مَا اسْتَرْسَل مِنْهُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَخْلِيل شَعْرِ اللِّحْيَةِ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (غَسْلٌ ف 24) .
مَسْحُ اللِّحْيَةِ فِي التَّيَمُّمِ:
20 - يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ اللِّحْيَةِ مَعَ مَسْحِ الْوَجْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، فَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، فَلاَ يَجِبُ وَلاَ يُنْدَبُ إِيصَال التُّرَابِ إِلَى الشَّعْرِ الْبَاطِنِ وَلاَ إِلَى الْبَشَرَةِ لِعُسْرِهِ، وَلأَِنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِيعَابَ ظَاهِرِ شَعْرِ الْوَجْهِ، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَعْرَةً لَمْ يَجُزْ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَجِبُ مَسْحُ مَا طَال مِنَ اللِّحْيَةِ، وَلاَ يُخَلِّلُهَا لأَِنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ
__________
(1) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 172) من حديث أبو هريرة، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) ابن عابدين 1 / 102، والفتاوى الهندية 1 / 13، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 134، وحاشية القليوبي 1 / 66، والمغني لابن قدامة 1 / 228، وشرح المنتهى 1 / 81.(35/231)
عَلَى التَّخْفِيفِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّحْيَةِ مِنَ الأَْحْكَامِ فِي الإِْحْرَامِ:
21 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ لِحْيَتِهِ فِي الإِْحْرَامِ وَلاَ الأَْخْذُ مِنْهَا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً، إِلاَّ لِعُذْرٍ إِجْمَاعًا، وَقِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) .
فَإِنْ حَلَقَ لِحْيَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ (3) ، وَإِنْ أَخَذَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 71،) . وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ دَهْنُ لِحْيَتِهِ وَلَوْ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيَّبٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَطْيِيبُهَا.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْرَامٌ ف 73، 76،) .
الأَْخْذُ مِنَ اللِّحْيَةِ عِنْدَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ 22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الإِْحْرَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِرَأْسِهِ شَعْرٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 26، وابن عابدين 1 / 158، والذخيرة للقرافي 1 / 355، والقليوبي 1 / 90، والمغني 1 / 254، وشرح المنتهى 1 / 93.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) ابن عابدين 2 / 204، والشرح الكبير 2 / 60، 64، ونهاية المحتاج 2 / 64، وحاشية القليوبي 2 / 134، وشرح المنتهى 1 / 93، 3 / 305، والفتاوى الهندية 1 / 243.(35/231)
أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ قَصُّ أَظَافِرِهِ وَشَارِبِهِ وَاسْتِحْدَادُهُ بَعْدَ حَلْقِ رَأْسِهِ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِنْ أَخَذَ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (1) .
الدِّيَةُ أَوِ الأَْرْشُ فِي إِتْلاَفِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ
23 - تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَزَال لِحْيَةَ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، بِحَلْقٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ بِدَوَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ عَادَ الشَّعْرُ فَنَبَتَ كَمَا كَانَ فَلاَ شَيْءَ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِلاَّ الأَْدَبُ فِي الْعَمْدِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ، لِفَسَادِ مَنْبَتِهِ، كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهِ مَاءً حَارًّا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا دِيَةً كَامِلَةً إِنْ أَذْهَبَهَا كُلَّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ كَثِيفَةً، قَالُوا: لأَِنَّهُ أَزَال الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمَا كَانَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ كُل الدِّيَةِ لأَِنَّهُ فِي الشَّيْنِ فَوْقَ مَنْ لاَ لِحْيَةَ لَهُ أَصْلاً، قَال فِي شَرْحِ الْكَافِي: هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُعْتَبَرُ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 232، والقليوبي 2 / 119، ومغني المحتاج 1 / 503، والمغني 3 / 437، وفتح الباري 10 / 358.(35/232)
بِالْمِسَاحَةِ، فَيُعْطَى مِنَ الدِّيَةِ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ شَيْءَ فِي إِذْهَابِ لِحْيَةِ كَوْسَجٍ عَلَى ذَقْنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ، قَالُوا: لأَِنَّهَا تَشِينُهُ وَلاَ تَزِينُهُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى خَدِّهِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ لأَِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَال، وَلَوْ مُتَّصِلاً فَفِيهِ كُل الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَزَالَهَا وَبَقِيَ مِنْهَا مَا لاَ جَمَال فِيهِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ لإِِذْهَابِهِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كُلَّهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِيجَابِ الدِّيَةِ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ بِقَوْل عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " فِي الشَّعْرِ الدِّيَةُ ".
وَيُؤَجَّل سَنَةً لِيَتَحَقَّقَ مِنْ عَدَمِ نَبَاتِهَا، فَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ الدِّيَةُ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَإِنْ نَبَتَ الشَّعْرُ أَبْيَضَ قَال أَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ: لاَ شَيْءَ فِيهَا، وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
فَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ فَنَبَتَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ حُكُومَةِ الْعَدْل رَدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَرُجِيَ عَوْدُهُ انْتَظَرَ مَا يَقُولُهُ أَهْل الْخِبْرَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ(35/232)
الدِّيَةُ فِي إِذْهَابِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ بَل فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (1) .
التَّعْزِيرُ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ:
24 - لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مُحَرَّمًا فِي ذَاتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَلْقَ فِي ذَاتِهِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِهَا (2) .
لِحْيَةُ الْمَيِّتِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَسْرِيحُ لِحْيَةِ الْمَيِّتِ أَوْ قَصُّ شَعْرِهِ أَوْ حَلْقُهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ الَّذِي لاَ يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ - وَهُوَ شَعْرُ اللِّحْيَةِ - حَرُمَ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَهُوَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ لَمْ تُعْهَدْ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ تَسْرِيحُ شَعْرِهِ رَأْسًا كَانَ أَوْ لِحْيَةً لأَِنَّهُ يَقْطَعُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ. قَالُوا. وَيَحْرُمُ حَلْقُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَسْرِيحَ لِحْيَةِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ حَسَنٌ لإِِزَالَةِ مَا فِي أُصُول الشَّعْرِ مِنَ الْوَسَخِ أَوْ بَقَايَا السِّدْرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمُشْطٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 24، 25، وحاشية ابن عابدين 5 / 370، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 277، وشرح المحلي على المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 144، والمغني لابن قدامة 8 / 10، وشرح منتهى الإرادات 3 / 321.
(2) حاشية القليوبي 4 / 205.(35/233)
وَاسِعِ الأَْسْنَانِ، بِرِفْقٍ لِيَقِل الاِنْتِتَافُ.
ثُمَّ إِنْ أُزِيل بَعْضُ الشَّعْرِ بِحَلْقٍ أَوْ قَصٍّ أَوْ تَسْرِيحٍ يُجْعَل الزَّائِدُ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 575، والفتاوى الهندية 1 / 158، والدسوقي 1 / 422 - 423، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 324، وشرح المنتهى 1 / 329، 330.(35/233)
لُزُومٌ
التَّعْرِيفُ
1 - اللُّزُومُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ، فِعْلُهُ لَزِمَ يَلْزَمُ. يُقَال: لَزِمَ فُلاَنٌ فُلاَنًا أَيْ: كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى لاَزَمَهُ مُلاَزَمَةً وَلِزَامًا، وَالْتَزَمَهُ بِمَعْنَى: اعْتَنَقَهُ، وَاللُّزُومُ أَيْضًا: الْمُلاَزَمَةُ لِلشَّيْءِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا: " كَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَل لَزِمَتْهُ " (1) .
وَلَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ وَجَبَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَطْعُ الزَّوْجِيَّةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَوَازُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْجِوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ يُقَال: جَازَ الْعَقْدُ: نَفَذَ وَمَضَى عَلَى
__________
(1) حديث عائشة: " كانت إذا عملت العمل لزمته ". # أخرجه مسلم (1 / 541) .
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.(35/234)
الصِّحَّةِ، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتَهُ جَائِزًا نَافِذًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا.
الثَّانِي: عَلَى مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ.
الثَّالِثُ: عَلَى مَا لَيْسَ بِلاَزِمٍ، وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْعُقُودِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ يُضَادُّ اللُّزُومَ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّزُومِ:
لُزُومُ الأَْمْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ
3 - مِنْهُ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ (لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) فِي الْفِتَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ فِي شَأْنِ الْفِتَنِ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَقَال حُذَيْفَةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَال: فَاعْتَزِل تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا (3) قَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ لُزُومِ جَمَاعَةِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 7.
(3) حديث حذيفة: " تلزم جماعة المسلمين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 35) .(35/234)
الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى الأَْئِمَّةِ (1) ، وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ بِالْجَابِيَةِ: " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ (2) ".
وَمِنْهُ (لُزُومُ الْعَمَل) بِمَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التَّطَوُّعَاتِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (3) ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا " كَانَتْ إِذَا عَمِلَتْ عَمَلاً لَزِمَتْهُ " (4) .
لَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَل الَّذِي دَخَل فِيهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى نِيَّةِ الاِلْتِزَامِ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، أَوْ يُورِثُ مَلَلاً، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا ابْتِدَاءً، لأَِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلِخَوْفِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ.
وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول
__________
(1) فتح الباري 13 / 35، 36، القاهرة، المكتبة السلفية 1373هـ. وحاشية ابن عابدين 3 / 311.
(2) فتح الباري 13 / 316، 345.
(3) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ". أخرجه مسلم (1 / 541) .
(4) فتح الباري 13 / 316، 345، وحديث عائشة تقدم تخريجه ف1.(35/235)
اللَّهِ قَال: فَلاَ تَفْعَل، صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَلْزَمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً مُخْتَرَعَةً فِي الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ يَرَاهَا لاَزِمَةً كَلُزُومِ الْفَرَائِضِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيَقْدَحُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهَا وَيَذُمُّهُ، أَوْ يَلْزَمُ مَكَانًا فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ فِيهِ (2) ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُل الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ (3) .
لُزُومُ الْغَرِيمِ:
4 - لُزُومُ الْغَرِيمِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَْسْلَمِيُّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 295 - 300 القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى. وحديث عبد الله بن عمرو: " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 217 - 218) .
(2) إغاثة اللهفان لابن القيم 1 / 133.
(3) حديث: " نهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 539) والحاكم (1 / 229) من حديث عبد الرحمن بن شبل، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(35/235)
ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُول: النِّصْفُ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا (1) .
وَيَأْخُذُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِعُقُوبَةِ الْمُلاَزَمَةِ، وَجَعَلُوهَا حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْحَبْسِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلْزِمَ غَرِيمَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ لَهُ مُلاَزَمَتَهُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَلِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلاَزِمَ الْغَرِيمَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي بِمُلاَزَمَتِهِ، وَلاَ فَلَّسَهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَطْلَقَهُ لإِِعْسَارِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَاضٍ، وَالرَّأْيُ فِي الْمُلاَزَمَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ شَاءَ لاَزَمَ الْمَدِينَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمَدِينُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّل غَيْرَهُ بِمُلاَزَمَتِهِ، فَإِنْ وَكَّل أَحَدًا بِمُلاَزَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ وَلاَ بِالْخُصُومَةِ، مَا لَمْ يَجْعَل إِلَيْهِ ذَلِكَ.
وَصِفَةُ الْمُلاَزَمَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُول إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ دُخُول بَيْتِهِ لِطَعَامٍ وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَلاَ يُلاَزِمُهُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ يُقِيمُهُ فِي الشَّمْسِ، أَوْ عَلَى الثَّلْجِ، أَوْ فِي
__________
(1) فتح الباري 1 / 551 و5 / 76 وحديث كعب بن مالك: " أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 76) .(35/236)
مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلٍ يَكْتَسِبُ مِنْهُ رِزْقَهُ، بَل يُلاَزِمُهُ وَهُوَ يَعْمَل، أَوْ يُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَل.
قَالُوا: وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ امْرَأَةً وَالطَّالِبُ رَجُلاً فَلَهُ أَنْ يُلاَزِمَهَا حَيْثُ لاَ تُخْشَى الْفِتْنَةُ، كَالسُّوقِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا حَيْثُ تُخْشَى الْفِتْنَةُ فَإِنَّهُ يُوَكِّل امْرَأَةً بِمُلاَزَمَتِهَا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَرَادَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ لُزُومَ الْمَدِينِ بَدَلاً عَنِ الْحَبْسِ مُكِّنَ مَا لَمْ يَقُل تَشُقُّ عَلَيَّ الطَّهَارَةُ وَالصَّلاَةُ مَعَ مُلاَزَمَتِهِ، وَيَخْتَارُ الْحَبْسَ، فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ وَمُلاَزَمَتُهُ وَيَجُوزُ مُلاَزَمَةُ الْمُوسِرِ الْمُمَاطِل إِنْ خِيفَ هُرُوبُهُ (3) .
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ مُلاَزَمَةُ الْمُعْسِرِ، قَالُوا: يَحْرُمُ مُلاَزَمَتُهُ بِحَيْثُ كُلَّمَا يَأْتِيهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ (4) .
اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ
5 - يَأْتِي اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 415 - 416 مطبعة بولاق 1311 هـ، وحاشية ابن عابدين 4 / 315، 412.
(2) نهاية المحتاج للرملي 8 / 241 القاهرة، مصطفى الحلبي.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 275 - 276.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل 3 / 280 القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.(35/236)
قَال الطُّوفِيُّ: الْوَاجِبُ هُوَ اللاَّزِمُ الْمُسْتَحَقُّ (1) .
مَصَادِرُ اللُّزُومِ:
اللُّزُومُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلْزَامِ الْغَيْرِ، أَوْ إِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى
6 - يَلْزَمُ الْعَبْدَ فِعْل مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، وَتَحَقُّقِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَإِذَا فَسَدَتْ لَزِمَ قَضَاؤُهَا.
وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ إِلْزَامَهُ بِكُل مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، كَالسَّفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ، وَالطَّهَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي قَاعِدَةِ " مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (2) ".
وَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ الْكَفُّ عَنْ كُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْفْعَال.
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ.
7 - مِمَّنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ شَرْعًا، وَتَلْزَمُ تَصَرُّفَاتُهُ عَلَى الْغَيْرِ، مَنْ يَلِي:
أ - وَلِيُّ الأَْمْرِ، وَهُوَ الإِْمَامُ الَّذِي صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ
__________
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي 1 / 266، بيروت، مؤسسة الرسالة 1410 هـ.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 176 وما بعدها، والمستصفى للغزالي 1 / 71.(35/237)
شَرْعًا، فَتَلْزَمُ طَاعَتُهُ الرَّعِيَّةَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (1) ، وَنُوَّابُ الإِْمَامِ تَلْزَمُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا أَنَابَهُمُ الإِْمَامُ فِيهِ، كَأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْوَالِي، وَالْمُتَوَلِّي جِبَايَةَ الزَّكَاةِ.
وَالطَّاعَةُ اللاَّزِمَةُ هُنَا هِيَ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلاَ طَاعَةَ لَهُ، لأَِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ أَلْزَمَ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. (ر: أُولُو الأَْمْرِ ف 5) .
ب - الْقَاضِي الَّذِي وَلاَّهُ الإِْمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فِي خُصُومَةٍ لَزِمَهُ الْحُكْمُ، وَكَذَا إِذَا حَجَرَ عَلَى سَفِيهٍ أَوْ مُفْلِسٍ لَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْحَجْرِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِي مَالٍ ضَالٍّ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَ تَصَرُّفُهُ (2) ، وَلِلْقَاضِي إِلْزَامُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ (3) .
(ر: قَضَاءٌ ف 27) .
ج - الزَّوْجُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ زَوْجَتَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
(ر: طَاعَةٌ ف 10) .
د - التَّصَرُّفُ بِالْوِلاَيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الأَْبِ فِي مَال وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ بِمَا فِيهِ
__________
(1) سورة النساء / 59.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 138.
(3) انظر شرح المنتهى 2 / 292.(35/237)
مَصْلَحَتُهُمَا، وَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ كَذَلِكَ. (ر: وِلاَيَةٌ) .
هـ - التَّصَرُّفُ بِالْوَكَالَةِ، فَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيل لاَزِمَةٌ لِلْمُوَكِّل فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ. (ر: وَكَالَةٌ) .
اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ
8 - قَدْ يُلْزِمُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِأَمْرٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ شَرْعًا إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَل الْتِزَامَهُ سَبَبًا لِلُّزُومِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الْعَقْدُ، فَإِذَا عَقَدَا بَيْنَهُمَا عَقْدًا لَزِمَهُمَا حُكْمُهُ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَلْزَمُ بِهِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، وَكَعَقْدِ الإِْجَارَةِ يَلْزَمُ بِهِ الأَْجِيرَ الْعَمَل، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ الأُْجْرَةُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا كُل شَرْطٍ صَحِيحٍ الْتَزَمَهُ الْعَاقِدُ فِي الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (2) ، عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفًا وَتَفْصِيلاً فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لاَ يَصِحُّ، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِرَاطٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (634 - 635) من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن صحيح.(35/238)
ب - تَصَرُّفَاتٌ فَرْدِيَّةٌ قَوْلِيَّةٌ تَلْزَمُ الْمُتَصَرِّفَ أَحْكَامُهَا بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الْقَوْل عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْكَفَالَةُ وَالْعَهْدُ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ، وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
وَدُخُول الْكَافِرِ فِي الإِْسْلاَمِ الْتِزَامٌ إِجْمَالِيٌّ لأَِحْكَامِهِ (1) .
لُزُومُ الْعُقُودِ وَجِوَازُهَا
9 - يُقْصَدُ بِلُزُومِ الْعَقْدِ عَدَمُ جَوَازِ فَسْخِهِ مِنْ قِبَل أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَمَا جَازَ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الآْخَرِ يُسَمَّى عَقْدًا جَائِزًا.
فَالْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ عُقُودٌ لاَزِمَةٌ، إِذْ إِنَّهَا مَتَى صَحَّتْ لاَ يَجُوزُ فَسْخُهَا بِغَيْرِ التَّقَايُل، وَلَوِ امْتَنَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا أُجْبِرَ.
وَعَقْدُ النِّكَاحِ لاَزِمٌ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَصْلاً، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، لأَِنَّهُ وُضِعَ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا يُفْسَخُ لِضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْبَل الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي (2) .
وَالْوَدِيعَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ عُقُودٌ جَائِزَةٌ، لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ
__________
(1) شرح جمع الجوامع في أصول الفقه 2 / 306.
(2) المنثور للزركشي 3 / 47.(35/238)
الآْخَرِ، وَمِثْلُهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَابَقَةُ وَالْعَارِيَةُ وَالْقَرْضُ وَالاِسْتِصْنَاعُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ لاَزِمًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزًا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخَرِ، كَالرَّهْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُهُ دُونَ الرَّاهِنِ (1) .
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ اللاَّزِمِ مَا يَجْعَلُهُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ إِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ تَبَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَيَكُونُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، كَالإِْجَارَةِ إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ مُرْضِعًا لِطِفْلِهِ فَمَاتَ الطِّفْل (2) .
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ الْجَائِزِ مَا يَجْعَلُهُ لاَزِمًا وَمِثَال ذَلِكَ الْوَكَالَةُ، فَهِيَ فِي الأَْصْل جَائِزَةٌ، فَلِلْوَكِيل أَنْ يَفْسَخَهَا وَيَعْزِل نَفْسَهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِلَهُ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيل بِمَا وَكَّل فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِلَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّل الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ لِيَكُونَ وَفَاءً لِلْقَرْضِ فَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْتَقْرِضِ عَزْلُهُ، وَكَالرَّهْنِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ تَوْكِيل الْمَدِينِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ، فَلاَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ عَزْلُهُ لِمَا فِي عَزْلِهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ الْمُرْتَهِنِ (3) وَكَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل تَلْزَمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ تَلْزَمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (4)
__________
(1) القليوبي 4 / 368.
(2) الاختيار 2 / 12 - 18، 62.
(3) الاختيار لتعليل المختار 2 / 163.
(4) بداية المجتهد 2 / 240.(35/239)
وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ جَائِزًا، فَإِنِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ دُونَ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، ابْتَدَأَ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ حِينَئِذٍ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُخْتَلِفًا فِي مَدَى لُزُومِهِ أَوْ جَوَازِهِ كَالْهِبَةِ مَثَلاً، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا قَبْل الْقَبْضِ جَائِزَةٌ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لاَ غَيْرُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ زَوْجًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا أَوْ قَضَاءِ قَاضٍ (2) .
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ تَفْصِيلاَتٌ فِي مَدَى لُزُومِهَا أَوْ جِوَازِهَا، فَيُرْجَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ لاَزِمٍ
10 - الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى الْبَاطِل، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل لِصُدُورِهِ عَنْ
__________
(1) شرح المنتهى 2 / 227، 305، والمغني لابن قدامة 4 / 315، والاختيار 2 / 5، والقليوبي 2 / 191، 195.
(2) بداية المجتهد 2 / 330، والاختيار 3 / 52 - 53، والقليوبي 3 / 112.(35/239)
أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَتَمَامِ رُكْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ، لَكِنْ فَسَدَ لِوَصْفِهِ أَيْ لِفَقْدِهِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَاشْتِمَال الْبَيْعِ عَلَى جَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوِ الأَْجَل، أَوْ عَلَى شَرْطٍ مُفْسِدٍ، أَوْ رِبًا.
وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا، لأَِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ إِنْ قَامَ الْعَاقِدَانِ بِإِزَالَةِ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ. كَإِسْقَاطِ الأَْجَل الْمَجْهُول مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَلْزَمُ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ، عَادَ الْجَوَازُ (1) .
(ر: بُطْلاَنٌ ف 10) .
حُكْمُ الْوَعْدِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ أَوِ اللُّزُومُ
11 - الْوَعْدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَقِيل يَلْزَمُ الْوَاعِدَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً وَلاَ يَلْزَمُ قَضَاءً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ، وَرَابِعُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، كَأَنْ قَال: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِيكَ مَا تَدْفَعُهُ مَهْرًا، أَوِ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِيهَا بِهِ، فَتَزَوَّجَ أَوْ هَدَمَ دَارَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 22، وابن عابدين 4 / 127.
(2) الفروق للقرافي: الفرق 214، والأذكار للنووي ص 270، وفتاوى الشيخ عليش 1 / 254 - 258، وكشاف القناع 6 / 284 طبع الرياض، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 238.(35/240)
(انْظُرِ: الْتِزَامٌ ف 43، وَوَعْدٌ) .
اللُّزُومُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
12 - اللُّزُومُ أَنْ يَثْبُتَ أَمْرًا عِنْدَ ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ، كَلُزُومِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ أَوِ الْمَعْلُول لِلْعِلَّةِ، فَالأَْوَّل اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي الْمَلْزُومُ (1) .
وَالتَّعْبِيرُ بِاللاَّزِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ عَكْسُهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، أَمَّا إِنِ اسْتُعْمِل اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأُرِيدَ لاَزِمُ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَدَلاَلَةُ الْكَلاَمِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ لاَزِمٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلاَمُ لأَِجْلِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلاَلاَتِ اللَّفْظِيَّةِ يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ إِشَارَةَ النَّصِّ، كَدَلاَلَةِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} (2) مَعَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (3) عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْل يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ (4) .
وَلاَزِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ، فَمَنْ قَال كَلاَمًا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ كُفْرًا فِي ذَاتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِتَكْفِيرِهِ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا اللاَّزِمَ (5) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص395، 397، والمستصفى 1 / 33، 35، وروضة الناظر ص19، 23.
(2) سورة الأحقاف / 15.
(3) سورة لقمان / 14.
(4) انظر أصول السرخسي 1 / 236، 237، والآمدي 3 / 92، 93.
(5) انظر المنثور في القواعد للزركشي 3 / 90، والقليوبي على شرح المنهاج 4 / 175.(35/240)
وَحُكْمُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ هَل هُوَ حُكْمٌ بِلاَزِمِهِ؟ قَال الْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلاَفِ اللاَّزِمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأَْوَّل، وَمَثَّلُوا لَهُ بِحُكْمِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمًا بِبُطْلاَنِ الْعِتْقِ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأَْوَّل بِالاِجْتِهَادِ، وَالاِجْتِهَادُ لاَ يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 474.(35/241)
لِسَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّسَانُ لُغَةً: جِسْمٌ لَحْمِيٌّ مُسْتَطِيلٌ مُتَحَرِّكٌ يَكُونُ فِي الْفَمِ، وَيَصْلُحُ لِلتَّذَوُّقِ وَالْبَلْعِ وَالنُّطْقِ، وَيُذْكَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَفْظٌ، فَيُجْمَعُ عَلَى أَلْسِنَةٍ وَأَلْسُنٌ وَلُسُنٌ وَهُوَ الأَْكْثَرُ.
يُقَال: لِسَانُهُ فَصِيحٌ أَيْ نُطْقُهُ فَصِيحٌ، وَيُؤَنَّثُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لُغَةٌ فَيُجْمَعُ عَلَى أَلْسُنٍ وَيُقَال: لُغَتُهُ فَصِيحَةٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّغَةُ:
2 - اللُّغَةُ هِيَ مَا يُعَبِّرُ بِهَا كُل قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ (2) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ أَنَّ اللِّسَانَ
__________
(1) لسان العرب، والمفردات، والمعجم الوسيط مادة (لسن) .
(2) لسان العرب.(35/241)
يَكُونُ مُرَادِفًا لِلُّغَةِ فِي أَحَدِ إِطْلاَقَيْهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللِّسَانِ:
يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا:
أ - حِفْظُ اللِّسَانِ
3 - يُنْدَبُ حِفْظُ اللِّسَانِ عَنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَأَمَّا عَنْ مُحَرَّمٍ كَالْخَوْضِ فِي الْبَاطِل وَالْفُحْشِ وَالسَّبِّ وَالْبَذَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالسُّخْرِيَّةِ وَالاِسْتِهْزَاءِ فَوَاجِبٌ وَيَتَأَكَّدُ وُجُوبُهُ فِي الصَّوْمِ (1) . فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ (2) ، فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ خَيْرًا وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ لَهُ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلاَ يَتَكَلَّمُ.
وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ الْكَلاَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ قَبْل كَلاَمِهِ: فَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ تَكَلَّمَ، وَإِنْ شَكَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى تَظْهَرَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ الإِْسْلاَمِ أَفْضَل؟ قَال: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 196، ومختصر منهاج القاصدين ص165 - 171.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 308) ومسلم (1 / 68) .(35/242)
لِسَانِهِ وَيَدِهِ (1) ، فَاللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ وَلِطَائِفِ صُنْعِهِ الْغَرِيبَةِ، فَإِنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ عَظِيمٌ طَاعَتُهُ وَجُرْمُهُ، إِذْ لاَ يَسْتَبِينُ الْكُفْرُ وَالإِْيمَانُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ اللِّسَانِ، وَلاَ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَنْجُو مِنْ شَرِّ اللِّسَانِ إِلاَّ مَنْ قَيَّدَهُ بِلِجَامِ الشَّرْعِ (2) ، قَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ (3) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: لَفْظٌ ف 13) .
ب - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الطَّلاَقِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلاَقِ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (خَطَأٌ ف 60، وَطَلاَقٌ ف 20) .
ج - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الْيَمِينِ:
5 - مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلاَ قَصْدٍ لِمَعْنَاهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ يَمِينِهِ.
__________
(1) حديث أبي موسى الأشعري: " أي الإسلام أفضل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 54) ومسلم (1 / 66) .
(2) الفتوحات الربانية 6 / 342، وإحياء علوم الدين 3 / 108.
(3) حديث معاذ: " يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 12) وقال: حديث حسن صحيح.(35/242)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَيْمَانٌ ف 103 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الظِّهَارِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ الظِّهَارُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ظِهَارٌ ف 18) .
هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ اللِّسَانِ بِاللِّسَانِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 22) .
دِيَةُ اللِّسَانِ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ (1) ، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً، وَكَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ إِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَخَرِسَ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ، فَأَشْبَهَ إِذَا جَنَى عَلَى الْيَدِ فَشُلَّتْ أَوِ الْعَيْنِ فَعَمِيَتْ، وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلاَمِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، لأَِنَّ مَا ضُمِنَ جَمِيعُهُ بِالدِّيَةِ ضُمِنَ بَعْضُهُ بِبَعْضِهَا كَالأَْصَابِعِ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " وفي اللسان الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) تبيين الحقائق 6 / 129، وفتح القدير 8 / 308، وبدائع الصنائع 7 / 311، والخرشي 8 / 40، ومغني المحتاج 4 / 205، والمهذب 2 / 204، والمغني 8 / 15، وكشاف القناع 6 / 40 وما بعدها.(35/243)
وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَذَهَبَ ذَوْقُهُ فَلاَ يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَذَاقِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَاسَّةً لِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ السَّمْعَ أَوِ الْبَصَرَ، وَإِنْ نَقَصَ بَعْضُ الذَّوْقِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ لاَ يَتَقَدَّرُ بِأَنْ كَانَ يُحِسُّ بِالْمَذَاقِ الْخَمْسِ وَهِيَ الْحَلاَوَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُدْرِكُهَا عَلَى كَمَالِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الأَْرْشِ فِيهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا يَتَقَدَّرُ بِأَنْ لاَ يُدْرَكَ بِأَحَدِ الْمَذَاقِ الْخَمْسِ وَيُدْرَكُ بِالْبَاقِي وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسَانِ، لأَِنَّهُ يَتَقَدَّرُ الْمُتْلَفُ فَيُقَدَّرُ الأَْرْشُ (1) .
وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ لِسَانٌ لَهُ طَرَفَانِ فَقَطَعَ رَجُلٌ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ فَذَهَبَ كَلاَمُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ رُبُعُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنَ الْكَلاَمِ شَيْءٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْخِلْقَةِ فَهُمَا كَاللِّسَانِ الْمَشْقُوقِ وَيَجِبُ بِقَطْعِهِمَا الدِّيَةُ، وَبِقَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَامَّ الْخِلْقَةِ وَالآْخَرُ
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 35، والخرشي 8 / 40، والاختيار 5 / 37، والمهذب 2 / 205، والمغني 8 / 209.(35/243)
نَاقِصَ الْخِلْقَةِ فَالتَّامُّ هُوَ اللِّسَانُ الأَْصْلِيُّ وَالآْخَرُ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ التَّامَّ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ النَّاقِصَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ (1) .
وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَذَهَبَ كَلاَمُهُ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ، ثُمَّ عَادَ الْكَلاَمُ وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ الْكَلاَمَ إِذَا ذَهَبَ لَمْ يَعُدْ، فَلَمَّا عَادَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَارِضٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَاتٌ ف 36) .
قَطْعُ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَالصَّغِيرِ
9 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ قَطْعِ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَلِسَانِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فِي (دِيَاتٌ ف 37) .
لِصٌّ
انْظُرْ: سَرِقَةٌ
__________
(1) المهذب 2 / 205، والمغني 8 / 29.
(2) المهذب 2 / 205.(35/244)
لَطْمٌ
التَّعْرِيفُ
1 - اللَّطْمُ: فِي اللُّغَةِ الضَّرْبُ عَلَى الْخَدِّ بِبَسْطِ الْكَفِّ، يُقَال: لَطَمَتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا لَطْمًا: ضَرَبَتْهُ بِبَاطِنِ كَفِّهَا، وَاللَّطْمَةُ الْمَرَّةُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، قَال الزُّرْقَانِيُّ: اللَّطْمَةُ هِيَ ضَرْبَةٌ عَلَى الْخَدَّيْنِ بِبَاطِنِ الرَّاحَةِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّفْعُ:
2 - الصَّفْعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ أَنْ يَبْسُطَ الرَّجُل كَفَّهُ فَيَضْرِبَ بِهَا قَفَا الإِْنْسَانِ أَوْ بَدَنَهُ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ عَلَى شَرْحِ الْكَنْزِ: الصَّفْعُ هُوَ الضَّرْبُ عَلَى الْقَفَا بِالْكَفِّ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّطْمَ يَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 4 / 177، والمصباح المنير.
(2) شرح الزرقاني 8 / 17.
(3) المصباح المنير.
(4) حاشية أبي السعود على شرح الكنز 2 / 385.(35/244)
وَالصَّفْعَ عَلَى الْقَفَا.
ب - الْوَكْزُ
3 - الْوَكْزُ لُغَةً: الدَّفْعُ وَالطَّعْنُ وَالضَّرْبُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبُهُوتِيُّ: الْوَكْزُ هُوَ الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ (2) . وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّطْمَ يَكُونُ بِبَسْطِ الْكَفِّ وَالْوَكْزَ بِجَمِيعِ الْكَفِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّطْمِ:
لَطْمُ الْخُدُودِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ لَطْمُ الْخُدُودِ وَخَمْشُهَا وَشَقُّ الْجُيُوبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأَْفْعَال عِنْدَ الْمُصِيبَةِ (3) ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ (4) .
الْقِصَاصُ مِنَ اللَّطْمَةِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ مِنْ لَطْمَةٍ عَلَى الْخَدِّ إِذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْهَا جُرْحٌ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) كشاف القناع 6 / 121، وانظر معين الحكام ص 221.
(3) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص594 - 595، والقوانين الفقهية ص95، والمجموع 5 / 307، ومطالب أولي النهى 1 / 88، وفتح الباري 3 / 163 - 164، وعمدة القاري 8 / 87، 93.
(4) حديث: " ليس منا من ضرب الخدود. . . ". أخرجه مسلم (1 / 99) من حديث ابن مسعود.(35/245)
وَلاَ ذَهَابُ مَنْفَعَةٍ بَل فِيهَا التَّعْزِيرُ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَقَال: هُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَصِّ مَذْهَبِهِ وَأُصُولِهِ كَمَا خَرَجَ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ.
وَاسْتَدَل بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (4) فَأَمَرَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ، وَالأَْمْثَل هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَهَذَا الْمَضْرُوبُ قَدِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفْعَل بِالْمُعْتَدِي كَمَا فُعِل بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مَا هُوَ الأَْقْرَبُ وَالأَْمْثَل، وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ لَطْمَةً بِلَطْمَةٍ وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ فِي مَحَلِّهِمَا بِالآْلَةِ الَّتِي لَطَمَهُ بِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 353، وشرح الزرقاني 8 / 15، وكشاف القناع 5 / 548، 6 / 121، ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من أحكام ص221، والفتاوى الهندية 6 / 9، وأسنى المطالب 4 / 68.
(2) سورة الشورى / 40.
(3) سورة البقرة / 194.
(4) سورة النحل / 136.(35/245)
الْمَأْمُورِ بِهَا حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ تَعْزِيرِهِ بِهَا بِغَيْرِ جِنْسِ اعْتِدَائِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ (1) .
لُعَابٌ
انْظُرْ: رِيقٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 318 - 319.(35/246)
لِعَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّعَانُ مَصْدَرُ لاَعَنَ، وَفِعْلُهُ الثُّلاَثِيُّ لَعَنَ مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيل: الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ السَّبُّ.
وَالْمُلاَعَنَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: إِذَا قَذَفَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ أَوْ رَمَاهَا بِرَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: شَهَادَاتٌ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُؤَكَّدَةٌ بِالأَْيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَبِالْغَضَبِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: حَلِفُ زَوْجٍ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَلَى زِنَا زَوْجَتِهِ أَوْ عَلَى نَفْيِ حَمْلِهَا مِنْهُ، وَحَلِفُهَا عَلَى تَكْذِيبِهِ أَرْبَعًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِصِيغَةِ أُشْهِدُ اللَّهَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ (3) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كَلِمَاتٌ مَعْلُومَةٌ
__________
(1) لسان العرب مادة " لعن ".
(2) بدائع الصنائع 3 / 241، وفتح القدير 3 / 248، وكشاف القناع 5 / 390.
(3) الشرح الصغير 2 / 657.(35/246)
جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ الْعَارَ بِهِ أَوْ إِلَى نَفْيِ وَلَدٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّبُّ:
2 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا هُوَ الشَّتْمُ: وَهُوَ كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ (2)
وَالسَّبُّ قَدْ يُوجِبُ اللِّعَانَ أَوْ لاَ يُوجِبُهُ بِحَسَبِ مَا إِذَا كَانَ فِيهِ رَمْيٌ لِلزَّوْجَةِ بِزِنًا أَوْ لاَ.
ب - الْقَذْفُ
3 - الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ مُطْلَقًا. وَاصْطِلاَحًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا (3) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ اللِّعَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (5) أَيْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 367.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 309 وتاج العروس.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 43 - 44، والمغني لابن قدامة 8 / 215.
(4) مغني المحتاج 4 / 155.
(5) سورة النور / 6.(35/247)
فَلْيَشْهَدْ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ. جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال عُلَيْشٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا: وَذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ ثُمَّ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ يَنْفِيَ حَمْلاً يَدَّعِي اسْتِبْرَاءً قَبْلَهُ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا وَلاَ يَدَّعِي رُؤْيَةً وَلاَ نَفْيَ حَمْلٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ قَالُوا: يُحَدُّ وَلاَ يُلاَعَنُ (2) .
وَاللِّعَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِدَفْعِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ أَوْ نَفْيِ وَلَدِهِ مِنْهَا، وَلَهُ اللِّعَانُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ لِنَفْيِ نَسَبِ وَلَدٍ أَوْ حَمْلٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَكَانَ بِسُكُوتِهِ مُسْتَلْحِقًا لِمَنْ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَذَفَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا فَلَهُ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ (4) ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهُ أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ قَذْفِهَا أَوْ أَسْقَطَتْهُ أَوْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهَا ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ لِعَانَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفِيَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 238، والفتاوى الهندية 1 / 515.
(2) منح الجليل 2 / 357.
(3) نهاية المحتاج 7 / 106، ومغني المحتاج 3 / 382.
(4) الإنصاف 9 / 235.(35/247)
هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَقَال الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَل أَنْ لاَ يُشْرَعَ اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا لَوْ قَذَفَهَا فَصَدَّقَتْهُ (1) .
رُكْنُ اللِّعَانِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ اللِّعَانِ هُوَ الشَّهَادَاتُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي تَعْرِيفِهِمْ، فَتَكُونُ رُكْنًا لَهُ (2) ، لأَِنَّ تَحَقُّقَ اللِّعَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِهَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي تَكْوِينِهِ.
وَنَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَرْكَانَ اللِّعَانِ أَرْبَعَةٌ هِيَ: الْمُلاَعِنُ، وَالْمُلاَعَنَةُ، وَالسَّبَبُ، وَاللَّفْظُ (3) .
شُرُوطُ اللِّعَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
6 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ فِي اللِّعَانِ شُرُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجُل، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الزَّوْجِ:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
__________
(1) المغني 7 / 405.
(2) البحر الرائق 4 / 122، وحاشية ابن عابدين 2 / 585، وفتح القدير 3 / 247.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ص210.(35/248)
زَوْجَتِهِ أَلاَّ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي اللِّعَانِ عَدَمَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ فِي قَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ} (1) ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّهَمَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، وَأَتَى بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ وَشَهِدُوا بِزِنَا الزَّوْجَةِ لاَ يَثْبُتُ اللِّعَانُ، وَيُقَامُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا، لأَِنَّ زِنَا الزَّوْجَةِ قَدْ ظَهَرَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى اللِّعَانِ (2) .
ب - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الزَّوْجَةِ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجَةِ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ شَرْطَانِ الأَْوَّل: إِنْكَارُ الزَّوْجَةِ وُجُودَ الزِّنَا مِنْهَا حَتَّى لَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لاَ يَجِبُ اللِّعَانُ، وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا لِظُهُورِ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا.
الثَّانِي: عِفَّةُ الزَّوْجَةِ مِنَ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً لاَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِقَذْفِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَقَدْ صَدَّقَتْهُ بِفِعْلِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا (3) .
وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا: أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِجْرَاءَ اللِّعَانِ إِذَا قَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَا أَوْ نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ مِنَ الْقَاضِي إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
__________
(1) سورة النور / 6.
(2) بدائع الصنائع 3 / 240، وحاشية ابن عابدين 2 / 963، ومغني المحتاج 3 / 381.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 267 ط. بولاق، وبدائع الصنائع 3 / 340.(35/248)
زَوْجِهَا لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ الزَّوْجَةِ فَكَانَ حَقًّا لَهَا فَلاَ يُقَامُ إِلاَّ بِطَلَبٍ مِنْهَا كَسَائِرِ حُقُوقِهَا (1) .
ج - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَإِذَا كَانَ الزَّوَاجُ قَائِمًا بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَكَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا - دَخَل الزَّوْجُ بِالْمَرْأَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُل - أُقِيمَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ اللِّعَانَ بِالأَْزْوَاجِ، فَيَدُل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوَاجِ شَرْطٌ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ فَاسِدًا وَقَذَفَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا مِنْهُ لاَ يَثْبُتُ اللِّعَانُ بِهَذَا الْقَذْفِ (2) ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالأَْزْوَاجِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا وَإِذَا انْتَفَى اللِّعَانُ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَذْفِ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْحَدُّ (3) .
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ بِأَنْ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 3 / 250، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 966.
(2) بدائع الصنائع 3 / 241، وحاشية ابن عابدين 2 / 585.
(3) بدائع الصنائع 3 / 241.(35/249)
يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلاً حُرًّا قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَالزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخْرَسَ لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ (1) .
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ فَيُصَارُ إِلَى الْمُوجِبِ الأَْصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (2) ، وَاللِّعَانُ خَلَفٌ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ لِعَانَ، لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ الإِْحْصَانِ فِي جَانِبِهَا وَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ كَمَا إِذَا صَدَّقَتْهُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَحَضْرَةُ الْحَاكِمِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 241، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 963 و964.
(2) سورة النور / 4.
(3) الهداية مع فتح القدير 3 / 251 - 252.
(4) بدائع الصنائع 3 / 242.(35/249)
د - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ
10 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ أَوْ جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِالزِّنَا أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ (1) .
شُرُوطُ اللِّعَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ فِي الزَّوْجِ.
ثَانِيًا: الْقَذْفُ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا أَوْ بِنَفْيِ الْحَمْل.
ثَالِثًا: تَعْجِيل اللِّعَانِ بَعْدَ الْعِلْمِ لِنَفْيِ الْحَمْل أَوِ الْوَلَدِ.
رَابِعًا: عَدَمُ الْوَطْءِ بَعْدَ الْقَذْفِ.
خَامِسًا: لَفْظُ: أَشْهَدُ فِي الأَْرْبَعِ، وَاللَّعْنُ مِنَ الزَّوْجِ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْغَضَبُ مِنَ الزَّوْجَةِ فِي الْخَامِسَةِ.
سَادِسًا: بَدْءُ الزَّوْجِ بِالْحَلِفِ، فَإِنْ بَدَأَتِ الزَّوْجَةُ أَعَادَتْ بَعْدَهُ.
سَابِعًا: حُضُورُ جَمَاعَةٍ لِلِّعَانِ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعُدُول (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ اللِّعَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 243.
(2) القوانين الفقهية ص241، والشرح الصغير 2 / 657 - 665.(35/250)
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْمُلاَعِنُ زَوْجًا يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلْيَمِينِ، لأَِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً مُخْتَارًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ زَوْجًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَوْ فِي الصُّورَةِ، وَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالرَّشِيدِ وَالسَّفِيهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَحْدُودِ وَالْمُطْلَقِ رَجْعِيًّا وَغَيْرِهِمْ.
ثَانِيًا: أَنْ يَسْبِقَ اللِّعَانَ قَذْفٌ لِلزَّوْجَةِ.
ثَالِثًا: أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ بِاللِّعَانِ.
رَابِعًا: أَنْ يُلَقِّنَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ.
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ بِأَلْفَاظِ الشَّهَادَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ.
سَادِسًا: أَنْ يُتِمَّ الْمُتَلاَعِنَانِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ.
سَابِعًا: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ.
ثَامِنًا: أَنْ يَتَأَخَّرَ لِعَانُ الزَّوْجَةِ عَنْ لِعَانِ الزَّوْجِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ لِلِّعَانِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُ اللِّعَانِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 334، ومغني المحتاج 3 / 367 - 376، 378، ونهاية المحتاج 7 / 113.(35/250)
أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا فِي الْقُبُل أَوِ الدُّبُرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ.
الثَّالِثُ: أَنْ تُكَذِّبَهُ الزَّوْجَةُ فِي قَذْفِهِ إِيَّاهَا وَيَسْتَمِرُّ تَكْذِيبُهَا إِلَى انْقِضَاءِ اللِّعَانِ (1) .
مَا يَثْبُتُ بِهِ اللِّعَانُ عِنْدَ الْقَاضِي
12 - يَثْبُتُ اللِّعَانُ عِنْدَ الْقَاضِي بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: الإِْقْرَارُ بِالْقَذْفِ مِنَ الزَّوْجِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا فَرَفَعَتِ الزَّوْجَةُ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَطَالَبَتْ بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَأَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ رَمَاهَا بِالزِّنَا حَكَمَ الْقَاضِي بِإِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، مَتَى تَوَافَرَتْ شَرَائِطُ وُجُوبِهِ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْبَيِّنَةُ، وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا اتَّهَمَهَا بِالزِّنَا، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ فَأَقَامَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَتْهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِإِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِنَاءً عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.
وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يَتَثَبَّتُ الْقَذْفُ بِهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلاَ يُقْبَل فِي إِثْبَاتِ الْقَذْفِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، لأَِنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الرَّجُل، وَقَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 394 - 399، ونيل المآرب 2 / 266 - 267.(35/251)
وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ لاَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا رَمَاهَا بِالزِّنَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الزَّوْجَةُ إِثْبَاتَ مَا ادَّعَتْهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلاَ تُوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَى الزَّوْجِ، وَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْحَلِفِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فَائِدَةَ تَوْجِيهِ الْيَمِينِ هِيَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ إِذَا نَكَل عَنِ الْحَلِفِ، وَالنُّكُول لَيْسَ إِقْرَارًا صَرِيحًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ فِي الْمَعْنَى، وَالإِْقْرَارُ فِي الْمَعْنَى تَكُونُ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالشُّبْهَةُ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ بِهَا (1) .
كَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ فِي اللِّعَانِ هُوَ الزِّنَا فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقِيمَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَيَأْمُرُ الزَّوْجَ أَوَّلاً أَنْ يَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُول فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 243، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 907 و908، والمغني 7 / 408، وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 369.(35/251)
الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى لَفْظِ الْمُوَاجَهَةِ، فَيَقُول الزَّوْجُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُول فِي كُل مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِكِ، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُول فِي كُل مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهَا، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهِ (1) .
14 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ هُوَ الزِّنَا يَقُول الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي إِذَا كَانَ بَصِيرًا، فَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُول: لَعَلِمْتُهَا تَزْنِي أَوْ لَتَيَقَّنْتُهَا تَزْنِي، ثُمَّ يَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهَا، وَتَقُول الزَّوْجَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا زَنَيْتُ أَوْ مَا رَآنِي أَزْنِي، وَتُخَمِّسُ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ هُوَ نَفْيَ الْحَمْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 237.(35/252)
فَيَقُول الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْل مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَتَقُول الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: مَا زَنَيْتُ، وَتَقُول فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (1) .
15 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: اللِّعَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَقَطْ، أَوْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، أَوْ يَكُونَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ فَقَطْ.
فَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ فَقَطْ فَإِنَّ صِفَتَهُ مِنَ الرَّجُل أَنْ يَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ - إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ وَصْفَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنَ الزِّنَا، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَنَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ يَقُول فِي كُلٍّ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةً - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ وَصْفَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنَ الزِّنَا، وَأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ - إِنْ غَابَ - أَوْ هَذَا الْوَلَدُ - إِنْ حَضَرَ -
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 465 - 466، والشرح الصغير 2 / 664 - 665.(35/252)
مِنْ زِنًا وَلَيْسَ مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا وَمِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِنَفْيِ وَلَدٍ وَلَيْسَ لِدَرْءِ حَدٍّ فَيَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ - إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ صِفَتَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنْ إِصَابَةِ غَيْرِي لَهَا عَلَى فِرَاشِي وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ لاَ مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لاَ تُلاَعِنُ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ، إِذْ لاَ حَدَّ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الرَّجُل.
أَمَّا فِي الْحَالَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَصِيغَةُ لِعَانِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُول (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) بَعْدَ لِعَانِهِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ - وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ حَضَرَ وَإِلاَّ مَيَّزَتْهُ كَمَا مَرَّ فِي لِعَانِ الرَّجُل - مِنَ الزِّنَا، وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي لِعَانِهَا حُكْمٌ، وَتَقُول فِي الشَّهَادَةِ الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَقَالُوا: خُصَّ الْغَضَبُ بِهَا لأَِنَّ جَرِيمَةَ زِنَاهَا الَّتِي لاَعَنَتْ لإِِسْقَاطِ حَدِّهِ أَقْبَحُ مِنْ جَرِيمَةِ قَذْفِهِ، وَالْغَضَبُ وَهُوَ الاِنْتِقَامُ بِالْعَذَابِ أَغْلَظُ مِنَ اللَّعْنِ الَّذِي هُوَ الْبُعْدُ(35/253)
عَنِ الرَّحْمَةِ (1) .
وَلاَ يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ إِلاَّ إِذَا تَمَّتِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالْفُرْقَةِ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، لأَِنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالإِْجْمَاعِ، فَلاَ يَنْفُذُ كَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْبَاطِلَةِ.
وَلَوْ قَال بَدَل كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أُولِي بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، أَوْ قَال: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَبْدَل لَفْظَ اللَّعْنِ بِالإِْبْعَادِ، أَوْ لَفْظَ الْغَضَبِ بِالسَّخَطِ، أَوِ الْغَضَبَ بِاللَّعْنِ أَوْ عَكَسَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الأَْصَحِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ قَطْعًا فِي إِبْدَال الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ، وَلاَ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَى: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَيُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ لَفْظَتَيِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ عَنِ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيُشْتَرَطُ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيُؤَثِّرُ الْفَصْل الطَّوِيل.
وَيُشْتَرَطُ فِي لِعَانِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِهِ، فَيَقُول لِلْمُلاَعِنِ: قُل: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. . . إِلَى آخِرِهَا.
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ لِعَانِهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُل.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلاَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 107 - 109، ومغني المحتاج 3 / 374، 375.(35/253)
كِتَابَةٌ، لَمْ يَصِحَّ قَذْفُهُ وَلاَ لِعَانُهُ، وَلاَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، أَوْ كِتَابَةٌ، صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لاَعَنَ بِالإِْشَارَةِ، أَشَارَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ بِكَلِمَةِ اللَّعْنِ، وَإِنْ لاَعَنَ بِالْكِتَابَةِ كَتَبَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ اللَّعْنِ، وَيُشِيرُ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلاَ يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَوْ لاَعَنَ الأَْخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ، ثُمَّ عَادَ نُطْقُهُ وَقَال: لَمْ أُرِدِ اللِّعَانَ بِإِشَارَتِي، قُبِل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ، فَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَالْحَدُّ، وَلاَ يُقْبَل فِيمَا لَهُ، فَلاَ تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ فِي الْحَال لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ، وَلَوْ قَال: لَمْ أُرِدِ الْقَذْفَ أَصْلاً، لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ.
وَلَوْ قَذَفَ نَاطِقٌ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْكَلاَمِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَال مَا بِهِ، فَهُوَ كَالأَْخْرَسِ، وَإِنْ رُجِيَ، فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لاَ يَنْظُرُ، بَل يُلاَعِنُ بِالإِْشَارَةِ لِحُصُول الْعَجْزِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فَلَحِقَهُ نَسَبٌ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: يُنْتَظَرُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ.
وَأَصَحُّهَا: يُنْتَظَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَنَقَل الإِْمَامُ أَنَّ الأَْئِمَّةَ صَحَّحُوهُ.
وَعَلَى هَذَا، فَالْوَجْهُ أَنْ(35/254)
يُقَال: إِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يُنْتَظَرُ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْتَظَرُ أَصْلاً.
وَمَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، يُلاَعِنُ بِلِسَانِهِ، وَيُرَاعَى تَرْجَمَةُ الشَّهَادَةِ وَاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ، فَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَهَل يَتَعَيَّنُ اللِّعَانُ بِهَا، أَمْ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ بِأَيِّ لِسَانٍ شَاءَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.
وَإِذَا لاَعَنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُحْسِنُ تِلْكَ اللُّغَةَ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى مُتَرْجِمٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ، وَيَكْفِيَانِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تُلاَعِنُ لِنَفْيِ الزِّنَا لاَ لإِِثْبَاتِهِ، وَفِي جَانِبِ الرَّجُل طَرِيقَانِ.
أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالاِكْتِفَاءِ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ سَلَمَةَ.
وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الإِْقْرَارِ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَالأَْظْهُرُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ (1) .
16 - وَصِفَةُ اللِّعَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الزَّوْجُ بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ أَوْ نَائِبِهِ، وَكَذَا لَوْ حَكَّمَ رَجُلاً أَهْلاً لِلْحُكْمِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَا مُشِيرًا إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَمَا دَامَتْ حَاضِرَةً فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيَتِهَا وَبَيَانِ نَسَبِهَا،
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 351 - 353.(35/254)
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً بِالْمَجْلِسِ سَمَّاهَا وَنَسَبَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ حَتَّى تَنْتِفِي الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَيُعِيدُ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ. . . إِلَخْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يُكْمِل ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا (الْمُتَلاَعِنَيْنِ) مَعًا، بَل لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ جَازَ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، ثُمَّ يَقُول فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا.
ثُمَّ تَقُول هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا بِالْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ سَمَّتْهُ وَنَسَبَتْهُ، وَتُكَرِّرُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَمَّلَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَتَزِيدُ اسْتِحْبَابًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ، فَإِنْ نَقَصَ أَحَدُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ مِنَ الْجُمَل الْخَمْسَةِ شَيْئًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا، كَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ إِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِاللِّعَانِ قَبْلَهُ، أَوْ تَلاَعَنَا بِغَيْرِ حَضْرَةِ حَاكِمٍ، أَوْ أَبْدَل أَحَدُهُمَا لَفْظَةَ: أَشْهَدُ بِأُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أُولِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ أَبْدَل لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالإِْبْعَادِ أَوْ بِالْغَضَبِ، أَوْ أَبْدَلَتِ الْمَرْأَةُ لَفْظَةَ الْغَضَبِ بِالسَّخَطِ أَوْ بِاللَّعْنَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ قَدَّمَ الرَّجُل اللَّعْنَةَ قَبْل الْخَامِسَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.(35/255)
وَلَوْ عَلَّقَ أَحَدُهُمَا اللِّعَانَ بِشَرْطِ، أَوْ لَمْ يُوَال أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْكَلِمَاتِ عُرْفًا، أَوْ أَتَى بِاللِّعَانِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يُحْسِنُهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
وَإِنْ أَتَى الزَّوْجُ بِاللِّعَانِ قَبْل مُطَالَبَتِهَا لَهُ بِالْحَدِّ مَعَ عَدَمِ وَلَدٍ يُرِيدُ نَفْيَهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
وَإِذَا فُهِمَتْ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ مِنْهُمَا أَوْ كِتَابَتُهُ صَحَّ لِعَانُهُ بِهَا وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
17 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ: لَوْ بَدَأَ الْقَاضِي بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ لِعَانَهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُل، لأَِنَّهُ أَتَى بِاللِّعَانِ عَلَى غَيْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَلاَ يَكُونُ صَحِيحًا، كَمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلأَِنَّ لِعَانَ الرَّجُل لإِِثْبَاتِ زِنَا الْمَرْأَةِ وَنَفْيِ وَلَدِهَا، وَلِعَانَ الْمَرْأَةِ لِلإِْنْكَارِ، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الإِْثْبَاتِ كَتَقْدِيمِ الشُّهُودِ عَلَى الأَْيْمَانِ، وَلأَِنَّ لِعَانَ الْمَرْأَةِ لِدَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا، وَلاَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ إِلاَّ بِلِعَانِ الرَّجُل، فَإِذَا قُدِّمَ لِعَانُهَا عَلَى لِعَانِهِ كَانَ تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى وَقْتِهِ فَلاَ يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ قُدِّمَ عَلَى الْقَذْفِ (2) .
18 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَحَدِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 391.
(2) مغني المحتاج 3 / 376، والمغني لابن قدامة 7 / 417، والدسوقي 2 / 465.
(3) بدائع الصنائع 3 / 237 و238، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 997.(35/255)
الْقَوْلَيْنِ (1) أَنَّ وُجُوبَ الْبَدَاءَةِ بِشَهَادَةِ الرَّجُل فِي اللِّعَانِ لأَِنَّهُ الْمُدَّعِي، وَفِي الدَّعَاوَى يُبْدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي، فَلَوْ حَصَل الْعَكْسُ وَقَدَّمَ الْقَاضِي الْمَرْأَةَ فِي اللِّعَانِ عَلَى الرَّجُل فَقَدْ أَخْطَأَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ لِعَانَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الرَّجُل حَتَّى يَقَعَ اللِّعَانُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
فَإِنْ لَمْ يُعِدِ الْقَاضِي لِعَانَ الْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفُرْقَةِ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ إِذَا صَدَرَ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ يَكُونُ نَافِذًا.
مَا يَجِبُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الزَّوْجِ عَنِ اللِّعَانِ
19 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ لاَ يُحْبَسُ وَلَكِنْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ (2) هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَعَلَيْهِ الأَْدَبُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الزَّوْجِ الْمُلاَعَنَةَ فَامْتَنَعَ حَبَسَهُ حَتَّى يُلاَعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ الْمَرْأَةُ فِيمَا ادَّعَاهُ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 465، والتاج والإكليل شرح مختصر خليل 4 / 137.
(2) التاج والإكليل 4 / 138، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7 / 404.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 466.(35/256)
فَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ (1) .
وَهَذَا الْخِلاَفُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُوجِبِ الأَْصْلِيِّ لِقَذْفِ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ أَهُوَ اللِّعَانُ أَوِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ مُسْقِطٌ لَهُ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ هُوَ الْحَدُّ، وَاللِّعَانُ مُسْقِطٌ لَهُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) فَإِنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى كُل قَاذِفٍ سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجًا أَمْ غَيْرَهُ، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . . . الآْيَاتُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْقَاذِفَ إِنْ كَانَ زَوْجًا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَدَّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ ثَبَتَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ وَهُوَ الْحَدُّ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ هُوَ اللِّعَانُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْهُ حُبِسَ حَتَّى يُلاَعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (4)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 238، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 966.
(2) سورة النور / 4.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 404، ونهاية المحتاج 7 / 115.
(4) سورة النور 6 - 9.(35/256)
فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَل مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ اللِّعَانَ فَقَطْ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوجَبُهُ الْحَدَّ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الآْيَةِ الَّتِي قَبْل هَذِهِ الآْيَاتِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، وَبِذَلِكَ صَارَتْ آيَةُ الْقَذْفِ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الأَْزْوَاجِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَْصْل الْمُقَرَّرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْخَاصَّ إِذَا تَأَخَّرَ وُرُودُهُ عَنِ الْعَامِّ كَانَ نَاسِخًا لِلْعَامِّ فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ، وَهُوَ هُنَا الأَْزْوَاجُ، فَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ، تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ آيَةِ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً عَقِبَهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً وَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَل قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللَّهِ لأََسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَدِ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ، فَقَال: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَل قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، فَقَال: " اللَّهُمَّ
__________
(1) سورة النور / 4.(35/257)
افْتَحْ " وَجَعَل يَدْعُو فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ (1) فَإِنَّ قَوْلَهُ: " وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ " يَدُل عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ قَبْل نُزُول آيَةِ اللِّعَانِ ثُمَّ صَارَ بَعْدَ نُزُول الآْيَةِ الْخَاصَّةِ بِالأَْزْوَاجِ اللِّعَانَ، وَبِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ هُوَ اللِّعَانُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْهُ حُبِسَ حَتَّى يُلاَعِنَ، لاِمْتِنَاعِهِ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، كَمَا يُحْبَسُ الْمَدِينُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ إِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ (2) .
مَا يَجِبُ إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ
20 - إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ لاَ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا، وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُلاَعِنَ، أَوْ تُصَدِّقَ الزَّوْجَ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مِنْ غَيْرِ حَدٍّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوِجْهَتُهُمْ فِي الْحَبْسِ: أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ لِعَانِ زَوْجِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَتْ عَنْهُ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، كَالْمَدِينِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ إِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَوِجْهَتُهُمْ فِي إِخْلاَءِ سَبِيلِهَا بِدُونِ حَدٍّ إِذَا
__________
(1) حديث ابن مسعود: " إنا ليلة الجمعة في المسجد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1133) .
(2) بدائع الصنائع 3 / 238، والهداية وفتح القدير 3 / 250، والبحر الرائق لابن نجيم 4 / 124.(35/257)
صَدَّقَتِ الزَّوْجَ: أَنَّ تَصْدِيقَهَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَصْدًا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ وَلَوْ أَعَادَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا لَمْ تُحَدَّ، وَامْتِنَاعُهَا عَنِ اللِّعَانِ أَقَل دَلاَلَةً عَلَى الزِّنَا مِنَ الإِْقْرَارِ الَّذِي رَجَعَتْ عَنْهُ فَلاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى (1)
وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ، فَفِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الْقَاضِي - تُحْبَسُ حَتَّى تُلاَعِنَ أَوْ تُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا، فَإِنْ لاَعَنَتْ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا، وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: يُخَلَّى سَبِيلُهَا لأَِنَّهُ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهَا فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُل الْبَيِّنَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْتِعَانُهُمَا جَمِيعًا فَلاَ تَزُول الزَّوْجِيَّةُ وَلاَ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا (3) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا
__________
(1) الهداية وفتح القدير 3 / 251، وحاشية ابن عابدين 2 / 967.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 444 و445، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 373.
(3) التاج والإكليل 3 / 138، ومغني المحتاج 3 / 380، وروضة الطالبين 8 / 356.(35/258)
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (1) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْحَدَّ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَفِيهَا الأَْدَبُ (2) .
آثَارُ اللِّعَانِ
أَوَّلاً: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ:
إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَامْرَأَتِهِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارٌ فِي حَقِّهِمَا، مِنْهَا:
21 - الأَْوَّل: انْتِفَاءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَشَرَعَ لَهُمَا اللِّعَانُ لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا، فَإِذَا أُجْرِيَ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا (3) .
22 - الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لاَ تَقَعُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.
وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلَوْ دَلاَلَةً حُدَّ لِلْقَذْفِ،
__________
(1) سورة النور / 8.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 466، والخرشي 4 / 135.
(3) الهداية مع فتح القدير 3 / 250 - 251، وحاشية ابن عابدين 2 / 587، وحاشية الدسوقي 2 / 466، والخرشي 4 / 135، ومغني المحتاج 3 / 380، وكشاف القناع 5 / 399 - 400.(35/258)
وَلَهُ بَعْدَمَا كَذَّبَ نَفْسَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا: حُدَّ أَوْ لاَ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلاَعِنَانِ فَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ بِتَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا (3) ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَلاَعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا عَنْهُ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى هَذَا اللِّعَانِ، فَإِنْ لاَعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ نِكَاحٌ وَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ عُقُوبَةٌ بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا.
وَقَالُوا: وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِهِ زَوْجَتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، وَلاَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَوْ كَانَتْ أَمَةً وَاشْتَرَاهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَال: لاَ سَبِيل لَكَ عَلَيْهَا (5) "، وَلِقَوْلِهِ: الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لاَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 515، والدر المختار 2 / 585 و590.
(2) فتح القدير 3 / 256.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 467، وشرح منتهى الإرادات 3 / 210.
(4) أثر عمر: المتلاعنان إذا تلاعنا. . . ". أخرجه البيهقي في سننه (7 / 410) .
(5) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " فرق بينهما. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 457) ومسلم (3 / 1132) من حديث ابن عمر.(35/259)
يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا (1) ".
وَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَلاَ يُفِيدُهُ ذَلِكَ عَوْدَ النِّكَاحِ وَلاَ رَفْعَ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ لأَِنَّهُمَا حَقٌّ لَهُ وَقَدْ بَطَلاَ فَلاَ يُتَمَكَّنُ مِنْ عَوْدِهِمَا، بِخِلاَفِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَإِنَّهُمَا يَعُودَانِ لأَِنَّهُمَا حَقٌّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدُّهَا فَفِي كَلاَمِ الإِْمَامِ مَا يُفْهِمُ سُقُوطَهُ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ (2) .
23 - الثَّالِثُ: حُصُول الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) وَأَحَمْدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (4) فَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَالزَّوْجِيَّةُ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الأَْحْكَامِ كَالْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْل الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الآْخَرُ، وَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْل التَّفْرِيقِ وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهَا تَحِل لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ، مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا ". أخرجه الدارقطني (3 / 276) من حديث ابن عمر، ونقل الزيلعي في نصب الراية، (3 / 251) عن ابن عبد الهادي أنه قال: إسناده جيد.
(2) مغني المحتاج 3 / 385.
(3) بدائع الصنائع 3 / 244.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 410.(35/259)
" فَرَّقَ بَيْنَهُمَا " (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لاَ تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلاَ بِلِعَانِ الزَّوْجَةِ، إِذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا حَصَل التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ (2) ، وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلاَنِيِّ أَنَّهُ قَال: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُول اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْل أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (3) فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلاَقُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْل ذَلِكَ بِاللِّعَانِ لَمَا وَقَعَ طَلاَقُهُ وَلاَ أَمْكَنَهُ إِمْسَاكُهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لاَ تَقَعُ إِلاَّ بِحُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَنَحْوِهَا (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (5) فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تُلاَعِنِ الزَّوْجَةُ، وَذَلِكَ لِمَا
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ". تقدم تخريجه ف22.
(2) البدائع 3 / 245.
(3) حديث عويمر العجلاني أنه قال: " كذبتُ عليها يا رسول الله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 361) ومسلم (2 / 1229 - 1230) .
(4) المغني لابن قدامة 7 / 410.
(5) التاج والإكليل 3 / 138. ومغني المحتاج 3 / 380. والمغني لابن قدامة 7 / 410، وكشاف القناع 5 / 402.(35/260)
وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَلاَعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (1) وَلأَِنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ فَلاَ يَحْتَاجُ لِلتَّفْرِيقِ بِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالرَّضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُل إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَرِهَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِهَا، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالإِْعْسَارِ، وَتَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا لاَ يَجُوزُ رَضِيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَيَا (2) .
24 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْفُرْقَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ طَلاَقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ وَفِي الْحُرْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَلاَ تَحِل الْمَرْأَةُ لِلرَّجُل وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؟ أَوْ هِيَ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَنْتَهِي إِذَا أَكْذَبَ الرَّجُل نَفْسَهُ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ فَسْخٌ (3) ، وَهِيَ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الْمُتَلاَعِنَانِ إِلَى الزَّوَاجِ بَعْدَ اللِّعَانِ أَبَدًا وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ
__________
(1) سبق تخريج هذا الأثر ف22.
(2) مغني المحتاج 3 / 380.
(3) فتح القدير 3 / 255، وبدائع الصنائع 3 / 245، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 467، والبهجة شرح التحفة 1 / 334، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7 / 412 - 414.(35/260)
الشَّهَادَةِ أَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا (1) ". وَلِمَا رَوَى سَهْل بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (2) وَلأَِنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ سَبَبُ التَّفْرِيقِ، وَتَكْذِيبُ الزَّوْجِ نَفْسَهُ أَوْ خُرُوجُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لاَ يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ، بَل هُوَ بَاقٍ فَيَبْقَى حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُل إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِ امْرَأَتِهِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا حَتَّى لاَ يَكُونَ زَوْجَ بَغِيٍّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ مُعَاشَرَتِهَا لإِِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا وَاتِّهَامِهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِحْرَاقِ قَلْبِهَا، وَلاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ طَلاَقًا لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلاَقِ وَلاَ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ طَلاَقًا لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَالْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ - عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ تَقَعُ إِلاَّ بِلِعَانِهِمَا (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ تَكُونُ طَلاَقًا بَائِنًا لاَ فَسْخًا، لأَِنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، وَالْقَاضِي قَامَ
__________
(1) حديث: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا ". تقدم تخريجه ف22.
(2) قول سهل بن سعد: " مضت السنة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 682) .
(3) المغني لابن قدامة 7 / 413 - 414، ومغني المحتاج 3 / 380.(35/261)
بِالتَّفْرِيقِ، نِيَابَةً عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا طَلاَقًا كَانَتْ طَلاَقًا لاَ فَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَلاَقًا بَائِنًا، لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ، وَكُل فُرْقَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ تُعْتَبَرُ طَلاَقًا بَائِنًا، وَقَالاَ: إِنَّ الْحُرْمَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى اللِّعَانِ تَزُول إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ خَرَجَتْ هِيَ عَنْ أَهْلِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ اعْتُبِرَ تَكْذِيبُهُ رُجُوعًا عَنِ اللِّعَانِ، وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِي رَأْيِهِمَا، وَالشَّهَادَةُ لاَ حُكْمَ لَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحَدُّ الرَّجُل حَدَّ الْقَذْفِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إِنْ كَانَ الْقَذْفُ نَفْيَ الْوَلَدِ.
وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ اللِّعَانُ، فَيَزُول حُكْمُهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ (1) .
ثَانِيًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ نَسَبِ الْوَلَدِ
25 - إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ مَوْضُوعُهُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ انْتِفَاءُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ وَأُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَذَلِكَ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:
__________
(1) فتح القدير 3 / 255.(35/261)
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْفَوْرِيَّةُ:
26 - أَنْ يَنْفِيَ الزَّوْجُ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ أَوْ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بَل جُعِل تَقْدِيرُهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لأَِنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ أَوْ عَدَمَ نَفْيِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّرَوِّي قَبْل الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ، إِذْ رُبَّمَا يَنْفِي نَسَبَهُ وَهُوَ مِنْهُ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ، وَكِلاَهُمَا لاَ يَحِل شَرْعًا، وَعَلَى هَذَا لاَ بُدَّ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّوْحِ مُدَّةً يُفَكِّرُ فِيهَا وَيُتَرَوَّى، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، فَلاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُ زَمَنٍ يُطَبَّقُ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الأَْفْرَادِ وَالْحَالاَتِ، فَيَجِبُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: نَفْيُ الْوَلَدِ يَتَقَدَّرُ بِأَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لأَِنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلاَدَةِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا، فَكَمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ يَكُونُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفِيَهُ مَا دَامَ أَثَرُهَا بَاقِيًا (1) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيل شَرْطٌ لِنَفْيِ الْحَمْل أَوِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْل أَوِ الْوِلاَدَةِ فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 246، والهداية مع فتح القدير 3 / 260، 261.(35/262)
أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ طَال زَمَنُ سُكُوتِهِ كَالشَّهْرِ أَوْ قَصُرَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعُذْرٍ (1) .
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَالنَّفْيُ لِنَسَبِ وَلَدٍ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الأَْظْهَرِ الْجَدِيدِ، لأَِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُحَقَّقٍ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ، وَيُعْذَرُ الزَّوْجُ فِي تَأْخِيرِ النَّفْيِ لِعُذْرٍ، كَأَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَيْلاً فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ أَوْ كَانَ جَائِعًا فَأَكَل أَوْ عَارِيًا فَلَبِسَ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ خَائِفًا ضَيَاعَ مَالٍ أَرْسَل إِلَى الْقَاضِي لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلاَعِنُ عِنْدَهُ، أَوْ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَطَل حَقُّهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الإِْرْسَال أَشْهَدَ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بَطَل حَقُّهُ (2) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ فَسَكَتَ زَوْجُهَا عَنْ نَفْيِ وَلَدِهَا مَعَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، بَل هُوَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إِنْ كَانَ لَيْلاً فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُل أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ إِنْ كَانَ نَاعِسًا، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسَرِّجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ، وَيُصَلِّيَ إِنْ
__________
(1) البهجة في شرح التحفة 1 / 335، والشرح الصغير 3 / 18.
(2) مغني المحتاج 3 / 380 - 381.(35/262)
حَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَيُحَرِّزُ مَالَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ الإِْقْرَارِ:
27 - يُشْتَرَطُ أَلاَ يَكُونَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، مِثَال الإِْقْرَارِ صَرَاحَةً أَنْ يَقُول الرَّجُل: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، وَمِثَال الإِْقْرَارِ دَلاَلَةً أَنْ يَقْبَل التَّهْنِئَةَ بِالْمَوْلُودِ أَوْ يَسْكُتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ، وَلاَ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ، لأَِنَّ الْعَاقِل لاَ يَسْكُتُ عَادَةً عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ دَلاَلَةً (2) .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِ نَسَبٍ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ التَّهْنِئَةِ، أَوْ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ النَّفْيُ فِيهَا وَلَمْ يَنْفِهِ ثُمَّ نَفَى نَسَبَهُ لاَ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، لأَِنَّ سُكُوتَهُ عَنِ النَّفْيِ حَتَّى مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْوَلَدِ، وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، لأَِنَّهُ لَمَّا نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ كَانَ مُتَّهِمًا لَهَا بِالزِّنَا،
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 424 - 425.
(2) بدائع الصنائع 3 / 247، وفتح القدير 3 / 260، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 973، والمغني لابن قدامة 7 / 426، ومغني المحتاج 3 / 381.(35/263)
فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْعَارَ عَنْ نَفْسِهَا بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْمَرْأَةِ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، لأَِنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً فَلاَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ إِذَا امْتَنَعَ إِجْرَاؤُهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِنَفْيِ نَسَبِ الْوَلَدِ، كَأَنْ وَطِئَ الْمُلاَعِنُ زَوْجَتَهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا تَزْنِي، أَوْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ، أَوْ أَخَّرَ اللِّعَانَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ بِلاَ عُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَمْتَنِعُ لِعَانُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَبَقِيَتْ زَوْجَةً، وَإِنَّمَا يُحَدُّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ:
28 - أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا عِنْدَ اللِّعَانِ وَعِنْدَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا، وَنَفَى الزَّوْحُ نَسَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل حُصُول اللِّعَانِ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ وَلَكِنْ قَبْل الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ لاَ يَنْتَفِي عَنْهُ، لأَِنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 247، والهداية مع فتح القدير 3 / 260 - 261، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 973.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 463.(35/263)
بِالْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَقَرَّرَ لاَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَكِنْ لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ إِجْرَاءِ اللِّعَانِ إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل إِجْرَائِهِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهَا (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لإِِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ عِنْدَ اللِّعَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِنَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ، لأَِنَّ نَسَبَهُ لاَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَل يُقَال: مَاتَ وَلَدُ فُلاَنٍ، وَهَذَا قَبْرُ وَلَدِ فُلاَنٍ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا (3) .
أَثَرُ اللِّعَانِ مِنْ حَيْثُ جَعْل الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ أَجْنَبِيًّا
الْوَلَدُ الَّذِي يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الأَْبِّ، وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى اللِّعَانِ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَلاَ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا:
29 - فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي الأَْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْرْثُ: فَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُلاَعِنِ وَبَيْنَ الْوَلَدِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 247.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 459، والتاج والإكليل 4 / 133، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4 / 265، والمغني لابن قدامة 7 / 419.
(3) مغني المحتاج 3 / 380.(35/264)
الَّذِي نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنَّ قَرَابَةَ الأُْبُوَّةِ لاَ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي الإِْرْثِ، فَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ الَّذِي نُفِيَ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ وَتَرَكَ مَالاً فَلاَ يَرِثُهُ أَحَدٌ بِقَرَابَةِ الأُْبُوَّةِ، وَإِنَّمَا تَرِثُهُ أُمُّهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهَا (1) .
ب - النَّفَقَةُ: فَلاَ تَجِبُ بَيْنَ الْمُلاَعِنِ وَبَيْنَ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ نَفَقَةُ الأَْبْنَاءِ عَلَى الآْبَاءِ، وَلاَ نَفَقَةُ الآْبَاءِ عَلَى الأَْبْنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
30 - وَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُلاَعِنِ فِي الأَْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أ - الشَّهَادَةُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْصْل الْوَاحِدِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُلاَعِنِ وَأُصُولُهُ لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَلاَ شَهَادَةُ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ وَأَحَدِ فُرُوعِهِ لِمَنْ نَفَاهُ وَلاَ لأُِصُولِهِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ اسْتِلْحَاقِهِ أَيِ الْوَلَدِ الْمُلاَعَنِ (3) .
ب - الْقِصَاصُ: فَلَوْ قَتَل الْمُلاَعِنُ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَاهُ بِاللِّعَانِ لاَ يُقْتَل فِيهِ كَمَا لَوْ قَتَل الأَْبُ وَلَدَهُ.
ج - الاِلْتِحَاقُ بِالْغَيْرِ: فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُ الْمُلاَعِنِ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَى نَفْسَهُ بِاللِّعَانِ لاَ يَصِحُّ
__________
(1) المبسوط 29 / 198، ومنح الجليل 4 / 752، وروضة الطالبين 6 / 43، وشرح مسلم 10 / 124، والمغني 6 / 259.
(2) فتح القدير 3 / 262، والحطاب 4 / 191، والمغني 7 / 608.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 168، وفتح القدير 3 / 262.(35/264)
ادِّعَاؤُهُ وَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال أَنْ يُكَذِّبَ الْمُلاَعِنُ نَفْسَهُ فَيَعُودُ نَسَبُ الْوَلَدِ لَهُ، وَمَنْ أَجْل هَذَا قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِعَدِمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِمَّنِ ادَّعَاهُ مُشْكِلٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَكَانَ ادِّعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلاَعِنِ لأَِنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَالْوَلَدُ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنَ الْمُلاَعِنِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الأُْمِّ لاَ يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنَ الْمُدَّعِي، لإِِمْكَانِ كَوْنِهِ وَطْأَهَا بِشُبْهَةٍ (1) .
د - الْمَحْرَمِيَّةُ: فَلَوْ كَانَ لِلْمُلاَعِنِ بِنْتٌ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ أَوْ لاَبْنِهِ فَلاَ يَحِل هَذَا الزَّوَاجُ، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلْمُلاَعِنِ، خُصُوصًا وَأَنَّ الْفِرَاشَ الَّذِي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ وِلاَدَتِهِ، وَمَعَ هَذَا الاِحْتِمَال لاَ يَحِل الزَّوَاجُ شَرْعًا (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ بِاللِّعَانِ حُكْمُهَا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى نَافِيهَا وَلَوْ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا، لأَِنَّهَا لاَ تَنْتِفِي عَنْهُ قَطْعًا لِدَلِيل لُحُوقِهَا بِهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلأَِنَّهَا رَبِيبَةٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَتَتَعَدَّى حُرْمَتُهَا إِلَى سَائِرِ مَحَارِمِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ لَهَا وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ
__________
(1) فتح القدير 3 / 262.
(2) بدائع الصنائع 3 / 248، وفتح القدير 3 / 263، والدر وحاشية ابن عابين 2 / 975.(35/265)
لَهَا وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُول شَهَادَتِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْوُجُوبِ (1) .
31 - وَمِنْ آثَارِ اللِّعَانِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أ - تَشْطِيرُ صَدَاقِ الْمُلاَعَنَةِ قَبْل الدُّخُول بِهَا.
ب - سُقُوطُ حَضَانَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ لَمْ تُلاَعِنْ.
ج - اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُلاَعَنَةِ وَمَنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا (2) .
تَغْلِيظُ اللِّعَانِ
32 - تَغْلِيظُ اللِّعَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَلاَ بِالزَّمَانِ. وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ هِيَ:
أ - التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ:
33 - يُغَلَّظُ لِعَانُ الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَهُوَ بَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ كُل يَوْمٍ إِنْ كَانَ طَلَبُ اللِّعَانِ حَثِيثًا، لأَِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْلَظُ عُقُوبَةً لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَعَدَّ مِنْهُمْ رَجُلاً حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 175.
(2) مغني المحتاج 3 / 380.(35/265)
يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ (1) ". فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ حَثِيثٌ فَبَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْلَى لأَِنَّ سَاعَةَ الإِْجَابَةِ فِيهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِعَصْرِ الْجُمُعَةِ الأَْوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَيَوْمَيِ الْعِيدِ وَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.
ب - التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ:
34 - يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ بَلَدِهِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
فَفِي مَكَّةَ يَكُونُ بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ وَبَيْنَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاللِّعَانُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مِمَّا يَلِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، وَقَال فِي الأُْمِّ وَالْمُخْتَصَرِ: يَكُونُ فِي الْمِنْبَرِ. وَاللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لأَِنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ إِذْ هِيَ قِبْلَةُ الأَْنْبِيَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ " أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ " (2) . وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ لِمَنْ هُوَ بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
__________
(1) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 34) ومسلم (1 / 103) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إنها من الجنة ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 217 - 218) وقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهذا الحديث من منكراته.(35/266)
وَالتَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ الْجَامِعِ لأَِنَّهُ الْمُعَظَّمُ.
وَتُلاَعِنُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِتَحْرِيمِ مُكْثِهَا فِيهِ.
وَيُلاَعِنُ كِتَابِيٌّ فِي بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَيَقُول الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَل التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَيَقُول النَّصْرَانِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَل الإِْنْجِيل عَلَى عِيسَى.
وَيُلاَعِنُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ نَارِهِمْ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَالْمَقْصُودُ الزَّجْرُ عَنِ الْكَذِبِ.
أَمَّا تَغْلِيظُ الْكَافِرِ بِالزَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الأَْوْقَاتِ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيَّ.
ج - التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ:
35 - يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِحُضُورِ جَمْعٍ مِنْ عُدُول أَعْيَانِ بَلَدِ اللِّعَانِ وَصُلَحَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَلأَِنَّ فِيهِ رَدْعًا عَنِ الْكَذِبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ لِثُبُوتِ الزِّنَا بِهِمْ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعَدَدُ إِتْيَانَهُ بِاللِّعَانِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ (1) .
__________
(1) مواهب الجليل مع هامشه التاج والإكليل 4 / 137، والدسوقي 2 / 464، والشرح الصغير 2 / 464، ومغني المحتاج 3 / 376 - 378، وروضة الطالبين 8 / 354 - 356، والإنصاف 9 / 239 - 240، والمغني 7 / 434 - 437، وكشاف القناع 5 / 393.(35/266)
سُنَنُ اللِّعَانِ
أ - وَعْظُ الْقَاضِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
36 - يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ وَعْظُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلاَلٍ: عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ (1) وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} (2) وَيَقُول لَهُمَا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَل مِنْكُمَا تَائِبٌ (3) ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِهِمَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْل شُرُوعِهِمَا فِيهَا.
ب - قِيَامُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
37 - يُسَنُّ لِلْمَتَلاَعِنَيْنِ أَنْ يَتَلاَعَنَا قَائِمَيْنِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ وَيَشْتَهِرُ أَمْرُهُمَا، فَيَقُومُ الرَّجُل عِنْدَ لِعَانِهِ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، وَتَقُومُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ لِعَانِهَا وَيَجْلِسُ الرَّجُل، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ لاَعَنَ قَاعِدًا أَوْ مُضَّجِعًا (4) .
__________
(1) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ". أخرجه مسلم (1 / 1131) من حديث ابن عمر.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله يعلم أن أحدكما كاذب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1132) من حديث ابن عمر.
(4) المراجع السابقة.(35/267)
لَعِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّعِبُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ لِعْبٌ بِكَسْرِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ - فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْجَدِّ، يُقَال: لِعْبُ فُلاَنٍ إِذَا كَانَ فَعَلَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ مَقْصِدًا صَحِيحًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} (1) ، وَلَعِبَ: عَمِل عَمَلاً لاَ يُجْدِي نَفْعًا، وَاللُّعْبَةُ: كُل مَا يُلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ اللاَّمِ اسْمٌ لِلْحَال وَالْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ اللاَّعِبُ عَلَيْهَا، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ.
وَقِيل: اللَّعِبُ عَمَلٌ لِلَّذَّةِ لاَ يُرَاعَى فِيهِ دَاعِيَ الْحِكْمَةِ كَعَمَل الصَّبِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ الْحِكْمَةَ وَإِنَّمَا يَعْمَل لِلَّذَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) سورة الأنبياء / 55.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن.(35/267)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللَّهْوُ:
2 - اللَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: السُّلْوَانُ، وَالتَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ بِمَا لاَ تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ أَيْضًا: مَا يَشْغَل الإِْنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ أَوْ يُهِمُّهُ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْفَرَقُ بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ أَنَّهُ لاَ لَهْوَ إِلاَّ وَهُوَ لَعِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ لَعِبٌ لَيْسَ بِلَهْوٍ، لأَِنَّ اللَّعِبَ يَكُونُ لِلتَّأْدِيبِ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ يُقَال لِذَلِكَ لَهْوٌ، وَإِنَّمَا اللَّهْوُ لَعِبٌ لاَ يُعْقِبُ نَفْعًا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اللَّعِبُ مِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ.
فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ (2) الْمُسَابَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ عَلَى الأَْقْدَامِ وَالسُّفُنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ قَالَتْ: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَال: هَذِهِ بِتِلْكَ السِّبْقَةِ (3) ".
__________
(1) المصادر السابقة، والفروق اللغوية ص210.
(2) مغني المحتاج 4 / 311، 428، والمغني 8 / 651 وما بعدها و9 / 170 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص154، وبدائع الصنائع 6 / 206.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع عائشة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 66) من حديث عائشة، وإسناده صحيح.(35/268)
وَإِبَاحَةُ اللَّعِبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ دَنَاءَةٌ يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمَرُوءَاتِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا فَإِنْ تَضَمَّنَ ضَرَرًا لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَالتَّحْرِيشِ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالْكِلاَبِ وَنِطَاحِ الْكِبَاشِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ فَهَذَا حَرَامٌ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَشْغَل عَنْ صَلاَةٍ أَوْ فَرْضٍ آخَرَ أَوْ عَنْ مُهِمَّاتٍ وَاجِبَةٍ فَإِنْ شَغَلَهُ عَنْ هَذِهِ الأُْمُورِ وَأَمْثَالِهَا حَرُمَ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يُخْرِجَهُ إِلَى الْحَلِفِ الْكَاذِبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (1)
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ الْمِزَاحُ وَالاِنْبِسَاطُ مَعَ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ لِيُعْطِيَ الزَّوْجَةَ وَالنَّفْسَ وَالْوَلَدَ حَقَّهُمْ (2) .
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُسْتَحَبِّ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى السِّهَامِ وَالرِّمَاحِ وَالْمَزَارِيقِ وَكُل نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (3) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ: أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 269، وجواهر الإكليل 2 / 233، ومغني المحتاج 4 / 311، 428، 432، والمغني لابن قدامة 8 / 651 وما بعدها، 9 / 170، وما بعدها، والآداب الشرعية 3 / 357.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 652، والآداب الشرعية 3 / 247، ومغني المحتاج 3 / 127، 4 / 311.
(3) سورة الأنفال / 60.(35/268)
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سِبَاقٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهُ) .
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمَكْرُوهِ اللَّعِبُ بِالطَّيْرِ وَالْحَمَامِ لأَِنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الْمَرُوءَاتِ وَالإِْدْمَانُ عَلَيْهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِهْمَال الْمَصَالِحِ وَيَشْغَل عَنِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ (2) .
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: كُل لُعْبَةٍ فِيهَا قِمَارٌ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ (3) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) .
اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ
أ - اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ:
4 - اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
__________
(1) حديث: " ألا إن القوة الرمي ". أخرجه مسلم (3 / 1522) من حديث عقبة بن عامر.
(2) بدائع الصنائع 6 / 269، والخرشي 7 / 177، وشرح الزرقاني 7 / 159، ومغني المحتاج 4 / 428، 432، والمغني 9 / 170، 172، 173، وكشاف القناع 6 / 423.
(3) بدائع الصنائع 6 / 269، والخرشي على خليل 7 / 177، ومغني المحتاج 4 / 428، والمغني 9 / 170.
(4) سورة المائدة / 90،91.(35/269)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ (1) . وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ كَمَا يُكْرَهُ الشِّطْرَنْجُ عِنْدَهُمْ (2) .
ب - اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ:
5 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إِذَا كَانَ عَلَى عِوَضٍ أَوْ تَضَمَّنَ تَرْكَ وَاجِبٍ مِثْل تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَضَمَّنَ كَذِبًا أَوْ ضَرَرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ مُطْلَقًا.
وَمِمَّنْ قَال بِالتَّحْرِيمِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَثَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَال: مَا هَذِهِ
__________
(1) حديث: " من لعب بالنردشير. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1770) من حديث بريدة بن الحصيب.
(2) مغني المحتاج 4 / 428، والمغني لابن قدامة 9 / 170.(35/269)
التَّمَاثِيل الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لأََنْ يَمَسَّ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا (1) .
وَرَوَى مَالِكٌ بَلاَغًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِيَ مَال يَتِيمٍ فَوَجَدَهَا فِيهِ فَأَحْرَقَهَا. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّرْدِ، بَل إِنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ وَهُوَ أَكْثَرُ إِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لأَِنَّ لاَعِبَهَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَال فِكْرِهِ وَشَغْل خَاطِرِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّرْدِ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا صَرْفُ الْعُمُرِ إِلَى مَا لاَ يُجْدِي، إِلاَّ أَنَّ النَّرْدَ آكَدُ فِي التَّحْرِيمِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِتَحْرِيمِهِ وَلاِنْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهِ مُطْلَقًا.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ مَكْرُوهٌ.
وَمَأْخَذُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فَهُوَ لَهْوٌ أَوْ سَهْوٌ إِلاَّ أَرْبَعَ خِصَالٍ: مَشْيُ الرَّجُل بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَةُ أَهْلِهِ، وَتَعَلُّمُ السِّبَاحَةِ (2) "
. وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) أثر علي " أنه مر على قوم يلعبون الشطرنج. . . ". أخرجه البيهقي (10 / 212) .
(2) حديث جابر بن عمير: " كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو. . . ". أخرجه الطبراني (2 / 193) وجود إسناده المنذري في الترغيب (2 / 243) .(35/270)
عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ ثَلاَثَةٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ زَوْجَهُ، وَرَمْيُهُ بِنَبْلِهِ عَنْ قَوْسِهِ (1) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ مَعَ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ وَإِلاَّ كَانَ حَرَامًا، لأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى مَعْصِيَةٍ لاَ يُمْكِنُ الاِنْفِرَادُ بِهَا.
وَمَأْخَذُ الْكَرَاهَةِ كَذَلِكَ أَنَّهُ يُلْهِي عَنِ الذِّكْرِ وَالصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِهَا الْفَاضِلَةِ، وَقَدْ يَسْتَغْرِقُ لاَعِبُهُ فِي لَعِبِهِ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الأُْخْرَوِيَّةِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَحْذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الأَْفْهَامِ وَلأَِنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهِ نَصٌّ وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِالإِْبَاحَةِ بِأَلاَّ يَلْعَبَهُ مَعَ الأَْوْبَاشِ فِي الطَّرِيقِ بَل مَعَ نَظَائِرِهِ فِي الْخَلْوَةِ بِلاَ إِدْمَانٍ وَتَرْكِ مُهِمٍّ وَلَهْوٍ عَنْ عِبَادَةٍ.
وَيُخَالِفُ الشِّطْرَنْجُ النَّرْدَ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْمُعَوِّل فِي النَّرْدِ مَا يُخْرِجُهُ اللُّعْبَانُ فَهُوَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَةٍ مِنَ السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ فَأَشْبَهَ الأَْزْلاَمَ.
__________
(1) حديث: " ليس من اللهو ثلاثة. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 95) وصححه ووافقه الذهبي.(35/270)
وَالْمُعَوَّل فِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى الْحِسَابِ الدَّقِيقِ وَالْفِكْرِ الصَّحِيحِ وَعَلَى الْحِذْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَأَشْبَهَ الْمُسَابَقَةَ بِالسِّهَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ فِي الشِّطْرَنْجِ تَدْبِيرَ الْحَرْبِ فَأَشْبَهَ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ وَالرَّمْيَ بِالنُّشَّابِ وَالْمُسَابَقَةَ بِالْخَيْل. وَنُقِل الْقَوْل بِالإِْبَاحَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِهِ هِشَامٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ (1) .
شَهَادَةُ اللاَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ
6 - مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ سَوَاءٌ لَعِبَ بِهِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ.
قَال مَالِكٌ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فَلاَ أَرَى شَهَادَتَهُ طَائِلَةً، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَل} (2) وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فَيَكُونُ مِنَ الضَّلاَل (3) .
__________
(1) المغني 9 / 171، ومواهب الجليل 6 / 153، وحاشية ابن عابدين 5 / 252، والبناية 9 / 384، وروضة الطالبين 11 / 225. وحاشية الدسوقي 4 / 167، وكشاف القناع 6 / 423، ومطالب أولي النهى 3 / 702، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 260.
(2) سورة يونس / 32.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 170 وما بعدها، والخرشي مع حاشية العدوي 7 / 177، وجواهر الإكليل 2 / 233.(35/271)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ بَاشَرَ لَعِبَهَا وَلَوْ مَرَّةً لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا لاَعِبُ الشِّطْرَنْجِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِ فِي الأَْحْوَال الَّتِي يَحْرُمُ لَعِبُهَا إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى فِسْقِهِ فِيهَا. وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ بِحَسَبِ أَقْوَالِهِمْ فِي إِبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ لاَ تَسْقُطُ إِلاَّ عِنْدَ الإِْدْمَانِ عَلَيْهَا لأَِنَّ الْمُدْمِنَ لاَ يَخْلُو مِنَ الأَْيْمَانِ الْحَانِثَةِ وَالاِشْتِغَال عَنِ الْعِبَادَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ إِلاَّ إِذَا اقْتَرَنَ بِقِمَارٍ أَوْ فُحْشٍ أَوْ إِخْرَاجِ صَلاَةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ الْمُقَارِنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ مُطْلَقًا لِتَحْرِيمِهِ وَإِنْ عَرِيَ عَنِ الْقِمَارِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ لاَعِبُهُ غَيْرَ مُقَلِّدٍ فِي إِبَاحَتِهِ فَإِنْ قَلَّدَ مَنْ يَرَى حِلَّهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ بِوَاحِدٍ مِمَّا يَلِي: إِذَا كَانَ عَنْ قِمَارٍ أَوْ فَوَّتَ الصَّلاَةَ بِسَبَبِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَيْهِ أَوِ اللَّعِبِ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ ذَكَرَ عَلَيْهِ فِسْقًا.(35/271)
وَإِنَّمَا لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا لِشُبْهَةِ الاِخْتِلاَفِ فِي إِبَاحَتِهِ (1) .
لُعْبَةٌ
انْظُرْ: لَعِبٌ، تَصْوِيرٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 383، وكفاية الطالب 2 / 401، وحاشية الدسوقي 4 / 167، وروضة الطالبين 11 / 225، وكشاف القناع 6 / 423.(35/272)
لَعْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الإِْبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيل الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَيِّي مُلُوكَهَا: " أَبَيْتَ اللَّعْنَ " وَمَعْنَاهُ: أَبَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ تَأْتِيَ مَا تُلْعَنُ عَلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّبُّ:
2 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا هُوَ: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ (2) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) تاج العروس، وإعانة الطالبين 2 / 250، ومنح الجليل 4 / 476.(35/272)
الْقُبْحُ مِنَ السَّبِّ الْمُطْلَقِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّعْنِ:
مَنْ يَجُوزُ لَعْنُهُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَصُونِ بِاللَّعْنِ حَرَامٌ. أَمَّا الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا فَقَال بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (2) ". وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ (3) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ لأَِحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، كَانَ يَقُول فِي بَعْضِ صَلاَةِ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 20.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مرارًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 75) .
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 541، والقرطبي 2 / 189، والقليوبي 3 / 204، وكشاف القناع 6 / 126، والآداب الشرعية 1 / 303 - 308، وفتح الباري 12 / 75 وما بعدها، والأذكار ص548 ط. دار ابن كثير بيروت.(35/273)
لأَِحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ (1) ". وَقَال الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّ الْحَدَّ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ الذَّنْبَ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَجُوزُ لَعْنُهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لاَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَلْعَنُ إِلاَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ، فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلاَ لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ (2) .
4 - وَيَجُوزُ لَعْنُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ الْعُصَاةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ (3) ، وَلَعَنَ آكِل الرِّبَا (4) ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ (5) ، وَقَال: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَْرْضِ (6) ، وَلَعَنَ رَعْلاً وَذَكْوَانًا وَعَصِيَّةَ (7) ، وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ قَبَائِل
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 226) من حديث أبي هريرة.
(2) القرطبي 2 / 189، وفتح الباري 12 / 76.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 374) ومسلم (3 / 1676) من حديث أسماء بنت أبي بكر.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ". أخرجه مسلم (3 / 1219) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المصور ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426) من حديث أبي جحيفة.
(6) حديث: " لعن الله من غير منار الأرض ". أخرجه مسلم (3 / 1567) من حديث علي بن أبي طالب.
(7) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن رعلا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 467) من حديث أبي هريرة.(35/273)
مِنَ الْعَرَبِ، وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لأَِنَّ الْمُرَادَ: الْجِنْسُ لاَ الأَْفْرَادُ وَفِيهِمْ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا. وَيَكُونُ اللَّعْنُ لِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الأَْوْصَافِ: لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، لاَ لِقَصْدِ اللَّعْنِ عَلَى كُل فَرْدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ، لأَِنَّ لَعْنَ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ كَهَذَا الظَّالِمِ لاَ يَجُوزُ، فَكَيْفَ كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ لَمَا قُلْنَا مِنَ التَّنْفِيرِ وَالتَّحْذِيرِ، لاَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكَبَائِرِ خِلاَفًا لِمَنْ نَاطَ اللَّعْنَ بِالْكَبَائِرِ، لأَِنَّهُ وَرَدَ اللَّعْنُ فِي غَيْرِهَا (1) .
5 - أَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ لأَِنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ لاَ تُعْلَمُ وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِطْلاَقِ اللَّعْنَةِ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) ، وَلأَِنَّا لاَ نَدْرِي مَا يُخْتَمُ بِهِ لِهَذَا الْكَافِرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 541، وحاشية القليوبي 3 / 204، وإحياء علوم الدين 3 / 123، والأذكار ص373، وفتح الباري 12 / 76، والقرطبي 2 / 189، وما بعدها، والآداب الشرعية 1 / 303، وكشاف القناع 6 / 126.
(2) سورة البقرة / 161.(35/274)
الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِظَاهِرِ حَالِهِ وَلِجَوَازِ قَتْلِهِ وَقِتَالِهِ.
أَمَّا لَعْنُ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الأَْعْرَجَ يَقُول: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ، قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ أَمْ لَمْ تَكُنْ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ (2) لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَْنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ قَال عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآْنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 542، والقليوبي 3 / 204، والقرطبي 2 / 188، وكشاف القناع 6 / 125، والآداب الشرعية 1 / 303، والأذكار ص548.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 119، والأذكار ص545 - 546، والقليوبي 3 / 204.
(3) حديث: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2004) .(35/274)
لَغْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّغْطُ بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا: هُوَ الأَْصْوَاتُ الْمُبْهَمَةُ الْمُخْتَلِطَةُ، وَالْجَلَبَةُ الَّتِي لاَ تُفْهَمُ. وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: الأَْصْوَاتُ الْمُرْتَفِعَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقِرَاءَةِ أَوِ الذِّكْرِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللَّغْوُ:
2 - اللَّغْوُ لُغَةً:
مَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلاَمٍ وَغَيْرِهِ، وَلاَ يُحْصَل مِنْهُ عَلَى فَائِدَةٍ وَلاَ نَفْعٍ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا لاَ مَعْنَى لَهُ وَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ (3) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّغَطَ يُقْصَدُ مَعْنَاهُ، وَاللَّغْوُ قَدْ لاَ يُقْصَدُ مَعْنَاهُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وحاشية القليوبي 1 / 347.
(2) لسان العرب.
(3) قواعد الفقه للبركتي.(35/275)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّغَطِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ، وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ فِي حَالَةِ السَّيْرِ فِي الْجِنَازَةِ، وَفِي الْقِتَال، وَعِنْدَ الذِّكْرِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّغَطُ - وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ - بِالْقِرَاءَةِ أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ التَّهْلِيل أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ وَعِنْدَ الْقِتَال وَعِنْدَ الذِّكْرِ " (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الأَْثَرِ: فَمَا ظَنُّكَ عِنْدَ الْغِنَاءِ الَّذِي يُسْمَوُنَّهُ وَجْدًا وَمَحَبَّةً، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْقُرَّاءِ بِالتَّمْطِيطِ وَإِخْرَاجِ الْكَلاَمِ عَنْ مَوْضُوعِهِ - عِنْدَ الْجَنَائِزِ - فَحَرَامٌ يَجِبُ إِنْكَارُهُ (3) .
4 - وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ كَرَاهِيَةِ اللَّغَطِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الذِّكْرِ: التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ
__________
(1) المجموع 5 / 321، ومغني المحتاج 1 / 359، والقليوبي وعميرة 1 / 347، وابن عابدين 5 / 255 - 269، وفتح القدير 1 / 469، وبدائع الصنائع 1 / 310، وكشاف القناع 2 / 13.
(2) قول قيس بن عباد: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت. . . ". أخرجه البيهقي في سننه (4 / 74) .
(3) مغني المحتاج1 / 359، والمصادر السابقة.(35/275)
الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ (1) ، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَغَيُّرِ الأَْحْوَال: كَرُكُوبٍ، وَنُزُولٍ، وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَاخْتِلاَطِ رُفْقَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْبِيَةٌ ف 5 - 6) .
__________
(1) حديث: جاءني جبريل فقال: " يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 450) من حديث زيد بن خالد الجهني وأبي هريرة ثم قال: هذه الأسانيد كلها صحيحة وليس يعلل واحد منها الآخر، ووافقه الذهبي.(35/276)
لُغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللُّغَةُ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ: اللِّسْنُ، وَحَدُّهَا أَنَّهَا أَصْوَاتٌ يُعَبِّرُ بِهَا كُل قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ لَغَوْتُ أَيْ تَكَلَّمْتَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَلاَمُ:
2 - الْكَلاَمُ فِي أَصْل اللُّغَةِ: عِبَارَةً عَنْ أَصْوَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ لِمَعْنًى مَفْهُومٍ. وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْكَلاَمُ يَقَعُ عَلَى الأَْلْفَاظِ الْمَنْظُومَةِ وَعَلَى الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَهَا مَجْمُوعَةٌ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب مادة (لغا) .
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المفردات والمصباح المنير.(35/276)
وَاللُّغَةُ تُرَادِفُ الْكَلاَمَ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ.
ب - الْبَيَانُ:
3 - الْبَيَانُ لُغَةً: الإِْظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ وَالْكَشْفُ عَنِ الْخَفِيِّ أَوِ الْمُبْهَمِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (2) أَيِ الْكَلاَمَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهِ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْبَيَانُ أَخَصُّ مِنَ اللُّغَةِ.
وَاضِعُ اللُّغَةِ
4 - اخْتُلِفَ فِي وَاضِعِ اللُّغَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ الْبَشَرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ اصْطِلاَحِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: ابْتِدَاءُ اللُّغَةِ تَوْقِيفِيٌّ وَقَعَ بِالتَّعْلِيمِ مِنَ اللَّهِ، وَالْبَاقِي بِالاِصْطِلاَحِ.
الرَّابِعُ: ابْتِدَاؤُهَا وَقَعَ بِالاِصْطِلاَحِ، وَالْبَاقِي تَوْقِيفِيٌّ.
الْخَامِسُ: أَنَّ نَفْسَ الأَْلْفَاظِ دَلَّتْ عَلَى مَعَانِيهَا بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَال عُبَادَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
__________
(1) المفردات للراغب.
(2) سورة الرحمن / 4.(35/277)
السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأَْقْوَال مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَحَدِهَا، قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَبِهِ قَال الْجُمْهُورُ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الأَْقْسَامِ فَلاَ مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَتِهِ يَقِينًا، إِلاَّ بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ بِتَوَاتُرِ خَبَرٍ، أَوْ سَمْعٍ قَاطِعٍ، وَلاَ مَجَال لِبُرْهَانِ الْعَقْل فِي هَذَا، وَلَمْ يُنْقَل تَوَاتُرٌ، وَلاَ فِيهِ سَمْعٌ قَاطِعٌ، فَلاَ يَبْقَى إِلاَّ رَجْمُ الظَّنِّ فِي أَمْرٍ لاَ يَرْتَبِطُ بِهِ تَعَبُّدٌ عَمَلِيٌّ، وَلاَ تُرْهِقُ إِلَى اعْتِقَادِهِ حَاجَةٌ، فَالْخَوْضُ فِيهِ إِذًا فُضُولٌ لاَ أَصْل لَهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّغَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: تَعَلُّمُ اللُّغَةِ:
5 - تَعَلُّمُ اللُّغَةِ مَشْرُوعٌ بَل وَمَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ حُكْمَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَخْتَلِفُ عَنْ حُكْمِ تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ.
أ - تَعَلُّمُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
6 - قَال التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ: لِلْعَرَبِيَّةِ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الأَْلْسُنِ، وَهُوَ لِسَانُ أَهْل الْجَنَّةِ، مَنْ تَعَلَّمَهَا أَوْ عَلَّمَهَا غَيْرَهُ فَهُوَ
__________
(1) إرشاد الفحول ص / 14.
(2) المستصفى 1 / 318.(35/277)
مَأْجُورٌ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاَثٍ: لأَِنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلاَمُ أَهْل الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ (2) .
قَال الشَّافِعِيُّ: لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الأَْلْسِنَةِ مَذْهَبًا وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْفَضْل فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ يَجُوزُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَهْل لِسَانِهِ أَتْبَاعًا لأَِهْل لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، بَل كُل لِسَانٍ تَبَعٌ لِلِسَانِهِ، وَكُل أَهْل دِينٍ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ دِينِهِ (3) .
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ وَارِدَيْنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَلاَ سَبِيل إِلَى طَلَبِ فَهْمِهِمَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ (4) فَعَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَ جَهْدُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُو بِهِ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَنْطِقُ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (5) ، وَأَمَّا التَّبَحُّرُ بِعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا لاَ بُدَّ
__________
(1) الدر المختار 5 / 269.
(2) حديث: " أحبو العرب. . . ". أورده الهيثمي في المجمع (10 / 52) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال: " لسان أهل الجنة عربي " وفيه العلاء ابن عمرو الحنفي وهو مجمع على ضعفه.
(3) الرسالة للشافعي ص42، 46.
(4) الموافقات 2 / 64 بتصرف بسيط.
(5) الرسالة للشافعي ص48.(35/278)
مِنْهُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا أَهْمَلُوا جَمِيعًا أَثِمُوا (1) .
ب - تَعَلُّمُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ مِنَ اللُّغَاتِ
7 - يُبَاحُ تَعَلُّمُ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِلأَْفْرَادِ، وَقَدْ تُسْتَحَبُّ لَهُمْ، وَيَجِبُ تَعَلُّمُهَا وُجُوبَ كِفَايَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَاتِّقَاءِ شَرِّ الأَْعْدَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ قَال فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَال: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا لَهُ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ "، (3) وَالإِْسْلاَمُ رِسَالَةٌ عَالَمِيَّةٌ، قَال تَعَالَى: {قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا بِلُغَةٍ يَفْهَمُونَهَا وُجُوبَ كِفَايَةٍ (5) .
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9 / 214.
(2) حديث زيد بن ثابت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 67 - 68) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " أنه أمر زيد بن ثابت أن يتعلم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 182) والحاكم (3 / 422) .
(4) سورة الأعراف / 158.
(5) المغني 9 / 100، وفتح الباري 13 / 185 - 186.(35/278)
ثَانِيًا: تَرْجَمَةُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ
8 - لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الدَّلاَلَةُ الأَْصْلِيَّةُ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ مُقَيَّدَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ وَهِيَ الدَّلاَلَةُ الثَّابِتَةُ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّاطِبِيُّ حُكْمَ تَرْجَمَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ بِحَسَبِ كُل وَاحِدٍ مِنَ النَّظَرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَرْجَمَةٌ ف 3) .
ثَالِثًا: اتِّخَاذُ الْقَاضِي مُتَرْجِمًا
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي مُتَرْجِمًا فَقَدْ يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ أَعْجَمِيَّانِ لاَ يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا أَوْ عَرَبِيٌّ وَأَعْجَمِيٌّ فَيُفَسِّرُ الْمُتَرْجِمُ لَهُ لُغَةَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اتِّخَاذِ الْقَاضِي لِلْمُتَرْجِمِ وَفِي عَدَدِ مَنْ يَتَّخِذُهُ لِلتَّرْجَمَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَعْجَمِيًّا أَوْ لاَ يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ وَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَوْ لاَ يَعْرِفُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ عَدْلَيْنِ يُتَرْجِمَانِ لِلْمُدَّعِي وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَهُ(35/279)
وَيَفْهَمُ هُوَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَزُفَرَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي التَّرْجَمَةِ (1) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَمِعَ الْقَرِينَانِ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ إِنِ احْتَكَمَ لِلْقَاضِي خُصُومٌ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلاَ يَفْقُهُ كَلاَمَهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُمْ رَجُلٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ مُسْلِمٌ، وَاثْنَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَيُجْزِئُ الْوَاحِدُ، وَلاَ تُقْبَل تَرْجَمَةُ الْكَافِرِ أَوِ الْعَبْدِ أَوِ الْمَسْخُوطِ، وَلاَ بَأْسَ بِتَرْجَمَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْل الْعَفَافِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَّخِذُ الْقَاضِي نَدْبًا مُتَرْجِمًا، لأَِنَّهُ قَدْ يَجْهَل لِسَانَ الْخُصُومِ أَوِ الشُّهُودِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ لُغَةَ الْخُصُومِ لَمْ يَتَّخِذْهُ، وَشَرْطُهُ أَيِ الْمُتَرْجِمُ عَدَالَةٌ وَحُرِّيَّةٌ وَعَدَدٌ، أَيِ اثْنَانِ وَلَوْ فِي زِنًا وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ كُلُّهُمْ أَعَجَمِيِّينَ لأَِنَّهُ يَنْقُل إِلَى الْقَاضِي قَوْلاً لاَ يَعْرِفُهُ فَأَشْبَهَ الْمُزَكِّيَ وَالشَّاهِدَ، نَعَمْ يَكْفِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِمَا، وَقِيسَ بِهِمَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِنَّ، وَيَكْفِي اثْنَانِ عَنِ الْخَصْمَيْنِ كَشُهُودِ الْفَرْعِ (3) .
__________
(1) روضة القضاة وطريق النجاة 1 / 189.
(2) الخرشي 7 / 149.
(3) نهاية المحتاج 8 / 240.(35/279)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَحَاكَمَ إِلَى الْقَاضِي الْعَرَبِيِّ أَعْجَمِيَّانِ لاَ يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا، أَوْ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمٍ عَنْهُمَا وَلاَ تُقْبَل التَّرْجَمَةُ إِلاَّ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَالتَّرْجَمَةُ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَيُعْتَبَرُ فِيهَا مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الإِْقْرَارِ بِذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَلَمْ يَكْفِ إِلاَّ شَاهِدَانِ ذَكَرَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا كَفَى فِيهِ تَرْجَمَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَمْ تُعْتَبَرِ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ زِنًا خَرَجَ فِي التَّرْجَمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَكْفِي فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُولٍ، وَالثَّانِي: يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ (1) .
رَابِعًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا بِلُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْمُصَلِّي الْعَرَبِيَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2) وَتَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ.
__________
(1) المغني 9 / 100 - 101.
(2) سورة المزمل / 20.(35/280)