فَيَكُونُ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، وَهَكَذَا كُل مَا تَحْتَاجُ قِسْمَتُهُ إِلَى كَسْرٍ أَوْ قَطْعٍ، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ مَعَ مَا لاَ يُقْسَمُ - لِمَا فِي قِسْمَتِهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَامِّ لِلْمُقْتَسِمَيْنِ، مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ قَنَاةٍ - أَرْضٍ، قُسِمَتِ الأَْرْضُ وَتُرِكَتِ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ وَمَا إِلَيْهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، أَمَّا عَلَى التَّرَاضِي فَلاَ مَانِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الإِْضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالْقَاضِي لاَ يَمْنَعُ بِالْقَضَاءِ مَنْ يَقْدَمُ عَلَى إِتْلاَفِ مَالِهِ (1) .
أَمَّا الضَّرَرُ الْخَاصُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ - كَمَا لَوْ كَانَ نَصِيبُ وَاحِدٍ فَحَسْبُ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ الطَّاحُونِ هُوَ الَّذِي يَتَّسِعُ لِمِثْل ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَضِرُّ هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ أَمْ غَيْرُهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُسْتَضِرُّ هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ، فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ نَفْسِهِ، وَبِذَا صَارَتِ الْقِسْمَةُ كَالْخَالِيَةِ مِنْ شَوْبِ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الآْخَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ اللاَّحِقَ بِالْمُسْتَضِرِّ مِنَ الْقِسْمَةِ لَيْسَ - إِذَا أَمْعَنَّا النَّظَرَ - بِضَرَرٍ حَقِيقِيٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا كُل مَا هُنَالِكَ أَنَّهُ بِسَبَبِ قِلَّةِ نَصِيبِهِ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ اسْتِمْرَارَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا يَأْبَى عَلَيْهِ، وَيُطَالِبُ بِاسْتِخْلاَصِ حَقِّهِ، وَتَكْمِيل مَنَافِعِ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتِ
__________
(1) البدائع 7 / 19، ورد المحتار 5 / 171.(33/216)
الْقِسْمَةُ، وَوَظِيفَةُ الْقَاضِي الْقِيَامُ بِوَاجِبِ الإِْنْصَافِ، وَإِعْطَاءُ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لاَ يَخُصُّ الطَّالِبَ، فَيَشْمَل الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِالْمُمْتَنِعِ وَالضَّرَرَ الْعَامَّ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ طَالِبِ الْقِسْمَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِطَلَبِهِ، إِذْ مَعْنَاهُ رِضَاهُ بِضَرَرِ نَفْسِهِ، أَمَّا ضَرَرُ الآْخَرِ (وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ) فَلَيْسَ ثَمَّ مَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَهُ، وَالطَّالِبُ لاَ يُسَلَّطُ عَلَى الإِْضْرَارِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لاَ يَخُصُّ الْمُمْتَنِعَ فَيَشْمَل الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِطَالِبِ الْقِسْمَةِ، وَالضَّرَرَ الْعَامَّ أَيْ عَكْسَ الثَّانِي؛ لأَِنَّ ضَرَرَ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ ضَرَرًا حَقِيقِيًّا - كَمَا أَوْضَحْنَاهُ - فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي ضَرَرِ الطَّالِبِ: فَإِذَا انْتَفَى فَلَيْسَ ثَمَّ مَانِعٌ مَا مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ، كَانَ مُتَعَنِّتًا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ، وَالْمُتَعَنِّتُ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقِسْمَةُ الإِْجْبَارِ لاَ تَكُونُ بِدُونِ طَلَبٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَصَّافُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ، وَقَال فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّهُ الأَْصَحُّ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 357، والبحر الرائق 8 / 172، وبدائع الصنائع 7 / 21.(33/217)
14 - أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي: فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، بَل الرِّضَا بِهِ مِمَّنْ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ (1) ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ ضَارَّةً بِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ لَكِنَّهُمْ رَضَوْا بِهَا فَهَذَا شَأْنُهُمْ وَحْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لاَ يَعْدُوهُمْ، وَهُمْ أَدْرَى بِحَاجَاتِهِمْ، فَلاَ يَكُونُ ثَمَّ مَانِعٌ مِنْهَا وَقَدْ رَضُوا بِضَرَرِ أَنْفُسِهِمْ (2) .
15 - وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ تَتَنَوَّعُ إِلَى: قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقِسْمَةِ إِجْبَارٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَمْ تَتَّفِقْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى قَبُول الْقِسْمَةِ لِلإِْجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ (قِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ) - بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ (ف 9) ؛ لأَِنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ عَلَى الْكَمَال، وَأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، دُونَ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ (3) .
كَمَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الإِْجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ؛ لأَِنَّهُ فِيهَا تَمْلِيكُ مَا لاَ شَرِكَةَ فِيهِ، وَالشَّأْنُ فِيهِ أَلاَّ يَقْبَل الإِْجْبَارُ (4) ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيل بِمَعْنَاهَا السَّابِقِ (ف 10) فَمِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، مَنْ يَمْنَعُ قَبُولَهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 21.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 358.
(3) المهذب 2 / 307.
(4) مغني المحتاج 4 / 423، والمغني لابن قدامة 11 / 493.(33/217)
لِلإِْجْبَارِ مَنْعًا مُطْلَقًا لاَ اسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الأَْنْصِبَاءَ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ بِنَفْسِهَا. بَل بِقِيمَتِهَا، وَالأَْغْرَاضُ وَالْمَنَافِعُ تَتَفَاوَتُ رَغْمَ اسْتِوَاءِ الْقِيمَةِ، فَلَيْسَتْ حَدِيقَةُ الْبُرْتُقَال كَحَدِيقَةِ الْعِنَبِ، فِي نَفْسِهَا وَلاَ فِي عَائِدَتِهَا وَجَدْوَاهَا، وَلاَ فِي مُلاَقَاةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَحَاجَاتِهِمْ - وَلَوْ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ وَتِلْكَ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلاً، وَلاَ الْمِسَاحَةُ الصَّغِيرَةُ الْجَيِّدَةُ التُّرْبَةِ أَوِ الْمُطِلَّةُ عَلَى النَّهْرِ كَالْمِسَاحَةِ الْفَسِيحَةِ الرَّدِيئَةِ أَوِ الْخَلْفِيَّةِ - وَإِنْ تَسَاوَتْ قِيمَتَاهَا (1) .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسِيغُهُ؛ لأَِنَّ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَلَنْ يَفُوتَ الآْخَرَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ تَنْزِيلاً لِلتَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ مَنْزِلَةَ التَّسَاوِي فِي الأَْجْزَاءِ (2) ، وَمَا عَسَاهُ يَفُوتُ عَيْنًا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ مَسَاوِئِ الشَّرِكَةِ، بَل رُبَّمَا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْقِسْمَةِ سَيِّئَ النِّيَّةِ، يُرِيدُ الْجَوْرَ وَالاِغْتِصَابَ بِالإِْبْقَاءِ عَلَى شَرِكَةٍ غَيْرِ مُتَوَازِنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لاَ يَمْلِكُ فِيهَا إِلاَّ بِنِسْبَةِ الْعُشْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ إِيضَاحُهُ (ف 13) وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ مُعَوَّل أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) مغني المحتاج 4 / 423.(33/218)
عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبْدَوُا احْتِمَالاً بِمِثْل الْقَوْل الأَْوَّل لِلشَّافِعِيِّ فِي خُصُوصِ الْمَنْقُولاَتِ (1) ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ عَادُوا بَعْدَمَا أَطْلَقُوهُ، فَذَكَرُوا فُرُوعًا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَقْيِيدُهُ، وَفَعَل الْحَنَابِلَةُ مِثْل ذَلِكَ أَيْضًا، وَزَادُوا التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ الشَّرَائِطِ.
وَهَاكَ مَا اجْتَمَعَ لَنَا مِنْ قُيُودِهِمْ:
16 - أَوَّلاً: اتِّحَادُ الْجِنْسِ: وَيُرِيدُونَ بِالْجِنْسِ هُنَا النَّوْعَ، فَالْعَقَارُ الْوَاحِدُ الَّذِي لاَ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَالأَْرْضِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهَا جَوْدَةً وَرَدَاءَةً، أَوْ يَخْتَلِفُ نَوْعُ غِرَاسِهَا - كَأَنْ كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا حَدِيقَةُ عِنَبٍ وَفِي الآْخَرِ حَدِيقَةُ نَخْلٍ، وَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يَكُونُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا بِنَاءٌ مِنْ حَجَرٍ وَفِي الآْخَرِ بِنَاءٌ مِنَ اللَّبِنِ، أَوْ لأَِحَدِهِمَا وَاجِهَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَلِلآْخَرِ وَاجِهَةٌ مَرْغُوبٌ عَنْهَا - هَذَا الْعَقَارُ يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهِ، فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ أَجْبَرَ الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ (2) ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ كَأَبِي الْخَطَّابِ، مَنْ يَذْكُرُونَ هُنَا تَفَقُّهًا - وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُهُمْ - أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ الْجَيِّدِ وَحْدَهُ وَالرَّدِيءِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الإِْجْبَارَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى قِسْمَةِ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، قِيَاسًا عَلَى الأَْرَاضِي الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 11 / 490.
(2) التجريد المفيد 4 / 371، والمغني لابن قدامة 11 / 490.(33/218)
يُمْكِنُ قِسْمَةُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَى جَمْعِ الْكُل حِينَئِذٍ وَقِسْمَتِهِ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ (1) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ - بِجَانِبِ أَنَّ الأَْرَاضِيَ تُعْتَبَرُ نَوْعًا وَاحِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَنَّ تَعَدُّدَهَا بِمَثَابَةِ اخْتِلاَفِ الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ - أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ الإِْفْرَازِ، لاَ يَلْجَأُ الْقَاضِي إِلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيل، وَمَتَى أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ كُل عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ تَعْدِيلاً، لاَ يَلْجَأُ الْقَاضِي إِلَى قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ مُجْتَمِعَةً، وَهَذَا بَيِّنٌ لاَئِحٌ؛ لأَِنَّ الْوُصُول إِلَى عَيْنِ الْحَقِّ مَا أَمْكَنَ هُوَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ، أَمَّا بِالتَّرَاضِي فَلِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا شَاءُوا، إِفْرَازًا أَوْ تَعْدِيلاً أَوْ رَدًّا (2) .
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ نَوْعُ الْعَقَارِ، كَأَنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ فِي عِدَّةِ دُورٍ أَوْ حَوَانِيتَ، فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا حَقِيقَةً لاِخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ بِاخْتِلاَفِ الأَْبْنِيَةِ وَمَوَاقِعِ الْبِنَاءِ (3) ، وَلاَ يُجْمَعُ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ. فَتُقْسَمُ - إِنْ لَمْ يَتَرَاضَوْا عَلَى الْجَمْعِ - كُل دَارٍ وَكُل حَانُوتٍ عَلَى حِدَةٍ،
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 273، ومغني المحتاج 4 / 423، والتجريد المفيد 4 / 371، والمغني 11 / 499، ومطالب أولي النهى 6 / 556.
(2) المهذب 2 / 308 وفي كلام الحنفية ما يفيده (تكملة فتح القدير 8 / 368) .
(3) مغني المحتاج 4 / 423.(33/219)
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَجَاوِرَةً أَمْ مُتَبَاعِدَةً، لِتَفَاوُتِ مَقَاصِدِهَا (1) ، نَعَمْ. اعْتَمَدَ الشَّافِعِيَّةُ - خِلاَفًا لِبَعْضٍ مِنْهُمْ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ الذَّاهِبِينَ إِلَى أَنَّ كُل مَا لاَ تَجْمَعُهُ الشُّفْعَةُ لاَ تَجْمَعُهُ الْقِسْمَةُ، إِذْ كِلْتَاهُمَا لإِِزَالَةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ (2) أَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا أَمْكَنَ تَنْزِيلُهُمَا مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، لِكَوْنِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحُجَرِ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ، يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَقَدْ ضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ (3) .
الأَْوَّل: ضَيْعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَتَأَلَّفُ مِنْ بِضْعَةِ أَفْدِنَةٍ وَدَارَيْنِ، فَإِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَاقْتَضَتْ أَنْ يَسْتَقِل كُلٌّ مِنْهُمَا بِدَارٍ مِنَ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ إِلَى ذَلِكَ.
الثَّانِي: الدَّكَاكِينُ الصِّغَارُ الْمُتَلاَصِقَةُ (وَتُسَمَّى الْعَضَائِدَ) (4) ، فَلاَ تَتَفَاوَتُ فِيهَا الأَْغْرَاضُ وَالَّتِي لاَ يَقْبَل كُلٌّ مِنْهَا الْقِسْمَةَ عَلَى حِدَةٍ، يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَهَا فِي قِسْمَةِ أَعْيَانِهَا قِسْمَةُ إِجْبَارٍ، عَلَى أَلاَّ تَبْقَى لِلشَّرِكَةِ عَلَقَةٌ، كَمَا سَيَجِيءُ.
17 - ثَانِيًا: اتِّحَادُ الصِّنْفِ: فِي قِسْمَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 274، ومطالب أولي النهى 6 / 551.
(2) المغني لابن قدامة 11 / 498 - 500.
(3) مغني المحتاج 4 / 423.
(4) في شرح غريب المهذب: أراد بها دكاكين متلاصقة متوالية البناء، وقال الجوهري: أعضاد كل شيء ما يسند حوله من البناء وغيره، كأعضاد الحوض، وهي حجارة تنصب حول شفيره، ولعلها سميت عضائد من هذا البناء، ويقال: عضد من نحل، إذا كانت منعطفة ومتساوية (المهذب للش(33/219)
الْمَنْقُولاَتِ، فَلَيْسَ يَكْفِي فِيهَا اتِّحَادُ الْجِنْسِ حَتَّى يَتَّحِدَ صِنْفُهَا أَيْضًا، لأَِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُقَلِّل مِنْ شَأْنِ تَفَاوُتِ الأَْغْرَاضِ فِيهَا. فَلاَ إِجْبَارَ عَلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيل عِنْدَمَا يَخْتَلِفُ جِنْسُ الْمَنْقُولاَتِ: كَأَبْسِطَةٍ وَسَتَائِرَ وَوَسَائِدَ وَحَشَايَا وَمَقَاعِدَ وَمَنَاضِدَ وَثَلاَّجَاتٍ وَقَمَاطِرَ، أَوْ يَخْتَلِفُ نَوْعُهَا: كَثِيَابٍ بَعْضُهَا حَرِيرٌ. وَبَعْضُهَا قُطْنٌ، وَبَعْضُهَا صُوفٌ، وَأَبْسِطَةٍ عَجَمِيَّةٍ وَأُخْرَى عَادِيَّةٍ، وَقَمَاطِرَ خَشَبِيَّةٍ وَأُخْرَى مِنَ الصَّاجِ، أَوْ يَخْتَلِفُ صِنْفُهَا: كَحَرِيرٍ هِنْدِيٍّ وَحَرِيرٍ يَابَانِيٍّ، وَخَشَبٍ زَانٍ وَخَشَبٍ أَبْيَضَ.
وَلاَ بُدَّ أَنْ يُفْرَضَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالصِّنْفِ اخْتِلاَفُ الصُّورَةِ وَالْمَظْهَرِ، أَوِ اخْتِلاَفُ الْقِيمَةِ وَإِلاَّ كَانَ الْمَوْضِعُ لِقِسْمَةِ الْمُتَشَابِهِ (قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ) ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ (ف 9) ، لاَ لِقِسْمَةِ التَّعْدِيل، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (1) ، فَالأَْبْسِطَةُ مَثَلاً تَخْتَلِفُ أَحْجَامُهَا وَعَدَدُ فَتَلاَتِهَا - وَهُوَ اخْتِلاَفٌ فِي الصُّورَةِ - وَيَتْبَعُهُ اخْتِلاَفُ الْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ هُنَالِكَ ثَلاَثَةُ أَبْسِطَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، وَقِيمَةُ أَحَدِهَا مِائَةُ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الآْخَرَيْنِ مَعًا مِائَةٌ، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، أَيْ قِسْمَةِ تَعْدِيلٍ،
__________
(1) الباجوري على ابن قاسم 2 / 354.(33/220)
فَإِنَّهُ يُجَابُ وَيُجْبَرُ الآْخَرُ إِذَا امْتَنَعَ، لِقِلَّةِ تَفَاوُتِ الأَْغْرَاضِ حِينَئِذٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُ الأَْبْسِطَةِ أَوْ أَصْنَافُهَا، فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى قِسْمَتِهَا قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي؛ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِ الأَْغْرَاضِ بِكُل نَوْعٍ وَصِنْفٍ، وَهَكَذَا يُقَال فِي غَيْرِ الأَْبْسِطَةِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ آحَادُهُ لاَ تَقْبَل الْقِسْمَةَ أَصْلاً كَالْحَيَوَانَاتِ، كَمَا إِذَا فَرَضْنَا مَكَانَ الأَْبْسِطَةِ ثَلاَثَ بَقَرَاتٍ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ سِوَى اتِّحَادِ النَّوْعِ وَتَسَاوِي الْقِيمَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الصِّنْفُ، كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ (2) .
18 - ثَالِثًا: أَلاَّ تُبْقِيَ الْقِسْمَةُ شَيْئًا مُشْتَرَكًا: أَيْ مِنَ الْمَال الْمُرَادِ قَسْمُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْنُونَهُ " بِانْقِطَاعِ الْعَلَقَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ "، وَهَاكَ بِضْعَةُ أَمْثِلَةٍ:
أ - سَيَّارَتَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، قِيمَةُ إِحْدَاهُمَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ الأُْخْرَى خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَحَسْبُ، لاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى قِسْمَتِهِمَا إِذَا مَنَعْنَا الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَةِ السَّيَّارَةِ الأَْعْلَى قِيمَةً، لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِيهَا حِينَئِذٍ، وَلِذَا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَقَرَتَانِ، قِيمَةُ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ الأُْخْرَى، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ عَلَى أَنْ يَبْقَى لِمَنْ خَرَجَ لَهُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 551.(33/220)
أَقَلُّهُمَا قِيمَةً رُبْعُ الأُْخْرَى، فَلاَ إِجْبَارَ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهَكَذَا كُل أَدْنَى وَأَعْلَى (1) ، وَمِثْلُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (2) .
ب - الأَْرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ يَكُونُ فِيهَا بِنَاءٌ أَوْ شَجَرٌ، فَيَطْلُبُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ قِسْمَةَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَحْدَهُ، وَتَبْقَى الأَْرْضُ مُشْتَرَكَةً، أَوْ يَطْلُبُ قِسْمَةَ الأَْرْضِ وَحْدَهَا، وَيَبْقَى الْبِنَاءُ أَوِ الشَّجَرُ مُشْتَرَكًا، لاَ يُجَابُ إِلَى طَلَبِهِ، أَيْ أَنَّهُ لاَ إِجْبَارَ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُزِيل الشَّرِكَةَ تَمَامًا، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ.
ج - يَقُولُونَ: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى قِسْمَةِ عُلُوٍّ وَسُفْلٍ مِنْ دَارٍ أَمْكَنَ قِسْمَتُهَا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ تَابِعٌ لِلأَْرْضِ، كَالشَّجَرِ فِيهَا لاَ عَلَى قِسْمَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ تُرَادُ لِلتَّمْيِيزِ، وَلاَ عَلَى جَعْلِهِ لِوَاحِدٍ وَالآْخَرُ لآِخَرَ (3) ، وَقَدْ يُعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتِ الشَّرِكَةُ تَمَامًا بِقِسْمَةِ الطَّابَقَيْنِ جَمِيعًا صَحَّ الإِْجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَلَمَّا بَقِيَتْ فِي بَعْضِ الدَّارِ بِقِسْمَةِ أَعْلاَهَا دُونَ أَسْفَلِهَا، أَوِ الْعَكْسُ، لَمْ يُمْكِنِ الإِْجْبَارُ عَلَى هَذَا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي (4) .
وَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْمَالِكِيَّةُ مَانِعًا بِأَيَّةِ حَالٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ السُّفْل لِوَاحِدٍ، وَالْعُلُوُّ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) الفروع 3 / 846.
(3) مغني المحتاج 4 / 423، والمغني لابن قدامة 11 / 497.
(4) نهاية المحتاج 8 / 274.(33/221)
لآِخَرَ (1) ، وَرُبَّمَا صَوَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اسْمًا وَمَنْفَعَةً، فَلاَ يَقْبَل الإِْجْبَارَ (2) .
نَعَمْ يُغْتَفَرُ بَقَاءُ الشَّرِكَةِ فِي التَّوَابِعِ وَالْمُلْحَقَاتِ، صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَقَاءِ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُتَقَاسِمِينَ - لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِقْلاَل كُلٍّ بِطَرِيقٍ - فَإِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ (3) .
19 - رَابِعًا: أَنْ لاَ تَنْقُصَ قِيمَةُ الْمَقْسُومِ بِقِسْمَتِهِ: وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْمُهَذَّبِ لِلشِّيرَازِيِّ، وَصَرَّحَ بِهَا الْجِيلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَنَقَلُوهَا عَنْهُ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَعَدِّدِ الْجِنْسِ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ تَنْزِيلاً لَهُ مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، كَالْحُجَرِ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ نَقْصَ الْقِيمَةِ ضَرَرٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ، فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الْقَضَاءُ، لَكِنْ سَيَأْتِي لَهُمْ تَفْسِيرُ الضَّرَرِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
20 - خَامِسًا: تَعَذُّرُ قِسْمَةِ كُل نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ: وَقَدْ فُهِمَ هَذَا مِمَّا سَبَقَ (ف 16) ، لَكِنَّهُ خَاصٌّ بِالْعَقَارَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَنْقُولاَتِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهَا قِسْمَةَ جَمْعٍ إِلاَّ
__________
(1) البدائع 7 / 27، والمدونة 14 / 168، 169.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 552.
(3) نهاية المحتاج 8 / 274.
(4) المهذب 2 / 308.(33/221)
إِذَا اتَّحَدَ صِنْفُهَا، نَعَمْ. هُوَ عَلَى عُمُومِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
21 - وَالْمَالِكِيَّةُ يَجْعَلُونَ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ فِيمَا تَمَاثَل أَوْ تَقَارَبَ دُونَ رَدٍّ، وَقِسْمَةَ التَّرَاضِي فِيمَا عَدَاهُ، كَمَا أَسْلَفْنَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي أَنَّ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ مَشْرُوطَةٌ بِاتِّحَادِ النَّوْعِ أَيْضًا، وَبِعَدَمِ الرَّدِّ - إِلاَّ أَنْ يَقِل فِي قَوْلٍ لَهُمْ - وَلَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
أ - الْمَوْضِعُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لَيْسَ كُل مَا اتَّحَدَ نَوْعُهُ يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهِ، بَل لاَ بُدَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ وَفِي رَغَبَاتِ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ بُدَّ أَيْضًا مِنْ قُرْبِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْعَقَارِ، فَقِطْعَةُ الأَْرْضِ الَّتِي تَبْعُدُ عَنِ الأُْخْرَى أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ تَكُونُ أَجْوَدَ مِنْهَا تُرْبَةً، أَوْ أَدْنَى إِلَى رَغْبَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دُونَ الآْخَرِ - لِقُرْبِهَا مِنْ مَسْكَنِهِ مَثَلاً، أَوْ لأَِنَّهَا تُسْقَى بِدُونِ آلاَتٍ - لاَ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِمَا مَعًا كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، بَل تُقْسَمُ كُل قِطْعَةٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَلاَ بُدَّ لِلإِْجْبَارِ عَلَى الضَّمِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنِ اتِّحَادِ نَوْعِ الأَْشْجَارِ فِي حَدَائِقِ الْفَاكِهَةِ، وَعَدَمِ إِمْكَانِ قِسْمَةِ كُل حَدِيقَةٍ عَلَى حِدَةٍ، بَل إِنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 272، والمغني لابن قدامة 11 / 490، ومطالب أولي النهى 6 / 556.(33/222)
الْحَدِيقَةَ الْوَاحِدَةَ تَكُونُ أَشْجَارًا جَانِبٌ مِنْهَا النَّخْل، وَجَانِبٌ آخَرُ التُّفَّاحُ أَوِ الرُّمَّانُ، أَوِ الْخَوْخُ، لاَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهَا قِسْمَةَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، بَل يُقْسَمُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَشْجَارِهَا عَلَى حِدَةٍ حَيْثُ أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ (1) فَإِنَّهُ إِذَنْ لِلضَّرُورَةِ يَصِحُّ الإِْجْبَارُ عَلَى ضَمِّ النَّوْعِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقِسْمَةُ الْجَمِيعِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ التَّعْدِيل بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَحْصُل أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَلَى أَصْنَافٍ مِنَ الأَْشْجَارِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
ب - الْمَوْضِعُ الثَّانِي: أَنْ لَيْسَ كُل مَا اخْتَلَفَ نَوْعُهُ لاَ يَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهِ، فَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَقْسِمُونَ أَنْوَاعَ الثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ: مِنْ قُطْنٍ وَصُوفٍ وَحَرِيرٍ. . . إِلَخْ قِسْمَةَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ تَعْدِيلاً وَجَبْرًا. وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الأَْرْضَ نَوْعٌ وَأَشْجَارَهَا نَوْعٌ آخَرُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الأَْشْجَارُ تُقْسَمُ الأَْرْضُ وَأَشْجَارُهَا مَعًا، لاَ الأَْرْضُ وَحْدَهَا وَالأَْشْجَارُ وَحْدَهَا، وَإِلاَّ فَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ بَعْضُ شَجَرِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي أَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا يُخَالِفُ قِسْمَةَ الْبَسَاتِينِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الشَّجَرُ، وَالأَْرْضُ تَبَعٌ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا الأَْرْضُ، وَالأَْشْجَارُ تَبَعٌ (2) .
__________
(1) ومن صور عدم الإمكان أن تختلط الأشجار: كنخلة تليها شجرة رمان، فشجرة تفاح، فشجرة خوخ وهذا دواليك.
(2) الخرشي 4 / 402، 404، وبلغة السالك 2 / 240.(33/222)
ج - الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ بَيْنَ نَصِيبَيْنِ، قَالُوا: لأَِنَّ قِسْمَةَ الإِْجْبَارِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْقُرْعَةِ، وَفِي الْقُرْعَةِ غَرَرٌ يُرْتَكَبُ، ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِسْمَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ لِجَمْعِ نَصِيبَيْنِ (1) (مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْلِيلٌ لِلْغَرَرِ) ، وَمَعَ ذَلِكَ حَتَّمُوا إِجْمَاعَ كُل أَصْحَابِ فَرْضٍ فِي نَصِيبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، أَيْ بَيْنَ ذَوِي فُرُوضٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ ذَوِي فَرْضٍ وَاحِدٍ أَوْ عَصَبَةٍ، وَسَوَّغُوا اجْتِمَاعَ الْعَصَبَةِ - بِرِضَاهُمْ - فِي نَصِيبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ مُقَاسَمَتِهِمْ ذَوِي الْفُرُوضِ، وَأَلْزَمُوا الْوَرَثَةَ مُطْلَقًا بِهَذَا الاِجْتِمَاعِ - إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمْ - فِي مُقَاسَمَةِ شَرِيكٍ لِمُوَرِّثِهِمْ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا بِنَصِيبِ مُوَرِّثِهِمْ، ثُمَّ لِلْجَمِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءُوا - وَقَبِل نَصِيبُهُمُ الْقِسْمَةَ - أَنْ يَقْتَسِمُوهُ بَيْنَهُمْ (2) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ الشَّرِكَةِ فِي التَّوَابِعِ - وَسَبَقَ نَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ (ف 18) - فَإِنَّ مَرَافِقَ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ إِذَا سُكِتَ عَنْهَا فِي الْقِسْمَةِ تَبْقَى عَلَى الاِشْتِرَاكِ كَمَا كَانَتْ (3) .
د - الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَعَذُّرُ قِسْمَةِ كُل صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ فِيمَا عَدَا الْبَسَاتِينَ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ فِي قِسْمَتِهَا
__________
(1) الرهوني 6 / 310.
(2) الخرشي 4 / 410، 411، وبلغة السالك 2 / 242.
(3) الخرشي 4 / 410.(33/223)
بَيْنَ صِنْفَيْنِ، كَتُفَّاحٍ وَرُمَّانٍ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَتْ قِسْمَةُ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، وَسَوَاءٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُول، فَالدُّورُ وَالأَْرَاضِي تُجْمَعُ فِي الْقِسْمَةِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ - وَإِنْ أَمْكَنَتْ قِسْمَةُ كُل دَارٍ وَكُل حَقْلٍ عَلَى حِدَةٍ (1) - وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ، إِلاَّ أَنَّ نَصَّ الْمُدَوَّنَةِ يُخَالِفُهُ فِي الثِّيَابِ، وَنَصُّ عِبَارَتِهَا: " هَذِهِ ثِيَابٌ كُلُّهَا تُجْمَعُ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَتْ لاَ تَحْتَمِل أَنْ يُقْسَمَ كُل صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ " (2) ، " وَفِي الدَّارِ الْمَعْرُوفَةِ بِالسُّكْنَى لِلْمَيِّتِ أَوِ الْوَرَثَةِ " بِنَاءً عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ خَلِيلٌ مِنْ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى جَمْعِهَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدُّورِ فِي قِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ لاَ يُجَابُ مَتَى دَعَا آخَرُ إِلَى إِفْرَادِهَا بِالْقِسْمَةِ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ. (3)
22 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَكَذَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرِيطَةِ الإِْجْبَارِ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِنَفْسِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، أَيْ فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَإِنْ بَقِيَ الْمَال مُنْتَفَعًا بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا، لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْمَنَافِعِ (4) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى تَقْرِيرِ الْخِرَقِيِّ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ جَرَى عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْمُعْتَمَدُ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 240، 241.
(2) المدونة 14 / 179.
(3) الخرشي 4 / 403.
(4) مغني المحتاج 4 / 421.(33/223)
خِلاَفُهَا، وَهُوَ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَانِعَ مِنَ الإِْجْبَارِ هُوَ نَقْصُ الْقِيمَةِ (1) .
وَفِي كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ مَا قَدْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ أَحْيَانًا يَنْظُرُونَ إِلَى الْقِيمَةِ. بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَتْ بِقِسْمَةِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَال الْمُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ (2) .
23 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْدِيدِ مَدَى الضَّرَرِ الْمَشْرُوطِ انْتِفَاؤُهُ لِلإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ، عَلَى آرَاءٍ:
الأَْوَّل: مُطْلَقُ ضَرَرٍ: وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْحَنَابِلَةِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى " لِنَهْيِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ " (3) ، " عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال " (4) ، سَوَاءٌ كَانَ فِي فَضِّ الشَّرِكَةِ - كَمَا هُنَا - أَمِ الْبَقِيَّةِ عَلَيْهَا - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا لَوْ أَوْصَى إِنْسَانٌ بِخَاتَمِهِ لِشَخْصٍ، وَبِفَصِّهِ لآِخَرَ - إِذْ قَالُوا: إِنَّ أَيَّهُمَا طَلَبَ قَلْعَ الْفَصِّ يُجَابُ (5) ،
__________
(1) الإنصاف 11 / 335.
(2) بلغة السالك 2 / 243.
(3) حديث: " نهيه عن الضرر والضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784) ، والدارقطني (3 / 77) من حديث أبي سعيد الخدري وحسنه النووي وقال: له طرق يقوى بعضها ببعض (جامع العلوم والحكم 2 / 207)
(4) حديث: " نهيه عن إضاعة المال. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 68) ، ومسلم (3 / 1341) من حديث المغيرة بن شعبة.
(5) مطالب أولي النهى 6 / 551.(33/224)
فَفِي مَسْأَلَةِ الشَّرِيكَيْنِ: لأَِحَدِهِمَا فِي الدَّارِ عُشْرُهَا وَلَيْسَ يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى (وَلَوْ بِإِضَافَةٍ خَارِجِيَّةٍ يَسْتَطِيعُهَا) وَلِلآْخَرِ بَاقِيهَا لاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الضَّرَرِ بِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ فَلاَ بَأْسَ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَضِرَّ قَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ نَفْسِهِ (1) .
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ أَنْ يَبْقَى النَّصِيبُ صَالِحًا لِلسُّكْنَى - فِي مِثَالِنَا هَذَا - وَلَكِنْ لِسُكْنَى غَيْرِ صَاحِبِهِ، فَيَضْطَرُّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ مَثَلاً، وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ نَقَصَتِ الْمَنْفَعَةُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَمَ نَقْصِ الثَّمَنِ (ف 19) ، كَمَا أَنَّ عِنْدَهُمْ مِثْل خِلاَفِ الْمَالِكِيَّةِ فِي نُقْصَانِ الْمَنْفَعَةِ، كَالسَّيْفِ يُكْسَرُ لِيُقْسَمَ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِنَفْسِ الْغَرَضِ لَكِنْ بِصُورَةٍ أَقَل جَدْوَى، إِلاَّ أَنَّهُمْ رَجَّحُوا أَنَّهُ ضَرَرٌ مَانِعٌ مِنَ الإِْجْبَارِ (2) ، ثُمَّ يَنْفَرِدُ الشَّافِعِيَّةُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ إِذَا كَانَ يُمْكِنُ رَفْعُهُ فِي يُسْرٍ عَنِ الْمُسْتَضِرِّ بِتَكْمِيل النَّصِيبِ مِنْ غَيْرِ مَال الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ
__________
(1) الخرشي 4 / 412، 413، والمغني لابن قدامة 11 / 494، ومطالب أولي النهى 6 / 550.
(2) مغني المحتاج 4 / 420، 421.(33/224)
الْعَدَمِ بِتَيَسُّرِ رَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ بِجِوَارِ الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ أَرْضٌ مَوَاتٌ يَسْتَطِيعُ إِحْيَاءَهَا، أَوْ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِعْلاً، أَوْ يَسْتَطِيعُ تَمَلُّكَهَا، أَمَّا الَّتِي لاَ يُجَاوِرُهَا إِلاَّ مَا لاَ سَبِيل إِلَى الْحُصُول عَلَيْهِ - كَوَقْفٍ أَوْ شَارِعٍ أَوْ مِلْكٍ لِمَنْ لاَ يَنْزِل عَنْهُ - فَلاَ إِجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهَا (1) ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا (2) .
الثَّانِي: الضَّرَرُ الْعَامُّ: كَمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَيْسَ يَمْنَعُ مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ ضَرَرُ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ - سَوَاءٌ أَكَانَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ هُوَ الْمُسْتَضِرُّ أَمْ غَيْرُهُ - إِيثَارًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَضَارِّ الشَّرِكَةِ (3) .
الثَّالِثُ: الضَّرَرُ الْوَاصِل إِلَى الطَّالِبِ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا اعْتَمَدَهُ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي مِثَال الدَّارِ، لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عُشْرُهَا، وَلاَ يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى مُنْفَرِدًا إِنْ كَانَ الطَّالِبُ لِلْقِسْمَةِ هُوَ الآْخَرُ الَّذِي لاَ تَبْطُل بِالْقِسْمَةِ مَنْفَعَةُ نَصِيبِهِ الْمَقْصُودِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ (وَلَوْ بِضَمِّ شَيْءٍ مِنْ خَارِجٍ يَمْلِكُهُ أَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلِكَهُ عَلَى نَحْوِ مَا) فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُسْتَضِرُّ فَمُتَعَنِّتٌ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 420.
(2) الخرشي 4 / 409، 410.
(3) مغني المحتاج 4 / 421.(33/225)
وَلاَ يُجَابُ إِلَى سَفَهِهِ (1) ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَا فِيهِ عِنْدَ تَقْرِيرِ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ (ف 13) .
الرَّابِعُ: الضَّرَرُ الْوَاصِل إِلَى الْمُمْتَنِعِ: عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي تَوْجِيهِهِ (ف 13) ، وَمَال إِلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ قِيَاسًا عَلَى مَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ، لِرِضَا الطَّالِبِ بِضَرَرِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ (2) .
تَقْسِيمُ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ وَحْدَةِ الْمَحَل وَتَعَدُّدِهِ:
24 - وَهِيَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ قِسْمَانِ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِسْمَةُ جَمْعٍ وَقِسْمَةُ تَفْرِيقٍ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِمَا يَلِي:
أ - قِسْمَةُ الْجَمْعِ: هِيَ قِسْمَةُ الْمُتَعَدِّدِ قِسْمَةَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيَ الأَْفْرَادِ وَأَجْزَائِهَا لَمْ يَحْتَجْ إِلاَّ إِلَى إِفْرَازِ كُل نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَقْوِيمٍ، مِثَال ذَلِكَ: كَمِّيَّةٌ مِنَ الأَْحْجَارِ الْمُتَسَاوِيَةِ الْقَوَالِبِ وَالصَّنْعَةِ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ بِالتَّسَاوِي، لاَ تَحْتَاجُ قِسْمَتُهَا إِلاَّ إِلَى عَدِّ ثُلُثٍ مِنْهَا لِهَذَا، ثُمَّ ثُلُثٌ لِذَاكَ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي لِلثَّالِثِ، نَظِيرُ مَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ ثَوْبًا وَاحِدًا مِنَ الْقُمَاشِ (بِالْمَعْنَى الْمُتَدَاوَل الآْنَ، أَيْ ذَرْعًا مُعَيَّنًا مِنْ نَسِيجٍ مُعَيَّنٍ) بَيْنَهُمْ عَلَى التَّسَاوِي، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ لاَ تَتَطَلَّبُ إِلاَّ أَنْ يُقَاسَ ثُلُثُ الثَّوْبِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 421.
(2) المغني 11 / 495.(33/225)
لِهَذَا، ثُمَّ ثُلُثٌ لِذَاكَ، ثُمَّ يَكُونُ لِلثَّالِثِ الْبَاقِي (1) .
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ وَبَعْضٍ تَفَاوُتٌ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ فِيهِ إِلاَّ بِالتَّقْوِيمِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ، وَكَمَا هِيَ طَبِيعَةُ الأَْشْيَاءِ فِي الأَْجْنَاسِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَدَارٍ وَمَنْقُولاَتِهَا، وَضَيْعَةٍ وَمُحْتَوَيَاتِهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا يُعْتَبَرُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مُتَفَاوِتِ الأَْجْزَاءِ لاَ تَتَعَدَّل الأَْنْصِبَاءُ فِيهِ إِلاَّ بِتَقْوِيمِهِ، كَقِطْعَةِ أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا فِي دَرَجَةِ الْخِصْبِ فَيُقَوَّمُ عِنْدَ التَّشَاحِّ (2) ، وَيُصِيبُ كُل شَرِيكٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ مَا يُسَاوِي نَصِيبَهُ مِنَ الْقِيمَةِ كُلِّهَا، فَالَّذِي نَصِيبُهُ الثُّلُثُ مِنْ مَالٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ. (ر: ف / 12 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ: وَتُسَمَّى قِسْمَةَ الْفَرْدِ أَيْضًا، وَهِيَ قِسْمَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ نَفْسِهِ - كَمَا مَثَّلْنَاهُ آنِفًا فِي التَّنْظِيرِ لِقِسْمَةِ الْجَمْعِ - أَوِ الأَْشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ فِي سَائِرِ مَذَاهِبِ الْفِقْهِ لاَ يُبْرِزُونَ هَذَا التَّقْسِيمَ (إِلَى قِسْمَةِ جَمْعٍ وَقِسْمَةِ تَفْرِيقٍ) إِبْرَازَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَجِيءُ فِي ثَنَايَا كَلاَمِهِمْ.
__________
(1) البحر الرائق 8 / 172.
(2) رد المحتار 5 / 173.
(3) رد المحتار 5 / 172.(33/226)
مُقَوِّمَاتُ الْقِسْمَةِ:
25 - إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ هِيَ تَمْيِيزُ الأَْنْصِبَاءِ لِمُسْتَحِقِّيهَا فَإِنَّهَا لِكَيْ تَتَحَقَّقَ لاَ بُدَّ لَهَا مِنَ الْمُقَوِّمَاتِ التَّالِيَةِ:
أ - الْفَاعِل الَّذِي يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ، وَهُوَ الْقَاسِمُ.
ب - الْمُسْتَحِقُّونَ، أَوِ الْمَقْسُومُ لَهُ.
ج - الْمَال الْمُشْتَرَكُ الَّذِي تُمَيَّزُ حِصَصُهُ، وَهُوَ الْمَقْسُومُ.
وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الْقَاسِمُ:
26 - لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ قِسْمَةٌ بِدُونِ قَاسِمٍ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْقَاسِمَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الشُّرَكَاءَ أَنْفُسَهُمْ، إِنْ كَانُوا كُمَّلاً، أَوْ أَوْلِيَاءَهُمْ إِنْ كَانُوا قَاصِرِينَ، وَقَدْ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا يُوَلُّونَهُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ، دُونَ لُجُوءٍ إِلَى الْقَضَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَاضِي إِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْقِسْمَةَ وَاحِدٌ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَوْ أَكْثَرُ فَيَتَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَنْصِبُ مَنْ يَتَوَلاَّهَا نِيَابَةً عَنْهُ.
شَرَائِطُ الْقَاسِمِ:
27 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْل وَالْمِلْكِ أَوِ الْوِلاَيَةِ فِي الْقَاسِمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ وَالْعَدَالَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فَأَوْجَبَهَا الْقُدُورِيُّ وَالْمِرْغِينَانِيُّ وَاسْتَحَبَّهَا الْكَاسَانِيُّ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا بَيْنَ قَاسِمِ الْحَاكِمِ وَقَاسِمِ(33/226)
الشُّرَكَاءِ، أَمَّا سَائِرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَاسِمِ الْحَاكِمِ وَقَاسِمِ الشُّرَكَاءِ، فَقَاسِمُ الْحَاكِمِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الشَّرَائِطِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: الْعَدَالَةُ:
28 - تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، لِيُؤْمَنَ الْجَوْرُ فِي إِيصَال الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ لاَزِمَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ، لاَ خِيَارَ لَهُمْ فِي قَبُولِهَا وَرَفْضِهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ وِلاَيَةَ الْقِسْمَةِ مِنْ قَبِيل الْوِلاَيَاتِ الْوَاجِبَةِ الطَّاعَةِ، وَغَيْرُ الْعَدْل لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ نَفْسِهِ
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُرِّيَّةُ:
29 - تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، وَبِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ يَأْخُذُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، دُونَ الْحَنَابِلَةِ (2) . الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: الذُّكُورَةُ:
30 - انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، وَهَذِهِ خِلاَفِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ (3) ، فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَاسِمُ الْحَاكِمِ مِنْ أَهْل الشَّهَادَاتِ
__________
(1) الخرشي 4 / 401، مغني المحتاج 4 / 418، المغني لابن قدامة 11 / 506.
(2) الخرشي 4 / 401، مغني المحتاج 4 / 418، المغني لابن قدامة 11 / 506.
(3) مغني المحتاج 4 / 418.(33/227)
كُلِّهَا: فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، ذَكَرًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلاً، ضَابِطًا (لاَ مُغَفَّلاً) سَمِيعًا بَصِيرًا، نَاطِقًا؛ لأَِنَّ كُل الْمُتَّصِفِينَ بِأَضْدَادِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ أَيْضًا مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الأَْصْل - مِنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ مَهْمَا عَلاَ - قَاسِمَ حَاكِمٍ لِفَرْعِهِ مَهْمَا نَزَل، كَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ، أَيْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ قَاسِمَ حَاكِمٍ لأَِصْلِهِ (1) .
الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ: عِلْمُهُ بِالْقِسْمَةِ:
31 - الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: أَنْ تَتَوَفَّرَ لَهُ الآْلَةُ اللاَّزِمَةُ لِلْقِيَامِ بِعَمَل الْقَاسِمِ كَمَعْرِفَةِ الْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ إِنْ نُصِبَ قَاسِمًا عَامًّا؛ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مُحْتَاجٌ ذَلِكَ أَوْ قَاسِمًا لِمَا لَمْ تُمْكِنْ قِسْمَتُهُ دُونَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، نَصَّ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ التَّقْوِيمِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْقِسْمَةِ حَيْثُمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ (3) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ خِلاَفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنِ اعْتَمَدَ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الاِسْتِعَانَةَ بِأَهْل الْخِبْرَةِ فِي التَّقْوِيمِ إِنِ احْتَاجَهُ، وَعِنْدَ ذَاكَ يَعْتَمِدُ مِنْهُمْ شَهَادَةَ
__________
(1) التجريد المفيد 4 / 368.
(2) نهاية المحتاج 8 / 269، والمغني لابن قدامة 11 / 506.
(3) المغني 11 / 506.(33/227)
رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، غَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنَّهُ يُفَضَّل فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالتَّقْوِيمِ أَيْضًا، أَمَّا قَاسِمٌ لاَ يَعْرِفُ حِسَابًا وَلاَ مِسَاحَةً، فَكَقَاضٍ لاَ يَعْرِفُ الْفِقْهَ، أَوْ كَاتِبٍ لاَ يَعْرِفُ الْخَطَّ (1) .
الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ: تَعَدُّدُ الْقَاسِمِ حِينَ تَكُونُ ثَمَّ حَاجَةٌ إِلَى التَّقْوِيمِ:
32 - جَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَعَدُّدِ الْقَاسِمِ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُقَوِّمَ، وَاعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَكْفِي الْمُقَوِّمُ الْوَاحِدُ بَل لاَ بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ حَيْثُ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّقْوِيمِ حَدٌّ أَوْ غُرْمٌ كَتَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَالْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ: أَنَّ الْقَاسِمَ نَائِبٌ عَنِ الْحَاكِمِ فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْوَاحِدِ، وَالْمُقَوِّمُ كَالشَّاهِدِ عَلَى الْقِيمَةِ فَتُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبُ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى التَّقْوِيمِ حَدٌّ أَوْ غُرْمٌ كَفَى وَاحِدٌ (2) .
وَإِذَا جُعِل الْقَاسِمُ حَاكِمًا فِي التَّقْوِيمِ، كَمَا جُعِل حَاكِمًا فِي الْقِسْمَةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ - فِيمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ - أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، فَيَكُونُ قَدْ قَسَمَ وَقَوَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419.
(2) الخرشي 4 / 401، والمغني 11 / 506.
(3) مغني المحتاج 4 / 419.(33/228)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ قَاسِمَانِ اثْنَانِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، بِنَاءً عَلَى الْمَرْجُوحِ أَنَّهُ شَاهِدٌ لاَ حَاكِمٌ.
وَلَيْسَ الْخَرْصُ (تَقْدِيرُ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ عَلَى الشَّجَرِ) إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، مِنْ قَبِيل التَّقْوِيمِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ إِخْبَارٌ يَحْتَمِل الْكَذِبَ، وَالْخَرْصُ إِنْشَاءُ حُكْمٍ عَنِ اجْتِهَادٍ كَمَا يَفْعَل الْقَاضِي، فَيَكْفِي مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى الْخَرْصِ قَاسِمٌ وَاحِدٌ، كَمَا اكْتَفَوْا بِخَارِصٍ وَاحِدٍ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنْ قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْقِيَاسَ قَاسِمَانِ اعْتِبَارًا بِالتَّقْوِيمِ؛ لأَِنَّ الْخَارِصَ يَجْتَهِدُ وَيُعْمَل بِاجْتِهَادِهِ، فَكَانَ كَالْحَاكِمِ وَالْمُقَوِّمِ يُخْبِرُ بِقِيمَةِ الشَّيْءِ فَهُوَ كَالشَّاهِدِ (1) .
33 - وَقَاسِمُ الشُّرَكَاءِ الَّذِي هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ مُجَرَّدُ وَكِيلٍ عَنْهُمْ، قَدْ يُعْفِيهِ وَضْعُهُ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ شَرَائِطِ قَاسِمِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرَكَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ - لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ سِوَى التَّكْلِيفِ، حَتَّى لَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ ذِمِّيًّا، وَلاَ يَشْتَرِطُ أَحَدٌ تَعَدُّدَهُ (2) ، فَإِذَا كَانَ فِي الشُّرَكَاءِ مَحْجُورٌ اشْتُرِطَتْ فِي قَاسِمِهِمْ أَيْضًا شَرَائِطُ قَاسِمِ الْحَاكِمِ، نَظَرًا وَحِيطَةً.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419، ونهاية المحتاج 8 / 270.
(2) نهاية المحتاج 8 / 269، التجريد المفيد 4 / 369.(33/228)
وَيَكْتَفِي الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالضَّمَانِ الَّذِي فِي أَيْدِي الشُّرَكَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِقَاسِمِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ لَهُمُ الْحَقَّ فِي رَفْضِ قِسْمَتِهِ إِذَا لَمْ تَرُقْهُمْ، فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّتِهَا وَلُزُومِهَا إِلاَّ تَرَاضِيهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَاسِمُ لاَ يَعْرِفُ الْقِسْمَةَ (1) ، وَظَاهِرٌ أَنَّ وَلِيَّ الْمَحْجُورِ وَوَكِيل الْغَائِبِ يَنُوبَانِ مَنَابَهُمَا.
وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى دَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَاسِمٌ شَرِيكًا وَوَكِيلاً لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ أَوْ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ، كَأَنْ يَقُولُوا كُلُّهُمْ لَهُ: أَنْتَ وَكِيلٌ عَنَّا فَاقْسِمْ كَمَا تَرَى، وَافْرِزْ لِنَفْسِكَ وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، أَوْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَيُوَكِّل اثْنَانِ مِنْهُمُ الاِثْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَكِيلاً عَنْ وَاحِدٍ وَالآْخَرُ عَنِ الآْخَرِ، وَالسِّرُّ فِي هَذَا أَنَّ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَحْتَاطَ لِمُوَكِّلِهِ، وَهَذَا مَا لاَ يَسْتَطِيعُهُ الْوَكِيل هُنَا، لأَِنَّهُ يَتَنَاقَضُ مَعَ احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ غَرِيزِيٌّ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ.
نَعَمْ إِذَا وَقَعَ التَّوْكِيل بِحَيْثُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا التَّنَاقُضِ، فَلاَ بَأْسَ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا آثَرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبْقَى هُوَ وَآخَرُ شَرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِمَا بَعْدَ انْفِصَال الآْخَرَيْنِ، فَيُوَكِّلُهُ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبَاهُمَا جُزْءًا وَاحِدًا،
__________
(1) الخرشي 4 / 401، المغني لابن قدامة 11 / 506.(33/)
فَإِنَّ الْوَكِيل حِينَئِذٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ، بِلاَ أَدْنَى تَعَارُضٍ (1) . .
أُجْرَةُ الْقَاسِمِ:
مَنْ تَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَاسِمِ؟
34 - الْقَاسِمُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أُجْرَةٍ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاضِي نَفْسُهُ كَمَا سَيَجِيءُ.
وَأُجْرَتُهُ إِنْ كَانَ قَاسِمَ الشُّرَكَاءِ عَلَى الشُّرَكَاءِ؛ لأَِنَّ نَفْعَ الْقِسْمَةِ يَخُصُّهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَاسِمَ الْقَاضِي، فَالأَْفْضَل أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهُ فِي خِزَانَةِ الدَّوْلَةِ (بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ) لأَِنَّ هَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ، بَل مَطْلُوبٌ مِنَ الْقَاضِي - عَلَى سَبِيل النَّدْبِ وَالاِسْتِحْبَابِ - أَنْ يَتَّخِذَ قَاسِمًا عَامًّا، بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ، لَهُ رِزْقٌ جَارٍ كَسَائِرِ عُمَّال الدَّوْلَةِ، يَكُونُ مُعَدًّا لِلْقِيَامِ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ طَلَبِهَا دُونَ تَقَاضِي أَجْرٍ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ، مِنْ جِنْسِ عَمَل الْقَاضِي - إِذْ هِيَ أَيْضًا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ - فَيَكُونُ مُقَابِلُهَا فِي الْمَال الْعَامِّ كَرِزْقِ الْقَاضِي نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَل أُجْرَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَال - لأَِمْرٍ مَا - فَإِنَّ أُجْرَتَهُ تَكُونُ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لأَِنَّ النَّفْعَ وَاصِلٌ إِلَيْهِمْ، لَكِنْ يُقَدِّرُهَا الْقَاضِي بِأُجْرَةِ الْمِثْل لِئَلاَّ يَتَحَكَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 418.(33/)
الْقَاسِمُ وَيَشْتَطَّ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهُمْ بِالْقَاسِمِ الَّذِي يَنْصِبُهُ، بَل يَدَعُ لَهُمُ الْخِيَارَ، فَإِنْ شَاءُوا قَسَمَ لَهُمْ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَأْجَرُوا غَيْرَهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِجْبَارِهِمْ عَلَى تَوْكِيل قَاسِمٍ بِعَيْنِهِ، كَمَا أَنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لاَ يَدَعُ الْقَسَّامِينَ، يَعْمَلُونَ فِي شَرِكَةٍ مَعًا؛ لِئَلاَّ يَتَوَاطَئُوا، وَيَزِيدُوا فِي الأُْجْرَةِ (1) .
وَاتِّخَاذُ الْقَاسِمِ الدَّائِمِ يَظَل مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُقَرَّرْ لَهُ أُجْرَةٌ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَعْرَفُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْغَرَضِ؛ وَلأَِنَّ قَاسِمَ الْقَاضِي أَعَمُّ نَفْعًا، إِذْ تَنْفُذُ قِسْمَتُهُ عَلَى الْمَحْجُورِ وَالْغَائِبِ، بِخِلاَفِ قِسْمَةِ غَيْرِهِ (2) .
ثُمَّ الْقِسْمَةُ تُشْبِهُ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهَا تَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَاضِي، وَيُلْزَمُ بِهَا الآْبِي، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَا لاَ تَجِبُ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهِ، فَمِنْ أَجْل كَوْنِهَا لَيْسَتْ قَضَاءً، إِذَا تَوَلاَّهَا الْقَاضِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَتَهَا مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ، وَلَكِنْ لِمَكَانِ شَبَهِهَا بِالْقَضَاءِ يَكُونُ الأَْوْلَى لَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَ (3) .
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ فِي أَنَّ أُجْرَةَ قَاسِمِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الشُّرَكَاءِ، وَلاَ فِي أَنَّ نَصْبَ الْحَاكِمِ قَاسِمًا
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 350 - 351، رد المحتار 5 / 168.
(2) بدائع الصنائع 7 / 19.
(3) العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 351.(33/230)
لِيَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، بَل ظَاهِرُ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وُجُوبُهُ (1) ، وَكُلُّهُمْ يَنْقُلُونَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ قَاسِمٌ عَامٌّ مِنْ عُمَّالِهِ الدَّائِمِينَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (2) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِعَدَمِ كِفَايَةِ بَيْتِ الْمَال فَإِنَّ هَذَا قَدْ يُفْسِدُ الْمَقْصُودَ مِنْ نَصْبِهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَنْ مَظِنَّةُ أَنْ يُغَالِيَ فِي الأُْجْرَةِ، وَيَقْبَل الرِّشْوَةَ، وَيَجُورَ فِي الْقِسْمَةِ، فَحِينَئِذٍ لاَ يُعَيِّنُ قَاسِمًا، وَيَدَعُ النَّاسَ يَسْتَأْجِرُونَ أَوْ يَسْتَعِينُونَ بِمَنْ شَاءُوا، بَل مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ حِينَئِذٍ هَذَا التَّعْيِينَ، وَقَضَى بِحُرْمَتِهِ (3) .
وَيُوجَدُ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ مَنْ يَكْرَهُ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ أَيًّا كَانَتْ، وَهَذَا مِمَّا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (4) ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُدَوَّنَةِ. إِذْ تَقُول: كَانَ خَارِجَةُ وَرَبِيعَةُ يَقْسِمَانِ بِلاَ أَجْرٍ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ لاَ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَجْرٌ، وَيَقُول ابْنُ عُيَيْنَةَ: لاَ تَأْخُذْ عَلَى الْخَيْرِ
__________
(1) الخرشي 4 / 402، 405، مغني المحتاج 4 / 419.
(3) نهاية المحتاج 8 / 270.
(4) بلغة السالك 2 / 240.(33/230)
أَجْرًا (1) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ - وِفَاقًا لِغَيْرِهِمْ - لَمْ يَعْتَدُّوا بِهَذَا الْخِلاَفِ وَاعْتَمَدُوا الْجَوَازَ بِإِطْلاَقٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأُْجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَمْ عَلَى الشُّرَكَاءِ - إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُقَيِّدُونَهُمْ بِالرُّشَدَاءِ، وَيَكْرَهُونَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَكِنْ لاَ تُبَاحُ الأُْجْرَةُ لِلْقَاسِمِ إِلاَّ نَظِيرُ تَوَلِّي الْقِسْمَةِ - أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ الأُْجْرَةَ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ بِحُكْمِ مَنْصِبِهِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا هُوَ السُّحْتُ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بِفَرْضٍ مِنَ الْقَاضِي أَوِ الإِْمَامِ (2) .
كَيْفِيَّةُ تَوْزِيعِ الأُْجْرَةِ:
35 - إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لِسَبَبٍ مَا كَإِضَاعَةٍ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ، أَوْ عَوَزٍ فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ رَغْبَةٍ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ عَنْ قَاسِمِ الدَّوْلَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الأَْوَّل: أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ: وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - دُونَ صَاحِبَيْهِ - وَجَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَهَؤُلاَءِ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الأُْجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَل، وَعَمَل الْقَاسِمِ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ
__________
(1) الفروع 3 / 852.
(2) الخرشي 4 / 402، 405، المغني 11 / 507، الفروع 3 / 852، 853.(33/231)
الْمُتَقَاسِمِينَ سَوَاءٌ، إِذْ هُوَ تَمْيِيزُ الأَْنْصِبَاءِ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ لاَ يَقْبَل التَّفَاوُتَ، فَتَمْيِيزُ الْقَلِيل مِنَ الْكَثِيرِ هُوَ بِعَيْنِهِ تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيل، وَإِذَا لَمْ يَتَفَاوَتِ الْعَمَل لَمْ تَتَفَاوَتِ الأُْجْرَةُ، أَمَّا الْوَسَائِل الْمُوصِلَةُ إِلَى هَذَا التَّمْيِيزِ، كَالْمِسَاحَةِ وَمَا تَتَطَلَّبُهُ مِنْ جَهْدٍ، وَالْكَيْل وَالْوَزْنِ، فَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْقِسْمَةِ، وَلَيْسَتْ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلِذَا لَوِ اسْتَعَانَ فِيهِ بِالْمُتَقَاسَمِينَ أَنْفُسِهِمْ لاَسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ عَلَى الْقِسْمَةِ كَامِلَةً (1) ، وَضَبْطُ الأُْجْرَةِ بِمِقْدَارِ الأَْنْصِبَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِذْ لَيْسَ النَّصِيبُ الْكَبِيرُ دَائِمًا أَصْعَبَ حِسَابًا وَلاَ النَّصِيبُ الْيَسِيرُ دَائِمًا أَيْسَرَ، فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلاَّ بِأَصْل التَّمْيِيزِ (2) .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُقْسَمُ بِمِقْدَارِ الأَْنْصِبَاءِ: وَعَلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عَمَل الْمَغَارِبَةِ أَخِيرًا (3) ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُعْتَمَدُهُمْ وَعَلَيْهِ مُعَوَّلُهُمْ، وَهَؤُلاَءِ يَتَعَلَّقُونَ بِأَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَال الْمُشْتَرَكِ مِنْ نَحْوِ إِطْعَامِ بَهَائِمَ وَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ، وَحَرْثِ أَرْضٍ أَوْ رَيِّهَا،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 352.
(2) الخرشي 4 / 402، مغني المحتاج 4 / 420، الإنصاف 11 / 355.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 76.(33/231)
وَكَيْل حَبٍّ مُشْتَرًى أَوْ وَزْنِهِ (1) .
36 - أ - حِينَ يُقَال تَكُونُ الأُْجْرَةُ بِمِقْدَارِ الأَْنْصِبَاءِ يُمْكِنُ التَّسَاؤُل: أَهِيَ الأَْنْصِبَاءُ الأَْصْلِيَّةُ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ أَمِ الأَْنْصِبَاءُ الْمَأْخُوذَةُ نَتِيجَةً لِلْقِسْمَةِ؟ مَثَلاً: حِينَ يَكُونُ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ الأَْرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِالْقِسْمَةِ ثُلُثَهَا فَحَسْبُ؛ لأَِنَّهُ أَجْوَدُ، هَل يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ أَمْ ثُلُثُهَا؟
قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأُْجْرَةُ تُوَزَّعُ عَلَى الْحِصَصِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّهَا مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ (2) .
ب - إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَى تَحَمُّل الأُْجْرَةِ بِنِسْبَةِ مُخَالَفَةٍ لِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، وَشَرَطُوا ذَلِكَ عَلَى الْقَاسِمِ فَهَل هُوَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ أَمْ لاَغٍ؟ .
قَطَعَ الشَّافِعِيَّةُ بِاعْتِبَارِهِ؛ لأَِنَّهُ أَجِيرُهُمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ فِي إِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ إِلاَّ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّهُمْ لأَِمْرٍ مَا اعْتَمَدُوا بُطْلاَنَ الشَّرْطِ (3) ، كَمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَوْزِيعِ أُجْرَةِ الْمِثْل حِينَ تَكُونُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، مغني المحتاج 4 / 420، المغني لابن قدامة 11 / 507.
(2) المهذب 2 / 308، مغني المحتاج 4 / 419، نهاية المحتاج 8 / 270، وروضة الطالبين 11 / 202.
(3) مغني المحتاج 4 / 419، المهذب 2 / 306، ومطالب أولي النهى 6 / 559.(33/232)
الإِْجَارَةُ فَاسِدَةً (1) .
- ج - إِذَا أَتَمَّ الْقَاسِمُ الْقِسْمَةَ، دُونَ أَنْ تُذْكَرَ أُجْرَةٌ، فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، قِيَاسًا عَلَى الْقَصَّارِ يُدْفَعُ إِلَيْهِ الثَّوْبُ لِيَقْصِرَهُ، وَلاَ تُسَمَّى أُجْرَةٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِالْقِسْمَةِ بِتَوْجِيهٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوِ الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ تَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل.
هَكَذَا قَرَّرَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُمْ مُنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ تَأْصِيلاً وَتَفْرِيعًا حَتَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَسْبُكَ بِخِلاَفِ مِثْل الْمُزَنِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ، ثُمَّ هَذَا الْبُجَيْرِمِيُّ مِنْ أَوَاخِرِ مُتَأَخِّرِيهِمْ يُقَرِّرُ أَنَّ الْقَاسِمَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ الطَّالِبُ شَيْئًا، وَيَقُول: إِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِمَّنْ عَمِل عَمَلاً بِغَيْرِ أُجْرَةٍ (2) .
د - كَيْفِيَّةُ اسْتِئْجَارِ الْمُتَقَاسِمِينَ مَنْ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، هِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ كُلُّهُمْ - وَلَوْ بِوَاسِطَةِ وَكِيلٍ عَنْهُمْ، بِعَقْدٍ وَاحِدٍ - وَمِنْهُ مَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَرَضِيَ سَائِرُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ كُل وَاحِدٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لِتَعْيِينِ نَصِيبِهِ لِقَاءَ أَجْرٍ مَعْلُومٍ، هَكَذَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَرْتَضُوا إِطْلاَقَ الشَّافِعِيِّ تَصْحِيحَ الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ إِنَّمَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 270، التجريد المقيد 4 / 369.
(2) مغني المحتاج 4 / 420، نهاية المحتاج 8 / 270، والمهذب 1 / 410، والتجريد المفيد 4 / 369.(33/232)
رِضَاءِ غَيْرِهِ، وَقَيَّدُوهُ بِرِضَاءِ الْبَاقِينَ؛ لأَِنَّ كُل عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَدْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ (1) ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ بَعْضُهُمْ، فَالإِْجَارَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالأُْجْرَةُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ (2) .
هـ - أُجْرَةُ الْخَبِيرِ الْمُقَوِّمِ، حِينَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْوِيمِ، وَأُجْرَةُ كَاتِبِ الْوَثِيقَةِ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنَ الْخِلاَفِ فِي أُجْرَةِ الْقَاسِمِ: فَمِنْ قَائِلٍ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ وَمِنْ قَائِلٍ عَلَى قَدْرِ الأَْنْصِبَاءِ (3) .
37 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّل أُجْرَةَ الْقَاسِمِ إِذَا طَلَبَهَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ عَلَى مَنْ طَلَبَهَا وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهَا؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الاِسْتِقْلاَل بِالْمِلْكِ حَاصِلَةٌ بِكُل قِسْمَةٍ وَعَمَل الأَْجِيرِ فِيهَا وَاقِعٌ لِكُل مُتَقَاسِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الطَّالِبِ لأَِنَّ الآْبِيَ مُسْتَضِرٌّ بِالْقِسْمَةِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 419، المغني لابن قدامة 11 / 507.
(2) نهاية المحتاج 8 / 270.
(3) الخرشي 4 / 402، مغني المحتاج 4 / 420.
(4) تكملة فتح القدير 8 / 352، الخرشي 4 / 402، بلغة السالك 2 / 240، مغني المحتاج 4 / 419، المغني لابن قدامة 11 / 507.(33/233)
ب - الْمَقْسُومُ لَهُ:
38 - قَال الْكَاسَانِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْسُومِ لَهُ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ وَهِيَ قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ جَبْرًا.
الثَّانِي: الرِّضَا فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ وَهُوَ رِضَا الشُّرَكَاءِ فِيمَا يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْل الرِّضَا، أَوْ رِضَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الرِّضَا.
الثَّالِثُ: حُضُورُ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي نَوْعَيِ الْقِسْمَةِ، الْجَبْرِ وَالرِّضَا.
الرَّابِعُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ (1) .
ج - الْمَقْسُومُ:
39 - سَبَقَ بَيَانُ بَعْضِ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ بِالْمَقْسُومِ وَهِيَ:
- اتِّحَادُ الْجِنْسِ.
- اتِّحَادُ الصِّنْفِ فِي قِسْمَةِ الْمَنْقُولاَتِ.
- زَوَال الْعُلْقَةِ بِالْقِسْمَةِ.
- أَنْ لاَ تُنْقِصُ الْقِسْمَةُ قِيمَةَ الْمَقْسُومِ.
- تَعَذُّرُ إِفْرَادِ كُل صِنْفٍ بِالْقِسْمَةِ.
وَكُلُّهَا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُل: الْقِسْمَةُ الْقَضَائِيَّةُ الإِْجْبَارِيَّةُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 19، وما بعدها.(33/233)
40 - وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى بَيَانُهَا فِيمَا يَأْتِي:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً:
فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الدَّيْنِ، اتَّحَدَ أَوْ تَعَدَّدَ، تَرَاضِيًا وَلاَ إِجْبَارًا، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَخَالَفَهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا الْحَنَابِلَةُ فَجَوَّزُوا قِسْمَةَ الدَّيْنِ بِإِطْلاَقٍ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُجَوِّزُونَ قِسْمَةَ الدَّيْنِ الْوَاحِدِ تَرَاضِيًا لاَ إِجْبَارًا؛ لأَِنَّهُ لاَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقُرْعَةُ (1) .
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ:
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ انْتِفَاءَ الضَّرَرِ فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَقَدْ عَرَفْنَاهُمْ فِيمَا سَلَفَ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الضَّرَرِ فِي الْقِسْمَةِ هُوَ مَعْنَى قَابِلِيَّةِ مَحَلِّهَا لَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ هُنَا إِلَى أَنَّ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ مَنْ يَقْصُرُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ عَلَى قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَلاَ يَرَى بَأْسًا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ عَلَى أَيَّةِ قِسْمَةٍ ضَارَّةٍ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، عَلَى كَلاَمٍ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَمِّمُهَا فِي
__________
(1) المجلة العدلية م 1123، بلغة السالك 2 / 238، الخرشي 4 / 404، نهاية المحتاج 8 / 275، مغني المحتاج 4 / 426، قواعد ابن رجب 416، مطالب أولي النهى 3 / 30.
(2) فيما قرره صاحب المغني 11 / 496.(33/234)
قِسْمَتَيِ الإِْجْبَارِ وَالتَّرَاضِي، إِذَا بَلَغَ الضَّرَرُ حَدَّ الْفَسَادِ، أَعْنِي بُطْلاَنَ الْمَنْفَعَةِ بُطْلاَنًا تَامًّا أَوْ مَا هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي قِسْمَةِ خَاتَمٍ خَسِيسٍ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْمَالِكِيَّةُ، فَالْخِيَارُ عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ الْفَسَادِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا الإِْبْقَاءُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَوِ الْبَيْعِ، وَفِي حَالَةِ الضَّرَرِ الأَْقَل بَيْنَ هَذَيْنِ وَثَالِثٍ هُوَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي (1) .
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلشُّرَكَاءِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ:
هَذِهِ شَرِيطَةٌ عَامَّةٌ فِي كُل قِسْمَةٍ لاَ تَخُصُّ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، وَقِسْمَةُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ لَيْسَتْ لَهُ بَل لِلْمَحْجُورِ نَفْسِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ، فَالْفُضُولِيُّ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ وَلاَ وِلاَيَةَ لاَ نَفَاذَ لِقِسْمَتِهِ حَتَّى يُجِيزَهَا الْمَالِكُ الصَّحِيحُ التَّصَرُّفِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ نِيَابَةً شَرْعِيَّةً صَحِيحَةً (2) ، فَالْقِسْمَةُ تَقْبَل الإِْجَازَةَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَسَمَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْبَةِ الْبَاقِينَ وَأَخَذَ قِسْطَهُ فَلَمَّا عَلِمُوا قَرَّرُوهُ صَحَّتْ لَكِنْ مِنْ حِينِ التَّقْرِيرِ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَحْضُرُ الْقِسْمَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُهَا (لاَ يُنْكِرُهَا) عَنْ قُرْبٍ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا تَلْزَمُهُ، وَيَكُونُ هَذَا
__________
(1) الخرشي 4 / 409، 412، بلغة السالك 2 / 241.
(2) بدائع الصنائع 7 / 276.
(3) نهاية المحتاج 8 / 276.(33/234)
الرَّيْثُ إِقْرَارًا لَهَا (1) .
قِسْمَةُ الأَْعْيَانِ:
41 - الأَْعْيَانُ جَمْعُ عَيْنٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَا قَابَل الدَّيْنَ وَالْمَنْفَعَةَ، أَمَّا الدَّيْنُ فَقَدْ عَلِمْنَا الْخِلاَفَ فِي قِسْمَتِهِ (ر: ف 40) ، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَسَيَأْتِي بَحْثُ قِسْمَتِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالأَْعْيَانُ تَنْقَسِمُ إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ: فَالْعَقَارُ: هُوَ الأَْرْضُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زِرَاعِيَّةً أَمْ غَيْرَ زِرَاعِيَّةٍ، وَالْمَنْقُول: مَا عَدَاهَا كَالثِّيَابِ وَالأَْوَانِي وَالْحَيَوَانِ وَالْمَزْرُوعَاتِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَتْبَعَانِ الأَْرْضَ فِي الْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ لاَ تَتْبَعُهُمَا فَمَنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ قِسْمَةِ الأَْرْضِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ (2) ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَهَذَا خِلاَفُ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنِ اعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ عَقَارًا، قَال الْخَرَشِيُّ: الْعَقَارُ هُوَ الأَْرْضُ وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ (4) .
ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا
__________
(1) التحفة وحواشيها 2 / 71.
(2) رد المحتار 5 / 169، المجلة العدلية م 1163، مجمع الأنهر 2 / 420.
(3) نهاية المحتاج 8 / 271، مغني المحتاج 4 / 424، الباجوري على ابن قاسم 2 / 17، دليل الطالب 108، 140، كشاف القناع 4 / 140.
(4) الخرشي 4 / 280.(33/235)
لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ بَيَانٍ (ر: ف 9) .
تَنَوُّعُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ:
42 - قِسْمَةُ الْعَقَارِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِفْرَازًا أَوْ تَعْدِيلاً أَوْ رَدًّا، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَمْعًا أَوْ تَفْرِيقًا، وَجَبْرًا أَوْ تَرَاضِيًا، ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَحَالٍّ مُتَعَدِّدَةٍ:
فَفِي الْمَحَل الْوَاحِدِ: قِطْعَةُ الأَْرْضِ الْمُتَشَابِهَةِ الأَْجْزَاءِ بِلاَ أَدْنَى تَفَاوُتٍ كَالَّتِي تَخْلُو مِنَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ وَهِيَ دَرَجَةٌ سَوَاءٌ مِنْ جَوْدَةِ التُّرْبَةِ أَوْ رَدَاءَتِهَا لاَ تَحْتَاجُ قِسْمَتُهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَرْعِهَا وَمَعْرِفَةِ مِسَاحَتِهَا، حَتَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ (1) ، وَإِنْ كَانَ الأَْكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ التَّعْدِيل فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَمْيِيزُهَا أَنْصِبَاءً مُتَسَاوِيَةً، إِذَا تَسَاوَتْ حُقُوقُ الْمُتَقَاسِمِينَ، أَوْ سِهَامًا مُتَسَاوِيَةً بِقَدْرِ النَّصِيبِ الأَْقَل، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ بِالأَْجْزَاءِ أَوْ قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ.
وَهَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ تُقْسَمَ إِفْرَازًا أَيْضًا إِذَا كَانَ فِي كُل جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ مِثْل مَا فِي الآْخَرِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ تَسَاوِي الأَْنْصِبَاءِ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيمٍ.
فَإِذَا تَفَاوَتَ الْبِنَاءُ أَوِ الشَّجَرُ، أَوْ تَفَاوَتَتْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 239.(33/235)
جَوْدَةُ الأَْرْضِ وَرَدَاءَتُهَا فَلاَ يُمْكِنُ تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ وَتَسْوِيَةُ السِّهَامِ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ التَّقْوِيمِ، وَإِذَنْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ، بَل قَدْ يَحُوجُ الأَْمْرُ إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِعِوَضٍ مِنْ خَارِجِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ (مُعَدِّلٍ) ، يَدْفَعُهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ أَوْ أَكْثَرُ لِيَتَعَادَل نَصِيبُهُ مَعَ سَائِرِ الأَْنْصِبَاءِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ مُلْجِئٍ، وَإِذَنْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ رَدٍّ.
وَهِيَ عَلَى كُل حَالٍّ قِسْمَةُ تَفْرِيقٍ لأَِنَّ الْفَرْضَ اتِّحَادُ الْمَحَل، وَقَدْ سَلَفَ بَيَانُ طَرِيقَةِ مَنْ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَةِ الرَّدِّ إِلاَّ ضَرُورَةً أَوْ بِلاَ اسْتِثْنَاءٍ، وَيَقْبَلُهُ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ وَفِي قِسْمَةِ التَّعْدِيل بِشَرَائِطَ خَاصَّةٍ، وَطَرِيقَةُ مَنْ يَقْبَل الإِْجْبَارَ بِكُل حَالٍ، أَوْ يَمْنَعُهُ بِكُل حَالٍ.
إِلاَّ أَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءٌ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: لاَ بُدَّ لِكَيْ يَعْدِل الْمَقْسُومُ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ مِنْ شَيْئَيْنِ:
التَّوَصُّل إِلَى مَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ.
وَتَقْوِيمُ الْبِنَاءِ (1) .
وَلَكِنَّ مُتَأَخِّرِيهِمْ يُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يُقَاسَ وَيُقَوَّمَ كُلٌّ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ؛ لأَِنَّ تَعْدِيل سِهَامِ الْمَقْسُومِ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَالِيَّتِهِ،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 362.(33/236)
وَلَوْ أَخِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَْرْضِ، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَالِيَّةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ مِسَاحَةِ وَقِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ (1) .
وَفِي الْمَحَال الْمُتَعَدِّدَةِ كَالدُّورِ وَالأَْرَاضِي وَالْبَسَاتِينِ: يُمْكِنُ أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ كُلُّهَا فِي قِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ، اتَّحَدَ نَوْعُهَا أَمِ اخْتَلَفَ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلاَفِهِ - وَتُعَدَّل الأَْنْصِبَاءُ بِالْقِيمَةِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ جَمْعٍ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي عِنْدَمَا يَخْتَلِفُ النَّوْعُ أَوِ الْجِنْسُ، كَتَرِكَةٍ بَعْضُهَا دُورٌ وَبَعْضُهَا أَرَاضٍ زِرَاعِيَّةٌ مُعْتَادَةٌ وَبَعْضُهَا حَدَائِقُ، أَوْ كُلُّهَا حَدَائِقُ، لَكِنَّ بَعْضَ الْحَدَائِقِ كُرُومٌ وَبَعْضُهَا رُمَّانٌ أَوْ بُرْتُقَالٌ أَوْ تُفَّاحٌ أَوْ مَا شَاكَل ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ النَّوْعِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ - وَهِيَ قِسْمَةُ جَمْعٍ لِتَعَدُّدِ الْمَحَل - تَقْبَل الإِْجْبَارَ، عَلَى خِلاَفَاتٍ فِي التَّفَاصِيل الَّتِي تَقَدَّمَتْ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مَنْ يَعْكِسُ الْقَضِيَّةَ فَيُجْبِرُ عَلَى قِسْمَةِ الأَْجْنَاسِ وَالأَْنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ يُجِيزُ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمْ.
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الْعَقَارِ:
43 - يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ الْقِسْمَةُ بِقُرْعَةٍ، وَأَنْ تَقَعَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.(33/236)
بِدُونِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ قِسْمَةَ تَرَاضٍ أَمْ إِجْبَارٍ؛ لأَِنَّ تَعْيِينَ الْقَاسِمِ الْمُجْبِرِ لِكُل نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ كَافٍ كَمَا سَيَجِيءُ إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ اتِّقَاءً لِلتُّهْمَةِ، إِلاَّ أَنْ يُصِرَّ الْمُتَقَاسِمُونَ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا حِينَئِذٍ (1) ، نَعَمْ. لاَ إِجْبَارَ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ (2) ، وَفِي كَلاَمِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ كَقَوْل صَاحِبِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ فِي قِسْمَةِ عَرْضِ الْجِدَارِ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يُجْبَرَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْصُل لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَلِي مِلْكَ الآْخَرِ (3) ، بَل هُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِهِمْ، كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ (4) .
كَمَا أَنَّ تَرَاضِيَ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى تَوْزِيعِ الأَْنْصِبَاءِ بَيْنَهُمْ بِكَيْفِيَّةٍ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ بِدُونِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِقُرْعَةٍ، بَل دُونَ تَعْدِيلٍ أَوْ تَقْوِيمٍ أَصْلاً مَا دَامَ الْمَحَل لَيْسَ رِبَوِيًّا، بَل وَإِنْ كَانَ رِبَوِيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ (5) ، بَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ إِذَا دَخَلاَ عَلَى التَّفَاضُل الْبَيِّنِ كَفَدَّانِ فَاكِهَةٍ فِي نَظِيرِ فَدَّانَيْنِ، لِخُرُوجِهَا حِينَئِذٍ مِنْ
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 499.
(2) التحفة وحواشيها 2 / 69.
(3) المغني مع الشرح الكبير 11 / 496.
(4) الفروع 3 / 854.
(5) بدائع الصنائع 7 / 19، رد المحتار 5 / 172، 173، التحفة وحواشيها 2 / 70، 71، نهاية المحتاج 8 / 273.(33/237)
بَابِ الْبَيْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمَهَارَةِ التِّجَارِيَّةِ وَمُحَاوِلَةِ الْغَلَبِ مِنْ كِلاَ الْجَانِبَيْنِ إِلَى بَابِ الْمَنِيحَةِ وَالتَّطَوُّل (1) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ لِجَوَازِ الْقُرْعَةِ شَرَائِطَ مُعَيَّنَةً:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ فِيمَا تَمَاثَل أَوْ تَجَانَسَ، لِيَقِل الْغُرُورُ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ تَكُونَ فِي مِثْلِيٍّ مُتَّحِدِ الصِّفَةِ أَيْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ (2) .
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ نَصِيبَيْنِ، إِذْ لاَ ضَرُورَةَ (3) .
وَيُوَافِقُهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ.
الْقِسْمَةُ بِالْقُرْعَةِ:
44 - الْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْقِسْمَةِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ الْقِسْمَةِ، وَالْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْمُنَازِعِينَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا إِلاَّ فِي الْقِسْمَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ: إِنَّهَا قِمَارٌ لِتَعْلِيقِ الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى خُرُوجِهَا، لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّ الْقَاسِمَ الْمُجْبِرَ لَوْ عَيَّنَ لِكُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ دُونَ قُرْعَةٍ لَكَفَى، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ، لَكِنْ رُبَّمَا يُتَّهَمُ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 242، حواشي الخرشي 4 / 409.
(2) بلغة السالك 2 / 239، وحواشي الخرشي 4 / 401.
(3) الخرشي 4 / 401، بلغة السالك 2 / 239.(33/237)
بِالْمُحَابَاةِ، فَيَلْجَأُ إِلَى الْقُرْعَةِ لِئَلاَّ تَبْقَى رِيبَةٌ، وَلِذَا جَرَى الْعَمَل بِهَا مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، فَهِيَ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قُرْعَة) .
قِسْمَةُ الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ:
وَأَصْلُهُ الْمِثْلِيُّ الْمُتَّحِدُ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْقِيَمِيِّ الَّذِي لاَ تَخْتَلِفُ الأَْنْصِبَاءُ فِيهِ صُورَةً وَقِيمَةً كَبَعْضِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْمِثْلِيِّ الْمُتَّحِدِ الصِّفَةِ - عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْمِثْلِيِّ - عَلَى أَنَّ قِسْمَتَهُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ إِفْرَازٍ بِطَرِيقِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ إِلَخْ، فَلاَ تَعْدِيل وَلاَ رَدَّ، إِلاَّ أَنَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُل كَالَّذِي لاَ يُدَّخَرُ مِثْل الْفَاكِهَةِ - طَرِيقَةٌ أُخْرَى بِجَوَازِ قِسْمَتِهِ بِطَرِيقِ التَّحَرِّي وَالْخَرْصِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيل الْمَوْزُونِ لاَ غَيْرُ، بَل جَوَّزَ ابْنُ الْقَاسِمِ قِسْمَةَ التَّحَرِّي فِيمَا يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ بِشَرْطَيْنِ: - أَنْ يَكُونَ قَلِيلاً. - مَوْزُونًا كَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ (2) .
ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ تَرَاضِيًا، وَقَدْ تَكُونُ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 363.
(2) الخرشي وحواشيه 4 / 402.(33/238)
إِجْبَارًا، إِذْ لاَ يُمْنَعُ الإِْجْبَارُ هُنَا حَيْثُ لاَ ضَرَرَ إِلاَّ مُطْلِقُو مَنْعِهِ كَأَبِي ثَوْرٍ فِي بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْهُ، وَقَدْ تَكُونُ جَمْعًا، كَمَا فِي قِسْمَةِ كَمِّيَّةٍ مِنَ الْحُبُوبِ كَالْقَمْحِ أَوِ الشَّعِيرِ، وَقَدْ تَكُونُ تَفْرِيقًا كَالسَّبِيكَةِ مِنْ ذَهَبٍ تُقْسَمُ وَزْنًا.
أَمَّا مَا أُلْحِقَ بِالْمِثْلِيِّ فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِسْمَتَهُ كَقِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاهِيرُ قُدَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فَعَلَى التَّقْوِيمِ فِي كُل مُتَقَوَّمٍ (1) ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْمَتُهُ قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ، وَالْمَفْرُوضُ أَنْ لاَ حَاجَةَ فِيهِ إِلَى رَدٍّ.
ثُمَّ قَدْ تَكُونُ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ حَيْثُ لاَ ضَرَرَ وَقَدْ تَكُونُ تَرَاضِيًا، وَعِنْدَ التَّرَاضِي يَجُوزُ التَّفَاضُل عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانٍ (ر: ف 43) ، وَقَدْ تَكُونُ جَمْعًا، كَمَا فِي قِسْمَةِ عَدَدٍ مِنَ الأَْغْنَامِ أَوِ الأَْبْقَارِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَقَدْ تَكُونُ تَفْرِيقًا، كَمَا فِي قِسْمَةِ بِنَاءٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَائِهِ إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِدُونِهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْعَقَارِ.
__________
(1) التحفة وحواشيها 2 / 68.(33/238)
قِسْمَةُ الْمَنْقُول غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ:
46 - تَتَنَوَّعُ قِسْمَةُ الْمَنْقُول غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ (كَالثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالأَْوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْحَيَوَانِ كَذَلِكَ) إِلَى أَنْوَاعٍ.
فَهُوَ لاَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ إِلاَّ تَعْدِيلاً بِطَرِيقِ التَّقْوِيمِ، إِلاَّ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَكْتَفِي فِي تَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ بِالتَّمَاثُل فِي مُعْظَمِ الصِّفَاتِ (ر: ف 43) ، فَإِنَّهُ يُطَبِّقُ عِنْدَ هَذَا التَّمَاثُل مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَنْقُول الْمُتَشَابِهِ خَاصًّا بِالْمِثْلِيِّ (ر: ف 33) وَالأَْصْل فِيهِ أَنْ تَكُونَ قِسْمَتُهُ قِسْمَةَ تَرَاضٍ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يَقْبَل الإِْجْبَارَ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى آخَرَ كَحَالَةِ اتِّحَادِ النَّوْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتُقَارِبُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاتِّحَادُ الصِّنْفِ وَصِنْفُ الصِّنْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي تَفْصِيلاَتٍ عَدِيدَةٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا.
وَتَكُونُ قِسْمَتُهُ قِسْمَةَ تَفْرِيقٍ إِذَا قُسِمَ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَقِسْمَةَ جَمْعٍ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ قِسْمَةِ الرَّدِّ إِذَا تَرَاضَى عَلَيْهَا الْمُتَقَاسِمُونَ: كَأَنْ يَأْخُذَ هَذَا الثِّيَابَ، وَذَاكَ الأَْوَانِيَ، وَيَدْفَعَ أَوْ يَأْخُذَ الْفَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ، بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ مَا يَدْفَعُ فَرْقًا (الْمُعَدِّل) مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، أَوْ بِدُونِ تَقَيُّدٍ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي سَلَفَ، لَكِنَّ قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ لاَ تُتَصَوَّرُ هُنَا إِلاَّ عِنْدَ الْمُتَوَسِّعِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمِثْلِيَّةِ.(33/239)
مَسَائِل ذَاتُ اعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ:
47 - الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: قِسْمَةُ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لاَ تَقْبَل الْقِسْمَةَ: كَالثَّوْبِ وَالإِْنَاءِ وَالْعَقَارِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَعْنِي أَنَّ فِي قِسْمَتِهِ إِضْرَارًا بِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْهُمْ (1) ، أَوْ فَسَادًا وَإِضَاعَةَ مَالٍ دُونَ نَفْعٍ مَا.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - مِنْ حَيْثُ الإِْجْبَارُ عَلَى الْقِسْمَةِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَيْهَا - يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ (2) ، لَكِنْ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا فَضْل عِنَايَةٍ، وَلَهُمْ فِيهَا مَزِيدُ بَيَانٍ، وَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِهِ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى ضَرَرِ الْقِسْمَةِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ لِلشَّرِيكَيْنِ - وَيَنُوبُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ مِنْهُمَا، فَيُمْضِي لَهُ مَا يَرَاهُ - الْخِيَارَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ:
1 - الإِْبْقَاءُ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَالاِنْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ مُشْتَرَكَةً.
2 - بَيْعُ الْعَيْنِ وَاقْتِسَامُ ثَمَنِهَا، وَمِنْهُ أَوْ بِمَثَابَتِهِ الْمُزَايَدَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ رُسُوِّ سِعْرِهَا فِي السُّوقِ (أَوْ بَعْدَ تَقْوِيمِ خَبِيرٍ إِنْ لَمْ يَرْضَوُا السُّوقَ) - وَتُسَمَّى الْمُقَاوَاةَ (3) - فَمَنْ رَغِبَ
__________
(1) على ما سلف من خلاف في الاعتداد بالضرر الخاص أو عدم الاعتداد، والمالكية يعتدون به بإطلاق (ر: ف / 13) .
(2) الخرشي 4 / 274.(33/239)
فِيهَا بِأَكْثَرَ أَخَذَهَا، وَإِذَا اسْتَوَيَا فَالْمُمْتَنِعُ مِنَ الْبَيْعِ أَوْلَى بِأَخْذِهَا، ثُمَّ عَلَى آخِذِهَا أَنْ يَدْفَعَ لِصَاحِبِهِ مُقَابِل حَقِّهِ فِي ثَمَنِ الْجُمْلَةِ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ مَحْضَ فَسَادٍ كَقِسْمَةِ بِئْرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ ضَارَّةً، مَعَ إِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَقْسُومِ بَعْدَهَا انْتِفَاعًا مَا مُخَالِفًا لِجِنْسِ مَنْفَعَتِهَا قَبْل الْقِسْمَةِ كَدَارٍ يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ مَرْبِطَيْنِ لِدَابَّتَيْنِ، فَإِنَّ لِلشُّرَكَاءِ وَجْهًا ثَالِثًا مِنْ وُجُوهِ الْخِيَارِ: هُوَ أَنْ يَقْتَسِمُوا الْعَيْنَ بِطَرِيقِ التَّرَاضِي.
إِلاَّ أَنَّ الإِْجْبَارَ عَلَى الْبَيْعِ مَشْرُوطٌ عِنْدَهُمْ بِعِدَّةِ شَرَائِطَ.
أ - أَنْ يَطْلُبَ الْبَيْعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ دُونَ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمَا
ب - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهُ مَعَ قَبُول الْقِسْمَةِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ مُؤْثِرُهَا عَلَيْهِ (1) .
ج - أَنْ يَنْقُصَ ثَمَنُ حِصَّةِ طَالِبِ الْبَيْعِ، لَوْ بِيعَتْ مُنْفَرِدَةً، وَإِلاَّ فَلْيَبِعْ إِنْ شَاءَ حِصَّتَهُ وَحْدَهَا، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
د - أَنْ لاَ يَلْتَزِمَ الشَّرِيكُ الآْخَرُ بِفَرْقِ الثَّمَنِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى بَعْضِ الْحِصَّةِ مُنْفَرِدَةً، وَإِلاَّ فَلاَ مَعْنَى لإِِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيْعِ.
هـ - أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ مَلَكَا الْعَيْنَ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 73.(33/240)
جُمْلَةً فَلَوْ مَلَكَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى حِدَةٍ، لَمَا كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي إِجْبَارِ شَرِيكِهِ عَلَى الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ مِلْكٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَبِيعُ عَلَى حِدَةٍ، وَلَكِنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنْ كِبَارِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَال الْيَزْنَاسِيُّ: الْعَمَل الآْنَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا (1) .
و أَنْ لاَ تَكُونَ الْعَيْنُ عَقَارًا لِلاِسْتِغْلاَل كَالْمَطْحَنِ وَالْمَخْبَزِ وَالْمَصْنَعِ وَالْحَمَّامِ؛ لأَِنَّ عَقَارَ الاِسْتِغْلاَل، أَوْ (رِيعَ الْغَلَّةِ) كَمَا يَقُولُونَ، لاَ تَنْقُصُ قِيمَةُ الْحِصَّةِ مِنْهُ إِذَا بِيعَتْ مُفْرَدَةً، بَل رُبَّمَا زَادَتْ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ (عَلَى أَنَّهَا لَوْ سَلِمَتْ، فَإِنَّ شَرِيطَةَ نَقْصِ ثَمَنِ الْحِصَّةِ تُغْنِي عَنْهَا) . (2)
وَحُجَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ الْقِيَاسُ عَلَى الشُّفْعَةِ بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ فِي كُلٍّ (3) ، وَالْجَمَاهِيرُ مِنْ حَنَفِيَّةٍ وَشَافِعِيَّةٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَرُدُّونَهُ بِأَنَّ الأَْصْل أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى إِزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، (4) فَلاَ يُنْتَقَل عَنْهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ نَاقِلٍ، وَلَيْسَ هُنَا هَذَا الدَّلِيل النَّاقِل، إِذِ الْقِيَاسُ عَلَى الشُّفْعَةِ قِيَاسٌ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 72.
(2) الخرشي 4 / 413، التحفة وحواشيها 2 / 72، 73.
(3) الخرشي 4 / 413.
(4) سورة النساء / 28.(33/240)
مَعَ الْفَارِقِ، فَلَوْ لَمْ تُشْرَعِ الشُّفْعَةُ لَلَزِمَ ضَرَرٌ مُتَجَدِّدٌ عَلَى الدَّوَامِ، وَلاَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ مَعَ الشَّرِيكِ (1) ، وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ عَدَل ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ إِلَى الاِسْتِدْلاَل بِمُجَرَّدِ الاِسْتِصْلاَحِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ إِنْزَال ضَرَرٍ بِالشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ، فَهِيَ إِذَنْ مُوَازَنَةٌ بَيْنَ الضَّرَرَيْنِ، أَلاَ تَرَاهُ يَقُول: وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ الْمُرْسَل (2) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ يُوَافِقُونَ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى إِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ، بَل يُطْلِقُونَ الْقَوْل بِأَنَّ مَنْ دَعَا شَرِيكَهُ إِلَى الْبَيْعِ فِي كُل مَا لاَ يَنْقَسِمُ إِلاَّ بِضَرَرٍ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ أُجْبِرَ عَلَى إِجَابَتِهِ، فَإِنْ أَبَى بِيعَ عَلَيْهِمَا وَقُسِمَ الثَّمَنُ وَيَزِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ دُعِيَ إِلَى الإِْجَارَةِ أُجْبِرَ أَيْضًا (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْبَيْعِ لَيْسَ حَتْمًا لإِِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ، بَل يَكْفِي طَلَبُ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لاَ فِي قِيمَةِ النِّصْفِ، فَلاَ يَصِل إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ بِبَيْعِ الْكُل، وَلِذَا أَمَرَ الشَّرْعُ فِي السِّرَايَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ كُلُّهُ، ثُمَّ يُعْطَى الشُّرَكَاءُ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 20، مغني المحتاج 4 / 426.
(2) بداية المجتهد 2 / 268.
(3) الفروع 3 / 846.
(4) قواعد ابن رجب 145.(33/241)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْمَاءِ.
48 - لاَ تُقْسَمُ لاَ جَبْرًا وَلاَ تَرَاضِيًا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ قَسْمُهَا إِلاَّ بِوَضْعِ حَاجِزٍ فِيهَا أَوْ أَكْثَرَ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ أَوِ الأَْنْصِبَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الضَّرَرِ وَنَقْصِ الْمَاءِ مَا يَجْعَل الْقِسْمَةَ فَسَادًا، أَمَّا مَجْرَى الْمَاءِ إِذَا اتَّسَعَ لِمَجْرَيَيْنِ، فَإِنَّهُ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ تَرَاضِيًا لاَ جَبْرًا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ، فَقَدْ يَكُونُ انْدِفَاعُ الْمَاءِ فِي جَانِبٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي الآْخَرِ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ نَفْسَهُ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ تَرَاضِيًا، كَيْفَمَا شَاءَ الشُّرَكَاءُ، أَمَّا جَبْرًا فَلاَ يُقْسَمُ إِلاَّ بِالْقِلْدِ - وَهُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِعْطَاءِ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ (1) - هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَأُصُول الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَأْبَى مِنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ نَفْسِهَا تَرَاضِيًا لاَ إِجْبَارًا، كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الاِخْتِلاَفُ فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ وَمِقْدَارِهِ:
49 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ فِي قِسْمَةِ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ، فَقَال بَعْضُهُمْ: نَقْتَسِمُ وَلاَ نَدَعُ طَرِيقًا، وَقَال بَعْضٌ: بَل نَدَعُهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْقِيقِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ عَلَى الْكَمَال مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ كَانَ بِوُسْعِ كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّخِذَ
__________
(1) هذا هو المفهوم من سياق كلامهم، وفي محيط المحيط: القلد (بكسر فسكون) الحظ من الماء، فقريب منه استعماله في آلته.
(2) الخرشي 4 / 410، بلغة السالك 2 / 242.(33/241)
لِنَفْسِهِ طَرِيقًا عَلَى حِدَةٍ اسْتَوْفَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يُبْقِ شَيْئًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَإِلاَّ فَالْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي إِبْقَاءَ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، إِذْ لاَ يَكْمُل الاِنْتِفَاعُ بِالْمَقْسُومِ بِدُونِهِ، فَيُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، يَقْسِمُ مَا عَدَا الطَّرِيقَ، وَيُبْقِي الطَّرِيقَ عَلَى الشَّرِكَةِ الأُْولَى دُونَ تَغْيِيرٍ، إِلاَّ أَنْ يَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّغْيِيرِ، كَأَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ بَيْنَهُمْ عَلَى التَّفَاوُتِ وَقَدْ كَانَ عَلَى التَّسَاوِي لأَِنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى التَّفَاوُتِ بِالتَّرَاضِي جَائِزَةٌ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا مِلْكِيَّةَ الطَّرِيقِ لِبَعْضِهِمْ، وَحَقَّ الْمُرُورِ فَحَسْبُ لِلآْخَرِينَ، وَقَيَّدُوهُ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ بِأَنْ تَكُونَ مِلْكِيَّةُ الطَّرِيقِ لِمَنْ تَرَكَ مُقَابِلاً لَهُ مِنْ نَصِيبِهِ، وَأَهْمَلُوهُ فِي الْمَجَلَّةِ (1) ،
فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّرِيقِ فَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي سَعَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي ضِيقِهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي عُلُوِّهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي انْخِفَاضِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَجْعَلُهُ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَارْتِفَاعِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا يُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، وَلاَ تَتَطَلَّبُ الْحَاجَةُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحَدَّدُ ارْتِفَاعُهُ بِمَا ذَكَرْنَا لِيَتَمَكَّنَ الشُّرَكَاءُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَوَائِهِ وَرَاءَ هَذَا الْمِقْدَارِ، كَأَنْ يُشْرِعَ أَحَدُهُمْ جَنَاحًا؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ بَاقٍ عَلَى خَالِصِ حَقِّهِ، إِذِ الْهَوَاءُ فِيمَا فَوْقَ ارْتِفَاعِ الْبَابِ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَنَّ هَذَا
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 365، 366، رد المحتار 5 / 173. ترى اللجنة أن هذا متأثر بأعراف زمانهم، أما الآن فقلما يحتاج إلى مرور ثور وتكاد تكون الحاجة منحصرة في مرور العربات والجرارات الزراعية فينبغي اتخاذ الحجم الغالب للجرارات الزراعية معيارًا. هذا متعين الآن لرفع الحرج والضرر، في كل موطن ب
(2) نيل الأوطار 5 / 262، الخرشي 4 / 277، قواعد ابن رجب 202. وحديث: " إذا اختلفتم في الطريق. . . " أخرجه مسلم (3 / 1232) .(33/242)
مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ، مَهْمَا كَانَ ارْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِرِضَا سَائِرِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ رَأْيٌ بِالْجَوَازِ، بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِحَجْبِ ضَوْءٍ أَوْ تَعْوِيقِ رَاكِبٍ مَثَلاً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَالأَْشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْل:
50 - الْعُلُوُّ وَالسُّفْل لِبَيْتٍ وَاحِدٍ أَوْ لِبَيْتَيْنِ، أَوْ مَنْزِلَيْنِ مُتَلاَصِقَيْنِ، فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَتَصْوِيرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَدُّدِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ (الْعُلُوِّ وَالسُّفْل) مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالآْخَرُ لِثَالِثٍ (3) .
وَهَل الْعُلُوُّ وَالسُّفْل جِنْسٌ (نَوْعٌ) وَاحِدٌ مُتَّحِدُ الصِّفَةِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، لاَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ: أَيْ أَنَّهُمَا يُقْسَمَانِ بِالذَّرْعِ وَالْمِسَاحَةِ، وَالْقَسْمُ فِي السَّاحَةِ مِنَ السَّطْحِ أَوِ الأَْرْضِ لاَ فِي الْبِنَاءِ، أَمْ هُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مُخْتَلِفُ الصِّفَةِ، فَلاَ يُمْكِنُ تَعْدِيل قِسْمَتِهِمَا قِسْمَةَ جَمْعٍ، إِلاَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؟
بِالأَْوَّل قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَبِالثَّانِي قَال مُحَمَّدٌ، وَمَحَل النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ فِي
__________
(1) قواعد ابن رجب 202، حواشي الخرشي 4 / 277.
(2) الخرشي 4 / 278، منهاج الطالبين بتعليق السراج 235، دليل الطالب 118.
(3) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 366.(33/243)
قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، لاَ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي، إِذْ لِلْمُتَقَاسِمِينَ أَنْ يَتَرَاضَوْا عَلَى مَا شَاءُوا فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ السُّكْنَى، وَلاَ تَفَاوُتَ فِي أَصْل السُّكْنَى بَيْنَ عُلُوٍّ وَسُفْلٍ، فَلاَ نُبَالِي بِتَفَاوُتِهِمَا فِي مَرَافِقَ أُخْرَى مِنْ مِثْل اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ، وَاتِّقَاءِ الْحَرِّ.
وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَجَاهُل الْمَرَافِقِ الأُْخْرَى لِتَأْثِيرِهَا الْبَالِغِ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ، وَإِلاَّ كَانَتْ قِسْمَةً جَائِرَةً، وَالتَّعْدِيل هُوَ أَسَاسُ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْل مَرَافِقَهُ الْخَاصَّةَ، فَفِي الْوُسْعِ أَنْ يُتَّخَذَ فِي السُّفْل، دُونَ الْعُلُوِّ، بِئْرٌ أَوْ سِرْدَابٌ أَوْ إِصْطَبْلٌ، وَأَنْ يُتَّقَى فِي الْعُلُوِّ، دُونَ السُّفْل التَّأْثِيرُ الضَّارُّ لِلرُّطُوبَةِ عَلَى الْجُدْرَانِ وَأُسُسِهَا، وَأَنْ يُسْتَنْشَقَ الْهَوَاءُ فِي وَفْرَةٍ وَنَقَاءٍ، وَأَغْرَاضُ النَّاسِ إِذْ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَرَافِقُ، تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا بَعِيدَ الْمَدَى فِي كُل زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَيَقُول الْقُدُورِيُّ: قُوِّمَ كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَقُسِمَ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ مُعْتَبَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَقُول صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 366.(33/243)
وَبَعْدَ اتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ وَالْمِسَاحَةِ، دُونَ الْقِيمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ أَتَكُونُ ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعٍ مِنَ الْعُلُوِّ؟ أَمْ ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ؟ بِالثَّانِي قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالأَْوَّل قَال أَبُو يُوسُفَ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ السُّكْنَى، وَلاَ تَفَاوُتَ فِيهَا؛ لأَِنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ دُونَ رِضَاءِ صَاحِبِ السُّفْل أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْل أَنْ يَبْنِيَ عَلَى سُفْلِهِ دُونَ رِضَاءٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ إِلاَّ بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْل، تَحَقَّقَ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ فِي الْمَقْصُودِ - وَهُوَ السُّكْنَى - عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَفَاوُتٌ فِي أَصْل السُّكْنَى، فَصَاحِبُ السُّفْل يَسْكُنُ - وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ - وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَ سُفْلِهِ لِيَتَوَسَّعَ فِي السُّكْنَى كَمَا شَاءَ - وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى - وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إِلاَّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ، هِيَ أَصْل السُّكْنَى، دُونَ التَّوَسُّعِ فِيهَا بِالْبِنَاءِ عَلَى عُلُوِّهِ، فَإِذَا كَانَ ثَمَّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي مُقَابِل مَنْفَعَتَيْنِ كَانَتِ الْعَدَالَةُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ كَذَلِكَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ؛ لأَِنَّ الثُّلُثَ مَعَ مَنْفَعَتَيْنِ يَعْدِل الثُّلُثَيْنِ مَعَ مَنْفَعَةٍ وَاحِدَةٍ.(33/244)
فَإِذَا كَانَ سُفْلٌ مِنْ بَيْتٍ، وَعُلُوٌّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ، وَكَانَا بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُمَا، يُقْسَمُ الْبِنَاءُ بِالْقِيمَةِ دُونَ نِزَاعٍ مِنْ أَحَدٍ، وَأَمَّا السَّاحَةُ (الْعَرْصَةُ) فَتُقْسَمُ بِالذَّرْعِ أَيِ الْمِسَاحَةِ، ذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ، أَيْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ عِنْدَ الإِْمَامِ، وَذِرَاعًا مِنَ السُّفْل بِذِرَاعٍ مِنَ الْعُلُوِّ، أَيْ عَلَى التَّسَاوِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوَّمَانِ وَيُقْسَمَانِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ التَّسَاوِي وَلاَ التَّثْلِيثُ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ قُسِمَا ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ضِعْفَ قِيمَةِ الآْخَرِ قُسِمَا ذِرَاعًا مِنَ الأَْعْلَى بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الآْخَرِ أَيًّا مَا كَانَ.
فَإِذَا كَانَ بَيْتٌ تَامٌّ (سُفْلٌ وَعُلُوٌّ) ، وَعُلُوٌّ فَقَطْ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يُقْسَمُ الْبِنَاءُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَكُونُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ أَرْبَاعًا عِنْدَ الإِْمَامِ، إِذْ يُحْسَبُ كُل ذِرَاعٍ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ بِثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ مِنَ الْعُلُوِّ وَحْدِهِ، وَتَكُونُ أَثْلاَثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، إِذْ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ فَقَطْ، وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عِنْدَ مُحَمَّدِ كَمَا تَقْتَضِيهِ قِسْمَةُ الْقِيمَةِ، دُونَ قُيُودٍ.
وَإِذَا كَانَ بَيْتٌ تَامٌّ (سُفْلٌ وَعُلُوٌّ) ، وَسُفْلٌ فَقَطْ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ بَعْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يُقْسَمُ الْبِنَاءُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ تَكُونُ قِسْمَةُ السَّاحَةِ عِنْدَ الإِْمَامِ عَلَى أَسَاسِ ذِرَاعٍ مِنَ(33/244)
الْبَيْتِ التَّامِّ بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ مِنَ السُّفْل فَقَطْ، وَتَكُونُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَثْلاَثًا، إِذْ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنَ الْبَيْتِ التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ مِنَ السُّفْل فَقَطْ، وَيَقْسِمُ مُحَمَّدٌ حَسَبَ الْقِيمَةِ، كَيْفَمَا اقْتَضَتْ.
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ (1) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ:
إِذَا تَمَّتْ قِسْمَةُ الأَْعْيَانِ عَلَى الصِّحَّةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارٌ شَتَّى، مِنْ أَهَمِّهَا:
51 - أَوَّلاً: لُزُومُ الْقِسْمَةِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَلْزَمُ الْقِسْمَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ لِلْخِيَارِ (ر: ف 54) ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْبَل الرُّجُوعَ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَنْقُضَهَا وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ وَيَرُدَّ الْمَال إِلَى الشَّرِكَةِ، دُونَ اتِّفَاقٍ مِنْ جَمِيعِ الْمُتَقَاسِمِينَ.
وَتَتِمُّ الْقِسْمَةُ بِتَعْيِينِ الْقَاسِمِ لِكُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْقَاسِمُ هُوَ قَاسِمَ الْقَاضِي أَمْ قَاسِمًا حَكَّمُوهُ بَيْنَهُمْ لِيَقُومَ بِهَذَا التَّعْيِينِ، وَإِلْزَامِ كُل وَاحِدٍ بِالنَّصِيبِ الَّذِي يُفْرِزُهُ لَهُ - سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِقُرْعَةٍ أَمْ بِدُونِهَا (2) ، كَمَا تَتِمُّ إِذَا اقْتَسَمُوهُمْ بِالتَّرَاضِي - دُونَ تَحْكِيمِ مُحَكَّمٍ مُلْزِمٍ - وَاقْتَرَعُوا اقْتِرَاعًا تَامًّا خَرَجَتْ بِهِ جَمِيعُ الأَْجْزَاءِ (السِّهَامِ)
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 266 - 369، بدائع الصنائع 7 / 27.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 363، الفتاوى الهندية 5 / 217.(33/245)
لأَِرْبَابِهَا، وَيَكْفِي لِذَلِكَ إِجْرَاءُ الْقُرْعَةِ عَلَى جَمِيعِ الأَْجْزَاءِ عَدَا الْجُزْءِ الأَْخِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَيَّنُ تِلْقَائِيًّا لِمَنْ بَقِيَ مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَإِذَنْ فَيَكُونُ لِبَعْضِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ أَثْنَاءَ الْقُرْعَةِ أَيْ قَبْل أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ (1) ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَخْدِمُوا الْقُرْعَةَ وَاكْتَفَوْا بِالتَّرَاضِي عَلَى أَنْ يَخْتَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَصِيبٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّرَاضِي، بَل يَتَوَقَّفُ تَمَامًا عَلَى قَبْضِ كُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ، أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي (2) .
وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُؤَخِّرِهَا بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، وَيَأْخُذَ الآْخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُقَدِّمِهَا بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ، مَا لَمْ تَقَعِ الْحُدُودُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا بِمَا قَالاَ قَبْل وُقُوعِ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا بَعْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ.
فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ رُجُوعٌ مُعْتَبَرٌ، أَوِ اعْتِرَاضٌ وَعَدَمُ رِضًا أُعِلْنَ بِهِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَى الرِّضَا، فَإِنَّ الْعُدُول بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا لاَ يُجْدِي فَتِيلاً؛ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ (3) .
أَمَّا الرُّجُوعُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُتَقَاسِمِينَ فَهُوَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 217.
(3) رد المحتار 5 / 176.(33/245)
تَقَايُلٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أُصُول الْحَنَفِيَّةِ وَنُصُوصَ بَعْضِ مُتُونِهِمْ وَشُرَّاحِهِمْ تَقْتَضِي إِطْلاَقَ قَبُولِهِ.
وَعِبَارَةُ مَتْنِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَشَرْحِهِ: الْقِسْمَةُ تَقْبَل النَّقْصَ، فَلَوِ اقْتَسَمُوا وَأَخَذُوا حِصَصَهُمْ، ثُمَّ تَرَاضَوْا عَلَى الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ صَحَّ، وَعَادَتِ الشَّرِكَةُ فِي عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُطْلِقُونَ الْقَوْل بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ إِذَا صَحَّتْ، سَوَاءٌ بِقُرْعَةٍ أَمْ بِدُونِهَا، وَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الإِْجْبَارِ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، وَيُعَلِّلُونَهُ بِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ مَعْلُومٍ إِلَى مَجْهُولٍ (2) ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ التَّقَايُل بِاتِّفَاقِ الْمُتَقَاسِمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ، إِذْ يَقُول: الْقِسْمَةُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، لاَ يَجُوزُ لِلْمُتَقَاسِمِينَ نَقْضُهَا وَلاَ الرُّجُوعُ فِيهَا، إِلاَّ بِالطَّوَارِئِ عَلَيْهَا (3) ، وَهُوَ نَقِيضُ مَا صَرَّحَ بِهِ الدَّرْدِيرُ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي (4) ، لَكِنَّ الْمُدَوَّنَةَ صَرِيحَةٌ فِيمَا قَرَّرَهُ الأَْوَّلُونَ: فَقَدْ سَأَل سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ دَارًا بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ تَرَاضَيْنَا فِي أَنْ جَعَلْتُ لَهُ طَائِفَةً مِنَ الدَّارِ عَلَى أَنْ جَعَل
__________
(1) رد المحتار 5 / 176.
(2) الخرشي 4 / 412، بلغة السالك 2 / 243.
(3) بداية المجتهد 2 / 270.
(4) بلغة السالك 2 / 238.(33/246)
لِي طَائِفَةً أُخْرَى، فَرَجَعَ أَحَدُنَا قَبْل أَنْ تُنْصَبَ الْحُدُودُ بَيْنَنَا؟ . فَأَجَابَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُمَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عِنْدَ مَالِكٍ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ.
وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَقْبَل الرُّجُوعَ بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلاَ الْمُجْتَمِعَةِ، لَكِنْ فِيمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمَةِ مَحْضَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ، وَهَذِهِ هِيَ الْقِسْمَةُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا عَدَا قِسْمَةِ الرَّدِّ فِي قِيل اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ، أَمَّا مَا هُوَ مِنْهَا بَيْعٌ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ عَقْدٌ لاَزِمٌ بِمُجَرَّدِ التَّرَاضِي وَالتَّفَرُّقِ. وَيَقْبَل التَّقَايُل كَالْبَيْعِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا اسْتُخْدِمَتِ الْقُرْعَةُ تَوَقَّفَ لُزُومُ الْقِسْمَةِ عَلَى خُرُوجِهَا، وَعَلَى الرِّضَا بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، هَذَا فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، فَيَتَوَقَّفُ اللُّزُومُ عَلَى خُرُوجِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ بِتَرَاضٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ رِضًا بِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ، سَوَاءٌ فِي قِسْمَةِ الإِْفْرَازِ أَوِ الرَّدِّ أَوِ التَّعْدِيل، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ وَالتَّعْدِيل فَلأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَيْعٌ، وَالْبَيْعُ لاَ يَحْصُل بِالْقُرْعَةِ، فَافْتَقَرَ إِلَى الرِّضَا بَعْدَ خُرُوجِهِمَا كَقَبْلِهِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا فَقِيَاسًا عَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمَا: رَضِينَا بِهَذِهِ
__________
(1) المدونة 14 / 169.(33/246)
الْقِسْمَةِ أَوْ بِهَذَا أَوْ بِمَا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ وَقَعَتْ إِجْبَارًا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا تَرَاضٍ، لاَ قَبْل الْقُرْعَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، أَوْ وَقَعَتْ بِدُونِ قُرْعَةٍ أَصْلاً بِأَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ وَالآْخَرُ الآْخَرَ، أَوْ أَحَدُهُمَا الْخَسِيسَ وَالآْخَرُ النَّفِيسَ وَيَرُدَّ زَائِدَ الْقِسْمَةِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَرَاضٍ ثَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا - اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ:
52 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِقْلاَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَأَيِّ مَالِكٍ فِيمَا يَمْلِكُ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ ثَمَرَةُ الْقِسْمَةِ وَمَقْصُودُهَا (2) .
وَيَذْكُرُ الْحَنَفِيَّةُ هُنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ الْفَاسِدَةَ، كَالَّتِي شُرِطَ فِيهَا هِبَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ بَيْعٌ مِنَ الْمَقْسُومِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيْضًا هَذَا الاِسْتِقْلاَل بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الضَّمَانِ بِالْقِيمَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَيَرُدُّونَ مَا قَال ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ مِنْ نَفْيِ هَذَا التَّرَتُّبِ؛ لأَِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ وَالْبُطْلاَنَ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ (3) ، وَالَّذِي قَالَهُ
__________
(1) المهذب 2 / 309، ونهاية المحتاج 8 / 276، الشرقاوي على التحرير 2 / 499، والإنصاف 11 / 353 - 354.
(2) رد المحتار 5 / 166، الخرشي 4 / 399، ومغني المحتاج 4 / 418، والمغني 11 / 488.
(3) رد المحتار 5 / 176، الفتاوى الهندية 5 / 211.(33/247)
ابْنُ نُجَيْمٍ هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَقَدْ ضَرَبَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ هُنَا عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَمْلِكُهَا كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ فِي نَصِيبِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِمُقَاسِمِهِ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ أَوِ الْمَنْعِ، وَذَلِكَ إِذْ يَقُول: لَوْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَاحَةٌ لاَ بِنَاءَ فِيهَا، وَوَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ؛ لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى، لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَا لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا - أَيِ الَّذِي يُبَيِّضُ الثِّيَابَ (2) - وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ، لِمَا قُلْنَا.
وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً - أَيِ الثُّقْبَةَ فِي الْحَائِطِ (3) - لِمَا ذَكَرْنَا؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلاً، فَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ أَوْلَى.
وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ كِرْيَاسًا - أَيْ كَنِيفًا فِي أَعْلَى السَّطْحِ (4)
__________
(1) أشباه السيوطي 286.
(2) المصباح المنير.
(3) المصباح المنير.
(4) المصباح المنير.(33/247)
وَإِنْ كَانَ يَهِي بِذَلِكَ حَائِطُ جَارِهِ، وَلَوْ طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيل ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّحْوِيل، وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ لاَ صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالأَْصْل أَنْ لاَ يُمْنَعَ الإِْنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْكَفَّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ (1) .
ثَالِثًا لِلْمُتَقَاسِمِينَ إِحْدَاثُ أَبْوَابٍ وَنَوَافِذَ فِي السِّكَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ:
53 - وَهَذَا مِمَّا يَقَعُ كَثِيرًا؛ لأَِنَّ قِسْمَةَ الدَّارِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِدْخَال تَعْدِيلاَتٍ كَثِيرَةٍ، وَتَهْيِئَةُ مَرَافِقَ لَمْ تَكُنْ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي السِّكَّةِ الْمَذْكُورَةِ الْحَيْلُولَةُ دُونَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ لِلْمُتَقَاسِمِينَ أَنْ يُزِيلُوا الْجُدْرَانَ فَأَوْلَى أَنْ يَفْتَحُوا فِيهَا مَا شَاءُوا مِنْ أَبْوَابٍ وَكُوًى.
هَكَذَا قَرَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَطْلَقَهُ (2) وَالَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي السِّكَّةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ هُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَنْ لَهُ فِيهَا بَابٌ، لاَ مَنْ لاَصَقَهَا جِدَارُهُ، ثُمَّ الَّذِي لَهُ فِيهَا بَابٌ لاَ يَمْلِكُ عِنْدَهُمْ فَتْحَ بَابٍ آخَرَ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، وَهُوَ مُفَادُ مُتُونِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا (3) ، لَكِنْ زَادَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِيطَةً أُخْرَى لِفَتْحِ بَابٍ جَدِيدٍ، هِيَ أَنْ يُغْلَقَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 28، 29.
(2) بدائع الصنائع 7 / 29.
(3) شرح المجلة للأتاسي 3 / 117.(33/248)
الأَْوَّل، هَذَا عِنْدَ الْمُشَاحَّةِ، أَمَّا بِالتَّرَاضِي فَلاَ كَلاَمَ. (1)
كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُصَرِّحُونَ بِمَنْعِ فَتْحِ بَابِ قُبَالَةَ بَابٍ آخَرَ لِشَرِيكٍ فِي السِّكَّةِ غَيْرِ النَّافِذَةِ؛ لأَِنَّهُ يُؤْذِيهِ وَيُسِيءُ إِلَى أَهْلِهِ. (2)
مَا يَطْرَأُ عَلَى الْقِسْمَةِ:
54 - قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا أُمُورٌ قَدْ يَرَى الشُّرَكَاءُ أَوْ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِهَا إِعَادَةَ النَّظَرِ بِالْقِسْمَةِ وَمِنْهَا:
أ - الْغَبْنُ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا مُحْتَمَلاً فَهَذَا قَلَّمَا تَخْلُو مِنْهُ قِسْمَةٌ وَلِذَا لاَ تُسْمَعُ دَعْوَى مَنْ يَدَّعِيهِ وَلاَ تُقْبَل بَيِّنَتُهُ، أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ - الَّذِي لاَ يُتَسَامَحُ فِيهِ عَادَةً، فِي كُل قَضِيَّةٍ بِحَسَبِهَا - فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُسْمَعُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَبْن ف 7) .
ب - الْعَيْبُ:
لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلاَنِ الْقِسْمَةِ بِظُهُورِ الْعَيْبِ فِي بَعْضِ الأَْنْصِبَاءِ إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَيْسَ هُوَ أَصْل الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا أَبْدَوْهُ احْتِمَالاً بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْدِيل مِنْ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، (3) وَأَحَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَحْكَامَ
__________
(1) المنهاج بتعليق السراج 235.
(2) الخرشي 4 / 278، بلغة السالك 2 / 126.
(3) المغني 11 / 510، والإنصاف 11 / 263.(33/248)
الْعَيْبِ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي الْبَيْعِ، وَبَسَطَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَحْثَ فِي الْعَيْبِ فِي الْقِسْمَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَيْب ف 39) .
ج - الاِسْتِحْقَاقُ:
إِذَا اسْتُحِقَّ جَمِيعُ الْمَال الْمَقْسُومِ يَتَبَيَّنُ أَنْ لاَ قِسْمَةَ لأَِنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلًّا، وَإِذَا اسْتُحِقَّ نَصِيبُ أَحَدِ الْمُتَقَاسِمِينَ أَوْ بَعْضُ نَصِيبِهِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحْقَاق ف 36) .
قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ:
55 - وَتُسَمَّى قِسْمَةَ الْمُهَايَأَةِ، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ وَتَسْهِيلِهَا، (1) وَهِيَ فِي أَصْل اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَيْئَةِ قَال فِي الْمِصْبَاحِ: تَهَايَأَ الْقَوْمُ تَهَايُؤًا مِنَ الْهَيْئَةِ، جَعَلُوا لِكُل وَاحِدٍ هَيْئَةً مَعْلُومَةً وَالْمُرَادُ النَّوْبَةُ. وَهِيَ شَرْعًا: قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ: لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ فِيهَا، إِمَّا أَنْ يَرْضَى بِهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَخْتَارَهَا، وَإِمَّا أَنَّ الشَّرِيكَ الثَّانِيَ يَنْتَفِعُ بِالْعَيْنِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا انْتِفَاعُ شَرِيكِهِ الأَْوَّل.
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
56 - الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ لأَِنَّهَا مُبَادَلَةُ مَنْفَعَةٍ بِجِنْسِهَا نَسِيئَةً، إِذْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ
__________
(1) حكى المالكية فيها عدة لغات فراجعها (الخرشي وحواشيه 4 / 400) .(33/249)
بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنِ انْتِفَاعِ شَرِيكِهِ بِمِلْكِهِ (1) ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ إِلَى الْقَوْل بِجَوَازِهَا اسْتِحْسَانًا، لِمَا قَامَ مِنْ دَلاَئِل مَشْرُوعِيَّتِهَا إِذْ هَذِهِ الْمَشْرُوعِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ - حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ يُخَاطِبُ قَوْمَهُ: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (2) إِذْ هُوَ يَدُل عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ بِنَصِّهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، مَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ وَمَا لَمْ يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ - وَعَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ بِدَلاَلَتِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَشْبَهُ مِنَ الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، إِذْ كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، دُونَ تَرَاخٍ عَنْ صَاحِبِهِ. (3)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ جَاءَ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ بَعِيرٌ يَتَهَايَئُونَ فِي رُكُوبِهِ (4) وَهَذِهِ مُهَايَأَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَالْمَكَانِيَّةُ أَوْلَى مِنْهَا بِالْجَوَازِ، كَمَا عَلِمْنَاهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُل الَّذِي رَغِبَ فِي خِطْبَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ رَأَى إِعْرَاضَ النَّبِيِّ، عَرَضَ إِزَارَهُ
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 377.
(2) سورة الشعراء / 155.
(3) البدائع 7 / 32.
(4) حديث: " أنهم كانوا يوم بدر بين ثلاثة نفر بعير. . . " أخرجه أحمد (1 / 218) من حديث عبد الله بن مسعود.(33/249)
مَهْرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهُ، فَقَال صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ (1) - يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الشَّأْنَ فِي قِسْمَةِ مَا لاَ يَنْقَسِمُ - وَلاَ يَحْتَمِل الاِجْتِمَاعَ عَلَى مَنْفَعَتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ - أَنْ يُقْسَمَ عَلَى التَّهَايُؤِ. (2)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَلاَ يُعْرَفُ فِي صِحَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ عَلَى الْجُمْلَةِ نِزَاعٌ لأَِحَدٍ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ. قَدْ يَتَعَذَّرُ الاِجْتِمَاعُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ لَمْ تُشْرَعْ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لَضَاعَتْ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، وَتَعَطَّلَتْ أَعْيَانٌ إِنَّمَا خَلَقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُنْتَفَعَ بِهَا، وَلاَ يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي عَقْلٍ أَوْ شَرْعٍ حَكِيمٍ. (3)
مَحَل قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
57 - تَكُونُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ إِذَا صَادَفَتْ مَحَلَّهَا، وَتَرَاضَى عَلَيْهَا الشُّرَكَاءُ، أَوْ طَلَبَهَا أَحَدُهُمْ وَالْقِسْمَةُ الْعَيْنِيَّةُ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، أَوْ مُمْكِنَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا شَرِيكٌ آخَرُ، وَالْمَنْفَعَةُ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ تَفَاوُتًا يُعْتَدُّ بِهِ. أَوْ تَعَذَّرَ الاِجْتِمَاعُ عَلَى
__________
(1) حديث: " الرجل الذي رغب في خطبة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 78) من حديث سهل بن سعد.
(2) الزيلعي على الكنز 5 / 275.
(3) الزيلعي على الكنز 5 / 275.(33/250)
الاِنْتِفَاعِ (1) .
وَالْمَنَافِعُ، كَمَا هُوَ فَرْضُ الْكَلاَمِ، أَيْ مَنَافِعُ الأَْعْيَانِ الَّتِي يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا، فَلاَ يَصِحُّ التَّهَايُؤُ عَلَى الْكِتَابَةِ مِنْ مِحْبَرَةٍ مَثَلاً (2) ، وَلاَ عَلَى الْغَلاَّتِ الْمُتَمَثِّلَةِ أَعْيَانًا بِطَبِيعَتِهَا كَالثِّمَارِ وَاللَّبَنِ؛ لأَِنَّ التَّهَايُؤَ الَّذِي هُوَ شَكْل قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، إِنَّمَا جَازَ ضَرُورَةً أَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ سَيَّالَةٌ لاَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا لِتَقَضِّيهَا وَعَدَمِ بَقَائِهَا زَمَانَيْنِ، فَقُسِمَتْ قَبْل وُجُودِهَا بِالتَّهَايُؤِ فِي مَحَلِّهَا، أَمَّا الأَْعْيَانُ الَّتِي هِيَ غَلاَّتٌ فَتَبْقَى وَتُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِذَوَاتِهَا، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِي قِسْمَتِهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، (3) فَالأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بِالْمُهَايَأَةِ: كَأَنْ يَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ نِصْفَهَا، أَوْ يَأْخُذَهَا أَحَدُهُمَا كُلَّهَا فَتْرَةً مُعَيَّنَةَ مِنَ الزَّمَنِ ثُمَّ الآْخَرُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذِهِ قِسْمَةُ مَنَافِعِ الأَْرْضِ بِزِرَاعَتِهَا، أَمَّا النَّخْل وَشَجَرُ الْفَاكِهَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَيَتَقَاسَمَانِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الأَْرْضِ، لِيَسْتَقِل كُلٌّ بِمَا يَتَحَصَّل مِنَ الثَّمَرَةِ فِي حِصَّتِهِ أَوْ فِي نَوْبَتِهِ فَلاَ سَبِيل إِلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ؛ لأَِنَّ الثِّمَارَ أَعْيَانٌ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَمَا إِلَيْهِمَا،
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 496.
(2) رد المحتار 5 / 176.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 383، الزيلعي على الكنز 5 / 277.(33/250)
لاَ تَجُوزُ قِسْمَةُ أَلْبَانِهَا بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى نَحْوِ مَا سَلَفَ لِلْمَعْنَى ذَاتِهِ، (1) وَمَثَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِرَجُلَيْنِ تَوَاضَعَا فِي بَقَرَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عِنْدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَحْلُبُ لَبَنَهَا، كَانَ بَاطِلاً، وَلاَ يَحِل فَضْل اللَّبَنِ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فِي حِلٍّ؛ لأَِنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْفَضْل اسْتَهْلَكَ الْفَضْل، فَإِذَا جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فِي حِلٍّ، كَانَ ذَلِكَ إِبْرَاءً مِنَ الضَّمَانِ فَيَجُوزُ، أَمَّا حَال قِيَامِ الْفَضْل فَيَكُونُ هِبَةً أَوْ إِبْرَاءً مِنَ الْعَيْنِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. (2)
وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الْمَخْرَجَ لِلْمُهَايَأَةِ فِي الثَّمَرِ أَوِ اللَّبَنِ (3) أَنْ يَشْتَرِيَ هَذَا حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ الأَْصْل (أَيِ الشَّجَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ) ثُمَّ يَبِيعَهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ نَوْبَتِهِ لِيَبْدَأَ ذَاكَ نَوْبَتَهُ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ بَاعَ صَاحِبُهُ الأَْصْل بِدَوْرِهِ، وَهَكَذَا دَوَالِيكَ، أَوْ يَسْتَقْرِضَ حِصَّةَ صَاحِبِهِ مِنَ اللَّبَنِ أَوِ الثَّمَرِ، بِأَنْ يَزِنَ كُل يَوْمٍ مَا يَخُصُّهُ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ نَوْبَتُهُ اسْتَوْفَى صَاحِبُهُ بِالْوَزْنِ مَا كَانَ أَقْرَضَ، إِذْ قَرْضُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ، أَصْلاً وَتَأْجِيلاً. (4)
هَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ مِنْ
__________
(1) البدائع 7 / 32، وتكملة فتح القدير 8 / 383.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(3) استثنوا من المنع لبن الآدمية، لأنه جار مجرى المنافع إذ لا قيمة له. (الزيلعي على الكنز 5 / 277) .
(4) تكملة فتح القدير 8 / 383، ورد المحتار 5 / 177، 178.(33/251)
غَيْرِهِمْ (1) إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الْمَخْرَجَ فِي التَّهَايُؤِ عَلَى الثَّمَرِ وَاللَّبَنِ هُوَ الإِْبَاحَةُ، أَيْ أَنْ يُبِيحَ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ لِصَاحِبِهِ مُدَّةَ نَوْبَتِهِ، وَيُغْتَفَرُ الْجَهْل لِمَكَانِ الشَّرِكَةِ وَتَسَامُحِ النَّاسِ. (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا فِي اللَّبَنِ: يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَى الْفَضْل الْبَيِّنِ؛ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ إِلَى بَابِ الْمَعْرُوفِ الْبَحْتِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ جَعَلاَ لَبَنَ الْبَقَرَةِ لأَِحَدِهِمَا يَوْمًا وَلِلآْخَرِ يَوْمَيْنِ (3) .
التَّرَاضِي وَالإِْجْبَارُ فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
58 - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ أَيْضًا تَتَنَوَّعُ إِلَى قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقِسْمَةِ إِجْبَارٍ، وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ فِي تَنَوُّعِهَا هَذَا مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ:
أ - فَحَيْثُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَاتَّفَقَتِ الْمَنَافِعُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ لِغَلَبَةِ مَعْنَى الإِْفْرَازِ حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قِسْمَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، أَوْ أَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ، بِاتِّفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، أَوْ دَارَيْنِ أَوْ أَرْضَيْنِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ إِذَا رَأَى الْقَاضِي وَجْهَ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 274.
(2) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(3) الخرشي 4 / 409.(33/251)
وَإِذَنْ فَإِذَا طَلَبَ الْمُهَايَأَةَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أُجْبِرَ الآْخَرُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَحَل قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ الْعَيْنِيَّةِ وَطَلَبَهَا هَذَا الآْخَرُ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ؛ لأَِنَّ فِيهَا - مَعَ وُصُول كُلٍّ إِلَى حَقِّهِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ - فَائِدَةً مَقْصُودَةً: هِيَ إِفْرَازُ الْمِلْكِ وَتَمْيِيزُهُ عَنْ مِلْكِ الْغَيْرِ، بَل لَوْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ مُهَايَأَةً بِالْفِعْل، وَكَانَ قَدْ سَكَتَ هَذَا الشَّرِيكُ فَصَحَّتْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَعَادَ فَطَلَبَ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ يُجَابُ وَتَبْطُل قِسْمَةُ الْمُهَايَأَةِ، لِمَا ذُكِرَ. (1)
وَهَذَا يَنْتَظِمُ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْقِسْمَةَ، فَيُجْبَرُ عَلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ (2) وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الاِجْتِمَاعُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهَا، كَدَارٍ لاَ تَسَعُ إِلاَّ سُكْنَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ. (3)
ب - وَحَيْثُ كَانَ الأَْمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ كَدَارٍ وَأَرْضٍ، أَوْ تَفَاوَتَتِ الْمَنْفَعَةُ، كَدَارٍ تُقْسَمُ مُهَايَأَةً لِيَكُونَ بَعْضُهَا حِصَّةً لِلسُّكْنَى وَالْبَعْضُ الآْخَرُ حِصَّةٌ لِلاِسْتِغْلاَل، فَلاَ إِجْبَارَ وَلاَ سَبِيل إِلَى قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (4) .
59 - ثُمَّ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 378.
(2) الزيلعي على الكنز 5 / 275.
(3) رد المحتار 5 / 177.
(4) العناية مع تكملة فتح القدير 8 / 380.(33/252)
بِالْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ أَوِ الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ، إِذْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَزِيَّتُهُ، فَالأُْولَى أَعْدَل، لِوُصُول كُل وَاحِدٍ إِلَى حَقِّهِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، وَالثَّانِيَةُ أَكْمَل، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِالْعَيْنِ كُلِّهَا، وَلِذَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ عَلَى الدَّارِ: هَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا فِي مُقَدِّمِهَا، وَالآْخَرُ فِي مُؤَخِّرِهَا، وَذَاكَ يَطْلُبُ أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ شَهْرًا، ثُمَّ الآْخَرُ شَهْرًا آخَرَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يُجِيبُ أَحَدَهُمَا، إِذْ لاَ رُجْحَانَ لأَِحَدٍ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَّفِقَا، ثُمَّ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا لِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْبُدَاءَةُ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ، وَلَكِنْ تَنَازَعَا مَكَانًا بِعَيْنِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا لِيَتَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ لِكُل وَاحِدٍ مَكَانُهُ. (1)
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى قَصْرِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ لاَ تَنْطَوِي الْقِسْمَةُ عَلَى ضَرَرٍ، (2) وَلَكِنِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ خِلاَفُهُ: وَهُوَ نَفْيُ الإِْجْبَارِ فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ كُلِّهَا، قَبِلَتِ الْعَيْنُ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ أَمْ لَمْ تَقْبَلْهَا، اتَّفَقَتِ الْمَنْفَعَةُ أَمِ اخْتَلَفَتْ، وَهُوَ الَّذِي قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) لأَِنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ كُل وَاحِدٍ مِنَ
__________
(1) العناية 8 / 380، ورد المحتار 5 / 176.
(2) الإنصاف 11 / 340.
(3) الخرشي 4 / 401، ومغني المحتاج 4 / 426.(33/252)
الشَّرِيكَيْنِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ عِنْدَهُ لِقَاءِ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِنَصِيبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ مَا يَحْصُل لَهُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَحْصُل، ثُمَّ لأَِنَّ فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ خَاصَّةً غَبْنًا لِمَنْ تَتَأَخَّرُ نَوْبَتُهُ.
لَكِنْ يُقَرِّرُ الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَانِعَ الْحَقِيقِيَّ مِنْ دُخُول الإِْجْبَارِ فِي قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ هُوَ بَقَاءُ الْعُلْقَةِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْعَيْنِ ذَاتِهَا، وَلِذَا فَإِنَّ الْمَنَافِعَ الْمَمْلُوكَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِلْكُ الذَّاتِ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ، تَقْبَل الإِْجْبَارَ عَلَى قِسْمَتِهَا (1) ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ هُوَ إِطْلاَقُ الْقَوْل بِعَدَمِ الإِْجْبَارِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَمَا سَيَجِيءُ. (2)
وَفِي تَنْقِيحِ الْحَامِدِيَّةِ كَلاَمٌ مُسْتَدْرَكٌ عَنْ عَدَمِ الإِْجْبَارِ عَلَى تَهَايُؤِ الْمُسْتَأْجِرِينَ. (3)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَدْ يَأْبَوْنَ مِنْ قِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُؤَجِّرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ أَوْ يُجْبِرُهُمْ عَلَى إِيجَارِهِ، مُدَّةً قَرِيبَةً كَسَنَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْيجَارُ لِكَسَادٍ لاَ يُرْجَى انْقِشَاعُ غُمَّتِهِ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِنَّهُ يَبِيعُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ رُبَّمَا تَعَذَّرَ الْبَيْعُ أَيْضًا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426.
(2) نهاية المحتاج 8 / 272.
(3) شرح المجلة للأتاسي 4 / 119.(33/253)
وَهُنَا يَقُول الزَّرْكَشِيُّ: يُجْبِرُهُمْ عَلَى الْمُهَايَأَةِ إِذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمْ، وَلاَ يُعْرِضُ عَنْهُمْ إِلَى الصُّلْحِ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ عَامٌّ وَكَثِيرٌ (1) وَلاِبْنِ الْبَنَّاءِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ نَحْوُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبَيْعَ (2) ، وَمَعْلُومٌ مَوْقِفُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَمَيِّزُ وَمَعَهُمْ مُوَافِقُوهُمْ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى الْبَيْعِ، لَكِنْ بِطَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ (ر: ف 47) .
وَقَدْ مَضَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. إِذْ مَنَعَ الْمُهَايَأَةَ عَلَى غَلَّةِ الْكِرَاءِ وَحَكَمَ بِبُطْلاَنِهَا؛ لأَِنَّهَا عَيْنٌ وَتُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، فَيَبْقَى الْمَال الْمُشْتَرَكُ دُونَ مُهَايَأَةٍ، ثُمَّ مَا يَتَحَصَّل مِنْ غَلَّتِهِ يَقْتَسِمُهُ الشُّرَكَاءُ بَيْنَهُمْ، فَعِنْدَهُ لاَ يَصِحُّ التَّهَايُؤُ عَلَى اسْتِغْلاَل الدَّابَّةِ أَوِ الدَّابَّتَيْنِ. (3)
وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى غَلَّةَ الْعَقَارِ، فَأَلْحَقَهَا بِالْمَنَافِعِ، وَجَوَّزَ التَّهَايُؤَ عَلَى قِسْمَتِهَا، فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الدَّارَيْنِ، وَالأَْرْضِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الأَْرْضَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّهَايُؤُ زَمَانِيًّا أَمْ مَكَانِيًّا، فَاحْتَاجَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ مَثَلاً فَوَجَدَهُ فِي كَثْرَةِ الْغَرَرِ فِي الْحَيَوَانِ، لأَِنَّ تَعَرُّضَهُ لِلتَّغَيُّرَاتِ أَكْثَرُ، فَفِي الْمُهَايَأَةِ عَلَيْهِ تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ، الَّتِي هِيَ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ونهاية المحتاج 7 / 272.
(2) الإنصاف 11 / 340.
(3) تكملة فتح القدير 8 / 381 - 383، والهندية 5 / 231، ورد المحتار 5 / 177.(33/253)
شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، فِي مَظِنَّةِ الْفَوَاتِ، وَلاَ كَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ: فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ بَقَاءُ التَّعَادُل الْقَائِمِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ - عَلَى الاِسْتِغْلاَل - فَفِي الْمَكَانِيَّةِ إِذَا زَادَتِ الْغَلَّةُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَنْهَا فِي نَوْبَةِ الآْخَرِ لاَ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ، بَل تَخُصُّ مَنْ وَقَعَتْ فِي نَوْبَتِهِ، لِقُوَّةِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالإِْفْرَازِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِسْمَةِ، بِسَبَبِ اتِّحَادِ زَمَانِ اسْتِيفَاءِ كُلٍّ حَقَّهُ، وَفِي الزَّمَانِيَّةِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ، لِضَعْفِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا، بِسَبَبِ تَعَاقُبِ اسْتِيفَاءِ كُلٍّ حَقَّهُ فَيُقَدَّرُ مَعْنَى الْقَرْضِ لِيَحْصُل التَّعَادُل: كَأَنَّ هَذَا أَقْرَضَ نَصِيبَهُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الشَّهْرِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ نَصِيبِ الآْخَرِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَيُقَدَّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي تَأْجِيرِ نَصِيبِهِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُقْرِضُ قَدْرَ قَرْضِهِ كَانَ الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا. (1)
وَمَنْعُ الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْغَلَّةِ - بِمَعْنَى الْكِرَاءِ (2) - هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ، فِيمَا قَل وَكَثُرَ؛ لأَِنَّهَا تَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُهَا مِنَ الْغَرَرِ مَا يَدْخُل كُل مَا لاَ انْضِبَاطَ لَهُ، حَتَّى لَقَدْ رَدُّوا قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ:
__________
(1) الزيلعي على الكنز 5 / 277.
(2) في المصباح: الكراء (بالمد) : الأجرة.(33/254)
يَسْهُل ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ. وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ مُعَبِّرًا عَنِ الْمَذْهَبِ. نَعَمْ إِذَا انْضَبَطَتِ الْغَلَّةُ، كَمَا فِي حَالاَتِ التَّسْعِيرِ الْجَبْرِيِّ بِوَاسِطَةِ السُّلُطَاتِ الْحَاكِمَةِ فَذَاكَ. (1)
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ
60 - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ تَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ: وَإِنْ شِئْتَ فَقُل تَكُونُ بِإِحْدَى صُورَتَيْنِ:
أ - مُهَايَأَةٌ زَمَانِيَّةٌ: وَهِيَ التَّنَاوُبُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ كَامِلَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً مِنَ الزَّمَنِ تَتَنَاسَبُ فِي جَانِبِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ مَعَ نَصِيبِهِ فِي الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ، إِلاَّ أَنْ يَنْزِل عَنْ شَيْءٍ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، كَأَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَا الأَْرْضَ أَوْ يَسْكُنَا الدَّارَ: هَذَا سَنَةً وَهَذَا سَنَةً، وَلاَ مَفَرَّ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْمُهَايَأَةِ عَلَى الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، وَكُل مَا لاَ تَنْقَسِمُ عَيْنُهُ فَيَتَهَايَأُ الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ لأَِحَدِهِمَا سُكْنَى الدَّارِ أُسْبُوعًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل ثُمَّ لِلآْخَرِ كَذَلِكَ. . وَهَكَذَا.
لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ يَمْنَعُ الإِْجْبَارَ عَلَى التَّهَايُؤِ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ، يَرْكَبُهَا هَذَا يَوْمًا مَثَلاً وَهَذَا يَوْمًا، لِفُحْشِ التَّفَاوُتِ النَّازِل مَنْزِلَةَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ بَيْنَ رُكُوبٍ وَرُكُوبٍ: فَرُبَّ رَاكِبٍ حَاذِقٍ وَرُبَّ آخَرَ
__________
(1) الخرشي وحواشيه 4 / 401.(33/254)
أَخْرَقَ، وَالدَّابَّةُ حَيَوَانٌ أَعْجَمُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْفُضَ حِينَ يُسَاءُ اسْتِعْمَالُهُ. (1)
ب - مُهَايَأَةٌ مَكَانِيَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ بِالاِنْتِفَاعِ بِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، مَعَ بَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَال بِحَالِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مُدَّةٍ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُبَادَلَةً مَحْضَةً، بَل مَعْنَى الإِْفْرَازِ فِيهَا أَغْلَبُ. (2) فَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ الْقَابِلَةُ لِلْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ الْوَاحِدَةُ، يُمْكِنُ بِلاَ خِلاَفٍ أَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ يَزْرَعَ أَحَدُهُمَا مُقَدِّمَهَا، وَالآْخَرُ مُؤَخِّرَهَا، وَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ، أَمْكَنَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا الْعُلُوَّ وَالآْخَرُ السُّفْل، إِجْبَارًا؛ لأَِنَّ هَذَا كُلَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فِي الإِْجْبَارِ عَلَى قِسْمَتِهِ قِسْمَةَ أَعْيَانٍ، وَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ مُعْتَبَرَةٌ بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ.
وَالدَّارَانِ يُمْكِنُ كَذَلِكَ أَنْ يَتَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا هَذِهِ وَهَذَا هَذِهِ، وَكَذَلِكَ الأَْرْضَانِ زِرَاعَةً وَالْفَرَسَانِ رُكُوبًا، وَهَذَا أَيْضًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَدْ كَانَ يُتَوَهَّمُ فِي الإِْجْبَارِ عَلَيْهِ خِلاَفُ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، وَلَكِنَّهُ - فِي ظَاهِرِ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 497، وتكملة فتح القدير 8 / 381، والبدائع 7 / 32.
(2) نتائج الأفكار 8 / 379.(33/255)
الرِّوَايَةِ - نَظَرَ هُنَا إِلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ وَحْدَهَا لاَ يَتَفَاحَشُ تَفَاحُشَهُ فِي قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ، فَلَمْ يُفَرَّقْ هُنَا بَيْنَ دَارٍ وَدَارَيْنِ وَأَرْضٍ وَأَرْضَيْنِ.
عَلَى أَنَّهُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَضَى عَلَى أَصْلِهِ فِي قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ فَمَنْعُ الإِْجْبَارِ عَلَى قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ فِي الدَّارَيْنِ وَالأَْرْضَيْنِ قِسْمَةَ جَمْعٍ، بَل رُوِيَ عَنْهُ امْتِنَاعُ الْمُهَايَأَةِ فِيهِمَا بِإِطْلاَقٍ، جَبْرًا وَتَرَاضِيًا، أَمَّا جَبْرًا فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا تَرَاضِيًا فَلأَِنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا نَسِيئَةً. (1)
أَمَّا التَّهَايُؤُ عَلَى دَابَّتَيْنِ لِلرُّكُوبِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: كَفَرَسَيْنِ عَرَبِيَّتَيْنِ، يَأْخُذُ هَذَا وَاحِدَةً وَالآْخَرُ الأُْخْرَى، فَأَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ النَّاظِرَيْنِ إِلَى قِسْمَةِ الأَْعْيَانِ - عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِذَا لاَ يَمْلِكُ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِلرُّكُوبِ، وَلَوْ فَعَل لَضَمِنَ، فَلاَ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَى هَذَا التَّهَايُؤِ، أَمَّا بِالتَّرَاضِي فَلاَ بَأْسَ. (2)
هَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، وَتَنَوُّعِهَا إِلَى مُهَايَأَةٍ زَمَانِيَّةٍ وَمُهَايَأَةٍ مَكَانِيَّةٍ،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 380 - 381.
(2) البدائع 7 / 32، وتكملة فتح القدير 8 / 381، ومجمع الأنهر 2 / 497.(33/255)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا بَيَانُ مُدَّةٍ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ تَعْيِينُ الزَّمَانِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَقْسُومُ أَوْ تَعَدَّدَ، وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الزَّمَانِ فِي الْمُتَعَدِّدِ، فَإِنْ عُيِّنَ الزَّمَانُ فَهِيَ لاَزِمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الزَّمَانُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَنْحَل مَتَى شَاءَ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنَّ تَعْيِينَ الزَّمَانِ شَرْطُ اللُّزُومِ وَلَيْسَ شَرْطَ الصِّحَّةِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنْ عُيِّنَ الزَّمَنُ فِي الْقِسْمَةِ صَحَّتْ وَلَزِمَتْ فِي الْمَقْسُومِ الْمُتَّحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ فَسَدَتْ فِي الْمُتَّحِدِ اتِّفَاقًا وَفِي الْمُتَعَدِّدِ خِلاَفٌ، فَابْنُ الْحَاجِبِ يَقُول بِصِحَّتِهَا، وَابْنُ عَرَفَةَ بِفَسَادِهَا. (2)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ:
61 - إِذَا تَمَّتْ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى الصِّحَّةِ، تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَمِنْ هَذِهِ الآْثَارِ:
أَوَّلاً: عَدَمُ لُزُومِهَا: بِمَعْنَى أَنَّ لِكُل شَرِيكٍ أَنْ يَنْقُضَ الْمُهَايَأَةَ مَتَى شَاءَ، لَكِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِشَرَائِطَ ثَلاَثٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ عَنْ تَرَاضٍ، فَلاَ يَمْلِكُ شَرِيكٌ الاِنْفِرَادَ بِنَقْضِ قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ، وَإِلاَّ لَغَا مَعْنَى الإِْجْبَارِ فِيهَا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 498.(33/256)
فَإِذَا اتَّفَقَ الشَّرِيكَانِ عَلَى النَّقْضِ، فَهُوَ حَقُّهُمَا يَرَيَانِ فِيهِ مَا شَاءَا، مَا دَامَ الْفَرْضُ انْحِصَارَ الشَّرِكَةِ فِيهِمَا.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ: فَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ كَانَ قَدْ أَجَّرَ الدَّارَ أَوِ الأَْرْضَ مَثَلاً فِي نَوْبَتِهِ، وَلَمْ تَنْتَهِ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ بَعْدُ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ هُوَ وَلاَ شَرِيكُهُ نَقْضَ الْمُهَايَأَةِ، رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ. (1)
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لِلرَّاجِعِ عُذْرٌ:
كَأَنْ يُرِيدَ بَيْعَ نَصِيبِهِ، أَوِ الْقِسْمَةَ الْعَيْنِيَّةَ، أَمَّا أَنْ يُرِيدَ الْعَوْدَةَ إِلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا كَانَتْ قَبْل الْمُهَايَأَةِ، فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ، لَكِنَّ هَذَا خِلاَفُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَجَرَوْا عَلَيْهِ فِي الْمَجَلَّةِ. (2) أَمَّا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فَيُعْطِيهِ حَقَّ الرُّجُوعِ وَنَقْضَ الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ عُذْرٌ أَمْ لاَ. (3)
وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَكُونُ غَيْرَ لاَزِمَةٍ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّورِ (يَعْنِي فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ) أَمَّا فِي أَثْنَائِهِ فَلاَ، (4) وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَاكْتَفَوْا بِأَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى مِنَ الْمَنَافِعِ شَيْئًا لَمْ يَسْتَوْفِ شَرِيكُهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(2) المجلة م 1190.
(3) رد المحتار 5 / 177، والهندية 5 / 229.
(4) الإنصاف 11 / 340.(33/256)
مِثْلَهُ، تَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْل حِصَّةِ شَرِيكِهِ، كَمَا لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ، (1) وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ عِيَاضٍ فِي الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ، أَمَّا الْمُهَايَأَةُ الزَّمَانِيَّةُ فَلاَزِمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ زَمَانِيَّةً، فَحُكْمُهَا اللُّزُومُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْمُدَّةُ كَالإِْجَارَةِ (2) .
ثَانِيًا: أَنَّهَا لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا: لأَِنَّهَا لَوِ انْتَهَتْ لاَحْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى تَجْدِيدِهَا؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ أَكْثَرَ مَا تَكُونُ، فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ، وَلاَ بُدَّ إِذَنْ أَنَّ الْوَرَثَةَ سَيَطْلُبُونَ إِعَادَتَهَا، (3) وَلَوْ فَرَضْنَاهَا فِيمَا يَنْقَسِمُ، فَقَدْ يَطْلُبُونَ إِعَادَتَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا: أَنَّهَا تَنْتَهِي بِتَلَفِ الْعَيْنِ: كَمَا لَوْ مَاتَتِ الدَّابَّةُ، أَوِ الدَّابَّتَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، أَوِ الدَّارَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، لِفَوَاتِ مَحَل الْقِسْمَةِ، وَهَذَا مَا لاَ يَحْتَمِل الْخَلَفُ. (4)
رَابِعًا: أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ إِذَا انْتَهَتْ بِغَيْرِ فَسْخٍ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَهَايَآ فِي دَابَّتَيْنِ اسْتِخْدَامًا، فَمَاتَتْ إِحْدَاهُمَا، انْتَقَضَتِ الْمُهَايَأَةُ. وَلَوْ نَدَّتْ إِحْدَاهُمَا الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَاسْتَخْدَمَ الآْخَرُ الشَّهْرَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(2) الخرشي 4 / 400، 401.
(3) البدائع 7 / 32، والعناية 8 / 378.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 230، ومغني المحتاج 4 / 426.(33/257)
كُلَّهُ، فَلاَ ضَمَانَ وَلاَ أُجْرَةَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْل، وَلَوْ عَطِبَ أَحَدُ الْخَادِمَيْنِ فِي خِدْمَةِ مَنْ شُرِطَ لَهُ هَذَا الْخَادِمُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، (1) وَكَذَا الْمَنْزِل لَوِ انْهَدَمَ، (2) وَهَذَا الَّذِي أَشَارُوا إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِقَوْلِهِمْ: وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ نِصْفَ أُجْرَةِ الْمِثْل هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (3)
خَامِسًا: اخْتِصَاصُ كُل شَرِيكٍ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وَقَعَ لَهُ بِالْمُهَايَأَةِ فِي حُدُودِ طَبِيعَةِ الْعَقْدِ، أَيْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، وَيُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُحْدِثَ بِنَاءً أَوْ يَنْقُضُهُ أَوْ يَفْتَحَ بَابًا. (4)
وَيَدْخُل فِي هَذَا الأَْثَرِ حَقُّ الاِسْتِغْلاَل، وَلَكِنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ فَنُفْرِدُهَا بِالْبَحْثِ:
حَقُّ الاِسْتِغْلاَل:
لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ حَقُّ اسْتِغْلاَل مَا أَصَابَ بِالْمُهَايَأَةِ، أَيْ تَأْجِيرُهُ لِلْغَيْرِ، وَأُطْلِقَ فِي الْهِدَايَةِ ثُبُوتُ هَذَا الْحَقِّ بِالْمُهَايَأَةِ، سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ أَمْ لَمْ يُشْرَطْ، رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ تَوَقُّفَهُ عَلَى شَرْطِهِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ انْتِفَاعِهِ بِهَا بِنَفْسِهِ مُبَاشَرَةً وَانْتِفَاعِهِ بِهَا بِطَرِيقِ التَّأْجِيرِ.
__________
(1) أي على من وقع العطب في يده لأنه أمين.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 230.
(3) مغني المحتاج 4 / 426، ومطالب أولي النهى 6 / 553.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 229.(33/257)
وَنَقَضُوهُ بِالْعَارِيَّةِ، عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِيهَا تَحْدُثُ أَيْضًا عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ الإِْجَارَةَ - فَإِنْ كَانَ حَذَرًا مِنْ رُجُوعِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِمَ لاَ يَكُونُ هُنَا كَذَلِكَ - حَذَرًا مِنْ رُجُوعِ الشَّرِيكِ. (1)
وَلَكِنَّهُ نَقْضٌ غَيْرُ وَارِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْل الشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لاَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ حَقَّ الاِنْتِفَاعِ، وَلِذَا يُعَرِّفُونَهَا بِأَنَّهَا: إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِمَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، (2) وَقَدْ فَرَّقَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
أ - حَالَةُ الْمُهَايَأَةِ الْمَكَانِيَّةِ: وَهَذِهِ يُسَلَّمُ فِيهَا بِحَقِّ الاِسْتِغْلاَل بِإِطْلاَقٍ. وَبِنَفْسِ الْعِلَّةِ الآْنِفَةِ، وَيُعَقِّبُ هُنَا قَائِلاً: وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُهَايَآتِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ؛ لأَِنَّ الْعَارِيَّةَ لاَ تُؤَجَّرُ. (3)
ب - حَالَةُ الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ: وَهَذِهِ نَقَل فِيهَا رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لِلْقُدُورِيِّ: وَهِيَ تَمْنَعُ الاِسْتِغْلاَل، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمُهَايَآتِ عَارِيَّةً، وَالْعَارِيَّةُ لاَ تُؤَجَّرُ، وَالأُْخْرَى لِلأَْصْل، وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِجَوَازِ الاِسْتِغْلاَل
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 379.
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 90، والباجوري على ابن قاسم 2 / 9.
(3) البدائع 7 / 32.(33/258)
وَقِسْمَةِ الزَّائِدِ مِنْهُ، وَقَدْ حَاوَل صَرْفَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، نَقْلاً عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ. (1)
لَكِنَّ شُرَّاحَ الْهِدَايَةِ رَفَضُوا الْبِنَاءَ عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةً، لِمَكَانِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا. (2)
سَادِسًا: أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ لِلنَّقْصِ بِالاِسْتِعْمَال فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوْ عَطِبَ أَحَدُ الْخَادِمَيْنِ فِي خِدْمَةِ مَنْ شُرِطَ لَهُ هَذَا الْخَادِمُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْزِل لَوْ هُدِمَ مِنْ سُكْنَى مَنْ شُرِطَ لَهُ، فَلاَ ضَمَانَ، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَرَقَ الْمَنْزِل مِنْ نَارٍ أَوْقَدَهَا فِيهِ (أَيْ بِلاَ تَعَدٍّ) فَلاَ ضَمَانَ. (3)
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ قَالُوا: إِنَّ يَدَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَهَايِئَيْنِ يَدُ أَمَانَةٍ، (4) وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا كَالإِْجَارَةِ (5) ، وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ كَالْعَارِيَّةِ (6) أَيْ إِنَّ الشَّرِيكَ يَضْمَنُ التَّلَفَ فِي نَوْبَتِهِ بِغَيْرِ الاِسْتِعْمَال الْمُعْتَادِ - وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ - كَمَا لَوْ كَانَ بِسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ. (7)
__________
(1) البدائع 7 / 33.
(2) العناية 8 / 380.
(3) الهندية 5 / 230.
(4) نهاية المحتاج 8 / 171.
(5) بلغة السالك 2 / 277.
(6) يشبهونها بالعارية برغم أنهم قائلون - كالشافعية (المهذب 2 / 308) - بأنها معاوضة (المغني 11 / 512) وفي هذا يقول ابن قدامة: لنا أنه بذل منافع ليأخذ شيئًا ليعيره شيئًا آخر إذا احتاج إليه) . (المغني 11 / 513) .
(7) مطالب أولي النهى 6 / 553.(33/258)
قِصَاص
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقِصَاصِ فِي اللُّغَةِ: تَتَبُّعُ الأَْثَرِ، يُقَال: قَصَصْتُ الأَْثَرَ تَتَبَّعْتُهُ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَوَدُ، يُقَال: أَقَصَّ السُّلْطَانُ فُلاَنًا إِقْصَاصًا: قَتَلَهُ قَوَدًا، وَأَقَصَّهُ مِنْ فُلاَنٍ: جَرَحَهُ مِثْل جَرْحِهِ، وَاسْتَقَصَّهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقُصَّهُ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْقِصَاصِ فِي قَتْل الْقَاتِل، وَجُرْحِ الْجَارِحِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَل بِالْفَاعِل الْجَانِي مِثْل مَا فَعَل (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّأْرُ:
2 - الثَّأْرُ فِي اللُّغَةِ: الدَّمُ، وَالطَّلَبُ بِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) القاموس المحيط، والمغرب.(33/259)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي الْمُكَافِئِ فَلاَ يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلاَ يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الاِنْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ سِوَاهُ.
ب - الْحَدُّ:
3 - الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِلْمَنْعِ مِنَ الدُّخُول. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ عَلَى جِنَايَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى غَالِبًا، وَالثَّانِي وَجَبَ حَقًّا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِ.
(ر: حُدُود ف 1 - 2) .
ج - الْجِنَايَةُ:
4 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَتَجَنَّى عَلَيْهِ: إِذَا ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ يَفْعَلْهُ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ:
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) القاموس المحيط ولسان العرب.
(3) ابن عابدين 5 / 339، والطحطاوي على الدر 1 / 519.(33/259)
السَّبَبِيَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ الْجِنَايَةُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ. (1)
د - التَّعْزِيرُ:
5 - التَّعْزِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّأْدِيبُ، وَمِنْهُ الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ غَالِبًا (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِمَا يُسَاوِي الْجِنَايَةَ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لأَِوْلِيَائِهِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ - الْعُقُوبَةُ:
6 - الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ عَاقَبَ يُعَاقِبُ عِقَابًا وَمُعَاقَبَةً، وَهُوَ أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُل بِمَا فَعَل سُوءًا، وَعَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ: إِذَا أَخَذَهُ بِهِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهَا: جَزَاءٌ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الرَّجْمِ أَوِ الْقَتْل، وَسُمِّيَ بِهَا لأَِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، وَمِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا
__________
(1) البدائع 7 / 234.
(2) مختار الصحاح.
(3) المبسوط 9 / 36، وكشاف القناع 4 / 72، والأحكام السلطانية للماوردي ص 224، ونهاية المحتاج 7 / 72.
(4) لسان العرب.(33/260)
تَبِعَهُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالْقِصَاصُ ضَرْبٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ الْوُجُوبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَمُبَاحٌ طَلَبُهُ مِنْ قِبَل مُسْتَحِقِّهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَالْعَفْوُ أَفْضَل، ثُمَّ الصُّلْحُ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا. (2)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى} ، (3) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} . (4) وَقَوْلُهُ جَل مِنْ قَائِلٍ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140.
(2) ابن عابدين 5 / 340، 342 - 357، والمغني 7 / 742، والدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 6.
(3) سورة البقرة / 178.
(4) سورة الإسراء / 33.(33/260)
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ، (2) وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الأَْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَال: فَعَفَا الْقَوْمُ. ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ؛ (3) وَلأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. (4)
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:
8 - أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْل وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الأَْعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث: " من قتل له قتيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 205) ، ومسلم (2 / 989) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث أنس: " إن من عباد الله من لو أقسم. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 21) ، ومسلم (3 / 1302) .
(4) المهذب 2 / 178.(33/261)
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
9 - الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْل الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
10 - لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِل، وَالْمَقْتُول، وَفِعْل الْقَتْل (1) ، لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:
أ - التَّكْلِيفُ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِل لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْل، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْل.
فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلاً ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْل دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلاً مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْل الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لأَِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا
__________
(1) الدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2.(33/261)
جُنَّ قَبْل الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَل فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْل الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَل فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِل قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.
فَإِذَا كَانَ الْقَاتِل مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَال صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَال صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَال جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَال الْجُنُونِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ قَتَلَهُ حَال الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَال الإِْفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَال جُنُونِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 343.
(2) الدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2.
(3) مغني المحتاج 4 / 15، وروضة الطالبين 9 / 149، وحاشية القليوبي 4 / 105.(33/262)
مِنْهُ فِي حَال جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لاِحْتِمَال رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ. (1)
وَمِثْل الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالإِْغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، (2) لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (3)
أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَل وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالإِْكْرَاهِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلاَقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. (4)
ب - عِصْمَةُ الْقَتِيل:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِل أَنْ يَكُونَ الْقَتِيل
__________
(1) المغني 7 / 665.
(2) ابن عابدين 5 / 376، والزرقاني 8 / 2، والمغني 7 / 664.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث ابن عباس، وحسنه النووي كما في جامع العلوم والحكم (2 / 361) .
(4) ابن عابدين 5 / 376، والدسوقي 4 / 237، والزرقاني 8 / 2، ومغني المحتاج 4 / 15، والمغني 7 / 665.(33/262)
مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِل.
فَإِذَا كَانَ الْقَتِيل مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ - كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ - لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِل الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِل بِهِ قِصَاصًا؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِل عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَل بِهِ قَاتِلُهُ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَال أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الأَْصْل، لأَِنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلاَ قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، (1) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَل بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لاَ اسْتِحْسَانًا، وَقِيل: لاَ يُقْتَل عَلَى الاِسْتِحْسَانِ (2) ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْل. (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 343، والمغني 7 / 653.
(2) ابن عابدين 5 / 344، والبدائع 7 / 236.
(3) البدائع 7 / 236.(33/263)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَل قَاتِل الْمُسْتَأْمَنِ، (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} . (2)
ج - الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَل الأَْعْلَى بِالأَْدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَل الأَْدْنَى بِالأَْعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْتَل عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلاَ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لاَ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَل لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ. (3)
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الأَْوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيل أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِل فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِل أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيل فِيهِمَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 241، ومغني المحتاج 4 / 14.
(2) سورة التوبة / 6.
(3) الدر المختار 5 / 343 - 344.(33/263)
مِنَ الآْخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلاَ حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول زَائِدَ إِسْلاَمٍ، فَيُقْتَل حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الإِْسْلاَمِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْتَل الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ الْحُرَّ لاَ يُقْتَل بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لاَ يُقْتَل الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَل بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَل مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَل بِهِ، وَإِذَا قَتَل حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَل بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ. (2)
وَيُقْتَل الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَل الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ - وَالْعَكْسُ - لأَِنَّ الْكُل عَبِيدٌ.
وَيُقْتَل الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا. (3)
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْل الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالاَتِ الثَّلاَثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الإِْصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 237 - 238، والزرقاني 8 / 3.
(2) المغني 7 / 663.
(3) المغني 7 / 660، 662.(33/264)
وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْل السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْل الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الإِْصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلاَفًا لأَِشْهَبَ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْل غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَال الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْل لأَِخْذِ الْمَال - فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَل يُقْتَل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ. (2)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَل كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِل. . . فَقَال أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ. . . لأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الاِعْتِبَارُ فِيهَا بِحَال وُجُوبِهَا دُونَ حَال اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يُقْتَل بِهِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ (3) .
وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْل غِيلَةً وَغَيْرَهُ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 249 - 250.
(2) الدسوقي 4 / 238.
(3) المغني 7 / 653.(33/264)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْل الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي الإِْسْلاَمِ وَالأَْمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالأَْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. (2)
وَلأَِنَّهُ لاَ يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالإِْجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى. . . وَيُقْتَل ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَل أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِل الْجَمِيعَ.
وَالأَْظْهَرُ: قَتْل مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِْسْلاَمِ أَمْ لاَ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَل الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ. وَالثَّانِي: لاَ يُقْتَل بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالأَْظْهَرُ أَيْضًا: قَتْل مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَل ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لاَ؛ لأَِنَّ الْمَقْتُول مُبَاحُ الدَّمِ، لاَ ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الأَْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَل بِهِ أَيْضًا،
__________
(1) المغني 7 / 648.
(2) حديث: " لا يقتل مسلم بكافر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 260) من حديث علي.(33/265)
وَيُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَل بِالذِّمِّيِّ، وَلاَ يُقْتَل زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لاِخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلِخَبَرِ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ يُقْتَل حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، (1) وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.
وَيُقْتَل قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُول لِكَافِرٍ وَالْقَاتِل لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَل عَبْدَهُ لاَ يُقْتَل بِهِ كَمَا لاَ يُقْتَل الْحُرُّ بِعَبْدِهِ. (2)
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَل مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُول أَمْ لاَ، لاَ قِصَاصَ، وَقِيل: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُول أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل أَكْثَرَ فَلاَ قِصَاصَ قَطْعًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لاَ تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلاَ قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يُقْتَل بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لاَ يُقْتَل بِالْعَبْدِ، وَلاَ تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) مغني المحتاج 4 / 16 - 18.
(3) مغني المحتاج 4 / 18.(33/265)
وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِي وَصْفَيِ الأَْصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْل، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَل كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَال الْجِنَايَةِ، وَلاَ نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الأَْصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ. (1)
د - أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَاتِل حَرْبِيًّا:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِل إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِل حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَلَكِنْ يُقْتَل بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَل حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَل بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَل لإِِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْل وَالْقِصَاصُ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 16.
(2) بدائع الصناع 7 / 236، والدردير مع الدسوقي 4 / 238، والزرقاني 8 / 3، ومغني المحتاج 4 / 15 - 16، وكشاف القناع 5 / 524.(33/266)
هـ - أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُتَعَمِّدًا الْقَتْل:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْل الْعَمْدِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَمْدُ قَوَدٌ، (1) قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لاَ تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَتْل عَمْدٍ ف 1) .
و أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُخْتَارًا:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَل غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الإِْيثَارِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الأُْخْرَى (3) ، وَهَل يَجِبُ
__________
(1) حديث: " العمد قود ". أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 365) من حديث ابن عباس.
(2) الدسوقي 4 / 244، ومغني المحتاج 4 / 9، والمغني 7 / 645.
(3) بدائع الصنائع 7 / 235.(33/266)
الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19) .
أَمَّا الإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلاَ أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19 - 24) .
ز - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُول جُزْءَ الْقَاتِل أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:
17 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ؛ (1) وَلأَِنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُل الأُْصُول مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الأُْمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الأَْبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الأُْمِّ، كَمَا يَدْخُل الأَْجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الأَْبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الأُْمِّ؛ لِشُمُول لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا. (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الأُْمَّ تُقْتَل بِالاِبْنِ خِلاَفًا لِلأَْبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالأَْبِ فَلاَ
__________
(1) حديث: " لا يقاد الوالد بالولد. . " أخرجه الترمذي (4 / 18) من حديث عمر بن الخطاب، وصحح إسناده البيهقي في المعرفة (12 / 40) بلفظ: " لا يقاد الأب من ابنه ".
(2) البدائع 7 / 235، ومغني المحتاج 4 / 18، والمغني 7 / 666، وكشاف القناع 5 / 527.(33/267)
تُقْتَل بِالاِبْنِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْبَ إِذَا قَتَل ابْنَهُ قُتِل بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَل بِهِ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ. (2)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَال الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (3)
ح - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْتُول مَمْلُوكًا لِلْقَاتِل:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَل سَيِّدَهُ قُتِل بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَل عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَل بِهِمَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقْتَل حُرٌّ بِعَبْدِهِ. (4)
وَمِثْل الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ.
كَمَا لاَ يُقْتَل الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ،
__________
(1) المغني 7 / 667.
(2) الشرح الكبير 4 / 267.
(3) كشاف القناع 5 / 528.
(4) حديث: " لا يقتل حر بعبد " أخرجه الدارقطني (3 / 133) من حديث ابن عباس وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 16) بتضعيف أحد رواته.(33/267)
وَمُكَاتَبِهِ؛ لأَِنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً. (1)
ط - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشِرًا:
19 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الأُْخْرَى.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْل فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِل بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُول، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ. (2)
ي - أَنْ يَكُونَ الْقَتْل قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لإِِطْلاَقِ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَل بِهِ؛
__________
(1) البدائع 7 / 235، والشرح الكبير للدردير 4 / 267، والقرطبي 2 / 248 - 249، ومغني المحتاج 4 / 17، والمغني 7 / 659.
(2) البدائع 7 / 239 - 240، والدسوقي 4 / 244، 246، ومغني المحتاج 4 / 7، والمغني 7 / 645 - 646.
(3) الأم 6 / 30، ومغني المحتاج 4 / 13، والمغني 7 / 648.(33/268)
لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لاَ عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَل أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا. (1)
ك - الْعُدْوَانُ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَجِبُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيل لَمْ يُقْتَل بِهِ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْل قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَال كَقَتْل السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْل فِي هَذِهِ الأَْحْوَال كُلِّهَا لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)
ل - أَنْ لاَ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِل:
22 - لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِل، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ
__________
(1) البدائع 7 / 237.(33/268)
لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ. (1)
م - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:
23 - وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولاً لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلاِسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُول مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الإِْيجَابُ. (2)
ن - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْقَاتِل شَرِيكٌ فِي الْقَتْل سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ:
24 - إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْل لأَِيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، (3) لأَِنَّ الْقَتْل وَاحِدٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ. . . سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ.
أَمَّا إِذَا قَتَل اثْنَانِ رَجُلاً، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 240، والدر المختار 5 / 345، ومغني المحتاج 4 / 18، والمغني 7 / 668.
(2) (2) بدائع الصنائع 7 / 240.
(3) ابن عابدين 5 / 350 و 359، وبدائع الصنائع 7 / 235 - 236.(33/269)
يَعْفُوَ عَنْهُ كَالأَْوَّل، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.
هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيل أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَل إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الأَْوَّل وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لاِحْتِمَال أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِل، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَل الْكَبِيرُ.
وَلاَ قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَل يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ. أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لاَ يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَال
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 247.(33/269)
الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُل الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْل الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَال: وَأَمَّا الْمَسَائِل الثَّلاَثُ الأُْوَل فَالْقَوْلاَنِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلاَ يُقْتَل شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لأَِنَّ الزُّهُوقَ حَصَل بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالآْخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ.
وَيُقْتَل شَرِيكُ الأَْبِ فِي قَتْل وَلَدِهِ، وَعَلَى الأَْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الأَْبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْل الْخَاطِئِ وَالْفِعْلاَنِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الأُْبُوَّةِ فِي ذَاتِ الأَْبِ لاَ فِي ذَاتِ الْفِعْل، وَذَاتُ الأَْبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَل جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيل سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الأَْبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى
__________
(1) الدردير والدسوقي عليه 4 / 274، والزرقاني 8 / 11.
(2) مغني المحتاج 4 / 20.(33/270)
الآْخَرِينَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الأَْبِ وَلاَ عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَتْل مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلاَ يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الآْخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَمِثْل الأَْبِ هُنَا كُل مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْل الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْل صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِل. (1)
قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْل وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً، وَقَال: لَوْ تَمَالأََ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ
__________
(1) المغني 7 / 676 - 678.(33/270)
جَمِيعًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7) .
وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَل الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيل الاِشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، (2) يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لاَ عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لأَِنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الإِْرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لاَ يَحْصُل لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُل لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَال لاَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ
__________
(1) أثر عمر - رضي الله عنه -: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء. . . . " أخرجه البيهقي (8 / 41) ، والبخاري تعليقًا (فتح الباري 12 / 227) واللفظ للبيهقي، وصحح إسناده، ووصله ابن حجر في فتح الباري (2 / 227) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 248 - 249، والدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 39، 50، 51، وكشاف القناع 5 / 546.(33/271)
يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالاِبْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلاَءِ، فَلاَ دَخْل فِيهِ لِزَوْجٍ وَلاَ أَخٍ لأُِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأُِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الاِبْنُ ثُمَّ ابْنُ الاِبْنِ، وَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الأَْبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الإِْخْوَةِ بِخِلاَفِ الأَْبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لاِشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ. (2)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالأُْخْتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأُْخْتِ مَعَ الأَْخِ، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلاِبْنِ وَحْدَهُ، وَلِلأَْخِ وَحْدَهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 242، وابن عابدين 5 / 364.
(2) الدسوقي 4 / 256.(33/271)
أَوْ لأَِبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأُِمٍّ وَالأُْخْتُ لأُِمٍّ. . . فَلاَ قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَال أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الأَْبْعَدِ مِنْهُنَّ. (1)
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ) .
وَلِلأَْبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلاَيَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الأَْبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالأَْخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُول بِوِصَايَتِهِ؛ لأَِنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَال فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ. (2)
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُول وَارِثٌ وَلاَ عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ:
__________
(1) الدسوقي 4 / 258.
(2) المغني 7 / 740، والمهذب 2 / 185، وبدائع الصنائع 7 / 243 - 244، وكشاف القناع 5 / 533.(33/272)
لاَ وِلاَيَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُول فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ. (1)
طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
27 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْل الطَّرِيقَةِ وَالآْلَةِ الَّتِي قَتَل بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، (2) إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقَةُ مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَثْبُتَ الْقَتْل بِخَمْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْل بِلِوَاطٍ أَوْ بِسِحْرٍ فَيُقْتَصَّ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَا فِي الأَْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَمْرِ بِإِيجَارِهِ مَائِعًا كَخَلٍّ أَوْ مَاءٍ، وَفِي اللِّوَاطِ بِدَسِّ خَشَبَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ آلَتِهِ وَيُقْتَل بِهَا. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعُنُقِ مَهْمَا كَانَتِ الآْلَةُ وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي قَتَل بِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 243، والدسوقي 4 / 256، والمهذب 2 / 185.
(2) سورة النحل / 126.
(3) الدسوقي 4 / 265 - 266، والمهذب 2 / 186، والمغني 7 / 688.(33/272)
لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، (1) وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ هُنَا السِّلاَحُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُل السِّكِّينُ وَالْخَنْجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (2)
28 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ فِيهِ لِخَطَرِهِ؛ وَلأَِنَّ وُجُوبَهُ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِيفَاءِ، لَكِنْ يُسَنُّ حُضُورُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ السُّلْطَانِ جَازَ، وَيُعَزَّرُ لاِفْتِئَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ. (3)
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
29 - يُشْتَرَطُ لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ لَهُ طَلَبَ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهُ، فَإِنْ طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ وَاحِدًا أُجِيبَ إِلَيْهِ إِذَا طَلَبَهُ مُطْلَقًا، وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا
__________
(1) حديث: " لا قود إلا بالسيف " أخرجه ابن ماجه (2 / 889) من حديث النعمان بن بشير، وضعفه ابن حجر كما في فتح الباري (12 / 200) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 245، والدر المختار 5 / 346، والمغني 7 / 688، والإنصاف 9 / 490.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 352، ومنح الجليل 4 / 345، ومغني المحتاج 4 / 40، والإنصاف 9 / 487، والمغني 7 / 690.(33/273)
طَلَبُوهُ جَمِيعًا، فَإِذَا أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقِصَاصُ - كَمَا تَقَدَّمَ -
فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الْقِصَاصِ قَاصِرًا، أَوْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ بَعْضُهُمْ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ نَاقِصَ الأَْهْلِيَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبَرَ، وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَعْفُو فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمْ يَثْبُتُ لِكُل الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيل الاِشْتِرَاكِ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى خِيرَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَلاَ يَحْصُل بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْقَاتِل حَتَّى الْبُلُوغِ وَالإِْفَاقَةِ، وَلاَ يُخَلَّى بِكَفِيلٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَهْرُبُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ يَكُونُ لِكَامِلِي الأَْهْلِيَّةِ وَحْدَهُمْ حَقُّ طَلَبِ الْقِصَاصِ، لأَِنَّ الْقِصَاصَ ثَابِتٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلاً - عِنْدَهُ - عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْلاَل، فَإِذَا طَلَبُوهُ أُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالآْخَرِينَ نَاقِصِي الأَْهْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَفْوَهُمْ لاَ يَصِحُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ صَغِيرٌ لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ مَجْنُونٌ مُطْبِقٌ لاَ تُعْلَمُ إِفَاقَتُهُ بِخِلاَفِ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ(33/273)
إِفَاقَتُهُ. (1)
فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ كَامِلِي الأَْهْلِيَّةِ غَائِبًا انْتُظِرَتْ عَوْدَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ لَهُ الْعَفْوَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي كَمَا سَبَقَ. (2)
زَمَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
30 - إِذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِشُرُوطِهِ جَازَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاؤُهُ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأَِنَّهُ حَقُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَدُّ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا نَافِذًا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا شُفِيَ مِنْ جُرْحِهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِذَا مَاتَ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فَيُسْتَوْفَى فَوْرًا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِل مُعَافًى أَوْ مَرِيضًا، وَسَوَاءٌ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ بَارِدًا أَوْ حَارًّا؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْمَوْتُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقَاتِل إِذَا كَانَ امْرَأَةً حَامِلاً يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ حَتَّى تَلِدَ، حِفَاظًا عَلَى سَلاَمَةِ الْجَنِينِ وَحَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ، بَل إِنَّهَا تُنْظَرُ إِلَى الْفِطَامِ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 243، والزيلعي 6 / 108، والزرقاني 8 / 21 - 23، ومغني المحتاج 4 / 40، والمغني 7 / 739، والشرح الصغير 4 / 359 - 360.
(2) بدائع الصنائع 7 / 243، والزيلعي 6 / 109، ومغني المحتاج 4 / 40، والمغني 7 / 739، والشرح الصغير 4 / 359 - 360.(33/274)
لإِِرْضَاعِهِ، فَإِذَا ادَّعَتِ الْحَمْل وَشَكَّ فِي دَعْوَاهَا أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ أُجِّلَتْ، ثُمَّ إِنْ ثَبَتَ حَمْلُهَا حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ وَإِنْ قُلْنَ: غَيْرُ حَامِلٍ اقْتُصَّ مِنْهَا فَوْرًا. (1)
مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
31 - لَيْسَ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا الْتَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ قُتِل فِيهِ، فَإِنْ دَخَل الْكَعْبَةَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ أُخْرِجَ مِنْهُ وَقُتِل خَارِجَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ مِنْهُ وَلاَ يُقْتَل فِيهِ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ عَنْهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ بِنَفْسِهِ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ.
هَذَا مَا دَامَتِ الْجِنَايَةُ وَقَعَتْ خَارِجَ الْحَرَمِ فِي الأَْصْل، فَإِذَا كَانَتْ وَقَعَتْ فِي الْحَرَمِ أَصْلاً، جَازَ الاِقْتِصَاصُ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
__________
(1) الدر المختار 3 / 148، والدردير مع الدسوقي 4 / 260، والزرقاني 8 / 24، ومغني المحتاج 4 / 43، والمغني 7 / 731.
(2) الدر المختار 5 / 352، والزرقاني 8 / 24، والدسوقي 4 / 261، والمهذب 2 / 189، ومغني المحتاج 4 / 43، والمغني 8 / 236 و239.(33/274)
مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ:
يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ بِأُمُورٍ، هِيَ:
أ - فَوَاتُ مَحَل الْقِصَاصِ:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْقَاتِل قَبْل أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لاَ يَرِدُ عَلَى مَيِّتٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ قَدْ حَصَل حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ بِقَتْل آخَرَ لَهُ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِذَا قَتَل الْقَاتِل عَمْدًا عُدْوَانًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي مَال الْقَاتِل الأَْوَّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل الثَّانِي لأَِوْلِيَاءِ الْمَقْتُول الأَْوَّل. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ لأَِوْلِيَاءِ الْمَقْتُول الأَْوَّل فِي مَال الْقَاتِل الثَّانِي. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 246، والشرح الصغير 4 / 337، وشرح الزرقاني 8 / 18، والأم 6 / 10، ومغني المحتاج 4 / 48، والشرح الكبير بهامش المغني 9 / 417، والإنصاف 10 / 6.(33/275)
ب - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ.
33 - الْقِصَاصُ حَقٌّ لأَِوْلِيَاءِ الدَّمِ، فَإِذَا عَفَوْا عَنِ الْقِصَاصِ عَفْوًا مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (3) وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. (4)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَفْو ف 18 - 30) .
ج - الصُّلْحُ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْقَاتِل وَوَلِيِّ الْقِصَاصِ عَلَى إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِمُقَابِل بَدَلٍ يَدْفَعُهُ الْقَاتِل لِلْوَلِيِّ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَعْقِل الْعَمْدَ، وَيُسَمَّى هَذَا الْبَدَل بَدَل الصُّلْحِ عَنْ
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 9 / 414، والمهذب 2 / 189.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) سورة المائدة / 45.
(4) حديث: " ما رأيت النبي رفع إليه شيء. . . " أخرجه أبو داود (4 / 637) من حديث أنس، وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (6 / 298) .(33/275)
دَمِ الْعَمْدِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَوِ الأَْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ عَاقِلِينَ بَالِغِينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَل الصُّلْحِ هُوَ الدِّيَةُ أَوْ أَقَل مِنْهَا أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا، مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً عَلَى سَوَاءٍ، لأَِنَّ الصُّلْحَ مُعَاوَضَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى بَدَلٍ يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ بَالِغًا مَا بَلَغَ مَا دَامَا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح ف 31) .
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
35 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِشُرُوطِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . (1)
وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارَةٍ لَهَا، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الأَْرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ
__________
(1) سورة المائدة / 45.(33/276)
لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَال: فَعَفَا الْقَوْمُ، ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ. (1)
وَلأَِنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. (2)
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
36 - لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَسْبَابٌ هِيَ: إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الأَْطْرَافِ، وَإِذْهَابُ مَعَانِي الأَْطْرَافِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا وَالْمَقْصُودُ بِهَا الْمَنَافِعُ، وَالشِّجَاجُ وَهِيَ الْجِرَاحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَالْجِرَاحُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 13 - 32) وَمُصْطَلَحِ (جِرَاح ف 8 - 10) وَمُصْطَلَحِ (شِجَاج ف 4 - 11) .
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
37 - يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُرُوطٌ هِيَ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْل عَمْدًا، وَأَنْ
__________
(1) حديث: " إن من عباد الله. . . " سبق تخريجه ف 7.
(2) بدائع الصنائع 7 / 297، والمهذب 2 / 178، وكشاف القناع 5 / 547.(33/276)
يَكُونَ الْفِعْل عُدْوَانًا، وَالتَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ، وَالتَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَل، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَإِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 4 - 11) .
أَثَرُ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
38 - سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ وَكَذَلِكَ أَثَرُهَا، ثُمَّ إِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ كَأَنْ يَجْرَحَ شَخْصًا عَمْدًا فَصَارَ ذَا فِرَاشٍ (أَيْ مُلاَزِمًا لِفِرَاشِ الْمَرَضِ) حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ، أَوْ سَرَتْ إِلَى مَا لاَ يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالإِْتْلاَفِ، كَأَنْ يَجْنِيَ عَلَى عُضْوٍ عَمْدًا فَيَذْهَبُ أَحَدُ الْمَعَانِي كَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَنَحْوِهِمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سِرَايَة ف 4) .
الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَتَيْنِ:
39 - إِذَا قَطَعَ أُصْبُعَ آخَرَ مِنْ مُنْتَصَفِ الْمَفْصِل، ثُمَّ قَطَعَهَا مِنَ الْمَفْصِل بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ إِنْ كَانَتْ قَبْل الْبُرْءِ مِنَ الأُْولَى اقْتُصَّ مِنْهُ مِنَ الْمَفْصِل؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ وَاحِدٌ فِي الْحُكْمِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُرْءِ مِنَ الأُْولَى لَمْ(33/277)
يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ الأُْولَى لاَ قِصَاصَ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَفْصِل فَتَعَذَّرَتِ الْمُسَاوَاةُ، وَالثَّانِيَةُ قَطْعٌ لِعُضْوٍ نَاقِصٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا أَيْضًا. (1)
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَإِنْ بَرِئَ بَعْدَ الْقَطْعِ اقْتُصَّ مِنْهُ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْل؛ لأَِنَّ كُل جِنَايَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقْبَلَةٌ فَيُقَادُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ بَعْدَ الْقَطْعِ فَقَوْلاَنِ لِلْحَنَفِيَّةِ، قَوْلٌ لأَِبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِأَنَّهُمَا كَجِنَايَتَيْنِ فَيُقْطَعُ وَيُقْتَل كَمَا إِذَا بَرِئَ، وَقَوْلٌ لِلصَّاحِبَيْنِ يُقْتَل وَلاَ يُقْطَعُ. (2)
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْبُرْءِ أَوْ عَدَمِهِ، قَال الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ جَنَى عَلَى رَجُلٍ جِنَايَةً يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا جِنَايَتَانِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا عِنْدَ الاِجْتِمَاعِ، كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْل. (3)
فَإِذَا جَنَى عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطَعَ يَمِينَ كُلٍّ مِنْهُمَا اقْتُصَّ مِنْهُ بِقَطْعِ يَمِينِهِ، ثُمَّ إِنْ حَضَرَا مَعًا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَمِينَهُ، وَيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ حَضَرَ الأَْوَّل فَقَطَعَ لَهُ، ثُمَّ حَضَرَ الثَّانِي فَلَهُ الدِّيَةُ وَحْدَهُ - دِيَةُ الْيَدِ - وَهَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 302.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 360.
(3) المهذب 2 / 184.(33/277)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَنْدَرِجُ فِي الْقَتْل سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَتَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُثْلَةً، فَإِنْ قَصَدَ مُثْلَةً لَمْ تَنْدَرِجِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ إِنْ كَانَتَا عَلَى وَاحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمُ انْدَرَجَتْ مُطْلَقًا، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَانْدَرَجَ فِي قَتْل النَّفْسِ طَرَفٌ إِنْ تَعَمَّدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفُ لِغَيْرِهِ كَقَطْعِ يَدِ شَخْصٍ وَفَقْءِ عَيْنِ آخَرَ وَقَتْل آخَرَ عَمْدًا فَيَنْدَرِجَانِ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ قَال: لَمْ يَقْصِدْ مُثْلَةً، خَاصٌّ بِطَرَفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الَّذِي قَتَلَهُ بَعْدَ قَطْعِ طَرَفِهِ، أَمَّا طَرَفُ غَيْرِهِ فَيَنْدَرِجُ. (2)
سُقُوطُ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
40 - يَسْقُطُ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِمَوْتِ الْجَانِي قَبْل الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، كَمَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ صُلْحِهِ، وَكَذَلِكَ بِعَفْوِ الأَْوْلِيَاءِ إِنْ مَاتَ أَوْ صَالَحَهُمْ أَوْ صَالَحَ أَحَدَهُمْ عَلَى مَالٍ وَإِنْ قَل، وَكَذَلِكَ بِفَوَاتِ مَحَل الْقِصَاصِ فِي الْجَانِي. (3)
طَرِيقَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
41 - يَكُونُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالآْلَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 299 - 300، والمغني 7 / 701.
(2) الزرقاني 8 / 29.
(3) بدائع الصنائع 7 / 298.(33/278)
الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، كَالسِّكِّينِ وَمَا سِوَاهَا كَيْ لاَ يَتَعَدَّى الْقِصَاصُ الْجِنَايَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يُقْتَصُّ بِالسَّيْفِ فِي الْجِرَاحِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى الْجُرْحُ الْمُرَادُ فَيُهَشِّمُ الْعَظْمَ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَوْفِي عَالِمًا بِطَرِيقَةِ الْقَطْعِ وَمِقْدَارِهِ لِئَلاَّ يُجَاوِزَ الْحَدَّ كَالطَّبِيبِ الْجَرَّاحِ وَنَحْوِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَالِمًا بِذَلِكَ مُكِّنَ مِنَ الاِقْتِصَاصِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَامَ بِهِ نَائِبُ الإِْمَامِ الْمُفَوَّضُ وَالْعَالِمُ بِذَلِكَ. (1)
مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
42 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِرَاحَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَلِيهِ إِلاَّ نَائِبُ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي أَنْ يَجْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَلاَفِيهِ. (2)
__________
(1) المهذب 2 / 187، والمغني 7 / 704.
(2) بدائع الصنائع 7 / 244، والمدونة 6 / 433، والمهذب 2 / 186، والجمل على شرح المنهج 5 / 49، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 412.(33/278)
قَصَبَةٌ
انْظُرْ: مَقَادِير.
قَصْدٌ
انْظُرْ: نِيَّة
قَصْرُ الصَّلاَةِ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ(33/279)
قَصَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَصَّةُ - بِالْفَتْحِ - فِي اللُّغَةِ: الْجِصُّ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّشْبِيهِ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، (1) قَال أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَنْ تَخْرُجَ الْقُطْنَةُ وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تَحْتَشِي بِهَا الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا قَصَّةٌ لاَ يُخَالِطُهَا صُفْرَةٌ، وَقِيل: الْمُرَادُ النَّقَاءُ مِنْ أَثَرِ الدَّمِ، وَرُؤْيَةُ الْقَصَّةِ مَثَلٌ لِذَلِكَ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الزَّيْلَعِيُّ: الْقَصَّةُ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْخَيْطَ الأَْبْيَضَ يَخْرُجُ مِنْ قُبُل النِّسَاءِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِنَّ يَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى طُهْرِهِنَّ.
وَقِيل: هُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الْحَيْضِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا تعجلن. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 59) ط. الحلبي عن عائشة.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(3) تبيين الحقائق 1 / 55، وانظر فتح القدير 1 / 113 ط. بولاق، ومواهب الجليل 1 / 370، 371، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 1 / 432، 433.(33/279)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجُفُوفُ:
2 - الْجُفُوفُ: هُوَ أَنْ تُدْخِل الْمَرْأَةُ الْخِرْقَةَ فَتُخْرِجَهَا جَافَّةً لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ وَلاَ مِنَ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ (1) .
وَكُلٌّ مِنَ الْقَصَّةِ وَالْجُفُوفِ عَلاَمَةٌ عَلَى الطُّهْرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ وَالْجُفُوفِ عَلاَمَةٌ لِلطُّهْرِ، فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَيًّا مِنْهُمَا عَقِبَ الْحَيْضِ طَهُرَتْ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ عَادَتُهَا أَنْ تَطْهُرَ بِالْقَصَّةِ أَوْ بِالْجُفُوفِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ وَضَعَتِ الْكُرْسُفَ فِي اللَّيْل وَهِيَ حَائِضَةٌ أَوْ نُفَسَاءُ فَنَظَرَتْ فِي الصَّبَاحِ فَرَأَتْ عَلَيْهِ الْبَيَاضَ الْخَالِصَ حُكِمَ بِطَهَارَتِهَا مِنْ حِينِ وَضَعَتْ لِلتَّيَقُّنِ بِطَهَارَتِهَا وَقْتَهُ. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْجُفُوفِ عَلاَمَةً لِلطُّهْرِ، وَقَدْ عَبَّرَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا الاِخْتِلاَفِ بِقَوْلِهِ: وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَمُقْتَضَى الْمَرْوِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّ مُجَرَّدَ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 370، الشرح الصغير 1 / 214.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين ص 85.(33/280)
الاِنْقِطَاعِ دُونَ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ لاَ يَجِبُ مَعَهُ أَحْكَامُ الطَّاهِرَاتِ، وَكَلاَمُ الأَْصْحَابِ فِيمَا يَأْتِي كُلُّهُ بِلَفْظِ الاِنْقِطَاعِ، حَيْثُ يَقُولُونَ: وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَكَذَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الاِنْقِطَاعُ بِجَفَافٍ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ ثُمَّ تَرَى الْقَصَّةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ الْقَصَّةَ لَمْ تَجِبْ تِلْكَ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ الاِنْقِطَاعُ عَلَى سَائِرِ الأَْلْوَانِ وَجَبَتْ، وَأَنَا مُتَرَدِّدٌ فِيمَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ فِي إِعْطَاءِ الأَْحْكَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَأَيْتُ فِي مَرْوِيِّ: عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ رَيْطَةَ مَوْلاَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُول لِلنِّسَاءِ: إِذَا أَدْخَلَتْ إِحْدَاكُنَّ الْكُرْسُفَ فَخَرَجَتْ مُتَغَيِّرَةً فَلاَ تُصَلِّي حَتَّى لاَ تَرَى شَيْئًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْغَايَةَ الاِنْقِطَاعُ.
وَقَدْ يُقَال هَذَا التَّرَدُّدُ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ إِذَا فُسِّرَتِ الْقَصَّةُ بِأَنَّهَا بَيَاضٌ مُمْتَدٌّ كَالْخَيْطِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ ضَعْفُ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَقَدْ قَال فِي الْمُغْرِبِ: قَال أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ: أَنْ تَخْرُجَ الْقُطْنَةُ أَوِ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَحْتَشِي بِهَا الْمَرْأَةُ كَأَنَّهَا قَصَّةٌ لاَ تُخَالِطُهَا صُفْرَةٌ وَلاَ تُرَبِيَّةٌ، وَيُقَال إِنَّ الْقَصَّةَ شَيْءٌ كَالْخَيْطِ الأَْبْيَضِ يَخْرُجُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ كُلِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا انْتِفَاءُ اللَّوْنِ وَأَنْ لاَ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ، فَضَرَبَ رُؤْيَةَ الْقَصَّةِ مَثَلاً لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ رَائِيَ الْقَصَّةِ غَيْرُ(33/280)
رَائِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ أَلْوَانِ مَا تَرَاهُ الْحَائِضُ.
فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْقَصَّةَ مَجَازٌ عَنِ الاِنْقِطَاعِ، وَأَنَّ تَفْسِيرَهَا بِأَنَّهَا شَيْءٌ كَالْخَيْطِ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ " يُقَال " الدَّالَّةِ عَلَى التَّمْرِيضِ، وَيَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الاِنْقِطَاعُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ - آخِرُ الْحَدِيثِ: (حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) وَهُوَ قَوْلُهُ: " تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضِ "، (1) فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ مُوَافِقٌ لِعِبَارَاتِهِمْ كَمَا لاَ يَخْفَى. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلاَمَةُ الطُّهْرِ جُفُوفٌ أَوْ قَصَّةٌ - وَهِيَ أَبْلَغُ - فَتَنْتَظِرُهَا مُعْتَادَتُهَا لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، بِخِلاَفِ مُعْتَادَةِ الْجُفُوفِ، فَلاَ تَنْتَظِرُ مَا تَأَخَّرَ مِنْهُمَا كَالْمُبْتَدَأَةِ، أَيْ أَنَّ عَلاَمَةَ الطُّهْرِ أَيِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ أَمْرَانِ: الْجُفُوفُ، أَيْ خُرُوجُ الْخِرْقَةِ خَالِيَةً مِنْ أَثَرِ الدَّمِ وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَلَّةً مِنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَالْقَصَّةُ وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ كَالْمَنِيِّ أَوِ الْجِيرِ الْمَبْلُول، وَالْقِصَّةُ أَبْلَغُ: أَيْ أَدَل عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَيْضِ، فَمَنِ اعْتَادَتْهَا أَوِ اعْتَادَتْهُمَا مَعًا طَهُرَتْ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا فَلاَ تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ، وَإِذَا رَأَتْهُ ابْتِدَاءً انْتَظَرَتْهَا لآِخِرِ الْمُخْتَارِ، بِحَيْثُ تُوقِعُ الصَّلاَةَ فِي آخِرِهِ، وَأَمَّا مُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ فَقَطْ، فَمَتَى رَأَتْهُ أَوْ رَأَتِ الْقِصَّةَ طَهُرَتْ، وَلاَ تَنْتَظِرُ الآْخَرَ
__________
(1) حديث عائشة: تقدم تخريجه ف 1.
(2) البحر الرائق 1 / 202 - 203، وحاشية ابن عابدين 1 / 192.(33/281)
مِنْهُمَا، وَكَذَا الْمُبْتَدَأَةُ الَّتِي لَمْ تَعْتَدْ شَيْئًا، هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَمُقْتَضَى أَبْلَغِيَّةِ الْقَصَّةِ أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلاً انْتَظَرَتِ الْقَصَّةَ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: عَلاَمَةُ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَوُجُودِ الطُّهْرِ: أَنْ يَنْقَطِعَ خُرُوجُ الدَّمِ وَخُرُوجُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ، فَإِذَا انْقَطَعَ طَهُرَتْ سَوَاءٌ أَخَرَجَتْ بَعْدَهُ رُطُوبَةٌ بَيْضَاءُ أَمْ لاَ. (2)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا كَانَتْ لِلْمَرْأَةِ عَادَةٌ، كَأَنْ كَانَتْ تَحِيضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً مِنْ كُل شَهْرٍ فَرَأَتِ الطُّهْرَ قَبْل انْقِضَائِهَا، فَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَيَّامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ طَاهِرٌ، لِظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنِّسْوَةِ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ وَهَذِهِ قَدْ رَأَتِ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. (3)
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 214.
(2) المجموع 2 / 543.
(3) شرح الزركشي على مختصر الخرقي 1 / 446. وحديث: " لا تعجلن. . . " تقدم تخريجه ف 1.(33/281)
قَضَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ، قَال أَهْل الْحِجَازِ: الْقَاضِي مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ:
الْقَاطِعُ لِلأُْمُورِ الْمُحَكَّمِ لَهَا. وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْفَصْل، يُقَال: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ إِذَا حَكَمَ وَفَصَل.
وَيَأْتِي فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِضَاءِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ: يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالصُّنْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) أَيْ خَلَقَهُنَّ وَصَنَعَهُنَّ، وَعَلَى الْعَمَل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (2) مَعْنَاهُ فَاعْمَل مَا أَنْتَ عَامِلٌ.
وَعَلَى الْحَتْمِ وَالأَْمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3) أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ وَحَتَّمَ.
وَعَلَى الأَْدَاءِ تَقُول: قَضَيْتُ دَيْنِي أَيْ أَدَّيْتُهُ
__________
(1) سورة فصلت / 12.
(2) سورة طه / 72.
(3) سورة الإسراء / 23.(33/282)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ} (1) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا.
وَعَلَى الإِْبْلاَغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَْمْرَ} (2) ، أَيْ أَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْعَهْدِ وَالْوَصِيَّةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فِي الْكِتَابِ} (3) أَيْ عَهِدْنَا وَأَوْصَيْنَا.
وَعَلَى الإِْتْمَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} (4) أَيْ أَتْمَمْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ.
وَعَلَى بُلُوغِ الشَّيْءِ وَنَوَالِهِ تَقُول: قَضَيْتُ وَطَرِي أَيْ بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ حَاجَتِي كَذَلِكَ. (5)
وَالْقَضَاءُ الْمُقْتَرِنُ بِالْقَدَرِ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الإِْلَهِيِّ فِي أَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الأَْحْوَال الْجَارِيَةِ فِي الأَْزَل إِلَى الأَْبَدِ. (6)
وَالْقَضَاءُ فِي الإِْصْلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْل الْخُصُومَاتِ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ، وَزَادَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، حَتَّى لاَ يَدْخُل فِيهِ نَحْوُ الصُّلْحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. (7)
__________
(1) سورة النساء / 103.
(2) سورة الحجر / 66.
(3) سورة الإسراء / 4.
(4) سورة سبأ / 14.
(5) لسان العرب، والمصباح المنير.
(6) القواعد الفقهية للبركتي ص 331، وانظر في تعريف القضاء والقدر حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 335.
(7) ابن عابدين 5 / 352، والفتاوى الهندية 3 / 211.(33/282)
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ. (1)
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِلْزَامُ مَنْ لَهُ إِلْزَامٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ. (2)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالإِْلْزَامُ بِهِ وَفَصْل الْخُصُومَاتِ. (3)
2 - وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ (الْقَضَاءِ) فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى فِعْلِهَا خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ، (صَوْم ف 86 - 89، وَحَجّ ف 123، وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
كَمَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الدَّيْنِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى سَدَادِ الدَّيْنِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، (4) انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (دَيْن ف 70، وَأَدَاء ف 29) .
وَاسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى آدَابِ التَّخَلِّي. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِتَار ف 7، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَتْوَى:
3 - الْفَتْوَى وَالْفُتْوَى وَالْفُتْيَا فِي اللُّغَةِ: مَا أَفْتَى
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 186، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 12.
(2) مغني المحتاج 4 / 372، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 334.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 459، وكشاف القناع 6 / 285.
(4) ابن عابدين 3 / 138.(33/283)
بِهِ الْفَقِيهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلسَّائِل عَنْهُ.
فَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ، وَالْفَتْوَى مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِظْهَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ، وَيَمْتَازُ الْقَضَاءُ عَنِ الْفَتْوَى بِالإِْلْزَامِ. (2)
ب - التَّحْكِيمُ:
4 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ: جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِلَيْهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: أَنَّ الْقَضَاءَ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالتَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْهُ. (3)
ج - الْحِسْبَةُ:
5 - الْحِسْبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِحْتِسَابِ وَمِنْ مَعَانِيهَا: الأَْجْرُ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ،
__________
(1) لسان العرب.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 456، وكشاف القناع 6 / 299.
(3) ابن عابدين 5 / 428.(33/283)
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلاَنٌ حَسَنُ الْحِسْبَةِ فِي الأَْمْرِ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْقَضَاءِ: أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحْتَسِبِ وَالْقَاضِي نَظَرُ أَنْوَاعٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَهِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ مِنْ بَخْسِ أَوْ تَطْفِيفِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، وَغِشِّ الْبَيْعِ أَوْ تَدْلِيسٍ فِيهِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَالْمَطْل فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُكْنَةِ الْوَفَاءِ.
وَتَقْصُرُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِسَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِهِ.
وَتَزِيدُ الْحِسْبَةُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ يَسْتَعْدِيهِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي، كَمَا أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ بِمَا لَهُ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَةِ وَالرَّهْبَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُظْهِرَ الْغِلْظَةَ وَالْقُوَّةَ، وَلاَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 232، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 268.(33/284)
يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَوُّزًا وَلاَ خَرْقًا لِوِلاَيَتِهِ، أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ، فَهُوَ بِالْوَقَارِ وَالأَْنَاةِ أَخَصُّ. (1)
د - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
6 - الْمَظَالِمُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ، يُقَال: ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْمًا وَظَلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَيُقَال: تَظَلَّمَ فُلاَنٌ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ فُلاَنٍ فَظَلَّمَهُ تَظْلِيمًا أَيْ أَنْصَفَهُ مِنْ ظَالِمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ وَزَجْرِ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، وَوَالِي الْمَظَالِمِ لَهُ مِنَ النَّظَرِ مَا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُمْ مَجَالاً، وَأَعْلَى رُتْبَةً، إِذِ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَهِيَ وِلاَيَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَةِ، وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - الْقَضَاءُ مَشْرُوعٌ وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى 269، والأحكام السلطانية للماوردي ص 232.
(2) لسان العرب.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 233، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 58، وتبصرة الحكام 1 / 12.(33/284)
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيل اللَّهِ} (1) ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (3) ، وَقَدْ تَوَلاَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا (4) ، وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا (5) ، كَمَا تَوَلاَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَبَعَثُوا الْقُضَاةَ إِلَى الأَْمْصَارِ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقُضَاةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ.
8 - وَالأَْصْل فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الصَّالِحُ لَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ فِيهِ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ امْتَنَعَ كُل الصَّالِحِينَ لَهُ أَثِمُوا.
أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) سورة ص / 26.
(2) سورة المائدة / 49.
(3) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 318) ومسلم (3 / 1343) من حديث عمرو بن العاص.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًا إلى اليمن قاضيًا " أخرجه أبو داود (4 / 11) .
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا قاضيًا. . " أخرجه الترمذي (3 / 607) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل.(33/285)
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ، (1) وَلأَِنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَل مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ الإِْمَامُ عَلَى فَصْل الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأَِنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْقُرَبِ الْعَظِيمَةِ، فَفِيهِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ وَأَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَرَدُّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَخْلِيصُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ.
9 - وَالْقَضَاءُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ إِذَا طُلِبَ لَهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْل الْبَلَدِ سِوَاهُ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ الْقَبُول يَأْثَمُ كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الأَْعْيَانِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ قَبُول الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ يَخَافُ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَتَوَل، أَوْ مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ الْحَقِّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِنِ امْتَنَعَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَإِنْ عُرِضَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَالأَْفْضَل لَهُ الْقَبُول
__________
(1) سورة النساء / 135.(33/285)
فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اقْتِدَاءً بِالأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْفْضَل تَرْكُهُ.
وَيُنْدَبُ لَهُ الْقَبُول كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ وَلَكِنَّهُ هُوَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقَبُول إِذَا كَانَ عَالِمًا فَقِيرًا لِيَسُدَّ خُلَّتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَوْ كَانَ عَالِمًا خَامِل الذِّكْرِ لِيَنْتَشِرَ عِلْمُهُ وَيُنْتَفَعَ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الْعَدَالَةِ، وَالاِجْتِهَادِ، وَيُوجَدُ غَيْرُهُ مِثْلُهُ،
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَسُئِل بِلاَ طَلَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ بِحُكْمِ حَالِهِ وَصَلاَحِيَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدُّخُول فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إِقَامَةِ الْعَدْل، وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ لاَ يُوَفَّقُ لَهُ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ تَحْصِيل الْجَاهِ وَالاِسْتِعْلاَءَ عَلَى النَّاسِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ مَشْهُورًا لاَ يَحْتَاجُ أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ وَعِلْمَهُ بِالْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ مِنْهُ لِلْقَضَاءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ جَاهِلاً لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ وَظَائِفِهِ، أَوْ(33/286)
كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الاِنْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ أَخْذَ الرِّشْوَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَخَافُ الْحَيْفَ فِيهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ يَرَى فِي نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ سَمَاعِ دَعَاوَى كُل الْخُصُومِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ أَمِنَ الْخَوْفَ فَلاَ يُكْرَهُ. (2)
10 - وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَنْصِبَ الْقُضَاةَ فِي الْبُلْدَانِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ هُوَ الْمُسْتَخْلَفُ عَلَى الأُْمَّةِ وَالْقَائِمُ بِأَمْرِهَا، وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالْمَسْئُول عَنْهَا، فَتَقْلِيدُ الْقُضَاةِ مِنْ جِهَتِهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّقْلِيدَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ. (3)
حِكْمَةُ الْقَضَاءِ:
11 - الْحِكْمَةُ مِنَ الْقَضَاءِ: رَفْعُ التَّهَارُجِ وَرَدُّ
__________
(1) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 134، فتح القدير 5 / 459، الفتاوى الهندية 3 / 310، بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3 - 4، أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 82، 83، حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 335 - 336، مغني المحتاج 4 / 373، حاشية الدسوقي 4 / 130 - 131، تبصرة الحكام 1 / 12، المغني لابن قدامة 9 / 34 - 37، كشاف القناع 6 / 286 - 288.
(2) ابن عابدين 5 / 367.
(3) كشاف القناع 6 / 286، 288، وأدب القاضي للماوردي 1 / 137، وابن أبي الدم ص 89، وتبصرة الحكام 1 / 21، وروضة القضاة 1 / 73، والمغني لابن قدامة 9 / 38.(33/286)
النَّوَائِبِ، وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ، وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ، لِيَكُفَّ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ. (1)
طَلَبُ الْقَضَاءِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْنْسَانِ طَلَبُ الْقَضَاءِ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَل فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِل إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَل اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ (2) ، لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُقَيِّدُ الْكَرَاهَةَ هُنَا بِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْ طَالِبِ الْقَضَاءِ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَيَرْضَى بِأَنْ يَتَوَلاَّهُ، وَقِيل: بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ لِلْقَضَاءِ، وَكَانَ الأَْصْلَحُ يَقْبَل التَّوْلِيَةَ.
فَإِنْ تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِلْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ لَزِمَهُ طَلَبُهُ إِنْ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَمَحَل وُجُوبِ الطَّلَبِ إِذَا ظَنَّ الإِْجَابَةَ فَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إِنْ كَانَ خَامِلاً يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ أَوْ مُحْتَاجًا لِلرِّزْقِ،
__________
(1) معين الحكام ص 7، تبصرة الحكام 1 / 13، ومغني المحتاج 4 / 372، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 355.
(2) حديث: " من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 605) وأعله المناوي في فيض القدير (6 / 21) بجهالة راوٍ في إسناده وضعف آخر.(33/287)
أَوْ إِذَا كَانَتِ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً لِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ، أَوْ فَسَدَتِ الأَْحْكَامُ بِتَوْلِيَةِ جَاهِلٍ، فَيَقْصِدُ بِالطَّلَبِ تَدَارُكَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَبَ، فَقَال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَْرْضِ} (1) ، وَإِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لاَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ.
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الْقَضَاءِ إِذَا كَانَ فِيهِ مُبَاشِرٌ قَدْ تَوَافَرَتْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءَ وَالطَّالِبُ يَرُومُ عَزْلَهُ وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَهْلاً لِلْقَضَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيذَاءِ الْقَائِمِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبَاشِرٌ أَهْلٌ لَمْ يَحْرُمْ طَلَبُهُ، كَمَا يَحْرُمُ الطَّلَبُ لِجَاهِلٍ وَطَالِبِ دُنْيَا. (2)
بَذْل الْمَال لِتَوَلِّي الْقَضَاءِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بَذْل الْمَال لِيُنْصَبَ قَاضِيًا، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُل فِي عُمُومِ نَهْيِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرِّشْوَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْحُرْمَةَ بِمَا إِذَا كَانَ طَالِبُ الْقَضَاءِ لاَ يَسْتَحِقُّ التَّوْلِيَةَ لِفَقْدِهِ شُرُوطَ التَّوْلِيَةِ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَضَاءُ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة يوسف / 55.
(2) كشاف القناع 6 / 288، والمغني 9 / 36 ط. الثالثة للمنار. وابن عابدين 5 / 366، ومغني المحتاج 4 / 373، 374، والروضة 11 / 93، وحاشية الدسوقي 4 / 130، 131، وتبصرة الحكام 1 / 16، 17.(33/287)
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ بَذْل الْمَال إِذَا كَانَ طَلَبُهُ مَكْرُوهًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَذْل الْمَال إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَى الْبَاذِل لِتَعَيُّنِ فَرْضِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِشُرُوطِ الْقَضَاءِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهًا آخَرَ لِلإِْبَاحَةِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا لَهُ الطَّلَبُ لِيُزِيل جَوْرَ غَيْرِهِ أَوْ تَقْصِيرَهُ. (1)
الإِْجْبَارُ عَلَى الْقَضَاءِ:
14 - إِذَا تَعَيَّنَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَهَل يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُول لَوِ امْتَنَعَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ إِجْبَارَ أَحَدِ الْمُتَأَهِّلِينَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْهُ عِوَضٌ، وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إِلَى عِلْمِهِ وَنَظَرِهِ، فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الطَّعَامِ إِذَا مَنَعَهُ الْمُضْطَرَّ. (2)
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ لاَ يُجْبَرُ. (3)
__________
(1) المراجع السابقة، وأدب القاضي للماوردي 1 / 151، 152.
(2) ابن عابدين 5 / 386، وروضة القضاة 1 / 84، ومغني المحتاج 4 / 372، 373، والجمل على المنهج 5 / 336، وحاشية الدسوقي 4 / 130، 131، وتبصرة الحكام 1 / 12، والكافي لابن قدامة 3 / 431 من منشورات المكتب الإسلامي بدمشق، ومنار السبيل 2 / 453 - المكتب الإسلامي.
(3) المراجع السابقة.(33/288)
وَقَدْ أَرَادَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوْلِيَةَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْقَضَاءَ، فَقَال لِعُثْمَانِ: أَوَتُعَافِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَال: فَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي؟ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْل فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ كَفَافًا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَعْفَاهُ وَقَال: لاَ تَجْبُرَنَّ أَحَدًا. (1)
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ وَأَبَى الْوِلاَيَةَ أَنَّهُ لاَ يَأْثَمُ، وَحُمِل كَلاَمُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ عَلَى مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبِ لِظُلْمِ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَال: لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ، أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ؟ . (2)
التَّرْغِيبُ فِي الْقَضَاءِ:
15 - مَكَانَةُ الْقَضَاءِ مِنَ الدِّينِ عَظِيمَةٌ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَْرْضُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ وَالرُّسُل قَال تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} (3) ، وَقَال
__________
(1) حديث أن عثمان أراد تولية ابن عمر القضاء. . أخرجه الترمذي (3 / 603) وقال: " حديث غريب، وليس إسناده عندي بمتصل ". والرواية ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 193) وعزاها لأحمد، والذي في المسند (1 / 66) : " فأعفاه وقال لا تخبر بها أحدا ".
(2) المغني 9 / 36.
(3) سورة ص / 26.(33/288)
تَعَالَى مُخَاطِبًا خَاتَمَ رُسُلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (1) ، فَوِلاَيَةُ الْقَضَاءِ رُتْبَةٌ دِينِيَّةٌ وَنَصَبَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ دَيْنًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ إِذَا وُفِّيَتْ حَقَّهَا، وَإِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2) ، وَجَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا (3) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا (4) ، فَكَذَلِكَ كَانَ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَل أَعْمَال الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الأَْجْرِ قَال تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ
__________
(1) سورة المائدة / 49.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515 - 1516) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " لا حسد إلا في اثنتين. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 165) ، ومسلم (1 / 559) من حديث ابن مسعود.
(4) حديث: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور. . . " أخرجه مسلم (3 / 1458) .(33/289)
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ، وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (2) وَإِنَّمَا أُجِرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَبَذْل وُسْعِهِ لاَ عَلَى خَطَئِهِ. (3)
التَّرْهِيبُ مِنَ الْقَضَاءِ:
16 - كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُحْجِمُ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَنْهُ أَشَدَّ الاِمْتِنَاعِ حَتَّى لَوْ أُوذِيَ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ عَظِيمِ خَطَرِهِ كَمَا تَدُل عَلَيْهِ الأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَالَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْوَعِيدُ وَالتَّخْوِيفُ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ، كَحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ، (4) وَحَدِيثُ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِل قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ (5) ،
__________
(1) سورة المائدة / 42.
(2) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . ". تقدم فقرة 7.
(3) كشاف القناع 6 / 286، وتبصرة الحكام 1 / 13، 14، وأدب القضاء لابن أبي أدم ص 57، ومعين الحكام 7، 8.
(4) حديث: " إن الله مع القاضي ما لم يجر. . . " أخرجه الترمذي (3 / 609) من حديث عبد الله بن أبي أوفى وقال: حديث حسن غريب.
(5) حديث: " من ولي القضاء أو جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين ". أخرجه الترمذي (3 / 605) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".(33/289)
وَحَدِيثُ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَقَدْ قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إِذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا، لِتَعْظُمَ لَهُ الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا، فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الأَْقَارِبِ وَالأَْبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْل، وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ، جُعِل ذَبِيحَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَبَلَغَ بِهِ حَال الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَالتَّحْذِيرُ الْوَارِدُ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظُّلْمِ لاَ عَنِ الْقَضَاءِ،
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه الترمذي (3 / 604) والحاكم (904) من حديث بريدة، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(33/290)
فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) ، فَالأَْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ، وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإِْسْلاَمِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلاَمَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإِْقْلاَل مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ. (2)
وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ (3) .
__________
(1) سورة الجن / 15.
(2) معين الحكام ص 8، المغني 9 / 35، ومغني المحتاج 4 / 372، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 13، 14.
(3) كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 62.(33/290)
أَرْكَانُ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامُهَا:
17 - أَرْكَانُ الْقَضَاءِ كَمَا يَلِي: (1)
أَوَّلاً: الْقَاضِي.
ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ.
ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ.
رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ.
خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ.
سَادِسًا: الْحُكْمُ.
وَتَفْصِيل حُكْمِ كُل رُكْنٍ مِنْهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الْقَاضِي:
لِلْقَاضِي أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْقَضَاءِ، وَأَحْكَامِ انْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَّصِل بِآدَابِ مِهْنَتِهِ، وَمَسْئُولِيَّتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي سَتُبَيَّنُ تَفْصِيلاً فِيمَا يَلِي:
أ - أَهْلِيَّةُ الْقَاضِي:
18 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ تَوْلِيَةِ الْقَاضِي شُرُوطًا مُعَيَّنَةً، وَيَتَّفِقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَاضِي مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، حُرًّا (2) .
وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 354، تبصرة الحكام 1 / 3، كشاف القناع 6 / 285، أسنى المطالب 4 / 277.
(2) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 7، وابن عابدين 5 / 354، ومغني المحتاج 4 / 375، وكشاف القناع 6 / 285.(33/291)
الْوَجْهِ الآْتِي:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ هُوَ مَنْ يَكُونُ أَهْلاً لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَشُرُوطُ الشَّهَادَةِ هِيَ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبَصَرُ، وَالنُّطْقُ، وَالسَّلاَمَةُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالأَْعْمَى وَالأَْخْرَسِ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلاَيَةِ، بَل هُوَ أَعْظَمُ الْوِلاَيَاتِ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ أَدْنَى الْوِلاَيَاتِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ؛ فَلأََنْ لاَ يَكُونَ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ أَعْلاَهَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَقْضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، لأَِنَّهُ لاَ شَهَادَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. (1)
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْقَاضِي بِالْحَلاَل وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَيَرَى فَرِيقٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، بَل هُوَ شَرْطُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى فَتْوَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3، وابن عابدين 5 / 354.(33/291)
يُقَلَّدَ الْجَاهِل بِالأَْحْكَامِ، لأَِنَّ الْجَاهِل قَدْ يَقْضِي بِالْبَاطِل مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُ. (1)
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُول، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَال: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَإِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، قَال تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (3) ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لأَِنَّ الْحَوَادِثَ مَمْدُودَةٌ، وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ، فَلاَ يَجِدُ الْقَاضِي فِي كُل حَادِثَةٍ نَصًّا يَفْصِل بِهِ الْخُصُومَةَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى مِنَ النُّصُوصِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالاِجْتِهَادِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 3.
(2) حديث: " لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن. . . " سبق تخريجه ف 7.
(3) سورة ص / 26.
(4) شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 126.(33/292)
أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ لَكِنَّهَا شَرْطُ كَمَالٍ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْل الْقَضَاءِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ شُرُوطَ تَوْلِيَةِ الْقَاضِي أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ عَدْلاً. وَالْعَدَالَةُ تَسْتَلْزِمُ الإِْسْلاَمَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْل وَالْحُرِّيَّةَ وَعَدَمَ الْفِسْقِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فَطِنًا، وَالْفِطْنَةُ جَوْدَةُ الذِّهْنِ وَقُوَّةُ إِدْرَاكِهِ لِمَعَانِي الْكَلاَمِ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وُلِّيَ لِلْقَضَاءِ بِهَا وَلَوْ مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلاَفًا لِخَلِيلٍ حَيْثُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا إِنْ وُجِدَ وَإِلاَّ فَأَمْثَل مُقَلِّدٍ. (2)
وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الأَْعْمَى وَالأَْبْكَمِ وَالأَْصَمِّ.
وَاتِّصَافُهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَاجِبٌ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إِذْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ إِنْ وَقَعَ صَوَابًا مَعَ فَقْدِ إِحْدَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَفِي فَقْدِ صِفَتَيْنِ خِلاَفٌ، أَمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3، وابن عابدين 5 / 355.
(2) الدسوقي 4 / 129، الشرح الصغير 4 / 187.(33/292)
فِي فَقْدِ الصِّفَاتِ الثَّلاَثِ فَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْقَاضِي عَشَرَةٌ: الإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالتَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ وَالْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالنُّطْقُ وَالاِجْتِهَادُ وَالْكِفَايَةُ اللاَّئِقَةُ بِالْقَضَاءِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ بِنَفْسِهِ فَلاَ يُوَلَّى مُغَفَّلٌ وَمُخْتَل نَظَرٍ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. (2)
وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِقَ لاَ تَصِحُّ وِلاَيَتُهُ، وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ لأَِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فَعَدَمُ قَبُول حُكْمِهِ أَوْلَى، وَإِذَا وُلِّيَ الْفَاسِقُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ لِلضَّرُورَةِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ النَّاسِ (3) .
أَمَّا الْكِتَابَةُ فَالأَْصَحُّ عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا.
وَالاِجْتِهَادُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اجْتِهَاد ف 5) .
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 4 / 191، وبداية المجتهد 2 / 450، وتبصرة الحكام 1 / 23 - 24، وحاشية الدسوقي 4 / 130.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 70، ومغني المحتاج 4 / 375.
(3) أدب القاضي للحموي ص 71، ومغني المحتاج 4 / 377.(33/293)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ كَوْنَ الْقَاضِي بَالِغًا عَاقِلاً ذَكَرًا حُرًّا مُسْلِمًا عَدْلاً سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا مُجْتَهِدًا، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ كَاتِبًا لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا وَهُوَ سَيِّدُ الْحُكَّامِ.
وَشُرُوطُ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ حَسَبَ الإِْمْكَانِ، وَيَجِبُ تَوْلِيَةُ الأَْمْثَل فَالأَْمْثَل، وَعَلَى هَذَا يَدُل كَلاَمُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَيُوَلَّى عِنْدَ عَدَمِ الأَْمْثَل أَنْفَعُ الْفَاسِقَيْنِ وَأَقَلُّهُمَا شَرًّا، وَأَعْدَل الْمُقَلِّدَيْنِ وَأَعْرَفُهُمَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِلاَّ لَتَعَطَّلَتِ الأَْحْكَامُ وَاخْتَل النِّظَامُ (1) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُول:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَخْتَارَ لِلْقَضَاءِ أَفْضَل مَنْ يَجِدُ عِلْمًا وَدِينًا وَمَنْ هُوَ أَقْدَرُ وَأَوْلَى لِعِفَّتِهِ وَقُوَّتِهِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الأَْصْلَحِ لَهُمْ لأَِنَّ الأَْفْضَل أَثْبَتُ وَأَمْكَنُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعْيِينِ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ، فَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ تَوْلِيَةَ الْمُقَلِّدِ مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ بَاطِلٌ، وَالْقَوْل الآْخَرُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَل فِي زَمَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ خِلاَفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
__________
(1) أدب القضاء للحموي ص 80، شرح منتهى الإرادات 3 / 464، المغني 9 / 39، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 44، كشاف القناع 6 / 296.(33/293)
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، قَال الإِْمَامُ: فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ، وَالأَْكْثَرُونَ قَالُوا: يَجُوزُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ عَدَل عَنِ الأَْفْضَل إِلَى الْمُقَصِّرِ انْعَقَدَتْ وِلاَيَتُهُ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَال الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: تَصِحُّ تَوْلِيَةُ مَفْضُولٍ مَعَ وُجُودِ أَفْضَل مِنْهُ لأَِنَّ الْمَفْضُول مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُوَلَّى مَعَ وُجُودِ الْفَاضِل، مَعَ الاِشْتِهَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ، وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةَ التَّوْلِيَةِ بِمَا إِذَا قَصَدَ بِهَا مَصْلَحَةً.
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ لِلْحَنَفِيَّةِ لَكِنَّ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ يُجِيزُ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُول إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَامِّيًّا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ. (1)
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ:
20 - سَبَقَ بَيَانُ اشْتِرَاطِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي ذَكَرًا، وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (2) ؛ وَلأَِنَّ الْقَاضِيَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 457، وابن عابدين 5 / 356، وروضة القضاة 1 / 52 - 59، وشرح أدب القاضي لابن مازة 1 / 129، وكفاية الطالب الرباني 4 / 112، وأدب القاضي للماوردي 1 / 144، وأدب القضاة لابن أبي الدم ص 84 - 85، وكشاف القناع 6 / 286 - 288، والإنصاف 11 / 158.
(2) حديث: " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 53) من حديث أبي بكرة.(33/294)
يَحْضُرُ مَحَافِل الْخُصُومِ وَالرِّجَال، وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى كَمَال الرَّأْيِ وَمُشَاوَرَةِ الْعُلَمَاءِ، وَالنِّسَاءُ لَسْنَ أَهْلاً لِذَلِكَ وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نِسْيَانِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى} (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ النِّسَاءُ الْقَضَاءَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ وَحْدَهُنَّ أَوْ مَعَ الرِّجَال؛ لأَِنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْوِلاَيَةِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لأَِنَّ شَهَادَتَهُنَّ لاَ تُقْبَل فِي ذَلِكَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ أَجَازَ تَقَلُّدَ الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا، وَعَلَّل جَوَازَ وِلاَيَتِهَا بِجَوَازِ فُتْيَاهَا (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَلَّى سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ امْرَأَةً الْقَضَاءَ نَفَذَ قَضَاؤُهَا (3) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ:
21 - الْعَدَالَةُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَتَقَلَّدُ الْقَضَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ، ظَاهِرَ الأَْمَانَةِ عَفِيفًا عَنِ الْمَحَارِمِ، مُتَوَقِّيًا لِلْمَآثِمِ، بَعِيدًا مِنَ الرِّيَبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ،
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) المغني 9 / 39، وأدب القاضي للماوردي 1 / 625 - 628، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 195، وروضة القضاة للسمناني 1 / 53، وفتح القدير 5 / 485.
(3) مغني المحتاج 4 / 377.(33/294)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنِ الْعَدَالَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة ف 22، وَعَدْل ف 1، 16) .
فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَوْلِيَةُ فَاسِقٍ، وَلاَ مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ قَوْل الْفَاسِقِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مِمَّنْ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ وَيَجِبُ التَّبَيُّنُ عِنْدَ حُكْمِهِ؛ وَلأَِنَّ الْفَاسِقَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فَلِئَلاَّ يَكُونَ قَاضِيًا أَوْلَى.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِي الْفَاسِقِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا هَل يُرَدُّ مَا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ يُمْضَى إِذَا وَافَقَ الْحَقَّ؟ .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُل مَنْ وَلاَّهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً أَوْ فَاسِقًا؛ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ النَّاسِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصْل عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ تَقَلُّدُهُ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ أَهْلاً لِلْقَضَاءِ، لَكِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي تَقْلِيدُهُ وَيَأْثَمُ مُقَلِّدُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُل مَنْ وَلاَّهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَاسِقًا وَهُوَ
__________
(1) سورة الحجرات / 6.(33/295)
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَحِينَئِذٍ فَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: قَال بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ، لأَِنَّ الْمُقَلِّدَ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الأَْوْلَوِيَّةِ، فَالأَْوْلَى أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، لَكِنْ لَوْ تَقَلَّدَ الْفَاسِقُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ (1) .
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ:
22 - الإِْسْلاَمُ هُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ، فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَقْلِيدَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْل دِينِهِ، لِجَوَازِ شَهَادَةِ أَهْل الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلاَيَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي الأَْحْكَامِ.
وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ قَال الشِّرْبِينِيُّ: أَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَال الْمَاوَرْدِيُّ
__________
(1) المغني 9 / 40، أدب القاضي للماوردي 1 / 634، والروضة 11 / 97، وابن عابدين 5 / 355، 356، وفتح القدير 5 / 455، وأدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 129، وتبصرة الحكام 1 / 24، والشرح الصغير 4 / 187.
(2) سورة النساء / 141.(33/295)
وَالرُّويَانِيُّ: إِنَّمَا هِيَ زَعَامَةٌ وَرِيَاسَةٌ، لاَ تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَل بِالْتِزَامِهِمْ وَلاَ يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ (1) .
وِلاَيَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ وِلاَيَةَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقَضَاءِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ صَاحِبُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلاَ يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَى شَخْصٍ تَوْلِيَةَ الْقُضَاةِ، وَلَيْسَ لِمَنْ فَوَّضَهُ الإِْمَامُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ نَفْسِهِ وَلاَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَقِيل: يَجُوزُ إِذَا كَانَا صَالِحَيْنِ لِلْوِلاَيَةِ لأَِنَّهُمَا يَدْخُلاَنِ فِي عُمُومِ الإِْذْنِ مَعَ أَهْلِيَّتِهَا.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلاَ مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ، أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُول إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا فَيُوَلِّي قَاضِيًا، أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الإِْمَامِ أَوِ الاِتِّصَال بِهِ، يَتِمُّ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 355، 428، أدب القاضي للماوردي 1 / 661 - 663، الشرح الصغير 4 / 187، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، ومغني المحتاج 4 / 375.(33/296)
وَأَهْل الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ، وَيَكُونُ عَقْدُهُمْ نِيَابَةً عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَلاَ الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ، فَقَلَّدَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلاً إِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إِمَامٌ، وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي - لاَ مُلْزَمًا - وَإِنْ خَلاَ الْعَصْرُ مِنْ إِمَامٍ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَتَجَدَّدَ إِمَامٌ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ الْقَاضِي بَاطِلاً، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إِمَامٍ قَرِيبٍ وَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلاً، وَيَكُونَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي جَائِزًا إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّقْلِيدِ جَمِيعُ أَهْل الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَأَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ إِنْ ظَهَرَ الرِّضَا مِنْهُمْ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الإِْنْكَارُ بَطَل التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَبَطَل فِي الْجَانِبِ الآْخَرِ لأَِنَّ تَمَيُّزَ الْجَانِبَيْنِ كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ، فَإِذَا صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا وَجَبْرًا لاِنْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَلاَ الْبَلَدُ مِنْ(33/296)
قَاضٍ، فَاجْتَمَعَ أَهْل الْبَلَدِ وَقَلَّدُوا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ مَفْقُودًا صَحَّ وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَدِمْ هَذَا الْقَاضِي النَّظَرَ إِلاَّ بَعْدَ إِذْنِهِ، وَلاَ يُنْقَضْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ. (1)
وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ تَوْلِيَةَ قَاضٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيَعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَلاَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ سَأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ، وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ، فَإِذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُ وَلاَّهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا بِمَا وَلاَّهُ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ وَمُشَاوَرَةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَتَصَفُّحِ أَحْوَال الشُّهُودِ وَتَأَمُّل الشَّهَادَاتِ، وَتَعَاهُدِ الْيَتَامَى، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَال الْوُقُوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاتِهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ (2) ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ فِي تَوْلِيَتِهِ الْقَضَاءَ (3) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 461، وابن عابدين 5 / 369، وروضة القضاة 1 / 61، وتبصرة الحكام 1 / 21، وأدب القاضي للماوردي 1 / 139 - 141 ط. بغداد 1971 م، والمغني 9 / 106، وكشاف القناع 6 / 288
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن. " أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(3) كشاف القناع 6 / 286، 288، وأدب القاضي للماوردي 1 / 137، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 89، تبصرة الحكام 1 / 21، وروضة القضاة 1 / 73، والمغني لابن قدامة 9 / 38.(33/297)
اشْتِرَاطُ عَدَالَةِ الْمُوَلِّي:
24 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُوَلِّي (بِكَسْرِ اللاَّمِ) لأَِنَّ وِلاَيَةَ الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى تَصِحُّ مِنْ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ فَتَصِحُّ وِلاَيَتُهُ كَالْعَدْل؛ وَلأَِنَّهَا لَوِ اعْتُبِرَتْ فِي الْمُوَلَّى أَفْضَى إِلَى تَعَذُّرِهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي يَمْنَعُهُ عَنِ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ فَيَحْرُمُ (1) .
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا وَلاَّهُ أَمِيرٌ غَيْرُ عَدْلٍ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ. (2)
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إِقْلِيمٍ عَظِيمٍ فَوَلَّوُا الْقَضَاءَ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ إِنْفَاذُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ (3) .
ب - صِفَةُ عَقْدِ الْقَضَاءِ:
25 - إِذَا كَانَ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى حَاضِرَيْنِ فَالْعِبْرَةُ بِاللَّفْظِ وَفِي حَالَةِ الْغَيْبَةِ تَقُومُ الْكِتَابَةُ مَقَامَ اللَّفْظِ. (4)
__________
(1) فتح القدير 5 / 461، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 368، وكشاف القناع 6 / 288.
(2) تبصرة الحكام 1 / 21.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1 / 73 - دار الكتب العلمية بيروت.
( x664 ;) كشاف القناع 6 / 286 - 288، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 90، وتبصرة الحكام 1 / 21، وروضة القضاة 1 / 73.(33/297)
وَالأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلاَيَةُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ: وَلَّيْتُكَ، وَقَلَّدْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، زَادَ الْحَنَابِلَةُ: رَدَدْتُ إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ.
وَالْكِنَايَةُ نَحْوُ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وَوَكَّلْتُ إِلَيْكَ وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: وَعَهِدْتُ إِلَيْكَ، وَتَحْتَاجُ الْكِنَايَةُ إِلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يَنْفِي عَنْهَا الاِحْتِمَال مِثْل: احْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِيهِ، وَشِبْهَ ذَلِكَ (1) .
وَتَمَامُ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِقَبُول الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ قَبُولُهُ بِالْقَوْل عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا جَازَ قَبُولُهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ بِالْقَوْل مَعَ التَّرَاخِي، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْقَبُول بِالشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ، فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالنُّطْقِ، وَلَمْ يُجِزْهُ آخَرُونَ حَتَّى يَنْطِقَ بِالْقَبُول، لأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلاَيَةِ، فَلَمْ يَنْعَقِدِ الْقَبُول بِالشُّرُوعِ. (2)
ج - سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ:
26 - لِلإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ الْقَاضِيَ عُمُومَ النَّظَرِ فِي
__________
(1) معين الحكام ص 14، وتبصرة الحكام 1 / 21، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 91، وكشاف القناع 6 / 289.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 65، 66، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 92، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 48، وتبصرة الحكام 1 / 22.(33/298)
عُمُومِ الْعَمَل بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَائِرَ الأَْحْكَامِ بِسَائِرِ الْبِلاَدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل، فَيُقَلِّدَهُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ فِيمَنْ سَكَنَهُ وَمَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَل فَيَقُول مَثَلاً: جَعَلْتُ إِلَيْكَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ خَاصَّةً فِي جَمِيعِ وِلاَيَتِي، أَوْ يَجْعَل حُكْمَهُ فِي قَدْرٍ مِنَ الْمَال نَحْوِ أَنْ يَقُول: احْكُمْ فِي الْمِائَةِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُصُوصَ النَّظَرِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل كَأَنْ يُوَلِّيَهُ قَضَاءَ الأَْنْكِحَةِ فِي مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ شَطْرٍ مِنْهَا. (1)
الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ:
27 - إِنْ كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ يَشْتَمِل عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: فَصْل الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إِمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ أَوْ إِجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ.
الثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، وَإِيصَالُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا بَعْدَ ثُبُوتِ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 1 / 179، وشرح منتهى الإرادات 3 / 462، والمغني 9 / 105.(33/298)
اسْتِحْقَاقِهَا.
الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، لِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلأَْمْوَال عَلَى مُسْتَحِقِّهَا.
الرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الأَْوْقَافِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَقَبْضِهِ غَلَّتَهَا، وَصَرْفِهَا فِي سُبُلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ رَعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلاَّهُ.
الْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شَرْطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيَّنِينَ نَفَّذَهَا بِالإِْقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا إِلَى اجْتِهَادِ النَّظَرِ.
السَّادِسُ: تَزْوِيجُ الأَْيَامَى بِالأَْكْفَاءِ إِذَا عُدِمَ الأَْوْلِيَاءُ.
السَّابِعُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُطَالِبٍ، إِذَا ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ وَقَفَتْ عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّيهَا.
الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالأَْفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ الأَْجْنِحَةِ وَالأَْبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ.
التَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِبَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ.(33/299)
الْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ وَلاَ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي الْحُكْمِ (1) .
الْوِلاَيَةُ الْخَاصَّةُ:
28 - إِذَا كَانَتْ وِلاَيَةُ الْقَاضِي خَاصَّةً فَهِيَ مَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ جُعِل لَهُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَْحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ بِالإِْقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ قَضَايَا النِّكَاحِ، أَوْ فِي مِقْدَارٍ مِنَ الْمَال، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ، فَصَحَّتْ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ يَقْبَل التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ وَيَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَوْ أَمَرَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى عِنْدَ الإِْنْكَارِ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ تُسْمَعْ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَلَوْ جَعَل وِلاَيَةَ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ اسْتَمَرَّتْ وِلاَيَتُهُ عَلَيْهِمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا زَالَتْ وِلاَيَتُهُ (2) ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحَدِّدَ عَمَل الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الأُْسْبُوعِ، كَأَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 67 - 69.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 67 - 69، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 49 - 52، وابن عابدين 5 / 419، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 194.(33/299)
يُقَلَّدَ النَّظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَاصَّةً فَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخُصُومِ، فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُل وِلاَيَتُهُ لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الأَْيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ. (1)
د - تَقْيِيدُ الْقَاضِي بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ:
29 - إِذَا قَلَّدَ الإِْمَامُ قَاضِيًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَلاَّ يَحْكُمَ إِلاَّ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ، فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ التَّوْلِيَةِ، كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَحْكُمَ إِلاَّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلاً، أَوْ يَكُونَ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ نَهْيًا كَقَوْلِهِ: لاَ تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِهِ لاَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، إِذْ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ الْقَاضِي - أَيْ لِمَذْهَبِهِ - مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا، فَلَوْ قَضَى بِخِلاَفِهِ لاَ يَنْفُذُ، لَكِنِ الْكَاسَانِيُّ قَال: إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَذْهَبِ الْغَيْرِ، لَكِنْ إِذَا قَيَّدَهُ السُّلْطَانُ بِصَحِيحِ مَذْهَبِهِ تَقَيَّدَ بِلاَ خِلاَفٍ، لِكَوْنِهِ مَعْزُولاً عَنْ غَيْرِ مَا قَيَّدَهُ بِهِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 70، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 54.(33/300)
وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَطَ الإِْمَامُ ذَلِكَ الشَّرْطَ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَارَنَ الشَّرْطُ عَقْدَ الْوِلاَيَةِ أَوْ تَقَدَّمَهُ ثُمَّ وَقَعَ الْعَقْدُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ فَلاَ يَخْلُو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مِثْل أَنْ يَقُول: وَلَّيْتُكَ عَلَى أَنْ تَقْتَصَّ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَثَلاً، وَلاَ يَقْضِي فِيهِ بِقَوَدٍ وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ قَصَرَ وِلاَيَتَهُ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ نَظَرِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ، فَيَصِحَّ الْعَقْدُ، وَيَخْرُجَ الْمُسْتَثْنَى عَنْ وِلاَيَتِهِ فَلاَ يَحْكُمُ فِيهِ بِشَيْءٍ، قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُول: تَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ عُمُومًا وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، كُل هَذَا إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي الْوِلاَيَةِ، فَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَال: وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ تَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ فَالْوِلاَيَةُ صَحِيحَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَأَضَافَ ابْنُ فَرْحُونَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 407، والمادة 1810 من مجلة الأحكام العدلية.(33/300)
إِنَّ ذَلِكَ هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي قُضَاةِ الزَّمَانِ السَّابِقِ، أَمْثَال الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَعِيَاضٍ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا النَّمَطُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِذَلِكَ نُقِل عَنْ وُلاَةِ قُرْطُبَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَلَّوْا رَجُلاً الْقَضَاءَ شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَخْرُجَ عَنْ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ، وَإِنَّ سَحْنُونًا كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى مَنْ يُوَلِّيهِ الْقَضَاءَ أَنْ لاَ يَقْضِيَ إِلاَّ بِقَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ وَلاَ يَتَعَدَّى ذَلِكَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عَامًّا، بِأَنْ قَال لَهُ: لاَ تَحْكُمْ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ إِلاَّ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلاً، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَهَل يَبْطُل عَقْدُ التَّوْلِيَةِ؟ نُظِرَ، إِنْ كَانَ عَدَل عَنْ لَفْظِ الشَّرْطِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ كَقَوْلِهِ: احْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ كَقَوْلِهِ: لاَ تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: أَقِدْ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلاً، وَإِنْ قَرَنَهُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَطَل التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا، نُظِرَ، إِنْ نَهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَلاَ يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلاَ
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 22، 23، 57، 58.(33/301)
بِإِسْقَاطِهِ، فَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالتَّقْلِيدُ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ وَنَهَاهُ عَنِ الْقِصَاصِ فَفِيهِ وَجْهَانِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لاَ يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ، وَأَرْضَى لِلْخَصْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لاَ تُوجِبُهُ، لأَِنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ وَالاِجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءُ لِوَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ بِعَيْنِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (2) ، وَالْحَقُّ لاَ يَتَعَيَّنُ فِي مَذْهَبٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْحَقُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ قَلَّدَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بَطَل الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْوِلاَيَةُ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهًا آخَرَ فِي صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ. (3)
هـ - تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:
30 - يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَيَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُوَلِّيَ أَحَدَهُمْ عُقُودَ الأَْنْكِحَةِ، وَالآْخَرَ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرَ
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 96، 97، وأدب القاضي للماوردي 1 / 187. والأحكام السلطانية للماوردي ص 65.
(2) سورة ص / 26.
(3) كشاف القناع 6 / 292، 293، وشرح منتهى الإرادات 3 / 463، والمغني 9 / 106.(33/301)
النَّظَرَ فِي الْعَقَارِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا وَلَّى قَاضِيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَمَلاً وَاحِدًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَاضِيَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُمَا قَدْ يَخْتَلِفَانِ فَلاَ تَنْفَصِل الْحُكُومَةُ، وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدِ الْقَاضِيَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ لاِسْتِمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ يَسْتَمِعَ تِلْكَ الدَّعْوَى وَحْدَهُ وَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِذَا فَعَل لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ نَصْبُ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ يَحْكُمُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حُكْمِ الآْخَرِ، أَوْ قُضَاةٍ مُتَعَدِّدِينَ يَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَلَدٍ أَوْ خَاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِقْلاَل فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّشْرِيكُ فِي كُل قَضِيَّةٍ، بَل وَلَوْ كَانَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ كُل وَاحِدٍ عَلَى حُكْمِ صَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَكُونُ نِصْفَ حَاكِمٍ، وَصَرَّحَ ابْنُ فَرْحُونَ بِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِ الْوِلاَيَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا
__________
(1) روضة القضاة 1 / 75، 81، المادة (1802) من المجلة، الفتاوى الهندية 3 / 218.(33/302)
عَلَى الْحُكْمِ فِي كُل قَضِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ شُرِطَ فِي عَقْدِ وِلاَيَتِهِمَا. (1)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الأَْصَحُّ - جَوَازُ وِلاَيَةِ الْقَاضِيَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُخَصِّصِ الإِْمَامُ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَكَانٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ زَمَانٍ، وَصَحَّحَهُ الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ إِلاَّ أَنْ يُشْتَرَطَ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحُكْمِ فَلاَ يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخِلاَفِ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ، فَلاَ تَنْفَصِل الْخُصُومَاتُ وَقَالُوا: لَوْ وَلَّى الإِْمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لإِِمَامٍ وَاحِدٍ - عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ تَوْلِيَةِ الْمُقَلِّدِ - فَيَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفٍ؛ لأَِنَّ إِمَامَهُمَا وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ لإِِمَامِهِمَا قَوْلاَنِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَحْكُمُ بِأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. (2)
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَافِ الْحُكْمِ وَالْخُصُومَاتِ، لأَِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَيَرَى أَحَدُهُمَا مَا لاَ يَرَى الآْخَرُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازُ التَّوْلِيَةِ إِذَا كَانَ الْقَاضِيَانِ لاَ يَشْتَرِكَانِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا خَلِيفَتَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالإِْمَامُ أَوْلَى لأََنْ يُوَلِّيَ قَاضِيَيْنِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 134.
(2) مغني المحتاج 4 / 380.(33/302)
لأَِنَّ تَوْلِيَتَهُ أَقْوَى؛ وَلأَِنَّ كُل حَاكِمٍ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلآْخَرِ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلاَ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا خَالَفَ اجْتِهَادَهُ. (1)
وَإِذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الرَّفْعِ لأَِحَدِ الْقُضَاةِ - فِي حَال تَعَدُّدِهِمْ - فَهَل الْقَوْل لِلْمُدَّعِي أَوْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى ف 15 - 16) .
و تَعْيِينُ قَاضِي الْقُضَاةِ.
31 - نَشَأَتْ وَظِيفَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَيَّامَ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، إِذْ عُيِّنَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ - صَاحِبُ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - قَاضِيًا لِلْقُضَاةِ وَهُوَ أَوَّل مَنْ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ، فَكَانَ يُرَشِّحُ الْقُضَاةَ لِلتَّعْيِينِ فِي الْبِلاَدِ، وَيَقُومُ بِمُرَاقَبَةِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى لاَ يَتَجَاوَزُوا حُدُودَ عَمَلِهِمْ، وَلاَ يُخِلُّوا بِبَعْضِهِ، وَقَدْ كَانَ الإِْمَامُ - مِنْ قَبْل - هُوَ الَّذِي يُرَاعِي أَعْمَال الْقُضَاةِ، وَيَتَتَبَّعُ أَحْكَامَهُمْ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى السَّدَادِ، مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، وَكَانَ هَذَا الأَْمْرُ يَشُقُّ عَلَى الإِْمَامِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْدُبَ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْعَمَل، لِيَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِقَاضِي الْقُضَاةِ أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ، وَنُوَّابَهُ،
__________
(1) المغني 9 / 105، 106، وكشاف القناع 6 / 292.(33/303)
فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ، وَيُرَاعِيَ أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ (1) .
ز - آدَابُ الْقَاضِي:
32 - آدَابُ الْقَاضِي: الْتِزَامُهُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَعْوَانَهُ مِنَ الآْدَابِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَضْبِطُ أُمُورَ الْقَضَاءِ، وَتَحْفَظُ الْقَاضِيَ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْل، وَتَهْدِيهِ إِلَى بَسْطِ الْعَدْل وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَتَنْأَى بِهِ عَنْ مَوَاطِنِ التُّهَمِ وَالشُّبُهَاتِ، فَيُسَنُّ كَوْنُ الْقَاضِي قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لاَ يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلاَ يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونُ حَلِيمًا مُتَأَنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، لاَ يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلاَ يُخْدَعُ لِغَرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْل وِلاَيَتِهِ، عَفِيفًا وَرِعًا نَزِهًا، بَعِيدًا عَنِ الطَّمَعِ، صَدُوقَ الْجِهَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لاَ يَكُونُ جَبَّارًا وَلاَ عَسُوفًا، فَيَقْطَعُ ذَا الْحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ، قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الأَْلْبَابِ، لاَ يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَال: لاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُل أَنْ يَكُونَ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 396، وتبصرة الحكام 1 / 77، ومعين الحكام ص 36.(33/303)
قَاضِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ وَإِنْ أَخْطَأَتْهُ اثْنَتَانِ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَتَانِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا كَانَ قَبْلَهُ مُسْتَشِيرًا لِذِي الرَّأْيِ ذَا نَزَاهَةٍ عَنِ الطَّمَعِ حَلِيمًا عَنِ الْخَصْمِ مُحْتَمِلاً لِلاَّئِمَةِ (1) .
وَآدَابُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ، وَالأَْصْل فِيهَا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ لَمَّا وَلاَّهُ الْقَضَاءَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ وَنَصُّهُ: (2) إِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لاَ نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَقَضَائِكَ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، وَمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ بَيَّنَهُ أَعْطَيْتَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ أَعْجَزَهُ ذَلِكَ، اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ
__________
(1) قول عمر بن عبد العزيز: " لا ينبغي للرجل. . . " أخرجه البيهقي (10 / 117) .
(2) تختلف المصادر التي نقلت كتاب عمر بن الخطاب في بعض ألفاظه لكن المعالي غير متفاوتة، ويسمى هذا الكتاب سياسة القضاء، وقد شرحه ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين شرحًا وافيًا مستفيضًا.(33/304)
وَأَجْلَى لِلْعَمَاءِ (1) ، وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبٌ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينٌ (2) فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنَ الْعِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَتَرَ عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ إِلاَّ بِالْبَيِّنَاتِ وَالأَْيْمَانِ، ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ وَلاَ سُنَّةٍ، ثُمَّ قَايِسِ الأُْمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْرِفِ الأَْمْثَال، ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ فِيمَا تَرَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ، وَالتَّأَذِّيَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، (أَوِ الْخُصُومِ) (3) ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يُوجِبُ اللَّهُ بِهِ الأَْجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
__________
(1) العماء من معانيه السحاب، والضلال، والتباس الأمر، قال الكسائي: هو في عماية شديدة وعماء أي مظلم وفي الحديث: " من قاتل تحت راية عميه. . . إلخ " هو فعيلة من العماء الضلالة، وقيل فلان في عمياء إذا لم يدر وجه الحق (مقاييس اللغة لابن فارس 4 / 134) طبع عيس وفي المصادر الأخرى (أجلى للعمى) قال ابن مازه: وأما كونه أجلى للعمى فلأن قضاء بعد ذلك يكون عن بصيرة لا عن ريبة واشتباه.
(2) الظنين: المتهم.
(3) شك الراوي وهو أبو عبيد في عبارة (عند الخصومة) أو عند الخصوم.(33/304)
النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ شَانَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لاَ يَقْبَل مِنَ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِل رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (2) .
وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُل مَا شَغَل فِكْرَهُ مِنَ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ أَوْ لِشُعُورِهِ بِشِدَّةِ النُّعَاسِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ السُّرُورِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ، أَمَّا إِنِ اسْتَبَانَ لَهُ الْحَقُّ وَاتَّضَحَ الْحُكْمُ ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ قَبْل الْغَضَبِ فَلاَ يُؤَثِّرُ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 85 وما بعدها ط. دار الجيل بيروت 1973، وبدائع الصنائع للكاساني 7 / 9، وتبصرة الحكام 1 / 28، والمبسوط للسرخسي 16 / 63 مطبعة السعادة وشرح أدب القاضي للخصاف - وشرح أدب القاضي لابن مازة 1 / 227، وروضة القضاة للسمناني 4 / 1489، واستشهد الماوردي - في كتاب أدب القاضي - بفقرات عديدة منه ابتداء من 1 / 250، والبيان والتبيين 2 / 48 مطبعة لجنة التأليف والنشر، والكامل للمبرد 1 / 14، وأثر عمر بن الخطاب: " إن القضاء فريضة محكمة. . " أخرجه البيهقي (10 / 150) .
(2) حديث: " لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 136) ومسلم (3 / 1343) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة واللفظ لمسلم.(33/305)
فِيهِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تِلْكَ الأُْمُورَ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ الْحُرْمَةَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِذَا عَرَضَتْ لِلْقَاضِي حَالَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحَالاَتِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَازَ لَهُ وَقْفُ النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالاِنْصِرَافُ. (1)
ح - هَيْئَتُهُ وَزِيُّهُ:
33 - يَجْتَهِدُ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيل الْهَيْئَةِ ظَاهِرَ الأُْبَّهَةِ وَقُورَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ، حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ، مُحْتَرِزًا فِي كَلاَمِهِ عَنِ الْفُضُول وَمَا لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ بِهِ، وَيَكُونَ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا وَيَلْبَسَ مَا يَحْسُنُ مِنَ الزِّيِّ وَيَلِيقُ بِهِ، وَيَكُونَ ذَا سَمْتٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلاَ إِعْجَابٍ بِنَفْسِهِ. (2)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ، بِأَخْذِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 9، وشرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1 / 340 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 205، وتبصرة الحكام 1 / 35، ومغني المحتاج 4 / 391 وما بعدها. وروضة الطالبين 11 / 139 - 143، وأدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 114، وشرح منتهى الإرادات 3 / 471، وكشاف القناع 6 / 316.
(2) بدائع الصنائع 7 / 9 - 10، وتبصرة الحكام 1 / 29.(33/305)
شَعْرِهِ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ، وَإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْمَكْرُوهَةِ مِنْ بَدَنِهِ وَيَسْتَعْمِل مِنَ الطِّيبِ مَا يَخْفَى لَوْنُهُ، وَتَظْهَرَ رَائِحَتُهُ (1) .
ط - مُشَارَكَتُهُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ الْعَامَّةِ:
34 - يُسَنُّ لَهُ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ عَامَّةٍ كَوَلِيمَةِ عُرْسٍ وَخِتَانٍ؛ لأَِنَّ إِجَابَتَهَا سُنَّةٌ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهَا، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَحْضُرُهَا إِلاَّ إِذَا شَغَلَتْهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُهْمَةَ فِيهِ. (2)
وَلاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لأَِنَّهَا جُعِلَتْ لأَِجْلِهِ، وَالْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي لاَ يَتَّخِذُهَا صَاحِبُهَا لَوْلاَ حُضُورُ الْقَاضِي، وَقِيل: كُل دَعْوَةٍ اتُّخِذَتْ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ فَهِيَ خَاصَّةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْقَرِيبِ، وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ يُجِيبُ لأَِنَّ إِجَابَةَ دَعْوَةِ الْقَرِيبِ صِلَةٌ لِلرَّحِمِ، وَإِنَّمَا لاَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهَدِيَّةِ. (3)
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 243، وروضة الطالبين 11 / 132، وكشاف القناع 6 / 311.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 114، 115، وبدائع الصنائع 7 / 10، وتبصرة الحكام 1 / 31، والمغني 9 / 79، 80.
(3) المراجع السابقة.(33/306)
وَلِلْقَاضِي زِيَارَةُ الأَْهْل وَالصَّالِحِينَ وَالإِْخْوَانِ وَتَوْدِيعُ الْغَازِي وَالْحَاجِّ لأَِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَقَدْ وَعَدَ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا عَظِيمًا فَيَدْخُل الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْفَصْل بَيْنَ الْخُصُومِ وَمُبَاشَرَةِ الْحُكْمِ أَوْلَى (1) .
ي - الْهَدِيَّةُ لِلْقَاضِي:
35 - يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي قَبُول الْهَدِيَّةِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
أَمَّا مَنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ قَرَابَتِهِ أَوْ صُحْبَتِهِ أَوْ جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ قَبْل الْقَضَاءِ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبُول، وَالأَْوْلَى إِنْ قَبِل الْهَدِيَّةَ - مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - أَنْ يُعَوِّضَ الْمُهْدِيَ عَنْهَا، وَيَحْسُنُ بِهِ سَدُّ بَابِ قَبُول الْهَدَايَا مِنْ كُل أَحَدٍ؛ لأَِنَّ الْهَدِيَّةَ تُورِثُ إِدْلاَل الْمُهْدِي وَإِغْضَاءَ الْمُهْدَى إِلَيْهِ، إِلاَّ الْهَدِيَّةُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ - مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ خُصُومَةٌ - فَالأَْوْلَى قَبُولُهَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ؛ وَلأَِنَّ فِي رَدِّهَا قَطِيعَةً لِلرَّحِمِ وَهِيَ حَرَامٌ.
36 - وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فَحَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ لِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ (2) ،
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 178، وكشاف القناع 6 / 318.
(2) حديث: " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم ". أخرجه الترمذي (3 / 613) من حديث أبي هريرة، وقال: حسن صحيح.(33/306)
وَإِذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ، وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ (1) ، وَإِنِ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ: فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوِ ارْتَشَى بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَرَدَّ مَا قَبَضَهُ الْمُرْتَشِي (2) .
ك - مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:
37 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي لَهُ مَجْلِسًا فَسِيحًا بَارِزًا مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ لاَئِقًا بِالْوَقْتِ وَالْقَضَاءِ، وَيَكُونُ مَصُونًا أَيْضًا مِنْ كُل مَا يُؤْذِي مِنَ الرَّوَائِحِ وَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ، كَأَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ دَارًا وَاسِعَةً وَسَطَ الْبَلَدِ إِنْ أَمْكَنَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْسَعَ عَلَى الْخُصُومِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْعَدْل.
الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ:
38 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ لِلنَّاسِ، وَأَسْهَل عَلَيْهِمْ لِلدُّخُول عَلَيْهِ وَأَجْدَرُ أَنْ لاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 9، 10، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 178، وروضة القضاة 1 / 88، والشرح الصغير 4 / 192، والقوانين الفقهية ص 196، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 114، وروضة الطالبين 11 / 142، 343، ومغني المحتاج 4 / 392، وشرح منتهى الإرادات 3 / 471، وكشاف القناع 6 / 316.
(2) تبيين الحقائق 4 / 175.(33/307)
يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لأَِنَّهُ أَشْهَرُ الْمَوَاضِعِ وَلاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ وَلاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ (1) .
وَاحْتَجُّوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَاتُ طَرِيقَتَيْنِ:
الأُْولَى لِمَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ: اسْتِحْبَابُ الْجُلُوسِ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ وَكَرَاهَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَصِل إِلَيْهِ الْكَافِرُ وَالْحَائِضُ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِحْبَابُ جُلُوسِهِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ ظَاهِرُ قَوْل الْمُدَوَّنَةِ " وَالْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحَقِّ وَالأَْمْرِ الْقَدِيمِ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (2) ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ مَا فِي الْوَاضِحَةِ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهِيَةَ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي لاَ يَخْلُو عَنِ اللَّغَطِ وَارْتِفَاعِ الأَْصْوَاتِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ الْمَجَانِينِ وَالصِّغَارِ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ
__________
(1) معين الحكام ص 20، وتبصرة الحكام 1 / 34، وشرح منتهى الإرادات 3 / 469، وبدائع الصنائع 7 / 13، وكشاف القناع 6 / 312.
(2) سورة ص / 21.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 137، والمدونة 5 / 144.(33/307)
عَمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ أُولَئِكَ مِنْ أُمُورٍ فِيهَا مَهَانَةٌ بِهِ، أَمَّا إِذَا صَادَفَ وَقْتُ حُضُورِ الْقَاضِي إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا رَفْعَ الْخُصُومَةَ إِلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ بِفَصْلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ خُلَفَائِهِ فِي الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. (1)
ل - وَقْتُ عَمَلِهِ وَوَقْتُ رَاحَتِهِ:
39 - لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ الَّتِي تُصْلِحُهُ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا فِي كُل الأَْيَّامِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ قَضَائِهِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَطَّلِعَ إِلَى قَرَابَتِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، وَيَتَّخِذَ لِجُلُوسِهِ وَقْتًا مَعْلُومًا لاَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّامًا لِلْقَضَاءِ يَحْضُرُ فِيهَا النَّاسُ وَيَعْرِفُونَهُ بِهَا، فَيُقْصَدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَرْفُ زَمَانِهِ أَجْمَعَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الطَّرِيقِ إِلاَّ فِي أَمْرٍ اسْتُغِيثَ بِهِ فِيهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَيَسْجُنَ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْفَاصِل فَلاَ، وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ فِي الْعِيدَيْنِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالأَْيَّامِ الَّتِي تَكُونُ لِلنَّاسِ أَيَّامَ سُرُورٍ أَوْ حُزْنٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَثُرَ الْوَحْل وَالْمَطَرُ، قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَا لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَوَاتَ، وَمَا لاَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 390، 391.(33/308)
يَسَعُهُ إِلاَّ تَعْجِيل النَّظَرِ فِيهِ.
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ جُلُوسُهُ فِي سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ، لأَِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ. (1)
م - كَرَاهِيَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ:
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ إِلاَّ بِوَكِيلٍ لاَ يُعْرَفُ بِهِ لِئَلاَّ يُحَابَى، وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وَلاَ لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ، لِحَدِيثِ أَبِي الأَْسْوَدِ الْمَالِكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: مَا عَدَل وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ (2) ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ أَمْ فِي دَارِهِ، لَكِنْ إِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوِ اشْتَرَى فَلاَ يُرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الإِْكْرَاهِ، أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيُرَدُّ الْبَيْعُ وَالاِبْتِيَاعُ.
وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَكِيل الْقَاضِي مَعْرُوفًا لأَِنَّهُ يُفْعَل مَعَ وَكِيلِهِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ مَا يُفْعَل مَعَهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَصْرَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى حُصُول الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 35، 36، وبدائع الصناع 7 / 13، وروضة القضاة 1 / 161.
(2) حديث: " ما عدل وال اتجر في رعيته ". أورده ابن حجر في المطالب العالية (2 / 234) وعزاه لأحمد بن منيع، ونقل محققه عن البوصيري تضعيف أحد رواته.(33/308)
مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (1)
ن - وَاجِبُ الْقَاضِي تِجَاهَ الْخُصُومِ:
41 - يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ، فَيُجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلاَ عَنْ يَسَارِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ فَعَل فَقَدْ قَرَّبَ أَحَدَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ، وَلأَِنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلاً عَنِ الْيَسَارِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ فَلاَ يَنْطَلِقَ بِوَجْهِهِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلاَ يُسَارَّ أَحَدَهُمَا، وَلاَ يَخْلُوَ بِأَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلِهِ، وَلاَ يُضَيِّفَ أَحَدَهُمَا، فَيَعْدِل بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي هَذَا كُلِّهِ، لِمَا فِي تَرْكِ الْعَدْل فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الآْخَرِ، وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ فِي الْخُصُومَاتِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْتَجِبَ إِلاَّ فِي أَوْقَاتِ الاِسْتِرَاحَةِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لأَِحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ وَلاَ مِنْ مَوْلُودِيهِ لأَِجْل التُّهْمَةِ، وَيَحْكُمَ عَلَيْهِمْ لاِرْتِفَاعِهَا، وَيَحْكُمَ لِعَدُوِّهِ، وَلاَ يَحْكُمَ عَلَيْهِ. (2)
مُعَاوِنُو الْقُضَاةِ:
42 - يَحْتَاجُ الْقَاضِي فِي عَمَلِهِ إِلَى مَنْ يُسَاعِدُهُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 471، وتبصرة الحكام 1 / 31، ومغني المحتاج 4 / 391، وأدب القضاة للحموي ص 113، ومعين الحكام ص 17، والمبسوط للسرخسي 16 / 77.
(2) بدائع الصنائع 7 / 9، والشرح الصغير 4 / 205، ومغني المحتاج 4 / 393، وشرح منتهى الإرادات 3 / 469، 473، وكشاف القناع 6 / 314.(33/309)
فِي الأَْعْمَال الْقَضَائِيَّةِ سَوَاءٌ مَا اتَّصَل مِنْهَا بِمَوْضُوعِ الْحُكْمِ الْوَاجِبِ تَطْبِيقُهُ عَلَى النَّازِلَةِ - وَهُمُ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَسْتَشِيرُهُمْ - أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْعْمَال الْمُسَاعِدَةِ مِثْل الْكَاتِبِ الَّذِي يُسَجِّل الْمَحْضَرَ، وَأَعْوَانِ الْقَاضِي وَالْحَاجِبِ، وَالْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمِ.
كَاتِبُ الْقَاضِي:
43 - يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَغَيْرَهُ؛ (1) وَلأَِنَّ الْقَاضِيَ تَكْثُرُ أَشْغَالُهُ وَيَكُونُ اهْتِمَامُهُ وَنَظَرُهُ مُتَوَجِّهًا لِمُتَابَعَةِ أَقْوَال الْخُصُومِ وَمَا يُدْلُونَ بِهِ مِنْ حُجَجٍ وَمَا يَسْتَشْهِدُونَ بِهِ مِنَ الشُّهُودِ فَيَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ يَكْتُبُ وَقَائِعَ الْخُصُومِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا عَدْلاً عَارِفًا بِكِتَابَةِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَيُسْتَحَبُّ فِقْهُهُ، وَوُفُورُ عَقْلِهِ وَجَوْدَةُ خَطِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ كَتَبَ كَلاَمَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، لِئَلاَّ يُوجِبَ حَقًّا لَمْ يَجِبْ وَلاَ يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلاَمِ لاَ يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ الْكَاتِبُ حَيْثُ يَرَى الْقَاضِي مَا يَكْتُبُ وَيَصْنَعُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الاِحْتِيَاطِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث: " استكتب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. . . " أخرجه الترمذي (5 / 67 - 68) وقال حسن صحيح.(33/309)
الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ اتِّخَاذَ الْكَاتِبِ أَمْرٌ وُجُوبِيٌّ (1) .
أَعْوَانُ الْقَاضِي:
44 - يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ أَعْوَانًا يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لأَِنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَجْلِسُ هَيْبَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَتَّخِذْ أَعْوَانًا رُبَّمَا يُسْتَخَفُّ بِالْقَاضِي فَتَذْهَبُ مَهَابَتُهُ؛ وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ الْخُصُومِ، وَالأَْعْوَانُ هُمُ الَّذِينَ يُحْضِرُونَ الْخُصُومَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَيَزْجُرُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ مِنَ الْخُصُومِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَؤُلاَءِ مِنْ ذَوِي الدِّينِ وَالأَْمَانَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ (2) .
حَاجِبُ الْقَاضِي:
45 - الْحَاجِبُ - هُنَا - مَنْ يَقُومُ بِإِدْخَال الْخُصُومِ عَلَى الْقَاضِي وَيُرَتِّبُهُمْ فَيُقَدِّمُ مَنْ حَضَرَ أَوَّلاً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا، وَيَمْنَعُ الْخُصُومَ مِنَ التَّدَافُعِ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْقَاضِي حَاجِبًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عِنْدَهُمُ الشَّرْعُ فَقَدْ اتَّخَذَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ حُجَّابًا.
__________
(1) الدسوقي 4 / 138، الشرح الصغير 4 / 202، بدائع الصنائع 7 / 12، مغني المحتاج 4 / 338، 389، المغني 9 / 72، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 109.
(2) شرح أدب القاضي - للصدر الشهيد 1 / 244، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 108.(33/310)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لاَ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْجُبُ النَّاسَ عَنِ الْوُصُول إِلَيْهِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ (1) ؛ وَلأَِنَّ حَاجِبَ الْقَاضِي رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ، وَلاَ بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِاتِّخَاذِ حَاجِبٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَفِي حَال الزَّحْمَةِ وَكَثْرَةِ النَّاسِ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا، وَعَلَّقَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ الْحَمَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لاَ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ فَسَادِ الْعَوَامِّ، وَلِكُل زَمَنٍ أَحْوَالٌ وَمَرَاسِمُ تَقْتَضِيهِ وَتُنَاسِبُهُ. . . وَكَلاَمُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ بِالْحَاجِبِ الاِحْتِجَابَ عَنِ النَّاسِ وَالاِكْتِفَاءَ بِهِ، أَوْ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنِ ارْتِشَاءِ الْحَاجِبِ (2) ، وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْحَاجِبِ وَآدَابِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَاجِب ف 9) .
__________
(1) حديث: " من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين. . " أخرجه أبو داود (3 / 357) ، والحاكم (4 / 94) من حديث أبي مريم الأزدي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) أدب القضاء للحموي ص 106، أدب القاضي للماوردي 1 / 204 طبع بغداد.(33/310)
الْمُزَكِّي:
46 - الْمُرَادُ بِالْمُزَكِّي فِي بَابِ الْقَضَاءِ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَعْدِيل الشُّهُودِ. ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَرَفَ عَدَالَةَ الشُّهُودِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَزْكِيَتِهِمْ، وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ.
وَهَل يَتَّخِذُ الْقَاضِي مُزَكِّيًا يَتَحَرَّى عَنِ الشُّهُودِ وَيَتَعَرَّفُ حَال مَنْ يَجْهَل مِنْهُمْ؟ .
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ نَوْعَانِ:
تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ، أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ، فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمَيُّزِ فِطْنَةً، فَيُوَلِّيَهُ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الشُّهُودِ سِرًّا، فَيَسْأَل ذَلِكَ الرَّجُل عَنِ الشَّاهِدِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْل مَحَلَّتِهِ وَأَهْل سُوقِهِ، وَلاَ يَنْقُل لِلْقَاضِي إِلاَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَدْلاَنِ فَأَكْثَرُ، وَالْعَدَدُ فِي الْمُزَكِّي لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالاِثْنَانِ أَحْوَطُ، وَقَال مُحَمَّدٌ: شَرْطٌ حَتَّى لاَ تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ بِقَوْل الْوَاحِدِ، وَمَنْشَأُ الْخِلاَفِ هَل هُوَ شَهَادَةٌ أَمْ إِخْبَارٌ.
أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَقَدْ قَال صَاحِبُ مُعِينِ الْحُكَّامِ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاِكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلاَنِيَةِ مِنْ فِتْنَةٍ بِسَبَبِ مَا يُلاَقِيهِ(33/311)
الْمُزَكِّي مِنْ بَلاَءٍ مِنَ الشَّاهِدِ فِي حَالَةِ تَجْرِيحِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي مُزَكُّونَ وَأَصْحَابُ مَسَائِل، فَالْمُزَكُّونَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ لِيُبَيِّنُوا حَال الشُّهُودِ، وَأَصْحَابُ الْمَسَائِل هُمُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ الْقَاضِي إِلَى الْمُزَكِّينَ لِيَبْحَثُوا وَيَسْأَلُوا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُزَكِّي وَاحِدًا بَل اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا لاَ يَقْبَل غَيْرَهُمْ لِوُجُوبِ قَبُول شَهَادَةِ مَنْ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا يُشْهِدُهُمُ النَّاسُ فَيَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ وَيَسْتَغْنِي الْقَاضِي عَنِ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ مِنْ وَجْهٍ، وَيَقُومُ هَؤُلاَءِ بِتَزْكِيَةِ مَنْ عَرَفُوا عَدَالَتَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ إِذَا شَهِدَ. (3)
الْمُتَرْجِمُ:
47 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ مُتَرْجِمًا إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ لُغَةَ الْخَصْمِ أَوِ الشَّاهِدِ، وَيَكْفِي الْمُتَرْجِمُ الْوَاحِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي
__________
(1) معين الحكام ص 104، 105، تبصرة الحكام 1 / 258، روضة القضاة 1 / 124، 125، وانظر بدائع الصنائع 7 / 10، 11.
(2) مغني المحتاج 4 / 403، الروضة 11 / 168.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 71، شرح منتهى الإرادات 3 / 472.(33/311)
رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ، قَال: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَال: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ (1) ، وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ فَأَجْزَأَ فِيهِ الْوَاحِدُ كَأَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.
وَالْقَوْل أَنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْل - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - مَحَلُّهُ إِذَا رَتَّبَهُ الْقَاضِي، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَتِّبْهُ بِأَنْ أَتَى بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ طَلَبَهُ الْقَاضِي لِلتَّبْلِيغِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ لأَِنَّهُ صَارَ كَالشَّاهِدِ، وَقَدْ حَكَى الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ مِنْ قِبَل الْقَاضِي يَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّرْجَمَةَ شَهَادَةٌ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُتَرْجِمِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَة ف 15) .
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم. . . " أخرجه الترمذي (5 / 67 - 68) وقال: حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 7 / 12، حاشية الدسوقي 4 / 139، الروضة 11 / 136، مغني المحتاج 4 / 389، المغني 9 / 100، 101.(33/312)
اسْتِخْلاَفُ الْقَاضِي:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَذِنَ لِلْقَاضِي فِي الاِسْتِخْلاَفِ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا نَهَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنَ الإِْمَامِ، فَلاَ يَمْلِكُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي تَعْيِينِ خَلَفٍ لَهُ مَتَى نَهَاهُ، كَالْوَكِيل مَعَ الْمُوَكِّل، أَمَّا إِنْ أَطْلَقَ الإِْمَامُ فَلَمْ يَأْذَنْ وَلَمْ يَنْهَ فَهُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلاَف ف 32) .
كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ:
49 - لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا وَجَبَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمٍ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حَقٍّ، وَيَكْتُبَ بِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَدْنَى وَإِلَى خَلِيفَتِهِ وَمُسْتَخْلَفِهِ.
وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَثْبُتَ بِهِ عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الأَْوَّل.
الثَّانِي: أَنْ يَقُومَ فِي تَنْفِيذِهِ وَاسْتِيفَائِهِ مَقَامَ الأَْوَّل (1) .
وَاسْتُدِل عَلَى جَوَازِ قَبُول كِتَابِ الْقَاضِي بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 2 / 95، المغني لابن قدامة 9 / 94.(33/312)
دِيَةِ زَوْجِهَا (1) ؛ وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ. (2)
الشَّهَادَةُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْبَل إِلاَّ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ يَقُولاَنِ: إِنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْنَا أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ بِخَتْمِ الْقَاضِي، وَبِمِثْل ذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ تُقْبَل وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا إِذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِي جَوْفِهِ تُقْبَل وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَوَّارٍ وَالْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَخَتْمَهُ قَبِلَهُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَالإِْصْطَخْرِيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَمَّا كِتَابُ الْقَاضِي الْمُجَرَّدُ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَلاَ أَثَرَ لَهُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالْعَمَل عِنْدَنَا الْيَوْمَ بِإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فِي الْقَدِيمِ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى الضحاك بن سفيان. . . " أخرجه الطبراني في الكبير (5 / 276) من حديث المغيرة بن شعبة، وقال الهيثمي في المجمع (4 / 230) : رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) روضة القضاة للسمناني 1 / 329، 330.(33/313)
مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْقَاضِي، وَفِي التَّنْبِيهِ لاِبْنِ الْمُنَاصِفِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - قَوْلُهُ: وَقَدِ الْتَزَمَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ بِلاَدِنَا إِجَازَةَ كُتُبِ الْقُضَاةِ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ، وَكَافَّةُ الْحُكَّامِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ وَالْتِزَامِهِ وَالْعَمَل بِهِ فِي عَامَّةِ الْجِهَاتِ لِلاِضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَلأَِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الدَّلِيل وَثُبُوتُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ كِتَابُ الْقَاضِي، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ خَطِّهِ ثُبُوتًا لاَ يَشُكُّ فِيهِ أَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ وَقَامَ مَقَامَهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْقَاضِي خَطَّ الْكَاتِبِ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَعْرِفَانِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ. (1)
وَإِذَا كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي سَارَ بِالْكِتَابِ فَلاَ يُقْبَل حَتَّى يَأْتِيَهُ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي وَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي الأَْوَّل لَزِمَ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ (2) .
اشْتِرَاطُ الْمَسَافَةِ:
51 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَسَافَةِ قَصْرٍ بَيْنَ بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، وتبصرة الحكام 2 / 9، 13، وروضة الطالبين 11 / 180، المغني 9 / 95، أدب القاضي لابن أبي الدم ص 467.
(2) تبصرة الحكام 2 / 15، 21.(33/313)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الإِْمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ مَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي الْبَعِيدُ عَنْ مَكَانِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوِ الْقَرِيبِ مِنْ مَكَانِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُقْبَل وَإِنْ كَانَا بِبَلَدٍ وَاحِدٍ إِلاَّ إِذَا بَعَثَ إِلَى الْقَاضِي الآْخَرِ لِيَحْكُمَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَ الأَْوَّل فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ قَصْرٍ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ تَضَمَّنَ الْكِتَابُ نَقْل شَهَادَةٍ فَقَطْ، سُمِعَ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَإِنْ تَضَمَّنَ ثُبُوتَ الْحَقِّ فَقَطْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ فِي الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَفِي مَسَافَةِ الْعَدْوَى خِلاَفٌ مَشْهُورٌ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْكِتَابُ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ سُمِعَ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ كَيْفَ كَانَ مُرَاسَلَةً أَوْ مُشَافَهَةً. (1)
الْحَقُّ الْمَكْتُوبُ بِهِ:
52 - كُتُبُ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ حُقُوقِ النَّاسِ: الدُّيُونُ وَالْعَقَارَاتُ وَالشَّرِكَاتُ وَالْغَصْبُ الْوَدِيعَةُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَيَّدَ الْجَوَازَ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الأَْصَحِّ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ لاَ تُقْبَل فِي الأَْعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 476، تبصرة الحكام 2 / 19، شرح منتهى الإرادات 3 / 504.(33/314)
الْحَاجَةُ إِلَى الإِْشَارَةِ إِلَيْهَا كَالْمَنْقُول مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لِعَدَمِ التَّمَيُّزِ، حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَانٍ بِجَوَازِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ فِي تِلْكَ الأَْعْيَانِ لِمَا يَجِبُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل كِتَابُ الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَلاَ الْقِصَاصِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لاَ تُقْبَل فِيهِمَا، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ لِلآْدَمِيِّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ اسْتَوْفَاهُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: يُسْتَوْفَى كَحُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ لأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقْبَل فِي الْحُقُوقِ وَالأَْحْكَامِ كُلِّهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول الْكِتَابِ فِي كُل حَقٍّ لآِدَمِيٍّ بِمَا فِي ذَلِكَ الْقَوَدُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ لاَ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلاَ يُقْبَل فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
خُصُوصُ الْكِتَابِ وَعُمُومُهُ:
53 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 7، 8، تبصرة الحكام 2 / 19، شرح منتهى الإرادات 3 / 503، أدب القاضي للماوردي 2 / 104، 105، 107.(33/314)
وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَنْ يَصِل إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَيَلْزَمُ مَنْ وَصَلَهُ قَبُولُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْكِتَابُ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، وَسَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ، وَجَبَ عَلَى كُل قَاضٍ غَيْرِهِ تَنْفِيذُهُ وَالْعَمَل بِهِ إِذَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ الْكِتَابُ وَلاَ يُقْبَل إِلاَّ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ قَدْ عَيَّنَ وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ (1) .
الْمُشَافَهَةُ:
54 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا شَافَهَ قَاضِيًا آخَرَ فِي عَمَلِهِ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ لأَِنَّ الْكِتَابَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مُشَافَهَةُ الْقَاضِي لِلْقَاضِي بِمَا حَكَمَ بِهِ الأَْوَّل عَلَى وَجْهَيْنِ، الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِيَانِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ فَيُشَافِهَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمٍ فَيَحْكُمَ الآْخَرُ بِذَلِكَ أَوْ يُنَفِّذَ الْحُكْمُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي طَرَفِ
__________
(1) ابن أبي الدم ص 474، المغني 9 / 94، تبصرة الحكام 2 / 14، 15، روضة القضاة للسمناني 1 / 342.(33/315)
عَمَلِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا أَنْهَى أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ مُشَافَهَةً مَا يُرِيدُ إِنْهَاءَهُ إِلَيْهِ، فَيَلْزَمُ الآْخَرَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ.
أَمَّا ابْنُ جُزَيٍّ فَقَدْ قَال: إِنَّ الْمُشَافَهَةَ غَيْرُ كَافِيَةٍ؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَل وِلاَيَتِهِ وَمَنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَل خِطَابُهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُتَصَوَّرُ الْمُشَافَهَةُ مِنْ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ وَقَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي غَيْرِ الْبَلَدَيْنِ وَيُخْبِرَهُ بِحُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِل الَّذِي حَكَمَ إِلَى بَلَدِ الْغَائِبِ وَيُخْبِرَهُ، فَفِي الْحَالَيْنِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ يَمْضِي حُكْمُهُ لأَِنَّ إِخْبَارَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ، كَإِخْبَارِ الْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْل.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ فِي بَلَدِ الَّذِي حَكَمَ فَيُخْبِرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَحَل وِلاَيَتِهِ، فَهَل يُمْضِيهِ؟ إِنْ قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلاَ عَلَى الأَْصَحِّ، كَمَا لَوْ قَال ذَلِكَ الْقَاضِي: سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَإِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ إِلَى مَحَل وِلاَيَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَا فِي مَحَل وِلاَيَتِهِمَا، بِأَنْ وَقَفَ كُل وَاحِدٍ فِي طَرَفِ مَحَل وِلاَيَتِهِ، وَقَال الْحَاكِمُ: حَكَمْتُ بِكَذَا فَيَجِبُ عَلَى الآْخَرِ(33/315)
إِمْضَاؤُهُ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ وَجَوَّزْنَاهُ، فَقَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَإِنَّهُ يُمْضِيهِ، وَكَذَا إِذَا قَالَهُ الْقَاضِي لِنَائِبِهِ فِي الْبَلَدِ، وَبِالْعَكْسِ، وَلَوْ خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى قَرْيَةٍ لَهُ فِيهَا نَائِبٌ فَأَخْبَرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ بِحُكْمِهِ أَمْضَاهُ الآْخَرُ؛ لأَِنَّ الْقَرْيَةَ مَحَل وِلاَيَتِهِمَا، وَلَوْ دَخَل النَّائِبُ الْبَلَدَ فَقَال لِلْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا، لَمْ يَقْبَلْهُ، وَلَوْ قَال لَهُ الْقَاضِي: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَفِي إِمْضَائِهِ إِيَّاهُ إِذَا عَادَ إِلَى قَرْيَتِهِ الْخِلاَفُ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ (1) .
تَغَيُّرُ حَال الْقَاضِي الْكَاتِبِ:
55 - إِذَا تَغَيَّرَتْ حَال الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي كِتَابِهِ وَكَانَ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ الْكِتَابُ قَبُولُهُ وَالْعَمَل بِهِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ قَبْل خُرُوجِ الْكِتَابِ مِنْ يَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِذَا مَاتَ الْقَاضِي أَوْ عُزِل قَبْل وُصُول كِتَابِهِ إِلَى الْقَاضِي الآْخَرِ، فَلاَ يُعْمَل بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُول
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 9، 13، القوانين الفقهية ص 197، روضة القضاة 1 / 347، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 479، 480، روضة الطالبين 11 / 183 - 184.(33/316)
الْكِتَابِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ (1) .
تَغَيُّرُ حَال الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ:
56 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ إِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِأَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ مَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ فِسْقٍ، فَلِمَنْ وَصَل إِلَيْهِ الْكِتَابُ مِمَّنْ قَامَ مَقَامَهُ قَبُول الْكِتَابِ وَالْعَمَل بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ قَاضِيَ الْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَى إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كِتَابًا فَوَصَل وَقَدْ عُزِل وَوُلِّيَ الْحَسَنُ فَعَمِل بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا الإِْشْهَادَ عَلَى الْكِتَابِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُعْمَل بِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ إِلَيْهِ (2) .
اخْتِلاَفُ الرَّأْيِ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ:
57 - إِذَا كَتَبَ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ بِكِتَابٍ فِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ لاَ يَرَى ذَلِكَ الرَّأْيَ وَلاَ يَأْخُذُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ حُكْمًا جَازَ إِنْفَاذُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 8، روضة القضاة 1 / 340، وتبصرة الحكام 2 / 17، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 480، المغني 9 / 98.
(2) روضة القضاة 1 / 340، بدائع الصنائع 7 / 8، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 482، 483، تبصرة الحكام 2 / 17، القوانين الفقهية ص 197.(33/316)
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا لَمْ يُنَفِّذْهُ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ إِنَّمَا كَتَبَ مِمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِلْخَصْمِ أَوْ بِمَا أَشْبَهَ وَلَمْ يُفَصِّل ذَلِكَ بِحُكْمِ فَلْيَعْمَل بِرَأْيِهِ الَّذِي يَخْتَارُهُ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يَعْمَل بِرَأْيِ الْكَاتِبِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي الأَْوَّل مِمَّا لاَ يَرَاهُ هُوَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ لاِعْتِقَادِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْقِضَهُ؛ لاِحْتِمَالِهِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَطْلُوبَ بِأَدَائِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الطَّالِبَ مِنْهُ؛ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِهِ. (1)
رِزْقُ الْقَاضِي:
58 - الْقَاضِي مِنْ عُمَّال الْمُسْلِمِينَ وَأَجَل عُمَّالِهِمْ، وَهُوَ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُطْلِقَ الإِْمَامُ لِلْقَاضِي مِنَ الرِّزْقِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال حَتَّى لاَ يَلْزَمَهُ مَئُونَةٌ وَكُلْفَةٌ، وَأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ، كَيْ لاَ يَطْمَعَ فِي أَمْوَال النَّاسِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إِلَى مَكَّةَ وَوَلاَّهُ أَمْرَهَا رَزَقَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُل عَامٍ (2) ،
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 13، 14، روضة القضاة 1 / 343، أدب القاضي للماوردي 2 / 129، شرح منتهى الإرادات 3 / 501.
(2) حديث: " بعثه صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد إلى مكة. . . " ذكره السمناني في روضة القضاة (1 / 86) ولم يعزه إلى أي مصدر ولم نهتد إلى من أخرجه بتمامه، وذكر شطر توليته ابن كثير في السيرة النبوية (3 / 615) .(33/317)
وَكَذَلِكَ فَرَضَ الصَّحَابَةُ لِلْقُضَاةِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الشَّامِ أَنِ انْظُرُوا رِجَالاً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّالِحِينَ مِنْ قِبَلِكُمْ فَاسْتَعْمِلُوهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَوْسِعُوا عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ لِيَكُونَ لَهُمْ قُوَّةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ الْقَاضِي لِلرِّزْقِ هُوَ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ فَقِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَحِل لَهُ الأَْخْذُ لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَهُ فِيهِ، وَقَال آخَرُونَ: يَحِل لَهُ الأَْخْذُ وَالأَْفْضَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، أَمَّا الْحِل فَلأَِنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ عَلَيْهِمْ لاَ مِنْ طَرِيقِ الأَْجْرِ، وَأَمَّا الأَْفْضَلِيَّةُ فَلأَِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ قَاضٍ مُحْتَاجٌ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ سُنَّةً وَرَسْمًا فَيَمْتَنِعُ وَلِيُّ الأَْمْرِ عَنْ إِعْطَائِهِ، فَكَانَ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الأَْخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَكَانَ الأَْفْضَل هُوَ الأَْخْذَ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَعِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ عَنِ الاِرْتِزَاقِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّاشِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَال: يَجُوزُ لِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَهُ
__________
(1) روضة القضاة 1 / 85، بدائع الصنائع 7 / 13، 14 طبع الجمالية سنة 1328هـ، حاشية ابن عابدين 3 / 280.(33/317)
كِفَايَةٌ أَخْذُ الرِّزْقِ، أَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الرِّزْقِ فَلَهُ الأَْخْذُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَ شَيْئًا.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل مِنَ بَيْتِ الْمَال شَيْئًا مِنْ رِزْقِ الْقَاضِي لِثَمَنِ وَرَقِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَأُجْرَةِ الْكَاتِبِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي طَلَبَ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِنَفْسِهِ وَأُمَنَائِهِ وَخُلَفَائِهِ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا لأَِنَّ عُمَرَ رَزَقَ شُرَيْحًا فِي كُل شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَفَرَضَ لِزَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِفَرْضِ الرِّزْقِ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ فَرْضُ الرِّزْقِ لَتَعَطَّلَتْ وَضَاعَتِ الْحُقُوقُ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الرِّزْقِ مَعَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ بِكُل حَالٍ لأَِنَّ عُمَرَ فَرَضَ الرِّزْقَ لِقُضَاتِهِ وَأَمَرَ بِفَرْضِ الرِّزْقِ لِمَنْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ (2) .
اشْتِرَاطُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ:
59 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 30، روضة الطالبين 11 / 137، أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 101، 102.
(2) كشاف القناع 6 / 290، المغني لابن قدامة 9 / 37.(33/318)
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ، قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَنْبَغِي لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي أَهْل الْقُرْبَةِ فَأَشْبَهَ الصَّلاَةَ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَعْمَلُهُ الإِْنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلأَِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي رِزْقٌ فَقَال لِلْخَصْمَيْنِ: لاَ أَقْضِي بَيْنَكُمَا حَتَّى تَجْعَلاَ لِي رِزْقًا عَلَيْهِ، جَازَ، وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَجُوزَ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَفَصَّل الْمَاوَرْدِيُّ الْكَلاَمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا خُلاَصَتُهُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الرِّزْقِ وَعَمَلُهُ يَقْطَعُهُ عَنِ اكْتِسَابِ الْمَال فَيَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَ الْخَصْمَيْنِ قَبْل التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا مَعًا، لاَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ لاَ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَلاَ يَضُرُّ بِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَشْهُورًا يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ الْخُصُومِ مَا لَمْ يَطُل زَمَنُ خُصُومَةِ الْخَصْمَيْنِ عَمَّا سِوَاهَا. (1)
التَّفْتِيشُ عَلَى أَعْمَال الْقُضَاةِ:
60 - يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَال الْقُضَاةِ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 282 - 283، روضة الطالبين 11 / 137، وانظر روضة القضاة 1 / 132، أدب القاضي للماوردي 2 / 299، المغني 9 / 37، 38.(33/318)
فَإِنَّهُمْ قِوَامُ أَمْرِهِ، وَرَأْسُ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَ قُضَاتَهُ وَنُوَّابَهُ فَيَتَصَفَّحَ أَقْضِيَتَهُمْ، وَيُرَاعِيَ أُمُورَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي النَّاسِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَأْخِيرُ الْخُصُومِ إِذَا تَنَازَعُوا إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، وَيَأْثَمُ إِذَا أَخَّرَ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ بِدُونِ وَجْهِ حَقٍّ، وَيُعَزَّرُ وَيُعْزَل، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَأْخِيرُ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الرِّيبَةِ، وَلِرَجَاءِ صُلْحِ الأَْقَارِبِ، وَإِذَا اسْتَمْهَل الْمُدَّعِي وَكَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي حَالَةِ تَقْدِيمِ دَفْعٍ صَحِيحٍ يَطْلُبُ مُهْلَةً لإِِحْضَارِ بَيِّنَتِهِ. (1)
مَسْئُولِيَّةُ الْقَاضِي:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْئُولِيَّةِ الْقَاضِي، هَل يُؤَاخَذُ بِمَا يَقَعُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَخْطَاءٍ أَمْ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ مُسَاءَلَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى يَدِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالأَْحْكَامِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، فَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لأَِنَّهُ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَل لِنَفْسِهِ بَل لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُول، فَلاَ تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ.
ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَقْضِيِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ
__________
(1) معين الحكام ص 36، رد المحتار 5 / 423، تبصرة الحكام 1 / 77.(33/319)
حُقُوقِ الْعِبَادِ، بِأَنْ كَانَ مَالاً وَهُوَ قَائِمٌ، رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلاً وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ عَيْنُ مَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَلأَِنَّ الْقَاضِيَ عَمِل لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا عَمِل لَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَل بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالطَّلاَقِ، بَطَل لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلاً، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِل الرَّدَّ فَيُرَدُّ بِخِلاَفِ الْحُدُودِ وَالْمَال الْهَالِكِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَل خَالِصًا فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ عَمَلٌ فِي الدَّعْوَى لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إِلَيْهِمْ وَهُوَ الزَّجْرُ، فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَضْمَنُ الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْجَوْرِ عَنْ عَمْدٍ وَأَقَرَّ بِهِ، فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِالْجِنَايَةِ وَالإِْتْلاَفِ، وَيُعَزَّرُ الْقَاضِي وَيُعْزَل عَنِ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي. . . " أخرجه أبو داود (3 / 822) وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53) بالانقطاع.(33/319)
الْقَضَاءِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَحَكَمَ بِمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ دُونَ الشُّهُودِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ قِصَاصَ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِمَا يَقْدَحُ فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا عُزِل الْقَاضِي فَادَّعَى أُنَاسٌ أَنَّهُ جَارَ عَلَيْهِمْ: أَنَّهُ لاَ خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَلاَ يُنْظَرُ فِيمَا قَالُوا عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يَرَى الَّذِي بَعْدَهُ جَوْرًا بَيِّنًا فَيَرُدَّهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاضِي. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ بَانَ كَوْنُهُمَا مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي نَقْضُ حُكْمِهِ، فَإِنْ كَانَ طَلاَقًا أَوْ عَقْدًا فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَقْدَ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَاتَتْ فَقَدْ مَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَتْلاً أَوْ قَطْعًا أَوْ حَدًّا اسْتُوْفِيَ وَتَعَذَّرَ التَّدَارُكُ، فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاضِي عَلَى الأَْظْهَرِ وَفِي بَيْتِ الْمَال عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْقَاضِي لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ الْبَحْثِ عَنْ حَال الشُّهُودِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلاَ عَلَى الشُّهُودِ لأَِنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَإِذَا غَرِمَتِ الْعَاقِلَةُ أَوْ بَيْتُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وابن عابدين 5 / 418، وروضة القضاة 1 / 154، 157.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 210، تبصرة الحكام 1 / 78.(33/320)
الْمَال فَهَل يَثْبُتُ الرُّجُوعُ عَلَى الشُّهُودِ، فِيهِ خِلاَفٌ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: يَرْجِعُ الْغَارِمُ عَلَى الْمُزَكِّينَ لأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى خِلاَفِ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خِلاَفُ قَوْل الشُّهُودِ وَلاَ رُجُوعَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عِنْدَ الْمَحْكُومِ لَهُ انْتُزِعَ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أُخِذَ مِنْهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ مُعْسِرًا أَوْ غَائِبًا، فَلِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي لِيَغْرَمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فِي قَوْلٍ وَمِنْ خَالِصِ مَالِهِ فِي قَوْلٍ آخَرَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بَدَل نَفْسٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِلَةِ، وَيَرْجِعُ الْقَاضِي عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا ظَفِرَ بِهِ مُوسِرًا، وَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الشُّهُودِ خِلاَفٌ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا سَبَقَ قِيل: إِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ يَتَخَيَّرُ فِي تَغْرِيمِ الْقَاضِي وَتَغْرِيمِ الْمَحْكُومِ لَهُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا حَكَمَ بِقَطْعٍ أَوْ قَتْلٍ بِمُقْتَضَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَهَرَ فِيمَا بَعْدُ عَدَمُ جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا، وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ مُخْطِئٌ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي مَحَلِّهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَال لأَِنَّهُ نَائِبٌ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 308، 309.(33/320)
لِلْمُسْلِمِينَ وَوَكِيلُهُمْ، وَخَطَأُ الْوَكِيل فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ خَطَأَ الْقَاضِي يَكْثُرُ لِكَثْرَةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَحُكُومَاتِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةٌ مُؤَجَّلَةٌ.
وَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَالٍ بِمُوجِبِ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ وَيُرَدُّ الْمَال إِنْ كَانَ قَائِمًا وَعِوَضُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي ضَمَانُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا كَانَ الشَّاهِدَانِ فَاسِقَيْنِ وَيَغْرَمُ الشُّهُودُ الْمَال (1) .
وَقَالُوا: إِنْ بَانَ خَطَأُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ - فِي إِتْلاَفٍ - بِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لاَ يَحْتَمِل التَّأْوِيل ضَمِنَ الْقَاضِي مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ (2) .
انْتِهَاءُ وِلاَيَةِ الْقَاضِي:
62 - تَنْتَهِي وِلاَيَةُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ عَزْلِهِ، أَوِ اعْتِزَالِهِ الْقَضَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ بِمَوْتِهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْعَزِل بِعَزْل الإِْمَامِ وَلاَ بِمَوْتِهِ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَضَاءِ بِكُل مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيل عَنِ الْوَكَالَةِ، لاَ يَخْتَلِفَانِ إِلاَّ فِي شَيْءٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 255 - 257.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 502.(33/321)
وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّل إِذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِل الْوَكِيل، وَالْخَلِيفَةُ إِذَا مَاتَ أَوْ خَلُعَ لاَ تَنْعَزِل قُضَاتُهُ وَوُلاَتُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْوَكِيل يَعْمَل بِوِلاَيَةِ الْمُوَكِّل وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلاَيَةِ فَيَنْعَزِل الْوَكِيل، وَالْقَاضِي لاَ يَعْمَل بِوِلاَيَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ، بَل بِوِلاَيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُول عَنْهُمْ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، وَوِلاَيَةُ الْمُسْلِمِينَ - بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ - بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلاَيَتِهِ.
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ نَائِبًا عَنِ الإِْمَامِ فَلاَ يَنْعَزِل بِمَوْتِهِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا، وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ؛ وَلأَِنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الإِْمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّل مِنَ الْحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ (1) .
عَزْل الْقَاضِي:
63 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَعْزِل الْقَاضِيَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ كَفِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَضَاءِ، أَوِ اخْتَل فِيهِ بَعْضُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وروضة القضاة 1 / 32، وحاشية الدسوقي 4 / 133، 134، ومغني المحتاج 4 / 383، والمغني 9 / 103، وكشاف القناع 6 / 253.(33/321)
شُرُوطِهِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ عَزْلِهِ لِلْقَاضِي دُونَ مُوجِبٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا عَزَل الْقَاضِيَ وَقَعَ الْعَزْل، لَكِنَّ الأَْوْلَى عَدَمُ عَزْلِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَلَوْ عَزَلَهُ دُونَ عُذْرٍ فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لإِِثْمٍ عَظِيمٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْعَزْل بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " لأََعْزِلَنَّ أَبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَّ رَجُلاً إِذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرِقَهُ (1) ، فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ، وَوَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا الأَْسْوَدِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ عَزْل الإِْمَامِ لِلْقَاضِي لَيْسَ بِعَزْلٍ لَهُ حَقِيقَةً، بَل بِعَزْل الْعَامَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الاِسْتِبْدَال دَلاَلَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلاَيَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْل أَيْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْل وَالْمَوْتِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْل نَائِبِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ لأَِنَّهُ نَائِبُ الإِْمَامِ، فَلاَ يَنْعَزِل بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِاسْتِبْدَال مَنْ يَشَاءُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَزْلاً مِنَ الْخَلِيفَةِ لاَ مِنَ الْقَاضِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ فَلِلإِْمَامِ عَزْلُهُ، قَال فِي الْوَسِيطِ: وَيَكْفِي فِيهِ
__________
(1) أثر عمر " لأعزلن أبا مريم. . . " أخرجه البيهقي (10 / 108) .(33/322)
غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ خَلَلٌ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِل، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَل الْمَفْضُول بِالْعَزْل، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعُزْلَةِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلِلإِْمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ نَفَذَ عَلَى الأَْصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْل فِي مَحَل النَّظَرِ، وَاحْتَمَل أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَى الإِْمَامِ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَل هِيَ عَزْلٌ لِلأَْوَّل؟ وَجْهَانِ وَلِيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ (1) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَنْعَزِل بِعَزْل الإِْمَامِ دُونَ مُوجِبٍ لأَِنَّ عَقْدَهُ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَمْلِكُ عَزْلَهُ مَعَ سَدَادِ حَالِهِ، وَنَقَل الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْل بِأَنَّ الإِْمَامَ لَيْسَ لَهُ عَزْل الْقَاضِي مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الشَّرَائِطِ لأَِنَّهُ بِالْوِلاَيَةِ يَصِيرُ نَاظِرًا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 16، وحاشية الدسوقي 4 / 133، 134، 137، ومغني المحتاج 4 / 383، وأدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 93، 94، وأدب القاضي للماوردي 1 / 180، والمغني لابن قدامة 9 / 100، 103، وكشاف القناع 6 / 293، 294، وروضة الطالبين 11 / 126.(33/322)
لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيل الْمَصْلَحَةِ لاَ عَنِ الإِْمَامِ، وَيُفَارِقُ الْمُوَكِّل، فَإِنَّ لَهُ عَزْل وَكِيلِهِ لأَِنَّهُ يَنْظُرُ فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ خَاصَّةً. (1)
وَهَل يَنْعَزِل الْقَاضِي إِذَا كَثُرَتِ الشَّكْوَى عَلَيْهِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الأَْوَّل: وُجُوبُ عَزْلِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْقَضَاءِ، وَهُوَ مَا قَال بِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (2) .
الثَّانِي: جَوَازُ عَزْلِهِ، فَإِذَا حَصَل ظَنٌّ غَالِبٌ لِلإِْمَامِ بِصِحَّةِ الشَّكَاوَى جَازَ لَهُ عَزْلُهُ وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَزَل إِمَامًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ وَقَال: لاَ يُصَلِّي لَكُمْ (4) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَازَ عَزْل إِمَامِ الصَّلاَةِ لِخَلَلٍ جَازَ عَزْل الْقَاضِي مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيل، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، إِنِ اشْتَهَرَ بِالْعَدَالَةِ، قَال مُطَرِّفٌ: لاَ يَجِبُ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 49.
(2) مغني المحتاج 4 / 381.
(3) المرجع السابق.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزل إمامًا. . . " أخرجه أبو داود (1 / 324) من حديث السائب بن خلاد، وصححه ابن حبان (4 / 516) .(33/323)
عَلَى الإِْمَامِ عَزْلُهُ وَإِنْ وَجَدَ عِوَضًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي عَزْلِهِ إِفْسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ، وَقَال أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إِذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلاً؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِصْلاَحًا لِلنَّاسِ، يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنِ اسْتِيلاَءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَلْيَعْزِلْهُ إِذَا وَجَدَ بَدَلاً مِنْهُ وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَلاً مِنْهُ كَشَفَ عَنْ حَالِهِ وَصِحَّةِ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ يَسْتَفْسِرُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْل بَلَدِهِ فَإِنْ صَدَّقُوا ذَلِكَ عَزْلَهُ، وَإِنْ قَال أَهْل بَلَدِهِ: مَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا، أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَ رَدَّهُ وَأَوَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ خَطَأً لاَ جَوْرًا. (1)
إِنْكَارُ كَوْنِهِ قَاضِيًا:
64 - وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْقَاضِي نَفْسِهِ أَوْ مِنَ الإِْمَامِ.
فَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْقَاضِي وَلَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَهُ لِغَرَضٍ مِنَ الأَْغْرَاضِ أَوْ لِحِكْمَةٍ فِي إِخْفَاءِ شَخْصِيَّتِهِ فَقَدْ نَقَل الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ يَنْعَزِل عَنِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ وَقَعَ الإِْنْكَارُ مِنَ الإِْمَامِ لَمْ يَنْعَزِل. (2)
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 62.
(2) مغني المحتاج 4 / 380.(33/323)
طُرُوءُ مَا يُوجِبُ الْعَزْل:
65 - إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي مِنَ الأَْحْوَال مَا يَفْقِدُهُ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَوْ كَانَ عَلَيْهَا قَبْل تَعْيِينِهِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ - كَالْجُنُونِ وَالْخَرَسِ وَالْفِسْقِ - فَهَل تَبْطُل وِلاَيَتُهُ؟ أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ عَزْل الإِْمَامِ لَهُ؟ .
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ، قَوْلٌ: يَنْعَزِل بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ مَا يُوجِبُ الْعَزْل، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: لاَ يَنْعَزِل حَتَّى يَعْزِلَهُ الإِْمَامُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءً كَالْجُنُونِ وَالْفِسْقِ يَمْنَعُهَا دَوَامًا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الأَْعْمَى الَّذِي عَادَ بَصَرُهُ وَقَالُوا: لاَ يَنْعَزِل لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بِعَوْدَةِ بَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَزِل.
وَأَمَّا غَيْرُ الأَْعْمَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلَيْنِ، الأَْصَحُّ مِنْهُمَا لَمْ تَعُدْ وِلاَيَتُهُ بِلاَ تَوْلِيَةٍ كَالْوَكَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَطَل لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ.
وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الإِْغْمَاءِ (1) .
__________
(1) روضة القضاة 1 / 148، وبدائع الصنائع 7 / 1716، وتبصرة الحكام 1 / 78، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 73، ومغني المحتاج 4 / 380، 381، والروضة 11 / 126، وشرح منتهى الإرادات 3 / 465.(33/324)
نَفَاذُ الْعَزْل:
66 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا عَزَل الْقَاضِيَ فَأَحْكَامُهُ نَافِذَةٌ، وَقَضَايَاهُ مَاضِيَةٌ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْعَزْل، فَعِلْمُهُ بِذَلِكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ عَزْلِهِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِ عَزْلِهِ - وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ قَضَايَا النَّاسِ وَأَحْكَامِهِ بِهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ مِنْ وُجُوبِ نَفَاذِ أَحْكَامِهِ حَتَّى يَصِلَهُ عِلْمُ الْعَزْل، وَلِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ (1) .
عَزْل الْقَاضِي نَفْسَهُ:
67 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْعَزِل إِذَا عَزَل نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِعَزْل الْوَكِيل، وَقَيَّدَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يُلْزَمْ بِقَبُول الْقَضَاءِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ اخْتِيَارًا لاَ عَجْزًا وَلاَ لِعُذْرٍ فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ
__________
(1) روضة القضاة 1 / 32، وحاشية الدسوقي 4 / 133، 134، وتبصرة الحكام 1 / 78، والروضة 11 / 126، ومغني المحتاج 4 / 382، وكشاف القناع 6 / 293، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464.
(2) روضة القضاة 1 / 149 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، وكشاف القناع 6 / 294.(33/324)
يُلْتَفَتَ فِي عَزْلِهِ نَفْسَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ تَعَلَّقَ لأَِحَدٍ حَقٌّ بِقَضَائِهِ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْعِزَالُهُ ضَرَرًا لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَعْتَزِل الْقَاضِي الْقَضَاءَ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَلَوْ عَزَل الْقَاضِي نَفْسَهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْعَزِل، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ هَل يَنْعَزِل؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، قَال النَّوَوِيُّ: لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ كَالْوَكِيل، وَنَقَل عَنِ الإِْقْنَاعِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّهُ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ لاَ يَنْعَزِل إِلاَّ بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ:
68 - تَتَرَتَّبُ عَلَى مَوْتِ الْقَاضِي وَعَزْلِهِ وَاعْتِزَالِهِ الأُْمُورُ التَّالِيَةُ:
أ - انْتِهَاءُ وِلاَيَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِصِحَّةِ عَزْلِهِ - أَنْ يَنْظُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا عَزَل نَفْسَهُ، أَمَّا أَحْكَامُهُ الَّتِي صَدَرَتْ أَثْنَاءَ وِلاَيَتِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ إِذَا كَانَتْ مُوَثَّقَةً فِي سِجِلٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ (3) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 78.
(2) أدب القاضي للماوردي 1 / 180، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 93، 94، وروضة الطالبين 11 / 127.
(3) روضة القضاة للسمناني 1 / 32، 153، وشرح أدب القاضي للخصاف 3 / 152، ومغني المحتاج 4 / 382، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464.(33/325)
ب - انْعِزَال كُل مَأْذُونٍ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَنْعَزِل كَالْوَكِيل، وَالثَّانِي: لاَ، لِلْحَاجَةِ، وَأَصَحُّهَا: يَنْعَزِل إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي الاِسْتِخْلاَفِ، لأَِنَّ الاِسْتِخْلاَفَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِزَوَال وِلاَيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَزِل (1) .
ج - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّامَ عَلَى الأَْيْتَامِ وَالأَْوْقَافِ لاَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ خِلاَفًا لِلْغَزَالِيِّ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَالْخُلَفَاءِ (2) .
د - فِي حَالَةِ عَزْلِهِ أَوِ اسْتِقَالَتِهِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ: إِنَّنِي كُنْتُ قَدْ حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ بِكَذَا، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ إِلاَّ مَعَ آخَرَ لأَِنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ قَبُول قَوْلِهِ لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَخْبَرَ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ كَحَال وِلاَيَتِهِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 324، وحاشية الدسوقي 4 / 133، وتبصرة الحكام 1 / 43، وشرح منتهى الإرادات 3 / 464، ومغني المحتاج 4 / 383.
(2) روضة الطالبين 11 / 127.
(3) فتح القدير لابن الهمام 5 / 463، وروضة القضاة 1 / 155، وحاشية الدسوقي 4 / 133، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 77، والروضة للنووي 11 / 127، 128، وشرح منتهى الإرادات 3 / 480، والمغني لابن قدامة 9 / 101، 102.(33/325)
هـ - أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي الَّذِي عُزِل أَوِ اعْتَزَل بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ سِجِلاَّتٍ وَمَحَاضِرَ وَصُكُوكٍ وَوَدَائِعَ وَأَمْوَالٍ لِلأَْيْتَامِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ عَمَلِهِ، فَلَزِمَ تَسْلِيمُهَا لِلْقَاضِي الْمُعَيَّنِ بَدَلاً عَنْهُ. (1)
ثَانِيًا: الْمَقْضِيُّ بِهِ:
69 - يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَضَى بِالإِْجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنَ الأَْحْكَامِ وَاجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذَ بِفَتْوَى الْمُفْتِي (2) ، وَلاَ يَقْضِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلاَ يَسْتَحْيِيَ مِنَ السُّؤَال لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ) .
__________
(1) شرح أدب القاضي لابن مازه 1 / 258 وما بعدها، وفتح القدير 5 / 462، وروضة القضاة 1 / 111، 112.
(2) معين الحكام ص 28، 29، وتبصرة الحكام 1 / 56، 57، والمغني لابن قدامة 9 / 50.
(3) تقدم تخريجه ف 16.(33/326)
وَأَمَّا مَا يَقَعُ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الأُْمُورِ كَالْبَيِّنَةِ وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ (إِثْبَات ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَالِثًا: الْمَقْضِيُّ لَهُ:
70 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ رَضِيَ خَصْمُهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالإِْقْرَارِ مِنْهُ بِمَا ادَّعَى خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ لِشَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ (1) .
وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِلإِْمَامِ الَّذِي قَلَّدَهُ، أَوْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَلَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَيْحًا وَخَاصَمَ عِنْدَهُ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَائِبًا عَنِ الإِْمَامِ.
وَلاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لأَِنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَصِحُّ شَاهِدًا لِمَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، فَلاَ يَصِحُّ قَاضِيًا لَهُ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ لَجَازَ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلاَ وَلاَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 82، ومعين الحكام ص 39، ومغني المحتاج 4 / 393.(33/326)
مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: يَنْفُذُ حُكْمُهُ لأَِنَّهُ حَكَمَ لِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الأَْجَانِبَ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ لِعَدُوِّهِ وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِيمَا عَدَا الْمَاوَرْدِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ جَوَّزَهُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَقْضِي لَهُ كَوَلَدِهِ، وَقَال الْقَفَّال: يَقْضِي لَهُ؛ لأَِنَّ كُل قَاضٍ وَلِيُّ الأَْيْتَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الأَْصْحَابِ وَعَلَيْهِ الْعَمَل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لاِمْرَأَتِهِ وَأُمِّهَا وَإِنْ كَانَتَا قَدْ مَاتَتَا إِذَا كَانَتِ امْرَأَتُهُ تَرِثُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلاَ لأَِجِيرِهِ الْخَاصِّ وَمَنْ يَتَعَيَّشُ بِنَفَقَتِهِ.
وَفِي قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِقَارِبِهِ الَّذِينَ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمَنْعُ لِمُحَمَّدٍ وَمُطَرِّفٍ، وَالْجَوَازُ لأَِصْبَغَ، فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْجَوَازِ الزَّوْجَةَ وَوَلَدَهُ الصَّغِيرَ وَيَتِيمَهُ الَّذِي يَلِي مَالَهُ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لاَ يَحْكُمُ لِعَمِّهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَالرَّابِعُ التَّفْرِقَةُ، فَإِنْ قَال: ثَبَتَ عِنْدِي، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَضَرَ الشُّهُودُ وَكَانَتِ الشَّهَادَةُ ظَاهِرَةً جَازَ إِلاَّ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَيَتِيمِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ يُونُسَ كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ(33/327)
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ (1) .
رَابِعًا: الْمَقْضِيُّ فِيهِ:
71 - وَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضُ كَحَدِّ الزِّنَى أَوِ الْخَمْرِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَا فِيهِ الْحَقَّانِ وَغَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، فَيَكُونُ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي تِلْكَ الْحُقُوقِ، وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِي جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ إِلاَّ فِي قَبْضِ الْخَرَاجِ، وَقَال الْقَاضِي ابْنُ سَهْلٍ: يَخْتَصُّ الْقَاضِي بِوُجُوهٍ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ وَهِيَ النَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَالأَْحْبَاسِ وَالتَّرْشِيدِ وَالتَّحْجِيرِ وَالتَّسْفِيهِ وَالْقَسْمِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنَّظَرُ لِلأَْيْتَامِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَال الْغَائِبِ وَالنَّظَرُ فِي الأَْنْسَابِ وَالْجِرَاحَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالإِْثْبَاتِ وَالتَّسْجِيل (2) ، وَلاَ يُخِل ذَلِكَ بِأَنَّ لِلإِْمَامِ حَقَّ تَقْيِيدِ الْقَاضِي زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ مَوْضُوعًا كَمَا سَبَقَ فِي (سُلْطَةُ الْقَاضِي وَاخْتِصَاصُهُ ف 26) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 65 ط. دار الكتب العلمية. وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 195، والروضة 11 / 145، 146، والمغني لابن قدامة 9 / 107، وكشاف القناع 6 / 320، ومعين الحكام ص 39، ومجلة الأحكام العدلية المادة 1808.
(2) ابن عابدين 5 / 353، ومعين الحكام ص 40، وتبصرة الحكام 1 / 66.(33/327)
خَامِسًا: الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ:
72 - الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ هُوَ كُل مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِحُكْمِ الْقَاضِي، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرِيبَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْحُضُورِ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ فِي غِيَابِهِ؛ لأَِنَّهُ أَمْكَنَ سُؤَالُهُ فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْل سُؤَالِهِ كَحَاضِرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (دَعْوَى ف 59 - 61) .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ بِشُرُوطٍ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:
73 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ وَلاَ لَهُ إِلاَّ بِحُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ - أَيْ بِالْبَيِّنَةِ - سَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا وَقْتَ الشَّهَادَةِ أَمْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَمْ عَنِ الْبَلَدِ.
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَيُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الإِْقْرَارِ؛ وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ بِالإِْقْرَارِ قَضَاءُ إِعَانَةٍ، وَاذَا أَنْفَذَ الْقَاضِي إِقْرَارَهُ سَلَّمَ إِلَى الْمُدَّعِي
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 335، 336.(33/328)
حَقَّهُ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا أَوْ عَقَارًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّيْنِ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ جِنْسَ حَقِّهِ إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ مَنْ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَنَّهُ مَال الْغَائِبِ الْمُقِرِّ، وَلاَ يَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْعَرْضَ وَالْعَقَارَ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمَيْنِ حِينَ الْحُكْمِ. . . وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى الآْخَرِ شَيْئًا فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ غَابَ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْل الْحُكْمِ كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِي غِيَابِهِ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ (2) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ مَا إِذَا كَانَ نَائِبُهُ حَاضِرًا فَيَقُومُ مَقَامَ الْغَائِبِ، وَالنَّائِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ فَيَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ وَكَذَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ (3) .
وَكَمَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً يَصِحُّ فِي حُضُورِ نَائِبِهِ شَرْعًا كَوَصِيٍّ نَصَبَهُ الْقَاضِي، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا إِذَا بَرْهَنَ عَلَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ فُلاَنٍ الْغَائِبِ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 335، 336.
(2) المادة (1830) .
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 336.(33/328)
عَلَى ذِي الْيَدِ الْحَاضِرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَلَى الْغَائِبِ أَيْضًا (1) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي مُوَاجَهَةِ وَكِيلِهِ إِذَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الأَْمْرُ بِالْعَكْسِ (2) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ جِدًّا بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَذَلِكَ بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَهُمْ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَقَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ مَعَ الأَْمْنِ حُكْمُهُ كَالْحَاضِرِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةِ، وَالْغَائِبُ الْبَعِيدُ جِدًّا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي كُل شَيْءٍ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَتَزْكِيَتِهَا بِيَمِينِ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُدَّعِي، أَنَّ حَقَّهُ هَذَا ثَابِتٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ، وَلاَ وَكَّل الْغَائِبُ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ، وَلاَ أَحَالَهُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ فِي الْكُل وَلاَ الْبَعْضِ (3) .
وَالْعَشَرَةُ الأَْيَّامُ مَعَ الأَْمْنِ وَالْيَوْمَانِ مَعَ الْخَوْفِ كَذَلِكَ، أَيْ يُقْضَى عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ يَمِينِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ فَلاَ يُقْضَى بِهِ بَل تُؤَخَّرُ الدَّعْوَى حَتَّى يَقْدَمَ لِقُوَّةِ الْمُشَاحَّةِ فِي
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 336، 337.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (1831) .
(3) الشرح الصغير 4 / 231.(33/329)
الْعَقَارِ، وَيَمِينُ الْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لاَ يَتِمُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزٌ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَادَّعَى جُحُودَهُ، فَإِنْ قَال: هُوَ - أَيِ الْغَائِبُ - مُقِرٌّ، لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالأَْصَحُّ أَنَّهَا تُسْمَعُ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ حَقِّهِ فَتُجْعَل غَيْبَتُهُ كَسُكُوتِهِ، وَالثَّانِي لاَ تُسْمَعُ لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُحُودِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَهُ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ: أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ، وَلَوِ ادَّعَى وَكِيلٌ عَلَى غَائِبٍ فَلاَ تَحْلِيفَ عَلَى الْوَكِيل بَل يَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ وَيُعْطِي الْمَال الْمُدَّعَى بِهِ إِنْ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ (2) .
ثُمَّ قَالُوا: الْغَائِبُ الَّذِي تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهِيَ الَّتِي لاَ يَرْجِعُ مِنْهَا مُبَكِّرًا إِلَى مَوْضِعِهِ لَيْلاً، وَقِيل: مَسَافَةُ قَصْرٍ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِمَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ فَكَحَاضِرٍ لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ إِلاَّ لِتَوَارِيهِ أَوْ تَعَزُّزِهِ، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ إِحْضَارِهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُضُورِهِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَنِ ادَّعَى حَقًّا عَلَى
__________
(1) نفس المرجع 4 / 233.
(2) مغني المحتاج 4 / 406 - 408.
(3) مغني المحتاج 4 / 414، 415.(33/329)
غَائِبٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَطَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إِجَابَتُهُ إِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ لِحَدِيثِ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَال: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) ، فَقَضَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا (2) .
وَقَالُوا: إِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْل الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى حُضُورِهِ، فَإِنْ خَرَجَ الشُّهُودُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ الثَّابِتَةِ أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ، وَالاِحْتِيَاطُ تَحْلِيفُهُ، وَإِذَا قَضَى عَلَى الْغَائِبِ بِعَيْنٍ سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ وَوُجِدَ لَهُ مَالٌ وَفَّى مِنْهُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يُدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يُقِيمَ كَفِيلاً أَنَّهُ مَتَى حَضَرَ خَصْمُهُ وَأَبْطَل دَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَخَذَهُ (3)
ب - الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
74 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ، ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(2) كشاف القناع 6 / 353 - 355، والمغني لابن قدامة 9 / 109.
(3) المغني 9 / 110، 111، وكشاف القناع 6 / 354.(33/330)
الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَوْل بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِأَنَّهُمَا لاَ يَثْبُتَانِ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالإِْقْرَارِ خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَتَّى إِنَّ الطَّرَفَيْنِ - أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا - اشْتَرَطَا حُضُورَ الشُّهُودِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحُدُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ أَيْضًا كَحَدِّ الرَّجْمِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ، فَإِذَا غَابَ الشُّهُودُ أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَدُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ وَلأَِنَّ الشُّهُودَ إِذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمُ الْقَضَاءَ عَلَى غَائِبٍ فِي قِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْمَال، وَمَنَعُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ تَعْزِيرٍ لَهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالدَّرْءِ؛ لاِسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ حَقِّ الآْدَمِيِّ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي دَفْعِهِ وَلاَ يُوَسَّعُ بَابُهُ، وَالْقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 58، وابن عابدين 3 / 145، 146، وفتح القدير 4 / 123.
(2) مغني المحتاج 4 / 415.(33/330)
الثَّالِثُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا كَالأَْمْوَال وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلآِدَمِيٍّ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنْ يُقْضَى فِي السَّرِقَةِ بِالْمَال فَقَطْ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ (2) .
سَادِسًا: الْحُكْمُ:
75 - الْحُكْمُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْحَاكِمِ الْمُخَاصَمَةَ وَحَسْمِهِ إِيَّاهَا (3) . وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَصْل الْخُصُومَةِ (4) ، وَفِي تَعْرِيفٍ آخَرَ: الإِْعْلاَمُ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ (5) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءٌ لِلإِْلْزَامِ الشَّرْعِيِّ وَفَصْل الْخُصُومَاتِ (6) .
اشْتِرَاطُ سَبْقِ الدَّعْوَى لِلْحُكْمِ:
76 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ دَعْوَى صَحِيحَةٌ خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ (7) ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ الْقَوْلِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى، وَالْحُكْمَ الْفِعْلِيَّ لاَ يَحْتَاجُ، وَقِيل: إِنَّ الْفِعْلِيَّ لاَ يَكُونُ حُكْمًا،
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 110، 111، وكشاف القناع 6 / 354.
(3) المادة (1786) من المجلة.
(4) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لعلي بن خلف المنوفي 4 / 109 مطبعة المدني 1989.
(5) الشرح الصغير 4 / 187.
(6) كشاف القناع 6 / 285.
(7) المادة (1829) من المجلة.(33/331)
بِدَلِيل ثُبُوتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِتَزْوِيجِ الْقَاضِي عَلَى الأَْصَحِّ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَضَاءِ الضِّمْنِيِّ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَى خَصْمٍ بِحَقٍّ وَذَكَرَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَقَضَى بِذَلِكَ الْحَقِّ كَانَ قَضَاءً بِنَسَبِهِ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَادِثَةِ النَّسَبِ (1) .
سِيرَةُ الْقَاضِي فِي الأَْحْكَامِ:
77 - يَلْزَمُ الْقَاضِيَ أَنْ لاَ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ حَتَّى لاَ يَبْقَى لَهُ شَكٌّ فِي فَهْمِهِ لِمَوْضُوعِهَا، فَإِذَا أَشْكَل عَلَيْهِ أَمْرٌ تَرَكَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِصُلْحٍ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ فَلاَ يَعْدِل إِلَى الصُّلْحِ وَيَقْضِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِهِ، فَإِنْ خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الأَْمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ كَانَا مِنْ أَهْل الْفَضْل أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الأَْرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْل الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ (2) .
اسْتِشَارَةُ الْفُقَهَاءِ:
78 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ عِنْدَ اخْتِلاَفِ وُجُوهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 424.
(2) تبصرة الحكام 1 / 37 - 39، ومعين الحكام ص 21، وبدائع الصنائع 7 / 13.(33/331)
النَّظَرِ وَتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي حُكْمٍ، يُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) ، قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ تَصِيرَ سُنَّةً لِلْحُكَّامِ، وَرُوِيَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لأَِصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، وَقَدْ شَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَشَاوَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكُونُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذَا نَزَل بِهِ الأَْمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لاَ مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ لَمْ يَحْتَجِ الْقَاضِي إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.
قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا أَشْكَل الْحُكْمُ فَالْمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبَّةٌ.
وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) حديث: " ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة. . " أخرجه ابن حبان من قول الزهري وهو منقطع. (الإحسان11 / 217) .(33/332)
يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْل، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنِ الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلاَسِهِمْ عِنْدَهُ وَيُعْجِزُهُ الْكَلاَمُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلاَ يُجْلِسُهُمْ، بَل يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ إِذَا أَشْكَل عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ (1) .
وَالأَْمْرُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهِ هُوَ النَّوَازِل الْحَادِثَةُ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا قَوْلٌ لِمَتْبُوعٍ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَسَائِل الاِجْتِهَادِ، لِيَتَنَبَّهَ بِمُذَاكَرَتِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَوْضِحَ بِهِمْ طَرِيقَ الاِجْتِهَادِ، فَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ دُونَ اجْتِهَادِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُشَاوِرْ وَحَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآْثَارِ وَأَقَاوِيل النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ.
وَعَلَى هَذَا فَكُل مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ جَازَ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الأَْحْكَامِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 391، وتبصرة الحكام 1 / 37، 38، وبدائع الصنائع 7 / 11، 12، وشرح منتهى الإرادات 3 / 470، والشرح الصغير 4 / 195، والمغني لابن قدامة 9 / 51، وروضة القضاة للسمناني 1 / 107، والمبسوط 16 / 79.(33/332)
فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي (1) .
وَلِمَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفْتِي يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (فَتْوَى ف 11 - 20) .
صِيغَةُ الْحُكْمِ:
79 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَلْفَاظًا مَخْصُوصَةً وَصِيَغًا مُعَيَّنَةً لِلْحُكْمِ بَل كُل مَا دَل عَلَى الإِْلْزَامِ فَهُوَ حُكْمٌ، كَقَوْلِهِ: مَلَّكْتُ الْمُدَّعِيَ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ، أَوْ فَسَخْتُ هَذَا الْعَقْدَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ بَعْدَ حُصُول مَا يَجِبُ فِي شَأْنِ الْحُكْمِ مِنْ تَقَدُّمِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ (2) .
وَذَهَبَ شَمْسُ الإِْسْلاَمِ مَحْمُودٌ الأُْوزْجَنْدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول الْقَاضِي: قَضَيْتُ أَوْ حَكَمْتُ أَوْ أَنْفَذْتُ عَلَيْكَ الْقَضَاءَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَقُول بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَنَّ قَوْل الْقَاضِي: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ، لَيْسَ بِشَرْطٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِيغَةَ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ: حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، أَوْ
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 1 / 261 - 264.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 227، والشرح الصغير 4 / 227، والدسوقي 4 / 156، 157، وكشاف القناع 6 / 322، والمغني 9 / 75.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 227.(33/333)
أَنْفَذْتُ الْحُكْمَ بِهِ، أَوْ أَلْزَمْتُ الْخَصْمَ بِهِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَال الْقَاضِي:
ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا وَكَذَا، هَل يَكُونُ حُكْمًا؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعَدُّ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ، وَالْحُكْمُ إِلْزَامٌ.
وَذَهَبَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَاخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَفِي الْخَانِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَال: ثَبَتَ عِنْدِي، يَكْفِي، وَكَذَا: ظَهَرَ عِنْدِي، أَوْ: صَحَّ عِنْدِي، أَوْ قَال: عَلِمْتُ، فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سُئِل الْقَاضِي عَنْ حُكْمٍ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَوْ لاَ يَصِحُّ فَلاَ يَكُونُ إِفْتَاؤُهُ حُكْمًا يَرْفَعُ الْخِلاَفَ؛ لأَِنَّ الإِْفْتَاءَ إِخْبَارٌ بِالْحُكْمِ لاَ إِلْزَامٌ، أَمَّا إِذَا حَكَمَ بِفَسْخٍ أَوْ إِمْضَاءٍ فَيَكُونُ حُكْمًا (3) .
سِجِل الْحُكْمِ:
80 - إِذَا انْتَهَى الْقَاضِي مِنْ نَظَرِ الدَّعْوَى وَأَصْدَرَ حُكْمَهُ، فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ حُكْمَهُ فِي سِجِلٍّ مِنْ نُسْخَتَيْنِ يُبَيِّنُ فِيهِ مَا وَقَعَ بَيْنَ ذِي
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 350.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 227، ومعين الحكام ص 50.
(3) الشرح الصغير 4 / 227، والدسوقي 4 / 157.(33/333)
الْحَقِّ وَخَصْمِهِ، وَمُسْتَنَدَ الدَّعْوَى مِنَ الأَْدِلَّةِ وَمَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي فِيهَا، وَتُسَلَّمُ إِحْدَى النُّسَخِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ وَالأُْخْرَى تُحْفَظُ بِدِيوَانِ الْحُكْمِ مَخْتُومَةً مَكْتُوبًا عَلَيْهَا اسْمُ كُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ دُونَ طَلَبٍ (1) ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ أَنْ يُسَجَّل لَهُ الْحُكْمُ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ (2) ، وَتَفْصِيل أَحْكَامِ السِّجِل وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سِجِلّ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَنْوَاعُ الْحُكْمِ:
81 - يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ إِمَّا بِقَوْلٍ يَصْدُرُ عَنِ الْقَاضِي بَعْدَ نَظَرِ الدَّعْوَى كَقَوْلِهِ: أَلْزَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ بِكَذَا، وَإِمَّا بِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْهُ كَتَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ الصَّغِيرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ فِعْل الْقَاضِي حُكْمٌ، إِذْ يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَفْعَال الْقَاضِي مِنْ قَبِيل أَعْمَال التَّوْثِيقِ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ سَبْقُ دَعْوَى.
وَإِذَا أَصْدَرَ الْقَاضِي حُكْمَهُ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ مَوْضُوعِ النِّزَاعِ أَوْ يَحْكُمَ بِالْمُوجِبِ، وَقَدْ يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ بِالتَّرْكِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ قَصْدِيًّا أَوْ تَضَمُّنِيًّا، وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْنْوَاعِ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 351، والمادة / 1827 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) المغني 9 / 75.(33/334)
أ - الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَبِالْمُوجِبِ:
82 - عَرَّفَ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ قَابِلٍ لِقَضَائِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، أَنَّ ذَلِكَ الأَْمْرَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى وَجْهِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ.
وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلاَثَةَ أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، وَكَوْنَ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ.
وَعَرَّفَ الْبُلْقِينِيُّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ بِأَنَّهُ قَضَاءُ الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالإِْلْزَامِ، بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الأَْمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا.
وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ: أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، فَيَحْكُمُ بِمُوجِبِهِمَا (1) .
وَتُوجَدُ فُرُوقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُنْصَبٌّ إِلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ الصَّادِرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحُكْمَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 102 - 104، ومعين الحكام ص 49، 50، ومغني المحتاج 4 / 395.(33/334)
بِالْمُوجِبِ مُنْصَبٌّ إِلَى ثُبُوتِ صُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالْحُكْمَ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلاَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَنَّهُ مَالِكٌ مَثَلاً إِلَى حِينِ الْبَيْعِ أَوِ الْوَقْفِ وَلاَ بَقِيَّةِ مَا ذُكِرَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ - فِي تَعْدَادِ تِلْكَ الْفُرُوقِ وَإِيرَادِ الأَْمْثِلَةِ عَلَيْهَا، وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مَصَادِرِهِمْ (1) .
وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مُسْتَوْفِيًا لِمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَانَ أَقْوَى لِوُجُودِ الإِْلْزَامِ فِيهِ وَتَضَمُّنِهِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، مِثَال ذَلِكَ: إِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِأَنَّ هَذَا وَقْفٌ وَذَكَرُوا الْمَصْرِفَ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ، فَحَكَمَ الْقَاضِي بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُوجِبِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ (3) ، وَيَرَى ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُوجِبِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ
__________
(1) التبصرة 1 / 106، ومعين الحكام ص 50، 51، وشرح منتهى الإرادات 3 / 475، 476.
(2) التبصرة 1 / 103، ومعين الحكام ص 49.
(3) التبصرة 1 / 108، 109، ومعين الحكام ص 53، 54.(33/335)
مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ مُقْتَضَاهُ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَدُخُولُهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فِي كُلٍّ مِنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ لَكِنَّهَا مُقْتَضَيَاتٌ لاَزِمَةٌ لَهُ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا بِهَا بِخِلاَفِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ لِلْخَلِيطِ أَوْ لِلْجَارِ مَثَلاً، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْ لاَ يَسْتَلْزِمُهُ، فَكَمْ مِنْ بَيْعٍ لاَ تُطْلَبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، فَهَذَا يُسَمَّى مُوجِبَ الْبَيْعِ، وَلاَ يُسَمَّى مُقْتَضًى (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ أَنْوَاعٌ سِتَّةٌ:
الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ مَثَلاً، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِهِ، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ، وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ مَا أَشْهَدَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَأَدْنَى هَذِهِ الأَْنْوَاعِ الأَْخِيرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِتَعْدِيل الْبَيِّنَةِ، وَفَائِدَتُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَأَعْلاَهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجِبِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مِنَ الآْخَرِ، بَل يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْيَاءِ، فَفِي شَيْءٍ مِنْهَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 397.(33/335)
أَعْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ. وَفِي شَيْءٍ يَكُونُ الأَْمْرُ بِالْعَكْسِ، وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ وَعَكْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَائِمًا فَقَدْ يَتَجَرَّدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الآْخَرِ، مِثَال تَجَرُّدِ الصِّحَّةِ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ وَلاَ يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ.
وَمِثَال تَجَرُّدِ الْمُوجِبِ: الْخُلْعُ عَلَى نَحْوِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْبَيْنُونَةِ وَلُزُومِ مَهْرِ الْمِثْل فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ دُونَ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الرِّبَا وَالسَّرِقَةُ وَنَحْوُهُمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُوجِبِ دُونَ الصِّحَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ قَطْعًا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ - بِفَتْحِ الْجِيمِ - حُكْمٌ بِمُوجَبِ الدَّعْوَى الثَّابِتَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَالإِْقْرَارِ، فَالدَّعْوَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ لأَِنَّهَا مِنْ مُوجِبِهِ كَسَائِرِ آثَارِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسَعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ الصِّحَّةَ وَآثَارَهَا، وَالدَّعْوَى غَيْرُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذَلِكَ - أَيْ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ كَأَنِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ فَقَطْ - يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 394، 395.(33/336)
بِالْمُوجِبِ لَيْسَ حُكْمًا بِالصِّحَّةِ إِذْ مُوجِبُ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ حُصُول صُورَةِ بَيْعٍ بَيْنَهُمَا دُونَ أَنْ تَشْتَمِل عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مِلْكًا لِلْبَائِعِ وَلَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
ب - قَضَاءُ الاِسْتِحْقَاقِ وَالتَّرْكِ:
83 - الْمُدَّعِي إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ أَوْ مُبْطِلاً، فَإِذَا ظَهَرَ مُحِقًّا يُقْضَى لَهُ بِقَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَإِذَا ظَهَرَ مُبْطِلاً يُقْضَى بِقَضَاءِ التَّرْكِ.
فَالأَْوَّل: هُوَ إِلْزَامُ الْقَاضِي الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِكَلاَمٍ، كَقَوْلِهِ: حَكَمْتُ أَوْ أَلْزَمْتُ فَأَعْطِ الَّذِي ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ لِهَذَا الْمُدَّعِي أَوْ سَلِّمْهُ أَوِ ادْفَعِ الدَّيْنَ الَّذِي ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ.
وَيُقَال لِهَذَا الْقَضَاءِ: قَضَاءَ إِلْزَامٍ وَقَضَاءَ اسْتِحْقَاقٍ وَقَضَاءَ مِلْكٍ، وَهُوَ يَكُونُ فِي حَالَةِ ظُهُورِ حَقِّ الْمُدَّعَى عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الثَّانِي: هُوَ مَنْعُ الْقَاضِي الْمُدَّعِي عَنِ الْمُنَازَعَةِ بِكَلاَمٍ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ حَقٌّ، وَأَنْتَ مَمْنُوعٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُقَال لِهَذَا الْقَضَاءِ: قَضَاءَ التَّرْكِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ وَقَضَاءِ التَّرْكِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 475، وكشاف القناع 6 / 323.(33/336)
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي حَادِثَةٍ لاَ يَكُونُ مَقْضِيًّا لَهُ أَبَدًا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.
أَمَّا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ التَّرْكِ فِي حَادِثَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُقْضَى لَهُ إِذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، مِثَالُهُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ الْمَال الَّذِي فِي يَدِ آخَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ مَالِي، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَلَفَ الْيَمِينَ بِالطَّلَبِ، حُكِمَ عَلَى الْمُدَّعِي بِقَضَاءِ التَّرْكِ، فَإِذَا أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ يُحْكَمُ لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ ثَالِثٌ بِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ هُوَ مَالُهُ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ فِي قَضَاءِ التَّرْكِ، وَلاَ تُسْمَعُ فِي قَضَاءِ الاِسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَدَّعِ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ فَحِينَئِذٍ تُسْمَعُ (1) .
ج - الْقَضَاءُ الْقَوْلِيُّ وَالْقَضَاءُ الْفِعْلِيُّ:
84 - مَا يُصْدِرُهُ الْقَاضِي فِي حُدُودِ وِلاَيَتِهِ وَضِمْنِ اخْتِصَاصِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلِيًّا بِأَلْفَاظٍ تَدُل عَلَى الإِْلْزَامِ، كَأَلْزَمْتُ وَقَضَيْتُ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ - أَوْ تَدُل عَلَى التَّرْكِ، كَمَنَعْتُ الْمُدَّعِيَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ الْقَوْلِيُّ قَصْدِيًّا، وَيَدْخُل الضِّمْنِيُّ تَبَعًا كَمَنْ يَدَّعِي
__________
(1) المادة / 1786 من مجلة الأحكام العدلية وشرحها / علي حيدر 4 / 519، 521.(33/337)
عَلَى كَفِيلٍ بِالْمَال مُقِرٍّ بِالْكَفَالَةِ مُنْكِرٍ لِلدَّيْنِ، فَبَرْهَنَ عَلَى الْكَفِيل بِالدَّيْنِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا، كَانَ قَضَاءً عَلَيْهِ قَصْدًا، وَعَلَى الأَْصِيل الْغَائِبِ ضِمْنًا، وَيُشْتَرَطُ لِلْقَوْلِيِّ سَبْقُ الدَّعْوَى.
أَوْ يَكُونُ فِعْلاً: وَفِعْل الْقَاضِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَوَّلاً: مَا لاَ يَكُونُ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَذِنَتْهُ مُكَلَّفَةٌ بِتَزْوِيجِهَا فَزَوَّجَهَا، فَفِعْلُهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهَا.
ثَانِيًا: مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ كَتَزْوِيجِ صَغِيرَةٍ لاَ وَلِيَّ لَهَا، فَعِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَقَال آخَرُونَ: الأَْوْجَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لاِنْتِفَاءِ شَرْطِهِ أَيْ مِنَ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي الْحُكْمِ الْفِعْلِيِّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ (1) .
أَثَرُ الْحُكْمِ فِي تَحْوِيل الشَّيْءِ عَنْ صِفَتِهِ:
85 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِهِ، لاَ يُزِيل الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ، فَلاَ يُحِل الْحَرَامَ لِلْمَحْكُومِ لَهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ وَلاَ يُحَرِّمُ الْحَلاَل؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 423، 424، وكشاف القناع 6 / 322.(33/337)
الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَلَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ لَمْ يَحْصُل بِحُكْمِهِ الْحِل بَاطِنًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً أَمْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ (1) ، فَإِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ نِكَاحًا لَمْ يَحِل لِلْمَحْكُومِ لَهُ الاِسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَيْهَا الاِمْتِنَاعُ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ أُكْرِهَتْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهَا، وَالإِْثْمُ عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ فَهُوَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلنَّفَاذِ فِي الْعُقُودِ وَفِي الْفُسُوخِ كَالإِْقَالَةِ وَالطَّلاَقِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي عَالِمًا بِكَوْنِ الشُّهُودِ شُهُودَ زُورٍ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ: " شَاهِدَاكِ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 157) ومسلم (3 / 1337) من حديث أم سلمة واللفظ للبخاري.
(2) القوانين الفقهية ص 196، وحاشية الدسوقي 4 / 156، والشرح الصغير 4 / 223، ومغني المحتاج 4 / 397، والروضة 11 / 152، 153، والمغني 9 / 58، 59، وشرح منتهى الإرادات 3 / 500، وشرح المجلة لعلي حيدر 4 / 520.(33/338)
زَوَّجَاكِ (1)
أَمَّا فِي الأُْمُورِ غَيْرِ الْقَابِلَةِ لِلإِْنْشَاءِ بِسَبَبٍ كَالأَْمْلاَكِ الْمُرْسَلَةِ أَيِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَالإِْرْثِ وَالنَّسَبِ فَلاَ تَنْفُذُ بَاطِنًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لاَ يَنْفُذُ بَاطِنًا فِي دَعَاوَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ بِأَقَل مِنَ الْقِيمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ إِذَا كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ شَهَادَةَ زُورٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ عِنْدَهُ بَاطِنًا إِذَا كَانَ الْمَحَل غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّفَاذِ كَمَا إِذَا ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ فِي عِصْمَةِ آخَرَ أَوْ عِدَّتِهِ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ بِشُهُودِ زُورٍ (2) .
أَثَرُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ:
86 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ - إِلاَّ فِي مَسَائِل اسْتَثْنَوْهَا - إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَأَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَرْفَعُ الْخِلاَفَ فَيَصِيرُ الْمَقْضِيُّ بِهِ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَذَلِكَ مِثْل قَضَاءِ الْقَاضِي بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ إِذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمَقْضِيِّ لَهُ لاَ يُجِيزُهَا، فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَحِل لِلأَْخِيرِ الأَْخْذُ بِهَذِهِ الشُّفْعَةِ، وَذَهَبَ
__________
(1) أثر علي: " شاهداك زوجاك ". أورده ابن قدامة في المغني (9 / 59) ولم نهتد إليه في المراجع التي بين أيدينا.
(2) فتح القدير 5 / 492، وشرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر 4 / 605، 606، وابن عابدين 5 / 405.(33/338)
أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيُّ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ عَالِمًا بِالدَّلِيل لَمْ يَنْفُذِ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَلاَ يَحِل لَهُ أَخْذُهُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا نَفَذَ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَكَانَ لَهُ الأَْخْذُ بِهَا (1) .
نَقْضُ الْحُكْمِ:
87 - إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةٍ بِاجْتِهَادِهِ
__________
(1) ابن أبي الدم ص 169، 170، وروضة القضاة 1 / 323، وشرح منتهى الإرادات 3 / 501، والشرح الصغير 4 / 220.(33/339)
لِخُلُوِّهَا عَنْ نَصٍّ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَى حُكْمِهَا، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ يُقَارِبُ ظَنَّهُ الأَْوَّل وَيُنَاقِضُهُ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ الْوَاقِعُ عَلَى خِلاَفِ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوِ الإِْجْمَاعِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَتَفْصِيل مَا يَنْقُضُ فِيهِ الْقَاضِي حُكْمَ نَفْسِهِ أَوْ حُكْمَ غَيْرِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَقْض) (1) .
__________
(1) ابن أبي الدم ص 164، وتبصرة الحكام 1 / 70، ومعين الحكام ص 32، والمغني 9 / 56.(33/339)
قَضَاءُ الْحَاجَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْفَرَاغُ، وَمِنْهُ قَوْل الْقَائِل: قَضَيْتُ حَاجَتِي.
وَالْقَضَاءُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَطْعِ وَالْفَصْل، يُقَال: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً. إِذَا حَكَمَ وَفَصَل، وَقَضَاءُ الشَّيْءِ: إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ.
قَال الزُّهْرِيُّ: الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ: مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ (1) .
وَالْحَاجَةُ: الْمَأْرَبَةُ (2) ، وَيُكَنَّى عَنْهَا فِي اسْتِعْمَال الْعَرَبِ بِالْبَوْل وَالْغَائِطِ، كَمَا يُكَنَّى عَنِ التَّبَوُّل وَالتَّغَوُّطِ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، قَال الْغَزَالِيُّ: الْكِنَايَةُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ عَنِ التَّبَوُّل وَالتَّغَوُّطِ أَوْلَى مِنَ التَّصْرِيحِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِنْجَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِنْجَاءِ: الْخَلاَصُ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة " قضى ".
(2) مختار الصحاح، ولسان العرب مادة " حوج ".
(3) حاشية كنون بهامش الرهوني 1 / 150.(34/5)
الشَّيْءِ، يُقَال: اسْتَنْجَى حَاجَتَهُ مِنْهُ أَيْ خَلَّصَهَا، وَقَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بِهَا (1) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِزَالَةُ الْخَارِجِ مِنَ الْفَرْجِ عَنِ الْفَرْجِ بِمَاءٍ أَوْ حَجَرٍ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ أَنَّ الثَّانِيَ يَعْقُبُ الأَْوَّل.
ب - الْخَلاَءُ:
3 - الْخَلاَءُ فِي الأَْصْل الْمَكَانُ الْخَالِي.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ يَكُونُ فِي الْخَلاَءِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ:
1 - أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
أ - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا:
4 - ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (4) ، لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 41، حاشية القليوبي 1 / 42.
(3) حاشية الجمل 1 / 82 ط. المكتبة التجارية الكبرى، ونيل المآرب 1 / 51 ط. مكتبة الفلاح.
(4) ابن عابدين 1 / 288 ط. دار إحياء التراث العربي، وتقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين 1 / 43 ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 108 ط. دار الفكر، وبداية المجتهد 1 / 144، وحاشية الجمل 1 / 83، 84، 85 ط. مطبعة مصطفى محمد، والمغني لابن قدامة 1 / 162 ط. مطبعة الرياض الحديثة، ونيل المآرب 1 / 53.(34/5)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا قَال أَبُو أَيُّوبَ: " فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَل الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى (1) ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلاَ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا (2) .
وَتَتَحَقَّقُ حُرْمَةُ الاِسْتِقْبَال وَالاِسْتِدْبَارِ هَذِهِ بِشَرْطَيْنِ:
1 - أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحْرَاءِ.
2 - أَنْ يَكُونَ بِلاَ حَائِلٍ.
وَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ، أَوْ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ وَالثَّوْرِيِّ، لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ فِي النَّهْيِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْعَبَّاسِ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ
__________
(1) (1) حديث أبي أيوب: " إذا أتيتم الغائط. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 498) ، ومسلم (1 / 224) .
(2) (2) حديث: " إذا جلس أحدكم على حاجته. . . ". أخرجه مسلم (1 / 224) .(34/6)
وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ لَهُ أَنْ قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ الْقِبْلَةَ، فَقَال: أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا؟ اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ (1) . قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَحْسَنُ مَا رَوَى الرُّخْصَةَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَعَنْ مَرْوَانَ الأَْصْفَرِ قَال: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُول إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ قَال: بَلَى، إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلاَ بَأْسَ (2) ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) (1) حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذكر له أن قومًا يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 117) ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1 / 232) في ترجمة أحد رواته، وذكر أن فيه جهالة وقال: هذا حديث منكر.
(2) (2) أثر ابن عمر. أخرجه أبو داود (1 / 20) ، والحازمي في الاعتبار (ص 40) وحسنه الحازمي.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 37. ط. دار الدعوة، وابن عابدين 1 / 228. ط. دار إحياء التراث العربي، وتقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين 1 / 43. ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 108. ط. دار الفكر، وحاشية الجمل 1 / 83، 84، 85. ط. مطبعة مصطفى محمد، والمغني لابن قدامة 1 / 162 ط. مطبعة الرياض الحديثة، ونيل المآرب 1 / 3. ط. مكتبة الفلاح، وبداية المجتهد 1 / 89.(34/6)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ اسْتِدْبَارُ الْكَعْبَةِ فِي الْبُنْيَانِ وَالْفَضَاءِ جَمِيعًا، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُقَابِلٍ لِلْقِبْلَةِ، وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ نَحْوَ الأَْرْضِ بِخِلاَفِ الْمُسْتَقْبِل، لأَِنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ، يَنْحَطُّ إِلَيْهَا (1) .
وَبِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (2) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِل الشَّامِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ: لاَ تُسْتَقْبَل الْقِبْلَةُ بِبَوْلٍ وَلاَ تُسْتَدْبَرُ بِغَائِطٍ، لأَِنَّ الاِسْتِقْبَال جَعْل الشَّيْءِ قُبَالَةَ الْوَجْهِ وَالاِسْتِدْبَارَ جَعْل الشَّيْءِ جِهَةَ دُبُرِهِ، فَلَوِ اسْتَقْبَل وَتَغَوَّطَ أَوِ اسْتَدْبَرَ وَبَال لَمْ يَحْرُمْ، وَكَذَا لَوِ اسْتَقْبَل وَلَوَى ذَكَرَهُ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا بِخِلاَفِ عَكْسِهِ (4) .
فَإِنْ جَلَسَ مُسْتَقْبِلاً لَهَا غَافِلاً، ثُمَّ تَذَكَّرَ انْحَرَفَ نَدْبًا، لِحَدِيثِ: مَنْ جَلَسَ يَبُول
__________
(1) (2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 114 طبع دار الكتب الحديثة، والمغني لابن قدامة 1 / 163.
(3) (3) حديث ابن عمر: " ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 250) ، ومسلم (1 / 225) واللفظ للبخاري.
(4) حاشية الجمل 1 / 83.(34/7)
قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ فَذَكَرَ، فَتَحَرَّفَ عَنْهَا إِجْلاَلاً لَهَا، لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ (1) هَذَا إِنْ أَمْكَنَهُ وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا لِلْمَرْأَةِ إِمْسَاكُ صَغِيرٍ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، لأَِنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْفِعْل مِنَ الْمَرْأَةِ (3) .
ب - تَجَنُّبُ اسْتِقْبَال بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِدْبَارِهِ:
5 - فِي اسْتِقْبَال بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِدْبَارِهِ حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ (4) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.
قَال الْحَطَّابُ الْمَالِكِيُّ: لاَ يُكْرَهُ اسْتِقْبَال بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلاَ اسْتِدْبَارُهُ حَال قَضَاءِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 228.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) المجموع 2 / 80، ومغني المحتاج 1 / 40، ونيل الأوطار 1 / 95، 96.(34/7)
الْحَاجَةِ، هَكَذَا قَال سَنَدٌ، لأَِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَيْسَ قِبْلَةً (1) .
ج - اسْتِقْبَال الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِقْبَال الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لأَِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَاهِرَةِ، فَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُمَا تَعْظِيمًا لَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِقْبَال عَيْنِهِمَا مُطْلَقًا لاَ جِهَتِهِمَا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاتِرٌ يَمْنَعُ عَنِ الْعَيْنِ وَلَوْ سَحَابًا فَلاَ كَرَاهَةَ، لأَِنَّهُ لَوِ اسْتَتَرَ عَنِ الْقِبْلَةِ جَازَ، فَهَاهُنَا أَوْلَى (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ خِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَهُمْ (3) .
وَأَمَّا اسْتِدْبَارُهُمَا فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِدْبَارُهُمَا أَيْضًا.
وَهُوَ مَا نُقِل عَنِ الْمِفْتَاحِ: وَلاَ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلاً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَلاَ مُسْتَدْبِرًا لَهُمَا لِلتَّعْظِيمِ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: وَقِيل يُكْرَهُ اسْتِدْبَارُهُمَا (5) .
__________
(1) مواهب الجليل والمواق 1 / 281، الفروع 1 / 45، 46، وكشاف القناع 1 / 54، القليوبي على شرح المنهاج 1 / 39.
(2) ابن عابدين 1 / 228، وحاشية الجمل 1 / 85، والمغني 1 / 163.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 109.
(4) ابن عابدين 1 / 228، وحاشية الدسوقي 1 / 162، وحاشية الجمل 1 / 85.
(5) ابن عابدين 1 / 228، ومغني المحتاج 1 / 40.(34/8)
د - اسْتِقْبَال مَهَبِّ الرِّيحِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ لِقَاضِي الْحَاجَةِ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بَوْلاً أَوْ غَائِطًا رَقِيقًا أَنْ يَسْتَقْبِل مَهَبَّ الرِّيحِ، لِئَلاَّ يُصِيبَهُ رَشَاشُ الْخَارِجِ فَيُنَجِّسَهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ كَانَتِ الرِّيحُ سَاكِنَةً لاِحْتِمَال تَحَرُّكِهَا وَهَيَجَانِهَا (1) .
وَلَوْ هَبَّتْ رِيحٌ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَيَسَارِهَا، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَوْدُ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ حَيْثُ أَمْكَنَ لأَِنَّ الاِسْتِقْبَال أَفْحَشُ (2) .
هـ - كَيْفِيَّةُ الْجُلُوسِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
8 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ أَنْ يُوَسِّعَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فِي جُلُوسِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَيَعْتَمِدَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى، لِمَا رَوَى سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: عَلَّمَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل أَحَدُنَا الْخَلاَءَ أَنْ يَعْتَمِدَ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى (3) وَلأَِنَّهُ أَسْهَل لِخُرُوجِ الْخَارِجِ، وَيَجْتَهِدَ فِي الاِسْتِفْرَاغِ مِنْهُ، وَلاَ يُطِيل الْمُقَامَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ، وَرُبَّمَا آذَى مَنْ يَنْتَظِرُهُ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 229، وحاشية الدسوقي 1 / 107، وحاشية الجمل 1 / 89، والمغني 1 / 163، ونيل المآرب 1 / 52.
(2) ابن عابدين 1 / 228.
(3) (3) حديث سراقة بن مالك: " علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 96) ، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 107) وفي إسناده من لا يعرف.(34/8)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ حَال الْجُلُوسِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَلأَِنَّهُ حَال كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَيَسْتَحْيِي فِيهَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَمِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَقِيل: لأَِنَّهُ أَحْفَظُ لِمَسَامِّ الشَّعْرِ مِنْ عُلُوقِ الرَّائِحَةِ بِهَا فَتَضُرُّهُ، وَيَلْبَسُ حِذَاءَهُ لِئَلاَّ تَتَنَجَّسَ رِجْلاَهُ، وَلاَ يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ قَبْل أَنْ يَدْنُوَ إِلَى الْقُعُودِ (1) .
و التَّبَوُّل قَائِمًا:
9 - يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَبُول الرَّجُل قَائِمًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَال قَائِمًا فَلاَ تُصَدِّقْهُ (2) ، وَقَال جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبُول الرَّجُل قَائِمًا (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ ذَكَرَهَا فِي الإِْنْصَافِ: لاَ يُكْرَهُ وَلَوْ بِلاَ حَاجَةٍ إِنْ أَمِنَ تَلَوُّثًا أَوْ نَاظِرًا، وَالْمَذْهَبُ كَقَوْل الْجُمْهُورِ، قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَقَدْ رُوِيَتِ الرُّخْصَةُ فِيهِ - يَعْنِي الْبَوْل مِنْ قِيَامٍ - عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 229، 230، وحاشية الدسوقي 1 / 106، حاشية الجمل 1 / 83، ونيل المآرب 1 / 53، والمغني لابن قدامة 1 / 166. .
(2) حديث عائشة: " من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائمًا. . . ". أخرجه أحمد (6 / 192) .
(3) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائمًا ". أخرجه البيهقي (1 / 102) وذكر تضعيف أحد رواته.(34/9)
وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَهْل بْنِ سَعْدٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ اتِّفَاقًا، قَال الشَّافِعِيَّةُ: بَل وَلاَ خِلاَفَ الأَْوْلَى، لِمَا وَرَدَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال قَائِمًا، فَتَنَحَّيْتُ فَقَال: ادْنُهْ، فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ (1) .
وَسَبَبُ بَوْلِهِ قَائِمًا مَا قِيل إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَشْفِي بِهِ لِوَجَعِ الصُّلْبِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ بِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَيُفْهَمُ مِثْل ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيل الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ رَخْوًا طَاهِرًا كَالرَّمَل جَازَ فِيهِ الْقِيَامُ، وَالْجُلُوسُ أَوْلَى لأَِنَّهُ أَسْتَرُ، وَإِنْ كَانَ رَخْوًا نَجِسًا بَال قَائِمًا مَخَافَةَ أَنْ تَتَنَجَّسَ ثِيَابُهُ، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا طَاهِرًا تَعَيَّنَ الْجُلُوسُ لِئَلاَّ يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَوْل، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا نَجِسًا تَنَحَّى عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَلاَ يَبُول فِيهِ قَائِمًا وَلاَ قَاعِدًا (3) .
__________
(1) (1) حديث حذيفة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 328) ، ومسلم (1 / 228) واللفظ لمسلم.
(2) رد المحتار 1 / 229، 230، والمجموع 2 / 85، وشرح البهجة 1 / 121، والمغني 1 / 164، والإنصاف 1 / 99.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 104، 107، والحطاب 1 / 267.(34/9)
وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّقْسِيمُ لِغَيْرِهِمْ.
ز - تَرْكُ التَّكَلُّمِ بِذِكْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ:
10 - أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَفِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا حَرَامٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
قَال الْجَمَل: إِنَّ الْكَلاَمَ مَكْرُوهٌ وَلَوْ بِالْقُرْآنِ خِلاَفًا لِلأَْذْرَعِيِّ حَيْثُ قَال بِتَحْرِيمِهِ.
11 - وَأَمَّا مَا عَدَا الْقُرْآنَ: فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّكَلُّمِ حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِذِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، قَال الْخَرَشِيُّ: إِنَّمَا طُلِبَ السُّكُوتُ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَحَل مِمَّا يَجِبُ سَتْرُهُ وَإِخْفَاؤُهُ وَالْمُحَادَثَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَلِكَ، وَالْحُجَّةُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ (2) ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَخْرُجِ الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ (3) ،
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 1 / 36، والخرشي 1 / 144، والجمل على المنهج 1 / 87، وكشاف القناع 1 / 63.
(2) المجموع 2 / 89.
(3) (1) حديث: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط. ". أخرجه أبو داود (1 / 22) ، وابن خزيمة (1 / 39) من حديث أبي سعيد الخدري وأشار إلى إعلاله.(34/10)
وَمَا رَوَاهُ الْمُهَاجِرُ بْنُ قُنْفُذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (1) وَمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ فَلاَ تُسَلِّمْ عَلَيَّ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَوْلاً أَوْ غَائِطًا، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ التَّكَلُّمُ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَلاَءِ وَلَوْ فِي غَيْرِ حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ (3) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، قَال النَّوَوِيُّ: كَأَنْ رَأَى ضَرِيرًا يَقَعُ فِي بِئْرٍ، أَوْ رَأَى حَيَّةً أَوْ غَيْرَهَا تَقْصِدُ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُحْتَرَمَاتِ، فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَل يَجِبُ فِي أَكْثَرِهَا، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: يَجِبُ لِلضَّرُورَةِ
__________
(1) حديث المهاجر بن قنفذ: " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 23) ، والحاكم (1 / 167) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 126) ، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 102) .
(3) ابن عابدين 1 / 229، والهندية 1 / 50.(34/10)
وَيُنْدَبُ لِلْحَاجَةِ.
وَمِنَ الأَْذْكَارِ الَّتِي نَصُّوا عَلَيْهَا أَنَّهُ لاَ يَحْمَدُ إِنْ عَطَسَ، وَلاَ يُشَمِّتُ عَاطِسًا، وَلاَ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ، وَلاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ وَلاَ يُسَبِّحُ، لَكِنْ قَال الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ: إِنْ عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ بِقَلْبِهِ وَيَقْضِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ يُكْرَهُ الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَذَكَرَ فِي رَدِّ السَّلاَمِ قَوْلَيْنِ. ثَانِيهِمَا أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي ذِكْرِ الدُّخُول إِلَى الْخَلاَءِ إِذَا نَسِيَهُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ (2) .
وَقَال كَنُونُ فِي حَاشِيَتِهِ: رَوَى عِيَاضٌ جَوَازَ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْكَنِيفِ. قَال الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا عَطَسَ وَهُوَ يَبُول فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: الدَّلِيل لَهُ مِنْ جِهَةِ الأَْثَرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل أَحْيَانِهِ (3) ، وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ فَلاَ
__________
(1) المجموع 2 / 89، ومواهب الجليل 1 / 275، والذخيرة 1 / 196، وكشاف القناع 2 / 137، والآداب الشرعية 1 / 378.
(2) القليوبي 1 / 41.
(3) حديث: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ". أخرجه مسلم (1 / 282) .(34/11)
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ دَنَاءَةِ الْمَحَل شَيْءٌ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى كُل حَالٍ إِلاَّ بِنَصٍّ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ. ا. هـ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ فِي تِلْكَ الْحَال، وَبِهَا أَخَذَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُكْرَهُ (2) .
ح - إِلْقَاءُ السَّلاَمِ عَلَى الْمُتَخَلِّي وَرَدُّهُ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ إِلْقَاءِ السَّلاَمِ عَلَى الْمُتَغَوِّطِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْبَوْل، قَال: وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ (3) .
ط - الذِّكْرُ إِذَا كَانَ مَكَانُ الْخَلاَءِ هُوَ مَكَانُ الْوُضُوءِ:
13 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْخَلاَءِ فَهَل يَأْتِي بِالْبَسْمَلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَدْعِيَةِ الْوُضُوءِ مُرَاعَاةً لِسُنَّتِهِ؟ أَوْ يَتْرُكُهَا مُرَاعَاةً لِلْمَحَل؟ قَال: الَّذِي يَظْهَرُ الثَّانِي، لِتَصْرِيحِهِمْ بِتَقْدِيمِ
__________
(1) حاشية كنون بهامش الرهوني 1 / 153، والنص بكماله عند المواق بهامش الخطاب 1 / 270.
(2) الإنصاف 1 / 95.
(3) رد المحتار 1 / 464 - 465، وكشاف القناع 1 / 53، 2 / 137، والآداب الشرعية 1 / 378، المجموع 2 / 88 - 89، والزرقاني 3 / 109.(34/11)
النَّهْيِ عَلَى الأَْمْرِ.
وَهُوَ مُقْتَضَى مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ لاَ يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الذِّكْرُ فِي الْخَلاَءِ (1) .
ي - النَّحْنَحَةُ:
14 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَتَنَحْنَحُ فِي مَوْضِعِ الْخَلاَءِ إِلاَّ بِعُذْرٍ كَمَا إِذَا خَافَ دُخُول أَحَدٍ عَلَيْهِ، وَقَال الشَّبْرَامَلَّسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هَل مِنَ الْكَلاَمِ مَا يَأْتِي بِهِ قَاضِي الْحَاجَةِ مِنَ التَّنَحْنُحِ عِنْدَ طَرْقِ بَابِ الْخَلاَءِ مِنَ الْغَيْرِ لِيُعْلَمَ هَل فِيهِ أَحَدٌ أَمْ لاَ؟ قَال: فِيهِ نَظَرٌ، وَالأَْقْرَبُ أَنَّ مِثْل هَذَا لاَ يُسَمَّى كَلاَمًا، وَبِتَقْدِيرِهِ فَهُوَ لِحَاجَةٍ، وَهِيَ دَفْعُ دُخُول مَنْ يَطْرُقُ الْبَابَ عَلَيْهِ لِظَنِّهِ خُلُوَّ الْمَحَل (2) .
ك - تَكْرِيمُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَنْ مَسِّ الْفَرْجِ:
15 - يُكْرَهُ أَنْ يَمَسَّ الإِْنْسَانُ فَرْجَهُ بِيَمِينِهِ حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَغَيْرِهَا، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلاَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 229، الشرح الصغير 1 / 36، المغني 1 / 166 - 167.
(2) رد المحتار 1 / 229، وحاشية الشبراملسي على النهاية 1 / 126.(34/12)
يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ (1) ، قَال الأَْبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَحَمَلَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَفِي الإِْنْصَافِ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِي وَجْهٍ يَحْرُمُ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ فَلاَ كَرَاهَةَ وَلاَ تَحْرِيمَ (2) .
ل - التَّنْظِيفُ وَالتَّطَهُّرُ مِنَ الْفَضْلَةِ:
16 - يَنْبَغِي لِقَاضِي الْحَاجَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِمَسْحِ الْمَحَل بِالأَْحْجَارِ أَوْ نَحْوِهَا أَوْ يَتَطَهَّرَ بِغَسْلِهِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلَهُ أَحْكَامٌ وَآدَابٌ شَرْعِيَّةٌ (ر: اسْتِنْجَاءٌ) .
2 - أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِأَمَاكِنِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
أ - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ وَظِلٍّ نَافِعٍ وَمَا فِي حُكْمِهِمَا:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبُول فِي طَرِيقِ النَّاسِ، وَلاَ مَوْرِدِ مَاءٍ، وَلاَ ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ (3) .
وَمِثْل الظِّل فِي النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِيهِ
__________
(1) (1) حديث: " إذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 92) ، ومسلم (1 / 225) ، واللفظ للبخاري.
(2) حاشية كنون مع الرهوني 1 / 151، والإنصاف 1 / 103.
(3) حديث أبي هريرة: " اتقوا اللعانين. . . ". أخرجه مسلم (1 / 622) .(34/12)
مَجْلِسُ النَّاسِ، أَيِ الْمَحَل الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْقَمَرِ لَيْلاً، أَوْ يَجْلِسُونَ فِيهِ فِي الشَّمْسِ زَمَنَ الشِّتَاءِ لِلتَّحَدُّثِ، وَقَال صَاحِبُ نَيْل الْمَآرِبِ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُمْ غِيبَةً أَوْ نَمِيمَةً.
وَصَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِي الْمَوْرِدِ وَالطَّرِيقِ وَالظِّل وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حَرَامٌ (1) .
ب - قَضَاءُ الْحَاجَةِ تَحْتَ الشَّجَرِ:
18 - كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ قَضَاءَ الْحَاجَةِ تَحْتَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ لَهُ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ حَرُمَ.
وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الثَّمَرِ، وَأَلْحَقُوا بِهِ مَا قَبْلَهُ بِحَيْثُ لاَ يَأْمَنُ زَوَال النَّجَاسَةِ بِمَطَرٍ أَوْ سَقْيٍ، أَوْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - نَحْوِهِ كَجَفَافِ أَرْضٍ مِنْ بَوْلٍ، وَسَوَاءٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَكَانَ الثَّمَرُ مَأْكُولاً أَوْ مَشْمُومًا، لاِحْتِرَامِ الْكُل، وَخَاصَّةً مَا تُجْمَعُ ثَمَرَتُهُ مِنْ تَحْتِهِ كَالزَّيْتُونِ.
وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ فِي الزَّرْعِ أَيْضًا.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ الْكَرَاهَةَ بِالتَّلْوِيثِ وَلِئَلاَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 229 - 230، والمغني 1 / 166، حاشية الدسوقي 1 / 107، حاشية الجمل 1 / 89 - 90.(34/13)
تَعَافَهُ الأَْنْفُسُ، وَلَمْ يُحَرِّمُوهُ، قَالُوا: لأَِنَّ تَنَجُّسَ الثَّمَرَةِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَقَالُوا: وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ يُكْرَهُ كَذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ وَقْتِ الثَّمَرَةِ وَغَيْرِهِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْغَائِطِ أَشَدُّ لأَِنَّ الْبَوْل يَطْهُرُ بِالْمَاءِ وَبِجَفَافِهِ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ فِي قَوْلٍ، وَعَمَّمَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل الْحُكْمَ فِي كُل مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي نَحْوِ دَوَاءٍ أَوْ دِبَاغٍ، وَمَا يَشْمَل الأَْوْرَاقَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا كَذَلِكَ.
وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ جَمِيعًا أَنَّ الشَّجَرَةَ غَيْرَ الْمُثْمِرَةِ لاَ يُكْرَهُ الْبَوْل تَحْتَهَا (1) ، وَأَوْرَدَ فِي الْمُغْنِي فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ (2) .
ج - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَاءِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْمَاءِ، بَوْلاً أَوْ غَائِطًا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَال فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ (3) ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 229 - 230، والإنصاف 1 / 98، والمغني 1 / 156، ونهاية المحتاج 1 / 126، وشرح البهجة 1 / 120، وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 90، وحاشية الدسوقي 1 / 107.
(2) حديث: " كان أحب ما استتر به لحاجته هدف. . . ". أخرجه مسلم (1 / 269) .
(3) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد ". أخرجه مسلم (1 / 235) .(34/13)
الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِل فِيهِ (1) ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةً إِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا، لِحَدِيثِ: نَهَى الرَّسُول أَنْ يُبَال فِي الْمَاءِ الْجَارِي (2) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يُقَذِّرُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَنْجِيسِهِ، وَأَمَّا الرَّاكِدُ الْقَلِيل فَيَحْرُمُ الْبَوْل فِيهِ، لأَِنَّهُ يُنَجِّسُهُ وَيُتْلِفُ مَالِيَّتَهُ وَيَغُرُّ غَيْرَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَالتَّغَوُّطُ فِي الْمَاءِ أَقْبَحُ مِنَ الْبَوْل، وَكَذَا إِذَا بَال فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاءِ، أَوْ بَال بِقُرْبِ النَّهْرِ فَجَرَى إِلَيْهِ، فَكُلُّهُ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (3) .
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: النَّهْيُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ وَإِرْشَادٍ، وَهُوَ فِي الْقَلِيل أَشَدُّ، لأَِنَّهُ يُفْسِدُهُ، وَقِيل: النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، لأَِنَّ الْمَاءَ يَفْسُدُ لِتَكَرُّرِ الْبَائِلِينَ وَيَظُنُّ الْمَارُّ أَنَّهُ تَغَيَّرَ مِنْ قَرَارِهِ، وَيُلْحَقُ بِالْبَوْل التَّغَوُّطُ وَصَبُّ النَّجَاسَةِ. ا. هـ.، وَقَال ابْنُ نَاجِي فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ: الْجَارِي عَلَى أَصْل الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي الْقَلِيل (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْبَوْل فِي
__________
(1) (1) حديث أبي هريرة: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 346) ، ومسلم (1 / 235) .
(2) (2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الجاري ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 204) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
(3) رد المحتار 1 / 228.
(4) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 144.(34/14)
الْمَاءِ الرَّاكِدِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا لِلْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الْجَارِي فَقَال جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ قَلِيلاً كُرِهَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُكْرَهْ، قَال النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ الْبَوْل فِي الْقَلِيل مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يُنَجِّسُهُ وَيُتْلِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ الْجَارِي فَلاَ يَحْرُمُ، لَكِنَّ الأَْوْلَى اجْتِنَابُهُ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُحَرِّمُوا الْبَوْل فِي الرَّاكِدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، لأَِنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مُتَمَوَّلٍ عَادَةً، أَوْ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ بِالإِْضَافَةِ (1) .
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُكْرَهُ التَّخَلِّي فِيهِ بِمَا لَمْ يَسْتَبْحِرْ، فَإِنِ اسْتَبْحَرَ بِحَيْثُ لاَ تَعَافُهُ النَّفْسُ فَلاَ كَرَاهَةَ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْمَاءِ الْمُسَبَّل وَالْمَوْقُوفِ، فَيَحْرُمُ (3) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ التَّبَوُّل فِي الْمَاءِ وَالتَّغَوُّطِ فِيهِ فَرَأَوْا كَرَاهَةَ الأَْوَّل وَتَحْرِيمَ الثَّانِي، فَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: يُكْرَهُ بَوْلُهُ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ أَوْ قَلِيلٍ جَارٍ، وَيَحْرُمُ تَغَوُّطُهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ رَاكِدٍ أَوْ جَارٍ لأَِنَّهُ يُقَذِّرُهُ وَيَمْنَعُ النَّاسَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ (4)
__________
(1) المجموع 2 / 93، وكشاف القناع 1 / 62.
(2) حاشية ابن قاسم على شرح البهجة 1 / 120، وكشاف القناع 1 / 63.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 88.
(4) كشاف القناع 1 / 63.(34/14)
د - التَّبَوُّل فِي مَكَانِ الْوُضُوءِ وَمَكَانِ الاِسْتِحْمَامِ:
20 - كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَبُول الإِْنْسَانُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَضَّأُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ يَغْتَسِل فِيهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُل يَوْمٍ أَوْ يَبُول فِي مُغْتَسَلِهِ (1) .
وَيُضِيفُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ مَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْفَذٌ يَنْفُذُ فِيهِ الْبَوْل وَالْمَاءُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَوْضِعَ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ غَيْرَ مُقَيَّرٍ أَوْ مُبَلَّطٍ، قَال: فَإِنْ بَال فِي الْمُسْتَحَمِّ الْمُقَيَّرِ أَوِ الْمُبَلَّطِ أَوِ الْمُجَصَّصِ، ثُمَّ أَرْسَل عَلَيْهِ الْمَاءَ قَبْل اغْتِسَالِهِ فِيهِ - قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: إِنْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَجَرَى فِي الْبَالُوعَةِ - فَلاَ بَأْسَ، لِلأَْمْنِ مِنَ التَّلْوِيثِ، وَمِثْلُهُ الْوُضُوءُ (2) .
هـ - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ:
21 - يَحْرُمُ بِالاِتِّفَاقِ الْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ فِي الْمَسْجِدِ، صِيَانَةً لَهُ وَتَنْزِيهًا وَتَكْرِيمًا لِمَكَانِ الْعِبَادَةِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) (1) حديث رجل من الصحابة: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 30) ، والحاكم (1 / 168) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2) ابن عابدين 1 / 230، والفتاوى الهندية 1 / 50، وشرح البهجة 1 / 121، وكشاف القناع 1 / 52.(34/15)
النَّهْيُ عَنِ الْبُصَاقِ فِيهِ (1) فَالْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ أَوْلَى، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَال فِي الْمَسْجِدِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعَوْهُ: فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ زَادَ: " ثُمَّ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَال لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل وَلاَ الْقَذِرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (2) .
أَمَّا لَوْ بَال فِي الْمَسْجِدِ فِي إِنَاءٍ وَتَحَفَّظَ مِنْ إِصَابَةِ أَرْضِ الْمَسْجِدِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ أَيْضًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَقْبُحُ وَيَفْحُشُ وَيُسْتَخْفَى بِهِ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبُول فِي أَرْضِهِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّحَرُّزِ، جَاءَ فِي نَوَازِل الْوَنْشَرِيسِيِّ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَجَازَهُ صَاحِبُ الشَّامِل، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ
__________
(1) (1) حديث: النهي عن البصاق في المسجد، ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: " البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 511) ، ومسلم (1 / 390) .
(2) (2) حديث: " أن أعرابيًا بال في المسجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 323) ، ومسلم (1 / 236) ، والرواية الأخرى لمسلم (1 / 237) .(34/15)
الشَّافِعِيَّةِ: الثَّانِي أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، قَال: وَفِي كِتَابِ الطَّهُورِ لأَِبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ أَبْصَرَ أَبَا وَائِلٍ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ فِي الْمَسْجِدِ يَبُول فِي طَسْتٍ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ (1) ، وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مُسْتَحَاضَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي (2) .
وَفِي حُكْمِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ، الَّتِي لاَ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ، قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ حَرَامٌ، اسْتَظْهَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال: يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ إِذَا كَانَتْ مَطْرُوقَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ. وَأَضَافُوا: وَمُصَلَّى الْعِيدِ، أَيْ إِذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ (3) .
و قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ:
22 - قَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: ذَكَرَ الْمُحِبُّ
__________
(1) رد المحتار 1 / 441، ونوازل الونشريسي 1 / 20، والمجموع 2 / 92، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 310، والمغني 3 / 204.
(2) (2) حديث عائشة: " اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 281) .
(3) كنز الدقائق 1 / 256، والفتاوى الهندية 1 / 50، وإعلام الساجد ص310.(34/16)
الطَّبَرِيُّ الْحُرْمَةَ - أَيْ فِي التَّخَلِّي - عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ قُزَحٍ، وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ مَحَل الرَّمْيِ، وَإِطْلاَقُهُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَلَعَل وَجْهَهُ أَنَّهَا مَحَال شَرِيفَةٌ ضَيِّقَةٌ، فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِيهَا لاَسْتَمَرَّ وَبَقِيَ وَقْتَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا، فَيُؤْذِي حِينَئِذٍ، قَال: وَيَظْهَرُ أَنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي مَحَل جُلُوسِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ الْكَرَاهَةُ، أَمَّا عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى فَلاَ يَحْرُمُ فِيهَا لِسَعَتِهَا، وَلَكِنْ جَزَمَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِأَنَّ الْقَوْل بِالْحُرْمَةِ مَرْجُوحٌ، وَقَال بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ حَتَّى فِي مُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَسَائِرِ أَمَاكِنِ اجْتِمَاعِ الْحَاجِّ.
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: تَوَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَتَأَوَّل أَنَّهَا مَسْجِدٌ، وَقَال: هَذَا التَّأْوِيل مَرْدُودٌ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالسَّلَفُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ تُؤَيِّدُ هَذَا التَّوَرُّعَ، مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ إِلَى الْمُغَمَّسِ (1) وَهُوَ مَكَانٌ عَلَى نَحْوِ الْمِيلَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (2) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب لحاجته إلى المغمس ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 203) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات من أهل الصحيح.
(2) نهاية المحتاج 1 / 125، إعلام الساجد ص134.(34/16)
ز - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ:
23 - جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ الْمَالِكِيِّ نَقْلاً عَنِ الْمَدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ: يَجْتَنِبُ (الْمُتَخَلِّي) بِيَعَ الْيَهُودِ وَكَنَائِسَ النَّصَارَى، لِئَلاَّ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِنَا، كَمَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الآْلِهَةِ الْمَدْعُوَّةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللَّهَ تَعَالَى (1) .
ح - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَقَابِرِ:
24 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَقَابِرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَالتَّحْرِيمُ هُوَ أَيْضًا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَبَوَّل عَلَى الْقَبْرِ، أَمَّا إِنْ بَال بِقُرْبِ الْقَبْرِ كُرِهَ وَلَمْ يَحْرُمْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرَ نَبِيٍّ فَيَحْرُمُ، وَالْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هِيَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ، وَفِي الإِْنْصَافِ: لاَ يُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَعَنْهُ - يَعْنِي الإِْمَامَ أَحْمَدَ -: يُكْرَهُ (2) .
وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْمَقْبَرَةِ إِذَا كَانَتْ مَنْبُوشَةً فَرَأَوْا تَحْرِيمَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِيهَا لِمَا فِيهِ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 277.
(2) رد المحتار 1 / 228، والمجموع 1 / 92، ونهاية المحتاج 1 / 124، وكشاف القناع 1 / 53، ومنار السبيل 1 / 20، والإنصاف 1 / 99.(34/17)
مِنْ تَنْجِيسِ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ (1) .
ط - قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي ثَقْبٍ أَوْ نَحْوِهِ:
25 - يُكْرَهُ التَّبَوُّل فِي ثَقْبٍ أَوْ سَرَبٍ (2) ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَال فِي الْجُحْرِ (3) وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُحْرِ مَا يَلْسَعُهُ، أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَوْل، قَال النَّوَوِيُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ (4) ، وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَظْهَرُ تَحْرِيمُهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بِهِ حَيَوَانًا مُحْتَرَمًا يَتَأَذَّى أَوْ يَهْلِكُ بِهِ (5) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا - يَعْنِي كَرَاهَةَ الْبَوْل فِي الثُّقُوبِ - فِي غَيْرِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ، كَبَالُوعَةِ فِيمَا يَظْهَرُ (6) ، وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ لِلْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ وَلَوْ كَانَ فَمَ بَالُوعَةٍ (7) ، وَفِي التُّحْفَةِ وَحَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَالُوعَةُ قَدْ يَشْمَلُهَا الْجُحْرُ، وَقَدْ
__________
(1) القليوبي 1 / 41.
(2) السّرب ما كان مستطيلاً، والثقب ما استدار (المجموع للنووي 2 / 85 - 86) .
(3) (3) حديث: " عبد الله بن سرجس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر ". أخرجه أبو داود (1 / 30) ، وأشار ابن حجر في التلخيص (1 / 106) إلى انقطاعه بين عبد الله بن سرجس وبين الراوي عنه وهو قتادة.
(4) المجموع 2 / 85 - 86.
(5) حاشيته على شرح المنهج 1 / 63.
(6) رد المحتار 1 / 229.
(7)
1 / 52.(34/17)
يَمْنَعُ الشُّمُول أَنَّ الْبَالُوعَةَ فِي قُوَّةِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (يَعْنِي فَلاَ يُكْرَهُ) (1) .
هَذَا وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الثَّقْبِ، فَيُكْرَهُ الْبَوْل فِيهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، فَفِي قَوْلٍ يُكْرَهُ، خِيفَةَ حَشَرَاتٍ تَنْبَعِثُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُوَّةِ، وَقِيل: يُبَاحُ لِبُعْدِهِ مِنَ الْحَشَرَاتِ إِنْ كَانَتْ فِيهَا (2) .
الْبَوْل فِي الآْنِيَةِ:
26 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِالْبَوْل فِي إِنَاءٍ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ، لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُول فِيهَا، فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ (3) ، وَمَا أَشْعُرُ، فَإِلَى مَنْ أَوْصَى (4) . وَلِحَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ (5) ، يَبُول فِيهِ وَيَضَعُهُ تَحْتَ السَّرِيرِ (6) .
وَكَرِهَهُ الْحَنَابِلَةُ إِذَا كَانَ بِلاَ حَاجَةٍ، قَال فِي
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 29.
(3) انخنث أي انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت، (النهاية في غريب الحديث 2 / 82) .
(4) حديث عائشة: " يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 356) ، والنسائي (1 / 32 - 33) ، واللفظ له.
(5) (عيدان) أي نخل (القاموس المحيط) .
(6) (6) حديث أميمة بنت رقيقة: " كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 28) ، والحاكم (1 / 167) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(34/18)
مَنَارِ السَّبِيل: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ كَالْمَرَضِ لَمْ يُكْرَهْ، لِحَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ (1) ، وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ (2) .
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْكَرَاهَةَ - كَمَا فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل - بِالآْنِيَةِ النَّفِيسَةِ، لِلسَّرَفِ، قَالُوا: وَيَحْرُمُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِحُرْمَةِ اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا (3) .
الاِسْتِتَارُ عنِ النَّاسِ:
27 - يُسَنُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَاضِي الْحَاجَةِ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنِ النَّظَرِ (4) ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَل فَقَدْ أَحْسَن، وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ (5) .
وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَال: كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ (6) وَالْحَائِشُ هُوَ الْحَائِطُ.
__________
(1) الإنصاف 1 / 99.
(3) مواهب الجليل 1 / 277، وانظر أيضًا المدخل 1 / 29.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 66.
(5) (5) حديث أبي هريرة: " من أتى الغائط فليستتر. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 33 - 34) ، وفي إسناده جهالة كما في التلخيص لابن حجر (1 / 103) .
(6) حديث عبد الله بن جعفر: " كان أحب ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". تقدم فقرة 18.(34/18)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَحَل عَدِّ ذَلِكَ مِنَ الآْدَابِ، أَيِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ مَنْ يَرَى عَوْرَتَهُ مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ نَظَرُهَا، أَمَّا بِحَضْرَتِهِ فَيَكُونُ سَتْرُهَا وَاجِبًا، إِذْ كَشْفُهَا بِحَضْرَتِهِ حَرَامٌ، وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الأُْخْرَى، وَزَادَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَوْ أَخَذَهُ الْبَوْل وَهُوَ مَحْبُوسٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، جَازَ لَهُ التَّكَشُّفُ، وَعَلَيْهِمُ الْغَضُّ (1) .
هَذَا وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَّنَ الْمَوَّاقُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عِنْدَهُمْ لِمُرِيدِ الْبَوْل أَنْ يَسْتُرَ عَنِ النَّاسِ عَوْرَتَهُ فَقَطْ، لاَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِشَخْصِهِ، أَمَّا مُرِيدُ الْغَائِطِ فَيَبْتَعِدُ وَيَسْتَتِرُ بِحَيْثُ لاَ يُرَى لَهُ شَخْصٌ، وَقَال الْمَازِرِيُّ: السُّنَّةُ الْبُعْدُ مِنَ الْبَائِل إِذَا كَانَ قَاعِدًا بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ قَائِمًا (2) .
وَفِي كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا: أَنَّ التَّسَتُّرَ يَحْصُل بِمُرْتَفِعٍ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرُ، إِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ فَأَقَل، إِنْ كَانَ بِفَضَاءٍ أَوْ بِنَاءٍ لاَ يُمْكِنُ تَسْقِيفُهُ، فَإِنْ كَانَ بِبِنَاءٍ مُسَقَّفٍ أَوْ يُمْكِنُ تَسْقِيفُهُ حَصَل التَّسَتُّرُ بِهِ، وَلَمْ يَحُدَّ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدًّا فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 123.
(2) التاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 275.(34/19)
وَلَوْ تَعَارَضَ التَّسَتُّرُ وَالإِْبْعَادُ، قَال فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ: الظَّاهِرُ رِعَايَةُ التَّسَتُّرِ (1) .
الاِبْتِعَادُ عَنِ النَّاسِ فِي الْفَضَاءِ:
28 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِقَاضِي الْحَاجَةِ إِذَا كَانَ بِالْفَضَاءِ التَّبَاعُدُ عَنِ النَّاسِ، لِحَدِيثِ: كَانَ إِذَا ذَهَبَ الْمَذْهَبَ أَبْعَدَ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ أَنْ لاَ يَجِدَ مَا يَسْتُرُهُ عَنِ النَّاسِ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَسْتُرُهُ عَنِ النَّاسِ كَفَى الاِسْتِتَارُ عَنِ الْبُعْدِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الاِسْتِتَارَ لاَ يُغْنِي عَنِ الاِبْتِعَادِ إِذَا كَانَ قَاضِي الْحَاجَةِ فِي الْفَضَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَحْدِيدِ مَدَى الاِبْتِعَادِ: إِلَى حَيْثُ لاَ يُسْمَعُ لِلْخَارِجِ مِنْهُ صَوْتٌ وَلاَ يُشَمُّ لَهُ رِيحٌ، وَعِبَارَةُ الْخَرَشِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: حَتَّى لاَ يُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ وَلاَ يُرَى لَهُ عَوْرَةٌ، قَالُوا: وَأَمَّا فِي الْكَنِيفِ فَلاَ يَضُرُّ سَمَاعُ صَوْتِهِ وَلاَ شَمُّ رِيحِهِ لِلْمَشَقَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَبْتَعِدُ فِي الْبُنْيَانِ أَيْضًا، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْمَحَل مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلاِبْتِعَادِ أَنْ
__________
(1) شرح البهجة 1 / 116.
(2) حديث: " كان إذا ذهب المذهب أبعد ". أخرجه أبو داود (1 / 14) ، والحاكم (1 / 140) من حديث المغيرة بن شعبة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(34/19)
يَكُونَ الْمَحَل آمِنًا، فَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ عَدُوٍّ يَغْتَالُهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: الْكَلاَمُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْبُعْدُ، وَسَهُل عَلَيْهِ، وَأَمِنَ، وَأَرَادَهُ، وَإِلاَّ سُنَّ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ الْبُعْدُ عَنْهُ بِقَدْرِ بُعْدِهِ عَنْهُمْ (1) .
اجْتِنَابُ الدُّخُول بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
29 - يُكْرَهُ الدُّخُول إِلَى الْخَلاَءِ بِشَيْءٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ (2) وَقَال الشِّيرَازِيُّ: كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ. وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ قَوْلاً فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ تَفْصِيلاَتٍ نُورِدُهَا فِيمَا يَلِي:
لَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْكَرَاهَةُ بَل نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ حَمْل الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ لاَ حَرَامٌ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُصْحَفِ خَاصَّةً: إِنَّ تَنْحِيَتَهُ وَاجِبَةٌ وَالدُّخُول بِهِ حَرَامٌ فِي غَيْرِ حَال الضَّرُورَةِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ، قَال
__________
(1) الخرشي 1 / 144، وبلغة السالك 1 / 36، وشرح البهجة 1 / 114، 115، ومطالب أولي النهى 1 / 66، والمغني 1 / 155، وحاشية القليوبي 1 / 40.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ". أخرجه أبو داود (1 / 25) ، والنسائي (8 / 178) من حديث أنس، وقال النسائي: " هذا حديث غير محفوظ " كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 107) .(34/20)
الْعَدَوِيُّ: يَجِبُ تَنْحِيَةُ مُصْحَفٍ وَلَوْ مَسْتُورًا، وَيُكْرَهُ الدُّخُول بِشَيْءٍ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَقَال: فَالدُّخُول بِبَعْضِ الْقُرْآنِ لَيْسَ كَالدُّخُول بِكُلِّهِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ صَحِيفَةٍ فِيهَا آيَاتٌ، لاَ مِثْل جُزْءٍ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ كُلِّهِ. ا. هـ.، وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ الدُّخُول بِمُصْحَفٍ إِلاَّ لِحَاجَةٍ وَقَال: لاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا وَلاَ يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا عَاقِلٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَلْفُوفًا فِي شَيْءٍ فَلاَ بَأْسَ كَذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى (2) .
وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، فَلاَ يَحْرُمُ الدُّخُول بِمُصْحَفٍ، وَلاَ يُكْرَهُ الدُّخُول بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ إِلاَّ فِي غَيْرِ حَال سَتْرِهِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَيْبِ سَاتِرًا قَوْلاَنِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا مُتَّسِعًا (3) ، لَكِنْ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ حَمْل الْمُصْحَفِ خَاصَّةً فِي تِلْكَ الْحَال مَمْنُوعٌ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا (4) ، وَقَدْ أَطْلَقَ مَنْ سِوَاهُمُ الْقَوْل، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَسْتُورِ وَغَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، بَل صَرَّحَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ بِقَوْلِهِ: لاَ يَدْخُل وَفِي كُمِّهِ
__________
(1) العدوي على الخرشي 1 / 145، والقليوبي 1 / 38، والمهذب 1 / 32، وكشاف القناع 1 / 49، والإنصاف 1 / 94.
(2) شرح منية المصلي 1 / 60.
(3) بلغة السالك 1 / 37.
(4) العدوي على الخرشي 1 / 145.(34/20)
مُصْحَفٌ إِلاَّ إِذَا اضْطُرَّ (1) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ خَاتَمًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ فَرَأَوُا الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثَ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ وَقَال: وَإِنَّمَا وَضَعَهُ لأَِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ " مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ (2) ".
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَرَأَوْا أَنْ لاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَأْنِ الْخَاتَمِ (3) كَمَا خَالَفَ فِيهِ أَيْضًا مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ.
أَمَّا الاِسْتِنْجَاءُ وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ مَنْقُوشٌ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوِ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَل الْفَصَّ فِي كُمِّهِ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي يَمِينِهِ إِذَا اسْتَنْجَى (4) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَفِعْلِهِ، وَالْكَرَاهَةُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ مَالِكٍ كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 67.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 32.
(3) المجموع 2 / 73 - 74.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 230.(34/21)
رُشْدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَمْل مَا عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْخَلاَءِ مَكْرُوهٌ تَعْظِيمًا لِلذِّكْرِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ، وَكَانَ نَقْشُهُ (مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ) قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَمَحَاسِنُ كَلاَمِ الشَّرِيعَةِ يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِ بَقَاءِ الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَسَارِ حَال الاِسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذَا أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَنْجِيسِهِ (2) .
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: حَيْثُ دَخَل الْخَلاَءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَعَل فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَدَارَهُ إِلَى يَمِينِهِ لأَِجْل الاِسْتِنْجَاءِ (3) .
وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى دُخُول الْخَلاَءِ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ جَازَ لَهُ إِدْخَالُهُ، وَلَمْ يُكْرَهْ، نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُكْرَهُ، وَاكْتَفَى الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ (4) .
اجْتِنَابُ حَمْل مَا فِيهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى:
30 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ وَلَوْ نَقَشَ اسْمَهُ تَعَالَى
__________
(1) الحطاب 1 / 274 - 275.
(2) مغني المحتاج 1 / 40.
(3) الإنصاف 1 / 95.
(4) شرح منية المصلي ص60، ومجمع الأنهر 1 / 67، وبلغة السالك مع الصاوي 1 / 37.(34/21)
أَوِ اسْمَ نَبِيِّهِ - أَيْ عَلَى خَاتَمِهِ - اسْتُحِبَّ أَنْ يَجْعَل الْفَصَّ فِي كُمِّهِ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي يَمِينِهِ إِذَا اسْتَنْجَى (1) .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ وَحَاشِيَتِهِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: يَجْتَنِبُ الدَّاخِل إِلَى الْخَلاَءِ حَمْل مَكْتُوبٍ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال: وَلَعَل الْمُرَادَ الأَْسْمَاءُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ مَثَلاً دُونَ مَا لاَ يَخْتَصُّ كَعَزِيزٍ وَكَرِيمٍ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ كَقَوْلِهِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي تَنْقِيحِهِ، وَيَجْتَنِبُ كُل اسْمٍ مُعَظَّمٍ كَالْمَلاَئِكَةِ (2) وَأَلْحَقَ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ أَسْمَاءَ الأَْنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولاً، وَأَسْمَاءَ الْمَلاَئِكَةِ (3) ، وَلَكِنْ وَجَدْنَا فِي بِلُغَةِ السَّالِكِ لِلْمَالِكِيَّةِ. يُنَحِّي (اسْمَ نَبِيٍّ) ، وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ لِلْحَنَابِلَةِ: يَتَوَجَّهُ أَنَّ اسْمَ الرَّسُول كَذَلِكَ (4) .
مَا يَقُولُهُ إِذَا أَرَادَ دُخُول الْخَلاَءِ:
31 - وَرَدَتْ أَحَادِيثُ بِأَذْكَارٍ مُعَيَّنَةٍ يَقُولُهَا الإِْنْسَانُ إِذَا أَرَادَ دُخُول الْخَلاَءِ، مَضْمُونُهَا تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالاِسْتِعَاذَةُ بِهِ مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 230.
(2) شرح البهجة وحاشية ابن قاسم 1 / 122، ونهاية المحتاج 1 / 117.
(3) نهاية المحتاج 1 / 118.
(4) بلغة السالك 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 49.(34/22)
الشَّيَاطِينِ، فَاسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ قَوْلَهَا:
مِنْهَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ (1) وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، قَال الْخَطَّابِيُّ: الْخُبُثُ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ الْخَبِيثِ، وَالْخَبَائِثُ جَمْعُ الْخَبِيثَةِ، يُرِيدُ ذُكُورَ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثَهُمْ (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيَنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَل أَحَدُهُمُ الْخَلاَءَ أَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ (3) .
وَمِنْهَا مَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (4) أَيْضًا، أَنَّ النَّبِيَّ قَال: لاَ يَعْجِزْ أَحَدُكُمْ إِذَا دَخَل مِرْفَقَهُ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (5) .
هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْبَسْمَلَةَ عَلَى التَّعَوُّذِ، وَيُخَالِفُ هَذَا
__________
(1) حديث: " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 242) ، ومسلم (1 / 283) من حديث أنس بن مالك.
(2) رد المحتار 1 / 230، والقليوبي 1 / 42، وبلغة السالك 1 / 34.
(3) حديث: " ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 504) من حديث علي بن أبي طالب وقال: " إسناده ليس بذاك القوي ".
(4) المغني 2 / 129.
(5) حديث: " لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 109) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 91) .(34/22)
التَّعَوُّذُ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (1) .
وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ إِكْمَال التَّسْمِيَةِ، بَل يُكْتَفَى بِبِسْمِ اللَّهِ، وَلاَ يَقُول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا الذِّكْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَقُول الذِّكْرَ الْوَارِدَ قَبْل الْوُصُول إِلَى مَحَل الْحَدَثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْضِعُ مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَمْ لاَ، فَإِنْ فَاتَهُ أَنْ يَقُول ذَلِكَ قَبْل وُصُولِهِ إِلَى الْمَحَل قَالَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحَل مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَقَبْل جُلُوسِهِ، لأَِنَّ الصَّمْتَ مَشْرُوعٌ حَال الْجُلُوسِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحَل مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَلاَ يَقُول الذِّكْرَ فِيهِ وَيَفُوتُ بِالدُّخُول (2) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ (3) .
وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ بِأَذْكَارٍ أُخْرَى يَقُولُهَا الإِْنْسَانُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ، فَرَأَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ قَوْلَهَا مُسْتَحَبٌّ، مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ، يَقُول إِذَا خَرَجَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي مَا يُؤْذِينِي، وَأَبْقَى فِي مَا يَنْفَعُنِي (4) .
__________
(1) المجموع 2 / 74، والأذكار ص28، والفتاوى الهندية 1 / 50.
(2) الحطاب 1 / 271 - 272.
(3) حاشية القليوبي 1 / 42.
(4) ورد في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: " الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه ". أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص15) ، وضعف إسناده ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 220 - 221) لانقطاع فيه.(34/23)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صِيَغًا أُخْرَى مِنْهَا: غُفْرَانَكَ (1) قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُكَرِّرُهَا ثَلاَثًا، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلاً (2) .
وَمِنْهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي (3) .
تَقْدِيمُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فِي الدُّخُول:
32 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الدُّخُول، وَالْيُمْنَى فِي الْخُرُوجِ، عَكْسُ الْمَسْجِدِ فِيهِمَا، لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَامُنُ، وَمَا كَانَ بِضِدِّهِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَاسُرُ (4) .
قَضَاءُ الْحَقِّ
انْظُرْ: أَدَاءٌ
__________
(1) ورد فيه حديث عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك ". أخرجه الترمذي (1 / 12) وقال: حديث حسن غريب.
(2) الهندية 1 / 50، والمدخل 1 / 28، والمجموع 2 / 76، والأذكار ص28، ومنتهى الإرادات 1 / 14.
(3) حديث: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ". أخرجه ابن ماجه (1 / 110) من حديث أنس بن مالك، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 92) .
(4) ابن عابدين 1 / 230، وحاشية الجمل 1 / 82، 83، والمغني 1 / 167.(34/23)
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ وَالأَْدَاءُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَضَاءُ فِعْل الْوَاجِبِ بَعْدَ وَقْتِهِ (2) .
وَالْفَوَائِتُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ فَائِتَةٍ، مِنْ فَاتَهُ الأَْمْرُ فَوْتًا وَفَوَاتًا: إِذَا مَضَى وَقْتُهُ وَلَمْ يُفْعَل (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قَال الدَّرْدِيرُ: اسْتِدْرَاكُ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْدَاءُ.
2 - الأَْدَاءُ لُغَةً: الإِْيصَال.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْحَصْكَفِيُّ: الأَْدَاءُ
__________
(1) المصباح المنير، ودستور العلماء 3 / 72 - 73 نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 487.
(3) المعجم الوسيط.
(4) الشرح الصغير 1 / 363 - 364.(34/24)
فِعْل الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الأَْدَاءِ وَقَضَاءِ الْفَوَائِتِ هِيَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ أَقْسَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ (2) ، وَيَخْتَلِفُ الْقَضَاءُ عَنِ الأَْدَاءِ فِي أَنَّ الأَْدَاءَ يُخْتَصُّ بِفِعْل الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا، وَأَنَّ الْقَضَاءَ يُخْتَصُّ بِفِعْل الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا.
ب - الإِْعَادَةُ:
3 - الإِْعَادَةُ فِي اللُّغَةِ: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَمِنْهُ: إِعَادَةُ الصَّلاَةِ (3) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْحَصْكَفِيُّ: الإِْعَادَةُ فِعْل مِثْل الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ لِخَلَلٍ غَيْرِ الْفَسَادِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ الإِْعَادَةِ هِيَ: أَنَّ الْقَضَاءَ لِمَا لَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ، وَالإِْعَادَةُ لِمَا سَبَقَ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ بِخَلَلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْعِبَادَاتُ الْمُحَدَّدَةُ بِوَقْتٍ تَفُوتُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تُقْضَى.
(ر: أَدَاءٌ ف 7) .
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ
__________
(1) الدر المحتار 1 / 485.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 485.
(3) المصباح المنير.
(4) الدر المختار 1 / 486، والتلويح على التوضيح 1 / 161.(34/24)
الْفَوَائِتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ (1) ، قَال السُّيُوطِيُّ: كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَفَاتَ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ اسْتِدْرَاكًا لِمَصْلَحَتِهِ (2) .
وَقَال صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: كُل عِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ إِذَا تَرَكَهَا الْمُكَلَّفُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ أَوِ الْكَفَّارَةُ، إِلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الإِْحْرَامُ لِدُخُول مَكَّةَ إِذَا أَوْجَبْنَاهُ فَدَخَلَهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ، لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ، لأَِنَّ دُخُولَهُ ثَانِيًا يَقْتَضِي إِحْرَامًا آخَرَ، فَهُوَ وَاجِبٌ بِأَصْل الشَّرْعِ لاَ بِالْقَضَاءِ، نَعَمْ لَوْ صَارَ مِمَّنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ كَالْحَطَّابِ قَضَى لِتَمَكُّنِهِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَالْقَضَاءُ فَرْضٌ فِي الْفَرْضِ، وَوَاجِبٌ فِي الْوَاجِبِ، وَسُنَّةٌ فِي السُّنَّةِ (4) .
أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْقَضَاءِ بِهَا:
5 - الْعِبَادَاتُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَا يُقْضَى فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ، وَمَا لاَ يُقْضَى إِلاَّ فِي مِثْل وَقْتِهِ، وَإِلَى مَا يَقْبَل الأَْدَاءَ وَالْقَضَاءَ، وَمَا يَتَعَذَّرُ وَقْتُ قَضَائِهِ مَعَ قَبُولِهِ لِلتَّأْخِيرِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ مُتَرَاخِيًا، وَمَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَلَى
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة 1 / 149 ط. المؤسسة السعيدية، والمجموع 3 / 68 - 69.
(2) الأشباه والنظائر ص401
(3) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 75 - 76.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 121.(34/25)
الْفَوْرِ (1) ، وَإِلَى مَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ (2) .
فَأَمَّا مَا يُقْضَى فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ، فَكَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا الْمَنْذُورَاتِ، وَأَمَّا مَا لاَ يُقْضَى إِلاَّ فِي مِثْل وَقْتِهِ فَهُوَ كَالْحَجِّ.
وَأَمَّا مَا يَقْبَل الأَْدَاءَ وَالْقَضَاءَ فَكَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ (3) ، فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ هِيَ مُخْتَصَّةُ الأَْدَاءِ بِالأَْوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ جَائِزَةُ الْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الأَْدَاءِ، كَمَا أَنَّ الصِّيَامَ الْوَاجِبَ هُوَ مَخْصُوصٌ بِشَهْرِ رَمَضَانَ قَابِلٌ لِلْقَضَاءِ (4) .
وَأَمَّا مَا يَقْبَل الأَْدَاءَ وَلاَ يَقْبَل الْقَضَاءَ فَكَالْجُمُعَاتِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ لاَ تَقْبَل الْقَضَاءَ (5) .
وَأَمَّا مَا لاَ يُوصَفُ بِقَضَاءٍ وَلاَ أَدَاءٍ مِنَ النَّوَافِل الْمُبْتَدَآتِ الَّتِي لاَ أَسْبَابَ لَهَا، فَكَالصِّيَامِ، وَالصَّلاَةِ الَّتِي لاَ أَسْبَابَ لَهَا وَلاَ أَوْقَاتَ، وَكَذَا الْجِهَادُ لاَ يُتَصَوَّرُ قَضَاؤُهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَضْرُوبٌ لاَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ، وَالْحُكْمُ وَالْفُتْيَا لاَ يُوصَفَانِ بِقَضَاءٍ وَلاَ أَدَاءٍ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَذَلِكَ
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 205.
(2) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1 / 149.
(3) قواعد الأحكام 1 / 216.
(4) قواعد الأحكام 1 / 202.
(5) قواعد الأحكام 1 / 202، 216(34/25)
افْتِتَاحُ الصَّلاَةِ، وَالأَْذْكَارُ الْمَشْرُوعَاتُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَذَّرُ وَقْتُ قَضَائِهِ مَعَ قَبُولِهِ لِلتَّأْخِيرِ. فَكَصَوْمِ رَمَضَانَ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى دُخُول رَمَضَانَ ثَانٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَعَ جَوَازِ قَضَائِهِ مَعَ قَضَاءِ رَمَضَانَ آخَرَ.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ مُتَرَاخِيًا، فَكَقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَلاَةِ النَّاسِي وَالنَّائِمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَكَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِذَا فَسَدَا أَوْ فَاتَا (1) .
(وَانْظُرْ: صَوْمٌ ف 86) .
وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ، فَكَقَضَاءِ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَمِثْل الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ، وَثَوَابِ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ، لأَِنَّا لاَ نَعْقِل الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، لاَ صُورَةً وَلاَ مَعْنًى، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلاً قِيَاسًا (2) .
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلاَةِ الْفَائِتَةِ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ (3) ، كَمَا يَرَى
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 216 - 217.
(2) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1 / 149 - 150.
(3) بداية المجتهد 1 / 182 ط. دار المعرفة.(34/26)
الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ عَلَى السَّكْرَانِ بِالْمُحَرَّمِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ إِذَا أَسْلَمَ (2) .
7 - وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى تَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ فِي الْوَقْتِ، وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ.
8 - فَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ فِي التَّرْكِ، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ، وَمِمَّا يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَعَ الْكَفَّارَةِ (3) أَيْ بَدَل الْيَوْمِ الَّذِي أَفْسَدَهُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، وَلأَِنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى التَّارِكِ نَاسِيًا فَالْعَامِدُ أَوْلَى (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 512، وحاشية الدسوقي 1 / 184، ومغني المحتاج 1 / 131، والمهذب 1 / 58، وروضة الطالبين 1 / 190، وفتح الغفار 3 / 107، المغني 1 / 401.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 121، والاختيار 1 / 27 - 28، والشرح الصغير 1 / 364، والمهذب 1 / 57 - 58، والمغني 1 / 398.
(3) حديث: " أمره صلى الله عليه وسلم المجامع في نهار رمضان. . . ". أخرجه البيهقي (4 / 226) من حديث أبي هريرة وجوَّد إسناده النووي في المجموع (3 / 71) .
(4) البناية 2 / 623، والمجموع 3 / 71، والشرح الصغير 1 / 496، والمغني 1 / 613 ط. مكتبة ابن تيمية.(34/26)
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ فِي التَّرْكِ، قَال عِيَاضٌ: وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى دَاوُدَ وَابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيِّ (1) .
9 - وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلاَةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ، لأَِنَّهُ كَانَ كَافِرًا وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالإِْسْلاَمِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْجُحُودِ كَحَقِّ الآْدَمِيِّ (3) .
وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلاَ عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُرْتَدِّ رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَعَلَى هَذَا لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَال كُفْرِهِ، وَلاَ فِي حَال إِسْلاَمِهِ قَبْل رِدَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، لأَِنَّ عَمَلَهُ قَدْ حَبِطَ بِكُفْرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: يَلْزَمُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي حَال رِدَّتِهِ وَإِسْلاَمِهِ قَبْل رِدَّتِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ، لأَِنَّ الْعَمَل إِنَّمَا يَحْبَطُ بِالإِْشْرَاكِ مَعَ الْمَوْتِ (4) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 364، وانظر البناية 2 / 623، والقوانين الفقهية ص (72) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 121، والشرح الصغير 1 / 364، والخرشي 8 / 68.
(3) مغني المحتاج 1 / 130.
(4) المغني 1 / 398 - 399.(34/27)
وَفِي الإِْنْصَافِ: وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْل رِدَّتِهِ، وَلاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ زَمَنَ رِدَّتِهِ (1) .
10 - وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِأَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي حَال جُنُونِهِ.
(ر: جُنُونٌ ف 11) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَى مَجْنُونٍ حَالَةَ جُنُونِهِ لِمَا فَاتَهُ فِي حَالَةِ عَقْلِهِ، كَمَا لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ عَقْلِهِ لِمَا فَاتَهُ حَالَةَ جُنُونِهِ، هَذَا إِذَا اسْتَمَرَّ جُنُونُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِلْحَرَجِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَقَدْ بَقِيَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ خَمْسُ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَثَلاَثٌ فِي السَّفَرِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَإِنْ بَقِيَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ إِلَى رَكْعَةٍ وَجَبَتِ الْعَصْرُ وَحْدَهَا، وَإِنْ بَقِيَ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ سَقَطَتِ الصَّلاَتَانِ، وَفِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِنْ بَقِيَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْجُنُونِ خَمْسُ رَكَعَاتٍ وَجَبَتِ الصَّلاَتَانِ، وَإِنْ بَقِيَ ثَلاَثًا سَقَطَتِ الْمَغْرِبُ، وَإِنْ بَقِيَ أَرْبَعٌ فَقِيل: تَسْقُطُ الْمَغْرِبُ، لأَِنَّهُ أَدْرَكَ قَدْرَ الْعِشَاءِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 391.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 121، وحاشية ابن عابدين 1 / 512.(34/27)
خَاصَّةً، وَقِيل: تَجِبُ الصَّلاَتَانِ، لأَِنَّهُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ كَامِلَةً وَيُدْرِكُ الْعِشَاءَ بِرَكْعَةٍ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَى ذِي جُنُونٍ غَيْرِ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَيُسَنُّ لَهُ الْقَضَاءُ، أَمَّا الْمُتَعَدِّي فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ زَمَنَ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَال جُنُونِهِ، إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّ مُدَّتَهُ تَطُول غَالِبًا، فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَنْهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَثَرِ الْجُنُونِ فِي سُقُوطِ الصَّلاَةِ
(ر: جُنُونٌ ف 11) .
11 - وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ بِإِغْمَائِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مُغْمًى عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِذَا زَادَتْ
__________
(1) القوانين الفقهية ص51 ط. دار الكتاب العربي.
(2) مغني المحتاج 1 / 131.
(3) المغني 1 / 400، وكشاف القناع 2 / 259.
(4) الشرح الصغير 1 / 364، ومغني المحتاج 1 / 131، والإنصاف 1 / 390.(34/28)
الْفَوَائِتُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّائِمِ، لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى النَّائِمِ كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَثَرِ الإِْغْمَاءِ فِي الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ (ر: إِغْمَاءٌ ف 7 - 12) .
12 - وَأَمَّا الصَّبِيُّ، فَلاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ (4) ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ كَانَ مُمَيِّزًا فَتَرَكَهَا ثُمَّ بَلَغَ أُمِرَ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَدْبًا، كَمَا كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَدَاؤُهَا (5) .
وَفِي أَوْجَهِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُضْرَبُ عَلَى الْقَضَاءِ (6) .
وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل (7) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 121.
(2) المغني 1 / 400، والإنصاف 1 / 390.
(3) ابن عابدين 1 / 234 - 235، والشرح الصغير 1 / 259، وروضة الطالبين 1 / 110، والمغني 1 / 398، والإنصاف 1 / 396.
(4) المراجع السابقة.
(5) المنثور في القواعد 3 / 70.
(6) أسنى المطالب 1 / 121، وحاشية الجمل 1 / 288.
(7) المغني 1 / 399.(34/28)
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ الصَّبِيَّ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الصَّلاَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا، وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُرَاهِقِ، وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُمَيِّزِ (1) .
وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ إِذَا بَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ بَعْدَهَا فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا صَلَّى الصَّبِيُّ وَظِيفَةَ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَلَغَ قَبْل خُرُوجِ الْوَقْتِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَلاَ تَجِبُ الإِْعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ (3) .
13 - أَمَّا مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرَكَ صَلَوَاتٍ أَوْ صِيَامًا لاَ يَعْلَمُ وُجُوبَهُ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَإِطْلاَقَاتِ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُعْذَرُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُصَل وَلَمْ يُزَكِّ وَهَكَذَا، لِجَهْلِهِ الشَّرَائِعَ (5) ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ قَضَاءَ عَلَى مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُصَل مُدَّةً لِجَهْلِهِ بِوُجُوبِهَا (6) .
__________
(1) الإنصاف 1 / 396، والمغني 1 / 399.
(2) المغني 1 / 399، وروضة الطالبين 1 / 188.
(3) روضة الطالبين 1 / 188.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 183، وحاشية الجمل 1 / 286، والمغني 1 / 615.
(5) مراقي الفلاح ص243.
(6) الفتاوى الهندية 1 / 121.(34/29)
14 - وَأَمَّا فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ، فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا كَالْمُكْرَهِ وَالْمَرْبُوطِ، وَلاَ يَقْضِيهَا عَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَشَبَّهُ بِالْمُصَلِّينَ احْتِرَامًا لِلْوَقْتِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا، وَإِلاَّ فَيُومِئُ قَائِمًا، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ ف 2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ (2) .
صِفَةُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَائِتَةَ تُقْضَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَاتَتْ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَيَقْضِي الْمُسَافِرُ فِي السَّفَرِ مَا فَاتَهُ فِي الْحَضَرِ مِنَ الْفَرْضِ الرُّبَاعِيِّ أَرْبَعًا، وَالْمُقِيمُ فِي الإِْقَامَةِ مَا فَاتَهُ فِي السَّفَرِ مِنْهَا رَكْعَتَيْنِ (3)
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 262.
(2) ابن عابدين 1 / 512، والشرح الصغير 1 / 364، والمهذب 1 / 58.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 121، والشرح الصغير 1 / 365، والمغني 2 / 282.(34/29)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمَقْضِيَّةُ إِنْ فَاتَتْ فِي الْحَضَرِ وَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَقْصُرْ خِلاَفًا لِلْمُزَنِيِّ، وَإِنْ شَكَّ هَل فَاتَتْ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ؟ لَمْ يَقْصُرْ أَيْضًا، وَإِنْ فَاتَتْ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِيهِ أَوْ فِي الْحَضَرِ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَظْهَرُهَا: إِنْ قَضَى فِي السَّفَرِ قَصَرَ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَالثَّانِي: يُتِمُّ فِيهِمَا، وَالثَّالِثُ: يَقْصُرُ فِيهِمَا، وَالرَّابِعُ: إِنْ قَضَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ قَصَرَ، وَإِنْ قَضَى فِي الْحَضَرِ أَوْ سَفَرٍ آخَرَ أَتَمَّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا نَسِيَ صَلاَةَ الْحَضَرِ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الإِْتْمَامُ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا أَرْبَعًا، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِهَا كَمَا لَوْ سَافَرَ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ، وَقَدْ فَاتَهُ أَرْبَعٌ.
وَأَمَّا إِنْ نَسِيَ صَلاَةَ السَّفَرِ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ فَقَال أَحْمَدُ: عَلَيْهِ الإِْتْمَامُ احْتِيَاطًا، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ.
وَإِنْ نَسِيَ صَلاَةَ سَفَرٍ وَذَكَرَهَا فِيهِ قَضَاهَا مَقْصُورَةً، لأَِنَّهَا وَجَبَتْ فِي السَّفَرِ وَفُعِلَتْ فِيهِ (2) .
صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ:
16 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 389.
(2) المغني 2 / 282، 283.(34/30)
الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الاِعْتِبَارَ فِي صِفَةِ الْقِرَاءَةِ بِوَقْتِ الْفَوَائِتِ، لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى وَفْقِ الأَْدَاءِ (1) ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَالإِْمَامِ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ الاِعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْقَضَاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنْ قَضَى فَائِتَةَ اللَّيْل بِاللَّيْل جَهَرَ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ، وَإِنْ قَضَى فَائِتَةَ النَّهَارِ لَيْلاً أَوْ عَكَسَ، فَالاِعْتِبَارُ بِوَقْتِ الْقَضَاءِ عَلَى الأَْصَحِّ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: صَلاَةُ الصُّبْحِ وَإِنْ كَانَتْ نَهَارِيَّةً فَهِيَ فِي الْقَضَاءِ جَهْرِيَّةٌ، وَلِوَقْتِهَا حُكْمُ اللَّيْل فِي الْجَهْرِ وَإِطْلاَقُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسِرُّ فِي قَضَاءِ صَلاَةِ جَهْرٍ كَعِشَاءٍ أَوْ صُبْحٍ قَضَاهَا نَهَارًا، وَلَوْ جَمَاعَةً اعْتِبَارًا بِزَمَنِ الْقَضَاءِ، كَصَلاَةِ سِرٍّ قَضَاهَا وَلَوْ لَيْلاً اعْتِبَارًا بِالْمَقْضِيَّةِ، وَيَجْهَرُ بِالْجَهْرِيَّةِ كَأُولَيَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا قَضَاهَا لَيْلاً فِي جَمَاعَةٍ فَقَطْ، اعْتِبَارًا بِالْقَضَاءِ وَشَبَهِهَا بِالأَْدَاءِ، لِكَوْنِهَا فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ قَضَاهَا مُنْفَرِدًا أَسَرَّهَا، لِفَوَاتِ شَبَهِهَا بِالأَْدَاءِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 121، والشرح الصغير 1 / 365، وروضة الطالبين 1 / 269، والمغني 1 / 570.
(2) المغني 1 / 570.
(3) روضة الطالبين 1 / 269.
(4) كشاف القناع 1 / 343 - 344.(34/30)
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَفَرْضِ الْوَقْتِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَبَيْنَ فَرْضِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ (1) ، وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا يَدُل عَلَيْهِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (3) ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَوَقْتُهَا إِذَا ذَكَرَهَا (4) ، فَقَدْ جَعَل وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتَ الْفَائِتَةِ، فَكَانَ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قَبْل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَدَاءً قَبْل وَقْتِهَا، فَلاَ يَجُوزُ (5) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلاَّ وَهُوَ مَعَ الإِْمَامِ فَلْيُصَل مَعَ الإِْمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ فَلْيُصَل الصَّلاَةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدْ صَلاَتَهُ الَّتِي صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ (6) ، وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
__________
(1) البناية 2 / 623، وبدائع الصنائع 1 / 131، والشرح الصغير 1 / 367 - 368، ومطالب أولي النهى 1 / 321.
(2) البناية 2 / 623.
(3) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 70) ، ومسلم (1 / 477) من حديث أنس، واللفظ لمسلم.
(4) رواية: " من نسي صلاة ". أخرجها الدارقطني (1 / 423) من حديث أبي هريرة، وأعله ابن حجر في التلخيص (1 / 115) بتضعيف أحد رواته.
(5) بدائع الصنائع 1 / 131 - 132.
(6) حديث ابن عمر: " إذا نسي أحدكم صلاته. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 421) وصوب وقفه على ابن عمر.(34/31)
الأَْحْزَابِ صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَال: هَل عَلِمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنِّي صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا صَلَّيْتَهَا، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَعَادَ الْمَغْرِبَ (1) ، وَقَدْ قَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) وَكَالْمَجْمُوعَتَينِ (3) .
وَوُجُوبُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَالْوَقْتِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْفَوَائِتُ يَسِيرَةً، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ عَلَى الْحَاضِرَةِ (4) ، وَيَسِيرُ الْفَوَائِتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا دُونَ سِتِّ صَلَوَاتٍ (5) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَسِيرُ الْفَوَائِتِ خَمْسٌ فَأَقَل، وَقِيل: أَرْبَعٌ فَأَقَل، فَالأَْرْبَعُ يَسِيرٌ اتِّفَاقًا، وَالسِّتَّةُ كَثِيرٌ اتِّفَاقًا، وَالْخِلاَفُ فِي الْخَمْسِ (6) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وُجُوبًا غَيْرَ شَرْطٍ، وَأَمَّا
__________
(1) حديث: " هل علم أحد منكم أني صليت. . . ". أخرجه أحمد (4 / 106) من حديث حبيب بن سباع، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 324) : رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 321.
(4) مراقي الفلاح ص239، والشرح الصغير1 / 367.
(5) مراقي الفلاح ص239.
(6) الشرح الصغير 1 / 368.(34/31)
التَّرْتِيبُ بَيْنَ مُشْتَرَكَتَيِ الْوَقْتِ فَوَاجِبٌ وُجُوبَ شَرْطٍ (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ بَيْنَ فَرِيضَةِ الْوَقْتِ وَالْمَقْضِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ دَخَل وَقْتُ فَرِيضَةٍ وَتَذَكَّرَ فَائِتَةً، فَإِنِ اتَّسَعَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ اسْتُحِبَّ الْبَدْءُ بِالْفَائِتَةِ، وَإِنْ ضَاقَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْحَاضِرَةِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْحَاضِرَةِ أَتَمَّهَا، ضَاقَ الْوَقْتُ أَمِ اتَّسَعَ، ثُمَّ يَقْضِي الْفَائِتَةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ الْحَاضِرَةَ بَعْدَهَا (2) .
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ نَفْسِهَا:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا وَاجِبٌ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، فَيُقَدَّمُ الظُّهْرُ عَلَى الْعَصْرِ، وَهِيَ عَلَى الْمَغْرِبِ، وَهَكَذَا وُجُوبًا (3) .
وَتَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، فَمَنْ أَخَل بِهَذَا التَّرْتِيبِ وَنَكَّسَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَأَثِمَ إِنْ تَعَمَّدَ، وَلاَ يُعِيدُ الْمُنَكِّسُ، وَقِيل: إِنَّهُ وَاجِبٌ شَرْطًا (4) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذْ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 367.
(2) الشرح الصغير 1 / 367، وروضة الطالبين 1 / 269 - 270.
(3) الشرح الصغير 1 / 367، والمغني 1 / 607.
(4) الشرح الصغير 1 / 367.(34/32)
قَالُوا: لأَِنَّهُ تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَانَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، فَمَنْ أَخَل بِهَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ نَفْسِهَا، إِلاَّ أَنْ تَزِيدَ الْفَوَائِتُ عَلَى سِتِّ صَلَوَاتٍ، فَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ نَفْسِهَا كَمَا يَسْقُطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَقْتِيَّةِ، وَحَدُّ الْكَثْرَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا. بِخُرُوجِ وَقْتِ الصَّلاَةِ السَّادِسَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِدُخُول وَقْتِ السَّابِعَةِ فِي الأَْغْلَبِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ دُخُول وَقْتِ السَّادِسَةِ، قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَالأَْوَّل هُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُول فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَذَلِكَ فِي الأَْوَّل (2) ، فَإِذَا دَخَل وَقْتُ السَّابِعَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِذَا دَخَل وَقْتُ السَّادِسَةِ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَلاَ يَجِبُ (4) .
فَوْرِيَّةُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ:
19 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ فَوْرِيَّةِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (5) فَأَمَرَ بِالصَّلاَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ،
__________
(1) المغني 1 / 608.
(2) الهداية مع البناية 2 / 631 - 636.
(3) البناية 2 / 635.
(4) روضة الطالبين 1 / 269.
(5) حديث: " فليصلها إذا ذكرها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 70) ، ومسلم (1 / 477) من حديث أنس واللفظ لمسلم.(34/32)
وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ (1) ، وَالْمُرَادُ بِالْفَوْرِ الْفَوْرُ الْعَادِي، بِحَيْثُ لاَ يُعَدُّ مُفَرِّطًا، لاَ الْحَال الْحَقِيقِيُّ (2) ، وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الْفَوْرِيَّةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي مَعِيشَةٍ يَحْتَاجُهَا، فَإِنْ تَضَرَّرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ سَقَطَتِ الْفَوْرِيَّةُ (3) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَال النَّوَوِيُّ: مَنْ لَزِمَهُ صَلاَةٌ فَفَاتَتْهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا، سَوَاءٌ فَاتَتْ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهَا بِعُذْرٍ كَانَ قَضَاؤُهَا عَلَى التَّرَاخِي، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْضِيَهَا عَلَى الْفَوْرِ.
قَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: وَقِيل: يَجِبُ قَضَاؤُهَا حِينَ ذَكَرَ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَل إِذَا ذَكَرَهَا (4) ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّا أُسْرِينَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْل وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلاَ وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ،. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 365، وكشاف القناع 1 / 260.
(2) الشرح الصغير 1 / 365.
(3) الإنصاف 1 / 433.
(4) حديث أنس: " من نسي صلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 70) ، ومسلم (1 / 477) واللفظ للبخاري.(34/33)
أَصَابَهُمْ قَال: لاَ ضَيْرَ - أَوْ لاَ يَضِيرُ - ارْتَحِلُوا فَارْتَحَل فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَل، فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ، وَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ (1) وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وَإِنْ فَوَّتَهَا بِلاَ عُذْرٍ فَوَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ، كَمَا لَوْ فَاتَتْ بِعُذْرٍ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَنَقَل إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الأَْصْحَابِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِهَا، وَلأَِنَّهُ يُقْتَل بِتَرْكِ الصَّلاَةِ الَّتِي فَاتَتْ، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَى التَّرَاخِي لَمْ يُقْتَل (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ جَوَازَ التَّأْخِيرِ وَالْبِدَارِ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ (3) .
سُقُوطُ التَّرْتِيبِ:
يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِلأَْسْبَابِ الآْتِيَةِ:
أ - ضِيقُ الْوَقْتِ:
20 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَالأَْوْزَاعِيُّ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 447) ومسلم (1 / 474 - 475) واللفظ للبخاري.
(2) المجموع 3 / 69.
(3) شرح مسلم الثبوت 1 / 387.(34/33)
وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، أَنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِضِيقِ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ، لأَِنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ آكَدُ مِنْ فَرْضِ التَّرْتِيبِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِضِيقِهِ.
قَال الطَّحَاوِيُّ: عَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْعِبْرَةُ لأَِصْل الْوَقْتِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْل مُحَمَّدٍ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ، الْمُسْتَحَبِّ، بَيَانُهُ: أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ وَهُوَ نَاسٍ لِلظُّهْرِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ الظُّهْرَ فِي وَقْتٍ لَوِ اشْتَغَل بِالظُّهْرِ يَقَعُ الْعَصْرُ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ، فَعَلَى قَوْل الشَّيْخَيْنِ يَقْطَعُ الْعَصْرَ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ، وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ: يَمْضِي فِي الْعَصْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَعَ ذِكْرٍ - لاَ شَرْطًا - تَرْتِيبُ يَسِيرِ الْفَوَائِتِ أَصْلاً أَوْ بَقَاءً إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْحَاضِرَةِ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَتُنْدَبُ عِنْدَهُمُ الْبُدَاءَةُ بِالْحَاضِرَةِ مَعَ الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَإِلاَّ وَجَبَ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتَارَهَا
__________
(1) البناية 2 / 628، والمغني 1 / 610، والإنصاف 1 / 444.
(2) البناية 2 / 628 - 629، ومراقي الفلاح ص240.
(3) شرح الخرشي 1 / 301.(34/34)
الْخَلاَّل وَصَاحِبُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ يَتَّسِعُ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَجَبَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَّسِعُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي أَوَّل وَقْتِهَا (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ عِنْدَهُمْ أَصْلاً.
ب - النِّسْيَانُ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ بِالنِّسْيَانِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) ، وَلأَِنَّ الْمَنْسِيَّةَ لَيْسَتْ عَلَيْهَا أَمَارَةٌ تَدْعُو لِتَذَكُّرِهَا فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهَا النِّسْيَانُ، كَالصِّيَامِ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ ابْتِدَاءً وَفِي الأَْثْنَاءِ عَلَى الْمَعْرُوفِ تَرْتِيبُ الْحَاضِرَتَيْنِ، كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَوِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَيُقَدَّمُ كَالظُّهْرِ عَلَى الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبَ عَلَى الْعِشَاءِ، فَلَوْ بَدَأَ بِالأَْخِيرَةِ نَاسِيًا لِلأُْولَى أَعَادَ الأَْخِيرَةَ مَا دَامَ
__________
(1) المغني 1 / 610، والإنصاف 1 / 444.
(2) المغني 1 / 610.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث ابن عباس، وحسنه ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (2 / 361) .
(4) البناية 2 / 629، ومراقي الفلاح ص241، والمغني 1 / 609.(34/34)
الْوَقْتُ، بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الأُْولَى (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ أَنْ نَسَبَ إِلَى مَالِكٍ الْقَوْل بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ مَعَ النِّسْيَانِ: وَلَعَل مَنْ يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ أَبِي جُمُعَةَ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَجْمُوعَتَيْنِ (2) .
وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِالنِّسْيَانِ (3) .
ج - الْجَهْل:
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الآْمِدِيِّ: أَنَّ مَنْ جَهِل فَرْضِيَّةَ التَّرْتِيبِ لاَ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ، كَالنَّاسِي (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ التَّرْتِيبِ بِالْجَهْل بِوُجُوبِهِ، لأَِنَّ الْجَهْل بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ لاَ يُسْقِطُ أَحْكَامَهَا، كَالْجَهْل بِتَحْرِيمِ الأَْكْل فِي الصَّوْمِ (5) ، وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَنْ جَهِل وُجُوبَ تَرْتِيبِ الْحَاضِرَتَيْنِ فَبَدَأَ بِالأَْخِيرَةِ جَهْلاً بِالْحُكْمِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ الأَْخِيرَةَ أَبَدًا بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الأُْولَى (6) .
__________
(1) الخرشي 1 / 301، والشرح الصغير 1 / 366.
(2) المغني 1 / 609.
(3) الإنصاف 1 / 445.
(4) البناية 2 / 629، والمغني 1 / 613، والإنصاف 1 / 445.
(5) الإنصاف 1 / 445، والمغني 1 / 613.
(6) الخرشي 1 / 301.(34/35)
د - كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَإِنْ كَثُرَتْ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْحُكْمِيَّةِ (2) ، لأَِنَّ اشْتِرَاطَ التَّرْتِيبِ إِذْ ذَاكَ رُبَّمَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَهُوَ حَرَامٌ (3) ، وَالْمُعْتَبَرُ خُرُوجُ وَقْتِ السَّادِسَةِ فِي الصَّحِيحِ، لأَِنَّ الْكَثْرَةَ بِالدُّخُول فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَرُوِيَ بِدُخُول وَقْتِ السَّادِسَةِ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ كَمَا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيمَا بَيْنَ الْكَثِيرَةِ وَالْحَاضِرَةِ سَقَطَ فِيمَا بَيْنَ أَنْفُسِهَا عَلَى الأَْصَحِّ (5) .
وَلاَ يَعُودُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ الَّتِي كَانَتْ كَثِيرَةً بِعَوْدِهَا إِلَى الْقَلِيلَةِ بِقَضَاءِ بَعْضِهَا، لأَِنَّ السَّاقِطَ لاَ يَعُودُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (6) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: يَعُودُ التَّرْتِيبُ، وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْل الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَفِي الْهِدَايَةِ: هُوَ الأَْظْهَرُ، لأَِنَّ عِلَّةَ السُّقُوطِ الْكَثْرَةُ وَقَدْ
__________
(1) المغني 1 / 607، والشرح الصغير 1 / 367.
(2) البناية 2 / 629، ومراقي الفلاح ص241.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص241.
(4) مراقي الفلاح ص241.
(5) مراقي الفلاح ص241.
(6) مراقي الفلاح ص241، والبناية 2 / 637.(34/35)
زَالَتْ (1) .
وَلاَ يَعُودُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا بِفَوْتِ صَلاَةٍ حَدِيثَةٍ بَعْدَ نِسْيَانِ سِتٍّ قَدِيمَةٍ، فَتَجُوزُ الْوَقْتِيَّةُ مَعَ تَذَكُّرِ الْحَدِيثَةِ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ (2) .
وَقِيل: لاَ تَجُوزُ الْوَقْتِيَّةُ، وَيُجْعَل الْمَاضِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ زَجْرًا لَهُ، وَصَحَّحَهُ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ، وَفِي الْمُحِيطِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ بِوُجُوبِ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ تَرْتِيبًا غَيْرَ شَرْطٍ، فَيُقَدِّمُ الظُّهْرَ عَلَى الْعَصْرِ، وَهِيَ عَلَى الْمَغْرِبِ وَهَكَذَا، وُجُوبًا، فَإِنْ نَكَّسَ صَحَّتْ، وَأَثِمَ إِنْ تَعَمَّدَ وَلاَ يُعِيدُ الْمُنَكَّسَ (4) .
هـ - فَوَاتُ الْجَمَاعَةِ:
24 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ فَائِتَةٍ وَأُقِيمَتِ الْحَاضِرَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ، أَمَّا إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ وَيَقْتَدِي (5) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أُقِيمَتْ صَلاَةٌ لِرَاتِبٍ بِمَسْجِدٍ وَالْمُصَلِّي فِي فَرِيضَةٍ غَيْرِ
__________
(1) البناية 2 / 637، ومراقي الفلاح ص241.
(2) البناية 2 / 636، ومراقي الفلاح ص241.
(3) مراقي الفلاح ص241.
(4) الشرح الصغير 1 / 367، والخرشي 1 / 301.
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 297 - 298.(34/36)
الْمُقَامَةِ، قَطَعَ صَلاَتَهُ وَدَخَل مَعَ الإِْمَامِ إِنْ خَشِيَ بِإِتْمَامِهَا فَوَاتَ رَكْعَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ أَتَمَّ صَلاَتَهُ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَلْبُ الْفَائِتَةِ نَفْلاً لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً فِي فَائِتَةٍ أُخْرَى أَوْ حَاضِرَةٍ، إِذْ لاَ تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي تِلْكَ الْفَائِتَةِ بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ (2) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ وَخَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ وَاجِبَانِ: التَّرْتِيبُ وَالْجَمَاعَةُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا، فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، لأَِنَّهُ آكَدُ مِنَ الْجَمَاعَةِ، بِدَلِيل اشْتِرَاطِهِ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ بِخِلاَفِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ (3) .
قَضَاءُ صَلَوَاتِ الْعُمُرِ:
25 - قَال أَبُو نَصْرٍ الْحَنَفِيُّ فِيمَنْ يَقْضِي صَلَوَاتِ عُمُرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فَاتَهُ شَيْءٌ، يُرِيدُ الاِحْتِيَاطَ، فَإِنْ كَانَ لأَِجْل النُّقْصَانِ وَالْكَرَاهَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ لَمْ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 431.
(2) أسنى المطالب 1 / 231، وانظر المجموع 4 / 210 - 211.
(3) المغني 1 / 612.(34/36)
يَفْعَل، وَجَاءَ فِي الْمُضْمَرَاتِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ لِشُبْهَةِ الْفَسَادِ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: الشَّكُّ الَّذِي لاَ يَسْتَنِدُ لِعَلاَمَةٍ لَغْوٌ، لأَِنَّهُ وَسْوَسَةٌ، فَلاَ قَضَاءَ إِلاَّ لِشَكٍّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَقَدْ أُولِعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ لِلصَّلاَحِ بِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْفَوَاتِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكٍّ فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ صَلاَةَ الْعُمُرِ، وَيَرَوْنَهَا كَمَالاً، وَيُرِيدُ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي نَافِلَةً أَصْلاً، بَل يَجْعَل فِي مَحَل كُل نَافِلَةٍ فَائِتَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَقْصٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ جَهْلٍ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ حَال السَّلَفِ، وَفِيهِ هِجْرَانُ الْمَنْدُوبَاتِ وَتَعَلُّقٌ بِمَا لاَ أَجْرَ لَهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ السَّنُوسِيَّ ثُمَّ التِّلِمْسَانِيَّ يَذْكُرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَنْصُوصٌ فَحَنِقْتُهُ عَلَيْهِ، فَقَال: نَصَّ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، نَعَمْ، رَأَيْتُ لِسَيِّدِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبِلاَلِيِّ فِي اخْتِصَارِ الإِْحْيَاءِ عَكْسَهُ (2) .
قَضَاءُ السُّنَنِ:
26 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ السُّنَنَ - عَدَا سُنَّةِ الْفَجْرِ - لاَ تُقْضَى بَعْدَ الْوَقْتِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 124
(2) مواهب الجليل 2 / 8.
(3) الهداية والعناية 1 / 243 ط. بولاق، والشرح الصغير 1 / 408 - 409، والإنصاف2 / 178.(34/37)
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَضَاءِ هَذِهِ السُّنَنِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: يَقْضِيهَا تَبَعًا، لأَِنَّهُ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلاَ يَثْبُتُ. قَصْدًا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَقْضِيهَا تَبَعًا كَمَا لاَ يَقْضِيهَا مَقْصُودَةً، قَال الْعَيْنِيُّ: وَهُوَ الأَْصَحُّ، لاِخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ (1) ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْبَحْرِ: مَا سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ السُّنَنِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ يَقْضِي عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، وَعِنْدَ الْخُرَاسَانِيِّينَ لاَ يُقْضَى (2) .
وَأَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى تَبَعًا لِلْفَرْضِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ كَانَ قَضَى الْفَرْضَ بِالْجَمَاعَةِ، أَوْ قَضَاهُ وَحْدَهُ (3) ، وَقَال مُحَمَّدٌ: تُقْضَى مُنْفَرِدَةً بَعْدَ الشَّمْسِ قَبْل الزَّوَال (4) ، فَلاَ قَضَاءَ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ مُنْفَرِدَةً قَبْل الشَّمْسِ وَلاَ بَعْدَ الزَّوَال بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَوَاءٌ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ بِجَمَاعَةٍ (5) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي قَضَاءِ
__________
(1) البناية 1 / 612 - 613، وانظر الهداية مع العناية 1 / 342 ط. بولاق.
(2) البناية 2 / 613.
(3) البناية 2 / 612، وانظر الهداية مع فتح القدير 1 / 340 - 341 ط. بولاق.
(4) مراقي الفلاح ص246.
(5) مراقي الفلاح ص246.(34/37)
سُنَّةِ الْفَجْرِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَال، فَقَال بَعْضُهُمْ: تُقْضَى تَبَعًا، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تُقْضَى تَبَعًا وَلاَ مَقْصُودَةً (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُقْضَى نَفْلٌ خَرَجَ وَقْتُهُ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى بَعْدَ حِل النَّافِلَةِ لِلزَّوَال سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا الصُّبْحُ أَوْ لاَ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ النَّوَافِل غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ كَصَلاَةِ الْكُسُوفَيْنِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لاَ مَدْخَل لِلْقَضَاءِ فِيهَا، وَأَمَّا النَّوَافِل الْمُؤَقَّتَةُ كَالْعِيدِ وَالضُّحَى، وَالرَّوَاتِبِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ، فَفِي قَضَائِهَا عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهَا تُقْضَى، وَالثَّانِي: لاَ، وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَقَل كَالْعِيدِ وَالضُّحَى قُضِيَ، وَمَا كَانَ تَبَعًا كَالرَّوَاتِبِ فَلاَ.
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا تُقْضَى، فَالْمَشْهُورُ: أَنَّهَا تُقْضَى أَبَدًا، وَالثَّانِي: تُقْضَى صَلاَةُ النَّهَارِ مَا لَمْ تَغْرُبْ شَمْسُهُ، وَفَائِتُ اللَّيْل مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُهُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَا دَامَ النَّهَارُ بَاقِيًا، وَالثَّالِثُ: يَقْضِي كُل تَابِعٍ مَا لَمْ يُصَل فَرِيضَةً مُسْتَقْبَلَةً، فَيَقْضِي الْوِتْرَ مَا لَمْ يُصَل الصُّبْحَ، وَيَقْضِي سُنَّةَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُصَل الظُّهْرَ، وَالْبَاقِي عَلَى هَذَا الْمِثَال، وَقِيل: عَلَى هَذَا
__________
(1) البناية 2 / 612.
(2) حاشية الصاوي مع الشرح الصغير 1 / 408 - 409 ط. دار المعارف، وانظر الخرشي 2 / 16.(34/38)
الاِعْتِبَارِ بِدُخُول وَقْتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لاَ بِفِعْلِهَا (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ سُنَّ لَهُ قَضَاؤُهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا، وَعَنْهُ: يَقْضِي سُنَّةَ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى، وَقِيل: لاَ يَقْضِي إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى وَرَكْعَتَيِ الظُّهْرِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَفْسَدَهُ لَزِمَ قَضَاؤُهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَفْلٌ) (وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 7 - 9) (وَأَدَاءٌ ف 20) (وَتَطَوُّعٌ ف 18) .
الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ لِلْفَوَائِتِ:
27 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ سُنَّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلأُْولَى، ثُمَّ يُقِيمَ لِكُل صَلاَةٍ إِقَامَةً.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِنْ وَالَى بَيْنَ الْفَوَائِتِ، فَإِنْ لَمْ يُوَال بَيْنَهَا أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلٍّ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 337 - 338.
(2) الإنصاف 2 / 178.
(3) الاختيار 1 / 66، وحاشية ابن عابدين 1 / 463.
(4) مراقي الفلاح ص108 - 109، وأسنى المطالب 1 / 126، والمغني 1 / 419.(34/38)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْكْمَل فِعْلُهُمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا (1) ، كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شَغَلَهُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الأَْحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَقَضَاهُنَّ مُرَتَّبًا عَلَى الْوِلاَءِ، وَأَمَرَ بِلاَلاً أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الأَْذَانِ لِفَائِتَةٍ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْذَانِ لِلْفَوَائِتِ (ر: أَذَانٌ ف 43 - 44) .
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ:
28 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْجَمَاعَةِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ (4) ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِسُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَقْضِيَّةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ السُّنِّيَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْمَقْضِيَّةِ الَّتِي يَتَّفِقُ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيهَا، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَاتَهُمَا ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ مَثَلاً (5) ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 109.
(2) الشرح الصغير 1 / 248.
(4) المجموع 4 / 189.
(5) الزرقاني 2 / 2، وأسنى المطالب 1 / 209، وكشاف القناع 1 / 262، والمغني 1 / 614 - 615، وانظر بدائع الصنائع 1 / 154.(34/39)
الْخَنْدَقِ " فَاتَهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ " (1) ، وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَرَيْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْل عَرَّسْنَا - أَيْ نَزَل بِنَا لِلاِسْتِرَاحَةِ - فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى حَرِّ الشَّمْسِ فَجَعَل الرَّجُل مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إِلَى طَهُورِهِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَسْكُنُوا، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، تَوَضَّأَ ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، أَلاَ نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا فِي الْغَدِ لِوَقْتِهَا؟ قَال: أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ؟ (2) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ السُّنِّيَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْمَقْضِيَّةِ الَّتِي يَتَّفِقُ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيهَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَاتَهُمَا ظُهْرٌ أَوْ عَصْرٌ مَثَلاً (3) . وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَنْعَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي جَمَاعَةٍ (4) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي الْقَضَاءِ خَلْفَ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءِ خَلْفَ الْقَضَاءِ، وَقَضَاءِ صَلاَةٍ خَلْفَ مَنْ يَقْضِي غَيْرَهَا، يُنْظَرُ فِي (اقْتِدَاءٌ ف 35) .
__________
(1) الحديث سبق تخريجه ف 27.
(2) حديث عمران بن حصين: " سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أحمد (4 / 441) .
(3) أسنى المطالب 1 / 209.
(4) المجموع 4 / 189.(34/39)
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ:
29 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ الْفَائِتَةِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (2) ، وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُْخْرَى، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتَ الزَّوَال، وَوَقْتَ الْغُرُوبِ، لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ عَنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَخَّرَهَا حَتَّى ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ (4) وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ، فَلَمْ تَجُزْ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ كَالنَّوَافِل (5) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 242، وروضة الطالبين 1 / 193، والمغني 2 / 107 - 108.
(2) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 477) من حديث أنس بن مالك.
(3) حديث: " إنما التفريط على من لم يصل الصلاة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 473) .
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 475) .
(5) الفتاوى الهندية 1 / 121، وابن عابدين 1 / 248، والمغني 2 / 108.(34/40)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 24) .
قَضَاءُ الزَّكَاةِ:
30 - مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِخْرَاجِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا أَثِمَ إِجْمَاعًا.
(ر: زَكَاةٌ ف 126) .
ثُمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا فَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ وَجَبَ قَضَاءُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لأَِنَّهُ مَتَى لَزِمَ فِي حَال الْحَيَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ قَال الدُّسُوقِيُّ: زَكَاةُ الْعَيْنِ فِي عَامِ الْمَوْتِ لَهَا أَحْوَالٌ أَرْبَعَةٌ:
أ - إِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، فَمِنْ رَأْسِ الْمَال جَبْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ.
ب - وَإِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلاَ يُجْبَرُونَ عَلَى إِخْرَاجِهَا، لاَ مِنَ الثُّلُثِ وَلاَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوَرَثَةُ عَدَمَ إِخْرَاجِهَا فَتُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال جَبْرًا.
ج - وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ مِنَ الثُّلُثِ جَبْرًا.
د - وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِغَيْرِ(34/40)
جَبْرٍ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ عَلِمُوا عَدَمَ إِخْرَاجِهَا أُجْبِرُوا عَلَيْهَا مِنْ رَأْسِ الْمَال (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ، لِفَقْدِ شَرْطِهَا وَهُوَ النِّيَّةُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 126) .
قَضَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
31 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِخْرَاجِهَا أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ (4) ، إِلاَّ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَهُمْ مُوَسَّعٌ لاَ يَضِيقُ إِلاَّ فِي آخِرِ الْعُمُرِ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي سَبَبِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 441، والمجموع 6 / 231 - 232، والمغني 2 / 683.
(2) ابن عابدين 2 / 28، والمجموع 6 / 232، والمغني 2 / 683 - 684.
(3) الزرقاني 2 / 190، وحاشية العدوي مع كفاية الطالب الرباني 1 / 452 نشر دار المعرفة، ومغني المحتاج 1 / 402، والمغني 3 / 67.
(4) مراقي الفلاح ص395.
(5) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص395، والفتاوى الهندية 1 / 192.(34/41)
وَوَقْتِ وُجُوبِ أَدَائِهَا (ر: زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8 - 9) .
قَضَاءُ الصَّوْمِ الْفَائِتِ مِنْ رَمَضَانَ:
32 - مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِيمَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ انْظُرْ (صَوْمٌ ف 86) .
قَضَاءُ الاِعْتِكَافِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ إِذَا فَسَدَ، فَالَّذِي فَسَدَ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَنْذُورُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ، إِلاَّ الرِّدَّةَ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ إِذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ، وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ، لأَِنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لاَ غَيْرُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الاِسْتِقْبَال، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إِذَا أَفْطَرَ يَوْمًا، أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الاِسْتِئْنَافُ، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَإِذَا كَانَ
__________
(1) سورة البقرة / 185.(34/41)
اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الاِسْتِقْبَال، لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ، وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ، إِلاَّ الرِّدَّةَ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ، كَمَا إِذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا، كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ الطَّوِيل، لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الأَْحْوَال كُلِّهَا، إِلاَّ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ (2) ، وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيل أَنْ يَسْقُطَ الْقَضَاءُ، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، إِلاَّ أَنَّ فِي الاِسْتِحْسَانِ يَقْضِي، لأَِنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لأَِنَّ الْجُنُونَ إِذَا طَال قَلَّمَا يَزُول، فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ، فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الاِعْتِكَافِ، وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إِذَا قَطَعَهُ قَبْل تَمَّامِ الْيَوْمِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الأَْصْل، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي، بِنَاءً عَلَى
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " الإسلام يجب ما قبله ". أخرجه أحمد (4 / 199) بهذا اللفظ من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعًا.(34/42)
أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ إِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، بِأَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، أَنَّهُ إِذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لاَ غَيْرُ، وَلاَ يَلْزَمْهُ الاِسْتِقْبَال، كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُل مُتَتَابِعًا، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الاِعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُل يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، لأَِجْل الصَّوْمِ، لاَ لأَِجْل الاِعْتِكَافِ، كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالإِْطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ.
وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ، كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا(34/42)
لاَ قَاضِيًا، لأَِنَّ الإِْيجَابَ حَصَل مُطْلَقًا عَنِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ إِذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى لاَ تُؤْخَذَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إِلاَّ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي يَقْطَعُ الاِعْتِكَافَ إِمَّا إِغْمَاءٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ أَوْ مَرَضٌ، وَالاِعْتِكَافُ إِمَّا نَذْرٌ مُعَيَّنٌ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ نَذْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ قَبْل الاِعْتِكَافِ، أَوْ مُقَارِنًا لَهُ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُول فِيهِ.
فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوَانِعُ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُعَيَّنِ مِنْ رَمَضَانَ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ بَعْدَ زَوَالِهَا، سَوَاءٌ طَرَأَتْ قَبْل الاِعْتِكَافِ وَقَارَنَتْ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُول.
وَإِنْ كَانَ نَذْرًا مُعَيَّنًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ طَرَأَتْ خَمْسَةُ الأَْعْذَارِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الاِعْتِكَافِ، أَوْ مُقَارِنَةً، فَلاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ.
وَإِنْ طَرَأَتْ بَعْدَ الدُّخُول، فَالْقَضَاءُ مُتَّصِلاً.
وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلاَ قَضَاءَ، سَوَاءٌ طَرَأَتِ الأَْعْذَارُ الْخَمْسَةُ قَبْل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 104 - 117 - 118.(34/43)
الشُّرُوعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مُقَارِنَةً لَهُ.
وَبَقِيَ حُكْمُ مَا إِذَا أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَقْضِي، سَوَاءٌ كَانَ الاِعْتِكَافُ نَذْرًا مُعَيَّنًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ كَانَ نَذْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَانَ تَطَوُّعًا مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ (1) .
وَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ فِي اعْتِكَافِهِ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ اعْتِكَافَهُ، وَكَذَلِكَ يَبْتَدِئُ اعْتِكَافَهُ مَنْ جَامَعَ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهُ لَيْلاً وَنَهَارًا، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، لأَِنَّ الشَّهْرَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ تَمَّ أَوْ نَقَصَ، وَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ نَهَارَ الشَّهْرِ، لَزِمَهُ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْل، لأَِنَّهُ خَصَّ النَّهَارَ، فَلاَ يَلْزَمُهُ اللَّيْل، فَإِنْ فَاتَهُ الشَّهْرُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ، لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، لأَِنَّ التَّتَابُعَ فِي أَدَائِهِ بِحُكْمِ الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ سَقَطَ، كَالتَّتَابُعِ فِي يَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا، لأَِنَّ التَّتَابُعَ هَاهُنَا وَجَبَ لِحُكْمِ النَّذْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا ثُمَّ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 738.
(2) كفاية الطالب الرباني 1 / 411 - 412 ط. دار المعرفة.
(3) المهذب مع المجموع 6 / 492.(34/43)
أَفْسَدَهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً فَسَدَ مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهِ وَاسْتَأْنَفَ، لأَِنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ فِي الاِعْتِكَافِ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَلَزِمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً كَالْعَشَرَةِ الأَْوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْطُل مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُهُ، لأَِنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُتَتَابِعًا فَبَطَل بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَيَّدَهُ بِالتَّتَابُعِ بِلَفْظِهِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَبْطُل، لأَِنَّ مَا مَضَى مِنْهُ قَدْ أَدَّى الْعِبَادَةَ فِيهِ أَدَاءً صَحِيحًا، فَلَمْ يَبْطُل بِتَرْكِهَا فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّتَابُعُ هَاهُنَا حَصَل ضَرُورَةَ التَّعْيِينِ، وَالتَّعْيِينُ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الإِْخْلاَل بِأَحَدِهِمَا، فَفِيمَا حَصَل ضَرُورَةً أَوْلَى، وَلأَِنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ لاَ مِنْ حَيْثُ النَّذْرُ، فَالْخُرُوجُ فِي بَعْضِهِ لاَ يُبْطِل مَا مَضَى مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَ فِيهِ فَحَسْبُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لأَِنَّهُ تَارِكٌ لِبَعْضِ مَا نَذَرَهُ (1) .
قَضَاءُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ:
34 - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ يَمْنَعُ الْمُحْرِمَ مِنْ أَرْكَانِ النُّسُكِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالإِْحْصَارِ، أَوْ يَكُونَ بِغَيْرِ مَانِعٍ قَاهِرٍ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْفَوَاتِ.
__________
(1) المغني 3 / 200.(34/44)
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ قَضَاءُ النُّسُكِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا كَحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَيْنِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَكَعُمْرَةِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَسْقُطُ هَذَا الْوَاجِبُ عَنْهُ بِسَبَبِ الإِْحْصَارِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ قَضَاءِ النُّسُكِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُحْصِرَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ، وَقَضَاءِ نُسُكِ التَّطَوُّعِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُحْصَرَ فِي الْقَضَاءِ
(ر: إِحْصَارٌ ف 49 - 51) (وَحَجٌّ ف 121 - 123) .
وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ يَمْضِي فِي حَجٍّ فَاسِدٍ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ أَفْعَال الْحَجِّ، لأَِنَّ سُقُوطَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ لاَ يَمْنَعُ مَا لَمْ يَفُتْ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي صُوَرِ فَوَاتِ الْحَجِّ، وَتَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَكَيْفِيَّةِ التَّحَلُّل (ر: فَوَاتٌ) .
قَضَاءُ الأُْضْحِيَّةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا:
35 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ التَّضْحِيَةَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 256، والقوانين الفقهية ص139 نشر دار الكتاب العربي، والمهذب 1 / 240، والمغني 3 / 527 - 528.
(2) المغني 3 / 527، والمهذب 1 / 240.(34/44)
تَفُوتُ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا، وَلاَ يُخَاطَبُ بِهَا الْمُكَلَّفُ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنِهَا (1) .
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا، بِأَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِبُ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا، أَوْ كَانَ الْمُضَحِّي فَقِيرًا وَقَدْ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يُضَحِّ غَنِيًّا وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ شَاةً بِعَيْنِهَا، تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ اشْتَرَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَتَعَيَّنُ الأُْضْحِيَّةُ إِلاَّ بِالذَّبْحِ، فَلاَ تَتَعَيَّنُ أُضْحِيَّةٌ بِالنَّذْرِ وَلاَ بِالنِّيَّةِ وَلاَ بِالتَّمْيِيزِ لَهَا (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُضَحِّ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يُضَحِّ، بَل قَدْ فَاتَتِ التَّضْحِيَةُ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا لَزِمَهُ أَنْ يُضَحِّيَ وَيَقْضِيَ الْوَاجِبَ كَالأَْدَاءِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أُضْحِيَّةٌ ف 42 - 44) .
قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ:
__________
(1) البناية 9 / 112، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 452، نشر دار المعرفة.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 296.
(3) الشرح الصغير 2 / 148 - 149.
(4) المجموع 8 / 388، والفروع لابن مفلح 3 / 546.(34/45)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ سَوَاءٌ فَاتَ لِعُذْرٍ أَمْ لاَ، فَلاَ يُقْضَى، فَلَيْسَ لِلَّتِي فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةٌ بَدَلَهَا، لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقَسْمِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْحَاصِل فِي الْحَال، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْقَضَاءِ، لَظُلِمَتْ صَاحِبَةُ اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (1) .
وَقَال الْعَيْنِيُّ نَقْلاً عَنِ الْمُحِيطِ وَالْمَبْسُوطِ: الزَّوْجُ لَوْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ شَهْرًا ظُلْمًا، ثُمَّ طُلِبَ الْقَسْمُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَبٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، لَكِنَّهُ ظَالِمٌ يُوعَظُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ يُؤَدَّبُ تَعْزِيرًا (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجِ الْمَقَامُ عِنْدَ ذَاتِ اللَّيْلَةِ لَيْلاً لِشُغْلٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ تَرَكَ الْمُقَامَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَاهُ لَهَا، كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ (3) .
وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَال: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقَضَاءِ إِذَا طَلَبَتْ، لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِيفَائِهِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 400، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 2 / 506.
(2) البناية 4 / 332.
(3) روضة الطالبين 7 / 361، والمهذب 2 / 69، وكشاف القناع 5 / 199.
(4) فتح القدير 2 / 518 - 519 ط. بولاق.(34/45)
قَضَاءُ النَّفَقَاتِ:
37 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الإِْنْفَاقَ الْوَاجِبَ لاِمْرَأَتِهِ مُدَّةً لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، وَكَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لأَِنَّهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيل الْبَدَل فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَالثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ وَالْمَهْرِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى، أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُضِيَ بِهَا أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مِقْدَارِهَا، فَيُقْضَى لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى، لأَِنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ عِوَضًا عَنِ الْبُضْعِ، فَبَقِيَ وُجُوبُهُ جَزَاءً عَنِ الاِحْتِبَاسِ صِلَةً وَرِزْقًا لاَ عِوَضًا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِزْقًا بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} (2) .
وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُذْكَرُ صِلَةً، وَالصِّلاَتُ لاَ تُمْلَكُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ حَقِيقَةً أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، كَمَا فِي الْهِبَةِ، أَوْ بِالْتِزَامِهِ بِالتَّرَاضِي (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوِ الاِصْطِلاَحِ قَبْل الْقَبْضِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص222 نشر دار الكتاب العربي، والمهذب 2 / 165 نشر دار المعرفة، والمغني 7 / 578.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) الاختيار 4 / 6، والمغني 7 / 578.(34/46)
سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، لأَِنَّهَا صِلَةٌ مِنَ الصِّلاَتِ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
هَذَا حُكْمُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْقَرِيبِ، فَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا فَاتَ مِنْهَا يَوْمٌ أَوْ أَيَّامٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، لأَِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَ بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلاَ تَسْقُطُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَفَقَةٌ) .
__________
(1) الاختيار 4 / 7.
(2) الاختيار 4 / 13، والقوانين الفقهية ص222، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 78، والأشباه والنظائر للسيوطي ص401، والمهذب 2 / 168، والفروع 5 / 599.(34/46)
قُضَاة
التَّعْرِيفُ
1 - الْقُضَاةُ: جَمْعُ قَاضٍ، وَهُوَ الْقَاطِعُ لِلأُْمُورِ الْمُحْكِمُ لَهَا، يُقَال: قَضَى قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ، إِذَا حَكَمَ وَفَصَل، وَاسْتُقْضِيَ فُلاَنٌ: جُعِل قَاضِيًا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحُكَّامُ:
2 - الْحُكَّامُ. جَمْعُ حَاكِمٍ، وَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَل الْخَلِيفَةَ وَالْوَالِيَ وَالْقَاضِيَ وَالْمُحَكَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَاضِي (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
__________
(1) لسان العرب مادة: (قضى) ومادة (حكم) .
(2) ابن عابدين 4 / 298.(34/47)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَوْلِيَةَ الْقُضَاةِ فَوْرًا فِي قَضَاءِ الأَْقَالِيمِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الإِْمَامِ، لِمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِخْلاَءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ قَاضٍ لأَِنَّ الإِْحْضَارَ مِنْ فَوْقِهَا مَشَقَّةٌ، لِدُخُول ذَلِكَ فِي عُمُومِ وِلاَيَتِهِ، وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَسْأَل، لأَِنَّهَا مِنَ الْحُقُوقِ الْمُسْتَرْعَاةِ، وَقَبُول التَّوْلِيَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
وَفِي الْقَضَاءِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ جَعَل اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
شُرُوطُ الْقَاضِي:
4 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ شُرُوطًا، اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
تَعَدُّدُ الْقُضَاةِ:
5 - يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ قَاضِيَيْنِ. أَوْ ثَلاَثَةً فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ يَجْعَل لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَمَلاً، فَيَتَوَلَّى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 236، مغني المحتاج 4 / 372، المغني 9 / 36، حاشية الدسوقي 4 / 130 وما بعده.(34/47)
أَحَدُهُمْ عُقُودَ الأَْنْكِحَةِ، وَالآْخَرُ الْحُكْمَ فِي الْمُدَايَنَاتِ، وَآخَرُ النَّظَرَ فِي الْعَقَارَاتِ مَثَلاً.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلًّا مِنْهُمْ عُمُومَ النَّظَرِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ، لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، أَمَّا إِنْ لَمْ يَخُصَّ كُلًّا مِنَ الْقَاضِيَيْنِ بِمَا ذُكِرَ بَل عَمَّمَ وِلاَيَتَهُمَا (1) فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ:
6 - يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَرَخَّصَ فِيهِ شُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
أَمَّا اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْقَضَاءِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 379، المغني 9 / 100.(34/48)
قِطَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِطَارُ مِنَ الإِْبِل فِي اللُّغَةِ: عَدَدٌ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالْجَمْعُ قُطُرٌ، مِثْل كِتَابٍ وَكُتُبٍ، يُقَال: قَطَرَ الإِْبِل قَطْرًا، وَقَطَّرَهَا وَأَقْطَرَهَا: قَرَّبَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ.
قَال الْبَابَرْتِيُّ: الْقِطَارُ: الإِْبِل تُقْطَرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ (2) .
وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: الْقِطَارُ - بِكَسْرِ الْقَافِ - هُوَ رَبْطُ الإِْبِل أَوْ غَيْرِهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ (3) .
وَيَشْتَرِطُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَدَدُ الْقِطَارِ الْوَاحِدِ عَلَى تِسْعَةٍ لِلْعَادَةِ الْغَالِبَةِ (4) وَخَالَفَ ابْنُ الصَّلاَحِ فَقَدَّرَهُ بِسَبْعَةٍ (5) .
__________
(1)) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) العناية وفتح القدير 4 / 246.
(3) الزرقاني 8 / 102.
(4) روضة الطالبين 10 / 128، وأسنى المطالب 4 / 145.
(5) أسنى المطالب 4 / 145.(34/48)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ التَّوَسُّطُ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ، فَقَال: فِي الصَّحْرَاءِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ، وَفِي الْعُمْرَانِ يُعْتَبَرُ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُجْعَل قِطَارًا، وَهُوَ مَا بَيْنَ سَبْعَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ (1) ، وَقَال الْبُلْقِينِيُّ: لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَلاَ كَثِيرٌ مِنَ الأَْصْحَابِ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالتِّسْعِ أَوِ السَّبْعِ لَيْسَ بِمُعْتَمَدٍ، وَذَكَرَ الأَْذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ نَحْوَهُ، ثُمَّ قَالاَ: وَسَبَبُ اضْطِرَابِهِمْ فِي الْعَدَدِ اضْطِرَابُ الْعُرْفِ فِيهِ، فَالأَْشْبَهُ الرُّجُوعُ فِي كُل مَكَانٍ إِلَى عُرْفِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَافِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّاحِلَةُ:
2 - الرَّاحِلَةُ: الْمَرْكَبُ مِنَ الإِْبِل ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَالنَّاقَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلرَّحْل، وَالأَْوَّل هُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ (3) وَالرَّاحِلَةُ جُزْءٌ مِنَ الْقِطَارِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْقِطَارِ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْهَا، مِنْهَا: الْحِرْزُ، وَضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ الْقِطَارُ، عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 128، 129.
(2) أسنى المطالب 4 / 145.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص135 نشر دار القلم، والمصباح المنير.(34/49)
أ - الْحِرْزُ:
3 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقِطَارَ إِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ يَسُوقُهُ، فَحِرْزُهُ نَظَرُهُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يَرَاهُ فَلَيْسَ بِمُحْرَزٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قَائِدٌ، فَحِرْزُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ كُل سَاعَةٍ وَيَنْتَهِي نَظَرُهُ إِلَيْهِ إِذَا الْتَفَتَ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَرَى الْبَعْضَ لِحَائِل جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُحْرَزٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِقَطْعِ السَّارِقِ لِشَيْءٍ مِنَ الْقِطَارِ بِمُجَرَّدِ إِبَانَتِهِ عَنْ بَاقِيهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ انْتِهَاءُ نَظَرِ الْقَائِدِ إِلَى آخِرِ الْقِطَارِ (3) .
وَحَيْثُ يُشْتَرَطُ انْتِهَاءُ نَظَرِ الْقَائِدِ إِلَى الْقِطَارِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّوْتِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لَوْ لَمْ يَبْلُغْ صَوْتُهُ بَعْضَ الْقِطَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَسَكَتَ آخَرُونَ عَنِ اعْتِبَارِ بُلُوغِ الصَّوْتِ اكْتِفَاءً بِالنَّظَرِ، لأَِنَّهُ إِذَا قَصَدَ مَا يَرَاهُ أَمْكَنَهُ الْعَدْوَ إِلَيْهِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنَ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلاً لَمْ يُقْطَعْ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 128، والمغني 8 / 250.
(2) الفواكه الدواني 2 / 295، والشرح الصغير 4 / 480.
(3) روضة الطالبين 10 / 128.
(4) روضة الطالبين 10 / 128.(34/49)
مَقْصُودٍ، فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهَذَا لأَِنَّ السَّائِقَ وَالرَّاكِبَ وَالْقَائِدَ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْل الأَْمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الأَْحْمَال مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا: يُقْطَعُ، وَإِنْ شَقَّ الْحِمْل وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ، لأَِنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْل هَذَا حِرْزٌ، لأَِنَّهُ يُقْصَدُ بِوَضْعِ الأَْمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتُهَا كَالْكُمِّ، فَوُجِدَ الأَْخْذُ مِنَ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: سَرِقَةٌ ف 37) .
ب - ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ الْقِطَارُ:
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى قَائِدِ قِطَارٍ وَطِئَ بَعِيرٌ مِنْهُ رَجُلاً، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ ضَمِنَا لاِسْتِوَائِهِمَا فِي التَّسَبُّبِ، لَكِنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَضَمَانَ الْمَال فِي مَالِهِ، هَذَا لَوْ كَانَ السَّائِقُ مِنْ جَانِبٍ مِنَ الإِْبِل، فَلَوْ تَوَسَّطَهَا وَأَخَذَ بِزِمَامِ وَاحِدٍ ضَمِنَ مَا خَلْفَهُ، وَضَمِنَا مَا قُدَّامَهُ، وَضَمِنَ رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ وَسَطَ الْقِطَارِ الْوَسَطَ فَقَطْ وَلاَ يَضْمَنُ مَا قُدَّامَهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ سَائِقٍ لَهُ وَلاَ مَا خَلْفَهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ قَائِدٍ مَا لَمْ يَأْخُذْ بِزِمَامِ مَا خَلْفَهُ، وَإِنْ قَتَل بَعِيرٌ رُبِطَ عَلَى قِطَارٍ سَائِرٍ بِلاَ عِلْمِ قَائِدِهِ رَجُلاً ضَمِنَ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ الدِّيَةَ، وَرَجَعُوا بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ، لأَِنَّهُ دِيَةٌ لاَ خُسْرَانٌ، وَلَوْ رَبَطَ الْبَعِيرَ وَالْقِطَارُ وَاقِفٌ ضَمِنَهَا عَاقِلَةُ الْقَائِدِ بِلاَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 246 ط. بولاق.(34/50)
رُجُوعٍ لِقَوْدِهِ بِلاَ إِذْنٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ فِي أَوَّل الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، وَإِنْ نَفَحَتْ رَجُلاً بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَمْ يَضْمَنِ الْقَائِدُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ قُدَامَةَ: الْجَمَل الْمَقْطُورُ عَلَى الْجَمَل الَّذِي عَلَيْهِ رَاكِبٌ يَضْمَنُ الرَّاكِبُ جِنَايَتَهُ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَائِدِ، فَأَمَّا الْجَمَل الْمَقْطُورُ عَلَى الْجَمَل الثَّانِي فَيَنْبَغِي أَلاَّ يَضْمَنَ جِنَايَتَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَائِقٌ، لأَِنَّ الرَّاكِبَ الأَْوَّل لاَ يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ عَنِ الْجِنَايَةِ (3) .
قِطّ
انْظُرْ: هِرّ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 389.
(2) الزرقاني 8 / 119.
(3) الشرح الكبير بهامش المغني 5 / 154.(34/50)
قَطْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَطْعُ فِي اللُّغَةِ: إِبَانَةُ جُزْءٍ مِنَ الْجِرْمِ، يُقَال: قَطَعْتُ الْحَبْل قَطْعًا: فَصَلْتُ مِنْهُ جُزْءًا (1) ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي: فَكُل مَنْ شَرَعَ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ فَلَمْ يُكْمِلْهُ يُقَال: إِنَّهُ قَطَعَهُ، فَمَنْ تَحَلَّل عَنِ الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ قَبْل إِتْمَامِهَا، أَوْ أَتَى مَا يُبْطِلُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا فَقَدْ قَطَعَ صَلاَتَهُ (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَطْعِ:
تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الْقَطْعِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِ الْقَطْعِ:
قَطْعُ الْعِبَادَةِ:
2 - قَطْعُ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا بِلاَ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ قَطْعَهَا بِلاَ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ عَبَثٌ يَتَنَافَى مَعَ حُرْمَةِ الْعِبَادَةِ، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ، قَال
__________
(1) لسان العرب.
(2) ابن عابدين 1 / 440، المنهج 1 / 343، 587.(34/51)
تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) ، أَمَّا قَطْعُهَا بِمُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ فَمَشْرُوعٌ، فَتُقْطَعُ الصَّلاَةُ لِقَتْل حَيَّةٍ وَنَحْوِهَا لِلأَْمْرِ بِقَتْلِهَا، وَخَوْفِ ضَيَاعِ مَالٍ لَهُ قِيمَةٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَلإِِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ، وَتَنْبِيهِ غَافِلٍ أَوْ نَائِمٍ قَصَدَتْ إِلَيْهِ نَحْوَ حَيَّةٍ، وَلاَ يُمْكِنُ تَنْبِيهُهُ بِتَسْبِيحٍ، وَيُقْطَعُ الصَّوْمُ لإِِنْقَاذِ غَرِيقٍ، وَخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ رَضِيعٍ (2) .
أَمَّا قَطْعُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ قَطْعُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ بِلاَ عُذْرٍ كَالْفَرْضِ وَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ، وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ قَطْعُ التَّطَوُّعِ، عَدَا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لِحَدِيثِ الْمُتَنَفِّل أَمِيرُ نَفْسِهِ (3) وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، أَمَّا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا، وَإِنْ فَسَدَا إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا، لأَِنَّ نَفْلَهُمَا كَفَرْضِهِمَا (ر: تَطَوُّعٌ ف 21) .
وَتَنْقَطِعُ الصَّلاَةُ بِإِتْيَانِ مَا يَتَنَافَى مَعَهَا
__________
(1) سورة محمد / 33.
(2) رد المحتار 1 / 440، بدائع الصنائع 1 / 281، حاشية الدسوقي 1 / 281، المغني 2 / 49، 249، المجموع 4 / 81 وما بعدها 94 - 105، 106 وما بعدها.
(3) (1) حديث: " المتنقل أمير نفسه ". أخرجه الترمذي (3 / 100) من حديث أم هانئ بلفظ " الصائم أمير أو أمين نفسه ". وأخرجه الحاكم (1 / 439) وصححه ووافقه الذهبي.(34/51)
كَتَعَمُّدِ الْحَدَثِ، وَنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ الإِْحْرَامِ، وَالْكَلاَمِ الْكَثِيرِ عُرْفًا، وَالْعَمَل الْكَثِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلاَتِهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقْطَعُهَا أَيْضًا: الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَهُوَ الْبَهِيمُ الَّذِي لَيْسَ فِي لَوْنِهِ شَيْءٌ سِوَى السَّوَادِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ: الْكَلْبُ الأَْسْوَدُ، وَالْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَرَّتْ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلاَ يَقْطَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَيَقْطَعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُل فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا (ر: اقْتِدَاءٌ ف 11) .
وَيَقْطَعُ الصَّوْمَ مَا يُبْطِلُهُ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ، وَلاَ يَنْقَطِعُ الصَّوْمُ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (ر: صَوْمٌ ف 33) .
قَطْعُ الْقُدْوَةِ:
3 - تَنْقَطِعُ قُدْوَةُ الْمَأْمُومِ بِخُرُوجِ إِمَامِهِ مِنْ صَلاَتِهِ بِسَلاَمٍ، أَوْ غَيْرِهِ لِزَوَال الرَّابِطَةِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلْمَأْمُومِ قَطْعُهَا بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لأَِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لاَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَهُمْ، كَالتَّطَوُّعِ، إِلاَّ فِي الْجِهَادِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، لأَِنَّ الْفِرْقَةَ الأُْولَى فَارَقَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَاتِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 241، المجموع 3 / 250، المغني 2 / 249.(34/52)
الرِّقَاعِ (1) ، لَكِنْ يُكْرَهُ قَطْعُهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ، كَمَرَضٍ، وَتَطْوِيل الإِْمَامِ لِمَنْ لاَ يَصْبِرُ لِضَعْفٍ، أَوْ شُغْلٍ، وَتَرْكِهِ سُنَّةً مَقْصُودَةً كَتَشَهُّدٍ أَوْ قُنُوتٍ.
قَطْعُ مُوَالاَةِ الْفَاتِحَةِ:
4 - يَقْطَعُ مُوَالاَةَ الْفَاتِحَةِ تَخَلُّل ذِكْرٍ، وَإِنْ قَل، وَسُكُوتٌ طَوِيلٌ عُرِفَ بِلاَ عُذْرٍ، أَوْ سُكُوتٌ وَلَوْ كَانَ قَصِيرًا قُصِدَ بِهِ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ، لإِِشْعَارِ ذَلِكَ الإِْعْرَاضَ عَنِ الْقِرَاءَةِ (2) .
قَطْعُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
5 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ سَمَاعُ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ، فَإِنِ انْفَضُّوا أَوْ بَعْضُهُمْ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (خُطْبَةٌ ف 24) .
قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ قَطْعِ أَوْ قَلْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ شَجَرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُحْرِمُ وَغَيْرُهُ، لِحَدِيثِ: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَِحَدٍ بَعْدِي أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ
__________
(1) المنهج على حاشية الجمل 1 / 578 وحديث مفارقة الفرقة الأولى للنبي صلى الله عليه وسم في ذات الرقاع. أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 421) ، ومسلم (1 / 575 - 576) من حديث صالح بن خوَّات.
(2) المنهج على حاشية الجمل 1 / 347.(34/52)
يُعْضَدُ شَجَرُهَا (1) .
(ر: حَرَمٌ ف 10) .
قَطْعُ سِلْعَةٍ أَوْ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ:
7 - لِلْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِل قَطْعُ سِلْعَةٍ - أَيْ وَرَمٍ وَنَحْوِهِ - مِنْ جَسَدِهِ لاَ خَطَرَ فِي قَطْعِهَا، وَلاَ فِي تَرْكِهَا، لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي إِزَالَةِ الشَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَطْعِهَا خَطَرٌ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ أَوْ طَبِيبٍ ثِقَةٍ وَلاَ خَطَرَ فِي تَرْكِهَا، أَوْ زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهَا، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى هَلاَكِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ يَقُول. {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) ، وَإِنْ قَال الأَْطِبَّاءُ: إِنْ لَمْ يُقْطَعْ حَصَل أَمْرٌ يُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ، وَجَبَ الْقَطْعُ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْمُهْلِكَاتِ، وَمِثْل السِّلْعَةِ الْعُضْوُ الْمُتَآكِل فِي الأَْحْكَامِ.
وَلِلأَْصْل وَإِنْ عَلاَ: قَطْعُ نَحْوِ سِلْعَةٍ وَعُضْوٍ مُتَآكِلٍ مِنْ صَبِيٍّ، وَمَجْنُونٍ مَعَ الْخَطَرِ فِيهِ إِنْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ عَلَى خَطَرِ الْقَطْعِ، لأَِنَّهُ يَلِي صَوْنَ مَالِهِمَا عَنِ الضَّيَاعِ فَبَدَنُهُمَا أَوْلَى، وَلِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ غَيْرِ الأَْبِ وَالْجَدِّ قَطْعُهَا بِلاَ خَطَرٍ، أَمَّا مَعَ الْخَطَرِ فَلاَ يَجُوزُ (3) .
__________
(1) حديث: " حرم الله مكة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 213) من حديث ابن عباس.
(2) سورة البقرة / 195.
(3) مغني المحتاج 4 / 200 - 201، المنهج على الجمل 1 / 171.(34/53)
قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ:
8 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَةُ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى سَارِقِ نِصَابِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَى الإِْمَامِ وَثَبَتَتِ السَّرِقَةُ عِنْدَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) ، وَحَدِيثِ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 62) .
قَطْعُ أَيْدِي الْمُحَارِبِينَ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلاَفٍ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ بَيْنِ عُقُوبَاتِ الْمُحَارِبِينَ قَطْعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، قَال تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ} (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حِرَابَةٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
قَطْعُ الطَّرِيقِ
انْظُرْ: حِرَابَة
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) حديث: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 96) ، ومسلم (3 / 1312) من حديث عائشة.
(3) سورة المائدة / 33.(34/53)
قَفِيز
انْظُرْ: مَقَادِير
قَلْس
انْظُرْ: قَيْء
قُلْفَة
انْظُرْ: حَشَفَة، خِتَان
قُلَّة
انْظُرْ: مَقَادِير(34/54)
قَلَنْسُوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَلَنْسُوَةُ لُغَةً: مِنْ مَلاَبِسِ الرُّءُوسِ. وَالتَّقْلِيسُ: لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلَنْسُوَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي نَزْعِهَا.
قَال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: قَال أَحْمَدُ: لاَ يُمْسَحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ إِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهَا ضَرَرٌ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة (قلس) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 181، والدسوقي 1 / 163، والمغني 1 / 304، وكشاف القناع 1 / 113.
(3) ابن عابدين 1 / 181، والاختيار 1 / 25، وكشاف القناع 1 / 113، والمغني 1 / 304.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 163.(34/54)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَسُرَ رَفْعُ الْقَلَنْسُوَةِ، أَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ كَمَّل بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ (1) ، وَسَوَاءٌ أَعَسُرَ عَلَيْهِ تَنْحِيَتُهَا أَمْ لاَ
حُكْمُ لُبْسُ الْمُحْرِمِ الْقَلَنْسُوَةَ:
3 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ، لأَِنَّ سَتْرَ الرَّأْسِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْمُحْرِمِ: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: (قَوْلُهُ وَلاَ الْبَرَانِسَ) قَال فِي الصِّحَاحِ الْبُرْنُسُ: قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ وَكَانَ النُّسَّاكُ يَلْبَسُونَهَا فِي صَدْرِ الإِْسْلاَمِ.
فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْقَلَنْسُوَةَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) خبر " أنه توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة ". أخرجه مسلم (1 / 230) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: لا يلبس القمص ولا العمائم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 401) ومسلم (2 / 835) واللفظ للبخاري.
(3) الاختيار 1 / 144، وابن عابدين 2 / 163، 203، والدسوقي 2 / 55، 58، 66، والمهذب 1 / 214، والإفصاح 1 / 283.(34/55)
حُكْمُ لُبْسِ أَهْل الذِّمَّةِ الْقَلاَنِسَ:
4 - مِنْ أَحْكَامِ أَهْل الذِّمَّةِ أَنَّهُمْ يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (1) ، فَإِذَا لَبِسُوا الْقَلاَنِسَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْقَلاَنِسِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ بِتَمْيِيزِهَا بِعَلاَمَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ لُبْسِ الْقَلاَنِسِ الصِّغَارِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوِيلَةً مِنْ كِرْبَاسٍ مَصْبُوغَةً بِالسَّوَادِ مَضْرَبَةً مُبَطَّنَةً وَهَذَا فِي الْعَلاَمَةِ أَوْلَى (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِلْزَامِهِمْ لُبْسَ الْقَلاَنِسِ الطَّوِيلَةِ الْمَضْرَبَةِ وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، أَيْ تَكُونُ عَلاَمَةً يُعْرَفُونَ بِهَا (3) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: إِنْ لَبِسُوا الْقَلاَنِسَ جَعَلُوا. فِيهَا خِرَقًا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ قَلاَنِسِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعُمَرَ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ فَشَرَطَ أَنْ لاَ تَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلاَ عِمَامَةٍ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 256 - 257.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 274.
(3) ابن عابدين 3 / 274.
(4) المهذب 2 / 255، مغني المحتاج 4 / 256 - 257.(34/55)
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ (2) .
قِمَار
انْظُرْ: مَيْسِر
قَمِيص
انْظُرْ: أَلْبِسَة
قِنْطَار
انْظُرْ: مَقَادِير
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 132، والمغني 8 / 533 ط. الرياض.
(2) جواهر الإكليل 1 / 268.(34/56)
قُنْفُذ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
قِنّ
انْظُرْ: رِقّ(34/56)
قُنُوت
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا:
- الطَّاعَةُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (1) .
- وَالصَّلاَةُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) .
وَطُول الْقِيَامِ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (3) أَيْ طُول الْقِيَامِ.
وَسُئِل ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَال: مَا أَعْرِفُ الْقُنُوتَ إِلاَّ طُول الْقِيَامِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْل سَاجِدًا وَقَائِمًا} (4) .
__________
(1) البقرة / 116.
(2) آل عمران / 43.
(3) حديث: " أفضل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) الزمر / 9، وانظر بصائر ذوي التمييز 4 / 298.(34/57)
وَالسُّكُوتُ: حَيْثُ وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُل صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ (2) .
وَالدُّعَاءُ: وَهُوَ أَشْهَرُهَا، قَال الزَّجَّاجُ: الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقُنُوتَ الدُّعَاءُ، وَأَنَّ الْقَانِتَ الدَّاعِي، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ الْقُنُوتَ يُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ بِخَيْرٍ وَشَرٍّ، يُقَال: قَنَتَ لَهُ وَقَنَتَ عَلَيْهِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَلاَّنَ: الْقُنُوتُ عِنْدَ أَهْل الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنَ الْقِيَامِ (4) .
الْقُنُوتُ فِي الصَّلاَةِ:
2 - الْقُنُوتُ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ: صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَصَلاَةِ الْوِتْرِ، وَفِي النَّوَازِل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) البقرة / 238.
(2) حديث زيد بن أرقم " كنا نتكلم في الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 198) ، ومسلم (1 / 383) ، واللفظ لمسلم.
(3) انظر تحرير ألفاظ التنبيه للنووي (ط. دار القلم بدمشق) ص73، وبصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي 4 / 298، وطلبة الطلبة للنسفي ص28، والمصباح المنير، وغرر المقالة في شرح غريب الرسالة للمفراوي (ط. دار الغرب الإسلامي) ص118، وحلية الفقهاء لابن فارس ص81، والمغرب للمطرزي، والزاهر للأزهري ص99، وأنيس الفقهاء ص95.
(4) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 2 / 286.(34/57)
أ - الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) : لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيِّ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ (1) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ بِدْعَةٌ (2) ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ شَهْرًا يَدْعُو فِي قُنُوتِهِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ (4) ، قَالُوا: فَكَانَ مَنْسُوخًا، إِذِ التَّرْكُ دَلِيل النَّسْخِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الأَْشْجَعِيِّ قَال: قُلْتُ لأَِبِي: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ، وَأَبِي بَكْرٍ،
__________
(1) المغني لابن قدامة (ط. هجر بالقاهرة 1986م) 2 / 585 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 493، وروضة الطالبين 1 / 254، والمجموع للنووي 3 / 494، وبدائع الصنائع 1 / 273، وشرح معاني الآثار 1 / 241 - 254، ومجمع الأنهر 1 / 129، وعقود الجواهر المنيفة للزبيدي (ط. مؤسسة الرسالة) 1 / 147، وبداية المجتهد (مط. مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 3 / 89، ومنح الجليل 1 / 157، ومواهب الجليل 1 / 539.
(2) مجمع الأنهر 1 / 129.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 228، وكشاف القناع 1 / 493.
(4) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " قنت في صلاة الفجر شهرًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 385) ، ومسلم (1 / 469) ، من حديث أنس بن مالك واللفظ المذكور مركب من عدة روايات لهما.(34/58)
وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، أَكَانُوا يَقْنُتُونَ؟ قَال: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ. وَفِي لَفْظٍ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا بِدْعَةٌ (1) . قَال التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ مُسْتَحَبٌّ وَفَضِيلَةٌ (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ (3) فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَخَفَّافُ بْنُ إِيمَاءَ وَالْبَرَاءُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. قَال أَنَسٌ: مَا زَال رَسُول اللَّهِ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا (4) ، وَقَال عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ بِوُجُوبِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ، فَمَنْ تَرَكَهُ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ (5) .
وَيَجُوزُ قَبْل الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ فِي الرَّكْعَةِ
__________
(1) حديث سعد بن طارق: " قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 252) وقال: " حديث حسن صحيح "، واللفظ الآخر للنسائي (2 / 304) .
(2) مواهب الجليل 1 / 539، ومنح الجليل 1 / 157، وحاشيةالعدوي على كفاية الطالب الرباني 1 / 239، والقوانين الفقهية ط. الدار العربية للكتاب ص66.
(3) حديث: " كان يقنت في صلاة الصبح " تقدم بمعناه آنفًا
(4) حديث أنس: " ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ". أخرجه أحمد (3 / 162) ، والبيهقي (2 / 201) ، وضعفه ابن التركماني كما في هامش سنن البيهقي، وكذا ابن الجوزي كما في (نصب الراية 2 / 132) .
(5) حاشية البناني على الزرقاني 1 / 212، ومنح الجليل 1 / 157، ومواهب الجليل 1 / 539.(34/58)
الثَّانِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ الأَْفْضَل كَوْنُهُ قَبْل الرُّكُوعِ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ بِلاَ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَهُ (1) ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَسْبُوقِ، وَعَدَمِ الْفَصْل بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُكْنَيِ الصَّلاَةِ وَلأَِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحُضُورِ الصَّحَابَةِ، قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَا الْعُطَارِدِيِّ قَال: كَانَ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَصَيَّرَهُ عُمَرُ قَبْلَهُ لِيُدْرِكَ الْمُدْرِكُ وَرُوِيَ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارَ سَأَلُوهُ عُثْمَانَ، فَجَعَلَهُ قَبْل الرُّكُوعِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ فَائِدَةً لاَ تُوجَدُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ أَنَّ الْقِيَامَ يَمْتَدُّ فَيَلْحَقُ الْمُفَاوِتُ، وَلأَِنَّ فِي الْقُنُوتِ ضَرْبًا مِنْ تَطْوِيل الْقِيَامِ، وَمَا قَبْل الرُّكُوعِ أَوْلَى بِذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا فِي الْفَجْرِ (2) .
وَيُنْدَبُ كَوْنُهُ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّل عَلَيْكَ، وَنَخْضَعُ لَكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدُّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ.
وَمَنْ تَرَكَ الْقُنُوتَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَجَدَ لِتَرْكِهِ قَبْل السَّلاَمِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 1 / 239، ومواهب الجليل 1 / 539.
(2) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 88.(34/59)
وَلَيْسَ لِدُعَاءِ الْقُنُوتِ حَدٌّ مَحْدُودٌ.
وَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ، كَمَا لاَ يَرْفَعُ فِي التَّأْمِينِ، وَلاَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ (1) .
وَالإِْسْرَارُ بِهِ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، فَيَنْبَغِي الإِْسْرَارُ بِهِ حَذَرًا مِنَ الرِّيَاءِ (2) .
وَالْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ لاَ يَقْنُتُ فِي الْقَضَاءِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُْولَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قُنُوتٌ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ أَدْرَكَ قَبْل رُكُوعِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَقْنُتْ فِي قَضَائِهِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ قُنُوتَ الإِْمَامِ أَمْ لاَ (3) .
(الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ سُنَّةٌ، قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُنُوتَ مَشْرُوعٌ عِنْدَنَا فِي الصُّبْحِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ (4) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا زَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ
__________
(1) التفريع 1 / 266، والقوانين الفقهية ص67، ومواهب الجليل 1 / 540، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 1 / 239.
(2) العدوي على كفاية الطالب الرباني 1 / 239، ومواهب الجليل 1 / 539.
(3) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 1 / 239، ومختصر الدر الثمين لميّاره (ط. المغرب) ص139، والقوانين الفقهية ط. الدار العربية للكتاب بتونس ص66، والتفريع لابن الجلاب (ط. دار الغرب الإسلامي) 1 / 266، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 1 / 539، والزرقاني على خليل وحاشية البناني عليه 1 / 212، ومنح الجليل 1 / 157، والإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب (ط. تونس) 1 / 88، وبداية المجتهد (مط. مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للصديق الغماري) 3 / 72 وما بعدها.
(4) الأذكار (ط. مكتبة دار البيان) ص86.(34/59)
فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا (1) .
قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لَكِنْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.
أَمَّا مَحَلُّهُ، فَبَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ، فَلَوْ قَنَتَ قَبْل الرُّكُوعِ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ عَلَى الأَْصَحِّ (2) ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ (3) .
وَأَمَّا لَفْظُهُ، فَالاِخْتِيَارُ أَنْ يَقُول فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: عَلَّمَنِي رَسُول اللَّهِ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَأَنَّهُ لاَ يَذِل مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ (4) ، وَزَادَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ قَبْل: تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ وَبَعْدَهُ: فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: لاَ بَأْسَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَال أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ
__________
(1) حديث أنس بن مالك. تقدم آنفًا.
(2) المجموع شرح المهذب 3 / 495، والأذكار للنووي ص86.
(3) الفتوحات الربانية لابن علان 2 / 293.
(4) حديث الحسن بن علي: " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 328) وقال: حديث حسن ولا نعرف عن النبي صلى الله عيه وسلم في القنوت شيئًا أحسن من هذا.(34/60)
وَآخَرُونَ: مُسْتَحَبَّةٌ (1) .
وَيُسَنُّ أَنْ يَقُول عَقِبَ هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ.
وَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُنُوتَ لاَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ دُعَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ، فَأَيُّ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ حَصَل الْقُنُوتُ، وَلَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ حَصَل الْقُنُوتُ (3) ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ (4) .
وَلَوْ قَنَتَ بِالْمَنْقُول عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ حَسَنًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْل الْكِتَابِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِل أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِل بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لاَ تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 254، والمجموع 3 / 496.
(2) المجموع 3 / 499.
(3) المجموع شرح المهذب 3 / 497.
(4) الأذكار للنووي ص 88، وانظر روضة الطالبين 1 / 254.(34/60)
وَلاَ نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَلَكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ الْجِدَّ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ (1) .
ثُمَّ إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ قُنُوتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا سَبَقَ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَالأَْصَحُّ تَأْخِيرُ قُنُوتِ عُمَرَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الأَْوَّل، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامَ جَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيل (2) .
وَيُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا أَلاَّ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ، بَل يُعَمِّمَ، فَيَأْتِيَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ " اللَّهُمَّ اهْدِنَا. . . إِلَخْ "، لِمَا رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَؤُمُّ امْرُؤٌ قَوْمًا، فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَل فَقَدْ خَانَهُمْ (3) .
أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا اسْتِحْبَابُ رَفْعِ
__________
(1) حديث " عمر في القنوت ". أخرجه البيهقي في سننه (2 / 210 - 211) وله ألفاظ أخرى في مصنف عبد الرزاق (3 / 110، 111) ومصنف ابن أبي شيبة (2 / 314) ، وانظر الأذكار 87، والمجموع شرح المهذب 3 / 498.
(2) المجموع 3 / 499.
(3) حديث: " لا يؤم امرؤ قومًا. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 189) .(34/61)
الْيَدَيْنِ فِيهِ (1) .
وَأَمَّا مَسْحُ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ - إِنْ قُلْنَا بِالرَّفْعِ - فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عَدَمُ اسْتِحْبَابِ الْمَسْحِ (2) .
وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ أَوِ الإِْسْرَارُ بِهِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا، أَوْ مُنْفَرِدًا، أَوْ مَأْمُومًا.
فَإِنْ كَانَ إِمَامًا: فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ فِي الأَْصَحِّ.
وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَيُسِرُّ بِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا: فَإِنْ لَمْ يَجْهَرِ الإِْمَامُ قَنَتَ سِرًّا كَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ، وَإِنْ جَهَرَ الإِْمَامُ بِالْقُنُوتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ يَسْمَعُهُ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ، وَشَارَكَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْمَعُهُ قَنَتَ سِرًّا (3) .
ب - الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) لأَِبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ أَنَّ الْقُنُوتَ وَاجِبٌ فِي الْوِتْرِ قَبْل الرُّكُوعِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَقَال الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ سُنَّةٌ
__________
(1) الأذكار ص88.
(2) المجموع شرح المهذب 3 / 500 - 501.
(3) الأذكار للنووي (ط. دار البيان بدمشق) ص86 - 89، وروضة الطالبين 1 / 253 - 255، والمجموع شرح المهذب 3 / 492 - 511.(34/61)
فِي كُل السَّنَةِ قَبْل الرُّكُوعِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا فَرَغَ مُصَلِّي الْوِتْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ كَبَّرَ رَافِعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ دُعَاءَ الْقُنُوتِ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي آخِرِ الْوِتْرِ قَبْل الرُّكُوعِ (2) .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ. . . إِلَخْ (3) " " اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ. . . إِلَخْ " وَكِلاَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ السُّورَةِ (4) .
وَلَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ فِي حَال الْقُنُوتِ، وَلأَِنَّ الْمُؤَقَّتَ مِنَ الدُّعَاءِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إِلَى إِحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 43 - 45، والبدائع 1 / 273، ومجمع الأنهر 1 / 128.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم " قنت في آخر الوتر قبل الركوع ". أخرجه الدارقطني (2 / 32) ، وذكر ابن حجر في الدراية (1 / 193) أن في إسناده عمرو بن شمر، وهو واهٍ.
(3) حديث أنه كان يقرأ في القنوت: " اللهم إنا نستعينك. . . ". وحديث: " اللهم اهدنا فيمن هديت. . . ". ذكر الدعاء الأول ورد من حديث ابن عباس، أورده ابن حجر في التلخيص (1 / 249 - 250) معزوًا إلى الحاكم وضعفه والآخر ورد من تعليمه الحسن بن علي، وقد تقدم في ف3.
(4) البحر الرائق 2 / 44، والبدائع 1 / 273.(34/62)
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَبْعُدُ عَنِ الإِْجَابَةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَال: التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ مَا سِوَى قَوْلِهِ: " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ. . " لأَِنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ، فَالأَْوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ، وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ، وَلَوْ قَرَأَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَ حَسَنًا، وَالأَْوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ مَا عَلَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قُنُوتِهِ " اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَا هَدَيْتَ (1) . . "، إِلَى آخِرِهِ (2) .
وَمَنْ لاَ يُحْسِنُ الْقُنُوتَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لاَ يَحْفَظُهُ، فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ مُخْتَارَةٍ، قِيل: يَقُول: " يَا رَبِّ " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَقِيل: يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَقِيل: يَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ لاَ فِي الْجَوَازِ، وَأَنَّ الأَْخِيرَ أَفْضَل لِشُمُولِهِ، وَأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَل يَجُوزُ لِمَنْ يَعْرِفُ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدٍ
__________
(1) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي في قنوته ". تقدم ف3.
(2) البدائع 1 / 273.(34/62)
مِمَّا ذُكِرَ لَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَدَمُ تَوْقِيتِهِ (1) .
وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ.
وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ، لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ (2) .
قَال أَبُو يُوسُفَ: يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ الْمُقْتَدِي أَيْضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لأَِنَّهُ دُعَاءٌ كَسَائِرِ الأَْدْعِيَةِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَقْرَأُ بَل يُؤَمِّنُ لأَِنَّ لَهُ شُبْهَةَ الْقُرْآنِ احْتِيَاطًا.
وَقَال فِي الذَّخِيرَةِ: اسْتَحْسَنُوا الْجَهْرَ فِي بِلاَدِ الْعَجَمِ لِلإِْمَامِ لِيَتَعَلَّمُوا، كَمَا جَهَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّنَاءِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ الْعِرَاقِ، وَنَصَّ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ الْمُخَافَتَةُ، وَفِي الْمُحِيطِ عَلَى أَنَّهُ الأَْصَحُّ (3) .
وَفِي الْبَدَائِعِ: وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الإِْخْفَاءَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 45.
(2) ابن عابدين 1 / 449، وبدائع الصنائع 1 / 274.
(3) البحر الرائق 2 / 46.
(4) بدائع الصنائع 1 / 274.(34/63)
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ (2) .
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ. فَقَدْ قَال أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لاَ يُفْعَل، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَهَا، وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَأْتِي بِهَا، لأَِنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ، فَالأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ فِيهِ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى (3) .
وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إِذَا فَاتَ عَنْ مَحَلِّهِ، فَقَالُوا: إِذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حَتَّى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لاَ يَعُودُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقُنُوتُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِي الرُّكُوعِ، فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كَمَا فِي الْبَدَائِعِ، وَصَحَّحَهُ فِي الْفَتَاوَى الْخَانِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقُنُوتِ، لأَِنَّ لَهُ شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوِ السُّورَةَ فَتَذَكَّرَهَا فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، كَذَا هَاهُنَا (4) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَطَاوُسٍ،
__________
(1) سورة الأعراف / 55.
(2) حديث: " خير الذكي الخفي ". أخرجه أحمد (1 / 172) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 81) : فيه محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة، وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين.
(3) بدائع الصنائع 1 / 274.
(4) البحر الرائق 2 / 45، وبدائع الصنائع 1 / 274، والدر المنتقي شرح الملتقى 1 / 128، وحاشية ابن عابدين 1 / 450.(34/63)
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُشْرَعُ الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ مِنَ السَّنَةِ كُلِّهَا، فَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَال: الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ بِدْعَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ لاَ يَقْنُتُ فِي صَلاَةٍ بِحَالٍ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ (1) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ قَنَتَ فِيهَا، وَإِنْ أَوْتَرَ بِأَكْثَرَ قَنَتَ فِي الأَْخِيرَةِ (2) .
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي جَمِيعِ رَمَضَانَ.
وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ الْقُنُوتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بِلاَ كَرَاهَةٍ، وَلاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِهِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، قَال: وَهَذَا حَسَنٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ طَبَرِسْتَانَ (3) .
قَال الرَّافِعِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) الكافي لابن عبد البر (ط. دار الكتب العلمية في بيروت) ص74، والتفريع لابن الجلاب 1 / 266، والقوانين الفقهية ص66، ومنح الجليل 1 / 157، والزرقاني على خليل 1 / 212، والمغني لابن قدامة 2 / 580، والمجموع للنووي 4 / 24.
(2) الأذكار للنووي ص86، والفتوحات الربانية لبن علان 2 / 291، وروضة الطالبين 1 / 253، 330، والمجموع شرح المهذب 4 / 15.
(3) المجموع 4 / 15، الروضة 1 / 330.(34/64)
كَرَاهَةُ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ (1) .
أَمَّا مَحَل الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، فَهُوَ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ (2) .
أَمَّا لَفْظُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ فَكَالصُّبْحِ (3) .
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دُعَاءِ الْقُنُوتِ قُنُوتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4) .
أَمَّا الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الْوَجْهِ فَحُكْمُهَا مَا سَبَقَ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ نَفْسِهِ (5) .
(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُسَنُّ الْقُنُوتُ جَمِيعَ السَّنَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ الأَْخِيرَةِ مِنَ الْوِتْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ (6) ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ (7) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي تَعْلِيل مَشْرُوعِيَّتِهِ كُل السَّنَةِ: لأَِنَّهُ وِتْرٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ الْقُنُوتُ، كَالنِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَلأَِنَّهُ ذِكْرٌ شُرِعَ فِي الْوِتْرِ، فَشُرِعَ
__________
(1) المجموع 4 / 15، وانظر روضة الطالبين 1 / 330.
(2) روضة الطالبين 1 / 330، والمجموع 4 / 15.
(3) روضة الطالبين 1 / 253.
(4) الروضة 1 / 331.
(5) المجموع 4 / 16، الروضة 1 / 331.
(6) شرح منتهى الإرادات 1 / 226، وكشاف القناع 1 / 489، والمغني 2 / 580، وما بعدها (ط. هجر) والمبدع 2 / 7.
(7) حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 284) ، ومسلم (1 / 468) ، وحديث أنس أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 489) ، ومسلم (1 / 468) .(34/64)
فِي جَمِيعِ السَّنَةِ كَسَائِرِ الأَْذْكَارِ (1) .
وَلَوْ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ قَنَتَ قَبْل الرُّكُوعِ جَازَ (2) ، لِمَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْل الرُّكُوعِ (3) .
وَهَيْئَةُ الْقُنُوتِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ حَال قُنُوتِهِ وَيَبْسُطَهُمَا وَبُطُونَهُمَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ مَأْمُومًا، وَيَقُول جَهْرًا - سَوَاءٌ أَكَانَ إِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا -: " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَهْدِيكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّل عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، نَشْكُرُكَ وَلاَ نَكْفُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَذِل مَنْ وَالَيْتَ، وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ نُحْصَى ثَنَاءً
__________
(1) المغني 2 / 581.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 226.
(3) حديث أُبي بن كعب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع ". أورده أبو داود (2 / 135) معلقًا، ثم ضعفه.(34/65)
عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ".
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا شَاءَ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ، قَال الْمَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُفْرِدُ الْمُنْفَرِدُ الضَّمِيرَ، فَيَقُول اللَّهُمَّ اهْدِنِي.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعِيذُكَ. . . إِلَخْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ. وَعَلَيْهِ نَصَّ أَحْمَدُ، وَعِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، يَجْمَعُهُ، لأَِنَّهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (1) .
وَالْمَأْمُومُ إِذَا سَمِعَ قُنُوتَ إِمَامِهِ أَمَّنَ عَلَيْهِ بِلاَ قُنُوتٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ دَعَا، وَهَل يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ إِذَا فَرَغَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (أَشْهَرُهُمَا) أَنَّهُ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، نَقَلَهُ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ الأَْكْثَرُ، لِمَا رَوَى السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ، مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ (2) ، وَكَخَارِجِ الصَّلاَةِ.
(وَالثَّانِيَةُ) لاَ، نَقَلَهَا الْجَمَاعَةُ، وَاخْتَارَهَا الآْجُرِّيُّ لِضَعْفِ الْخَبَرِ، وَعَنْهُ: يُكْرَهُ، صَحَّحَهَا فِي الْوَسِيلَةِ، وَعَنْهُ: يُمِرُّهُمَا عَلَى صَدْرِهِ (3) ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا أَرَادَ السُّجُودَ، لأَِنَّ الْقُنُوتَ مَقْصُودٌ فِي
__________
(1) (1) المبدع 2 / 12.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان دعا فرفع يديه مسح بهما وجهه ". أخرجه أبو داود (2 / 166) ، وفي إسناده راوٍ مجهول كما في الميزان للذهبي (1 / 569)
(3) المبدع 2 / 12، والمغني 4 / 585.(34/65)
الْقِيَامِ، فَهُوَ كَالْقِرَاءَةِ (1) .
ج - الْقُنُوتُ عِنْدَ النَّازِلَةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ عِنْدَ النَّوَازِل عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ إِلاَّ لِنَازِلَةٍ: كَفِتْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، فَيَقْنُتُ الإِْمَامُ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ (2) ، قَال الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا لاَ يَقْنُتُ عِنْدَنَا فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنْ دُونِ وُقُوعِ بَلِيَّةٍ، فَإِنْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ أَوْ بَلِيَّةٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَهَل الْقُنُوتُ لِلنَّازِلَةِ قَبْل الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ احْتِمَالاَنِ، اسْتَظْهَرَ الْحَمَوِيُّ فِي حَوَاشِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ كَوْنَهُ قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا اسْتَظْهَرَهُ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ أَنَّهُ بَعْدَهُ (4) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الأَْصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مُطْلَقًا (5) ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لاَ بِوِتْرٍ وَلاَ فِي سَائِرِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 489 - 493، وشرح منتهى الإرادات 1 / 226 - 228، والمبدع 2 / 7 - 12، والمغني لابن قدامة 2 / 580 - 585، (ط. هجر) وبدائع الفوائد 4 / 112، 113.
(2) البحر الرائق وحاشيته منحة الخالق لابن عابدين 2 / 47، 48، الدر المنتقى شرح الملتقى 1 / 129، مرقاة المفاتيح 1 / 163.
(3) عقود الجواهر المنيفة للزبيدي 1 / 147، ومنحة الخالق على البحر الرائق 2 / 47.
(4) منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين 2 / 48.
(5) منح الجليل 1 / 157، ومواهب الجليل 1 / 539، والأذكار للنووي ص86، وروضة الطالبين 1 / 254، والمجموع شرح المهذب 3 / 494.(34/66)
الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ خِلاَفًا لِزَاعِمِيهِ، لَكِنْ لَوْ قَنَتَ فِي غَيْرِهَا لَمْ تَبْطُل، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ الْكَرَاهَةُ (1) ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ، كَوَبَاءٍ، وَقَحْطٍ، أَوْ مَطَرٍ يَضُرُّ بِالْعُمْرَانِ أَوِ الزَّرْعِ، أَوْ خَوْفِ عَدُوٍّ، أَوْ أَسْرِ عَالِمٍ قَنَتُوا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، قَال النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى كَلاَمِ الأَْكْثَرِينَ أَنَّ الْكَلاَمَ وَالْخِلاَفَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ إِيرَادُهُ بِالاِسْتِحْبَابِ، قُلْتُ: الأَْصَحُّ اسْتِحْبَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْعُدَّةِ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الإِْمْلاَءِ (3) ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةٌ فَلاَ قُنُوتَ إِلاَّ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ: وَإِنْ لَمْ تَنْزِل فَلاَ يَقْنُتُوا، أَيْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيل لِغَيْرِ النَّازِلَةِ، وَفَارَقَتِ الصُّبْحُ غَيْرَهَا بِشَرَفِهَا مَعَ اخْتِصَاصِهَا
__________
(1) شرح الزرقاني على خليل 1 / 212.
(2) حديث أنس: " أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا ثم تركه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 385) ، ومسلم (1 / 469) .
(3) روضة الطالبين 1 / 254، وانظر المجموع شرح المهذب 3 / 494.(34/66)
بِالتَّأْذِينِ قَبْل الْوَقْتِ، وَبِالتَّثْوِيبِ، وَبِكَوْنِهَا أَقْصَرَهُنَّ، فَكَانَتْ بِالزِّيَادَةِ أَلْيَقَ، وَلِيَعُودَ عَلَى يَوْمِهِ بِالْبَرَكَةِ، لِمَا فِيهِ - أَيِ الْقُنُوتِ - مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَنَتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، يَدْعُو عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ إِذَا قَال سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ (2) قَال ابْنُ عَلاَّنَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَاتِلِي أَصْحَابِهِ الْقُرَّاءِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، لِدَفْعِ تَمَرُّدِ الْقَاتِلِينَ، لاَ لِتَدَارُكِ الْمَقْتُولِينَ لِتَعَذُّرِهِ. وَقِيسَ غَيْرُ خَوْفِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ (3) .
وَإِذَا قَنَتَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ مِنَ الْفَرَائِضِ لِنَازِلَةٍ، فَهَل يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ أَمْ يُسِرُّ بِهِ؟ قَال النَّوَوِيُّ: الرَّاجِحُ أَنَّهَا كُلَّهَا كَالصُّبْحِ، سِرِّيَّةً كَانَتْ أَمْ جَهْرِيَّةً، وَمُقْتَضَى إِيرَادِهِ فِي الْوَسِيطِ أَنَّهُ يُسِرُّ فِي السِّرِّيَّةِ، وَفِي الْجَهْرِيَّةِ الْخِلاَفُ (4) .
__________
(1) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 2 / 289، وانظر المجموع شرح المهذب3 / 494، 505، وروضة الطالبين 1 / 254، والأذكار ص86، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 539.
(2) حديث ابن عباس: " قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر ". أخرجه أبو داود (2 / 143) ، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات لابن علان (2 / 288) .
(3) الفتوحات الربانية 2 / 288.
(4) روضة الطالبين 1 / 255.(34/67)
(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ وِتْرٍ إِلاَّ أَنْ تَنْزِل بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ - غَيْرُ الطَّاعُونِ - لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْقُنُوتُ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ شَهَادَةٌ لِلأَْخْيَارِ، فَلاَ يُسْأَل رَفْعُهُ (1) ، فَيُسَنُّ لِلإِْمَامِ الأَْعْظَمِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ (2) - الْقُنُوتُ فِيمَا عَدَا الْجُمُعَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ (3) - لِرَفْعِ تِلْكَ النَّازِلَةِ، ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ (4) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ ثُمَّ قَال: إِنَّمَا اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا هَذَا (5) .
وَيَقُول الإِْمَامُ فِي قُنُوتِهِ نَحْوًا مِمَّا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي الْقُنُوتِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 494، وشرح منتهى الإرادات 1 / 229.
(2) المبدع 2 / 13.
(3) المغني 2 / 587، 588، والمبدع 2 / 13.
(4) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو علي حي من أحياء العرب ثم تركه ". أخرجه مسلم (1 / 469) ، وبمعناه في البخاري (فتح الباري 7 / 490) .
(5) المغني 1 / 787 مع الشرح الكبير نشر الكتاب العربي. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2 / 310.(34/67)
وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْل الْكِتَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِل أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِل بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لاَ يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ (1) . . . إِلَخْ
وَيَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لِلنَّازِلَةِ فِي صَلاَةٍ جَهْرِيَّةٍ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ مُطْلَقًا (2) ، وَلَوْ قَنَتَ فِي النَّازِلَةِ كُل إِمَامِ جَمَاعَةٍ أَوْ كُل مُصَلٍّ، لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ. لأَِنَّ الْقُنُوتَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ، كَمَا لَوْ قَال: آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ (3) .
__________
(1) المغني 2 / 587، والأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2 / 210، 211) .
(2) المبدع 2 / 14، وشرح منتهى الإرادات 1 / 229.
(3)) كشاف القناع 1 / 494، وشرح منتهى الإرادات 1 / 228، 229، والمغني 2 / 586 وما بعدها.(34/68)
قُنْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِنْيَةُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ الْمَال وَكَسْبُهُ وَاتِّخَاذُهُ لِلنَّفْسِ، يُقَال: اقْتَنَيْتُ الْمَال: اتَّخَذْتُهُ لِنَفْسِي قِنْيَةً لاَ لِلتِّجَارَةِ، وَقَنَى الشَّيْءَ قَنْيًا: كَسَبَهُ وَجَمَعَهُ.
وَالْقِنْيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: حَبْسُ الْمَال لِلاِنْتِفَاعِ لاَ لِلتِّجَارَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَنْزُ:
2 - الْكَنْزُ لُغَةً: مِنْ كَنَزْتُ الْمَال كَنْزًا أَيْ جَمَعْتَهُ وَادَّخَرْتَهُ.
وَشَرْعًا: هُوَ الْمَال الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا تَحْتَ الأَْرْضِ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْقُنْيَةِ وَالْكَنْزِ هِيَ حَبْسُ الْمَال وَجَمْعُهُ (2)
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، والمطلع على أبواب المقنع ص 136، ومغني المحتاج 1 / 398.
(2) المفردات في غريب القرآن، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، ومغني المحتاج 1 / 389، والتفسير الكبير للرازي 16 / 44.(34/68)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - قُنْيَةُ الأَْشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا مِثْل اقْتِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا مِثْل اقْتِنَاءِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا مِثْل الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اقْتِنَاءٌ ف 2) .
زَكَاةُ الْقُنْيَةِ:
4 - قَسَّمَ ابْنُ جُزَيٍّ الْعُرُوضَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٍ لِلْقُنْيَةِ خَالِصًا، وَقِسْمٍ لِلتِّجَارَةِ خَالِصًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَقِسْمٍ لِلْقُنْيَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَقِسْمٍ لِلْغَلَّةِ وَالْكِرَاءِ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَرْضَ التِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلْقُنْيَةِ بِنِيَّةِ الْقُنْيَةِ وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْهُ، لأَِنَّ الْقُنْيَةَ هِيَ الأَْصْل، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ إِلَى الأَْصْل مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ فِي مَكَانٍ صَالِحٍ لِلإِْقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْحَال بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ؛ وَلأَِنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ، فَإِذَا نَوَى الْقُنْيَةَ زَالَتْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَفَاتَ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ وَلأَِنَّ الْقُنْيَةَ هِيَ الْحَبْسُ لِلاِنْتِفَاعِ وَقَدْ وُجِدَ بِالنِّيَّةِ مَعَ الإِْمْسَاكِ، كَمَا أَنَّ الْعَرْضَ إِذَا صَارَ لِلْقُنْيَةِ بِالنِّيَّةِ لاَ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِعْل التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ التِّجَارَةَ هِيَ تَقْلِيبُ الْعُرُوضِ بِقَصْدِ الإِْرْبَاحِ، وَلَمْ يُوجَدْ(34/69)
ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل الْقُنْيَةُ، وَالتِّجَارَةُ عَارِضٌ فَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ نَوَى الْحَاضِرُ السَّفَرَ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ حَيْثُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقُنْيَةَ تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ (1) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْقُنْيَةِ بِمُجَرَّدِهَا كَافِيَةٌ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ بَل أَوْلَى؛ لأَِنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يَغْلِبُ عَلَى إِسْقَاطِهَا احْتِيَاطًا؛ وَلأَِنَّهُ أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ فَاعْتُبِرَ كَالتَّقْوِيمِ (2) .
__________
(1) حديث سمرة: " كان يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 211 - 212) وحسن إسناده ابن عبد البر كما في الاستذكار (9 / 115) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 11 وما بعدها، القوانين الفقهية ص103، مغني المحتاج 1 / 398، المغني لابن قدامة 3 / 31 - 37.(34/69)
قَهْقَهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَهْقَهَةُ مَصْدَرُ قَهْقَهَ إِذَا مَدَّ وَرَجَّعَ فِي ضَحِكِهِ، وَقِيل: هُوَ اشْتِدَادُ الضَّحِكِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الضَّحِكُ الْمَسْمُوعُ لَهُ وَلِجِيرَانِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّحِكُ:
2 - الضَّحِكُ لُغَةً: مَصْدَرُ ضَحِكَ يَضْحَكُ ضِحْكًا وَضَحِكًا: انْفَرَجَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانُهُ مِنَ السُّرُورِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ دُونَ جِيرَانِهِ (4) .
وَبَيْنَ الضَّحِكِ وَالْقَهْقَهَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وحاشية ابن عابدين 1 / 98.
(2) التعريفات ص181، والبحر الرائق 1 / 42، وبداية المجتهد 1 / 39.
(3) المفردات للراغب ص293.
(4) فتح القدير 1 / 35 ط. بولاق، وحاشية ابن عابدين 1 / 98 ط. بولاق، والمفردات للراغب ص 293.(34/70)
ب - التَّبَسُّمُ:
3 - التَّبَسُّمُ مَصْدَرُ تَبَسَّمَ، وَالثُّلاَثِيُّ بَسَمَ، يُقَال: بَسَمَ يَبْسِمُ بَسْمًا: انْفَرَجَتْ شَفَتَاهُ عَنْ ثَنَايَاهُ ضَاحِكًا بِدُونِ صَوْتٍ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الضَّحِكِ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِقَوْلِهِ: مَا لاَ يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّبَسُّمِ وَالْقَهْقَهَةِ أَنَّ التَّبَسُّمَ غَالِبًا مُقَدِّمَةٌ لِلْقَهْقَهَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الصَّلاَةَ تَفْسُدُ بِالْقَهْقَهَةِ وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَال: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ رَعَفَ غَسَل عَنْهُ الدَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَفِيمَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدْ وُضُوءَهُ (3) .؛ وَلأَِنَّ الضَّحِكَ لَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 98.
(2) التعريفات ص181، وانظر قواعد الفقه ص218، وبدائع الصنائع 1 / 32 ط. دار الكتاب العربي، وحاشية الطحطاوي 1 / 83
(3) الأثر أخرجه البيهقي (1 / 145) .(34/70)
كَانَ نَاقِضًا لَنَقَضَ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا كَالْحَدَثِ، فَهِيَ لاَ تُوجِبُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلاَةِ فَلاَ تُوجِبُهُ دَاخِلَهَا كَالْعُطَاسِ وَالسُّعَال (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلاَةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَتُفْسِدُ الصَّلاَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى جَاءَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ، فَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَضَحِكَ طَوَائِفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ضَحِكَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ (2) ، وَكَمَا تَبْطُل بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ إِذَا حَصَل قَبْل الْقُعُودِ الأَْخِيرِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهَا تَبْطُل كَذَلِكَ، بِالْقَهْقَهَةِ إِذَا حَصَلَتْ قَبْل الْقُعُودِ الأَْخِيرِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ كَذَلِكَ أَمَّا إِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَإِنَّهَا لاَ تُبْطِل الصَّلاَةَ وَإِنْ نَقَضَتِ الْوُضُوءَ (3) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقَهْقَهَةُ خَارِجَ الصَّلاَةِ، أَوْ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ وَصَلاَةِ الصَّبِيِّ وَصَلاَةِ الْبَانِي بَعْدَ الْوُضُوءِ لاَ تُفْسِدُ
__________
(1) القوانين الفقهية ص29، والزرقاني على خليل 1 / 248 - 249، والمجموع شرح المهذب 1 / 60 - 61، والمغني لابن قدامة 1 / 177 ط. الرياض.
(2) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة ". أخرجه الدارقطني (1 / 172) من حديث جابر، وضعفه.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 98 - 99 ط. بولاق، والبحر الرائق 1 / 42 - 43، وفتح القدير 1 / 35.(34/71)
الْوُضُوءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (1) .
قَهْقَهَةُ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
5 - وَلَوْ قَهْقَهَ الإِْمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا: فَإِنَّ قَهْقَهَةَ الإِْمَامِ أَوَّلاً تَنْقُضُ وُضُوءَهُ دُونَ الْقَوْمِ؛ لأَِنَّ قَهْقَهَتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلاَةِ بِفَسَادِ صَلاَتِهِمْ لِفَسَادِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَجُعِلَتْ قَهْقَهَتُهُمْ خَارِجَ الصَّلاَةِ.
وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلاً ثُمَّ الإِْمَامُ انْتُقِضَ طَهَارَةُ الْكُل؛ لأَِنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ فِي الصَّلاَةِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ قَهْقَهُوا مَعًا؛ لأَِنَّ قَهْقَهَةَ الْكُل حَصَلَتْ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلاَةِ (2) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) البحر الرائق 1 / 43، وحاشية ابن عابدين 1 / 98 - 99، 411، وحاشية الطحطاوي 1 / 83 - 84، وتبيين الحقائق 1 / 11.(34/71)
قَوَادِحُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَوَادِحُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ قَادِحٍ: يُقَال قَدَحَ الرَّجُل يَقْدَحُهُ قَدْحًا إِذَا عَابَهُ بِالطَّعْنِ فِي نَسَبِهِ أَوْ عَدَالَتِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ قَال الْعَضُدُ: هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ اعْتِرَاضَاتٌ عَلَى الدَّلِيل الدَّال عَلَى الْعِلِّيَّةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
مَا تَرِدُ عَلَيْهِ الْقَوَادِحُ:
2 - لاَ تَرِدُ الْقَوَادِحُ عَلَى كُل قِيَاسٍ؛ لأَِنَّ مِنَ الأَْقْيِسَةِ مَا لاَ تَرِدُ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ، فَلاَ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الاِعْتِبَارِ إِلاَّ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ أَصْلاً.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، ومتن اللغة.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 171، ومغني المحتاج 4 / 433.
(3) حاشية العطار على جمع الجوامع وهامشه للشربيني ص2 / 339.(34/72)
تَعَدُّدُ الْقَوَادِحِ:
3 - الْقَوَادِحُ مُتَعَدِّدَةٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي عَدَدِهَا:
وَمِنْهَا: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ بِأَنْ وُجِدَتِ الْعِلَّةُ فِي صُورَةٍ مَثَلاً بِدُونِ الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا: الْعَكْسُ: وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لاِنْتِفَاءِ الْعِلَّةِ.
وَمِنْهَا: عَدَمُ التَّأْثِيرِ: وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ مُنَاسَبَةٌ.
وَمِنْهَا: الْقَلْبُ: وَهُوَ دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ أَنَّ مَا يَسْتَدِل بِهِ الْمُسْتَدِل فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ عَلَيْهِ لاَ لَهُ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ الْمُسْتَدَل بِهِ.
وَمِنْهَا: الْقَوْل بِالْمُوجِبِ وَهُوَ: تَسْلِيمُ دَلِيل الْمُسْتَدِل مَعَ بَقَاءِ مَحَل النِّزَاعِ، كَأَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل فِي الْقِصَاصِ بِالْقَتْل بِالْمُثْقَل: قَتَل بِمَا يَقْتُل غَالِبًا فَلاَ يُنَافِي الْقِصَاصَ، فَيُسَلِّمُ الْمُعْتَرِضُ بِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْقَتْل بِالْمُثْقَل وَالْقِصَاصِ، وَيَقُول: وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ يَقْتَضِي الْقِصَاصَ وَهُوَ مَحَل النِّزَاعِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) حاشية العطار 2 / 339 وما بعده، والبحر المحيط 5 / 260 وما بعده، والتحصيل في المحصول 2 / 209 وما بعده، ابن عابدين 2 / 295.(34/72)
قَوَادِحُ الْعَدَالَةِ
4 - مِنْ قَوَادِحِ الْعَدَالَةِ مَا يَأْتِي:
أ - الْفِسْقُ فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مِنْ فَاسِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ.
ب - عَدَمُ الْمُرُوءَةِ: وَهِيَ سُقُوطُ الْهِمَّةِ، وَعَدَمُ التَّرَفُّعِ عَنِ الدَّنَايَا، فَلاَ يُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ لاَ مُرُوءَةَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَتَرَفَّعُ عَنِ الْكَذِبِ.
ج - عَدَمُ النُّطْقِ: فَلاَ يُقْبَل شَهَادَةُ الأَْبْكَمِ.
د - التُّهْمَةُ: فَلاَ يُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ يُتَّهَمُ بِجَرِّ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ كَأَنْ يَشْهَدَ لأَِصْلِهِ، أَوْ فَرْعِهِ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَمُسْتَحَبَّاتِ الصَّلاَةِ تَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ لِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَإِشْعَارِهِ بِقِلَّةِ مُبَالاَتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ ف 17 وَشَهَادَةٌ ف 22) وَمَا بَعْدَهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) لسان العرب، تاج العروس، ومتن اللغة مادة (قدح) .
(3) مغني المحتاج 4 / 333، ورد المحتار 4 / 381، والمغني 9 / 167.(34/73)
قَوَاعِدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَوَاعِدُ لُغَةً جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الشَّيْءِ وَأَصْلُهُ.
فَقَوَاعِدُ الْبِنَاءِ أَسَاسُهُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ، قَال الزَّجَّاجُ: الْقَوَاعِدُ أَسَاطِينُ الْبِنَاءِ الَّتِي تُعَمِّدُهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل} (1) .
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ الْعُجُزُ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَجْل السِّنِّ وَقَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ وَالْمَحِيضِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْقَوَاعِدَ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ، وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهَا، وَقَال الْحَمَوِيُّ: هِيَ حُكْمٌ أَكْثَرِيٌّ لاَ كُلِّيٌّ يَنْطَبِقُ
__________
(1) سورة البقرة / 127.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، والمفردات للراغب الأصفهاني مادة: قعد. وتفسير القرطبي 12 / 309، الكشاف للزمخشري 1 / 187، وغمز عيون البصائر 1 / 51، الموافقات للشاطبي 1 / 30.(34/73)
عَلَى أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ لِتُعْرَفَ أَحْكَامُهَا مِنْهُ، كَمَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْقَوَاعِدَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي قَعَدَتْ عَنِ الْحَيْضِ وَالزَّوَاجِ مِنْ أَجْل السِّنِّ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ عَلَى أُسُسِهِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأُْصُول:
2 - الأُْصُول فِي اللُّغَةِ جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ وَلاَ يَفْتَقِرُ هُوَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالأَْصْل فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلاَ يُبْنَى هُوَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ هُوَ مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَيُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الأُْصُول وَبَيْنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْكُلِّيَّةَ أَصْلٌ لِجُزْئِيَّاتِهَا.
أَوَّلاً: الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ:
3 - أَوْرَدَ الْعُلَمَاءُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً لِلْفِقْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا تَرْجِعُ إِلَيْهَا مَسَائِل الْفِقْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا لاَ يَنْحَصِرُ مِنَ الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مَا يَلِي:
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي، التعريفات للجرجاني، غمز عيون البصائر 1 / 22.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات، التعريفات للجرجاني، والمعجم الوسيط مادة (أصل) ، والبحر المحيط 1 / 15، والموافقات للشاطبي 1 / 29.(34/74)
أ) الأُْمُورُ بِمَقَاصِدِهَا:
وَقَدِ اسْتَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَحْكَامًا مِنْهَا: أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَتَّصِفُ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَ بِهِ. فَمَثَلاً أَخْذُ اللُّقَطَةِ بِقَصْدِ حِفْظِهَا وَرَدِّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا جَائِزٌ، أَمَّا أَخْذُهَا بِقَصْدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا وَتَمَلُّكِهَا فَلاَ يَجُوزُ بَل يَكُونُ الآْخِذُ غَاصِبًا آثِمًا أَوْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
ب) الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ:
قَال السُّيُوطِيُّ: هَذِهِ الْقَاعِدَةُ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مَسَائِل مِنَ الطَّهَارَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالطَّلاَقِ وَإِنْكَارِ الْمَرْأَةِ وُصُول النَّفَقَةِ إِلَيْهَا وَاخْتِلاَفِ الزَّوْجَيْنِ فِي التَّمْكِينِ مِنَ الْوَطْءِ وَالسُّكُوتِ وَالرَّدِّ، وَاخْتِلاَفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَدَعْوَى الْمُطَلَّقَةِ الْحَمْل وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ:
4 - قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ الَّتِي لاَ يُشْتَهَى مِثْلُهَا كَمَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَضَعَ الْجِلْبَابَ وَالْخِمَارَ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 97، الأشباه والنظائر للسيوطي ص10، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 149.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 193 - 203، الأشباه والنظائر ص50 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 39، 431 وما بعدها.(34/74)
بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَكُونَ مُظْهِرَةً لِمَا يَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ الرِّجَال مِنْهَا، وَلاَ مُتَعَرِّضَةً بِالتَّزَيُّنِ لِلنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ خَيْرٌ لَهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِل كَالشَّابَّةِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ لاِنْصِرَافِ الأَْنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لاَ مَذْهَبَ لِلرِّجَال فِيهِنَّ فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ، وَأُزِيل عَنْهُنَّ كُلْفَةُ التَّحَفُّظِ الْمُتْعِبِ لَهُنَّ (1) ، وَدَلِيل مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (عَجُوزٌ ف 5) .
(
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 309، أحكام القرآن لابن العربي 3 / 418، المغني لابن قدامة 6 / 559.
(2) سورة النور / 60.(34/75)
قِوَامَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ يَقُومُ قِيَامًا: أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ وَرَاعَى مَصَالِحَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَيِّمُ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شَأْنِ شَيْءٍ وَيَلِيهِ وَيُصْلِحُهُ، وَالْقِوَامُ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِبْدَادِ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَحِفْظِهِ بِالاِجْتِهَادِ.
قَال الْبَغَوِيُّ: الْقِوَامُ وَالْقَيِّمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْقِوَامُ أَبْلَغُ وَهُوَ الْقَائِمُ بِالْمَصَالِحِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّأْدِيبِ (1) .
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْقِوَامَةُ عَلَى الْمَعَانِي الآْتِيَةِ:
أ - وِلاَيَةٌ يُفَوِّضُهَا الْقَاضِي إِلَى شَخْصٍ كَبِيرٍ رَاشِدٍ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ لِمَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِ الْمَالِيَّةِ (2) (ر: قَيِّمٌ) .
__________
(1) الكليات 4 / 53 - 54، وتفسير القرطبي 5 / 169، وتفسير البغوي 1 / 422، وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1 / 307 - 309، والتسهيل لعلوم التنزيل 1 / 144، والمعجم الوسيط.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 214، والقليوبي 3 / 177.(34/75)
وَكَثِيرًا مَا يُسَمِّي الْفُقَهَاءُ الْقَيِّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَصِيَّ الْقَاضِي (1) ، وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ الْقَيِّمَ مُقَدَّمَ الْقَاضِي (2) .
ب - وِلاَيَةٌ يُفَوِّضُ بِمُوجِبِهَا صَاحِبُهَا بِحِفْظِ الْمَال الْمَوْقُوفِ وَالْعَمَل عَلَى إِبْقَائِهِ صَالِحًا نَامِيًا بِحَسَبِ شَرْطِ الْوَاقِفِ (3) .
ج - وِلاَيَةٌ يُفَوَّضُ بِمُوجِبِهَا الزَّوْجُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ زَوْجَتِهِ وَتَأْدِيبِهَا وَإِمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهَا وَمَنْعِهَا مِنَ الْبُرُوزِ (4) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْقَيِّمَ وَالنَّاظِرَ وَالْمُتَوَلِّيَ فِي بَابِ الْوَقْفِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْيصَاءُ:
2 - الإِْيصَاءُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَال أَوْصَى فُلاَنٌ بِكَذَا يُوصِي إِيصَاءً، وَالاِسْمُ الْوِصَايَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) وَهُوَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الأَْمْرِ فِي حَال حَيَاةِ الطَّالِبِ أَمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ (6) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص293 نشر دار الكتب العلمية.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 299.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 409.
(4) تفسير القرطبي 5 / 169، وبدائع الصنائع 4 / 16.
(5) حاشية ابن عابدين 3 / 431، وتنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 205.
(6) المغرب، ومختار الصحاح.(34/76)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَالإِْيصَاءُ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ هُوَ إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ يُسَمَّى الْوَصِيَّ.
أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ فِي حَال حَيَاتِهِ فَلاَ يُقَال لَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ إِيصَاءٌ، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ وَكَالَةٌ. (ر: إِيصَاءٌ ف 1) .
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ بِأَنَّ الْقَيِّمَ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ حِفْظُ الْمَال وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ وَجَمْعُ الْغَلاَّتِ دُونَ التَّصَرُّفِ، وَالْوَصِيُّ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ وَالْحِفْظُ جَمِيعًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل بِالتَّصَرُّفِ وَالْحِفْظِ جَمِيعًا، وَعَقَّبَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ مَازَهْ بِقَوْلِهِ: لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ كَانَ مِنْ قَبْل، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَيِّمِ وَالْوَصِيِّ (1) .
ب - الْوَكَالَةُ:
3 - الْوَكَالَةُ: إِقَامَةُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَمْلُوكٍ قَابِلٍ لِلنِّيَابَةِ لِيَفْعَلَهُ فِي حَال حَيَاتِهِ، فَهِيَ تُشْبِهُ الْقِوَامَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ تَفْوِيضٌ لِلْغَيْرِ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ
__________
(1) شرح أدب القاضي للخصاف 1 / 284 - 285.(34/76)
الأُْمُورِ نِيَابَةً عَمَّنْ فَوَّضَهُ إِلاَّ أَنَّ الْقِوَامَةُ تَخْتَلِفُ عَنِ الْوَكَالَةِ فِي أَنَّ التَّفْوِيضَ فِي الْقِوَامَةُ يَكُونُ مِنْ قِبَل الْقَاضِي غَالِبًا، أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّفْوِيضُ فِيهَا مِنْ قِبَل الْقَاضِي.
ج - الْوِلاَيَةُ:
4 - الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَحَبَّةُ وَالنُّصْرَةُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ، وَمِنْهُ وِلاَيَةُ الْوَصِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ وَوِلاَيَةُ وُجُوبِ أَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ (2) . وَالْوِلاَيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقِوَامَةُ.
أَحْكَامُ الْقِوَامَةُ:
(لِلْقِوَامَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:)
الْقِوَامَةُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ:
5 - تَثْبُتُ الْقِوَامَةُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالسَّفِيهِ، وَذِي الْغَفْلَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ رَآهُ أَشْفَقَ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَأَحْرَصَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (وِلاَيَةٌ) (وَوَصِيٌّ) (وَقَيِّمٌ ف 4) (وَإِيصَاءٌ ف 9، 11) .
نَصْبُ الْقَيِّمِ عَلَى مَال الْمَفْقُودِ:
6 - إِذَا غَابَ الرَّجُل فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلاَ
__________
(1) المغرب.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 296.(34/77)
يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ نَاظِرًا لِكُل عَاجِزٍ عَنِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْهُ، فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي نَصْبِ مَا ذُكِرَ نَظَرٌ لَهُ فَيُفْعَل (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: مَفْقُودٌ) .
الْقِوَامَةُ عَلَى الْوَقْفِ:
7 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ حَقَّ تَوْلِيَةِ أَمْرِ الْوَقْفِ فِي الأَْصْل لِلْوَاقِفِ فَإِنْ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ اتُّبِعَ شَرْطُهُ (2) .
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ الْوِلاَيَةَ لأَِحَدٍ أَوْ شَرَطَهَا فَمَاتَ الْمَشْرُوطُ لَهُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
قِوَامَةُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
8 - الزَّوْجُ قَيِّمٌ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الزَّوْجَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا وَيُصْلِحُهَا فِي حَالِهَا (3) ، وَيَقُومُ عَلَيْهَا آمِرًا نَاهِيًا كَمَا يَقُومُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 440 ط. بولاق، وبدائع الصنائع 6 / 196، وتبيين الحقائق 3 / 310.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 408، وحاشية ابن عابدين 4 / 384، 409، وروضة الطالبين 5 / 346، وحاشية الدسوقي 4 / 88، والمغني 5 / 647، وكشاف القناع 4 / 265.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 530 ط. دار الكتب العلمية.(34/77)
الْوَالِي عَلَى رَعِيَّتِهِ (1) .
قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (2) ، أَيِ الرَّجُل قَيِّمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَيْ هُوَ رَئِيسُهَا وَكَبِيرُهَا وَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا مُؤَدِّبُهَا إِذَا اعْوَجَّتْ (3) .
وَقَال الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِهِ لِلآْيَةِ: قِيَامُهُمْ عَلَيْهِنَّ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ لِمَا فَضَّل اللَّهُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْعَقْل وَالرَّأْيِ، وَبِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى مَعَانٍ: أَحَدِهَا: تَفْضِيل الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ لَهُ إِمْسَاكَهَا فِي بَيْتِهِ وَمَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُول أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (4) .
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الآْيَةِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْفَضْل لاَ بِالتَّغَلُّبِ وَالاِسْتِطَالَةِ وَالْقَهْرِ (5) .
__________
(1) الكشاف للزمخشري 10 / 523 ط. دار المعرفة - بيروت.
(2) سورة النساء / 34.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 491. ط. عيسى الحلبي.
(4) أحكام القرآن للجصاص 2 / 188 نشر دار الكتاب العربي، والآية من سورة النساء / 34.
(5) الكشاف للزمخشري 1 / 523 ط. دار المعرفة.(34/78)
أَسْبَابُ الْقِوَامَةُ:
9 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقِوَامَةُ جُعِلَتْ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل لِثَلاَثَةِ أَسْبَابٍ:
الأَْوَّل: كَمَال الْعَقْل وَالتَّمْيِيزِ (1) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الرِّجَال لَهُمْ فَضِيلَةٌ فِي زِيَادَةِ الْعَقْل وَالتَّدْبِيرِ فَجُعِل لَهُمْ حَقُّ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ لِذَلِكَ (2) .
الثَّانِي: كَمَال الدِّينِ (3) .
الثَّالِثِ: بَذْل الْمَال مِنَ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ (4) ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (5) أَيْ مِنَ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْكُلَفِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَهُنَّ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالرَّجُل أَفْضَل مِنَ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَهُ الْفَضْل عَلَيْهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا عَلَيْهَا (6) .
(ر: زَوْجٌ ف 2 - 11 وَزَوْجَةٌ ف 14 - 16) .
مُقْتَضَى قِوَامَةُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ:
10 - مُقْتَضَى قِوَامَةُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّ عَلَى
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 531.
(2) تفسير القرطبي 5 / 169.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 531.
(4) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 531.
(5) سورة النساء / 34.
(6) تفسير ابن كثير 1 / 491.(34/78)
الرَّجُل أَنْ يَبْذُل الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَ زَوْجَتَهُ وَيَأْمُرَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَيُنْهِيَ إِلَيْهَا شَعَائِرَ الإِْسْلاَمِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ وَالإِْحْسَانُ إِلَى أَهْلِهِ وَالاِلْتِزَامُ لأَِمْرِهِ وَقَبُول قَوْلِهِ فِي الطَّاعَاتِ (1) .
قَوَد
انْظُرْ: قِصَاص
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 530 ط. دار الكتب العلمية.(34/79)
قَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَوْل فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْكَلاَمُ، أَوْ كُل لَفْظٍ نَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا.
وَيُسْتَعْمَل الْقَوْل مَجَازًا لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْحَال مِثْل: وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ: سَمْعًا وَطَاعَةً.
وَالْقَوْل هُوَ الْقِيل وَالْمَقَالَةُ وَالْمَذْهَبُ.
وَجَمْعُ الْقَوْل: أَقْوَالٌ وَأَقَاوِيل.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْل مَنُوطٌ بِقَائِلِهِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) ، وَأَنَّ قَوْل الْكُفْرِ مِنْ مُكَلَّفٍ غَيْرِ مُكْرَهٍ كُفْرٌ
__________
(1) غريب القرآن للأصفهاني، لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، والقاموس المحيط، والتعريفات للجرجاني.
(2) سورة ق / 18.(34/79)
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْقَوْل قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَالإِْكْثَارِ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا كَالْبَسْمَلَةِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ (1) .
الْعُقُودُ مَنُوطَةٌ بِالْقَوْل غَالِبًا:
3 - لَمَّا كَانَتِ الأَْقْوَال تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ جَعَل الشَّارِعُ لِلْعُقُودِ وَالْمُعَامَلاَتِ صِيَغًا لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَوْل بِهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالرِّضَا كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (3) ، وَالرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، فَنِيطَ الْحُكْمُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْل - وَهُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (4) -.
قَبُول الْقَوْل فِي الدَّعْوَى:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْل الْمُدَّعِي فِي
__________
(1) القواعد للعز بن عبد السلام 1 / 190.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: " إنما البيع عن تراض ". أخرجه ابن ماجه (2 / 737) من حديث أبي سعيد الخدري وصحح إسناده البوصيري في الزوائد (2 / 10) .
(4) مغني المحتاج 2 / 3، 238، إعلام الموقعين 3 / 105 وما بعدها، وجواهر الإكليل 2 / 2، بدائع الصنائع 5 / 133.(34/80)
الدَّعْوَى يُقْبَل بِالْبَيِّنَةِ، وَعَلَى أَنَّ قَوْل الْمُنْكِرِ يُقْبَل بِالْيَمِينِ لِحَدِيثِ: الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَى ف 12) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: يُقْبَل الْقَوْل بِلاَ يَمِينٍ فِي فُرُوعٍ:
مِنْهَا: مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَادَّعَى مُسْقِطًا لَهَا كَأَنْ يَقُول مَثَلاً: إِنَّ هَذَا النِّتَاجَ بَعْدَ الْحَوْل أَوْ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَتُهُ.
وَمِنْهَا: مَنِ اكْتَرَى مَنْ يَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ مَثَلاً، فَقَال الأَْجِيرُ: حَجَجْتُ فَيُقْبَل قَوْلُهُ وَلاَ يَمِينَ عَلَيْهِ وَلاَ بَيِّنَةَ؛ لأَِنَّ تَصْحِيحَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لاَ يُمْكِنُ، وَكَذَا لَوْ قَال لِلأَْجِيرِ: قَدْ جَامَعْتَ فِي إِحْرَامِكَ فَأَفْسَدْتَهُ، وَأَنْكَرَ الأَْجِيرُ قُبِل قَوْل الأَْجِيرِ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ أَوْ قَتَل صَيْدًا فِي إِحْرَامِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قُبِل قَوْل الأَْجِيرِ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِي كُل ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ إِذَا طَلَبَ الإِْعْفَافَ وَادَّعَى الْحَاجَةَ إِلَى النِّكَاحِ قُبِل قَوْلُهُ بِلاَ يَمِينٍ إِذْ لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ تَحْلِيفُهُ فِي مِثْل ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَصَابَهَا، فَيُقْبَل قَوْلُهَا فِي حِلِّهَا
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 110) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 39) بالإرسال وبضعف أحد رواته.(34/80)
لِلزَّوْجِ الأَْوَّل.
وَمِنْهَا: الْعِنِّينُ إِذَا ادَّعَى الْوَطْءَ قُبِل قَوْلُهُ لِدَفْعِ الْفَسْخِ.
وَمِنْهَا: الْمُتَزَوِّجَةُ بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ إِذَا ادَّعَتْ زَوَال الْبَكَارَةِ بِوَطْئِهِ قُبِل قَوْلُهَا لِعَدَمِ الْفَسْخِ، وَيُقْبَل قَوْل الزَّوْجِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمَهْرِ.
وَمِنْهَا: الْوَكِيل إِذَا ادَّعَى قَبْضَ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمَهُ إِلَى الْبَائِعِ يُقْبَل قَوْلُهُ حَتَّى لاَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْمُودَعُ أَمِينٌ وَالْقَوْل قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَلَفِ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إِذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا ضَاعَتْ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ (2) .
وَتَفَاصِيل هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص510.
(2) المغني 6 / 395، 396.(34/81)
قَوْل الصَّحَابِيِّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَوْل فِي اللُّغَةِ: كُل لَفْظٍ نَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا. وَيُطْلَقُ عَلَى الآْرَاءِ وَالاِعْتِقَادَاتِ، يُقَال: هَذَا قَوْل فُلاَنٍ فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ رَأْيُهُ فِيهَا، وَسَبَبُ تَسْمِيَةِ الآْرَاءِ أَقْوَالاً: أَنَّ الآْرَاءَ تَخْفَى فَلاَ تُعْرَفُ إِلاَّ بِالْقَوْل أَوْ مَا يَقُومُ مُقَامَهُ مِنْ شَاهِدِ الْحَال، فَلَمَّا كَانَتْ لاَ تَظْهَرُ إِلاَّ بِالْقَوْل سُمِّيَتْ قَوْلاً (1) .
وَالْقَوْل اصْطِلاَحًا لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالصَّحَابِيُّ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ وَالْمُجَالَسَةُ وَالْمُعَاشَرَةُ (2) .
وَالصَّحَابِيُّ اصْطِلاَحًا: مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ (3) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ: هُوَ مَا نُقِل عَمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ لَمْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير ولسان العرب.
(3) الإصابة 1 / 7، فتح الباري 7 / 4، علوم الحديث لابن الصلاح 263.(34/81)
يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقَوْل الصَّحَابِيِّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ فِي أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِل الاِجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا، أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ الْمَشْهُورُ فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ (1) :.
الأَْوَّل: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَيُومِئُ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَال عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لأَِنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الاِجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ، فَقَال: لَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ، إِنَّمَا هُوَ: خَطَأٌ أَوْ صَوَابٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَال أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ: تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ، يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَأَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا عَلَيْهِ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا
__________
(1) إرشاد الفحول 226، والبحر المحيط 6 / 53.(34/82)
الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ، وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ -؛ لأَِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ - فَلاَ يَثْبُتُ لَهُمْ بِدُونِ إِجْمَاعٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْقِيَاسُ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْل صَحَابِيٍّ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ. وَقَال: وَأَقْوَال أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ مِنْهَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الإِْجْمَاعَ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ.
وَإِذَا قَال وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْقَوْل لاَ يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ مُوَافَقَةً وَلاَ خِلاَفًا صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْل وَاحِدِهِمْ. إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا، وَلاَ سُنَّةً وَلاَ إِجْمَاعًا وَلاَ شَيْئًا يُحْكَمُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ (1) .
الرَّابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَحْمَل لِمُخَالَفَتِهِ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَقَال ابْنُ بُرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، قَال: وَمَسَائِل أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ تَدُل عَلَيْهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الرسالة ص596 ف 1805 في حواره مع صاحبه، وإرشاد الفحول ص226، والبحر المحيط 6 / 53 وما بعدها.
(2) البحر المحيط 6 / 59.(34/82)
قُوَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُوَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاقَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ طَاقَاتِ الْحَبْل، أَوِ الْوَتَرِ أَوِ الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ، فَفِي الْحَدِيثِ: لَيُنْقَضَنَّ الإِْسْلاَمُ عُرْوَةً عُرْوَةً كَمَا يُنْقَضُ الْحَبْل قُوَّةً قُوَّةً (1) ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِيمَا يُقَابِل الضَّعْفَ، يُقَال: قَوِيَ الرَّجُل وَالضَّعِيفُ يَقْوَى قُوَّةً، وَالْقُوَى جَمْعُ قُوَّةٍ، مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْجِسْمِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (2) ، كَمَا يَكُونُ فِي الأُْمُورِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ: كَالْعَقْل وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (3) أَيْ خُذِ الأَْلْوَاحَ بِقُوَّةٍ فِي دِينِكَ وَحُجَّتِكَ، وَقَوْلُهُ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (4) أَيْ بِجِدٍّ (5) .
__________
(1) حديث: " لينقضن الإسلام عروة. . . الخ ". أخرجه أحمد (المسند 4 / 232. ط. دار الفكر) .
(2) سورة النجم / 5 - 6.
(3) سورة الأعراف / 145.
(4) سورة مريم / 12.
(5) لسان العرب، وتفسير المأثور للسيوطي في تفسير الآية.(34/83)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِطَاعَةُ:
2 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الاِسْتِطَاعَةُ: الطَّاقَةُ، وَقَال ابْنُ بَرِّيٍّ: هُوَ كَمَا ذَكَرَ، بَيْدَ أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لِلإِْنْسَانِ خَاصَّةً، وَالإِْطَاقَةَ عَامَّةً، يُقَال: جَمَلٌ مُطِيقٌ لِحِمْلِهِ، وَلاَ يُقَال: جَمَلٌ مُسْتَطِيعٌ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَبَيْنَ الاِسْتِطَاعَةِ أَنَّهَا أَخَصُّ مِنَ الْقُوَّةِ.
ب - الْقُدْرَةُ:
3 - الْقُدْرَةُ لُغَةً: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَدْنَى قُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا الْمَأْمُورُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ بَدَنِيًّا كَانَ أَمْ مَالِيًّا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ أَنَّهَا دَرَجَةٌ مِنْ دَرَجَاتِ الْقُوَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُوَّةِ:
فَضْل الْقُوَّةِ:
4 - الْقُوَّةُ مِنَ الْخِصَال الْفِطْرِيَّةِ يُودِعُهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيُفَاضِل فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا يُفَاضِل بَيْنَهُمْ فِي الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَطَائِهِ،
__________
(1) لسان العرب، في مادتي (طاق) و (طاع) .
(2) التعريفات للجرجاني.(34/83)
وَهِيَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَفَضْلٌ كَبِيرٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا وَأَحْسَنَ اسْتِعْمَالَهَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَيْهَا لأَِنَّهَا الأَْدَاةُ اللاَّزِمَةُ لِجَلْبِ الْخَيْرِ لِلأُْمَّةِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهَا، وَإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَقْوِيَاءَ كَذَلِكَ.
جَاءَ فِي الأَْثَرِ الصَّحِيحِ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ (1) .
الأَْخْذُ بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ:
5 - الأَْخْذُ بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى اخْتِلاَفِ صُنُوفِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَأَسْبَابِهَا، مَادِّيَّةً كَانَتْ أَوْ مَعْنَوِيَّةً، قَال تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) وَالْخِطَابُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَظِيفَةُ كَافَّتِهِمْ، وَتَشْمَل كُل مَا يُطِيقُونَهُ مِمَّا يُفِيدُ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْوَسَائِل مَادِّيًّا كَانَ كَالسِّلاَحِ وَالإِْنْفَاقِ وَتَدْرِيبِ الْمُجَاهِدِينَ فِي فُنُونِ الْحَرْبِ، وَإِتْقَانِ اسْتِعْمَال أَنْوَاعِ السِّلاَحِ الْمُخْتَلِفَةِ، لِقَوْلِهِ: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالتَّصَافِي، وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ وَالثِّقَةِ
__________
(1) حديث: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2025) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الأنفال / 60.(34/84)
بِاللَّهِ وَعَدَمِ خَوْضِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَالاِخْتِيَارِ لإِِمَارَةِ الْجَيْشِ مَنْ كَانَ ثِقَةً فِي دِينِهِ، وَالتَّوْصِيَةِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ عَلَيْهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْجِهَادِ وَعَدَمِ الْفِرَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.
فَأَخْذُ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ بِقِسْمَيْهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِالأَْمْرِ الْقُرْآنِيِّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَارَسُوا كُل عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مُتَاحٍ لَهُمْ فِي بِيئَتِهِمْ يَدُل عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَكَمَال الرُّجُولَةِ، وَيُؤَدِّي إِلَى قُوَّةِ الْجِسْمِ وَدَفْعِ الْكَسَل وَالْمَيْل إِلَى الدَّعَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل: فِي مُصْطَلَحِ (عُدَّةٌ ف 2 - 3) .
اشْتِرَاطُ الْقُوَّةِ فِيمَنْ يَتَقَلَّدُ إِمَارَةً أَوْ يُوَكَّل إِلَيْهِ أَمْرُ قَاصِرٍ وَنَحْوِهِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُقَلَّدُ إِمَارَةً أَوْ يُوَكَّل إِلَيْهِ أُمُورُ الْقُصَّرِ، كَالأَْيْتَامِ، وَالْمَجَانِينِ وَأَمْوَال الْوَقْفِ: الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، وَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ لاَ يَقْوَى عَلَى النُّهُوضِ بِهَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا قَبُولُهَا (2) ، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَال:
__________
(1) تفسير الخازن والفتوحات الإلهية من تفسير البغوي في تفسير آية 60 من سورة الأنفال، وآية: 46 من سورة التوبة، وآية: 195 من سورة البقرة، نهاية المحتاج 7 / 60 وما بعده
(2) السياسة الشرعية ص15 وما بعدها. ط - دار الكتب العربية.(34/84)
فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَال: يَا أَبَا ذَرٍّ: إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا (1) .
__________
(1) حديث أبي ذر قال: " قلت يا رسول الله، ألا تستعملني. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1457) .(34/85)
قَيْءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيْءُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَاءَ، يُقَال قَاءَ الرَّجُل مَا أَكَلَهُ قَيْئًا مِنْ بَابِ بَاعَ، ثُمَّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الطَّعَامِ الْمَقْذُوفِ، وَاسْتِقَاءَ اسْتِقَاءَةً، وَتَقَيَّأَ: تَكَلَّفَ الْقَيْءَ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ فَيُقَال: قَيَّأَهُ غَيْرُهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْخَارِجُ مِنَ الطَّعَامِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْمَعِدَةِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَلْسُ:
2 - الْقَلْسُ لُغَةً: الْقَذْفُ وَبَابُهُ ضَرَبَ، وَقَال الْخَلِيل: الْقَلْسُ: مَا خَرَجَ مِنَ الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِقَيْءٍ، فَإِنْ عَادَ فَهُوَ الْقَيْءُ (3) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 5. ط. عيسى الحلبي، الإقناع للخطيب 1 / 52.
(3) مختار الصحاح.(34/85)
اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَلْسَ دُونَ الْقَيْءِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَيْءِ:
لِلْقَيْءِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
طَهَارَةُ الْقَيْءِ وَنَجَاسَتُهُ:
3 - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي طَهَارَةِ الْقَيْءِ وَنَجَاسَتِهِ.
فَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَتِهِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلُهُ، وَبِذَلِكَ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُتَغَيِّرِ عَنْ حَال الطَّعَامِ وَلَوْ لَمْ يُشَابِهْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْعَذِرَةَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ نَجَاسَتَهُ مُغَلَّظَةٌ؛ لأَِنَّ كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمَّارُ إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنَ الْغَائِطِ، وَالْبَوْل، وَالْقَيْءِ، وَالدَّمِ، وَالْمَنِيِّ (3) ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْل أَبِي يُوسُفَ (4) ، وَفِي
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 1 / 29، ومطالب أولي النهى 1 / 141، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 51.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 31. ط. مصطفى الحلبي 1936، ومراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 83، وفتح القدير 1 / 141. ط. المطبعة الأميرية 1315هـ.
(3) حديث: " يا عمار، إنما يغسل الثوب من خمس. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 127) من حديث عمار بن ياسر، وذكر أن في إسناده رجلين ضعيفين.
(4) فتح القدير 1 / 141.(34/86)
فَتَاوَى نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ: صَبِيٌّ ارْتَضَعَ ثُمَّ قَاءَ فَأَصَابَ ثِيَابَ الأُْمِّ: إِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَنَجِسٌ، فَإِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الثَّوْبِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مَا لَمْ يَفْحُشْ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ كُل وَجْهٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَالثَّدْيُ إِذَا قَاءَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ، ثُمَّ رَضِعَهُ حَتَّى زَال أَثَرُ الْقَيْءِ، طَهُرَ حَتَّى لَوْ صَلَّتْ صَحَّتْ صَلاَتُهَا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَيْثُ وَصَل إِلَى الْمَعِدَةِ، وَلَوْ مَاءً وَعَادَ حَالاً بِلاَ تَغَيُّرٍ؛ لأَِنَّ شَأْنَ الْمَعِدَةِ الإِْحَالَةُ، فَهُوَ طَعَامٌ اسْتَحَال فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتِنِ وَالْفَسَادِ، فَكَانَ نَجِسًا كَالْغَائِطِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ (3) ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوِ ابْتُلِيَ شَخْصٌ بِالْقَيْءِ عُفِيَ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَإِنْ كَثُرَ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ.
وَالْمُرَادُ بِالاِبْتِلاَءِ بِذَلِكَ: أَنْ يَكْثُرَ وُجُودُهُ بِحَيْثُ يَقِل خُلُوُّهُ مِنْهُ (4) ، وَاسْتَثْنَوْا مِنَ الْقَيْءِ عَسَل النَّحْل فَقَالُوا: إِنَّهُ طَاهِرٌ لاَ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ (5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 141، وابن عابدين 1 / 205.
(2) ابن عابدين 1 / 205.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 53 - 54، منهاج الطالبين 1 / 70، الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 31، وحاشية الجمل 1 / 174، أسنى المطالب 1 / 9، المجموع 2 / 54.
(4) حاشية الجمل 1 / 174.
(5) حاشية الجمل 1 / 174.(34/86)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَال فِي الْجَوْفِ إِلَى الْفَسَادِ أَشْبَهَ الْغَائِطَ (1) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الإِْنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيل فَأَشْبَهَ الدَّمَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ لاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ خُولِفَ فِي الدَّمِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الأَْصْل (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ النَّجِسَ مِنَ الْقَيْءِ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَال الطَّعَامِ وَلَوْ لَمْ يُشَابِهْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْعَذِرَةَ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَنِ الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَالْمَكَانِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ بِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ (3) .
فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ وَإِنْ لَمْ يُشَابِهْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْعَذِرَةَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاخْتَارَهُ سَنَدٌ وَالْبَاجِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ خِلاَفًا لِلتُّونِسِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَعِيَاضٍ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَنْجُسُ الْقَيْءُ إِلاَّ إِذَا شَابَهَ أَحَدَ أَوْصَافِ الْعَذِرَةَ (4) .
__________
(1) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 53. المكتب الإسلامي.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1 / 727، 728.
(3) الشرح الكبير 1 / 51، وجواهر الإكليل 1 / 9، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 63ط. دار الفكر.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 51.(34/87)
أَثَرُ الْقَيْءِ فِي الْوُضُوءِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُهُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَيْءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَتَى كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، سَوَاءٌ كَانَ قَيْءَ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَحَدُّ مَلْئِهِ: أَنْ لاَ يَنْطَبِقَ عَلَيْهِ الْفَمُ إِلاَّ بِتَكَلُّفٍ (أَيْ مَشَقَّةٍ) عَلَى الأَْصَحِّ مِنَ التَّفَاسِيرِ فِيهِ، وَقِيل حَدُّ مَلْئِهِ: أَنْ يَمْنَعَ الْكَلاَمَ، وَذَلِكَ لِتَنَجُّسِهِ بِمَا فِي قَعْرِ الْمَعِدَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ (2) ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَاءَ فَتَوَضَّأَ " (3) ؛ وَلأَِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَال الطَّهَارَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ، وَكَذَا لاَ يَنْقُضُهُ قَيْءُ بَلْغَمٍ وَلَوْ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 21، الشرح الكبير 1 / 123، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 96، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 78، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 31، ومنهاج الطالبين 1 / 31. ط. عيسى الحلبي.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 49، والاختيار شرح المختار 1 / 9، وفتح القدير 1 / 28، 29، وابن عابدين 1 / 93. دار إحياء التراث العربي.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ ". أخرجه الترمذي (1 / 143) ، وقال النووي في المجموع (2 / 55) : ضعيف، مضطرب قاله البيهقي وغيره من الحفاظ.(34/87)
كَانَ كَثِيرًا لِعَدَمِ تَخَلُّل النَّجَاسَةِ فِيهِ وَهُوَ طَاهِرٌ (1) .
وَإِنْ قَاءَ قَلِيلاً قَلِيلاً مُتَفَرِّقًا وَلَوْ جُمِعَ تَقْدِيرًا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّهُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ اتِّحَادَ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ؛ لأَِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِهِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَعَلَى هَذَا يَنْقُضُ الْقَيْءُ الْمُتَفَرِّقُ الْوُضُوءَ إِنْ كَانَ قَدْرَ مِلْءِ الْفَمِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقُضُ قَلِيلُهُ كَثِيرُهُ وَهُمَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (2) حَدَثًا بِمَا دَل عَلَيْهِ مِنَ الدَّلِيل وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرُ كَالْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَلِقَوْلِهِ: الْقَلْسُ حَدَثٌ (3) .
وَلَوْ قَاءَ دَمًا وَهُوَ عَلَقٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ؛ لأَِنَّهُ سَوْدَاءُ مُحْتَرِقَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، وَعِنْدَهُمَا: إِنْ سَال بِقُوَّةِ نَفْسِهِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً؛ لأَِنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ بِمَحَل الدَّمِ،
__________
(1) مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 48، الاختيار شرح المختار 1 / 9، فتح القدير 1 / 30، 31.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 9، 10، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 48، 49.
(3) حديث: " القلس حدث ". أخرجه الدارقطني (1 / 155) من حديث علي بن أبي طالب، وذكر أن في إسناده راويًا متروكًا.(34/88)
فَيَكُونُ مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِنْ فَحُشَ فِي نَفْسِ كُل أَحَدٍ بِحَسْبِهِ؛ لأَِنَّ اعْتِبَارَ حَال الإِْنْسَانِ بِمَا يَسْتَفْحِشُهُ غَيْرُهُ حَرَجٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا لِمَا رَوَاهُ مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَال: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وُضُوءَهُ (2) ، وَلاَ يَنْقُضُ الْيَسِيرُ لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ (3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
أَثَرُ الْقَيْءِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - الطَّهَارَةُ فِي الصَّلاَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا وَمَا يُبْطِل الطَّهَارَةَ يُبْطِل الصَّلاَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (4) فَتَفْسُدُ الصَّلاَةُ إِنْ فَقَدَتْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا كَالطَّهَارَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي
__________
(1) فتح القدير 1 / 31.
(2) حديث: " أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ. . . ". تقدم آنفًا.
(3) منار السبيل شرح الدليل 1 / 33، نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 69، والمغني لابن قدامة 1 / 184، ومطالب أولي النهى 1 / 41.
(4) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". أخرجه مسلم (1 / 204) من حديث ابن عمر.(34/88)
الصَّلاَةِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ شَيْءٌ (2) ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمُقْتَدِي وَالإِْمَامُ يَعُودَانِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ الْجَدِيدُ قَدْ أَتَمَّ الصَّلاَةَ فَيَتَخَيَّرَانِ، وَالاِسْتِئْنَافُ أَفْضَل لِخُرُوجِهِ عَنِ الْخِلاَفِ، وَلِئَلاَّ يَفْصِل بَيْنَ أَفْعَال الصَّلاَةِ بِأَفْعَالٍ لَيْسَتْ مِنْهَا، وَقِيل: إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَالْبِنَاءُ أَوْلَى إِحْرَازًا لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتَخْلَفَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِمَامٍ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَنْظُرْ رَجُلاً لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ فَلْيُقَدِّمْهُ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ (3) ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ إِذَا فَعَل مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ كَالْمَشْيِ وَالاِغْتِرَافِ حَتَّى لَوِ اسْتَقَى أَوْ غَرَزَ دَلْوَهُ أَوْ وَصَل إِلَى نَهْرٍ فَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ
__________
(1) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385 - 386) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 223) .
(2) حديث: " إذا صلّى أحدكم فقاء أو رعف. . . ". أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 62) وقال: غريب.
(3) حديث: " أيما إمام سبقه الحدث. . . ". لم نهتد إلى من أخرجه من أي مصدر من المصادر الحديثية الموجودة لدينا.(34/89)
فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ تَوَضَّأَ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ سِوَى السَّلاَمِ، وَإِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ تَمَّتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبِنَاءُ لِمَكَانِ التَّعَمُّدِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ تَمَّتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ طَاهِرٌ يَسِيرٌ لَمْ يَزْدَرِدْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا أَوْ كَثِيرًا أَوِ ازْدَرَدَ شَيْئًا مِنْهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنِ ازْدَرَدَ شَيْئًا مِنْهُ نِسْيَانًا لَمْ تَبْطُل وَيَسْجُدُ لِلنِّسْيَانِ بَعْدَ السَّلاَمِ، وَإِنْ غَلَبَهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ، وَالْقَلْسُ كَالْقَيْءِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: فِي الْجَدِيدِ تَبْطُل صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ حَدَثٌ يُبْطِل الطَّهَارَةَ فَأَبْطَل الصَّلاَةَ كَحَدَثِ الْعَمْدِ، وَقَال فِي الْقَدِيمِ: لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ بَل يَنْصَرِفُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ صَلاَتَهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ؛ وَلأَِنَّهُ حَدَثٌ حَصَل بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ سَلَسَ الْبَوْل (3) ،
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 63، وفتح القدير 1 / 267 - 270.
(2) جواهر الإكليل 1 / 64، 65، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 208.
(3) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 66، 93، 94.(34/89)
قَال فِي الْمَجْمُوعِ: لَوْ رَعَفَ الْمُصَلِّي أَوْ قَاءَ أَوْ غَلَبَتْهُ نَجَاسَةٌ أُخْرَى جَازَ لَهُ عَلَى الْقَدِيمِ أَنْ يَخْرُجَ وَيَغْسِل نَجَاسَتَهُ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلاَتِهِ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْحَدَثِ نَصَّ عَلَيْهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ الْقَيْءُ فَاحِشًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَاخْتَلَفَ الرِّوَايَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي يَسِيرِهِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ قَال: هُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الإِْنْسَانِ نَجِسٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيل فَأَشْبَهَ الدَّمَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ لاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ (2) .
أَثَرُ الْقَيْءِ فِي الصَّوْمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ (أَيْ غَلَبَهُ) فَلاَ يَبْطُل صَوْمُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ (3) .
وَلَوْ عَادَ الْقَيْءُ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِ الصَّائِمِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ
__________
(1) المجموع 4 / 5. ط. المطيعي.
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 727، 728.
(3) حديث: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ". أخرجه الترمذي (3 / 89) وقال: حديث حسن غريب.(34/90)
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِعَدَمِ وُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ 80 - 81) .(34/90)
قِيَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَال شَيْءٍ، وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، لِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَال: مِقْيَاسًا، يُقَال: فُلاَنٌ لاَ يُقَاسُ عَلَى فُلاَنٍ: لاَ يُسَاوِيهِ.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِيهِ، حَتَّى قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ؛ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْحُكْمِ، وَالْعِلَّةِ، وَالْفَرْعِ وَالْجَامِعِ.
وَعَرَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّهُ: مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لأَِصْلٍ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ أَوْ زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ، وَقِيل: حَمْل مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا (1) .
__________
(1) القاموس المحيط، والبحر المحيط 5 / 7، وإرشاد الفحول ص181، والتحصيل في المحصول 2 / 155، ومنهاج الوصول في علم الأصول شرح الإسنوي 3 / 3.(34/91)
أَرْكَانُ الْقِيَاسِ:
2 - لاَ تَتِمُّ مَاهِيَّةُ الْقِيَاسِ، إِلاَّ بِوُجُودِ أَرْكَانِهِ: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
أ - الأَْصْل: وَهُوَ مَحَل الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
ب - وَالْفَرْعُ: وَهُوَ الْمُشَبَّهُ.
ج - وَالْحُكْمُ: وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ فِي الأَْصْل كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
د - وَالْعِلَّةُ: وَهُوَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ (1) .
أَمَّا شُرُوطُ كُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ، وَآرَاءُ الْعُلَمَاءِ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَاسِ:
حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالأَْغْذِيَةِ، وَالأَْدْوِيَةِ.
أَمَّا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ إِذَا عَدِمَ النَّصَّ وَالإِْجْمَاعَ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَصْلٌ مِنْ أُصُول التَّشْرِيعِ، يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الأَْحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنِ الْقِيَاسِ (2) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص204، والبحر المحيط 5 / 83.
(2) البحر المحيط 5 / 16، التحصيل في المحصول 2 / 159 وما بعده، إرشاد الفحول ص 185 وما بعده.(34/91)
مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الأُْمُورِ، كَالأَْسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لاَ نَصَّ فِيهَا وَلاَ إِجْمَاعَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْصُول، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الأَْسْبَابِ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِيهَا.
وَمَعْنَى الْقِيَاسِ فِي الأَْسْبَابِ أَنْ يَجْعَل الشَّارِعُ وَصْفًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَرَيَانِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لاَ نَصَّ وَلاَ إِجْمَاعَ فِيهَا، فَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص207 - 208، التحصيل في المحصول 2 / 243، والبحر المحيط 5 / 51، منهاج الوصول في علم الأصول مع شرح الإسنوي 3 / 41 وما بعده.(34/92)
قِيَافَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ بِمَعْنَى تَتَبَّعَ أَثَرَهُ لِيَعْرِفَهُ، يُقَال: فُلاَنٌ يَقُوفُ الأَْثَرَ وَيَقْتَافُهُ قِيَافَةً.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ الآْثَارَ وَيَعْرِفُهَا، وَيُعْرَفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْقِيَافَةِ وَمُشْتَقَّاتِهَا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِتَتَبُّعِ الأَْثَرِ وَمَعْرِفَةِ الشَّبَهِ.
فَفِي التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ النَّسَبَ بِفِرَاسَتِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَوْلُودِ (2) ، وَيُعَرِّفُهُ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَجَرٍ وَالصَّنْعَانِيُّ بِمَا لاَ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قوف) .
(2) التعريفات ص171، ودستور العلماء 3 / 52.
(3) فتح الباري 15 / 59، وبداية المجتهد 2 / 327، وسبل السلام 4 / 137.(34/92)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِيَافَةُ:
2 - تَأْتِي هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبِّ الْمَشْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْهُ: لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ (1) .
كَمَا يُرَادُ بِهَا التَّرَدُّدُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَالْحَوْمُ عَلَيْهِ، فَعَافَتِ الطَّيْرُ أَيْ: تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ، وَعَافَتْ عَلَى الْجِيَفِ أَيْ: تَطِيرُ حَوْلَهَا تُرِيدُ الْوُقُوعَ عَلَيْهَا.
وَتُطْلَقُ عَلَى زَجْرِ الطُّيُورِ وَالسَّوَانِحِ، وَالاِعْتِبَارُ بِأَسْمَائِهَا وَمَسَاقِطِهَا وَمَمَرِّهَا وَأَصْوَاتِهَا.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى طَائِرًا أَوْ غُرَابًا فَيَتَطَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَقَال بِالْحَدْسِ كَانَ عِيَافَةً أَيْضًا (2) وَهَذَا هُوَ الَّذِي شُهِرَ بِهِ بَنُو لَهَبٍ وَبَنُو أَسَدٍ (3) .
وَكَانَ الْعَائِفُ هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي يَعْمِدُ إِلَى التَّضْلِيل، وَيَدَّعِي الاِتِّصَال بِعَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُنَاكَ شَوَاهِدُ عَدِيدَةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْعِيَافَةِ بِالْكَهَانَةِ، وَهِيَ بِهَذَا تَخْتَلِفُ عَنِ الْقِيَافَةِ الَّتِي
__________
(1) حديث: " لم يكن بأرض قومي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 663) ، ومسلم (3 / 1543) من حديث ابن عباس.
(2) لسان العرب مادة (عيف) .
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط مادة (عيف) .(34/93)
لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَهَانَةِ، وَتَقُومُ عَلَى النَّظَرِ الْمَنْطِقِيِّ التَّجْرِيبِيِّ حَسْبَمَا يَتَّضِحُ مِنْ شُرُوطِ الْعَمَل بِهَا
ب - الْفِرَاسَةُ:
3 - الْفِرَاسَةُ: اسْمٌ فِعْلُهُ تَفَرَّسَ كَتَوَسَّمَ وَزْنًا وَمَعْنًى، أَمَّا الْفِرَاسَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ فَمَصْدَرُ الْفِعْل فَرَسَ يَفْرُسُ، وَمَعْنَاهَا: الْعِلْمُ بِرُكُوبِ الْخَيْل وَرَكْضِهَا مِنَ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالْفَارِسُ: الْحَاذِقُ بِمَا يُمَارِسُ مِنَ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُل فَارِسًا (1) .
وَتُطْلَقُ الْفِرَاسَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: نَوْعٌ يُتَعَلَّمُ بِالدَّلاَئِل وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالأَْخْلاَقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَال النَّاسِ (2) ، وَيُسْتَفَادُ إِطْلاَقُ الْفِرَاسَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَلاَمَاتِ عِنْدَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَفْسِيرِهِ لِلتَّوَسُّمِ بِأَنَّهُ الْعَلاَمَةُ الَّتِي يُسْتَدَل بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا، وَهِيَ الْفِرَاسَةُ. . . وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلٌ بِالْعَلاَمَةِ، وَمِنَ الْعَلاَمَاتِ مَا يَبْدُو لِكُل أَحَدٍ بِأَوَّل نَظَرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ لاَ يَبْدُو لِكُل أَحَدٍ، وَلاَ يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (فرس) .
(2) لسان العرب مادة (فرس) وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119.(34/93)
وَالثَّانِي: مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَحْوَال بَعْضِ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الظَّنِّ وَالْحَدْسِ (1) ، وَلاَ يُكْتَسَبُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. . . وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي، وَكُدُورَةِ الأَْخْلاَقِ وَفُضُول الدُّنْيَا (2) .
وَتَتَمَيَّزُ الْقِيَافَةُ عَنِ الْفِرَاسَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ يَقُومُ بِجَمْعِ الأَْدِلَّةِ وَيَكْشِفُ عَنْهَا، مَعَ النَّظَرِ فِيهَا وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَهَا بِنَوْعِ خِبْرَةٍ لاَ تُتَاحُ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّمَرُّسِ وَمُدَاوَمَةِ النَّظَرِ وَالدِّرَاسَةِ، أَمَّا التَّفَرُّسُ فَيُخْتَصُّ بِإِعْمَال الذَّكَاءِ الشَّخْصِيِّ وَالْقُدْرَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِوَزْنِ الأَْدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَتَقْدِيرِهَا.
وَيُلْحِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْفِرَاسَةَ بِالإِْلْهَامِ وَالْكَرَامَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ عِنْدَهُمْ لِهَذَا.
ج - الْقَرِينَةُ:
4 - الْقَرِينَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، يُقَال: فُلاَنٌ قَرِينٌ لِفُلاَنٍ أَيْ
__________
(1) لسان العرب مادة (فرس) وتفسير القرطبي 10 / 44.
(2) تفسير القرطبي 10 / 44.(34/94)
مُصَاحِبٌ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَلاَمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَافَةِ وَبَيْنَ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْقِيَافَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَرَائِنِ.
نَوْعَا الْقِيَافَةِ:
5 - يَقْسِمُ صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ الْقِيَافَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: قِيَافَةُ الأَْثَرِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعِيَافَةُ كَذَلِكَ، وَيُعْرَفُ هَذَا النَّوْعُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ تَتَبُّعِ آثَارِ الأَْقْدَامِ وَالأَْخْفَافِ وَالْحَوَافِرِ فِي الطُّرُقِ الْقَابِلَةِ لِلأَْثَرِ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ قِيَافَةُ الْبَشَرِ الَّذِي يُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِهَيْئَاتِ أَعْضَاءِ الشَّخْصَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالاِتِّحَادِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلاَدَةِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمَا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَافَةِ:
أ - إِثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) التعريفات ص152.
(2) كشف الظنون 2 / 1366.(34/94)
إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ، وَأَجَازُوا الاِعْتِمَادَ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعَدَمِ الدَّلِيل الأَْقْوَى مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ الأَْقْوَى مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَال: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا (1) نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (2) ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ؛ لأَِنَّهُ " كَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ مِثْل الْقَارِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ مِثْل الْقُطْنِ (3) ".
وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ سُرُورَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْل الْقَائِفِ إِقْرَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ الْعَمَل بِهِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ (4) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ الأَْنْصَارِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ:
__________
(1) سمي كذلك لوقوعه أسيرًا في الجاهلية، وكان الأسير تجزز ناصيته حينئذ ويطلق (فتح الباري 12 / 57) .
(2) حديث: " ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 56) ، ومسلم (2 / 1082) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " كان أسود شديد السواد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 700) من قول أحمد بن صالح.
(4) نيل الأوطار 7 / 81، وسبل السلام 4 / 137.(34/95)
يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَل عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَال: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا (1) .
وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ: أَنَّ إِخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ (أَيِ الشَّبَهَ) مَنَاطٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلاَّ لَمَا كَانَ لِلإِْخْبَارِ فَائِدَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا (2) .
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَلِيطُ - أَيْ: يُلْحِقُ - أَوْلاَدَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الإِْسْلاَمِ فِي حُضُورِ الصَّحَابَةِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَدْعُو الْقَافَةَ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِمْ، فَدَل هَذَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَل بِهِ (3) .
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ أُصُول الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ إِلَى اتِّصَال الأَْنْسَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي ثُبُوتِهَا بِأَدْنَى الأَْسْبَابِ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ الإِْمْكَانِ وَظَاهِرِ الْفِرَاشِ، فَلاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ
__________
(1) حديث أم سليم قالت: " يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 228 - 229) ، ومسلم (1 / 251) .
(2) نيل الأوطار 7 / 82.
(3) الموطأ 2 / 215.(34/95)
الْخَالِي عَنْ سَبَبٍ مُقَاوِمٍ لَهُ كَافِيًا فِي ثُبُوتِهِ (1)
7 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِيَافَةَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبُ الْوَلَدِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الأَْمَةِ (2) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالْقَرَافِيُّ وَالْمَوَّاقُ أَنَّ الْقَافَةَ إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لاَ فِي النِّكَاحِ (3) ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الأَْمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلاَنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ (4) .
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً وَطْئًا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ وَكَالأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّهَا إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ وَاحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الزَّوَاجِ وَقَبْل انْتِهَاءِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل، كَانَ الْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يُلْحِقُهُ بِأَيٍّ مِنْ
__________
(1) الطرق الحكمية ص222، والفروق 4 / 99، ومغني المحتاج 4 / 489، والمبدع 8 / 136.
(2) نهاية المحتاج 8 / 375، ومغني المحتاج 4 / 489، والمغني لابن قدامة 7 / 483، ومنتهى الإرادات 3 / 224، والمبدع 8 / 136، والفروق 4 / 99، ومواهب الجليل 5 / 247، وبداية المجتهد 2 / 328.
(3) بداية المجتهد 2 / 328، وذكر صاحب التبصرة (2 / 109) تعليل هذه الرواية بوقوع التساوي في ملك الأمة.
(4) الفروق 4 / 99، وتهذيب الفروق 4 / 164، ومواهب الجليل 5 / 247.(34/96)
الرَّجُلَيْنِ (1) .
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ أَوْ أَكْثَرُ بُنُوَّةَ أَحَدٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْل أَيٍّ مِنْهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَلَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا صَبِيًّا وَاحِدًا. . . يَقُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا ابْنِي. . . الْوَاجِبُ فِي هَذَا عِنْدِي عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ تُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ أَيْضًا (2) ، وَمِنْ جِنْسِهِ مَا أَوْرَدَهُ الْمَوَّاقُ عَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ نَزَل عَلَى رَجُلٍ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ هِيَ وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ الضَّيْفِ فِي لَيْلَةٍ صَبِيَّيْنِ فَلَمْ تَعْرِفْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَهَا، دَعِي لَهُمَا الْقَافَةُ (3) ، وَكَذَا لَوْ وُضِعَ وَلِيدُهَا فِي مَكَانٍ فَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي تَرْكِهَا لَهُ، كَأَنْ قَصَدَتْ نَبْذَهُ وَالْخَلاَصَ مِنْهُ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَلاَ يُدْعَى لَهَا الْقَافَةُ.
وَيُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ إِذَا تَنَازَعَ بُنُوَّتَهُ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْل الْقَافَةِ، لاَ لأَِنَّ الْقِيَافَةَ كَالْكَهَانَةِ فِي الذَّمِّ وَالْحُرْمَةِ، أَوْ أَنَّ الشَّبَهَ لاَ يَثْبُتُ بِهَا، وَإِنَّمَا؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 7 / 483، ومنتهى الإرادات 3 / 224، والمبدع 8 / 136.
(2) مواهب الجليل 5 / 247.
(3) مواهب الجليل 5 / 247، والتاج والإكليل للمواق بالموضع نفسه.
(4) بداية المجتهد 3 / 327.(34/96)
الشَّرْعَ حَصَرَ دَلِيل النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ، وَغَايَةُ الْقِيَافَةِ إِثْبَاتُ الْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لاَ إِثْبَاتُ الْفِرَاشِ، فَلاَ تَكُونُ حُجَّةً لإِِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْل الْقَائِفِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لأََمَرَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (1) .
؛ وَلأَِنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الأَْدْنَى، وَقَدْ يُشْبِهُ الأَْبَ الأَْعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى الأَْجَانِبِ فِي الْحَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَال: حُمْرٌ، قَال: فَهَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَال: نَعَمْ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَّى هُوَ؟ فَقَال: لَعَلَّهُ يَا رَسُول اللَّهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ (2) ، فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (4) . أَيِ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ
__________
(1) المبسوط 17 / 70.
(2) حديث: " إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 442) ، ومسلم (2 / 1137 - 1138) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) المبسوط 17 / 70.
(4) حديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ، ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.(34/97)
الْفِرَاشِ. . . وَالْمُرَادُ مِنَ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَرْأَةُ.
وَفِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أَنَّهَا نِسَاءُ أَهْل الْجَنَّةِ.
وَدَلاَلَةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ الْكَلاَمَ مَخْرَجَ الْقِسْمَةِ، فَجَعَل الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجَرَ لِلزَّانِي، فَاقْتَضَى أَلاَّ يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لاَ فِرَاشَ لَهُ، كَمَا لاَ يَكُونُ الْحَجَرُ لِمَنْ لاَ زِنَا مِنْهُ، إِذِ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَل الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَنَفَاهُ عَنِ الزَّانِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا الْكَلاَمِ يُسْتَعْمَل فِي النَّفْيِ.
وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ جَعَل كُل جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُل جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لاِنْعِدَامِ الْفِرَاشِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلاَدَةَ (1) .
وَمُفَادُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِلرَّجُل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ مِلْكُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 242.(34/97)
الْيَمِينِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَمَل الْقَائِفِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّخَلُّقِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا مِنْ هَذَا التَّخَلُّقِ وَلاَ فِرَاشَ، فَإِنَّ النَّسَبَ لاَ يَثْبُتُ (1) .
شُرُوطُ الْقَائِفِ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يَلِي:
أ - الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِقَوْل الْقَائِفِ إِلاَّ بِتَجْرِبَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسَبِ عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْمَرَّاتِ جَمِيعًا اعْتُمِدَ قَوْلُهُ. . . وَالأَْبُ مَعَ الرِّجَال كَذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ فِي رِجَالٍ كَذَلِكَ (2) .
وَإِذَا حَصَلَتِ التَّجْرِبَةُ وَتَوَلَّدَتِ الثِّقَةُ بِخِبْرَتِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِتَكْرَارِ هَذَا الاِخْتِبَارِ عِنْدَ كُل إِلْحَاقٍ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنَ الرِّجَال غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيهِ وَيَرَى إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ لأَِنَّا تَبَيَّنَّا خَطَأَهُ،
__________
(1) المبسوط 17 / 70، وشرح معاني الآثار للطحاوي 3 / 116، 180، 4 / 161.
(2) حاشية الجمل 5 / 435.
(3) المرجع السابق.(34/98)
وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرَيْنَاهُ إِيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيهِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ، وَلَوِ اعْتُبِرَ بِأَنْ يُرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ عُلِمَتْ إِصَابَتُهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ جَازَ وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلاِحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إِصَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجَرَّبْ فِي الْحَال بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالإِْصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَازَ (1) .
ب - الْعَدَالَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الْقَائِفِ لِلْعَمَل بِقَوْلِهِ، فَرِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي (الْقَائِفِ) الْوَاحِدِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الاِجْتِزَاءَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ لِلْعَمَل بِقَوْل الْقَائِفِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ (3) .
ج - التَّعَدُّدُ: الأَْصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَدُّدُ لإِِثْبَاتِ النَّسَبِ بِقَوْل الْقَائِفِ، وَيُكْتَفَى بِقَوْل قَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي وَالْمُخْبِرِ، لَكِنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ رَأْيٌ آخَرُ يَقْضِي
__________
(1) المغني 5 / 770.
(2) تبصرة الحكام 2 / 108.
(3) المغني 5 / 769، ومنتهى الإرادات 2 / 489، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 435.(34/98)
بِاشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، جَاءَ فِي " التَّبْصِرَةِ " حِكَايَةُ الْخِلاَفِ عَنْ مَالِكٍ فِي الاِجْتِزَاءِ بِقَائِفٍ وَاحِدٍ كَالأَْخْبَارِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ لاَ بُدَّ مِنْ قَائِفَيْنِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، قَال بَعْضُ الشُّيُوخِ وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْل الْقَائِفِ الْوَاحِدِ (1) ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ قَوْل اثْنَيْنِ. . . فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ. . . وَقَال الْقَاضِي: يُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ، وَيُقْبَل فِي الْحُكْمِ قَوْل وَاحِدٍ، وَحَمَل كَلاَمَ أَحْمَدَ عَلَى مَا إِذَا تَعَارَضَ قَوْل الْقَائِفَيْنِ (2) ، وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْل قَائِفٍ وَاحِدٍ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَهُوَ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَنْفُذُ مَا يَقُولُهُ بِخِلاَفِ الشَّاهِدِ (3) ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (4) .
وَمَبْنَى الْخِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي اعْتِبَارِ قَوْل الْقَائِفِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَرَافِيُّ إِلْحَاقَ قَوْل الْقَائِفِ بِالشَّهَادَةِ لِلْقَضَاءِ بِهِ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَاحْتِمَال وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ أَوِ التُّهْمَةِ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 108.
(2) المغني 5 / 770.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 488.
(4) حاشية الجمل 5 / 435.(34/99)
لِذَلِكَ، وَلاَ يَقْدَحُ انْتِصَابُهُ لِهَذَا الْعَمَل عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ الشَّاهِدِ (1) ، أَمَّا السُّيُوطِيُّ فَيُرَجِّحُ إِلْحَاقَ قَوْل الْقَائِفِ بِالرِّوَايَةِ، يَقُول: وَالأَْصَحُّ الاِكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ تَغْلِيبًا لِشَبَهِ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لإِِلْحَاقِ النَّسَبِ (2) .
د - الإِْسْلاَمُ: نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَهِيَ الْقَاضِيَةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلاَ يُسَلِّمُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِوُجُوبِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ لِلْعَمَل بِقَوْل الْقَائِفِ فِي مَذْهَبِهِمْ (4) .
هـ - الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ: الأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ (5) .
و الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ، وَانْتِفَاءُ مَظِنَّةِ التُّهْمَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ عَدُوًّا لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَهُ، وَلاَ أَصْلاً أَوْ فَرْعًا لِمَنْ يُثْبِتُ نَسَبَهُ، نَصَّ عَلَى
__________
(1) الفروق 1 / 8.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص419.
(3) مغني المحتاج 4 / 88، ونهاية المحتاج 8 / 375، ومنتهى الإرادات 2 / 489.
(4) المبدع 5 / 310.
(5) منتهى الإرادات 2 / 489، والمبدع 5 / 310، ومغني المحتاج 4 / 88.(34/99)
اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَيَتَخَرَّجُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ أَلْحَقُوا الْقَائِفَ بِالشَّاهِدِ أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي فَيُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ.
شُرُوطُ الْقِيَافَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَافَةِ لإِِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا مَا يَلِي:
أ - عَدَمُ قِيَامِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الإِْلْحَاقِ بِالشَّبَهِ، فَلَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يُلاَعِنُهَا وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّبَهِ بِقَوْل الْقَافَةِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل شَرَعَ إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَإِلْغَاءُ الشَّبَهِ بِاللِّعَانِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا (2) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ الشَّبَهُ كَذَلِكَ إِذَا تَعَارَضَ مَعَ الْفِرَاشِ، يَدُل عَلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَال سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَال عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي ابْنُ أَمَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 375.
(2) زاد المعاد 5 / 422.(34/100)
أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَال: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ. . . وَاحْتَجِبِي عَنْهُ يَا سَوْدَةُ (1) فَقَدْ أَلْغَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّبَهَ وَأَلْحَقَ النَّسَبَ بِزَمْعَةَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.
ب - وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا وَعَدَمُ وُجُودِ دَلِيلٍ يَقْطَعُ هَذَا التَّنَازُعَ، كَمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلاَنِ أَوِ امْرَأَتَانِ، وَكَمَا إِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِقَوْل الْقَافَةِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، وَلاَ يَقُومُ التَّنَازُعُ حَقِيقَةً فِيمَا بَيْنَهُمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْوَلَدُ لأَِحَدِهِمَا، فَلَوْ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلاَنِ، وَقَال أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنِي، وَقَال الآْخَرُ: بِنْتِي، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ (2) .
ج - إِمْضَاءُ الْقَاضِي قَوْل الْقَائِفِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَلاَ يَلْزَمُ قَوْلُهُ عَلَى هَذَا إِلاَّ بِإِمْضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: وَلاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْقَائِفِ حَتَّى يَأْمُرَ الْقَاضِي، وَإِذَا أَلْحَقَهُ اشْتَرَطَ تَنْفِيذَ الْقَاضِي إِنْ
__________
(1) حديث عائشة: " اختصم سعد بن أبي وقاص. . . ". تقدم تخريجه ف 7.
(2) المغني 5 / 776.(34/100)
لَمْ يَكُنْ قَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ قَائِفٌ (1) ، وَرَأَى الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقَائِفَ إِنْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الإِْلْحَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي اسْتَخْلَفَهُ وَجَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَهُمَا جَازَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ بِمَا رَآهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ وَإِلْحَاقِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ (2) .
د - حَيَاةُ مَنْ يُرَادُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقِيَافَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: أَنَّهَا إِنْ وَضَعَتْهُ تَمَامًا مَيِّتًا لاَ قَافَةَ فِي الأَْمْوَاتِ، وَنَقَل الصَّقَلِّيُّ عَنْ سَحْنُونٍ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا دُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ، قَال الْحَطَّابُ: وَيُحْتَمَل رَدُّهُمَا إِلَى وِفَاقٍ؛ لأَِنَّ السَّمَاعَ (أَيْ لاِبْنِ الْقَاسِمِ) فِيمَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَقَوْل سَحْنُونَ فِيمَا وُلِدَ حَيًّا (3) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ حَيَاةَ الْمَقُوفِ، فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا جَازَ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقَافَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوْ يُدْفَنْ (4) .
هـ - حَيَاةُ مَنْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ: اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيَاةَ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَعَنْ سَحْنُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ لاَ تُلْحِقُ الْقَافَةُ الْوَلَدَ إِلاَّ بِأَبٍ حَيٍّ، فَإِنْ مَاتَ فَلاَ قَوْل لِلْقَافَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 436.
(2) المرجع السابق.
(3) مواهب الجليل 5 / 248.
(4) مغني المحتاج 4 / 489.(34/101)
جِهَةِ قَرَابَتِهِ إِذْ لاَ تَعْتَمِدُ عَلَى شَبَهِ غَيْرِ الأَْبِ (1) ، وَيَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَرْضُ الأَْبِ عَلَى الْقَافَةِ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، جَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: وَلاَ تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إِلاَّ عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ. قَال بَعْضُهُمْ: أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، قِيل: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ (2) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
اخْتِلاَفُ الْقَافَةِ:
10 - إِذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْقَافَةِ جُمِعَ بَيْنَهَا إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ أَحَدُ الْقَائِفِينَ نَسَبَ اللَّقِيطِ بِرَجُلٍ، وَأَلْحَقَهُ الآْخَرُ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ.
وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْل قَائِفَيْنِ اثْنَيْنِ خَالَفَهُمَا قَائِفٌ ثَالِثٌ، كَبَيْطَارَيْنِ خَالَفَهُمَا بَيْطَارٌ فِي عَيْبٍ وَكَطَبِيبَيْنِ خَالَفَهُمَا طَبِيبٌ فِي عَيْبٍ، قَالَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ (4) ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمَا شَاهِدَانِ فَقَوْلُهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْل شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ لاَ يَتَرَجَّحُ قَوْل ثَلاَثَةِ قَافَةٍ عَلَى قَوْل قَائِفَيْنِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ
__________
(1) التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل 5 / 248.
(2) تبصرة الحكام 2 / 109.
(3) مغني المحتاج 4 / 489، ومنتهى الإرادات 2 / 487.
(4) منتهى الإرادات 2 / 488.(34/101)
فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلاَ التَّرْجِيحُ، كَأَنْ يُلْحِقَ الْقَائِفُ الْمَقُوفَ بِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَيُلْحِقَهُ الآْخَرُ بِغَيْرِهِ، فَفِيهِ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِلاَّ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَخَّرُ الْوَلَدُ إِذْ قَضَى الْقَافَةُ بِاشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِيهِ إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي الاِلْتِحَاقِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى مَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَيْلٍ فِطْرِيٍّ بَيْنَ الْوَلَدِ وَأَصْلِهِ قَدْ يُعِينُهُ عَلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالاِشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَال لَهُ: وَال أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلاَ يُلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ (2) .
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ عَدِمَ الْقَائِفُ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَوْ أَشْكَل عَلَيْهِ الْحَال بِأَنْ تَحَيَّرَ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، وُقِفَ الأَْمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً وَيَخْتَارَ الاِنْتِسَابَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْمَيْل الَّذِي يَجِدُهُ، وَيُحْبَسُ لِيَخْتَارَ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ الاِنْتِسَابِ، إِلاَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَيْلاً إِلَى أَحَدِهِمَا فَيُوقَفُ الأَْمْرُ.
وَلاَ يُقْبَل رُجُوعُ قَائِفٍ إِلاَّ قَبْل الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ
__________
(1) المغني 5 / 770.
(2) بداية المجتهد 2 / 328.(34/102)
بِقَوْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَذَا لاَ يُصَدَّقُ لِغَيْرِ الآْخَرِ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ إِمْكَانِ تَعَلُّمِهِ مَعَ امْتِحَانٍ لَهُ بِذَلِكَ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولاً نَسَبَهُ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَنْكَرَتْهُ زَوْجَتُهُ لَحِقَهُ عَمَلاً بِإِقْرَارِهِ دُونَهَا، لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَإِنِ ادَّعَتْهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، امْرَأَةٌ أُخْرَى وَأَنْكَرَهُ زَوْجُهَا، وَأَقَامَ زَوْجُ الْمُنْكِرَةِ بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَيَسْقُطَانِ، وَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهَا لَحِقَهَا، وَكَذَا زَوْجُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ كَمَا قَالَهُ الإِْسْنَوِيُّ خِلاَفًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، أَوْ بِالرَّجُل لَحِقَهُ وَزَوْجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَالأَْصَحُّ كَمَا قَال الإِْسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدًا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُ قَائِفٍ بِقَوْل قَائِفٍ آخَرَ، وَلَوْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِالأَْشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وَآخَرُ بِالأَْشْبَاهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخُلُقِ وَتَشَاكُل الأَْعْضَاءِ، فَالثَّانِي أَوْلَى مِنَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ فِيهَا زِيَادَةَ حِذْقٍ وَبَصِيرَةٍ، وَلَوْ أَلْحَقَ الْقَائِفُ التَّوْأَمَيْنِ بِاثْنَيْنِ، بِأَنْ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالآْخَرَ بِالآْخَرِ بَطَل قَوْلُهُ حَتَّى يُمْتَحَنَ وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَيُعْمَل بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِاثْنَيْنِ، وَيَبْطُل أَيْضًا قَوْل قَائِفَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الإِْلْحَاقِ حَتَّى يُمْتَحَنَا وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُمَا.
وَيَلْغُو انْتِسَابُ بَالِغٍ أَوْ تَوْأَمَيْنِ إِلَى اثْنَيْنِ،(34/102)
فَإِنْ رَجَعَ، أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ إِلَى الآْخَرِ قُبِل، وَيُؤْمَرُ الْبَالِغُ بِالاِنْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَمَتَى أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الآْخَرُ أَوْ أَنْكَرَاهُ؛ لأَِنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ فَلاَ يَثْبُتُ بِالإِْنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ أَوْ يَنْتَسِبَ، وَيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عَلَى مَنْ لَحِقَهُ إِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ، وَيَقْبَلاَنِ لَهُ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، وَنَفَقَةُ الْحَامِل عَلَى الْمُطَلِّقِ فَيُعْطِيهَا لَهَا وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الآْخَرِ إِنْ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالآْخَرِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَيِّتًا، لاَ إِنْ تَغَيَّرَ أَوْ دُفِنَ، وَإِنْ مَاتَ مُدَّعِيهِ عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ مَعَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ (1) .
وَرَجَّحَ الْحَنَابِلَةُ إِطْلاَقَ الْعَمَل بِقَوْل الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِاثْنَيْنِ لَحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ الْتُحِقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ أُلْحِقَ بِالاِثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَدَلِيل الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا كِلاَهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 490، 491.(34/103)
ابْنُهُ، فَدَعَا عُمَرُ لَهُمَا بِالْقَافَةِ فَنَظَرُوا وَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ (1) .
وَإِنِ ادَّعَتِ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْل إِحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَفِيهِ الاِخْتِلاَفُ السَّابِقُ (2) .
الإِْثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الأَْثَرِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
11 - ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ جَوَازَ اعْتِمَادِ الْقَاضِي عَلَى الْقِيَافَةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالأَْمْوَال، يَقُول: وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْقِيَافَةِ فِي الأَْمْوَال كُلِّهَا، كَمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ فِي الْجِذْعِ الْمَقْلُوعِ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الدَّارِ، وَكَمَا حَكَمْنَا فِي الاِشْتِرَاكِ فِي الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ، فَأَعْطَيْنَا كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَادَةِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَ الصَّانِعَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا حَكَمْنَا بِالْوَصْفِ فِي اللُّقَطَةِ إِذَا تَدَاعَاهَا اثْنَانِ، وَهَذَا نَوْعُ قِيَافَةٍ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا غِرَاسًا أَوْ تَمْرًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَشَهِدَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ حَيْثُ يَسْتَوِي الْمُتَدَاعِيَانِ، كَمَا رُجِعَ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ بِالنَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ لِبَاسًا مِنْ لِبَاسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 488.
(2) المغني 5 / 775، وبداية المجتهد 2 / 328، ومغني المحتاج 4 / 490 - 491، والمهذب 1 / 572.(34/103)
دَابَّةً تَذْهَبُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى إِصْطَبْل أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا زَوْجَ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعَ بَابٍ مَعَ الآْخَرِ شَكْلُهُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةٌ لأَِحَدِهِمَا كَالزُّرْبُول الَّتِي لِلْجُنْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ (1) .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَيَا بَهِيمَةً أَوْ فَصِيلاً فَشَهِدَ الْقَائِفُ أَنَّ دَابَّةَ هَذَا أَنْتَجَتْهَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ (2) ، وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْثَرِ فِي السَّيْفِ فِي قَضِيَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ (3) .
فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمَا: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَال: هَل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَال: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ (4) .
الإِْثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الأَْثَرِ فِي الْجِنَايَاتِ:
12 - يُرْجَعُ إِلَى قَائِفِ الأَْثَرِ لِلْقَبْضِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ وَإِحْضَارِهِمْ مَجْلِسَ الْقَاضِي، كَمَا
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4 / 587، وانظر هذه الأمثلة في البحر الرائق لابن نجيم 7 / 225، وحاشية ابن عابدين 8 / 53، 38، ورمز الحقائق 2 / 110، 115، والمبسوط 17 / 63، 78، 87، 94، ومعين الحكام 130، 163، والمغني لابن قدامة 9 / 320 - 325، والطرق الحكمية ص10، وتبصرة الحكام 2 / 70، 123.
(2) الفتاوى الكبرى 4 / 587.
(3) تبصرة الحكام 2 / 121.
(4) حديث " ابني عفراء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 246 - 247) ، ومسلم (3 / 1372) من حديث عبد الرحمن بن عوف.(34/104)
حَدَثَ فِي قَضِيَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ (1) .
وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ فِي جَمْعِ الأَْدِلَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ.
وَيُعَدُّ رَأْيُ الْقَائِفِ شَهَادَةً تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ وَالدَّعَاوَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، مِثَالُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَثْبُتَ ذَلِكَ، فَيَقْتَصُّ الْقَائِفُ أَثَرَ الْوَطْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَشَهَادَةُ الْقَائِفِ أَنَّ الْمَال دَخَل إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ تُوجِبُ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: إِمَّا الْحُكْمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعِي، وَهُوَ الأَْقْرَبُ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْمَارَاتِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ (2) ، وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْثَرِ فِي السَّيْفِ كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ فَرْحُونَ (3) فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْحِصْنَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً، فَوَقَعُوا فِيهِ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ السَّيْفَ
__________
(1) حديث " العرينين ". أخرجه أبو داود (2 / 532 - 533) وأصله في مسلم (3 / 1298) .
(2) الفتاوى الكبرى 4 / 587.
(3) تبصرة الحكام 2 / 121.(34/104)
فِي بَطْنِهِ وَتَحَامَل عَلَيْهِ حَتَّى نَبَعَ ظَهْرُهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ نَظَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى سُيُوفِهِمْ فَقَال: هَذَا قَتَلَهُ لأَِنَّهُ رَأَى عَلَى السَّيْفِ أَثَرَ الطِّعَانِ (1) .
وَقَدِ اسْتَنَدَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى الأَْثَرِ حِينَ اخْتَصَمَ عِنْدَهُ رَجُلاَنِ فِي قَطِيفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَمْرَاءُ وَالأُْخْرَى خَضْرَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي الَّتِي بِيَدِ الآْخَرِ، وَأَنَّهُ تَرَكَ قَطِيفَتَهُ لِيَغْتَسِل، فَأَخَذَهَا الآْخَرُ وَتَرَكَ قَطِيفَتَهُ هُوَ فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ إِيَاسٌ أَنْ يُؤْتَى بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذَا وَرَأْسَ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ رَأْسِ أَحَدِهِمَا صُوفٌ أَحْمَرُ، وَمِنْ رَأْسِ الآْخَرِ صُوفٌ أَخْضَرُ، فَقَضَى بِالْحَمْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الأَْحْمَرُ وَبِالْخَضْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الأَْخْضَرُ (2) .
وَفِي إِحْدَى الْقَضَايَا هَرَبَ الْقَاتِل وَانْدَسَّ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُعْرَفْ، فَمَرَّ الْمُعْتَضِدُ عَلَى النَّاسِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى قَلْبِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيَجِدُهُ سَاكِنًا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ ذَلِكَ الْغُلاَمِ، فَإِذَا بِهِ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ، وَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ فَقَتَلَهُ (3) .
__________
(1) حديث " قصة عبد الله بن أنيس ". ذكره ابن سعد في الطبقات (2 / 91 - 92) بدون إسناد.
(2) الطرق الحكمية ص32.
(3) الطرق الحكمية ص41.(34/105)
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الاِسْتِنَادَ إِلَى الأَْثَرِ لَيْسَ قَرِينَةً قَطْعِيَّةً عَلَى ارْتِكَابِ الْجَرِيمَةِ، تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ الْقَصَّابِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى خَرِبَةٍ لِلتَّبَوُّل وَمَعَهُ سِكِّينُهُ، فَإِذَا بِهِ أَمَامَ مَقْتُولٍ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَمَا أَفَاقَ مِنْ ذُهُولِهِ حَتَّى وَجَدَ الْعَسَسَ يَقْبِضُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الرَّجُل عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الأَْدِلَّةَ جَمِيعَهَا ضِدُّهُ، وَلَمْ يُنْقِذْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَحْتُومَةِ - وَهِيَ الْقَتْل - إِلاَّ إِقْرَارُ الْقَاتِل الْحَقِيقِيِّ بِالْجَرِيمَةِ (1) .
__________
(1) الطرق الحكمية ص28 - 29.(34/105)
قِيَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَامُ لُغَةً: مِنْ قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وَقِيَامًا: انْتَصَبَ، وَهُوَ نَقِيضُ الْجُلُوسِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُعُودُ:
2 - الْقُعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْجُلُوسُ، أَوْ هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ وَمِنَ السُّجُودِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ التَّضَادُّ.
الاِضْطِجَاعُ:
3 - الاِضْطِجَاعُ: وَضْعُ الْجَنْبِ بِالأَْرْضِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) نهاية المحتاج 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 153 - 154.
(3) القاموس المحيط.
(4) الدر المختار 1 / 415، ومغني المحتاج 1 / 153، ونهاية المحتاج 1 / 347، وقواعد الفقه للبركتي.(34/106)
وَالاِضْطِجَاعُ فِي السُّجُودِ: أَنْ يَتَضَامَّ وَيُلْصِقَ صَدْرَهُ بِالأَْرْضِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالاِضْطِجَاعِ التَّضَادُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَتَرَدَّدُ حُكْمُ الْقِيَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ سُنَّةً أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا، بِحَسَبِ نَوْعِ الْفِعْل الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالدَّلِيل الْوَارِدِ فِيهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ، كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي الأَْصَحِّ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ: مُطِيعِينَ، وَمُقْتَضَى هَذَا الأَْمْرِ الاِفْتِرَاضُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَفْرِضِ الْقِيَامَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الاِفْتِرَاضُ
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط.
(2) فتح القدير 1 / 192، وتبيين الحقائق 1 / 104، والدر المختار 1 / 414 - 415، والشرح الكبير للدردير 1 / 231، والشرح الصغير للدردير 1 / 307، ونهاية المحتاج 1 / 346، ومغني المحتاج 1 / 153، وكشاف القناع 1 / 450، والمغني 1 / 463، وغاية المنتهى 1 / 138.(34/106)
الْوَاقِعُ فِي الصَّلاَةِ. إِعْمَالاً لِلنَّصِّ فِي حَقِيقَتِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ.
وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ فَرْضِيَّةَ الْقِيَامِ فِيمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ مُسْلِمًا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) .
كَيْفِيَّةُ الْقِيَامِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي الصَّلاَةِ هُوَ الاِنْتِصَابُ مُعْتَدِلاً، وَلاَ يَضُرُّ الاِنْحِنَاءُ الْقَلِيل الَّذِي لاَ يَجْعَلُهُ أَقْرَبَ إِلَى أَقَل الرُّكُوعِ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ لاَ يَنَال رُكْبَتَيْهِ (2) .
مِقْدَارُ الْقِيَامِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَفْرُوضَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " كانت بي بواسير. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587 ط. السلفية) .
(2) الدر المختار ورد المحتار 1 / 414 ط. الأميرية والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 231، ونهاية المحتاج 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 153، 154، وكشاف القناع 1 / 451، والمغني 1 / 463.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 307، 309، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 255، والمهذب 1 / 72 - 73، 82، وكشاف القناع 1 / 451، وغاية المنتهى 1 / 138(34/107)
الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَبَدَلِهَا مِنَ الذِّكْرِ، وَقَفَ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا السُّورَةُ بَعْدَهَا فَهِيَ سُنَّةٌ.
فَإِنْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَطْ، فَالرُّكْنُ مِنَ الْقِيَامِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْمَسْبُوقَ يُدْرِكُ فَرْضَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ خَاصَّةً، لإِِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ وَوَاجِبَهُ وَمَسْنُونَهُ وَمَنْدُوبَهُ لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ يَكُونُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَهُوَ بِقَدْرِ آيَةٍ فَرْضٌ، وَبِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ وَاجِبٌ، وَبِطِوَال الْمُفَصَّل وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ فِي مَحَالِّهَا الْمَطْلُوبَةِ مَسْنُونٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي نَحْوِ تَهَجُّدٍ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ دُونَ السُّجُودِ، نُدِبَ إِيمَاؤُهُ قَاعِدًا، لِقُرْبِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَجَازَ إِيمَاؤُهُ قَائِمًا.
سُقُوطُ الْقِيَامِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ يَسْقُطُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ لِعَاجِزٍ عَنْهُ، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمُتَقَدِّمِ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 414 - 415، 422.
(2) انظر فقرة 5.(34/107)
فَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ آيَةً قَائِمًا، لَزِمَهُ بِقَدْرِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْمَرِيضِ ف 5، 6) .
وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَنِ الْعَارِي، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عِنْدَهُمْ قَائِمًا وُجُوبًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُرْيَانٌ ف 7) .
وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَذَلِكَ حَالَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْخَوْفِ ف 9) .
الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِل، عَلَى تَفْصِيلٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، أَوْ عَلَى حَائِطٍ وَنَحْوِهِ، بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ زَال لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ صَحَّتْ، أَمَّا فِي التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ: فَلاَ
__________
(1) الدر المختار 1 / 411، 414، 415، والكتاب للقدوري وشرحه اللباب 1 / 69.(34/108)
يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْلاَل بِالْقِيَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ صَلاَتَهُ تُكْرَهُ؛ لأَِنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ، وَثَوَابُهُ يَنْقُصُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَرْضٍ، وَمُلْحَقٌ بِهِ كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ فَجْرٍ فِي الأَْصَحِّ، لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) إِلَى إِيجَابِ الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا فِي الْفَرَائِضِ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ حَال تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْهُوِيِّ لِلرُّكُوعِ، فَلاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالْفَاتِحَةِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلاَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل الْعِمَادُ لَسَقَطَ، وَأَمَّا حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ، فَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل لَسَقَطَ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْضِ الرُّكْنِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ لَمْ تَبْطُل، وَكُرِهَ اسْتِنَادُهُ، وَلَوْ جَلَسَ فِي حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لإِِخْلاَلِهِ بِهَيْئَةِ الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمَأْمُومُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ حَال قِرَاءَتِهَا لِعَمُودٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل لَسَقَطَ، صَحَّتْ صَلاَتُهُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (2) فِي الأَْصَحِّ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 312.
(2) نهاية المحتاج 1 / 347، والمجموع 3 / 258 - 260.(34/108)
الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ الْمُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَسَقَطَ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ وَلاَ تَصِحُّ مَعَ الاِسْتِنَادِ فِي حَال الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَجُوزُ الاِسْتِنَادُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) إِلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَنَدَ اسْتِنَادًا قَوِيًّا عَلَى شَيْءٍ بِلاَ عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.
صَلاَةُ الْقَاعِدِ خَلْفَ الْقَائِمِ وَبِالْعَكْسِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ صَلاَةِ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ خَلْفَ الْقَائِمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ وَقَائِعَ، مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا، فِي ثَوْبٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ (2) وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا (3) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 450 - 451، 587.
(2) حديث أنس: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 197 - 198) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عائشة: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 196) وقال: حديث حسن صحيح.(34/109)
وَأَمَّا صَلاَةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْجَالِسِ أَوِ الْقَاعِدِ: فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى آخِرَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا (2) ؛ وَلأَِنَّ حَال الْقَائِمِ أَقْوَى مِنْ حَال الْقَاعِدِ، وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَال عِلَّتِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ النَّفْل، أَمَّا فِي النَّفْل فَيَجُوزُ اتِّفَاقًا (3) .
الْقِيَامُ فِي النَّوَافِل:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّل قَاعِدًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَمَّا الاِضْطِجَاعُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " صلى آخر صلاته قاعدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 173) ، ومسلم (1 / 311، 312) من حديث عائشة.
(2) حديث: " لا يؤمن أحد بعدي جالسًا. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 398) من حديث الشعبي مرسلاً، وذكر الدارقطني أن فيه راويًا متروكًا.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 551، ومغني المحتاج 1 / 240، وحاشية الدسوقي 1 / 327، ومنار السبيل 1 / 124، وكشاف القناع 1 / 476، 477. ط. دار الفكر.(34/109)
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْجُلُوسِ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفَل مُضْطَجِعًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّل مُضْطَجِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فِي الأَْصَحِّ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ الرَّجُل قَاعِدًا قَال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ (1) .
وَالأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ فَإِنِ اضْطَجَعَ عَلَى الأَْيْسَرِ جَازَ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْعُدَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قِيل: يُومِئُ بِهِمَا أَيْضًا (2) .
الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّ لِلْمُصَلِّي تَطَوُّعًا الْقِيَامَ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّلاَةَ جَالِسًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْل قَاعِدًا
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " من صلى قائمًا فهو أفضل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 586) .
(2) الدر المختار 1 / 468، 652 وما بعدها، وفتح القدير 1 / 328، والشرح الصغير 1 / 359 وما بعدها، والشرح الكبير 1 / 258، والقوانين الفقهية ص59، ومغني المحتاج 1 / 155، وكشاف القناع 1 / 451، 516، 517، 588، وغاية المنتهى 1 / 158.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 652، وفتح القدير 1 / 328، والشرح الصغير 1 / 359، ونهاية المحتاج 1 / 452، وكشاف القناع 1 / 517، ونيل الأوطار 3 / 83، وغاية المنتهى 1 / 158، والقوانين الفقهية ص 59.(34/110)
قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ (1) .
وَيَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ الرَّكْعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسَ أَوِ الْعَكْسُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى كَرَاهَةِ الْقُعُودِ بَعْدَ الْقِيَامِ، وَمَنَعَ أَشْهَبُ الْجُلُوسَ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْقِيَامَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِقْرَةُ 20) .
الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فَرْضًا فِي السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا كَالْمِحَفَّةِ وَالْهَوْدَجِ وَالطَّائِرَةِ وَالسَّيَّارَةِ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّى فِي الْفُلْكِ قَاعِدًا بِلاَ عُذْرٍ صَحَّ لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ وَأَسَاءَ، أَيْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لاَ مُومِئًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ أَيْ؛ لأَِنَّ دَوَرَانَ الرَّأْسِ فِيهَا غَالِبٌ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، ثُمَّ قَال: وَأَسَاءَ: أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: " أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 589) .(34/110)
عَنْ شُبْهَةِ الْخِلاَفِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَفِينَةٌ ف 3) .
الْقِيَامُ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ قَائِمًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الأَْذَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا بِلاَل، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ، وَتَرْكُ الْقِيَامِ مَكْرُوهٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ ف 37، وَإِقَامَةٌ ف 15) .
بَقَاءُ الدَّاخِل إِلَى الْمَسْجِدِ قَائِمًا أَثْنَاءَ الأَْذَانِ:
15 - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ، فَهَل يَظَل قَائِمًا أَوْ يَجْلِسُ؟ لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَانِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ قَدْ شَرَعَ فِي الأَْذَانِ، لَمْ يَأْتِ بِتَحِيَّةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا، بَل يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ وَاقِفًا، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَذَانِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الإِْجَابَةِ وَالتَّحِيَّةِ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 415، 713 - 717، والشرح الصغير 1 / 300، 302، 307، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 225، 228 - 230، ومغني المحتاج 1 / 153، وكشاف القناع 1 / 593.
(2) حديث ابن عمر: " قم فناد بالصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 77) ، ومسلم (1 / 258) .
(3) مغني المحتاج 1 / 140، وكشاف القناع 1 / 285.(34/111)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ قَعَدَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَذَانِهِ، فَيُصَلِّي التَّحِيَّةَ بَعْدَئِذٍ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الإِْجَابَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَقْتُ الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ:
16 - يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَقُومَ الْمُصَلُّونَ لِلصَّلاَةِ عِنْدَ الإِْقَامَةِ حَتَّى يَقُومَ الإِْمَامُ أَوْ يُقْبِل، أَيْ عِنْدَ الإِْمَامِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ (2) .
وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ قِيَامِ الْمُصَلِّينَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلإِْمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ حِينَ قَوْل الْمُقِيمِ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَيُجَابُ، هَذَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ حَاضِرًا بِقُرْبِ الْمِحْرَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، يَقُومُ كُل صَفٍّ حِينَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الإِْمَامُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَإِنْ دَخَل الإِْمَامُ مِنْ قُدَّامٍ، قَامُوا حِينَ يَقَعُ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ
__________
(1) الدر المختار 1 / 371.
(2) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 119) ، ومسلم (1 / 452) من حديث أبي قتادة واللفظ لمسلم.(34/111)
أَقَامَ الإِْمَامُ بِنَفْسِهِ فِي مَسْجِدٍ، فَلاَ يَقِفُ الْمُؤْتَمُّونَ حَتَّى يُتِمَّ إِقَامَتَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي الْقِيَامُ حَال الإِْقَامَةِ أَوْ أَوَّلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَلاَ يُطْلَبُ لَهُ تَعْيِينُ حَالٍ، بَل بِقَدْرِ الطَّاقَةِ لِلنَّاسِ، فَمِنْهُمُ الثَّقِيل وَالْخَفِيفُ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا شَرْعٌ مَسْمُوعٌ إِلاَّ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْعَمَل بِهِ، وَإِلاَّ فَالْمَسْأَلَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَرْعٌ، وَأَنَّهُ مَتَى قَامَ كُل وَاحِدٍ، فَحَسَنٌ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ وَالإِْمَامِ أَنْ لاَ يَقُومَا حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، وَلِسَرِيعِ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لِيَسْتَوُوا قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
فَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ الإِْمَامُ مَعَ الْقَوْمِ بَل يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ الْمَأْمُومِينَ لاَ يَقُومُونَ حَتَّى يَرَوُا الإِْمَامَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 372، 447.
(2) الشرح الصغير 1 / 256، وبداية المجتهد 1 / 150. ط. دار المعرفة، والدسوقي 1 / 200.(34/112)
تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ (1) .
وَرَأْيُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ الْمُصَلِّي عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ (2) ".
الْقِيَامُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِيَامِ الْخَطِيبِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفَيْنِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ فِي الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِبْ؛ لأَِنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ، كَالأَْذَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ حَال الْخُطْبَةِ شَرْطٌ، إِنْ قَدَرَ، وَذَهَبَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْظْهَرَ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَسَاءَ وَصَحَّتْ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا كَالصَّلاَةِ،
__________
(1) المجموع 3 / 255، 256 ط. السلفية.
(2) المغني 1 / 458.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 760، وفتح القدير 1 / 414، وكشاف القناع 2 / 43، 39، والمغني 2 / 302 وما بعدها.(34/112)
وَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِلْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ حَال الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل أَهْل الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ.
الْقِيَامُ فِي حَال تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالذِّكْرِ:
18 - تَجُوزُ تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَرْدَادُ الأَْذْكَارِ مِنْ تَهْلِيلٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَغَيْرِهَا فِي أَيِّ حَالٍ، قِيَامًا وَقُعُودًا، وَفِي حَالَةِ الْوُقُوفِ وَالْمَشْيِ، قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِبًا، أَوْ جَالِسًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ فِي فِرَاشِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْوَال، جَازَ، وَلَهُ أَجْرٌ (3) ، قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 499، والشرح الكبير 1 / 379، المهذب 1 / 285، ومغني المحتاج 1 / 287.
(2) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 32 / 401) ، ومسلم (2 / 589) واللفظ لمسلم.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي: ص43.(34/113)
الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إِذَا مَرُّوا بِهَا عَلَى جَالِسٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَل السَّلَفِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمُخْتَارُ أَنْ لاَ يَقُومَ لَهَا، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: يُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، إِنْ كَانَتْ أَهْلاً لَهُ (1) .
الْقِيَامُ عِنْدَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا تَنْزِيهًا، وَاسْتَثْنَوُا الشُّرْبَ مِنْ زَمْزَمَ وَالشُّرْبَ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ بَعْدَهُ، حَيْثُ نَفَوُا الْكَرَاهَةَ عَنْهُمَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ قَائِمًا (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّخْصِ قَائِمًا بِلاَ عُذْرٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الشُّرْبِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 598، والشرح الصغير 1 / 570، والبدائع 1 / 310، والقليوبي 1 / 330، وغاية المنتهى 1 / 246.
(2) ابن عابدين 1 / 387، 88.
(3) الفواكه الدواني 2 / 417، والقوانين الفقهية ص288.
(4) روضة الطالبين 7 / 340، ومغني المحتاج 1 / 250.(34/113)
قَائِمًا، أَمَّا الأَْكْل قَائِمًا فَقَدْ قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ لاَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ قَائِمًا، وَيَتَوَجَّهُ كَشُرْبٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ، قَائِمًا (1) .
وَسَبَبُ الاِخْتِلاَفِ أَنَّهُ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا.
مِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، قَال قَتَادَةَ: فَقُلْنَا: فَالأَْكْل، فَقَال: ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ (2) "، وَيَدُل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْعِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا.
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تُجِيزُ الأَْكْل وَالشُّرْبَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا.
مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نَأْكُل عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ (3) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 177. والآداب الشرعية 3 / 175، 176.
(2) حديث أنس بن مالك: " أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر (وفي رواية: نهى) عن الشرب قائمًا ". أخرجه مسلم (2 / 1600 - 1601) .
(3) حديث ابن عمر: " كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 300) وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حديث ابن عباس: " شرب النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم ". أخرجه الترمذي (4 / 301) وقال: حديث حسن صحيح.(34/114)
الْقِيَامُ حَال التَّبَوُّل:
21 - يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) أَنْ يَبُول الإِْنْسَانُ قَاعِدًا؛ لأَِنَّهُ أَسْتَرُ وَأَبْعَدُ مِنْ مُمَاسَّةِ الْبَوْل؛ وَلِئَلاَّ يُصِيبَهُ الرَّشَاشُ، فَيَتَنَجَّسَ، وَيُكْرَهُ الْبَوْل قَائِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ لِعُذْرٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ ف 9) .
الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ:
22 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (2) ، وَثَبَتَ جَوَازُ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ إِكْرَامِ أَهْل الْفَضْل، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أَهْل قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - سَيِّدِ الأَْوْسِ - فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَال لِلأَْنْصَارِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ
__________
(1) الدر المختار 1 / 318، والشرح الصغير 1 / 87، والمهذب 1 / 26، ومغني المحتاج 1 / 40، والمغني 1 / 164.
(2) حديث: " من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 91) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وحسنه الترمذي.(34/114)
خَيْرِكُمْ (1) . .
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2) مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ إِكْرَامُ أَهْل الْفَضْل، وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ، إِذَا أَقْبَلُوا، وَاحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لاِسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طِوَال جُلُوسِهِ، وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ.
وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لأَِهْل الْفَضْل كَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ احْتِرَامَ هَؤُلاَءِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَأَدَبًا.
وَقَال الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ (3) .
وَنَقَل ابْنُ الْحَاجِّ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيل - أَنَّ الْقِيَامَ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: يَكُونُ الْقِيَامُ مَحْظُورًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 411) .
(2) شرح مسلم 12 / 93.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 260.(34/115)
إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا.
الثَّانِي: يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَهُوَ قِيَامُهُ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلاَلاً لِمَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ.
الثَّالِثِ: يَكُونُ جَائِزًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلاَ يُشْبِهُ حَالُهُ حَال الْجَبَابِرَةِ، وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إِلَيْهِ.
الرَّابِعِ: يَكُونُ حَسَنًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ أَتَى مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، أَوْ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِهِ لِتَهْنِئَتِهِ بِنِعْمَةٍ، أَوْ يَكُونَ قَادِمًا لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالإِْمَامِ الْعَادِل وَفُضَلاَءِ النَّاسِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الأَْفَاضِل. فَإِذَا تَرَكَهُ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَفْعَل فِي حَقِّهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الإِْهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا، وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لاَ يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامَ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِنَحْوِ عَالِمٍ وَمُصَالِحٍ وَصَدِيقٍ وَشَرِيفٍ لاَ لأَِجْل غِنًى،
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 139 طبع. الإسكندرية سنة 1291هـ.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص249.(34/115)
وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ صَارَ قَطِيعَةً (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا (2) .
وَوَرَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ حَتَّى يَدْخُل بَيْتَهُ (3) .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَال: لاَ تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَْعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا (4) .
وَوَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا
__________
(1) القليوبي 3 / 213.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه فاطمة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 700) من حديث عائشة، وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزاوئد (8 / 40) وعزاه إلى البزار وقال: رجاله ثقات.
(4) حديث ابن أمامة: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 398) ، ونقل ابن حجر في الفتح (11 / 50) عن الطبري ضعفه بالاضطراب في السند وجهالة فيه.(34/116)
إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ (1) .
الْقِيَامُ فِي الْعُقُوبَاتِ:
إِقَامَةُ الْحَدِّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا أَثْنَاءَ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ:
23 - إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُل قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَمْ بِإِقْرَارٍ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2)) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لِلْمَرْأَةِ، وَلِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُضْرَبُ الرِّجَال فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ مَالِكٌ (3) إِلَى أَنَّ الرَّجُل يُضْرَبُ قَاعِدًا، وَكَذَا الْمَرْأَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، كَمَا فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ، فَتُرْجَمُ الْمَرْأَةُ بِالاِتِّفَاقِ قَاعِدَةً.
وَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَفْرِ لَهَا: إِنْ شَاءَ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْحَفْرَ، أَمَّا الْحَفْرُ؛ فَلأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ إِلَى ثَنْدُوَتِهَا (أَيْ
__________
(1) حديث أنس: " لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 90) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح القدير مع العناية 4 / 128، والمغني 8 / 158، وبداية المجتهد 2 / 429.
(3) بداية المجتهد 2 / 429.(34/116)
ثَدْيِهَا) ، وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ فَلأَِنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ، وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ تُجَرَّدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.
وَهَذَا قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِلَى الصَّدْرِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالإِْقْرَارِ، فَلَمْ يُحْفَرْ لَهَا.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا ثَبَتَ زِنَاهَا بِالإِْقْرَارِ، لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ وَلاَ لِلرَّجُل، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَكْثَرُ الأَْحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ وَلاَ لِمَاعِزٍ وَلاَ لِلْيَهُودِيَّيْنِ.
وَأَمَّا الرَّجُل فَيُرْجَمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَائِمًا، وَقَال مَالِكٌ: يُرْجَمُ قَاعِدًا (1) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 129، والقوانين الفقهية: ص356، وبداية المجتهد 2 / 429، والمجموع 18 / 275، 283، ومغني المحتاج 4 / 153 - 154، والمغني 8 / 158 وما بعدها.(34/117)
قِيَامُ اللَّيْل
التَّعْرِيفُ:
1 - (الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْجُلُوسِ) .
وَاللَّيْل فِي اللُّغَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: قَضَاءُ اللَّيْل وَلَوْ سَاعَةً بِالصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لأَِكْثَرِ اللَّيْل.
وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْصُل بِصَلاَةِ الْعِشَاءِ جَمَاعَةً وَالْعَزْمِ عَلَى صَلاَةِ الصُّبْحِ جَمَاعَةً، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (2) » .
وَجَاءَ فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ: مَعْنَى الْقِيَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلاً مُعْظَمَ اللَّيْل بِطَاعَةٍ، وَقِيل: سَاعَةً مِنْهُ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوْ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) حديث: " من صلى العشاء في جماعة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 454) من حديث عثمان بن عفان.(34/117)
يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّهَجُّدُ:
2 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ: يُقَال: هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْل، فَهُوَ هَاجِدٌ، وَالْجَمْعُ هُجُودٌ، وَهَجَدَ: صَلَّى بِاللَّيْل، وَيُقَال تَهَجَّدَ: إِذَا نَامَ، وَتَهَجَّدَ إِذَا صَلَّى، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَمِنْهُ قِيل لِصَلاَةِ اللَّيْل: التَّهَجُّدُ (2) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ، هَجَدَ، هُجُودًا إِذَا نَامَ، وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلاَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَأَنَّهُ قِيل لَهُ مُتَهَجِّدٌ لإِِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ (3) .
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمُجَاهِدٌ، قَوْله تَعَالَى: {نَاشِئَةَ اللَّيْل} ، بِالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ مِنَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ (4) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّهَجُّدَ فِي
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص219 ط. المطبعة العثمانية، وابن عابدين 1 / 460 - 461. ط. دار إحياء التراث العربي.
(2) مختار الصحاح، والمصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) تفسير القرطبي 19 / 39.(34/118)
الاِصْطِلاَحِ هُوَ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ، إِنَّمَا التَّهَجُّدُ: الْمَرْءُ يُصَلِّي الصَّلاَةَ بَعْدَ رَقْدَةٍ (1) ، وَقِيل: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى صَلاَةِ اللَّيْل مُطْلَقًا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَهَجُّدٌ ف 4 - 6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ قِيَامِ اللَّيْل وَالتَّهَجُّدِ: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْل أَعَمُّ مِنَ التَّهَجُّدِ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْل، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي فَرْضِيَّتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاصٌ ف 4) .
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ صَلاَةَ اللَّيْل أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ النَّهَارِ، قَال أَحْمَدُ: لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَل مِنْ قِيَامِ اللَّيْل، وَقَدْ صَرَّحَتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 459. ومغني المحتاج 1 / 228.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 211.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 460.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 460، الفواكه الدواني 2 / 360 - 361، والمجموع 4 / 47، وكشاف القناع 1 / 435.(34/118)
الأَْحَادِيثُ بِفَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْل، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِْثْمِ (1) .
الْوَقْتُ الأَْفْضَل لِقِيَامِ اللَّيْل:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ قِيَامَ اللَّيْل لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، سَوَاءٌ سَبَقَهُ نَوْمٌ أَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَفْضَل.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَفْضَل الأَْوْقَاتِ لِقِيَامِ اللَّيْل عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل مُطْلَقًا السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ اللَّيْل، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا (2) .
وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَل اللَّيْل نِصْفَيْنِ:
__________
(1) حديث: " عليكم بقيام الليل. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 308) من حديث أبي أمامة الباهلي، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 16) .(34/119)
أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ، وَالآْخَرَ لِلْقِيَامِ، فَالنِّصْفُ الأَْخِيرُ أَفْضَل، لِقِلَّةِ الْمَعَاصِي فِيهِ غَالِبًا، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الآْخِرِ، يَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مِنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ (1) .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلاَثًا، فَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الأَْوْسَطُ أَفْضَل مِنْ طَرَفَيْهِ؛ لأَِنَّ الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةَ فِيهِ أَثْقَل، وَالْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَل، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْل الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الأَْفْضَل قِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْل الآْخِرِ لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الاِنْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْل، أَمَّا مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لاَ يَنْتَبِهَ آخِرَهُ، فَالأَْفْضَل أَنْ يَجْعَلَهُ أَوَّل اللَّيْل احْتِيَاطًا (3) .
أَمَّا اللَّيْل كُلُّهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِيَامِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا:
__________
(1) حديث: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 29) ومسلم (1 / 521) .
(2) حديث: " ذكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء. . . ". أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6 / 181) وضعف إسناده العراقي كما في فيض القدير للمناوي (3 / 559) .
(3) ابن عابدين 1 / 460، والفواكه الدواني 1 / 234 دار المعرفة، وحاشية الجمل 1 / 495، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 162، والمغني لابن قدامة 2 / 136، ونيل المآرب 1 / 162.(34/119)
لاَ أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلاَ صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلاَ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ (1) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: فَلاَ تَفْعَل، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنْ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (2) .
وَاسْتَثْنَوْا لَيَالِيَ مَخْصُوصَةً لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْل وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ (3) .
عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ قِيَامِ اللَّيْل بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، لِمَا رَوَى
__________
(1) حديث عائشة: " لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 514) .
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: " ألم أخبر أنك تصوم بالنهار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 218) .
(3) حديث عائشة: " كان إذا دخل العشر أحيا الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 269) ومسلم (2 / 832) واللفظ لمسلم.(34/120)
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ (2) ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ حَصْرَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ (4) لِخَبَرِ: الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ (5) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْل (6) : قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً (7) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: مَا كَانَ
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ". أخرجه مسلم (1 / 532) .
(2) ابن عابدين 1 / 460 ط. دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 1 / 390 دار إحياء التراث العربي.
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 ط. دار المعرفة، والمغني لابن قدامة 1 / 138.
(4) نهاية المحتاج للرملي 2 / 134 - 148.
(5) حديث: " الصلاة خير موضوع. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 249) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد المنعم بن بشير وهو ضعيف.
(6) المغني 2 / 138 ط. مطبعة الرياض الحديثة، وانظر نيل المآرب 1 / 163.
(7) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. ". أخرجه مسلم (1 / 531) .(34/120)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا (1) ، وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ (2) .
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَهَجُّدٌ ف 6، وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ ف 11) .
وَهَل يُصَلِّي أَرْبَعًا أَرْبَعًا، أَوْ مَثْنَى مَثْنَى؟
ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، احْتِجَاجًا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (3) . . .؛ وَلأَِنَّ عَمَل الأُْمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ مَثْنَى مَثْنَى، مِنْ لَدُنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَدَل أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَل.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى أَرْبَعًا أَرْبَعًا،
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 33) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 282) .
(2) حديث: " كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وغيره. . . ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 282) .
(3) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 477) ، ومسلم (1 / 516) .(34/121)
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا السَّابِقِ (1) .
وَقَال الْمَوْصِلِيُّ: صَلاَةُ اللَّيْل رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ، أَوْ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ نُقِل فِي تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل (2) .
تَرْكُ قِيَامِ اللَّيْل لِمُعْتَادِهِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ تَهَجُّدٍ اعْتَادَهُ بِلاَ عُذْرٍ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْل فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْل فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل (4) ، فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ الأَْخْذُ مِنَ الْعَمَل بِمَا يُطِيقُهُ، وَلِذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (5) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 294 - 295، وابن عابدين 1 / 460، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 255.
(2) الاختيار 1 / 67.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 460، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 107 ط. دار المعرفة، وحاشية الجمل 1 / 496، والمغني لابن قدامة 2 / 140 - 141 ط. الرياض الحديثة.
(4) حديث: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 37) ، ومسلم (2 / 814) .
(5) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 294) ، ومسلم (1 / 541) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.(34/121)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا (1) .
وَقَالَتْ: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً (2) ، وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا عَمِل عَمَلاً أَثْبَتَهُ (3) .
الاِجْتِمَاعُ لِقِيَامِ اللَّيْل:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا.
وَالأَْفْضَل فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ الْمَنْزِل، لِحَدِيثِ: عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (5) .
وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ مَا يَشْغَل بَالَهُ، وَيُقَلِّل خُشُوعَهُ، فَالأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ لأَِنَّ اعْتِبَارَ الْخُشُوعِ أَرْجَحُ (6) .
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة دوام عليها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 213) من حديث عائشة.
(2) حديث: " كان عمله ديمة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 294) ، ومسلم (1 / 541) .
(3) حديث: " كان إذا عمل عملاً أثبته ". أخرجه مسلم (1 / 515) .
(4) حديث: " عليكم بالصلاة في بيوتكم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 517) ، ومسلم (1 / 540) من حديث زيد بن ثابت.
(5) حديث: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 632 - 633) .
(6) حاشية ابن عابدين 1 / 458 ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية الجمل 1 / 478، والمغني لابن قدامة 2 / 242.(34/122)
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِي التَّطَوُّعِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيل التَّدَاعِي، بِأَنْ يَقْتَدِيَ أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجَمْعُ فِي النَّافِلَةِ غَيْرِ التَّرَاوِيحِ إِنْ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أُرِيدَ الْجَمْعُ فِيهِ مُشْتَهِرًا كَالْمَسْجِدِ، أَوْ لاَ كَالْبَيْتِ، أَوْ قَلَّتِ الْجَمَاعَةُ وَكَانَ الْمَكَانُ مُشْتَهِرًا، وَذَلِكَ لِخَوْفِ الرِّيَاءِ.
فَإِنْ قَلَّتْ وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ فَلاَ كَرَاهَةَ، إِلاَّ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِبِدْعَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، كَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَوَّل جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ عَاشُورَاءَ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا (2) .
قِيَامُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ:
8 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَدْبِ إِحْيَاءِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ. أَيْ بِصَلاَةٍ (4) ، لِحَدِيثِ: لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي (5) .
أَمَّا تَخْصِيصُ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالصَّلاَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 476.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 136، 137.
(3) مراقي الفلاح ص219.
(4) حاشية الجمل 1 / 496، 497.
(5) حديث: " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ". أخرجه مسلم (2 / 801) من حديث أبي هريرة.(34/122)
أَوْ بِغَيْرِهَا، فَلاَ يُكْرَهُ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ الصَّلاَةِ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ اللَّيْل ف 11) .
قِيَامُ لَيَالِي رَمَضَانَ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ هِيَ قِيَامُ رَمَضَانِ، وَلِذَلِكَ فَالأَْفْضَل اسْتِيعَابُ أَكْثَرِ
__________
(1) حاشية الجمل 1 / 497.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص218، وابن عابدين 1 / 460، والمجموع 4 / 45، وشرح المنهاج 2 / 172، الشرح الصغير 1 / 527، وكشف المخدرات ص86.
(3) حديث: " من قام ليلتي العيدين محتسبًا. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 567) من حديث أبي أمامة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 313) .
(4) حديث: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 92) ، ومسلم (1 / 523) من حديث أبي هريرة.(34/123)
اللَّيْل بِهَا؛ لأَِنَّهَا قِيَامُ اللَّيْل (1) .
قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَالاِجْتِمَاعُ لَهُ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى نَدْبِ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِل فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُول: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مِنْ مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ، أَلاَ مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ. . . أَلاَ كَذَا. . . أَلاَ كَذَا. . . حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (إِحْيَاءُ اللَّيْل ف 13) .
قِيَامُ لَيَالِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
12 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ اللَّيَالِيِ الْعَشْرِ الأُْوَّل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (4) ،
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص218، وابن عابدين 1 / 460، والاختيار 1 / 69، وحاشية الدسوقي 1 / 315، وحاشية الجمل 1 / 496، ومغني المحتاج 1 / 227، والمغني لابن قدامة 2 / 166.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص219، ومواهب الجليل 1 / 74، والفروع 1 / 440، وإحياء علوم الدين 3 / 423.
(3) حديث: " إذا كانت ليلة النصف من شعبان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 444) من حديث علي بن أبي طالب، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 247) : هذا إسناد فيه لين ابن أبي سبرة، واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة قال أحمد: وابن معين يضع الحديث.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 460، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 219، والفروع 1 / 398.(34/123)
لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِل صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) .
قِيَامُ أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ:
13 - يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ؛ لأَِنَّهَا مِنَ اللَّيَالِي الْخَمْسِ الَّتِي لاَ يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَهِيَ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَتَا الْعِيدِ (2) .
مَا يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْل:
يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْل مَا يَلِي:
أ - الاِفْتِتَاحُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَائِمِ اللَّيْل أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (3) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ
__________
(1) حديث: " ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد فيها. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 122) ، وأورده الذهبي في الميزان (4 / 100) في ترجمة أحد رواته، وذكر تضعيف ذلك الراوي وكذا ضعف راويًا آخر.
(2) مراقي الفلاح 219، والفروع 1 / 438.
(3) حاشية الجمل 1 / 496، والمغني 2 / 138، ونيل المآرب 1 / 163.(34/124)
خَفِيفَتَيْنِ (1) ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لأََرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. . . الْحَدِيثَ (2) .
ب - مَا يَقُولُهُ الْقَائِمُ لِلتَّهَجُّدِ:
15 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَقُولُهُ قَائِمُ اللَّيْل إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسْتَيْقِظُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ أَعْمَى وَتَحْتَ سَقْفٍ، وَأَنْ يَقْرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ} إِلَى آخِرِ الآْيَاتِ (3) .
وَعَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ (4) ، مِنَ اللَّيْل فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَال:
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل. . . ". تقدم تخريجه ف / 5.
(2) حديث زيد بن خالد " لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مسلم (1 / 531 - 532) .
(3) حاشية الجمل 1 / 496، والمغني لابن قدامة 2 / 137، ونيل المآرب 1 / 162.
(4) النهاية لابن الأثير.(34/124)
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ، قَال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: " وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) ".
ج - كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْل:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَائِمَ اللَّيْل
__________
(1) حديث عباد بن الصامت: " من تعار من الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 39) .
(2) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 3) ، ومسلم (1 / 532 - 533) واللفظ للبخاري.(34/125)
مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارِ بِهَا، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْجَهْرَ أَفْضَل مَا لَمْ يُؤْذِ نَائِمًا وَنَحْوَهُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا، فَالْجَهْرُ أَفْضَل، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يَسْتَضِرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، فَالإِْسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ هَذَا وَلاَ هَذَا فَلْيَفْعَل مَا شَاءَ (1) ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، كَيْفَ كَانَ قِرَاءَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كُل ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَل، رُبَّمَا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا جَهَرَ (2) ، وَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْل يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْجَهْرُ فِي صَلاَةِ اللَّيْل مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَإِلاَّ حَرُمَ، وَالسِّرُّ فِيهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإِْسْرَارِ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 138، والمغني لابن قدامة 2 / 139.
(2) حديث عبد الله بن أبي قيس: " سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 311) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث أبي هريرة: " كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يرفع طورًا ويخفض طورًا ". أخرجه أبو داود (2 / 81) ، والحاكم (م 1 / 310) وصححه ووافقه الذهبي.(34/125)
وَالْجَهْرِ إِنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا (1) .
د - إِيقَاظُ مِنْ يُرْجَى تَهَجُّدُهُ:
17 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَامَ يَتَهَجَّدُ أَنْ يُوقِظَ مَنْ يَطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْل وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (3) .
هـ - إِطَالَةُ الْقِيَامِ وَتَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ طُول الْقِيَامِ أَفْضَل مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلاً وَطَوَّل الْقِيَامَ أَفْضَل مِمَّنْ صَلَّى ثَمَانِيًا وَلَمْ يُطَوِّلْهُ، لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِطُول الْقِيَامِ، وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (4) وَالْقُنُوتُ: الْقِيَامُ.
؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرُ صَلاَتِهِ التَّهَجُّدَ، وَكَانَ يُطِيلُهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُدَاوِمُ إِلاَّ عَلَى الأَْفْضَل.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 313، وحاشية الجمل 1 / 496.
(2) حاشية الجمل 1 / 496.
(3) حديث: " من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 147) ، والحاكم (1 / 316) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " أفضل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520) من حديث جابر بن عبد الله.(34/126)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ: هَذَا إِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَالأَْقْرَبُ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ أَفْضَل، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُعُودِ الَّذِي لاَ مَشَقَّةَ فِيهِ، حَيْثُ زَادَتْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ بِالرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُول الْقِيَامِ أَفْضَل، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ، فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَل (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً (2) ؛ وَلأَِنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَل وَآكَدُ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَل، وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي النَّفْل، وَيُبَاحُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْحَاكِمِ، وَسَيِّدِ الْقَوْمِ وَالاِسْتِكْثَارُ مِمَّا هُوَ آكَدُ وَأَفْضَل أَوْلَى.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِتَعَارُضِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 295.
(2) حديث: " عليك بكثرة السجود. . . ". أخرجه مسلم (1 / 353) من حديث ثوبان.
(3) بدائع الصنائع 1 / 215، وحاشية الدسوقي 1 / 319، وحاشية الجمل 1 / 493، والمغني لابن قدامة 2 / 140 - 141، ونيل المآرب 1 / 163.(34/126)
و - نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ:
19 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَنْوِيَ الشَّخْصُ قِيَامَ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل (2) .
__________
(1) حاشية الجمل 1 / 496، ونيل المآرب 1 / 163.
(2) حديث: " من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم. . . ". أخرجه النسائي (3 / 258) والحاكم (1 / 311) من حديث أبي الدرداء، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(34/127)
قَيْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيْحُ فِي اللُّغَةِ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لاَ يُخَالِطُهَا دَمٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدِيدُ:
2 - الصَّدِيدُ هُوَ مَاءُ الْجُرْحِ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِدَمٍ قَبْل أَنْ تَغْلُظَ الْمِدَّةُ (3) ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدِيدَ يَكُونُ فِي الْجُرْحِ قَبْل الْقَيْحِ.
ب - الدَّمُ:
3 - الدَّمُ - بِالتَّخْفِيفِ - هُوَ ذَلِكَ السَّائِل الأَْحْمَرُ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْحَيَوَانَاتِ وَعَلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب مادة (قيح) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 56، والحطاب 1 / 104، ومغني المحتاج 1 / 79.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب مادة (صدد) .(34/127)
تَقُومُ الْحَيَاةُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الدَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ وَالْهَدْيِ (2) .
وَالدَّمُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل أَصْل الْقَيْحِ.
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقَيْحِ:
(حُكْمُ الْقَيْحِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:)
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَيْحَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْخَبَائِثِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُهُ، وَالتَّحْرِيمُ لاَ لِلاِحْتِرَامِ دَلِيل النَّجَاسَةِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِي الْقَيْحِ إِذِ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ وَهَذَا مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لاِسْتِحَالَتِهِ إِلَى خَبَثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ؛ وَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّمِ وَالدَّمُ نَجِسٌ (3) .
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُنْتَقَضُ
__________
(1) متن اللغة، ولسان العرب، ومختار الصحاح مادة (دمي) .
(2) الاختيار 1 / 30، 43، والقوانين الفقهية ص44، 137، وروضة الطالبين 1 / 134، 174.
(3) بدائع الصنائع 1 / 60، وحاشية الدسوقي 1 / 56 ط. دار الفكر، ومغني المحتاج 1 / 77 - 79 ط. مصطفى الحلبي، والمغني لابن قدامة 1 / 186 ط. الرياض، والإنصاف 1 / 325.(34/128)
الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْقَيْحِ مِنَ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمْ هِيَ مَا خَرَجَتْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالنَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْحِجَامَةِ وَالْقَيْحِ؛ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي (1) . وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْقَيْحِ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: لَوْ تَوَرَّمَ رَأْسُ الْجُرْحِ فَظَهَرَ بِهِ قَيْحٌ وَنَحْوُهُ لاَ يَنْقُضُ مَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْوَرَمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل مَوْضِعِ الْوَرَمِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ إِذَا لَمْ يَسِل كَانَ فِي مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّ الْبَدَنَ مَحَل الدَّمِ وَالرُّطُوبَاتِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجِلْدَةِ وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَال السُّتْرَةِ لاَ زَوَال الدَّمِ عَنْ مَحَلِّهِ وَلاَ حُكْمَ لِلنَّجِسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ وَكَذَا هَاهُنَا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ مَعَ مَا
__________
(1) حديث: " أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين في غزوة ذات الرقاع. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 136) ، والحاكم (1 / 157) من حديث جابر بن عبد الله وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 115، وشرح الزرقاني 1 / 43، والإقناع شرح أبي شجاع 1 / 54. ط. مصطفى الحلبي، والغاية القصوى 1 / 214. ط. دار الإصلاح، ومغني المحتاج 1 / 32.(34/128)
فِي الْبَطْنِ مِنَ الأَْنْجَاسِ (1) .
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ سَال الْقَيْحُ أَوْ لَمْ يَسِل؛ لأَِنَّ ظُهُورَ النَّجِسِ اعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ سَال عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِل كَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، أَمَّا كَوْنُ الْكَثِيرِ يَنْقُضُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَتَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (3) ؛ وَلأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْبَدَنِ أَشْبَهَتِ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيل، وَأَمَّا كَوْنُ الْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ لاَ يَنْقُضُ فَلِمَفْهُومِ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْكَثِيرَ هُوَ مَا فَحُشَ فِي نَفْسِ كُل أَحَدٍ بِحَسْبِهِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " الْفَاحِشُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَنْقُضُ قَل أَوْ كَثُرَ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 25، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 25.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " إنما ذلك عرق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332) من حديث عائشة.
(4) كشاف القناع 1 / 124، والإنصاف 1 / 197، والمغني لابن قدامة 1 / 184.(34/129)
صَلاَةُ مَنْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ قَيْحٌ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنْ أَصَابَ بَدَنَ الإِْنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَيْحِ فَإِنَّهُ لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ طَهَارَةَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَيْحُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ بِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ مِثْل هَذَا؛ وَلأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدِيدٌ ف 17) .
قِيرَاط
انْظُرْ: مَقَادِير(34/129)
قَيْلُولَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيْلُولَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ قَال يَقِيل قَيْلاً وَقَيْلُولَةً، وَقَائِلَةً: نَامَ نِصْفَ النَّهَارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْقَيْلُولَةُ هِيَ النَّوْمُ قَبْل الزَّوَال (2) .
وَقَال الْعَيْنِيُّ: الْقَيْلُولَةُ مَعْنَاهَا النَّوْمُ فِي الظَّهِيرَةِ (3) .
وَقَال الْمُنَاوِيُّ: الْقَيْلُولَةُ: النَّوْمُ وَسْطَ النَّهَارِ عِنْدَ الزَّوَال وَمَا قَارَبَهُ مِنْ قَبْل أَوْ بَعْدُ (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - نَوْمُ الْقَائِلَةِ مُسْتَحَبٌّ (5) .
قَال الْمَوْصِلِيُّ: تُسْتَحَبُّ الْقَيْلُولَةُ (6) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 106.
(3) عمدة القاري 6 / 201.
(4) فيض القدير 1 / 494.
(5) عمدة القاري 6 / 253.
(6) الاختيار 4 / 168.(34/130)
قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لاَ تَقِيل (1) ، وَقَال: اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْل (2) ، يَعْنِي الصَّلاَةَ فِيهِ. وَهُوَ التَّهَجُّدُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ اسْتَقْبَلَتِ السَّهَرَ بِنَشَاطٍ وَقُوَّةِ انْبِسَاطٍ، فَأَفَادَ نَدْبَ التَّسَحُّرِ وَالنَّوْمِ وَسْطَ النَّهَارِ وَبِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ (3) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُسَنُّ لِلْمُتَهَجِّدِ الْقَيْلُولَةُ وَهِيَ النَّوْمُ قَبْل الزَّوَال وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السُّحُورِ لِلصَّائِمِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَوْمٌ) .
الاِسْتِئْذَانُ لِلدُّخُول وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ:
3 - وَقْتُ الْقَائِلَةِ هُوَ مِنَ الأَْوْقَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي عَادَةُ النَّاسِ الاِنْكِشَافَ فِيهَا وَمُلاَزَمَةَ التَّعَرِّي، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَوْقَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ". أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في ذكر أخبار أصبهان (1 / 195) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ". أخرجه ابن ماجه (1 / 540) من حديث ابن عباس، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 302) ، وذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(3) فيض القدير 1 / 494، والآداب للبيهقي ص277.
(4) القناع 1 / 106.(34/130)
الْعِشَاءِ} ، فَمَا قَبْل الْفَجْرِ وَقْتُ انْتِهَاءِ النَّوْمِ وَوَقْتُ وَضْعِ ثِيَابِ النَّوْمِ وَلُبْسِ ثِيَابِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ الْقَائِلَةِ وَقْتُ التَّجَرُّدِ أَيْضًا وَهِيَ الظَّهِيرَةُ، وَبَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَقْتُ التَّعَرِّي لِلنَّوْمِ فَالتَّكَشُّفُ غَالِبٌ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ، يُرْوَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غُلاَمًا مِنَ الأَْنْصَارِ يُقَال لَهُ مُدْلِجٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَهِيرَةً لِيَدْعُوَهُ فَوَجَدَهُ نَائِمًا قَدْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ فَدَقَّ الْغُلاَمُ الْبَابَ فَنَادَاهُ وَدَخَل فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَجَلَسَ فَانْكَشَفَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَال عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا عَنِ الدُّخُول عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الآْيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ، فَخَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى (1) ، فَقَدْ أَدَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ إِذْ لاَ بَال لَهُمْ، وَالأَْطْفَال الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ إِلاَّ أَنَّهُمْ عَقَلُوا مَعَانِيَ الْكَشْفَةِ
__________
(1) سبب نزول آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . أورده القرطبي في تفسيره (12 / 304) ولم يعزه إلى أي مصدر، وأورده البغوي في تفسيره (3 / 335) مختصرًا بدون إسناد.(34/131)
وَنَحْوَهَا يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ وَهِيَ الأَْوْقَاتُ الَّتِي تَقْتَضِي عَادَةُ النَّاسِ الاِنْكِشَافَ فِيهَا وَمُلاَزَمَةَ التَّعَرِّي (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ هَل هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ مُحْكَمَةٌ: يَعْنِي فِي الرِّجَال خَاصَّةً، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا. رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا فَلاَ يَعْمَل بِهَا أَحَدٌ، قَوْل اللَّهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. . .} ، وَقَرَأَهَا. فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلاَ حِجَالٌ (2) ، فَرُبَّمَا دَخَل الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ، وَالرَّجُل عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالاِسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ. فَجَاءَهُمُ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَل بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 304.
(2) الحجال: جمع الحجلة - بالتحريك - وهو بيت كالقبة يستر بالثياب.
(3) أحكام القرآن لابن العربي (3 / 1384) .(34/131)
قِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: الثَّمَنُ الَّذِي يُقَوَّمُ بِهِ الْمَتَاعُ، وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةُ الْقِيَمِ، وَهِيَ ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّمَنُ:
2 - الثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ، وَثَمَّنْتُهُ تَثْمِينًا: جَعَلْتُ لَهُ ثَمَنًا، وَالثَّمَنُ: اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، كُل مَا يَحْصُل عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يَبْذُلُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عِوَضٍ لِلْحُصُول عَلَى الْمَبِيعِ، وَتُطْلَقُ الأَْثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس.
(2) جواهر الإكليل 2 / 21. وحاشية ابن عابدين 4 / 51، 166.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.(34/132)
وَالدَّنَانِيرِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالثَّمَنُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ أَمْ أَزْيَدَ مِنْهَا أَمْ أَنْقَصَ.
ب - السِّعْرُ:
3 - السِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَالْجَمْعُ أَسْعَارٌ، وَقَدْ سَعَّرُوا: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ، وَسَعَّرْتُ الشَّيْءَ تَسْعِيرًا: جَعَلْتُ لَهُ سِعْرًا مَعْلُومًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.
وَيُقَال: لَهُ سِعْرٌ: إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا أَفْرَطَ رُخْصُهُ، وَسِعْرُ السُّوقِ: مَا يَكُونُ شَائِعًا بَيْنَ التُّجَّارِ، وَالتَّسْعِيرُ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ لِلنَّاسِ سِعْرًا مُحَدَّدًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ سِعْرٍ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالسِّعْرُ: مَا يُحَدِّدُهُ الْبَائِعُ ثَمَنًا لِلسِّلْعَةِ أَوْ مَا يُحَدِّدُهُ السُّلْطَانُ.
أَمَّا الْقِيمَةُ فَهِيَ مَا يُسَاوِيهِ الشَّيْءُ فِي تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.
ج - الْمِثْل:
4 - الْمِثْل فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ، يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 134، والبحر الرائق 5 / 277.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 156 - 157، وقواعد الفقه للبركتي ص321، وأسنى المطالب 2 / 38.(34/132)
وَمَثَلُهُ كَمَا يُقَال: شَبِيهُهُ وَشَبَهُهُ (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمِثْلِيَّ عَلَى مَا تَمَاثَلَتْ آحَادُهُ وَأَجْزَاؤُهُ مِنَ الأَْمْوَال بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ دُونَ فَرْقٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: هُوَ مَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي السُّوقِ بِدُونِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ يَشْمَل الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَالْمِثْلِيُّ مِنَ الأَْمْوَال قَسِيمُ الْقِيَمِيِّ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقِيمَةُ يُقَدَّرُ بِهَا الأَْشْيَاءُ الْقِيَمِيَّةُ، أَمَّا الْمِثْل فَيُقَدَّرُ بِهِ الْمِثْلِيَّاتُ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِيمَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
مَا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ:
تَجِبُ الْقِيمَةُ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً - فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ إِذَا وَجَبَ ضَمَانُهَا:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
5 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَاجِبُ الْفَسْخِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ قِيَمِيًّا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة 145 - 146، وبدائع الصنائع 5 / 158 و7 / 150 - 151، ومغني المحتاج 2 / 281.(34/133)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالِبٍ.
وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُول عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُضْمَنُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ (1) .
وَيُفَصِّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ.
فَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ - إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَمِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَهَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَأَصْلُهَا لاِبْنِ يُونُسَ وَعَزَاهَا لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِبْنِ رُشْدٍ وَابْنِ بَشِيرٍ وَاللَّخْمِيِّ وَالْمَازِرِيِّ أَنَّ اللاَّزِمَ مَعَ الْفَوَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا أَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 125، والاختيار 2 / 23، وشرح منتهى الإرادات 2 / 419، والقواعد لابن رجب ص67 - 68، والمغني 4 / 253.(34/133)
مِثْلِيًّا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيِّ، وَأَقْصَى قِيَمِهِ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ، وَقَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل الرَّوْضِ: (يُضْمَنُ الْمَبِيعُ التَّالِفُ بِالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ) ، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ أَيْضًا، وَادَّعَى فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
كَذَلِكَ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الرَّافِعِيَّ أَطْلَقَ وُجُوبَ الْقِيمَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ وَالْمُتَقَوِّمِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنَّ الزَّرْكَشِيَّ قَال: إِنَّهُ ضَعِيفٌ (2) .
هَذَا الَّذِي سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَالْبَاطِل سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل فَإِنَّ الْمَبِيعَ إِذَا تَلِفَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّةَ؛ لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) منح الجليل 2 / 580 - 581، وجواهر الإكليل 2 / 27، وحاشية الدسوقي 3 / 71 - 72.
(2) مغني المحتاج 2 / 40، وأسنى المطالب 2 / 36، والمنثور في القواعد 2 / 339 - 340.(34/134)
الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ مَجَّانًا (1) .
وَقْتُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
6 - إِذَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ فَأَتْلَفَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ كَالْغَصْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ تَلَفِ الْمَبِيعِ قَالُوا:؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِمْسَاكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي كُل لَحْظَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِرَدِّهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَيَخْرُجُ هَاهُنَا (الْبَيْعُ الْفَاسِدُ) ، بَل هُوَ هُنَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَال زِيَادَتِهَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَال تَلَفِهَا.
__________
(1) الاختيار 2 / 23.(34/134)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ (1) .
ب - الْمَغْصُوبُ:
7 - مَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ مَا كَانَ بَاقِيًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ بَدَلُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ وَجَبَ رَدُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالاِعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ بِالْمِثْل، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وَالْمِثْل الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْل صُورَةً وَمَعْنًى، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ.
وَلأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْل أَكْمَل مِنْهُ مِنَ الْقِيمَةِ، فَلاَ يُعْدَل عَنِ الْمِثْل إِلَى الْقِيمَةِ إِلاَّ عِنْدَ التَّعَذُّرِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 125، والاختيار 2 / 23، وحاشية الدسوقي3 / 71 - 72، وجواهر الإكليل 2 / 27، والمجموع 9 / 364 - 365 تحقيق المطيعي، وأسنى المطالب 2 / 36، والمغني 4 / 253، ومنتهى الإرادات 2 / 419.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 557) من حديث سمرة بن جندب يرويه عن الحسن البصري، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 53) : الحسن مختلف في سماعه عن سمرة.(34/135)
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْمِثْل مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لأَِنَّهَا الْمِثْل الْمُمْكِنُ.
وَالأَْصْل فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْل (1) ، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْوِيمِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ؛ لأَِنَّهَا مُتْلَفَةٌ بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمِثْل؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهَا وَتَتَبَايَنُ صِفَاتُهَا، فَالْقِيمَةُ فِيهَا أَعْدَل وَأَقْرَبُ إِلَيْهَا فَكَانَتْ أَوْلَى، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إِتْلاَفِ كُل مَا لاَ مِثْل لَهُ دَلاَلَةً.
وَحُكِيَ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل شَيْءٍ مِثْلُهُ مِثْلِيًّا كَانَ أَوْ مُتَقَوِّمًا (2) ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْل صَفِيَّةَ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكَتْ نَفْسِي أَنْ كَسَرَتْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَقَال: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ (3) .
__________
(1) حديث: " من أعتق شركًا له في عبد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 137) ، ومسلم (2 / 1139) واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع 7 / 150 - 151، والهداية 4 / 11 - 12، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 282 - 283، والمهذب 1 / 374 - 375، والمغني 5 / 238 - 239، ومنتهى الإرادات 2 / 418 - 419.
(3) حديث عائشة: " من رأيت صانعة طعام مثل صفية. . . ". أخرجه النسائي (7 / 71) وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 125) .(34/135)
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وَجَعَل فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَال: كُلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُول وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ (1) .
؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَعِيرًا وَرَدَّ مِثْلَهُ (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غَصْبٌ ف 19، 20، 23) .
وَقْتُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمُتَقَوِّمِ التَّالِفِ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضْمَنُ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ غَاصِبٌ فِي الْحَال الَّتِي زَادَتْ فِيهَا قِيمَتُهُ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فِيهَا:
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ الْقِيمَةِ يَوْمَ
__________
(1) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 124) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرًا ورد مثله ". أخرجه مسلم (3 / 1224) من حديث أبي رافع.(34/136)
تَلَفِ الْمَغْصُوبِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غَصْبٌ ف 24) .
ثَانِيًا - تَعَذُّرُ الْمِثْل:
9 - مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ أَيْضًا الْمَضْمُونُ الْمِثْلِيُّ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمِثْل، وَذَلِكَ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَكَالْمَغْصُوبِ الْمِثْلِيِّ كَذَلِكَ.
وَيُوَضِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَيْفِيَّةَ تَعَذُّرِ الْمِثْل فِي أَنَّهُ إِمَّا لِعَدَمِ وُجُودِهِ، أَوْ لِبُعْدِهِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ الْوُصُول إِلَيْهِ، أَوْ لِوُجُودِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَقْصَى قِيمَةٍ مِنْ وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ أَوْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ تَعَذُّرِ الْمِثْل، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنَّمَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل يَوْمَ إِعْوَازِ الْمِثْل لِوُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْل فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَال مُحَمَّدٌ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الاِنْقِطَاعِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 151، والهداية 4 / 11 - 12، والدسوقي 3 / 443، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 284، والمغني 5 / 279، ومنتهى الإرادات 2 / 419.
(2) المنثور في القواعد 2 / 328، 336، ومغني المحتاج 2 / 282 - 283، وشرح منتهى الإرادات 2 / 419.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 125، 425، 5 / 116، والاختيار 3 / 59.(34/136)
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْل فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِهِ فِي الْغَصْبِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا تَلِفَ وَكَانَ مِثْلِيًّا فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ.
ب - إِذَا بِيعَ جُزَافًا وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ.
ج - إِذَا بِيعَ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ وَلَكِنْ نُسِيَ ذَلِكَ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
د - إِذَا عُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ عَدَدُهُ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ وُجُودُهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
فَفِي هَذِهِ الأَْحْوَال يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
أَمَّا الْمَغْصُوبُ الْمِثْلِيُّ إِذَا تَلِفَ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَصْبِرُ لِوَقْتِ الْوُجُودِ لِيَأْخُذَ الْمِثْل (1) .
ثَالِثًا - الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْمَفْسُوخِ لِلاِخْتِلاَفِ فِي الثَّمَنِ:
10 - إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَقَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بِكَذَا، وَقَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا وَلاَ بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَحَالَفَا وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ إِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا.
فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَقَدِ اخْتَلَفَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 71 - 82، وجواهر الإكليل 2 / 148 - 149.(34/137)
الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل النَّوَوِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ فِي الْحَاوِي، وَهُوَ مَا مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فِي التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ بِالْقِيمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلِيًّا أَمْ قِيَمِيًّا.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا (1) .
مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ وَالْمِثْل مَعًا:
11 - مِنَ الْمَضْمُونَاتِ مَا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَالْمِثْل مَعًا، وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ قَتَلَهُ الْحَلاَل فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ وَبِالْمِثْل الصُّورِيِّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا اسْتَعَارَ صَيْدًا مَمْلُوكًا مِنْ حَلاَلٍ وَتَلِفَ عِنْدَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ مِنَ النَّعَمِ
__________
(1) منح الجليل 2 / 743، ومغني المحتاج 2 / 97، والمهذب 1 / 301، وشرح منتهى الإرادات 2 / 185.(34/137)
كَالْعَصَافِيرِ الْمَمْلُوكَةِ وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالأُْخْرَى تَجِبُ لِمَالِكِهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 203، والمنثور 2 / 333 - 334، وشرح منتهى الإرادات 2 / 41، 43، وجواهر الإكليل 1 / 199 - 200.(34/138)
قِيَمِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَمِيَّاتُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ قِيَمِيٌّ، يُقَال: شَيْءٌ قِيَمِيٌّ نِسْبَةً إِلَى الْقِيمَةِ عَلَى لَفْظِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ وَصْفَ لَهُ يَنْضَبِطُ بِهِ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَيْهِ.
وَالْقِيمَةُ: ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ (1) .
وَالْقِيَمِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي السُّوقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ كَالْمِثْلِيِّ الْمَخْلُوطِ بِغَيْرِهِ، وَكَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ الَّتِي يَكُونُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَآحَادِهَا تَفَاوُتٌ فِي الْقِيمَةِ كَالأَْنْعَامِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمِثْلِيَّاتُ:
2 - الْمِثْلِيَّاتُ جَمْعُ مِثْلِيٍّ، وَالْمِثْل فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ وَمَثَلُهُ، كَمَا يُقَال شَبِيهُهُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 105 وما بعدها المادة (146، 148) وحاشية ابن عابدين 5 / 116 - 118، وحاشية الدسوقي 3 / 215، ونهاية المحتاج 5 / 159، ومنتهى الإرادات 2 / 419، والمغني 5 / 239 - 240.(34/138)
وَشَبَهُهُ (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمِثْلِيَّ عَلَى مَا تَمَاثَلَتْ آحَادُهُ وَأَجْزَاؤُهُ مِنَ الأَْمْوَال بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ دُونَ فَرْقٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَفِي الْمَجَلَّةِ: الْمِثْلِيُّ مَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي السُّوقِ بِدُونِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْمِثْلِيُّ قَسِيمُ الْقِيَمِيِّ مِنَ الأَْمْوَال.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - مِنَ الْعُقُودِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا مِنَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - الْبَيْعُ:
3 - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الأَْمْوَال مَمْلُوكَةً لِلْعَاقِدِ طَاهِرَةً مُنْتَفَعًا بِهَا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهَا مَعْلُومَةً لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (قوم) و (مثل) .
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة (145) ، وابن عابدين 4 / 171، وبدائع الصنائع 7 / 150 - 151، وأشباه السيوطي / 389، ومغني المحتاج 2 / 281.(34/139)
ب - الإِْجَارَةُ:
4 - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الإِْجَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، وَحَيَوَانٍ لِلرُّكُوبِ أَوْ لِنَقْل مَتَاعٍ، مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً وَمَقْدُورًا عَلَى اسْتِيفَائِهَا. . .
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ ف 29 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا - مِنَ الْعُقُودِ مَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ فِيهَا:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - السَّلَمُ:
5 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لأَِنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وَصِفَةً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا بَعْضَهَا اسْتِحْسَانًا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالْحُصْرِ وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ(34/139)
لاَ يَجُوزَ السَّلَمُ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ، وَلِهَذَا لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْل فِي ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَل بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي اللآَّلِئِ وَالْجَوَاهِرِ إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} ، وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ لاَ يُقَال فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ فِي الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابَلَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا بُيِّنَ جِنْسُهُ وَصِفَتُهُ وَنَوْعُهُ وَطُولُهُ وَعَرْضُهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيُلْحَقُ بِالْمِثْل فِي بَابِ السَّلَمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ (1) .
(ر: سَلَمٌ ف 21)
6 - وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَمَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل الْقِيَمِيَّاتِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالصِّفَاتِ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ الْكَبِيرَةِ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يُمْكِنُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208 - 209.(34/140)
ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا فِي اللُّؤْلُؤِ: يُمْكِنُ حَصْرُ صِفَتِهِ بِذِكْرِ جِنْسِهِ وَعَدَدِهِ وَوَزْنِ كُل حَبَّةٍ وَبَيَانِ صِفَتِهَا وَهَكَذَا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ وَالأَْصْوَافِ وَالأَْخْشَابِ وَالأَْحْجَارِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ عِنْدَهُمْ ضَبْطُهُ بِالْوَصْفِ كَمَا أَجَازُوا السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ، قَالُوا:؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا بِحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ. إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (2) فَقِيسَ السَّلَمُ عَلَى الْقَرْضِ، وَلَمْ يُجِيزُوا السَّلَمَ فِي الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَلاَ فِي الْجُلُودِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْوَصْفِ (3) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي السَّلَمِ فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْجُوزَجَانِيِّ؛ لِمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 72 - 73، حاشية الدسوقي 3 / 215.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1224) .
(3) المهذب 1 / 304، ومغني المحتاج 2 / 107 - 110.(34/140)
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنَ الرِّبَا أَبْوَابًا لاَ تَخْفَى وَإِنَّ مِنْهَا السَّلَمَ فِي السِّنِّ؛ وَلأَِنَّ الْحَيَوَانَ يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا مُتَبَايِنًا فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ؛ وَلأَِنَّ أَبَا رَافِعٍ قَال: اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا؛ وَلأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا فَثَبَتَ فِي السَّلَمِ كَالثِّيَابِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ وَلاَ يُذْرَعُ فَنَقَل إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَرَى السَّلَمَ إِلاَّ فِيمَا يُكَال أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُوقَفُ عَلَيْهِ، قَال أَبُو الْخَطَّابِ: مَعْنَاهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِحَدٍّ مَعْلُومٍ لاَ يَخْتَلِفُ كَالذَّرْعِ، فَأَمَّا الرُّمَّانُ وَالْبَيْضُ فَلاَ أَرَى السَّلَمَ فِيهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَل وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ وَمِنْهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُل مَعْدُودٍ مُخْتَلِفٍ كَالْبُقُول؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ وَلاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبَقْل بِالْحُزَمِ؛ لأَِنَّ(34/141)
الْحُزَمَ يُمْكِنُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ كَالْجَوَاهِرِ، وَنَقَل إِسْمَاعِيل بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْفَوَاكِهِ وَالسَّفَرْجَل وَالرُّمَّانِ وَالْمَوْزِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَارَبُ وَيَنْضَبِطُ بِالصِّغَرِ وَالْكُبْرِ، وَمَا لاَ يَتَقَارَبُ يَنْضَبِطُ بِالْوَزْنِ (1) .
ب - الْقَرْضُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَرْضِ الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَصِحُّ قَرْضُ الْقِيَمِيَّاتِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَكُل شَيْءٍ مُتَفَاوِتٍ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى صَحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْل فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ، قَال فِي الْبَحْرِ: وَلاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَيَمْلِكُهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِالْقَبْضِ الصَّحِيحِ، وَالْمَقْبُوضُ بِقَرْضٍ فَاسِدٍ يَتَعَيَّنُ لِرَدٍّ، وَفِي الْقَرْضِ الْجَائِزِ لاَ يَتَعَيَّنُ بَل يُرَدُّ الْمِثْل وَإِنْ كَانَ قَائِمًا.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ يُعْتَبَرُ عَارِيَّةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 307 - 309.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 171 - 172.(34/141)
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي لاَ تَنْضَبِطُ أَوْ يَنْدُرُ وُجُودُهَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهَا؛ لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ رَدُّ الْمِثْل، وَرَدُّ الْمِثْل هُوَ الْوَاجِبُ فِي الأَْظْهَرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْقِيَمِيَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ مِثْل الْمُتَقَوِّمِ صُورَةً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رَبَاعِيًا (1) ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ لاَفْتَقَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا (2) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَرْضُ كُل شَيْءٍ وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْعَيْنِ وَالْحَيَوَانِ (3) .
ج - الشَّرِكَةُ:
8 - لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ مِنَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْخَلْطِ فِي الْمُتَقَوَّمَاتِ؛ لأَِنَّهَا أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ، حِينَئِذٍ تَتَعَذَّرُ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّ بَعْضَهَا قَدْ يَتْلَفُ فَيَذْهَبُ عَلَى صَاحِبِهِ وَحْدَهُ؛ وَلأَِنَّهَا تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ فَسْخِهَا بِرَأْسِ الْمَال أَوْ مِثْلِهِ، وَلاَ مِثْل لَهَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرًا. . . ". سبق تخريجه ف6.
(2) مغني المحتاج 2 / 119، والمغني 4 / 350، وكشاف القناع 3 / 314 - 315.
(3) الكافي لابن عبد البر 2 / 728.(34/142)
وَقِيمَتُهَا لاَ يَجُوزُ عَقْدُهَا عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْل بَيْعِهِ فَيُشَارِكُهُ الآْخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَثَمَنُهَا مَعْدُومٌ حَال الْعَقْدِ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُمَا (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُتَقَوِّمِ كَالْعُرُوضِ وَالأَْعْيَانِ، وَكُلٌّ بِالْقِيمَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةٌ ف 44) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 59، وجواهر الإكليل 2 / 116، ونهاية المحتاج 5 / 6، ومنتهى الإرادات 2 / 320.(34/142)
قَيِّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ قَامَ بِالأَْمْرِ قِيَامًا وَقَوْمًا: اهْتَمَّ بِهِ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، وَالْقَوَّامُ اسْمٌ لِمَنْ يَكُونُ مُبَالِغًا فِي الْقِيَامِ بِالأَْمْرِ، وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَعَهَّدُ شُئُونَهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ لِتَنْفِيذِ وَصَايَا مَنْ لَمْ يُوصِ مُعَيَّنًا لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِينَ مِنْ أَوْلاَدِهِ مِنْ أَطْفَالٍ، وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَحِفْظِ أَمْوَال الْمَفْقُودِينَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَكِيلٌ (2) .
وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ: مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبَ الْقَاضِي (3)
__________
(1) لسان العرب.
(2) المحلي مع القليوبي 3 / 177.
(3) الخرشي 5 / 297، والدسوقي 3 / 299.(34/143)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَصِيُّ:
2 - الْوَصِيُّ هُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْهِ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ أَوِ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ مَوْتِ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ فِيمَا كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ شُئُونِهِ: كَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْوَدَائِعِ، وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَالْوِلاَيَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَطْفَالٍ وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِهِمْ، بِحِفْظِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ (1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْوَصِيَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَيِّمِ.
ب - الْوَكِيل:
3 - الْوَكِيل هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ (2) ، وَالْوَكِيل يُنَصِّبُهُ الشَّخْصُ فِي حَال حَيَاتِهِ، وَالْقَيِّمُ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي. الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَيِّمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْقَيِّمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
تَرْتِيبُهُ فِي وِلاَيَةِ الْمَحْجُورِينَ:
4 - وِلاَيَةُ الْقَيِّمِ، بَعْدَ وِلاَيَةِ الأَْبِ، وَالْجَدِّ، وَوَصِيِّهِمَا وَوَصِيِّ وَصِيِّهِمَا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْوَلِيُّ مِنَ الإِْيصَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 461، ومغني المحتاج 3 / 74، والمحلي 3 / 177، والمغني 6 / 134 - 135.
(2) مغني المحتاج 2 / 217، والدسوقي 3 / 296.(34/143)
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي الإِْيصَاءِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ: يَسْتَفِيدُهَا مِنَ الْقَاضِي، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَؤُلاَءِ (1) ، لِخَبَرِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (2) ؛ وَلأَِنَّ الأُْبُوَّةَ دَاعِيَةٌ إِلَى كَمَال النَّظَرِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الأَْبِ، وَوَصِيُّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ؛ لأَِنَّهُ اخْتَارَهُ وَرَضِيَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إِلاَّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ مِثْل شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكَذَا الْجَدُّ، وَوَصِيُّهُ؛ وَلأَِنَّ شَفَقَةَ الأَْبِ وَالْجَدِّ تَنْشَأُ عَنِ الْقَرَابَةِ، وَوَصِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، بِخِلاَفِ الْقَاضِي وَوَصِيِّهِ، فَإِنَّهَا تَنْشَأُ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَالتَّقْوَى فَتَأَخَّرَتْ وِلاَيَتُهُ عَنْ وِلاَيَتِهِمَا، وَوَصِيُّهُ نَائِبٌ عَنْهُ (3) .
تَصَرُّفَاتُ الْقَيِّمِ:
5 - الْقَيِّمُ كَوَصِيِّ الْمَيِّتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ (4) إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي مُعْظَمِهَا.
الأُْولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلاَ أَنْ يَبِيعَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، بِخِلاَفِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 155، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 474 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 173، 3 / 76، والمحلي 3 / 304، والروض المربع 2 / 249.
(2) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 399) من حديث أبي موسى وقال: حديث حسن.
(3) بدائع الصنائع 5 / 152، والدسوقي 3 / 299، والمغني 6 / 141، والمحلي 3 / 179.
(4) القليوبي 2 / 304.(34/144)
وَصِيِّ الأَْصْل فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ لِلْمَحْجُورِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مُطْلَقًا مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَإِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ تَعَقَّبَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَمْضَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلاَ بَيْعُ مَال نَفْسِهِ لَهُ، وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ كَالْوَصِيِّ، وَالْمَجْنُونُ وَالسَّفِيهُ كَالطِّفْل أَمَّا الأَْبُ وَالْجَدُّ فَلَهُمَا ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَمَجْنُونٍ مِنْ مَال مُوَلِّيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَمَّا الأَْبُ فَلَهُ ذَلِكَ (3) .
الثَّانِيَةُ: إِذَا خَصَّصَ الْقَاضِي وِلاَيَةَ الْقَيِّمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ تَخَصَّصَ بِهِ فَلاَ يُجَاوِزُهُ، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل.
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مُطْلَقًا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ يَكُونُ وَصِيًّا فِي غَيْرِ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي؛ لأَِنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِإِذْنِ الْمُوصِي
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 476 ط. الحلبي.
(2) أسنى المطالب 2 / 212.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 408، 409.(34/144)
فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ (1) .
الثَّالِثَةُ: جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ لاَ يَجُوزُ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَجِّرَ الصَّغِيرَ لِعَمَلٍ مَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى تَسْلِيمُهُ فِي حِرْفَةٍ. وَفِي أَدَبِ الأَْوْصِيَاءِ: لِلْوَصِيِّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَ الْيَتِيمِ وَعَقَارَاتِهِ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِ وَلَوْ بِيَسِيرِ الْغَبْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ وَلِلْحَاكِمِ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ أَنْ يَبِيعَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ لِبَيْعِهِ مِنْ مَال الْيَتِيمِ وَالتَّسَوُّقُ بِالْمَبِيعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْبِرُ الْقَاضِي الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَلَى الاِكْتِسَابِ إِنْ كَانَ لَهُمَا كَسْبٌ لِيَرْتَفِقَا بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا (2) .
الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْل وَصِيِّ الأَْصْل إِنْ ضَعُفَ عَنِ الْكِفَايَةِ، بَل يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، فَمَنْصُوبُ الأَْصْل يُحْتَفَظُ بِهِ مَا أَمْكَنَ وَلاَ يُعْزَل عَنِ التَّصَرُّفِ، وَلَهُ عَزْل الْقَيِّمِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلاَّهُ (3) .
الْخَامِسَةُ: لاَ يَمْلِكُ الْقَيِّمُ الْقَبْضَ إِلاَّ بِإِذْنٍ مُبْتَدَأٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ الإِْيصَاءِ، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل (4) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 473 ط. الحلبي، والقليوبي 3 / 179، والمغني 6 / 134 - 135.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 461، وحاشية الدسوقي 3 / 300، وأسنى المطالب 2 / 214.
(3) روضة الطالب 3 / 67، والمغني 6 / 141، وابن عابدين 5 / 462، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 294.
(4) الأشباه لابن نجيم ص 294.(34/145)
السَّادِسَةُ: لِلْقَاضِي نَهْيُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَيْسَ لَهُ نَهْيُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَسْتَوِيَانِ فِي امْتِنَاعِ مَا مَنَعَ مِنْهُمَا (1) .
(ر: وَصِيٌّ) .
السَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَيِّمِ نَصْبُ وَصِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ وَإِذَا فَعَل لاَ يَصِيرُ الثَّانِي وَصِيًّا، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ يَكُونُ وَصِيُّ وَصِيِّ الأَْصْل وَصِيًّا إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الأَْصْل فِي حَيَاتِهِ لِوَصِيِّهِ بِذَلِكَ (2) .
(ر: وَصِيٌّ) .
كَاتِب
انْظُرْ: تَوْثِيق
__________
(1) المغني 6 / 135 - 136، والقليوبي 3 / 179، ومنح الجليل 3 / 177.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 46، والأشباه لابن نجيم ص292، والمراجع السابقة.(34/145)
كَافِر
انْظُرْ: كُفْر
كَافِل
انْظُرْ: قَيِّم، وِلاَيَة
كَافُور
انْظُرْ: تَطَيُّب، تَكْفِين(34/146)
كَالِئٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَالِئُ فِي اللُّغَةِ: النَّسِيئَةُ وَالسَّلَفُ، يُقَال: كَلأََ الدَّيْنَ يَكْلأَُ: تَأَخَّرَ فَهُوَ كَالِئٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1) ، قَال أَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي النَّسِيئَةَ بِالنَّسِيئَةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الدَّيْنُ.
وَيَذْكُرُونَ لَفْظَ الْكَالِئِ فِي الْكَلاَمِ عَلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ مُسْتَدِلِّينَ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي مِنَحِ الْجَلِيل أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى ذِكْرِ الْبُيُوعِ الْمَمْنُوعَةِ قَال: وَكَالِئٌ بِمِثْلِهِ ثُمَّ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (3) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الكالئ. . . ". أخرجه البيهقي (5 / 290) ط. دار المعارف العثمانية وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (ص193) ط. عبد المجيد حنفي.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) منح الجليل 2 / 562، وانظر منتهى الإرادات 2 / 200، والفروق 3 / 290، وإعلام الموقعين 2 / 8، والمهذب 1 / 278، ومغني المحتاج 2 / 71، ومنحة الخالق على البحر الرائق 5 / 281، والحديث سبق تخريجه.(34/146)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَيْنُ:
2 - تُطْلَقُ الْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ، وَمِنْهَا الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ.
وَتُطْلَقُ الْعَيْنُ أَيْضًا عَلَى مَا ضُرِبَ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَقَدْ يُقَال لِغَيْرِ الْمَضْرُوبِ: عَيْنٌ أَيْضًا، قَال فِي التَّهْذِيبِ وَالْعَيْنُ: النَّقْدُ، يُقَال: اشْتَرَيْتُ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ كَلِمَةَ الْعَيْنِ فِي مُقَابِل الدَّيْنِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا الْعَيْنُ فَهِيَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ.
قَال النَّوَوِيُّ: الْمَال الْمُسْتَحَقُّ عِنْدَ غَيْرِهِ قِسْمَانِ: دَيْنٌ، وَعَيْنٌ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ: أَنَّ الْعَيْنَ مُقَابِل الدَّيْنِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - مِنَ الْبُيُوعِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيْ: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المجموع للنووي 9 / 254 تحقيق المطيعي، والمادة (158، 159) من المجلة، والفروق 3 / 289.(34/147)
بِالْكَالِئِ (1) ، قَال ابْنُ عَرَفَةَ: تَلَقِّي الأَْئِمَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْقَبُول يُغْنِي عَنْ طَلَبِ الإِْسْنَادِ فِيهِ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ (2) .
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ هِيَ - كَمَا يَقُول الْقَرَافِيُّ -: أَنَّهُ إِذَا اشْتَمَلَتِ الْمُعَامَلَةُ عَلَى شَغْل الذِّمَّتَيْنِ تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَمَنَعَ الشَّرْعُ مَا يُفْضِي لِذَلِكَ وَهِيَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (3) .
أَمَّا بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْعَيْنِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 53 - 57 وَدَيْنٌ ف 58 - 62) .
كَاهِن
انْظُرْ: كَهَانَة
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الكالئ. . . ". تقدم تخريجه ف1.
(2) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 4 / 367، ومنحة الخالق على البحر الرائق 5 / 281، والمجموع شرح المهذب 10 / 92. تحقيق المطيعي، والمغني 4 / 53 - 54.
(3) الفروق للقرافي 3 / 290.(34/147)
كَبَائِر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَبَائِرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ، وَهِيَ لُغَةً: الإِْثْمُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ: كُل ذَنْبٍ عَظَّمَ الشَّرْعُ التَّوَعُّدَ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ وَشَدَّدَهُ، أَوْ عَظُمَ ضَرَرُهُ فِي الْوُجُودِ (2) .
وَلَهَا تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى.
وَهُنَاكَ مَنْ عَرَّفَ الْكَبَائِرَ بِالْعَدِّ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرَةِ، هَل تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أَوْ بِالْعَدِّ، عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبِالأَْوَّل قَال الْجُمْهُورُ (3) .
وَقَدْ جَاءَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَلاَمِ الْفُقَهَاءِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْكَبِيرَةِ أَيْضًا بِالْمُوبِقَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ (4) . . .، وَبِالْفَاحِشَةِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
__________
(1) المصباح المنير للفيومي مادة (كبر) .
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4 / 5، وتفسير القرطبي 5 / 161 و17 / 106.
(3) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 4 / 276.
(4) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ومسلم (1 / 92) من حديث أبي هريرة.(34/148)
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} خِلاَفًا لِلْحَلِيمِيِّ، فَإِنَّهُ قَسَّمَ الذُّنُوبَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ هِيَ الصَّغَائِرُ، وَالْكَبَائِرُ، وَالْفَوَاحِشُ، وَمَثَّل لِذَلِكَ بِقَتْل النَّفْسِ هُوَ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ قَتَل ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ فَاحِشَةٌ، وَهَكَذَا تَنْقَسِمُ سَائِرُ الذُّنُوبِ عِنْدَهُ بِحَسَبِ مَا يُلاَبِسُ الذَّنْبَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَعْصِيَةُ:
2 - الْمَعْصِيَةُ، أَوِ الْعِصْيَانُ لُغَةً: خِلاَفُ الطَّاعَةِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، بِتَرْكِ مَا أَمَرَ بِهِ، أَوْ فِعْل مَا نَهَى عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (3) .
ب - اللَّمَمُ:
3 - مِنْ مَعَانِي (اللَّمَمِ) فِي اللُّغَةِ: صِغَارُ الذُّنُوبِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّمَمَ قَسِيمُ الْكَبَائِرِ
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 4 / 276.
(2) القاموس، والنهاية.
(3) الفروق للقرافي 4 / 66.
(4) الصحاح والنهاية وتفسير القرطبي 17 / 106 - 107، والمغني 10 / 235.(34/148)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْكَبَائِرِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ (1) . . . .
مَنَاطُ تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.
وَضَابِطُ الْكَبِيرَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَقْسِيمِ الْمَعَاصِي إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي مَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ الأَْتْقِيَاءِ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (2) . . .، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ.
وَقَدْ قَال الْغَزَالِيُّ: إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . ". سبق تخريجه ف1.
(2) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ومسلم (1 / 91) من حديث أبي بكرة.(34/149)
الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لاَ يَلِيقُ بِالْفَقِيهِ (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ، كَأَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ (الْبَاقِلاَّنِيِّ) ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيِّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي نَصْرٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى الأَْشْعَرِيَّةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عُصِيَ سُبْحَانَهُ، فَكُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلاَلِهِ كَبَائِرُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَعْظَمَ وَقْعًا مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغَائِرُ بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَالْقُبْلَةِ الْمُحَرَّمَةِ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا، لاَ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ فِي نَفْسِهَا (2) ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُل مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَبِيرَةٌ (3) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ فِي الْمَعَاصِي لَيْسَ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَصَى، بَل مِنْ جِهَةِ الْمَفْسَدَةِ الْكَائِنَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْل، فَالْكَبِيرَةُ مَا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهَا، وَالصَّغِيرَةُ مَا قَلَّتْ مَفْسَدَتُهَا (4) .
أَمَّا ضَابِطُ الْكَبِيرَةِ، فَقَدْ قَال
__________
(1) فتح الباري 10 / 423، والزواجر 1 / 5.
(2) تفسير القرطبي 5 / 159، والفروق للقرافي 4 / 66، والزواجر 1 / 5، وفتح الباري 10 / 424.
(3) أثر ابن عباس: " كل ما نهى الله عنه كبيرة ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (5 / 40) .
(4) الفروق للقرافي 4 / 66.(34/149)
الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لَمْ أَقِفْ لأَِحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطٍ لِلْكَبِيرَةِ لاَ يَسْلَمُ مِنَ الاِعْتِرَاضِ، وَالأَْوْلَى ضَبْطُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إِشْعَارًا دُونَ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: (وَهُوَ ضَابِطٌ جَيِّدٌ (1)) .
وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَسْلَكًا مُشَابِهًا، لَكِنَّهُ عَوَّل عَلَى الْمَفْسَدَةِ، لاَ عَلَى التَّهَاوُنِ، فَكُل مَعْصِيَةٍ سَاوَتْ مَفْسَدَتُهَا أَدْنَى مَفْسَدَةِ كَبِيرَةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ، وَمَثَّل لِذَلِكَ بِدَلاَلَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هِيَ أَشَدُّ فَسَادًا مِنَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ (2) . وَمِنَ الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ لِلْكَبِيرَةِ:
قَوْل الزَّيْلَعِيِّ: مَا كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ.
وَقَوْل خُوَاهَرْ زَادَهْ: مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا سَوَاءٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ فَاحِشَةً أَمْ لَمْ يُسَمَّ وَلَكِنْ شُرِّعَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ بِنَصٍّ قَاطِعٍ إِمَّا فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ أَوِ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ فِي الآْخِرَةِ.
وَقَوْل الْمَاوَرْدِيِّ: مَا أَوْجَبَتِ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ بِسَبَبِهَا إِلَى الْفَاعِل وَعِيدٌ.
وَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّهَا: كُل ذَنْبٍ أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ حَدًّا فِي
__________
(1) فتح الباري 10 / 424، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1 / 8.
(2) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 2 / 294.(34/150)
الدُّنْيَا أَوْ خَتَمَهُ بِنَارٍ فِي الآْخِرَةِ (1) .
وَمِنَ الضَّوَابِطِ قَوْل ابْنِ الصَّلاَحِ: لِلْكَبَائِرِ أَمَارَاتٌ، مِنْهَا: إِيجَابُ الْحَدِّ، وَمِنْهَا: الإِْيعَادُ عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا: وَصْفُ صَاحِبِهَا بِالْفِسْقِ، وَمِنْهَا: اللَّعْنُ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: قَصَدُوا التَّقْرِيبَ وَلَيْسَتْ بِحُدُودٍ جَامِعَةٍ (3) .
وَنَفَى الْوَاحِدِيُّ وُجُودَ ضَابِطٍ لِلْكَبِيرَةِ وَأَنَّهُ بِقَصْدِ الشَّارِعِ فَقَال: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عَنِ الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إِشَارَةٍ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَتِ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً، وَلَكِنْ أُخْفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ، لِيَجْتَهِدَ كُل وَاحِدٍ فِي اجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، وَنَظِيرُهُ إِخْفَاءُ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ بَعْدَمَا أَوْرَدَ بَعْضَ الْحُدُودِ: (مُقْتَضَى كَلاَمِ الإِْمَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُدُودَ السَّابِقَةَ هِيَ لِمَا عَدَا الْكُفْرَ، وَإِنْ صَحَّ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 222، وفتح القدير لابن الهمام 6 / 38، وجواهر العقود للمنهاجي 2 / 436.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 612، وفتح الباري 10 / 150، والفروع لابن مفلح 6 / 564، والزاوجر للهيتمي 1 / 5 - 8.
(3) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 8 / 278، والزواجر 1 / 7.
(4) البحر المحيط 4 / 276.(34/150)
أَنْ يُسَمَّى كَبِيرَةً بَل هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ (1)) .
تَعْدَادُ الْكَبَائِرِ:
6 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَصْرِ الْكَبَائِرِ بِعَدَدٍ أَوْ عَدَمِ حَصْرِهَا.
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْهَا بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَصْرَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي الاِقْتِصَارِ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، كَسَبْعٍ مَثَلاً بِأَجْوِبَةٍ عَدِيدَةٍ، مِنْهَا:
أ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْلِمَ بِالْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَاتِ أَوَّلاً، ثُمَّ أُعْلِمَ بِمَا زَادَ، فَيَجِبُ الأَْخْذُ بِالزَّائِدِ.
ب - أَنَّ الاِقْتِصَارَ وَقَعَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، بِالنِّسْبَةِ لِلسَّائِل أَوْ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حَصْرِهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ هُوَ:
أ - ثَلاَثٌ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
ب - أَرْبَعٌ: رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: الْكَبَائِرُ أَرْبَعٌ: الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالأَْمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ، دَل عَلَيْهَا
__________
(1) الزواجر / 6.
(2) تفسير ابن كثير 1 / 481 - 486، وفتح الباري 10 / 149، وتفسير القرطبي 5 / 160، والبحر المحيط للزركشي 4 / 276.
(3) الزواجر 1 / 9.(34/151)
الْقُرْآنُ (1) ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْكَبَائِرُ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْل النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ (2) ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَكَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ، أَوْ سُئِل عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْل النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، فَقَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَال: قَوْل الزُّورِ، أَوْ شَهَادَةُ الزُّورِ (3) .
وَأَشَارَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ إِلَى ضَبْطِ بَعْضِهِمُ الْكَبَائِرَ بِأَنَّهَا كُل فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ (أَيْ بِصَرِيحِ التَّحْرِيمِ) وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَمَال الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ (4) .
ج - سَبْعٌ: وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ،
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 160.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " الكبائر: الإشراك بالله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 16 / 555) .
(3) حديث أنس: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ومسلم (1 / 92) .
(4) الزواجر 1 / 7.(34/151)
وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ سَبْعٌ: عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَطَاءٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ (2) .
د - ثَمَانٍ: وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ (عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ) عَلَى السَّبْعِ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ.
وَقَدْ وَفَّقَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بَيْنَ عَدِّ الْكَبَائِرِ سَبْعًا، وَعَدِّهَا ثَمَانِيًا، بِاعْتِبَارِ أَكْل الرِّبَا وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ كَبِيرَةً وَاحِدَةً، بِجَامِعِ الظُّلْمِ (3) .
هـ - تِسْعٌ: أَشَارَ إِلَى هَذَا الزَّرْكَشِيُّ (4) لِحَدِيثِ: الْكَبَائِرُ تِسْعٌ، وَزَادَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ: الإِْلْحَادُ فِي الْحَرَمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (5) .
و عَشْرٌ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ز - أَرْبَعَ عَشْرَةَ: أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ.
ح - خَمْسَ عَشْرَةَ: أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ (6) .
ط - سَبْعَ عَشْرَةَ: نَقَل الْقَوْل بِذَلِكَ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ومسلم (1 / 92) .
(2) الزواجر 1 / 7.
(3) فتح الباري 10 / 149.
(4) البحر المحيط للزركشي 4 / 276 - 277، والكبائر للذهبي ص2.
(5) حديث: " الكبائر تسع. . . ". أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص13) من حديث ابن عمر موقوفًا عليه.
(6) الزواجر 1 / 9.(34/152)
الشَّيْخُ عُلَيْشٌ (1) .
ي - سَبْعُونَ: قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَنْهَاهَا الذَّهَبِيُّ إِلَى سَبْعِينَ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ فِي الْكَبَائِرِ.
ك - أَرْبَعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَسِتُّونَ: أَنْهَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الْكَبَائِرَ إِلَى هَذَا الْعَدَدِ، مِنْهَا سِتٌّ وَسِتُّونَ كَبَائِرُ بَاطِنَةٌ مِمَّا لَيْسَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِخُصُوصِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، أَيْ تَتَعَلَّقُ بِأَعْمَال الْقُلُوبِ، وَالْبَاقِي كَبَائِرُ ظَاهِرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ (2) .
ل - سَبْعُمِائَةٍ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قِيل لَهُ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ، فَقَال: هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى السَّبْعِ (3) .
قَال الْقَرَافِيُّ: مَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ أَوِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِجَعْلِهِ كَبِيرَةً أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَجَلْدِ الشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ قَادِحَةٌ فِي الْعَدَالَةِ إِجْمَاعًا وَكَذَلِكَ مَا فِيهِ وَعِيدٌ صُرِّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ فَنَجْعَلُهُ أَصْلاً وَنَنْظُرُ، فَمَا سَاوَى أَدْنَاهُ
__________
(1) منح الجليل شرح مختصر خليل للشيخ عليش 4 / 219.
(2) الزواجر 1 / 4.
(3) فتح الباري 10 / 148.(34/152)
مَفْسَدَةً، أَوْ رَجَحَ عَلَيْهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ (1) . . . .
أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ:
7 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْكَبَائِرَ إِلَى كَبِيرَةٍ وَأَكْبَرَ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ (قَال ثَلاَثًا) : الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ " فَمَا زَال يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ، وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ (2) ، أَيْ إِشْفَاقًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال الْحَافِظُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَفَاسِدِهَا، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ اسْتِوَاءُ رُتَبِهَا أَيْضًا فِي نَفْسِهَا (3) .
وَقَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: حَدِيثُ " أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْحَصْرِ، بَل " مِنْ " فِيهِ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (4) ،
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 66.
(2) حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) ومسلم (1 / 91) ، والرواية الأخرى أخرجها البخاري (5 / 261) .
(3) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 2 / 294.
(4) فتح الباري 10 / 425.(34/153)
ثُمَّ ذَكَرَ الأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، فَبَلَغَتْ عِشْرِينَ كَبِيرَةً، وَبَعْدَ إِسْقَاطِهِ الْمُتَدَاخِل مِنْهَا بَلَغَتْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ هِيَ:
أ - الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ.
ب - عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.
ج - قَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ (وَهَذِهِ ثَلاَثَةٌ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ) .
د - قَتْل النَّفْسِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (1) .
هـ - الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَال: أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: أَنْ تَقْتُل وَلَدَكَ مِنْ أَجْل أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال. أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ (2) فَأَوْرَدَ هَذِهِ بَيْنَهَا.
و الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْكَبَائِرُ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ قَال: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ (3) .
ز - اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ
__________
(1) حديث أنس. . . سبق تخريجه ف6.
(2) حديث ابن مسعود: " أي الذنب أعظم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 114) .
(3) حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر. أخرجه الترمذي (5 / 236) وقال: " حديث حسن صحيح ".(34/153)
فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ (1) .
ح - مَنْعُ فَضْل الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْل، لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الإِْشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَمَنْعَ فَضْل الْمَاءِ وَمَنْعَ الْفَحْل (2) .
ط - سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ (3) .
ي - مُضَاهَاةُ الْخِلْقَةِ بِالتَّصْوِيرِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي (4) .
ك - اللَّدَدُ فِي الْخُصُومَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا: أَبْغَضُ الرِّجَال إِلَى اللَّهِ الأَْلَدُّ الْخَصِمُ (5) .
__________
(1) حديث " استطالة المرء. . . ". عزاه ابن حجر في فتح الباري (10 / 114) إلى ابن أبي حاتم وحسن إسناده.
(2) حديث بريدة في منع فضل الماء والفحل. عزاه ابن حجر في الفتح (10 / 411) إلى البزار وضعف إسناده.
(3) حديث ابن عمر في سوء الظن بالله. عزاه ابن حجر في الفتح (10 / 411) إلى ابن مردويه وضعف إسناده.
(4) حديث أبي هريرة: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 528) .
(5) حديث عائشة: " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 180) ومسلم (4 / 2054) .(34/154)
ل - سَبُّ الأَْبَوَيْنِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُل وَالِدَيْهُ (1) . . . . قَال السِّيوَاسِيُّ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ، وَأَصْغَرُ الصَّغَائِرِ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ (2) .
تَرْتِيبُ الْكَبَائِرِ مِنْ حَيْثُ الْمَفْسَدَةُ وَالضَّرَرُ:
8 - قَال الْقَرَافِيُّ: رُتَبُ الْمَفَاسِدِ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْكَرَاهَةُ، ثُمَّ كُلَّمَا ارْتَقَتِ الْمَفْسَدَةُ عَظُمَتِ الْكَرَاهَةُ، حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ، تَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ تَتَرَقَّى رُتَبُ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ، يَلِيهِ أَدْنَى الْكَبَائِرِ ثُمَّ تَتَرَقَّى رُتَبُ الْكَبَائِرِ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى تَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ، يَلِيهَا الْكُفْرُ (3) .
الْكَبِيرَةُ وَالإِْيمَانُ مِنْ حَيْثُ الزَّوَال وَالنُّقْصَانُ وَالْبَقَاءُ:
9 - لاَ يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الإِْيمَانِ بِارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ؛ لأَِنَّ أَصْل الإِْيمَانِ مِنَ التَّصْدِيقِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالإِْيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ مَوْجُودَانِ فِي
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 403) ومسلم (1 / 92) واللفظ للبخاري.
(2) شرح السيواسي لرسالة الصغائر والكبائر 39.
(3) الفروق 4 / 66.(34/154)
مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَإِذَا مَاتَ قَبْل أَنْ يَتُوبَ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ: إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوبِهِ، وَلاَ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، بَل تَكُونُ عَاقِبَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، هَذَا مَا عَلَيْهِ أَهْل السُّنَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ صُدُورِ الْقِتَال ظُلْمًا مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ (1) .
انْخِرَامُ الْعَدَالَةِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ:
10 - الْعَدَالَةُ: كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ تُحْمَل عَلَى مُلاَزَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا، حَتَّى تَحْصُل ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ، فَلاَ ثِقَةَ بِقَوْل مَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى خَوْفًا وَازِعًا عَنِ الْكَذِبِ (2) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَ الْكَبَائِرِ جُرْحَةٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْكَبَائِرِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ (3) .
__________
(1) لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2 / 368، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 247، 301.
(2) المستصفى للغزالي 1 / 100.
(3) مراتب الإجماع لابن حزم 23، والبدائع 6 / 270.(34/155)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَدْل هُوَ مَنْ لَمْ يَفْعَل مَعْصِيَةً كَبِيرَةً بِلاَ تَوْبَةٍ مِنْهَا بِأَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا أَصْلاً أَوْ تَابَ مِنْهَا، فَإِنْ فَعَلَهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعَدْل عَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِهِ (1) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ التَّوْضِيحَاتِ:
أ - صَرَّحَ كُلٌّ مِنْ الْقَرَافِيِّ وَابْنِ الشَّاطِّ أَنَّ انْخِرَامَ الْعَدَالَةِ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ بِارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ لَيْسَ سَبَبُهُ الاِرْتِكَابَ نَفْسَهُ، بَل مَا يَلْزَمُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَدُل عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمُرْتَكِبِ لِلشَّارِعِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، أَوْ كَمَا اخْتَارَ ابْنُ الشَّاطِّ (احْتِمَال الْجُرْأَةِ) فَمَنْ دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِهِ عَلَى الْجُرْأَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، كَمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْمَعْلُومِ مِنْ دَلاَئِل الشَّرْعِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، أَوِ الْمُصِرِّ عَلَى الصَّغِيرَةِ إِصْرَارًا يُؤْذِنُ بِالْجُرْأَةِ، وَمَنِ احْتَمَل حَالُهُ أَنَّهُ فَعَل مَا فَعَل مِنْ ذَلِكَ جُرْأَةً أَوْ فَلْتَةً تُوُقِّفَ عَنْ قَبُول شَهَادَتِهِ، وَمَنْ دَلَّتْ دَلاَئِل حَالِهِ أَنَّهُ فَعَل مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلْتَةً غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالْجُرْأَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَ إِلاَّ التُّهْمَةَ بِالاِجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ، كَالاِجْتِرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ. فَإِذَا عَرِيَ عَنِ الاِتِّصَافِ بِالْجُرْأَةِ وَاحْتِمَال الاِتِّصَافِ بِهَا بِظَاهِرِ حَالِهِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 233، وكفاية الطالب لأبي الحسن 2 / 316.(34/155)
سَقَطَتِ التُّهْمَةُ (1) .
ب - بَيَّنَ الْخَرَشِيُّ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمُشْتَرَطَ فِيهَا اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ هِيَ مُطْلَقُ الْعَدَالَةِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَوْفِ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ فَاسِقًا، بِخِلاَفِ الْعَدَالَةِ الْخَاصَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلشَّهَادَةِ، فَمِنْ شُرُوطِهَا اجْتِنَابُ مَا يَخِل بِالْمُرُوءَةِ، وَعَدَمُهُ لَيْسَ فِسْقًا (2) .
ج - لاَ يَتَرَتَّبُ انْخِرَامُ الْعَدَالَةِ إِلاَّ عَلَى الاِرْتِكَابِ لِلْكَبِيرَةِ فِعْلاً، فَلَوْ نَوَى الْعَدْل فِعْل كَبِيرَةٍ غَدًا لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ فَاسِقًا، بِخِلاَفِ نِيَّةِ الْكُفْرِ (3) .
تَفْسِيقُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ:
11 - عُرِفَ مِمَّا سَبَقَ فِي الْكَلاَمِ عَنِ انْخِرَامِ عَدَالَةِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِذَلِكَ. قَال الزَّرْكَشِيُّ: مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ الْكَبَائِرِ فَسَقَ وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ثُمَّ نَقَل عَنِ الصَّيْرَفِيِّ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ (4) .
أَثَرُ الإِْصْرَارِ فِي تَحَوُّل الصَّغِيرَةِ إِلَى كَبِيرَةٍ:
12 - قَال الْقَرَافِيُّ: الصَّغِيرَةُ لاَ تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَلاَ تُوجِبُ فُسُوقًا، إِلاَّ أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ كَبِيرَةً. . . فَإِنَّهُ لاَ صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ،
__________
(1) الفروق وحاشية ابن الشاط 4 / 65، وتهذيب الفروق 4 / 111.
(2) الخرشي 7 / 677.
(3) مغني المحتاج 4 / 428.
(4) البحر المحيط للزركشي 4 / 274.(34/156)
وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ كَمَا قَال السَّلَفُ. . . وَيَعْنُونَ بِالاِسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا، لاَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَزْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يُزِيل كُبْرَ الْكَبِيرَةِ أَلْبَتَّةَ (1) .
وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّرْكَشِيُّ فِي عِدَادِ الْكَبَائِرِ إِدْمَانَ الصَّغِيرَةِ (2) .
وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، كَأَبِي طَالِبٍ الْقُضَاعِيِّ، حَيْثُ نَقَل عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الإِْصْرَارَ لَهُ حُكْمُ مَا أَصَرَّ بِهِ عَلَيْهِ فَالإِْصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ (3) .
وَاعْتِبَارُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةً هُوَ مِنْ بَابِ الإِْلْحَاقِ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ، فَهُوَ لاَ يُصَيِّرُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُلْحِقُهَا بِهَا فِي الْحُكْمِ، وَبِعِبَارَةِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ شُرَّاحِ الْمَنَارِ: الإِْصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ هُوَ كَبِيرَةٌ لِغَيْرِهَا، أَمَّا الْكَبِيرَةُ بِالضَّابِطِ الأَْصْلِيِّ فَهِيَ كَبِيرَةٌ بِنَفْسِهَا (4) .
جَاءَ فِي حَوَاشِي شَرْحِ الْمَنَارِ أَنَّ الإِْصْرَارَ تَكْرَارُ الْفِعْل تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُبَالاَةِ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَقَال أَمِيرُ بَادْشَاهْ: الإِْصْرَارُ أَنْ تَتَكَرَّرَ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ تَكْرَارًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ مُبَالاَتِهِ بِأَمْرِ دِينِهِ إِشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ (5) .
__________
(1) الفروق للقرافي وحاشية ابن الشاط 4 / 67.
(2) البحر المحيط 4 / 277.
(3) البحر المحيط 4 / 277.
(4) نهاية المحتاج 8 / 279، وشرح المنار وحواشيه 2 / 636.
(5) حواشي شرح المنار نقلاً عن قمر الأقمار 2 / 636، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3 / 44، وتقرير التحبير لابن أمير حاج 2 / 242.(34/156)
وَأَمَّا حَقِيقَةُ التَّكْرَارِ الْمُشْتَرَطِ فِي تَحَقُّقِ الإِْصْرَارِ فَيُعْرَفُ مِنْ تَقْسِيمِ الزَّرْكَشِيِّ الإِْصْرَارَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
(أَحَدِهِمَا) حُكْمِيٌّ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْل الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ كَرَّرَهَا فِعْلاً، بِخِلاَفِ التَّائِبِ مِنْهَا، فَلَوْ ذَهِل عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الأَْعْمَال الصَّالِحَةُ.
(وَالثَّانِي) الإِْصْرَارُ بِالْفِعْل، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ أَوِ الإِْدْمَانِ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَال: لاَ أَجْعَل الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا (1) ، وَنَحْوُهُ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ (2) .
أَثَرُ الْكَبِيرَةِ فِي إِحْبَاطِ الثَّوَابِ:
13 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الشِّرْكَ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ يُحْبِطُ الثَّوَابَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ بَعْدَ تَوْحِيدِهِ لَهُ تَعَالَى، أَوْ كَفَرَ مُرْتَدًّا عَنْ إِيمَانِهِ، أَوْ كَانَتْ كَبِيرَتُهُ اسْتِحْلاَل مُحَرَّمٍ أَوْ
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 4 / 274، 277.
(2) المغني لابن قدامة 10 / 235 وذكر أن القاضي أبا يعلى ضبطه بالمداومة.(34/157)
تَحْرِيمَ حَلاَلٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْبَطُ ثَوَابُ أَعْمَالِهِ لِلرِّدَّةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
وَاخْتُلِفَ هَل يَحْبَطُ الْعَمَل أَيْضًا، بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ بَعْدَ عَوْدَتِهِ لِلإِْسْلاَمِ، وَهَل يَتَرَتَّبُ الْحُبُوطُ عَلَى مُجَرَّدِ الرِّدَّةِ أَوْ بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْحُبُوطَ بِالْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، فَعَلَيْهِ لاَ يَجِبُ إِعَادَةُ الْحَجِّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْل رِدَّتِهِ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَهَا، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَمَل الَّذِي تُحْبِطُهُ الرِّدَّةُ بِمَا وَقَعَ حَال التَّكْلِيفِ لاَ قَبْلَهُ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 48) .
أَمَّا الْكَبَائِرُ الأُْخْرَى فَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ فِي شَأْنِ بَعْضِهَا بِأَنَّهُ يُحْبِطُ ثَوَابَ الْعَمَل، مِثْل:
الْقَذْفِ: عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ يَهْدِمُ عَمَل مِائَةِ سَنَةٍ (2) .
الرِّبَا: وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلُهَا لأُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) القليوبي 4 / 174.
(2) حديث حذيفة: " إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة ". أورده الهيثمي في المجمع (6 / 279) وقال: رواه الطبراني والبزار، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وقد يحسن حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح.(34/157)
لَقَدْ أَبْطَل جِهَادَهُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) "، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مُعَامَلَةٍ فِيهَا رِبًا.
سُؤَال الْعَرَّافِ: عَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2) .
الْعَفْوُ عَنِ الْكَبَائِرِ:
14 - يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْكَبِيرَةِ، هَل هِيَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوِ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْعَبْدِ، كَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ:
فَالْعَفْوُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّوْعِ الأَْوَّل هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالآْخِرَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ فَهُوَ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ،
__________
(1) حديث عائشة وقولها: " لقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8 / 185) .
(2) الزواجر 2 / 102، وحديث: " من أتى عرافًا فسأله. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1751) .
(3) لوامع الأنوار للسفاريني 1 / 368، وشرح العقيدة الطحاوية 303.(34/158)
وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَال: فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْكَبَائِرُ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ تُغْفَرُ لِمَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا قَبْل الْمَوْتِ، وَقَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَال تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ مَاتَ عَلَى الذُّنُوبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ تَابَ قَبْل الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الإِْشْرَاكِ وَغَيْرِهِ مَعْنًى، إِذِ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا مَغْفُورٌ لَهُ (2) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ فَالْحُكْمُ فِي الْعَفْوِ عَنْهَا فِيهِ تَفْصِيلٌ:
أ - إِنْ كَانَتِ الْكَبِيرَةُ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا عَمْدًا عُدْوَانًا فَلأَِوْلِيَاءِ الدَّمِ - أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ بَقِيَ حَيًّا - الْمُطَالَبَةُ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْعَفْوِ (3) ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
__________
(1) حديث: " تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 203) من حديث عبادة بن الصامت. وانظر لوامع الأنوار للسفاريني 1 / 368، وشرح العقيدة الطحاوية 303.
(2) تفسير القرطبي 5 / 161.
(3) المبسوط 26 / 158، والدسوقي 2 / 307، والمهذب 2 / 201، والسياسة الشرعية لابن تيمية 148، والمغني 9 / 463، 469.(34/158)
عَفْوٌ. ف 18 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - وَإِذَا كَانَتِ الْكَبِيرَةُ سَرِقَةً يَجُوزُ عَفْوُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَنِ السَّارِقِ قَبْل بُلُوغِ الإِْمَامِ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ (1) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 72) .
ج - وَإِذَا كَانَتِ الْكَبِيرَةُ حِرَابَةً وَتَابَ الْمُحَارِبُونَ قَبْل أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْحِرَابَةِ مِنَ الْقَتْل أَوِ الصَّلْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ النَّفْيِ، لاَ إِنْ تَابُوا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُقُوقُ الْعِبَادِ مِنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَالدِّيَاتِ وَغَرَامَةِ الْمَال فِيمَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حِرَابَةٌ ف 24) .
د - لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ بَعْدَ أَنْ تَبْلُغَ الإِْمَامَ، كَمَا تَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ وَطَلَبُ الْعَفْوِ (2) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَكَلَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَل مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية 65، والمغني 10 / 294، 300، 304.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية 65.(34/159)
الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا (1) .
هـ - الْعَفْوُ فِي الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا تَعْزِيرٌ جَائِزٌ لِلإِْمَامِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْعَفْوِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ قُدَامَةَ مَا لَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ (2) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عَفْوٌ ف 32) .
أَثَرُ التَّوْبَةِ فِي انْتِفَاءِ الْفِسْقِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَأَثَرُهَا فِي تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ:
15 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَصَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ، إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَلاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ؛ لأَِنَّهَا فَرْضٌ لاَزِمٌ عَلَى الْعِبَادِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ (الْجَدُّ) الْحَدُّ يَرْفَعُ الإِْثْمَ وَيَبْقَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْفِسْقِ، مَا لَمْ يَتُبْ وَتَظْهَرْ تَوْبَتُهُ.
وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةٌ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ
__________
(1) حديث عائشة: " أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 87) ومسلم (3 / 1315) واللفظ للبخاري.
(2) المغني لابن قدامة 10 / 349.
(3) لوامع الأنوار للسفاريني 1 / 376، البيان والتحصيل لابن رشد 10 / 149.(34/159)
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ (1) .
قَال الْمِنْهَاجِيُّ: التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْقِطُ الإِْثْمَ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا إِقْلاَعٌ، وَنَدَمٌ، وَعَزْمٌ أَنْ لاَ يَعُودَ، وَتَبْرِئَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ حَقٍّ مَالِيٍّ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، كَمَنْعِ زَكَاةٍ أَوْ غَصْبٍ، بِرَدِّهِ أَوْ بَدَلِهِ إِنْ تَلِفَ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيُعْتَبَرُ رَدُّ الْمَظْلِمَةِ وَأَنْ يَسْتَحِلَّهُ أَوْ يَسْتَمْهِلَهُ، وَهَذَا فِي الأَْمْوَال، أَمَّا فِي مِثْل الْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ فَقَدْ قَال الْكَرْمِيُّ: لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْهَا إِعْلاَمُهُ وَالتَّحَلُّل مِنْهُ، بَل يَحْرُمُ إِعْلاَمُهُ (أَيْ: لِدَرْءِ الْفِتْنَةِ) ثُمَّ قَال الْمِنْهَاجِيُّ: أَمَّا التَّوْبَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي تَعُودُ بِهَا الشَّهَادَةُ وَالْوِلاَيَةُ فَالْمَعَاصِي إِنْ كَانَتْ قَوْلِيَّةً شُرِطَ فِيهَا الْقَوْل، فَيَقُول فِي الْقَذْفِ: قَذْفِي بَاطِلٌ وَلاَ أَعُودُ إِلَيْهِ، أَوْ مَا كُنْتَ مُحِقًّا فِي قَذْفِي (2) .
وَهَل مِنْ شُرُوطِ تَوْبَتِهِ إِصْلاَحُ الْعَمَل وَالْكَفُّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ سَنَةً؟ قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ كَافٍ، وَقَال مَالِكٌ: يُشْتَرَطُ صَلاَحُ حَالِهِ أَوِ الزِّيَادَةُ فِي صَلاَحِهَا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: ظُهُورُ أَفْعَال الْخَيْرِ عَلَيْهِ
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " ومن أصاب من ذلك. . . ". تقدم تخريجه ف14.
(2) جواهر العقود للمنهاجي 2 / 437، والبيان والتحصيل لابن رشد 10 / 149، والفروع لابن مفلح 6 / 569، وعناية المنتهي للكرمي 3 / 474، ورحمة الأمة 2 / 232.(34/160)
وَالتَّقَرُّبُ بِالطَّاعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ بِسَنَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَقْوَالٌ: فَفِي الْخَانِيَّةِ: الْفَاسِقُ إِذَا تَابَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ زَمَنٌ تَظْهَرُ فِيهِ التَّوْبَةُ، ثُمَّ بَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسَنَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَالْمُعَدِّل، وَفِي الْخُلاَصَةِ: وَلَوْ كَانَ عَدْلاً فَشَهِدَ بِزُورٍ ثُمَّ تَابَ وَشَهِدَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ (2) .
وَهَذَا فِي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا عَدَا الْقَذْفَ فَفِيهِ خِلاَفٌ، بَعْدَ الاِتِّفَاقِ عَلَى زَوَال اسْمِ الْفِسْقِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ الْقَاذِفِ إِنْ تَابَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْبَتُهُ قَبْل الْحَدِّ أَمْ بَعْدَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} وَقَالُوا: الاِسْتِثْنَاءُ فِي سِيَاقِ الْكَلاَمِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ إِلاَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَلِكَ خَبَرٌ، وَلأَِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْفِسْقِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، لَكِنَّ مَالِكًا اشْتَرَطَ أَنْ لاَ تُقْبَل
__________
(1) شرح زروق على الرسالة 2 / 284.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 474، ورحمة الأمة 2 / 233 - 235، والميزان للشعراني 2 / 215.(34/160)
شَهَادَتُهُ فِي مِثْل الْحَدِّ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمَسْرُوقٌ وَشُرَيْحٌ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ إِذَا كَانَتْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ الْحَدِّ، وَقَالُوا: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الآْيَةِ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْفِسْقُ، وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُول الشَّهَادَةِ، لأَِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالتَّأْبِيدِ، وَلأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ جُعِل مِنْ تَمَامِ عُقُوبَةِ الْقَاذِفِ، وَلِهَذَا لاَ يَتَرَتَّبُ الْمَنْعُ - عِنْدَهُمْ - إِلاَّ بَعْدَ الْحَدِّ، وَمَا كَانَ مِنَ الْحُدُودِ وَلَوَازِمِهَا لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَلَوْ قَذَفَ وَلَمْ يُحَدَّ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ (1) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 21) .
تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةُ أَهْل التَّفْسِيرِ إِلَى أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} ، وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 462، وإعلام الموقعين 1 / 104 - 109، والفروع لابن مفلح 6 / 568، ورحمة الأمة 2 / 235، والمحرر بحاشية ابن مفلح 2 / 251 - 256، والمبسوط للسرخسي 16 / 125 - 129 وقد أطال السرخسي وابن مفلح وابن القيم في مناقشات القولين.(34/161)
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ (1) .
وَذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ - كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَطْعِ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا مَحْمَل ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ، وَالْمَشِيئَةُ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، قَالُوا وَلاَ ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ وَاجِبًا بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ، وَدَل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعْنَا لِمُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ وَمُمْتَثِل الْفَرَائِضِ بِتَكْفِيرِ صَغَائِرِهِ قَطْعًا لَكَانَتْ لَهُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ الَّذِي نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لاَ تِبَاعَةَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ لِعُرَى الشَّرِيعَةِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ (2) فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 209) .
(2) حديث: " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 122) من حديث أبي أمامة.(34/161)
كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى إِلَى الاِجْتِنَابِ، وَهِيَ إِقَامَةُ الْفَرَائِضِ (1) .
وَاخْتُلِفَ هَل شَرْطُ التَّكْفِيرِ لِلصَّغَائِرِ عَدَمُ مُلاَبَسَتِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْكَبَائِرِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ الاِشْتِرَاطَ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ (2) وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ، قَالُوا: وَالشَّرْطُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ الْكَبَائِرَ.
وَيُسَاعِدُ ذَلِكَ مُطْلَقُ الأَْحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ (3) .
تَكْفِيرُ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ:
17 - رَوَى عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لأُِمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلاَ الظَّالِمَ فَإِنِّي آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ، قَال: أَيْ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 158، وفتح الباري 10 / 423، والمحلي لابن حزم 9 / 393، والبحر المحيط للزركشي 4 / 278.
(2) حديث: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة. . . ". تقدم تخريجه ف16.
(3) البحر المحيط للزركشي 4 / 278، وتفسير القرطبي 5 / 158.(34/162)
رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ، فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَل (1) . . .، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل غَفَرَ لأَِهْل عَرَفَاتٍ وَأَهْل الْمَشْعَرِ وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، هَذَا لَنَا خَاصَّةً؟ قَال: هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ وَطَابَ (2) ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ وَسَاقَ فِيهِ أَحَادِيثَ أُخَرَ، وَالْحَاصِل أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَاجَهْ - وَإِنْ ضُعِّفَ - فَلَهُ شَوَاهِدُ تُصَحِّحُهُ، وَالآْيَةُ أَيْضًا تُؤَيِّدُهُ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ: مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث عباس بن مرداس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1002) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 140) . وقال البيهقي: له شواهد كثيرة ذكرناها في كتاب الشعب، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإلا فقد قال تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وظلم بعضهم بعضًا دون الشرك (ابن عابدين 2 / 623) .
(2) حديث: " إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات. . . ". عزاه المنذري في الترغيب (2 / 157) إلى ابن المبارك، وقال ابن حجر في قوة الحجاج ص29: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك فهو على شرط الصحيح.
(3) حديث: " من حج ولم يرفث ولم يفسق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 382) ومسلم (2 / 983) من حديث أبي هريرة.(34/162)
لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (1) .
لَكِنْ ذَكَرَ الأَْكْمَل فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ تَحْبَطُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا بِالإِْسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ حَتَّى لَوْ قَتَل وَأَخَذَ الْمَال وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الإِْسْلاَمُ كَافِيًا فِي تَحْصِيل مُرَادِهِ وَلَكِنْ ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ تَأْكِيدًا فِي بِشَارَتِهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ لاَ يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ وَلاَ يُقْطَعُ فِيهِمَا بِمَحْوِ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا يُكَفِّرَانِ الصَّغَائِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال وَالْكَبَائِرَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ أَحَدٍ كَإِسْلاَمِ الذِّمِّيِّ، وَكَذَا ذَكَرَ الإِْمَامُ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِهِ وَقَال: إِنَّ الشَّارِحِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ: وَمَشَى الطِّيبِيُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ الْكَبَائِرَ وَالْمَظَالِمَ، وَوَقَعَ مُنَازَعَةٌ غَرِيبَةٌ بَيْنَ أَمِيرِ بَادْشَاهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ مَال إِلَى قَوْل الطِّيبِيِّ، وَبَيْنَ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ مَال إِلَى قَوْل الْجُمْهُورِ، وَكَتَبْتُ رِسَالَةً فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْفَتْحِ الْمَيْل إِلَى تَكْفِيرِ الْمَظَالِمِ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ مَشَى الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي
__________
(1) حديث: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 112) .(34/163)
شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَال عِيَاضٌ: هُوَ مَحْمُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظَالِمِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَجَزَ عَنْ وَفَائِهَا، وَالْحَاصِل أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ، وَتَأْخِيرَ نَحْوِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ إِثْمُ التَّأْخِيرِ فَقَطْ عَمَّا مَضَى دُونَ الأَْصْل وَدُونَ التَّأْخِيرِ الْمُسْتَقْبَل، وَنَقَلَهُ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَاللَّقَانِيِّ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ سُقُوطَ الدَّيْنِ أَيْضًا عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا قَال عِيَاضٌ لَكِنَّ تَقْيِيدَ عِيَاضٍ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأَِنَّ التَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ إِنَّمَا تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حَقَّ الْعَبْدِ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُسْقِطِ هُوَ الْحَجَّ كَمَا اقْتَضَتْهُ الأَْحَادِيثُ (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَجَّ لاَ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْقَائِل بِأَنَّهُ يُكَفِّرُهَا أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُ قَضَاءَ مَا لَزِمَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَتَرَكَهُ وَالْمَظَالِمَ وَالدَّيْنَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ إِثْمَ تَأْخِيرِ ذَلِكَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ طُولِبَ بِقَضَاءِ مَا لَزِمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل مَعَ قُدْرَتِهِ فَقَدِ ارْتَكَبَ الآْنَ الْكَبِيرَةَ الأُْخْرَى (2) ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، فَلاَ يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى، فَضْلاً عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 622 - 623.
(2) رسالة الصغائر والكبائر لابن نجيم بشرح السيواسي 54.
(3) حاشية ابن عابدين (2 / 624) نقلاً عن البحر الرائق.(34/163)
شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ خُلُودِهِمْ فِي النَّارِ.
18 - لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَاعَاتِ الْخَاصَّةِ بِهِ شَفَاعَتُهُ فِي قَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ، فَلاَ يَدْخُلُونَهَا، هَذَا مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ.
وَقَدْ جَزَمَ السُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَمَ الْقَاضِي وَابْنُ السُّبْكِيِّ بِعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَأَشَارَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ إِلَى أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلاَئِكَةُ وَالأَْنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ هِيَ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْعُظْمَى لِفَصْل الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ الْمَحْشَرِ، فَتِلْكَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْخَلْقِ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الأُْمَّةِ أَنَّهَا مِنْ خَصَائِصِهِ (1) .
قَال الأَْشْعَرِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً. . . وَهِيَ لِلْمُذْنِبِينَ الْمُرْتَكِبِينَ الْكَبَائِرَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لِشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل الْكَبَائِرِ بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: شَفَاعَتِي لأَِهْل الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي (3) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية 165 - 167، ولوامع الأنوار للسفاريني 2 / 218.
(2) الإبانة للأشعري 294.
(3) حديث أنس: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 625) وقال: حديث حسن صحيح.(34/164)
قَال ابْنُ أَبِي الْعِزِّ: تَوَاتَرَتِ الأَْحَادِيثُ فِي شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل الْكَبَائِرِ، وَقَدْ خَفِيَ عِلْمُ ذَلِكَ عَنِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَفَاعَةٌ ف 6)
كَبِد
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص165.(34/164)
كِبْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِبْرُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ: الْعَظَمَةُ (1) ، وَكِبْرُ الشَّيْءِ مُعْظَمُهُ (2) ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ: تَحَمَّل مُعْظَمَهُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ الْخُلُقُ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الاِسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ.
وَعَرَّفَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّهُ خُلُقٌ بَاطِنٌ يَصْدُرُ عَنْ أَعْمَالٍ هِيَ ثَمَرَتُهُ، فَيَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَذَلِكَ الْخُلُقُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ عَلَى الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ، يَعْنِي يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ الْغَيْرِ فِي صِفَاتِ الْكَمَال.
وَهُوَ فِي سُنَّةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَدَمُ قَبُول الْحَقِّ
__________
(1) الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري.
(2) المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم لأبي البقاء العكبري مادة: كبر، تحقيق ياسين السواس، طبع جامعة أم القرى.(34/165)
تَرَفُّعًا، وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبْرِيَاءُ:
2 - قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْكِبْرِيَاءُ هِيَ التَّرَفُّعُ عَنِ الاِنْقِيَادِ، وَذَلِكَ لاَ يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وَفِي الْحَدِيثِ: قَال اللَّهُ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ (2) بَيْنَمَا يَرَى أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ الْكِبْرِيَاءَ هِيَ الْعِزُّ وَالْمُلْكُ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، قَال تَعَالَى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَْرْضِ} ، يَعْنِي: الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانُ وَالْعِزَّةَ (3) .
ب - الْعُجْبُ:
3 - الْعُجْبُ بِالشَّيْءِ الزَّهْوُ وَكَثْرَةُ السُّرُورِ بِهِ،
__________
(1) حديث: " الكبر بطر الحق وغمط الناس ". أخرجه مسلم (1 / 93) ، وانظر إحياء علوم الدين 3 / 163، ومختصر منهاج القاصدين ص246.
(2) حديث: " قال الله: الكبرياء ردائي. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 350 - 351) من حديث أبي هريرة، وأصله في صحيح مسلم (4 / 2023) .
(3) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص241. والمفردات للراغب الأصفهاني وجامع البيان للطبري 1 / 228.(34/165)
وَفُلاَنٌ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ: إِذَا كَانَ مَسْرُورًا بِخِصَالِهَا، وَلَيْسَ الْعُجْبُ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، قَال عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْعُجْبُ عَقْدُ النَّفْسِ عَلَى فَضِيلَةٍ لَهَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهَا وَلَيْسَتْ هِيَ لَهَا (1) ، وَلَكِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْكِبْرِ؛ لأَِنَّهُ أَحَدُ أَسْبَابِهِ (2) .
وَيَرَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ الْعُجْبَ هُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا مَعَ نِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (3) ، وَيَذْكُرُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - وَيُوَافِقُهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ - فِي ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ فَيَقُول: الْعُجْبُ لاَ يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ، حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنْ يُخْلَقَ الإِْنْسَانُ وَحْدَهُ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مُعْجَبًا، وَلاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَهُ (4) .
ج - الْجَبْرُ:
4 - الْجَبْرُ هُوَ التَّعَاظُمُ مَعَ الْقَهْرِ، وَالْجَبَرُوتُ أَبْلَغُ مِنَ الْجَبْرِ، لأَِنَّ الْوَاوَ وَالتَّاءَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ (5) ، قَال النَّوَوِيُّ: الْجَبَرُوتُ هُوَ الْكِبْرُ وَالتَّعَظُّمُ وَالاِرْتِفَاعُ وَالْقَهْرُ، وَالْجَبَّارُ
__________
(1) الفروق في اللغة ص243.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص254.
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر ص 74.
(4) إحياء علوم الدين 3 / 323، ومختصر منهاج القاصدين ص247.
(5) الفروق في اللغة 242.(34/166)
هُوَ الْمُتَكَبِّرُ الشَّرِسُ سَيِّئُ الْخُلُقِ (1) ، وَيُقَال أَيْضًا لِلْقَاهِرِ غَيْرَهُ: جَبَّارٌ، كَمَا قَال تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ، وَنَقَل ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالاَ: آيَةُ الْجَبَابِرَةِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ (2) .
وَيَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْجَبَّارُ هُوَ مَنْ يَجْبُرُ نَقِيصَتَهُ بِادِّعَاءِ مَنْزِلَةٍ مِنَ التَّعَالِي لاَ يَسْتَحِقُّهَا (3) ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُل جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
وَالْكِبْرُ أَعَمُّ مِنَ الْجَبْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكِبْرَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الذَّهَبِيُّ (4) .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ، قَال: مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنَ الرِّجَال، إِنْ فَعَل ذَلِكَ تَعَجُّبًا حَرُمَ، فَإِنَّ
__________
(1) تحرير التنبيه ليحيى بن شرف النووي ص355 و359 تحقيق محمد رضوان وفايز الداية، طبع دار الفكر، 1410هـ، دمشق.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 79 طبع. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(3) المفردات، مادة: جبر.
(4) الكبائر للذهبي ص76.(34/166)
الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مِثْقَال ذَرَّةٍ} يَشْمَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ مِنْهُ، فَلاَ يُرَخَّصُ بِالْكِبْرِ مَهْمَا كَانَ قَلِيلاً، قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْكِبْرَ مَانِعٌ مِنْ دُخُول الْجَنَّةِ وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الْقِلَّةِ إِلَى الْغَايَةِ (3) .
وَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ هُوَ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ، وَهِيَ قَصْدُ الاِسْتِعْلاَءِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَكْرُمَةٍ مِنَ الْمَكَارِمِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِبْرَ - أَيْ: التَّكَبُّرَ - إِمَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَوْ لاَ يُحْتَاجَ إِلَيْهِ.
فَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ كَانَ مَحْمُودًا، كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَعَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، وَنَحْوِهِمْ، وَلِذَلِكَ جَازَ الاِخْتِيَال فِي الْحَرْبِ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ (4) .
وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ تُرَافِقَهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ، أَوْ لاَ تُرَافِقَهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ، فَإِنْ رَافَقَتْهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَإِنْ لَمْ تُرَافِقْهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ، فَإِنَّ الْفِعْل إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شِعَارِ الْمُتَكَبِّرِينَ، أَوْ لاَ يَكُونَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 12 / 238 طبع. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) حديث: " لا يدخل الجنة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 93) من حديث ابن مسعود.
(3) نيل الأوطار لمحمد بن علي الشوكاني 2 / 109 طبع. دار الجيل، بيروت.
(4) الروض المربع بحاشية ابن القاسم العاصمي 1 / 515.(34/167)
مِنْ شِعَارِ الْمُتَكَبِّرِينَ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُتَكَبِّرِينَ كَتَصْعِيرِ الْخَدِّ، وَالاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ، وَإِسْبَال الإِْزَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَانَ مَكْرُوهًا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شِعَارِ الْمُتَكَبِّرِينَ، كَالأَْكْل مُتَّكِئًا، وَتَشْمِيرِ الأَْكْمَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَالْحَاصِل أَنَّ كُل مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ يُكْرَهُ، وَإِنْ فُعِل لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ لاَ - أَيْ: لاَ يُكْرَهُ (1) -، عَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْجَمِيلَةَ الرَّفِيعَةَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التَّكَبُّرِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ (2) ، بَل إِنَّ لُبْسَ رَفِيعِ الثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التَّكَبُّرِ، بَل بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقْعٌ فِي قُلُوبِ سَامِعِيهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ مُثَابًا، قَال الشَّوْكَانِيُّ: إِنَّ الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، فَلُبْسُ الْمُنْخَفِضِ مِنَ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا وَكَسْرًا لِسُورَةِ النَّفْسِ الَّتِي لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنَ التَّكَبُّرِ إِنْ لَبِسَتْ غَالِيَ الثِّيَابِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَثُوبَةِ مِنَ اللَّهِ، وَلُبْسُ الْغَالِي مِنَ الثِّيَابِ عِنْدَ الأَْمْنِ عَلَى النَّفْسِ مِنَ التَّسَامِي الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنَ التَّكَبُّرِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 359 طبع. دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة بيروت 1400هـ.
(2) نيل الأوطار 2 / 109، وانظر: الفتاوى البزازية لابن البزاز الكردري 6 / 368 مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية، والفتاوى الهندية 5 / 336.(34/167)
لِقَصْدِ التَّوَصُّل بِذَلِكَ إِلَى تَمَامِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ عِنْدَ مَنْ لاَ يَلْتَفِتُ إِلاَّ إِلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ لاَ شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْمُوجِبَاتِ لِلأَْجْرِ، لَكِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا يَحِل لُبْسُهُ شَرْعًا (1) .
مَظَاهِرُ الْكِبْرِ:
6 - الْكِبْرُ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي الإِْنْسَانِ، لَهَا مَظَاهِرُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى (2) ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ:
أ - تَصْعِيرُ الْوَجْهِ: وَهُوَ يَعْنِي: مَيْل الْعُنُقِ، وَالإِْشَاحَةُ بِالْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ كِبْرًا (3) ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَلِذَلِكَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَْرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
ب - الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ: وَهُوَ يَعْنِي التَّبَخْتُرُ وَالتَّعَالِي فِي الْمِشْيَةِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَْرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَال طُولاً كُل ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجَّلٌ شَعْرُهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 110.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 323.
(3) المفردات للراغب الأصفهاني.(34/168)
يَتَجَلْجَل إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) .
وَكَمَا يَكُونُ الاِخْتِيَال بِاللِّبَاسِ الْفَاخِرِ يَكُونُ أَيْضًا بِفُرُشِ الْبُيُوتِ، وَبِرُكُوبِ السَّيَّارَاتِ الْفَاخِرَةِ، قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِرْخَاءُ السِّتْرِ عَلَى الْبَابِ مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّهُ زِينَةٌ وَتَكَبُّرٌ (2) .
وَرُخِّصَ بِالاِخْتِيَال فِي الْحَرْبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
ج - التَّرَفُّعُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ: كَمَا تَرَفَّعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ وَخَبَّابٍ، وَنَحْوِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، حَيْثُ قَالُوا لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلاَءِ عَنْكَ لَغَشَيْنَاكَ وَحَضَرْنَا مَجْلِسَكَ، فَقَدْ رَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَال الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلاَءِ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَال: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلاَلٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
__________
(1) حديث: " بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 258) ومسلم (3 / 1653) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 359.(34/168)
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
وَيَدْخُل فِي التَّرَفُّعِ عَنِ الْمُجَالَسَةِ التَّرَفُّعُ عَنِ الزِّيَارَةِ، لأَِنَّ مَنْ تَرَفَّعَ عَنْ مُجَالَسَةِ شَخْصٍ تَكَبُّرًا تَرَفَّعَ عَنْ زِيَارَتِهِ (1) .
د - التَّرَفُّعُ عَنِ السَّلاَمِ أَوْ مُصَافَحَةِ مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ مَنْزِلَةً فِي الْمَال أَوِ الْجَاهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، احْتِقَارًا لَهُ.
هـ - أَنْ يَمْشِيَ وَيَمْشِيَ أَتْبَاعُهُ خَلْفَهُ: يُكْرَهُ لِلرَّجُل أَنْ يَمْشِيَ وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ مِنْ جُنْدٍ أَوْ تَلاَمِيذَ أَوْ أَنْصَارٍ يَمْشُونَ خَلْفَهُ، إِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّكَبُّرَ (2) .
و الرُّكُوبُ وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ: يُكْرَهُ لِلرَّجُل الرُّكُوبُ وَمَعَهُ رِجَالُهُ يَمْشُونَ إِذَا أَرَادَ بِهِ التَّكَبُّرَ (3) .
ز - حُبُّهُ الْقِيَامَ لَهُ: وَالْقِيَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الأَْوَّل: قِيَامٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (4) ،
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص232.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 332.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 360.
(4) حديث: " من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 91) من حديث أبي أمامة، وقال: حديث حسن.(34/169)
وَهَذِهِ عَادَةُ الأَْعَاجِمِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ.
الثَّانِي: قِيَامٌ عِنْدَ مَجِيءِ الإِْنْسَانِ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ لاَ يَكَادُونَ يَفْعَلُونَهُ، قَال أَنَسٌ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ - أَيْ: إِلَى الصَّحَابَةِ - مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ (1) .
وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالإِْمَامِ الْعَادِل وَفُضَلاَءِ النَّاسِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الأَْفَاضِل، فَإِذَا تَرَكَهُ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُفْعَل فِي حَقِّهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الإِْهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا، وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لاَ يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامُ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ (2) .
ح - التَّمَيُّزُ فِي الطَّعَامِ: ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُل أَنْ يَأْكُل وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ حَوَاشِيَهُ لِغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا (3) ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُل الْخُبْزَ الْحَوَارِيَّ - أَيْ: الأَْبْيَضَ - وَيُطْعِمَ مَمَالِيكَهُ خَشْكَارَ - أَيْ: الأَْسْمَرَ (4) -
__________
(1) حديث: " لم يكن شخص أحب إليهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 90) وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص230.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 336.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 339.(34/169)
ط - الأَْكْل مُتَّكِئًا: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الأَْكْل مُتَّكِئًا تَكَبُّرًا، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ التَّكَبُّرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَتِهِ، فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ؛ لأَِنَّهُ مِنْ فِعْل الْمُتَكَبِّرِينَ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَرْءِ مَانِعٌ لاَ يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الأَْكْل إِلاَّ مُتَّكِئًا فَيُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَبَاحَهُ الْبَعْضُ الآْخَرُ، وَقَدْ نُقِل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ جَوَازُ الأَْكْل مُتَّكِئًا، بَيْنَمَا يَنْقُل إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تُكْأَةً، وَلَكِنَّهُ جَعَل عِلَّةَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَعْظُمَ بُطُونُهُمْ (1) ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لاَ آكُل مُتَّكِئًا (2) .
ي - لُبْسُ جُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ الْكَاسِرَةِ: يَحْرُمُ لُبْسُ جُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ الْكَاسِرَةِ كَالنُّمُورِ وَالسِّبَاعِ تَكَبُّرًا (3) ، وَإِذَا حَرُمَ لُبْسُهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ فَرْشُهَا تَكَبُّرًا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي يُسْتَقْبَل فِيهَا الضُّيُوفُ، وَلَكِنْ لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْعَل مِنْهَا مُصَلًّى أَوْ مِيثَرَةَ السَّرْجِ (4) .
ك - إِطَالَةُ الثَّوْبِ إِلَى أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ إِطَالَةِ الثَّوْبِ إِلَى أَسْفَل مِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 337، ونيل الأوطار 9 / 44 - 45.
(2) حديث: " إني لا آكل متكئًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 540) من حديث أبي جحيفة.
(3) حاشية ابن القاسم العاصمي على الروض المربع 1 / 515 الطبعة الثالثة 1405هـ.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 333. وفي المصباح: وثُر الشيء - بالضم - وثارةً: لاَنَ وسهل ومنه (مِيْثَرةُ) السرج.(34/170)
الْكَعْبَيْنِ اخْتِيَالاً وَتَكَبُّرًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِبَاحَةِ إِطَالَةِ الثَّوْبِ إِلَى أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ بِسَاقَيْهِ حُمُوشَةٌ (2) - أَيْ: دِقَّةٌ وَرِقَّةٌ - فَلاَ يُكْرَهُ مَا لَمْ يَقْصِدِ التَّدْلِيسَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِطَالَتِهَا إِلَى أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلاَ اخْتِيَالٍ وَلاَ حَاجَةٍ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ (3) .
ل - مَسْحُ الْعَرَقِ وَمَاءِ الْوُضُوءِ بِالْخِرْقَةِ: كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَحْمِل الشَّخْصُ خِرْقَةً خَاصَّةً لِيَمْسَحَ بِهَا عَرَقَهُ أَوْ يُنَشِّفَ بِهَا مَاءَ الْوُضُوءِ عَنْ أَعْضَائِهِ أَوْ يَتَمَخَّطَ بِهَا، إِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّكَبُّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَا التَّكَبُّرَ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ (4) .
عِلاَجُ الْكِبْرِ:
7 - قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: إِنَّ الْكِبْرَ مِنَ
__________
(1) حديث: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 254) ومسلم (3 / 1652) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) شرح منتهى الإرادات للبهوتي 1 / 149 طبع. دار الفكر، والروض المربع 1 / 516.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 585 الطبعة الثالثة، والفتاوى الهندية 5 / 333، ونيل الأوطار 2 / 112، وعون الباري لصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي، طبع. قطر عام 1404هـ.
(4) الهداية شرح بداية المبتدي لعلي المرغيناني 4 / 83 طبع المكتبة الإسلامية، والفتاوى البزازية 6 / 369، والفتاوى الهندية 5 / 333.(34/170)
الْمُهْلِكَاتِ، وَمُدَاوَاتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَكَ فِي مُعَالَجَتِهِ مَقَامَانِ:
الأَْوَّل: فِي اسْتِئْصَال أَصْلِهِ وَقَطْعِ شَجَرَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ، وَيَعْرِفَ رَبَّهُ، فَإِنَّهُ إِنْ عَرَفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، عَلِمَ أَنَّهُ أَذَل مِنْ كُل ذَلِيلٍ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَصْل وُجُودِهِ بَعْدَ الْعَدَمِ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ خَرَجَتْ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْل، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، فَقَدْ صَارَ شَيْئًا مَذْكُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُحِسُّ وَلاَ يَتَحَرَّكُ، فَقَدِ ابْتَدَأَ بِمَوْتِهِ قَبْل حَيَاتِهِ، وَبِضَعْفِهِ قَبْل قُوَّتِهِ، وَبِفَقْرِهِ قَبْل غِنَاهُ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيل يَسَّرَهُ} وَبِقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فَأَحْيَاهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَحْسَنَ تَصْوِيرَهُ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الدُّنْيَا فَأَشْبَعَهُ وَأَرْوَاهُ، وَكَسَاهُ وَهَدَاهُ وَقَوَّاهُ، فَمَنْ هَذِهِ بِدَايَتُهُ فَأَيْ وَجْهٍ لِكِبْرِهِ وَفَخْرِهِ؟ ،،.
عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَامَ لَهُ الْوُجُودُ عَلَى اخْتِيَارِهِ لَكَانَ لِطُغْيَانِهِ طَرِيقٌ، بَل قَدْ سَلِّطَ عَلَيْهِ الأَْخْلاَطَ الْمُتَضَادَّةَ، وَالأَْمْرَاضَ الْهَائِلَةَ، بَيْنَمَا بُنْيَانُهُ قَدْ تَمَّ، إِذْ هُوَ قَدْ هَوَى وَتَهَدَّمَ، لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ(34/171)
ضُرًّا وَلاَ نَفْعًا، بَيْنَمَا هُوَ يَذْكُرُ الشَّيْءَ فَيَنْسَاهُ، وَيَسْتَلِذُّ الشَّيْءَ فَيُرْدِيهِ، وَيَرُومُ الشَّيْءَ فَلاَ يَنَالُهُ، ثُمَّ لاَ يَأْمَنُ أَنْ يُسْلَبَ حَيَاتَهُ بَغْتَةً.
هَذَا أَوْسَطُ حَالِهِ، وَذَاكَ أَوَّل أَمْرِهِ، وَأَمَّا آخِرُ أَمْرِهِ: فَالْمَوْتُ الَّذِي يُعِيدُهُ جَمَادًا كَمَا كَانَ، ثُمَّ يُلْقَى فِي التُّرَابِ فَيَصِيرُ جِيفَةً مُنْتِنَةً، وَتَبْلَى أَعْضَاؤُهُ، وَتَنْخُرُ عِظَامُهُ، وَيَأْكُل الدُّودُ أَجْزَاءَهُ، وَيَعُودُ تُرَابًا يُعْمَل مِنْهُ الْكِيزَانُ، وَيُعْمَرُ مِنْهُ الْبُنْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَ طُول الْبِلَى تُجْمَعُ أَجْزَاؤُهُ الْمُتَفَرِّقَةُ وَيُسَاقُ إِلَى الْحِسَابِ.
وَالثَّانِي: مَنِ اعْتَرَاهُ الْكِبْرُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَعَزُّزٌ بِكَمَال غَيْرِهِ، ثُمَّ يَعْلَمْ أَبَاهُ وَجَدَّهُ، فَإِنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَبَاهُ الْبَعِيدَ تُرَابٌ.
وَمَنِ اعْتَرَاهُ الْكِبْرُ بِالْجَمَال فَلْيَنْظُرْ إِلَى بَاطِنِهِ نَظَرَ الْعُقَلاَءِ، وَلاَ يَنْظُرْ إِلَى ظَاهِرِهِ نَظَرَ الْبَهَائِمِ.
وَمَنِ اعْتَرَاهُ مِنْ جِهَةِ الْقُوَّةِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ آلَمَهُ عِرْقٌ عَادَ أَعْجَزَ مِنْ كُل عَاجِزٍ، وَإِنْ شَوْكَةٌ دَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ لأََعْجَزَتْهُ، وَبَقَّةٌ لَوْ دَخَلَتْ فِي أُذُنِهِ لأََقْلَقَتْهُ.
وَمَنْ تَكَبَّرَ بِالْغِنَى، فَإِذَا تَأَمَّل خَلْقًا مِنْ الْيَهُودِ وَجَدَهُمْ أَغْنَى مِنْهُ، فَأُفٍّ لِشَرَفٍ تَسْبِقُهُ بِهِ الْيَهُودُ، وَيَسْتَلِبُهُ السَّارِقُ فِي لَحْظَةٍ، فَيَعُودُ صَاحِبُهُ ذَلِيلاً.(34/171)
وَمَنْ تَكَبَّرَ بِسَبَبِ الْعِلْمِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى الْعَالِمِ آكَدُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَى الْجَاهِل، وَلْيَتَفَكَّرْ فِي الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِهِ، فَإِنَّ خَطَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ خَطَرِ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ قَدْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ.
وَلْيَعْلَمْ أَيْضًا: أَنَّ الْكِبْرَ لاَ يَلِيقُ إِلاَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ إِذَا تَكَبَّرَ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ اللَّهِ بَغِيضًا عِنْدَهُ، وَقَدْ أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ، وَكَذَلِكَ كُل سَبَبٍ يُعَالِجُهُ بِنَقِيضِهِ، وَيَسْتَعْمِل التَّوَاضُعَ (1) .
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين 251 وما بعدها.(34/172)
كِتَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِتَابُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَتَبَ، يُقَال: كَتَبَ الشَّيْءَ يَكْتُبُهُ كَتْبًا وَكِتَابًا وَكِتَابَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ مِنْهَا:
أ - أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا كُتِبَ مَجْمُوعًا، قَالَهُ الأَْزْهَرِيُّ.
ب - يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الشَّخْصُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
ج - يُطْلَقُ عَلَى الْمَكْتُوبِ وَعَلَى مَا كُتِبَ فِيهِ.
د - يُطْلَقُ عَلَى الْمُنَزَّل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَشْمَل الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيل.
هـ - يُطْلَقُ عَلَى الصُّحُفِ الْمَجْمُوعَةِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يَشْتَمِل عَلَى الْمَسَائِل سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً مِنْ فَنٍّ أَوْ فُنُونٍ (2) .
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، قَال تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) الكليات للكفوي 2 / 386.(34/172)
تِبْيَانًا لِكُل شَيْءٍ} ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْمَعْنَى فَيَقُولُونَ فِي الاِسْتِدْلاَل: وَدَلِيلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ (1) ، وَالْكِتَابُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مُخْتَصَرِ الإِْمَامِ الْقُدُورِيِّ.
وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى غَائِبٍ بِلاَ حُكْمٍ لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ وَيُسَمَّى كِتَابَ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّجِل:
2 - مِنْ مَعَانِي السِّجِل لُغَةً: كِتَابُ الْعَهْدِ وَنَحْوُهُ، وَكِتَابُ الْقَاضِي، وَالْجَمْعُ سِجِلاَّتٌ، وَأَسْجَلْتُ لِلرَّجُل إِسْجَالاً: كَتَبْتُ لَهُ كِتَابًا، وَسَجَّل الْقَاضِي: قَضَى وَحَكَمَ وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي السِّجِل (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ السِّجِل عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الَّذِي فِيهِ حُكْمُهُ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ وَفِي عُرْفِنَا: كِتَابٌ كَبِيرٌ تُضْبَطُ فِيهِ وَقَائِعُ النَّاسِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالسِّجِل أَخَصُّ مِنَ الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كِتَابٍ مَخْصُوصٍ (4) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط 1 / 441.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 351، ومغني المحتاج 4 / 389.(34/173)
ب - الدَّفْتَرُ:
3 - الدَّفْتَرُ لُغَةً: جَرِيدَةُ الْحِسَابِ، وَالدَّفْتَرُ جَمَاعَةُ الصُّحُفِ الْمَضْمُومَةِ، وَالدَّفْتَرُ وَاحِدُ الدَّفَاتِرِ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ، قَال ابْنُ دُرَيْدٍ: وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّفْتَرِ وَالْكِتَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ وَالدَّفْتَرُ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكِتَابَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَلاَ يُفِيدُ الدَّفْتَرُ ذَلِكَ، تَقُول: عِنْدِي دَفْتَرٌ بَيَاضٌ وَلاَ تَقُول: عِنْدِي كِتَابٌ بَيَاضٌ (3) .
ج - الرِّسَالَةُ:
4 - فِي اللُّغَةِ: رِسَالَةٌ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - اسْمٌ مِنَ الرَّسَالَةِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - يُقَال رَسِل رَسَلاً وَرِسَالَةً مِنْ بَابِ تَعِبَ. يُقَال أَرْسَلْتُ رَسُولاً: بَعَثْتُهُ بِرِسَالَةٍ يُؤَدِّيهَا (4) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهَا تَارَةً بِمَعْنَى الرَّسُول (5) ، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْكِتَابِ (6) .
وَعَلَى هَذَا فَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ عُمُومٌ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والمدونة 4 / 421.
(3) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص241.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 475، والمحلي على المنهاج 4 / 226.
(6) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 428.(34/173)
وَخُصُوصٌ نِسْبِيٌّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ مِنْ أَحْكَامٍ:
تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ اسْتِعْمَالاَتِهِ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الْكِتَابُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ: أَيْ إِرْسَال كِتَابٍ إِلَى الْغَيْرِ بِشَأْنِ أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ أَوْ طَلَبِ شَيْءٍ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا:
كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ لَدَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الشُّرُوطِ وَاللُّزُومِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 49، 52، 53) .
كِتَابُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بِالطَّلاَقِ:
6 - إِذَا كَتَبَ الزَّوْجُ إِلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا بِطَلاَقِهَا، فَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهَا: يَا فُلاَنَةُ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كَتَبَ: هِيَ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي الْحَال سَوَاءٌ وَصَل إِلَيْهَا الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَصِل، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 109، والشرح الكبير على حاشية الدسوقي 2 / 384، والخرشي 4 / 49، ومغني المحتاج 3 / 284 - 285، وأسنى المطالب 3 / 277، والمغني 7 / 241.(34/174)
كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ نَاوِيًا الطَّلاَقَ حِينَ الْكِتَابَةِ وَقَعَ الطَّلاَقُ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ فِي إِفْهَامِ الْمُرَادِ كَالْعِبَارَةِ وَقَدِ اقْتَرَنَتْ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ وَالْحِكَايَةَ وَتَجْرِبَةَ الْقَلَمِ وَالْمِدَادِ وَغَيْرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ مَا كَتَبَهُ حَال الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَصَرِيحٌ فَإِنْ قَال قَرَأْتُهُ حَاكِيًا مَا كَتَبْتُهُ بِلاَ نِيَّةِ طَلاَقٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَتَبَ مُسْتَشِيرًا أَوْ مُتَرَدِّدًا وَأَخْرَجَ الْكِتَابَ عَازِمًا عَلَى الطَّلاَقِ أَوْ لاَ نِيَّةَ لَهُ وَقَعَ الطَّلاَقُ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلاَقَ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلاَقَ غَيْرَ عَازِمٍ عَلَيْهِ، بَل كَتَبَهُ مُتَرَدِّدًا أَوْ مُسْتَشِيرًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ، أَوْ أَخْرَجَهُ مُتَرَدِّدًا فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِلاَّ إِذَا وَصَل الْكِتَابُ إِلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يَصِل لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ مُعَلَّقًا فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى شَرْطِ الْوُصُول إِلَيْهَا، بِأَنْ كَتَبَ: إِذَا وَصَل كِتَابِي إِلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ حَتَّى يَصِل إِلَيْهَا الْكِتَابُ؛ لأَِنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُول فَلاَ يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ (2) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 384، والخرشي 4 / 49.
(2) بداع الصنائع 3 / 109، ومغني المحتاج 3 / 285، والمغني 7 / 241.(34/174)
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ (إِنْ) ؛ لأَِنَّ (إِنْ) صَرِيحَةٌ فِي الشَّرْطِ فَلاَ تَطْلُقُ إِلاَّ عِنْدَ وُصُول الْكِتَابِ إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ (إِذَا) فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ، فَذَهَبَ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ وَالْخَرَشِيُّ إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ فِي الْحَال مِثْل قَوْلِهِ لَهَا فِي كِتَابِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ (إِذَا) لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ فَيَنْجُزُ الطَّلاَقُ كَمَنْ أَجَّل الطَّلاَقَ بِمُسْتَقْبَلٍ.
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنْ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ: إِذَا وَصَل لَكَ كِتَابِي فَفِي تَوَقُّفِهِ عَلَى الْوُصُول خِلاَفٌ، وَقَوَّى الْقَوْل بِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْوُصُول، لِتَضَمُّنِ (إِذَا) مَعْنَى الشَّرْطِ (1) .
وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي مِنَحِ الْجَلِيل أَنَّ عَدَمَ التَّنْجِيزِ وَتَوَقُّفَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى وُصُول الْكِتَابِ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ (2) .
مَحْوُ مَا فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ انْمَحَى مَا فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْوُصُول أَوِ انْطَمَسَ مَا فِيهِ لِعَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ قِرَاءَةُ مَا فِيهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ وَإِنْ وَصَل الْكِتَابُ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ وُصُول
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 384، والخرشي 4 / 49.
(2) منح الجليل 2 / 238.(34/175)
الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِيهِ الْكِتَابَةُ (1) .
وَإِنْ ذَهَبَ مَوْضِعُ الطَّلاَقِ فَقَطْ وَانْمَحَقَ وَوَصَل بَاقِيهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهَا جَمِيعُ الْكِتَابِ وَلاَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ مِنْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ مَحَا ذِكْرَ الطَّلاَقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلاَمٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً وَقَعَ الطَّلاَقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُول الْكِتَابِ إِلَيْهَا (3) .
وَإِنِ انْمَحَى مَا فِي الْكِتَابِ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلاَقِ، أَوْ تَخَرَّقَ بَعْضُ مَا فِيهِ الْكِتَابَةُ سِوَى مَا فِيهِ ذِكْرُ الطَّلاَقِ، وَمِثْل ذَلِكَ: مَا لَوْ ذَهَبَتْ سَوَابِقُهُ وَلَوَاحِقُهُ كَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَبَقِيَتْ مَقَاصِدُهُ، وَوَصَل الْكِتَابُ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ لِوُصُول الْمَقْصُودِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا مَحَا مَا سِوَى كِتَابَةِ الطَّلاَقِ وَأَنْفَذَهُ فَوَصَل إِلَيْهَا لاَ يَقَعُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمُجَرَّدِ الطَّلاَقِ لاَ تَكُونُ كِتَابًا، ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 109، ومغني المحتاج 3 / 285، والمغني 7 / 241.
(2) مغني المحتاج 3 / 285، والمغني 7 / 241.
(3) بدائع الصنائع 3 / 109.
(4) مغني المحتاج 3 / 285، وأسنى المطالب 3 / 278، والمغني 7 / 241.(34/175)
ثُمَّ قَال: وَفِيهِ نَظَرٌ (1) .
8 - وَلِلْمَذَاهِبِ فُرُوعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِتَابِ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: كَتَبَ فِي قِرْطَاسٍ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ نَسَخَهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ، أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِنَسْخِهِ وَلَمْ يُمْلِهِ عَلَيْهِ، فَأَتَاهَا الْكِتَابَانِ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ قَضَاءً، إِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا كِتَابَاهُ أَوْ بَرْهَنَتْ، وَفِي الدِّيَانَةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِأَيِّهِمَا أَتَاهَا وَيَبْطُل الآْخَرُ.
وَلَوِ اسْتَكْتَبَ مِنْ آخَرَ كِتَابًا بِطَلاَقِهَا وَقَرَأَهُ عَلَى الزَّوْجِ، فَأَخَذَهُ الزَّوْجُ وَخَتَمَهُ وَعَنْوَنَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهَا، فَأَتَاهَا وَقَعَ إِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ كِتَابُهُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ قَال لِلرَّجُل ابْعَثْ بِهِ إِلَيْهَا، أَوْ قَال لَهُ: اكْتُبْ نُسْخَةً وَابْعَثْ بِهَا إِلَيْهَا.
وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ، لَكِنَّهُ وَصَفَ الأَْمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لاَ تَطْلُقُ قَضَاءً وَلاَ دِيَانَةً. وَكَذَا كُل كِتَابٍ لَمْ يَكْتُبْهُ بِخَطِّهِ وَلَمْ يُمْلِهِ بِنَفْسِهِ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ مَا لَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ (2) .
وَمَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى زَيْنَبَ ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى امْرَأَةً تُدْعَى عَائِشَةَ، فَبَلَغَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 404 نشر دار إحياء التراث.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 429.(34/176)
زَيْنَبَ فَخَافَ مِنْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهَا: كُل امْرَأَةٍ لِي غَيْرِكِ وَغَيْرِ عَائِشَةَ طَالِقٌ، ثُمَّ مَحَا قَوْلَهُ: وَغَيْرِ عَائِشَةَ، وَبَعَثَ الْكِتَابَ إِلَى زَيْنَبَ لَمْ تَطْلُقْ عَائِشَةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى كِتَابَةِ مَا مَحَاهُ؛ لِئَلاَّ يَظْهَرَ الْحَال، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِطَلاَقِ عَائِشَةَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ بِطَلاَقِهَا ثُمَّ أَنْكَرَ الْكِتَابَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ بِيَدِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ الطَّلاَقَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إِنْ كَانَ مَوْصُولاً بِكِتَابَتِهِ لاَ تَطْلُقُ، وَإِنْ كَتَبَ الطَّلاَقَ ثُمَّ فَتَرَ فَتْرَةً، ثُمَّ كَتَبَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ؛ لأَِنَّ الْمَكْتُوبَ إِلَى الْغَائِبِ كَالْمَلْفُوظِ، كَذَا فِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لِلْخَاصِّيِّ وَالْخُلاَصَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ: إِذَا بَلَغَكِ نِصْفُ كِتَابِي هَذَا، فَبَلَغَهَا كُلُّهُ طَلُقَتْ، فَإِنِ ادَّعَتْ وُصُول كِتَابِهِ بِالطَّلاَقِ، فَأَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ خَطُّهُ لَمْ تُسْمَعْ إِلاَّ بِرُؤْيَةِ الشَّاهِدِ بِكِتَابِهِ وَحِفْظِهِ عِنْدَهُ لِوَقْتِ الشَّهَادَةِ.
وَإِنْ كَتَبَ: إِذَا قَرَأْتِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 429.
(2) فتح القدير 3 / 404 نشر دار إحياء التراث.(34/176)
وَهِيَ قَارِئَةٌ، فَقَرَأَتْهُ طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ تَقْتَضِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اشْتِرَاطُ اللَّفْظِ بِهِ إِذِ الْقِرَاءَةُ تُعْطِي ذَلِكَ، لَكِنْ نَقَل الإِْمَامُ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ طَالَعَتِ الْكِتَابَ وَفَهِمَتْ مَا فِيهِ طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَتَلَفَّظْ بِشَيْءٍ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِيَ: اشْتِرَاطُ قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْكِتَابِ، وَالظَّاهِرُ الاِكْتِفَاءُ بِقِرَاءَةِ الْمَقَاصِدِ كَمَا بَحَثَهُ الأَْذْرَعِيُّ فَحُكْمُ قِرَاءَةِ بَعْضِ الْكِتَابِ كَوُصُول بَعْضِهِ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ فَلاَ تَطْلُقُ فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ قِرَاءَتِهَا مَعَ إِمْكَانِهَا الْقِرَاءَةَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهَا تَطْلُقُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِطْلاَعُهَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِذَا كَانَتْ لاَ تَعْرِفُ الْقِرَاءَةَ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَقُرِئَ عَلَيْهَا طَلُقَتْ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي حَقِّ الأُْمِّيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى الاِطِّلاَعِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلاَفِ الْقَارِئَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ حَالَهَا فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ عَلَى الأَْقْرَبِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا.
وَلَوْ عَلَّقَ بِوُصُول الْكِتَابِ، ثُمَّ عَلَّقَ بِوُصُول الطَّلاَقِ، وَوَصَل، طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ: إِذَا أَتَاكِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 285.(34/177)
طَلاَقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهَا: إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ لِوُجُودِ الصِّفَتَيْنِ فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ، فَإِنْ قَال: أَرَدْتُ إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ بِذَلِكَ الطَّلاَقِ الَّذِي عَلَّقْتُهُ دِينَ، وَهَل يُقْبَل فِي الْحُكْمِ؟ يَخْرُجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَإِذَا كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ اسْتَمَدَّ (أَيْ أَخَذَ الْمِدَادَ مِنَ الدَّوَاةِ بِالْقَلَمِ) فَكَتَبَ: إِذَا أَتَاكِ كِتَابِي، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَانَ فِي حَال كِتَابَتِهِ لِلطَّلاَقِ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ فِي الْحَال؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّلاَقَ فِي الْحَال، بَل نَوَاهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى الطَّلاَقَ فِي الْحَال غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ طَلُقَتْ لِلْحَال، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقُلْنَا: إِنَّ الْمُطْلَقَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ اسْتِمْدَادًا لِحَاجَةٍ أَوْ عَادَةٍ، لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ النَّفَسُ أَوْ شَيْءٌ يُسْكِتُهُ فَسَكَتَ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِشَرْطٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى.
وَإِنِ اسْتَمَدَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلاَ عَادَةٍ وَقَعَ الطَّلاَقُ، كَمَا لَوْ سَكَتَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ شَرْطًا.
وَإِنْ قَال: إِنَّنِي كَتَبْتُهُ مُرِيدًا لِلشَّرْطِ فَقِيَاسُ قَوْل أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ قَبْل الشَّرْطِ، إِلاَّ
__________
(1) المغني 7 / 241.(34/177)
أَنَّهُ يَدِينُ وَهَل يُقْبَل فِي الْحُكْمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ الشَّهَادَةَ لإِِثْبَاتِ كِتَابِ الطَّلاَقِ، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: وَلاَ يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالطَّلاَقِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي امْرَأَةٍ أَتَاهَا كِتَابُ زَوْجِهَا بِخَطِّهِ وَخَاتَمِهِ بِالطَّلاَقِ: لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا شُهُودٌ عُدُولٌ، قِيل لَهُ: فَإِنْ شَهِدَ حَامِل الْكِتَابِ؟ قَال: لاَ، إِلاَّ شَاهِدَانِ، فَلَمْ يُقْبَل قَوْل حَامِل الْكِتَابِ وَحْدَهُ حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ الْكُتُبَ الْمُثْبِتَةَ لِلْحُقُوقِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَكِتَابِ الْقَاضِي، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكِتَابَ يَثْبُتُ عِنْدَهَا بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ أَثَرَهُ فِي حَقِّهَا فِي الْعِدَّةِ وَجَوَازِ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا.
وَهَذَا مَعْنًى يُخْتَصُّ بِهِ، لاَ يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ عَلَى الْغَيْرِ، فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِسَمَاعِهَا لِلشَّهَادَةِ.
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا خَطُّ فُلاَنٍ لَمْ يُقْبَل؛ لأَِنَّ الْخَطَّ يُشَبَّهُ بِهِ وَيُزَوَّرُ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْحَاكِمُ، وَلَوِ اكْتُفِيَ بِمَعْرِفَةِ الْخَطِّ لاَكْتُفِيَ بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يُشَاهِدَاهُ
__________
(1) المغني 7 / 240.(34/178)
يَكْتُبُهُ، ثُمَّ لاَ يَغِيبُ عَنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ فَهَذَا أَوْلَى، وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُ الْكِتَابِ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِيبُ فِيهَا، وَقَدْ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهَا، بَل مَتَى أَتَاهَا بِكِتَابٍ وَقَرَأَهُ عَلَيْهَا وَقَال: هَذَا كِتَابِي كَانَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ (1) .
الْكِتَابُ الَّذِي يُعْتَبَرُ إِيجَابًا أَوْ قَبُولاً فِي الْعُقُودِ:
9 - جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا فِي بَابِ الْبَيْعِ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الإِْرْسَال، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصُورَةُ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكْتُبَ: أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي مِنْكَ بِكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ قَال: قَبِلْتُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ انْعَقَدَ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 13) .
رَدُّ جَوَابِ الْكِتَابِ:
10 - رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: إِنِّي لأََرَى لِرَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلاَمِ، قَال
__________
(1) المغني 7 / 241، 242.
(2) فتح القدير 5 / 461 - 462 نشر دار إحياء التراث العربي.(34/178)
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي مَوْقُوفًا، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ الْقَوْل بِهِ اسْتِحْبَابًا، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْوُجُوبِ مَا فِي الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَرَدِّ جَوَابِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إِلَى سُوءِ ظَنٍّ وَإِيقَاعِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ الْوُجُوبُ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ رَدِّ جَوَابِ مَا قَصَدَهُ الْكَاتِبُ، وَإِلاَّ كَانَ الرَّدُّ كَعَدَمِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وَرَدَ عَلَى إِنْسَانٍ كِتَابُ التَّحِيَّةِ أَوْ نَحْوُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ الْجَوَابَ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَ مِنَ الْغَائِبِ كَالسَّلاَمِ مِنَ الْحَاضِرِ (1) .
كَيْفِيَّةُ الْبَدْءِ فِي الْكِتَابِ:
11 - يُسْتَحَبُّ ابْتِدَاءُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اقْتِدَاءً بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أَشْرَفُهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ لِمَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ أَبُو بَكْرٍ التُّونِسِيُّ مِنْ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ كُل مِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَشْهَدُ لَهُ خَبَرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَاتِحَةُ كُل كِتَابٍ (2) ، وَعَمَلاً بِخَبَرِ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ
__________
(1) الآداب الشرعية 1 / 385، والقرطبي 13 / 193.
(2) حديث: " بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب ". أورده النفراوي في الفواكه الدواني (1 / 2) ولم يعزه إلى أي مصدر ولم نهتد إلى من أخرجه.(34/179)
فَهُوَ أَقْطَعُ (1) ، أَيْ قَلِيل الْبَرَكَةِ أَوْ مَقْطُوعُهَا (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ (3) : اتَّفَقُوا عَلَى كَتْبِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّل الْكُتُبِ وَالرَّسَائِل وَعَلَى خَتْمِهَا؛ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيبَةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الرَّسْمُ، وَبِهِ جَاءَ الأَْثَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا كِتَابٍ لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا فَهُوَ أَغْلَفُ.
وَبَعْدَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْكِتَابِ الْمُرْسَل إِلَى الْغَيْرِ يُكْتَبُ إِلَى فُلاَنٍ، وَلاَ يُكْتَبُ لِفُلاَنٍ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: قَال أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لأَِبِي جَعْفَرٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَال: نَكْتُبُ: إِلَى أَبِي فُلاَنٍ وَلاَ نَكْتُبُ: لأَِبِي فُلاَنٍ، قَال: لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إِذَا كَتَبَ لأَِبِي فُلاَنٍ، وَقَال الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عِنْوَانَ الْكِتَابِ: إِلَى أَبِي فُلاَنٍ وَقَال: هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ يُكْتَبَ لأَِبِي فُلاَنٍ (4) .
قَال أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الإِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ
__________
(1) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع ". أخرجه السبكي في طبقات الشافعية (1 / 12) من حديث أبي هريرة، وذكر الخطيب في تاريخ بغداد (5 / 77) تضعيف أحد رواته.
(2) الفواكه الدواني 2 / 465، 1 / 2.
(3) القرطبي 13 / 193 وما بعدها.
(4) الآداب الشرعية 1 / 386، 387.(34/179)
وَكَتْبُهُ مِنْ فُلاَنٍ إِلَى فُلاَنٍ فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِنْوَانِ وَصَدْرِ الْكِتَابِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ، كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ قَال أَبُو جَعْفَرٍ: وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُول لِغِلْمَانِهِ وَوَلَدِهِ: إِذَا كَتَبْتُمْ إِلَى فُلاَنٍ فَلاَ تَبْدَءُوا بِي وَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى الأُْمَرَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ إِلاَّ إِلَى وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، وَإِمَامٍ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ (1) ، وَقَال الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ فَيَبْدَءُونَ بِأَنْفُسِهِمْ (2) .
وَفِي الْقُرْطُبِيِّ قَال ابْنُ سِيرِينَ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَهْل فَارِسَ إِذَا كَتَبُوا بَدَءُوا بِعُظَمَائِهِمْ، فَلاَ يَبْدَأُ الرَّجُل إِلاَّ بِنَفْسِهِ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه. . . ". أخرجه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1 / 389) ولم يعزه إلى أي مصدر؛ ولم نهتد إلى من أخرجه بتمامه، وقوله: " إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه " أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (8 / 99) وقال: " فيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك ".
(2) الآداب الشرعية 1 / 388 - 390، والقرطبي 13 / 192.
(3) حديث: " إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم. . . ". أورده القرطبي في تفسيره (13 / 192) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إلى من أخرجه، وأورد ابن عراق في تنزيه الشريعة (2 / 295) بلفظ: " إن العجم يبدءون بكبارهم إذا كتبوا إليهم فإذا كتب أحدكم إلى أخيه فليبدأ بنفسه " وعزاه إلى العقيلي في الضعفاء، وقال: فيه محمد بن عبد الرحمن القشيري مجهول، وحديثه منكر ولا يتابع عليه.(34/180)
قَال أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ: وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ جَازَ؛ لأَِنَّ الأُْمَّةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ وَفَعَلُوهُ لِمَصْلَحَةٍ رَأَوْا فِي ذَلِكَ، أَوْ نَسْخِ مَا كَانَ مِنْ قَبْل.
فَالأَْحْسَنُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ ثُمَّ بِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ الْبِدَايَةَ بِنَفْسِهِ تُعَدُّ مِنْهُ اسْتِخْفَافًا بِالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غُلاَمٍ مِنْ غِلْمَانِهِ (1) .
ثَانِيًا: الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَالْعَهْدِ:
12 - أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَوْثِيقِ الْمُعَامَلاَتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ، وَقَدْ وَثَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاعَ وَكَتَبَ وَمِنْ ذَلِكَ: هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لاَ دَاءَ وَلاَ غَائِلَةَ وَلاَ خِبْثَةَ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ (3) .
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ (4) .
__________
(1) القرطبي 13 / 192 - 193.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) حديث: " كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا ما اشترى العداء بن خالد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 511) وحسنه.
(4) المبسوط 30 / 168 - 169، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 27، والبهجة على التحفة 1 / 11.(34/180)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَوْثِيقٌ ف 12) .
ثَالِثًا: الْكِتَابُ بِمَعْنَى كُتُبِ الْعِلْمِ:
13 - يَأْتِي الْكِتَابُ بِمَعْنَى كُتُبِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ شَرْعِيَّةً أَمْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بِقَوْلِهِ: الْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يَشْتَمِل عَلَى الْمَسَائِل سَوَاءٌ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً مِنْ فَنٍّ أَوْ فُنُونٍ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ (1) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
الاِسْتِنْجَاءُ بِالْكُتُبِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمُحْتَرَمٍ كَالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَكُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ؛ لِحُرْمَةِ الْحُرُوفِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الشَّرِيعَةِ وَالاِسْتِخْفَافِ بِحُرْمَتِهَا (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكُتُبِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَمَثَّلُوا لَهَا بِكُتُبِ السَّحَرِ وَالْفَلْسَفَةِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل إِذَا عُلِمَ تَبَدُّلُهُمَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهَذِهِ الْكُتُبِ لِحُرْمَةِ الْحُرُوفِ - أَيْ لِشَرَفِهَا -
__________
(1) الكليات للكفوي 2 / 386، وأسنى المطالب 1 / 4.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 227، وحاشية الدسوقي 1 / 113، والحطاب 1 / 287، ونهاية المحتاج 1 / 132، وكشاف القناع 1 / 69، والمغني 1 / 158.(34/181)
قَال إِبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ: مَحَل كَوْنِ الْحُرُوفِ لَهَا حُرْمَةٌ إِذَا كَانَتْ مَكْتُوبَةً بِالْعَرَبِيِّ، وَإِلاَّ فَلاَ حُرْمَةَ لَهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ بِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَال عَلِيٌّ الأََجْهُورِيُّ: الْحُرُوفُ لَهَا حُرْمَةٌ سَوَاءٌ كُتِبَتْ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ بِغَيْرِهِ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِجْمَارُ بِالْمَكْتُوبِ وَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ بَاطِلاً كَالسِّحْرِ؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ لِلْحُرُوفِ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كُتِبَتْ فِي أَثْنَاءِ مَا تَجِبُ إِهَانَتُهُ كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل بَعْدَ تَحْرِيفِهِمَا، فَيَجُوزُ إِحْرَاقُهَا وَإِتْلاَفُهَا، وَلاَ يَجُوزُ إِهَانَتُهَا؛ لأَِنَّ الاِسْتِنْجَاءَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ إِهَانَةٌ لِمَكَانِ مَا فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَإِنَّ حُرْمَةَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ تُبَدَّل عَلَى وَجْهٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْتَرَمِ مِنَ الْكُتُبِ كَكُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَكَذَا التَّوْرَاةُ وَالإِْنْجِيل إِذَا عُلِمَ تَبَدُّلُهُمَا وَخُلُوُّهُمَا عَنِ اسْمٍ مُعَظَّمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ (3) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: نَقَلُوا عِنْدَنَا أَنَّ لِلْحُرُوفِ حُرْمَةً وَلَوْ مُقَطَّعَةً، وَذَكَرَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ قُرْآنٌ أُنْزِلَتْ عَلَى هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُفَادُهُ الْحُرْمَةُ بِالْمَكْتُوبِ مُطْلَقًا (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 113.
(2) الحطاب 1 / 287.
(3) نهاية المحتاج 1 / 132.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 227.(34/181)
مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَبِالنِّسْبَةِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَمَسَّهَا غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُسَمَّى مُصْحَفًا عُرْفًا؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لاَ تِلاَوَتُهُ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا بِالْمَسِّ كَمَا قَال ابْنُ مَرْزُوقٍ.
وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَنْعِ مَسِّ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَال فِي السِّرَاجِ عَنِ الإِْيضَاحِ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ مَوْضِعِ الْقُرْآنِ مِنْهَا، أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ فِيهَا ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِهَا، وَالثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ فِي التَّفْسِيرِ دُونَ غَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقَوْل الثَّالِثُ هُوَ الأَْظْهَرُ وَالأَْحْوَطُ لِظُهُورِ الْفَرْقِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ لاَ يَجُوزُ الْمَسُّ وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ جَازَ مَسُّهُ.
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 119، وحاشية الدسوقي 1 / 125، والشرح الصغير 1 / 151، ومغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 135.(34/182)
16 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي مَسِّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ - غَيْرِ الْقُرْآنِ - كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ.
فَأَجَازَ مَسَّهَا لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّهَا وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُبَدَّلَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنْ ظَنَّ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ (1) .
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: قَال الشَّيْخُ إِسْمَاعِيل: وَفِي الْمُبْتَغَى. وَلاَ يَجُوزُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ. وَعَلَّل بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ ذَلِكَ بِاشْتِرَاكِ سَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فِي وُجُوبِ التَّعْظِيمِ، لَكِنَّهُ قَال: نَعَمْ، يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا لَمْ يُبَدَّل.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسُّ، فَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسِّ، قَال فِي النَّهْرِ: وقَوْله تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (2) ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِلْقُرْآنِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْمَنْعِ بِهِ (3) .
17 - وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 125، ومغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 135.
(2) سورة الواقعة / 79.
(3) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 1 / 116 - 117.(34/182)
غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالأُْصُول وَالرَّسَائِل الَّتِي فِيهَا قُرْآنٌ.
فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّهَا وَيَحْمِلَهَا وَلَوْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، بِدَلِيل: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى هِرَقْل كِتَابًا وَفِيهِ آيَةٌ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَى مِثْل ذَلِكَ اسْمُ مُصْحَفٍ وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.
وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ الأَْحَادِيثِ وَالْفِقْهِ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ ابْنِ عَابِدِينَ الْقَوْل بِقَصْرِ الْكَرَاهَةِ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحْدَهَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ التَّطَهُّرُ لِحَمْل كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَسِّهَا (2) .
تَوَسُّدُ الْكُتُبِ وَالاِتِّكَاءُ عَلَيْهَا:
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمُصْحَفَ تَحْتَ رَأْسِهِ إِلاَّ لِلْحِفْظِ أَيْ حِفْظِهِ مِنْ سَارِقٍ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتابًا فيه آية ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 32) من حديث أبي سفيان.
(2) بدائع الصنائع 1 / 33 - 34، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 118، والخرشي وحاشية العدوي عليه 1 / 160، وأسنى المطالب 1 / 61، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135.(34/183)
وَنَحْوِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَل التَّفْسِيرُ وَالْكُتُبُ الشَّرْعِيَّةُ كَذَلِكَ؟ أَقُول: الظَّاهِرُ نَعَمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ تَوَسُّدُ الْقُرْآنِ وَإِنْ خَافَ سَرِقَتَهُ، نَعَمْ، إِنْ خَافَ عَلَى الْمُصْحَفِ مِنْ تَلَفٍ نَحْوِ حَرْقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ كَافِرٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّدَهُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ تَوَسُّدُ كُتُبِ عِلْمٍ مُحْتَرَمٍ إِلاَّ لِخَوْفٍ مِنْ نَحْوِ سَرِقَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَسُّدُهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ وَالْوَزْنُ بِهِ وَالاِتِّكَاءُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ ابْتِذَالٌ لَهُ، قَال فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ التَّحْرِيمَ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ، وَبِذَلِكَ قَال ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، لَكِنْ جَاءَ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُكْرَهُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ.
أَمَّا كُتُبُ الْعِلْمِ فَقَدْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ حَرُمَ تَوَسُّدُهَا وَالْوَزْنُ بِهَا وَالاِتِّكَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قُرْآنٌ كُرِهَ ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَرِقَةً فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَوَسَّدَهَا لِلْحَاجَةِ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ وَقَدْ سَأَلَهُ: أَيَضَعُ الرَّجُل الْكُتُبَ تَحْتَ رَأْسِهِ؟ قَال: أَيُّ كُتُبٍ؟ قُلْتُ: كُتُبُ الْحَدِيثِ،
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 619.
(2) مغني المحتاج 1 / 38.(34/183)
قَال: إِذَا خَافَ أَنْ تُسْرَقَ فَلاَ بَأْسَ، وَأَمَّا أَنْ تُتَّخَذَ وِسَادَةً فَلاَ (1) .
كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْكُتُبِ فَوْقَ بَعْضِهَا:
19 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ كَيْفِيَّةَ تَرْتِيبِ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ الأَْوْلَوِيَّةُ عِنْدَ وَضْعِهَا فَوْقَ بَعْضِهَا. فَقَالُوا: تُوضَعُ كُتُبُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ كُتُبُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا كَكُتُبِ ابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ شَاهِينَ لأَِفْضَلِيَّتِهِ، لِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا لِمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الرُّؤْيَا، ثُمَّ كُتُبُ الْكَلاَمِ، ثُمَّ كُتُبُ الْفِقْهِ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ أَدِلَّتِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ، بِخِلاَفِ عِلْمِ الْكَلاَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالسَّمْعِيَّاتِ مِنْهُ فَقَطْ، ثُمَّ كُتُبُ الأَْخْبَارِ وَالْمَوَاعِظِ، ثُمَّ التَّفْسِيرُ، ثُمَّ الْمُصْحَفُ فَوْقَ الْجَمِيعِ (2) .
النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْل الْكِتَابِ وَمَا يُشْبِهُهَا:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْل الْكِتَابِ، نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ قَوْل عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلْسِيِّ: نُهِينَا عَنِ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَيْنَا الْكُفَّارُ أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.
وَسُئِل أَحْمَدُ عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَضِبَ، وَظَاهِرُهُ الإِْنْكَارُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 136، والآداب الشرعية 2 / 296 - 297.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 119.(34/184)
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي (1) ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ غَضِبَ وَقَال: أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ نَصَّ الْحَدِيثِ قَال (3) : نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَل يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلاَ تَرَى وَجْهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسْأَلُوا أَهْل الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَل لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتْبَعَنِي (4) .
وَقَدْ أَهْدَى رَجُلٌ إِلَى السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا هَدِيَّةً فَقَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي هَدِيَّتِهِ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ الأُْوَل، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 118، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 106، 107، وكشاف القناع 1 / 434.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد عمر قطعة من التوراة ". عزاه ابن حجر في الفتح (13 / 525) إلى أبي يعلى من حديث خالد بن عرفطة وقال: في سنده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف.
(3) فتح الباري 13 / 525.
(4) حديث جابر: نسخ عمر كتابًا من التوراة. أخرجه أحمد (3 / 338) والبزار (1 / 79 - كشف الأستار) واللفظ للبزار، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 174) وقال: فيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد، ويحيى بن سعيد وغيرهما وذكر طرقًا أخرى له وقال: مجموعها يقتضي أن لها أصلاً.(34/184)
الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (1) .
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ الزَّرْكَشِيِّ أَنَّهُ قَال: اغْتَرَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَرَأَى جَوَازَ مُطَالَعَةِ التَّوْرَاةِ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيفَ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَالاِشْتِغَال بِنَظَرِهَا وَكِتَابَتِهَا لاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ (2) . . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً لِلْحَدِيثِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ قَال: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ لاَ لِلتَّحْرِيمِ، ثُمَّ قَال: وَالأَْوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَيَصِيرُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الإِْيمَانِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلاَفِ الرَّاسِخِ فَيَجُوزُ لَهُ، وَلاَ سِيَّمَا عِنْدَ الاِحْتِيَاجِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ نَقْل الأَْئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَإِلْزَامُهُمُ الْيَهُودَ بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلَوْلاَ اعْتِقَادُهُمْ جَوَازَ النَّظَرِ فِيهِ لَمَا فَعَلُوهُ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ، وَغَضَبُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الآداب الشرعية 2 / 107، والآية من سورة العنكبوت / 51.
(2) حديث: " غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة. . . ". تقدم في نفس الفقرة.(34/185)
لاَ يَدُل عَلَى التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَغْضَبُ مِنْ فِعْل الْمَكْرُوهِ، وَمِنْ فِعْل مَا هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى إِذَا صَدَرَ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَغَضَبِهِ مِنْ تَطْوِيل مُعَاذٍ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ يَغْضَبُ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي فَهْمِ الأَْمْرِ الْوَاضِحِ مِثْل الَّذِي سَأَل عَنْ لُقَطَةِ الإِْبِل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْل الْبِدَعِ، وَلاَ فِي الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِل، وَلاَ رِوَايَتُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرِ إِفْسَادِ الْعَقَائِدِ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: تَحْرُمُ قِرَاءَةُ كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالْمَغَازِي الْمَوْضُوعَةِ كَفُتُوحِ الشَّامِ وَقَصَصِ الأَْنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِهِمُ الْمَنْسُوبَةِ لِلْوَاقِدِيِّ، وَقَال أَيْضًا: ذَكَرَ الإِْمَامُ الشَّعْرَاوِيُّ فِي الْمُغْنِي مَا نَصُّهُ: وَيُحَذَّرُ مِنْ مُطَالَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ لِلْغَزَالِيِّ، وَمِنْ كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ لأَِبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَمِنْ تَفْسِيرِ مَكِّيٍّ، وَمِنْ كَلاَمِ ابْنِ مَيْسَرَةَ الْحَنْبَلِيِّ، وَمِنْ كَلاَمِ مُنْذَرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ، وَمِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ أَبِي حَيَّانَ، أَوْ كُتُبِ إِخْوَانِ الصَّفَا، أَوْ كَلاَمِ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّامِ، أَوْ كِتَابِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ لاِبْنِ قَسِيٍّ، أَوْ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ
__________
(1) فتح الباري 13 / 525 - 526.
(2) كشف القناع 1 / 434.(34/185)
أَوْ كَلاَمِ الْمُفِيدِ بْنِ رَشِيدِيٍّ، أَوْ كُتُبِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ، أَوْ تَائِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ وَفَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) .
بَيْعُ الْكُتُبِ:
21 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كُتُبِ الأَْدَبِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ غَيْرُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ كُتُبِ الْعِلْمِ (2) .
وَكَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ كُتُبِ الْفِقْهِ، قَال ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَدْ أَجَازَ غَيْرُ الإِْمَامِ مَالِكٍ بَيْعَ كُتُبِ الْفِقْهِ، قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: بِيعَتْ كُتُبُ ابْنِ وَهْبٍ بِثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَصْحَابُنَا مُتَوَافِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَكَانَ أَبِي وَصِيَّهُ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، بَل يَجِبُ إِتْلاَفُهَا لِتَحْرِيمِ الاِشْتِغَال بِهِ (4) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَشِرَاءَهَا لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَقَال: لاَ بَأْسَ يَأْخُذُونَ أُجُورَ أَيْدِيهِمْ؛ وَلأَِنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَهُوَ كَسَائِرِ
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 77.
(2) المهذب 1 / 269، ومغني المحتاج 2 / 28، وكشاف القناع 3 / 155.
(3) المدونة 4 / 421، ومنح الجليل 3 / 772.
(4) مغني المحتاج 2 / 12.(34/186)
الأَْمْوَال، وَقَال ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمَكْحُولٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بِبَيْعِ الْمَصَاحِفِ بَأْسًا، وَسُئِل عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا فَقَالاَ: لاَ نَرَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُتَّجَرًا، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ بِذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ (1) . وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرَخَّصَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَعِكْرِمَةُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْجِلْدِ وَالْوَرَقِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَلَوْ فِي دَيْنٍ، قَال أَحْمَدُ: لاَ نَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ رُخْصَةً؛ لأَِنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ، وَفِي بَيْعِهِ ابْتِذَالٌ لَهُ وَتَرْكٌ لِتَعْظِيمِهِ.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ أَجَازُوا شِرَاءَ الْمُصْحَفِ؛ لأَِنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ لَهُ كَشِرَاءِ الأَْسِيرِ، كَمَا أَجَازُوا شِرَاءَ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لإِِتْلاَفِهَا؛ لأَِنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ وَتَعُودُ وَرَقًا مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْمُعَالَجَةِ (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 269، والمجموع 9 / 240 ط. المطيعي، والمدونة 4 / 418، والفتاوى الهندية 4 / 3.
(2) المغني 4 / 291. وشرح منتهى الإرادات: 2 / 143.
(3) كشاف القناع 3 / 155.(34/186)
22 - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْكَافِرِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مُنِعَ بَيْعُ مُصْحَفٍ وَجُزْئِهِ وَكُتُبِ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ، وَعِلْمٍ شَرْعِيٍّ لِكَافِرٍ، وَيَشْمَل الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ نَحْوَ النَّحْوِ مِنْ آلاَتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يُمْنَعُ بَيْعُ كُتُبِ الْعِلْمِ لَهُمْ مُطْلَقًا وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ الَّذِي يَشْتَرِي مَا ذُكِرَ يُعَظِّمُهُ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ تَمَلُّكِهِ لَهُ إِهَانَةٌ، وَيُمْنَعُ أَيْضًا، بَيْعُ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل لَهُمْ؛ لأَِنَّهَا مُبَدَّلَةٌ، فَفِيهِ إِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى ضَلاَلِهِمْ.
وَيُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى إِخْرَاجِ مَا بِيعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ وَلاَ يَتَمَلَّكُهُ بِسَلَمٍ وَلاَ بِهِبَةٍ وَلاَ وَصِيَّةٍ، وَلاَ كُتُبَ حَدِيثٍ وَلاَ آثَارَ سَلَفٍ وَلاَ كُتُبَ فِقْهٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْهَانَةِ لَهَا، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالْمُرَادُ بِآثَارِ السَّلَفِ حِكَايَاتُ الصَّالِحِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْهَانَةِ وَالاِسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، قَال السُّبْكِيُّ:
وَالأَْحْسَنُ أَنْ يُقَال: كُتُبُ عِلْمٍ وَإِنْ خَلَتْ
__________
(1) منح الجليل 2 / 469.
(2) الدسوقي 3 / 7.(34/187)
عَنِ الآْثَارِ تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَتَعْلِيلُهُ يُفِيدُ جَوَازَ تَمَلُّكِهِ كُتُبَ عُلُومٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ.
وَيَنْبَغِي مَنْعُهُ مِنْ تَمَلُّكِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالشَّرْعِ كَكُتُبِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، قَال شَيْخُنَا: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، أَيْ بَل الظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَهُوَ كَذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُصْحَفًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ ابْتِدَاءً كَسَائِرِ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ (2) .
رَهْنُ الْكُتُبِ:
23 - رَهْنُ كُتُبِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُل الرَّهْنُ، وَالْقَوْل الثَّانِي: يَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ، وَقَال أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الإِْفْصَاحِ: يَصِحُّ الرَّهْنُ قَوْلاً وَاحِدًا وَيُجْبَرُ عَلَى تَرْكِهِ فِي يَدِ مُسْلِمٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ رَهْنُ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ جَعْلِهَا بِيَدِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ لأَِمْنِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 8.
(2) المغني 4 / 292.
(3) المهذب 1 / 316، ومطالب أولي النهى 3 / 253، وكشاف القناع 3 / 330.(34/187)
24 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ، فَأَجَازَ رَهْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ.
إِحْدَاهُمَا: لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيْعِهِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ رَهْنُهُ وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ: إِذَا رَهَنَ مُصْحَفًا لاَ يَقْرَأُ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ رَهْنِهِ (1) .
رَهْنُ الْكُتُبِ الْمَوْقُوفَةِ:
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُعَارَ الْكِتَابُ الْمَوْقُوفُ إِلاَّ بِرَهْنٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الرَّهْنُ؛ لأَِنَّ الْكُتُبَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُقَال لَهَا: عَارِيَّةٌ أَيْضًا، بَل الآْخِذُ لَهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْوَقْفِ اسْتَحَقَّ الاِنْتِفَاعَ وَيَدُهُ عَلَيْهَا يَدُ أَمَانَةٍ فَشَرْطُ أَخْذِ الرَّهْنِ عَلَيْهَا فَاسِدٌ، وَإِنْ أَعْطَى يَكُونُ رَهْنًا فَاسِدًا وَيَكُونُ فِي يَدِ خَازِنِ الْكُتُبِ أَمَانَةً، هَذَا إِنْ أُرِيدَ الرَّهْنُ الشَّرْعِيُّ، وَإِنْ أُرِيدَ مَدْلُولُهُ لُغَةً، وَأَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 237، والمدونة 5 / 318، والمهذب 1 / 316، ومطالب أولي النهى 3 / 253، وكشاف القناع 3 / 327، والمغني لابن قدامة 4 / 380، والآداب الشرعية 2 / 176.(34/188)
فَيَصِحُّ الشَّرْطُ؛ لأَِنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُ الْوَاقِفِ فَالأَْقْرَبُ الْحَمْل عَلَى اللُّغَوِيِّ تَصْحِيحًا لِكَلاَمِهِ، وَفِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ يَقُول الْوَاقِفُ: لاَ تُخْرِجْ إِلاَّ بِتَذْكِرَةٍ فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَجْوِيزَ الْوَاقِفِ الاِنْتِفَاعَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ، وَلاَ نَقُول: إِنَّهَا تَبْقَى رَهْنًا، بَل لَهُ أَخْذُهَا فَيُطَالِبُهُ الْخَازِنُ بِرَدِّ الْكِتَابِ، وَعَلَى كُلٍّ فَلاَ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الرَّهْنِ وَلاَ بَيْعُهُ، وَلاَ بَدَل الْكِتَابِ الْمَوْقُوفِ بِتَلَفِهِ إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ (1) .
إِعَارَةُ الْكُتُبِ وَاسْتِعَارَتُهَا:
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ إِعَارَةِ الْكُتُبِ وَاسْتِعَارَتِهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ إِعَارَةِ الْمُصْحَفِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَذَلِكَ لِمَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعَلِّمُهُ وَهُوَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الْوُجُوبُ مُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُعِيرُهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمَالِكِ فَلاَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ إِعَارَةُ الْمُصْحَفِ لِمُحْتَاجٍ لِقِرَاءَةٍ فِيهِ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 367، والحطاب 6 / 36، وحاشية الجمل 3 / 275، ومغني المحتاج 2 / 126، وكشاف القناع 3 / 327.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 507، والشرح الصغير 3 / 572، ومغني المحتاج 2 / 264، وأسنى المطالب 2 / 324، وكشاف القناع 4 / 63 - 64.(34/188)
يَكُنْ مَالِكُهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ: إِنْ طَلَبَ أَحَدٌ الْمُصْحَفَ لِيَقْرَأَ فِيهِ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ، وَقِيل: يَجِبُ، وَقِيل: عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (2) .
وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ بِوُجُوبِ إِعَارَةِ كُتُبِ الْحَدِيثِ إِذَا كَتَبَ صَاحِبُهَا اسْمَ مَنْ سَمِعَهُ لِيَكْتُبَ نُسْخَةَ السَّمَاعِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْعَارِيَّةَ لاَ تَجِبُ عَيْنًا، بَل هِيَ أَوِ النَّقْل إِذَا كَانَ النَّاقِل ثِقَةً (3) .
وَخَرَّجَ أَبُو عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وُجُوبَ إِعَارَةِ الْكُتُبِ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا مِنَ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ وَأَهْل الْفَتْوَى.
وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَنْبَغِي لِمَنْ مَلَكَ كِتَابًا أَنْ لاَ يَبْخَل بِإِعَارَتِهِ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ (4) .
إِصْلاَحُ الْخَطَأِ فِي الْكِتَابِ الْمُسْتَعَارِ:
27 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اسْتَعَارَ كِتَابًا فَوَجَدَ بِهِ خَطَأً أَصْلَحَهُ إِنْ عَلِمَ رِضَا صَاحِبِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يَكْرَهُ إِصْلاَحَهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُصْلِحَهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَصْلَحَهُ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِلاَّ فِي الْقُرْآنِ؛
__________
(1) حاشية الرملي على هامش أسنى المطالب 3 / 324، ومطالب أولي النهى 3 / 725، وكشاف القناع 4 / 63 - 64.
(2) الآداب الشرعية 2 / 176.
(3) مغني المحتاج 2 / 264، وحاشية الرملي على هامش أسنى المطالب 2 / 324.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 725، وكشاف القناع 4 / 64.(34/189)
لأَِنَّ إِصْلاَحَهُ وَاجِبٌ بِخَطٍّ مُنَاسِبٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اسْتَعَارَ كِتَابًا لِيَقْرَأَ فِيهِ فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً لاَ يُصْلِحُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا فَيَجِبُ كَمَا قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ، وَتَقْيِيدُهُ بِالإِْصْلاَحِ يُعْلِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ قِيمَتِهِ لِرَدَاءَةِ خَطٍّ وَنَحْوِهِ امْتَنَعَ؛ لأَِنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَالِيَّتِهِ لاَ إِصْلاَحٌ.
قَال الْجَمَل: وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَهُ لِمَنْ يُصْلِحُهُ حَيْثُ كَانَ خَطُّهُ مُنَاسِبًا لِلْمُصْحَفِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِجَابَةُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ فِي سُؤَالِهِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْمَوْقُوفُ فَيُصْلَحُ جَزْمًا، خُصُوصًا مَا كَانَ خَطَأً مَحْضًا لاَ يَحْتَمِل التَّأْوِيل، وَهَذَا إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ دُونَ مَا ظَنِّهِ، وَمَتَى تَرَدَّدَ فِي عَيْنِ لَفْظٍ أَوْ فِي الْحُكْمِ لاَ يُصْلِحُ شَيْئًا وَمَا اعْتِيدَ مِنْ كِتَابَةِ (لَعَلَّهُ كَذَا) إِنَّمَا يَجُوزُ فِي مِلْكِ الْكَاتِبِ.
وَلاَ يَكْتُبُ حَوَاشِيَ بِهَامِشِ الْكِتَابِ وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ تَغْيِيرِ الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهِ، وَلاَ نَظَرَ لِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِفِعْلِهِ (2) .
إِجَارَةُ الْكُتُبِ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 507، والفتاوى الهندية 4 / 364.
(2) مغني المحتاج 2 / 264، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 459 - 460.(34/189)
إِجَارَةِ الْكُتُبِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ كُتُبَ فِقْهٍ أَمْ أَدَبٍ أَمْ شِعْرٍ أَمْ غِنَاءٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ:؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ إِنْ كَانَتْ طَاعَةً كَالْقُرْآنِ، أَوْ كَانَتْ مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ، فَالإِْجَارَةُ عَلَيْهَا لاَ تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَالأَْدَبِ وَالشِّعْرِ، فَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ قَبْل الإِْجَارَةِ فَلاَ تَجُوزُ، وَلَوِ انْعَقَدَتْ تَنْعَقِدُ عَلَى الْحَمْل وَتَقْلِيبِ الأَْوْرَاقِ، وَالإِْجَارَةُ عَلَيْهِ لاَ تَنْعَقِدُ وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ إِجَارَةُ الْكُتُبِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ كِتَابِ حَدِيثٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ شِعْرٍ مُبَاحٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ صَرْفٍ أَوْ نَحْوِهِ لِنَظَرٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ نَقْلٍ أَوْ بِهِ خَطٌّ حَسَنٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ وَيَتَمَثَّل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَجُوزُ إِعَارَتُهُ لِذَلِكَ فَجَازَتْ إِجَارَتُهُ (2) .
29 - وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجَارَةَ الْمُصْحَفِ؛ لأَِنَّهُ انْتِفَاعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الإِْعَارَةُ مِنْ أَجْلِهِ فَجَازَتْ فِيهِ الإِْجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ.
وَلاَ تَجُوزُ إِجَارَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ:؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ طَاعَةٌ وَالإِْجَارَةُ عَلَى الطَّاعَةِ لاَ تَجُوزُ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: عِلَّةُ ذَلِكَ إِجْلاَل كَلاَمِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 21 - 22، والفتاوى الهندية 4 / 449، والمدونة 4 / 421.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 357، والمغني 5 / 553، 554.(34/190)
اللَّهِ وَكِتَابِهِ عَنِ الْمُعَاوَضَةِ بِهِ وَابْتِذَالِهِ بِالأَْجْرِ فِي الإِْجَارَةِ (1) .
بَيْعُ كُتُبِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ يُبَاعُ مَالُهُ وَلَوْ كُتُبًا، وَلَوِ احْتَاجَ لَهَا، وَلَوْ فِقْهًا؛ لأَِنَّ شَأْنَ الْعِلْمِ أَنْ يُحْفَظَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْكُتُبَ لاَ تُبَاعُ أَصْلاً، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلاَفَ هُوَ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَآلَةِ ذَلِكَ، أَمَّا غَيْرُهَا فَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ بَيْعِهَا (2) .
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى بَيْعِ مَتَاعِ الْمُفْلِسِ قَال: وَيُسْتَحَبُّ بَيْعُ كُل شَيْءٍ فِي سُوقِهِ: الْبَزِّ فِي الْبَزَّازِينَ، وَالْكُتُبِ فِي سُوقِهَا (3) .
وَذَهَبَ الْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُتْرَكُ لِلْعَالِمِ كُتُبُهُ، فَلاَ تُبَاعُ لِسَدَادِ الدَّيْنِ.
وَقَالُوا: يُشْتَرَى لِلْمُفْلِسِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يُبَاعُ الْمُصْحَفُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 21 - 22، والمغني 5 / 553 - 554.
(2) إتحاف الأبصار والبصائر بثبوت الأشباه والنظائر ص 430، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 270، والخرشي 5 / 269 - 270.
(3) المغني 4 / 491.(34/190)
تَسْهُل مُرَاجَعَةُ حَفَظَتِهِ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لاَ حَافِظَ فِيهِ تُرِكَ لَهُ (1) .
النَّظَرُ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ:
31 - الأَْصْل فِي النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ (2) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سِرٌّ وَأَمَانَةٌ يَكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، قَال: وَقِيل: هُوَ عَامٌّ فِي كُل كِتَابٍ (3) .
وَقَال الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ سَقَطَتْ مِنْهُ وَرَقَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ فَوَائِدُ فَأَخَذْتُهَا، تَرَى أَنْ أَنْسَخَهَا وَأَسْمَعَهَا؟ قَال: لاَ، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا (4) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الأَْثَرُ الْوَارِدُ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ يُخَصُّ مِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا إِلَى دَفْعِ مَفْسَدَةٍ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ (5) .
وَمِمَّا يَدْخُل فِي مَسْأَلَةِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ: النَّظَرُ فِي الْكِتَابِ الْمَرْهُونِ، هَل يَجُوزُ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 319، وأسنى المطالب 2 / 193.
(2) حديث: " من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار ". أخرجه أبو داود (2 / 164) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (11 / 47) .
(3) الآداب الشرعية 2 / 175 - 176.
(4) الآداب الشرعية 2 / 177.
(5) فتح الباري 11 / 47.(34/191)
لِلْمُرْتَهِنِ النَّظَرُ فِيهِ أَمْ لاَ؟ .
نَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنِ الْوَلْوَالِجِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ مُصْحَفًا وَأَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنْ قَرَأَ فِيهِ صَارَ عَارِيَّةً وَبَطَل الرَّهْنُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَهْلِكْ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ صَارَ رَهْنًا، وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْمُصْحَفَ أَيَجُوزُ أَنْ يُرْتَهَنَ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: نَعَمْ وَلاَ يُقْرَأُ فِيهِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْل الرَّهْنِ شَرْطٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ، فَتَوَسَّعَ لَهُ رَبُّ الْمُصْحَفِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَال مَالِكٌ: لاَ يُعْجِبُنِي ذَلِكَ (2) .
وَفِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ رَهَنَ مُصْحَفًا هَل يَقْرَأُ فِيهِ؟ قَال: أَكْرَهُ أَنْ يُنْتَفَعَ مِنَ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ، وَقَال فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُل يَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ رَهْنٌ: لاَ يَقْرَأُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَقَال فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُل رَهَنَ عِنْدَهُ الْمُصْحَفَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ قَرَأَ فِيهِ (3) .
إِتْلاَفُ الْكُتُبِ:
32 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 327.
(2) المدونة 5 / 318.
(3) الآداب الشرعية 2 / 176.(34/191)
أَنَّ الْكُتُبَ الْمُحَرَّمَةَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهَا، قَال الْمَالِكِيَّةُ: كُتُبُ الْعِلْمِ الْمُحَرَّمِ كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل يَجُوزُ إِحْرَاقُهَا وَإِتْلاَفُهَا إِذَا كَانَا مُحَرَّفَيْنِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يَجِبُ إِتْلاَفُ كُتُبِ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالتَّنْجِيمِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْفَلْسَفَةِ لِتَحْرِيمِ الاِشْتِغَال بِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ شِرَاءُ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لإِِتْلاَفِهَا؛ لأَِنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ، وَتَعُودُ وَرَقًا مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْمُعَالَجَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْكُتُبُ الَّتِي لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا يُمْحَى عَنْهَا اسْمُ اللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَيُحْرَقُ الْبَاقِي، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ تُلْقَى فِي مَاءٍ جَارٍ كَمَا هِيَ، أَوْ تُدْفَنَ وَهُوَ أَحْسَنُ كَمَا فِي الأَْنْبِيَاءِ، وَكَذَا جَمِيعُ الْكُتُبِ إِذَا بَلِيَتْ وَخَرَجَتْ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الذَّخِيرَةِ: الْمُصْحَفُ إِذَا صَارَ خَلَقًا وَتَعَذَّرَتِ الْقِرَاءَةُ مِنْهُ لاَ يُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَلاَ يُكْرَهُ دَفْنُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَفَّ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ وَيُلْحَدَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ شَقَّ وَدُفِنَ يَحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ، إِلاَّ إِذَا جُعِل فَوْقَهُ سَقْفٌ، وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ، أَوْ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ
__________
(1) الحطاب 1 / 287، ومغني المحتاج 2 / 12، وكشاف القناع 3 / 155.(34/192)
لاَ تَصِل إِلَيْهِ يَدُ مُحْدِثٍ وَلاَ غُبَارٌ وَلاَ قَذَرٌ، تَعْظِيمًا لِكَلاَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) .
وَقْفُ الْكُتُبِ:
33 - يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقْفُ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْخَيْل تُحْبَسُ لِلْغَزْوِ عَلَيْهَا، وَالسِّلاَحِ لِلْقِتَال بِهِ (2) .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْفِ الْمَنْقُول.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْكُتُبِ عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ (؛ لأَِنَّهُ لاَ يُجِيزُ وَقْفَ الْمَنْقُول) وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا - أَيْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ نَصْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ (3) .
وَفِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لاَ يُجِيزُهُ، وَنَصْرُ بْنُ يَحْيَى يُجِيزُهُ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُجِيزُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي الْعِنَايَةِ عَنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْفِ الْكُتُبِ، وَجَوَّزَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 271.
(2) الخرشي 7 / 81، ومغني المحتاج 2 / 380، وكشاف القناع 4 / 143.
(3) البدائع 6 / 220.(34/192)
الْفَتْوَى (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل؛ لأَِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً مُبَدَّلَةً، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَال: " أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟ " (2) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَيُلْحَقُ فِي ذَلِكَ كُتُبُ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا (3) .
سَرِقَةُ الْكُتُبِ:
34 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ كُتُبًا نَافِعَةً، كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا.
وَأَضَافَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ شَخْصٌ الْمُصْحَفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْقِرَاءَةِ لَمْ يُقْطَعْ إِذَا كَانَ قَارِئًا؛ لأَِنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ غَيْرَ قَارِئٍ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا تَعَلَّمَ مِنْهُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَوْ يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ يَقْرَأُ فِيهِ لاِسْتِمَاعِ الْحَاضِرِينَ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 431 نشر دار إحياء التراث العربي.
(2) حديث: " غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة. . . ". تقدم فقرة 20.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 493، ومغني المحتاج 2 / 380.(34/193)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لأَِنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّل فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالتَّعَلُّمَ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 28 - 31)
كِتَابَة
انْظُرْ: تَوْثِيق، مُكَاتَبَة
__________
(1) البدائع 7 / 68، وابن عابدين 3 / 275، وبداية المجتهد 2 / 489، ومغني المحتاج 4 / 163، وكشاف القناع 6 / 130، ونهاية المحتاج 7 / 421.(34/193)
كِتَابِيٌّ
انْظُرْ: أَهْل الْكِتَابِ
كِتَابِيَّة
انْظُرْ: أَهْل الْكِتَابِ(34/194)
كَتِف
التَّعْرِيفُ
1 - الْكَتِفُ وَالْكِتْفُ فِي اللُّغَةِ: عَظْمٌ عَرِيضٌ خَلْفَ الْمَنْكِبِ، وَيُؤَنَّثُ وَهِيَ تَكُونُ لِلإِْنْسَانِ، وَغَيْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا " (1) ، كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا لِقِلَّةِ الْقَرَاطِيسِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَتِفِ مِنْ أَحْكَامٍ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ الْيَدِ مِنْ مَفْصِل الْكَتِفِ بِشَرْطِ أَنْ يُؤْمَنَ مِنْ حُدُوثِ جَائِفَةٍ فِي الْجِسْمِ، فَإِنْ خِيفَ جَائِفَةٌ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ مِرْفَقِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: " ائتوني بالكتف والدواة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 271) ومسلم (3 / 1259) من حديث ابن عباس، واللفظ لمسلم.
(2) لسان العرب مادة " كتف "
(3) المغرب.(34/194)
وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَ مَا أَمْكَنَ مِنْ حَقِّهِ (1) ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ.
وَلاَ يَجِبُ فِي كَسْرِهَا قِصَاصٌ كَسَائِرِ الْعِظَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي كَسْرِهَا حُكُومَةٌ (2) ، (ر: حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 7، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 31) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْكَتِفِ مِنْهَا: السَّدْل فِي الصَّلاَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَطْرَحَ الْمُصَلِّي ثَوْبًا عَلَى كَتِفِهِ وَلاَ يَرُدُّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الأُْخْرَى، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي عَلَى أَحَدِ كَتِفَيْهِ شَيْئًا مِنَ اللِّبَاسِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (3) (ر: صَلاَةٌ ف 85) .
وَمِنْهَا الاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ أَنْ يُدْخِل الْمُحْرِمُ رِدَاءَهُ الَّذِي يَلْبَسُهُ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الأَْيْمَنِ فَيُلْقِيَهُ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ وَتَبْقَى كَتِفُهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ (ر: اضْطِبَاعٌ ف 1 - 4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 298، وكشاف القناع 5 / 553، والمغني 7 / 709. وروض الطالب 4 / 23.
(2) روض الطالب 4 / 67.
(3) المغني 1 / 580 - 581.(34/195)
كِتْمَانٌ
انْظُرْ: إِفْشَاءُ السِّرِّ
كُحْل
انْظُرْ: اكْتِحَال(34/195)
كَدِك
التَّعْرِيفُ:
1 - لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ كَلِمَةِ الْكَدِكِ أَوِ الْجَدِكِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ الْكَدِكُ عَلَى مَا يَثْبُتُ فِي الْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ مِمَّا لاَ يُنْقَل وَلاَ يُحَوَّل، كَالْبِنَاءِ وَالرُّفُوفِ الْمُرَكَّبَةِ وَالأَْغْلاَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ سُكْنَى (1) .
كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ فِي الْحَانُوتِ مُتَّصِلاً لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَالْخَشَبِ الَّذِي يُرَكَّبُ بِالْحَانُوتِ لِوَضْعِ عِدَّةِ الْحَلاَّقِ مَثَلاً، فَإِنَّ الاِتِّصَال وُجِدَ لَكِنْ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ (2) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْعَيْنِ غَيْرِ الْمُتَّصِلَةِ أَصْلاً، كَالْبَكَارِجِ وَالْفَنَاجِينِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَهْوَةِ، وَالْفُوَطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمَّامِ (3) .
وَيُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابِلَةِ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199 - 200، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 517، وحاشية ابن عابدين 3 / 391.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 17.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 17، وفتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.(34/196)
لِلدَّرَاهِمِ (1) ، وَهَذَا مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْخُلُوِّ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ الْكَدِكِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُنْظَرُ (خُلُوٌّ) .
قَال مُحَمَّدٌ قَدْرِي بَاشَا: يُطْلَقُ الْكَدِكُ عَلَى الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَالْبِنَاءِ، أَوْ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، كَآلاَتِ الصِّنَاعَةِ الْمُرَكَّبَةِ بِهِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكِرْدَارِ فِي الأَْرَاضِي، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِيهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِرْدَارُ:
2 - الْكِرْدَارُ هُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوْ بِإِذْنِ النَّاظِرِ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْكِرْدَارِ مَا يُسَمَّى الآْنَ كَدِكًا فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا، مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ، وَأَغْلاَقٍ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى قِيمَةً فِي الْبَسَاتِينِ وَفِي الْحَمَّامَاتِ (5) ، فَالْكِرْدَارُ أَعَمُّ مِنَ الْكَدِكِ.
ب - الْمَرْصَدُ:
3 - الْمَرْصَدُ هُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلٌ عَقَارَ الْوَقْفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 17.
(2) فتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.
(3) مرشد الحيران المادة 706 ص182.
(4) الفتاوى الخيرية 1 / 180، وحاشية ابن عابدين 3 / 391.
(5) حاشية ابن عابدين 3 / 391.(34/196)
مِنْ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ مَثَلاً وَيَأْذَنُ لَهُ الْمُتَوَلِّي بِعِمَارَتِهِ أَوْ مَرَمَّتِهِ بِهَا، فَيُعَمِّرُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ فِي مَال الْوَقْفِ عِنْدَ حُصُولِهِ، أَوِ اقْتِطَاعِهِ مِنَ الأُْجْرَةِ (1) .
وَالْمَرْصَدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَمَّرَ مِنْ مَالِهِ عِمَارَةً ضَرُورِيَّةً فِي مُسْتَغَلٍّ مِنْ مُسْتَغَلاَّتِ الْوَقْفِ لِلْوَقْفِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَدِكِ وَبَيْنَ الْمَرْصَدِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَرْصَدِ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ دَيْنٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْوَقْفِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلاَ يَبِيعَ الْبِنَاءَ الَّذِي بَنَاهُ لِلْوَقْفِ، وَإِنَّمَا لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتَوَلِّي بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ إِنْ لَمْ يُرِدِ اسْتِقْطَاعَهُ مِنْ أَصْل أَجْرِ الْمِثْل (2) ، وَأَمَّا الْكَدِكُ، فَهُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلأَِصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ (3) .
ج - الْمَسْكَةُ:
4 - الْمَسْكَةُ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْحِرَاثَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً، وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُتَسَلِّمَ لِلأَْرْضِ الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا، وَحُكْمُهَا أَنَّهَا
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 516.
(2) مرشد الحيران المادة 709 و710 ص182 - 183.
(3) مرشد الحيران 706 و707.(34/197)
لاَ تُقَوَّمُ، فَلاَ تُمْلَكُ وَلاَ تُبَاعُ وَلاَ تُورَثُ، وَقَدْ جَرَى فِي عُرْفِ الْفَلاَّحِينَ إِطْلاَقُ الْفِلاَحَةِ عَلَى الْمَسْكَةِ، فَيَقُول أَحَدُهُمْ: فَرَغْتُ عَنْ فِلاَحَتِي أَوْ مَسْكَتِي أَوْ مَشَدِّي، وَيُرِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الْحَرْثِ (1) .
وَالْمَسْكَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ فِي الأَْرَاضِي الْجَرْدَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَسَاتِينِ وَتُسَمَّى بِالْقِيمَةِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَدِكِ وَبَيْنَ الْمَسْكَةِ، أَنَّ صَاحِبَ الْمَسْكَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الاِسْتِمْسَاكِ بِالأَْرْضِ (3) ، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الْكَدِكِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الْحَانُوتِ، فَالْمَسْكَةُ خَاصَّةٌ بِالأَْرَاضِيِ أَمَّا الْكَدِكُ فَخَاصٌّ بِالْحَوَانِيتِ.
د - الْخُلُوُّ:
5 - يُطْلَقُ الْخُلُوُّ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي جُعِل فِي مُقَابَلَتِهَا الدَّرَاهِمُ (4) ، وَيُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى حَقِّ مُسْتَأْجِرِ الأَْرْضِ الأَْمِيرِيَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ، عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ لِبَيْتِ الْمَال، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِهِمَا الَّذِي يُقَيِّمُهُ مَنْ بِيَدِهِ عَقَارُ وَقْفٍ أَوْ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 198.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.
(4) فتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.(34/197)
أَرْضٌ أَمِيرِيَّةٌ (ر: خُلُوٌّ ف 1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخُلُوِّ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالْكَدِكِ، أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ وَلاَ يَمْلِكُ الأَْعْيَانَ، أَمَّا الْكَدِكُ فَهُوَ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْتَأْجِرِ الْحَانُوتِ. (ر: خُلُوٌّ ف 1) .
وَأَمَّا الصِّلَةُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَهِيَ أَنَّ الْخُلُوَّ مُرَادِفٌ لِلْكَدِكِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَدِكِ:
ثُبُوتُ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ:
أَوَّلاً: وَضْعُ الْكَدِكِ فِي الْمَبَانِي الْوَقْفِيَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ:
6 - يَثْبُتُ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ حَقُّ الْقَرَارِ بِسَبَبِ مَا يُنْشِئُهُ فِي مَبْنَى الْوَقْفِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ مُتَّصِلٍ اتِّصَال قَرَارٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ: يَثْبُتُ لَهُ (أَيْ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ) حَقُّ الْقَرَارِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ مِثْل الْحَانُوتِ خَالِيَةً عَنْ جَدَكِهِ (1) وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِذَا كَانَ هَذَا الْجَدِكُ الْمُسَمَّى بِالسُّكْنَى قَائِمًا فِي أَرْضِ وَقْفٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيل مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ، لِصَاحِبِهِ الاِسْتِبْقَاءُ بِأُجْرَةِ مِثْل الأَْرْضِ حَيْثُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْوَقْفِ وَإِنْ أَبَى النَّاظِرُ، نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ (2) .
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.(34/198)
وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (707) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: الْكَدِكُ الْمُتَّصِل بِالأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا أَوْ تَرْكِيبًا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ هُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلأَِصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ، وَلَهُمُ اسْتِبْقَاؤُهَا بِأَجْرِ الْمِثْل (1) .
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَلِذَلِكَ يُورَثُ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ مُشَاهَرَةً، وَلاَ الإِْجَارَةُ لِغَيْرِهِ.
كَمَا قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ. . . نَعَمْ بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلاَحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلاً بِإِذْنٍ، وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ، خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدِكِ (2) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ دَارًا مَوْقُوفَةً مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَأَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ بِالْبِنَاءِ فِيهَا لِيَكُونَ لَهُ خُلُوًّا، وَجَعَل عَلَيْهَا حَكْرًا كُل سَنَةٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ، فَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا مُدَّةً تَلِي مُدَّةَ إِيجَارِ الأَْوَّل، لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِأَنْ لاَ يَسْتَأْجِرَهَا إِلاَّ الأَْوَّل، وَالْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا دَفَعَ الأَْوَّل مِنَ الأُْجْرَةِ
__________
(1) مرشد الحيران ص182 ط. المطبعة الأميرية بمصر.
(2) فتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.(34/198)
مَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ (1) .
وَمُسْتَنَدُ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ وَمِثْل ذَلِكَ أَصْحَابُ الْكِرْدَارِ فِي الْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا أَصْحَابُ الْكَدِكِ فِي الْحَوَانِيتِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ إِبْقَاءَهَا فِي أَيْدِيهِمْ سَبَبٌ لِعِمَارَتِهَا وَدَوَامِ اسْتِغْلاَلِهَا، فَفِي ذَلِكَ نَفْعٌ لِلأَْوْقَافِ وَبَيْتِ الْمَال، وَلَكِنْ كُل ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِهِمْ يُؤَدُّونَ أُجْرَةَ مِثْلِهَا بِلاَ نُقْصَانٍ فَاحِشٍ (2) .
وَقَال الْبُنَانِيُّ: وَقَعَتِ الْفَتْوَى مِنْ شُيُوخِ فَاسَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالشَّيْخِ الْقَصَّارِ، وَابْنِ عَاشِرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْفَاسِيِّ، وَسَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ الْفَاسِيِّ، وَأَضْرَابِهِمْ، وَيُعَبِّرُونَ عَنِ الْخُلُوِّ الْمَذْكُورِ بِالْجِلْسَةِ جَرَى بِهَا الْعُرْفُ، لِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا، فَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ (3) .
7 - وَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ لِصَاحِبِ الْكَدِكِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ مَا يَلِي:
أ - إِذْنُ النَّاظِرِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي وَضْعِ كَدِكِهِ أَوْ كِرْدَارِهِ، فَإِنْ وَضَعَهُ دُونَ إِذْنٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُ الإِْجَارَةِ لَهُ.
قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 11 ط. دار الفكر.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 392.
(3) حاشية البناني بهامش الزرقاني 6 / 128.(34/199)
لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً، أَوْ غِرَاسًا، أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ، بِإِذْنِ الْوَاقِفِ، أَوْ بِإِذْنِ النَّاظِرِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ (1) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنْ مُؤَيَّدْ زَادَهْ: حَانُوتُ وَقْفٍ بَنَى فِيهِ سَاكِنُهُ بِلاَ إِذْنِ مُتَوَلِّيهِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ رَفْعُهُ رَفَعَهُ، وَإِنْ ضَرَّ فَهُوَ الْمُضَيِّعُ مَالَهُ، فَلْيَتَرَبَّصْ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مَالُهُ مِنَ الْبِنَاءِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ، وَلاَ يَكُونُ بِنَاؤُهُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ لِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ يَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ، حَيْثُ لاَ يَمْلِكُ رَفْعَهُ (2) .
ب - دَفْعُ أُجْرَةِ الْمِثْل مَنْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْوَقْفِ، إِذْ لاَ يَصِحُّ إِيجَارُ الْوَقْفِ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل إِلاَّ عَنْ ضَرُورَةٍ (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَثْبُتُ لَهُ بِذَلِكَ (الْكَدِكِ) حَقُّ الْقَرَارِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أُجْرَةَ مِثْل الْحَانُوتِ خَالِيَةً عَنْ كَدِكِهِ (4) .
وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَوْقُوفِ: أَمَّا الْمَوْقُوفُ الْمُعَدُّ لِلإِْيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِمَا فِيهِ
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180.
(2) الدر المختار 5 / 17.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 398.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.(34/199)
مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ، وَالْمُرَادُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل أَنْ يَنْظُرَ بِكَمْ يُسْتَأْجَرُ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ الْجَدِكِ بِلاَ زِيَادَةِ ضَرَرٍ وَلاَ زِيَادَةِ رَغْبَةٍ مِنْ شَخْصٍ خَاصٍّ، بَل الْعِبْرَةُ بِالأُْجْرَةِ الَّتِي يَرْضَاهَا الأَْكْثَرُ (1) .
فَلَوْ زَادَ أَجْرُ الْمِثْل بَعْدَ الْعَقْدِ زِيَادَةً فَاحِشَةً، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِالأُْجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَبُول الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ (2) ، وَالْمُرَادُ زِيَادَةُ أَجْرِ مِثْل الْوَقْفِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ الْكُل بِلاَ زِيَادَةِ أَحَدٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ زِيَادَةَ تَعَنُّتٍ أَيْ إِضْرَارٍ مِنْ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلاَ الزِّيَادَةُ بِعِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَالِهِ لِنَفْسِهِ (3) .
ج - عَدَمُ الضَّرَرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْقُنْيَةِ: اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَقْفًا وَغَرَسَ فِيهَا وَبَنَى ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْل إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ (4) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: لَوْ حَصَل ضَرَرٌ مَا، بِأَنْ كَانَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ مُفْلِسًا أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ،
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 398 - 399.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 399.
(4) الفتاوى الخيرية 1 / 172.(34/200)
لاَ يُجْبَرُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ. اهـ. وَأَضَافَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الإِْسْعَافِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى رَقَبَةِ الْوَقْفِ يَفْسَخُ الْقَاضِي الإِْجَارَةَ وَيُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ.
وَقَال الْعَلاَّمَةُ قَنْلِي زَادَهْ: يَجِبُ عَلَى كُل قَاضٍ عَادِلٍ عَالِمٍ، وَعَلَى كُل قَيِّمٍ أَمِينٍ غَيْرِ ظَالِمٍ، أَنْ يَنْظُرَ فِي الأَْوْقَافِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ تُسْتَأْجَرُ بِأَكْثَرَ، أَنْ يَفْسَخَ الإِْجَارَةَ، وَيَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَغَرْسَهُ، أَوْ يَقْبَلَهَا بِهَذِهِ الأُْجْرَةِ، وَقَلَّمَا يَضُرُّ الرَّفْعُ بِالأَْرْضِ (1) .
وَفِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ: حَانُوتٌ أَصْلُهُ وَقْفٌ، وَعِمَارَتُهُ لِرَجُلٍ، وَهُوَ لاَ يَرْضَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَرْضَهُ بِأَجْرِ الْمِثْل، قَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَتْ يُسْتَأْجَرُ الأَْصْل بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَأْجِرُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ كُلِّفَ رَفْعَهُ، وَيُؤَجَّرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلاَّ يُتْرَكْ فِي يَدِهِ بِذَلِكَ الأَْجْرِ (2) .
ثَانِيًا: وَضْعُ الْكَدِكِ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَدِكُ الْمُسَمَّى بِالسُّكْنَى قَائِمًا فِي أَرْضِ وَقْفٍ، فَلِصَاحِبِهِ اسْتِبْقَاؤُهُ بِأَجْرِ الْمِثْل، أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَدِكُ فِي الْحَانُوتِ الْمِلْكِ، فَلِصَاحِبِ الْحَانُوتِ أَنْ يُكَلِّفَ الْمُسْتَأْجِرَ بِرَفْعِ الْكَدِكِ (3)
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 115.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 180.
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.(34/200)
لأَِنَّ الإِْجَارَةَ تَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ إِجْمَاعًا (1) .
وَالْفَرْقُ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ يَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ عَنْ إِيجَارِهِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْكُنَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ أَوْ يُعَطِّلَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفِ الْمُعَدِّ لِلإِْيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ (2) .
قَال خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِلْكًا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا كَذَلِكَ إِنْ أَبَى الْمَالِكُ إِلاَّ الْقَلْعَ، بَل يُكَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الأَْغْرَاسِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الأَْرْضِ فَإِذَنْ لاَ يُكَلِّفُهُ عَلَيْهِ بَل يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ قِيمَةَ الأَْرْضِ لِلْمَالِكِ، فَتَكُونُ الأَْغْرَاسُ وَالأَْرْضُ لِلْغَارِسِ، وَفِي الْعَكْسِ يَضْمَنُ الْمَالِكُ لِلْغَارِسِ قِيمَةَ الأَْغْرَاسِ فَتَكُونُ الأَْرْضُ وَالأَْشْجَارُ لَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَارِيَّةِ (3) .
قَال الأَْتَاسِيُّ بَعْدَ نَقْل هَذَا الْقَوْل: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ. . . وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْغَرْسُ
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 173.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 172.(34/201)
بِدُونِ إِذْنِ مَالِكِ الأَْرْضِ، فَلَيْسَ إِلاَّ الْقَلْعُ أَوْ تَخْيِيرُ الْمَالِكِ بَيْنَ تَكْلِيفِهِ بِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحَقَّ الْقَلْعِ، إِنْ كَانَ الْقَلْعُ يَضُرُّ بِالأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ (1) .
أَمَّا وَضْعُ الْكَدِكِ الْمُتَّصِل اتِّصَال قَرَارٍ قَصْدًا بِتَعَاقُدٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَصَاحِبِ الْحَانُوتِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْقَرَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ وَلاَ إِجَارَتَهُ لِغَيْرِهِ (2) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَال عُلَيْشٌ: إِنَّ الْخُلُوَّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ، فَإِنْ قَال قَائِلٌ: الْخُلُوُّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْفِ لِمَصْلَحَةٍ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمِلْكِ، قِيل لَهُ: إِذَا صَحَّ فِي وَقْفٍ فَالْمِلْكُ أَوْلَى لأَِنَّ الْمَالِكَ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ، نَعَمْ بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلاَحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلاً بِإِذْنٍ وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ، خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدِكِ، وَبَعْضُ الْجَدِكَاتِ أُمُورٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْمَكَانِ غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ فِيهِ، كَمَا يَقَعُ فِي الْحَمَّامَاتِ وَحَوَانِيتِ الْقَهْوَةِ بِمِصْرَ، فَهَذِهِ بَعِيدَةُ الْخَلَوَاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 2 / 515 - 516.
(2) الفتاوى المهدية 5 / 26.(34/201)
لِلْمَالِكِ إِخْرَاجَهَا (1) .
وَلَمْ يُسْتَدَل عَلَى نَصٍّ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِخُصُوصِ إِقَامَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْجَدِكَ فِي الْحَانُوتِ الْمِلْكِ، وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي اسْتِئْجَارِ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ مِلْكٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالأَْرْضَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا.
قَال ابْنُ رَجَبٍ: غِرَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يَقْلَعْهُ الْمَالِكُ فَلِلْمُؤَجِّرِ تَمَلُّكُهُ بِالْقِيمَةِ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ قَلْعَهُ بِدُونِ ضَمَانِ نَقْصِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: اسْتَأْجَرَ لِلْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَلْعَ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْقَلْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ أَرْشُ النُّقْصَانِ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ، وَلاَ أَرْشُ نَقْصِهَا، لِتَرَاضِيهِمَا بِالْقَلْعِ، وَلَوْ شَرَطَا الإِْبْقَاءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الإِْمَامِ وَالْبَغَوِيِّ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ يَقْتَضِي الإِْبْقَاءَ، فَلاَ يَضُرُّ شَرْطُهُ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ أَوْ جُمْهُورُهُمْ، وَيَتَأَيَّدُ بِهِ كَلاَمُ السَّرَخْسِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّرْعِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَةُ الْمِثْل لِلْمُدَّةِ. . . أَمَّا إِذَا أَطْلَقَا، فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَقْدِ،
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.
(2) القواعد لابن رجب القاعدة 77 ط 147.(34/202)
وَقِيل: وَجْهَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَلْعُ وَالرَّفْعُ بِلاَ نَقْصٍ فُعِل، وَإِلاَّ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَلَكَهُ. . . وَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْقَلْعَ، فَهَل لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَقْلَعَهُ مَجَّانًا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ، وَالثَّانِي عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا هَذَا؛ لأَِنَّهُ بِنَاءٌ مُحْتَرَمٌ، وَالثَّانِي: نَعَمْ. . .، وَإِذَا انْتَهَى الأَْمْرُ إِلَى الْقَلْعِ، فَمُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ، أَوْ بَدَل مَئُونَتِهِ هَل هِيَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لأَِنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ، أَمْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لأَِنَّهُ شَغَل الأَْرْضَ فَلْيُفْرِغْهَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي (1) .
وَقْفُ الْكَدِكِ:
9 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْكَدِكِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَا يُسَمَّى الآْنَ كَدِكًا فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا، مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ، وَأَغْلاَقٍ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، لِعَدَمِ الْعُرْفِ الشَّائِعِ، بِخِلاَفِ وَقْفِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ، فَإِنَّهُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ فِي عَامَّةِ الْبِقَاعِ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ صِحَّةُ وَقْفِ الْكَدِكِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْحَانُوتِ.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 214 - 215، وانظر أسنى المطالب 2 / 420.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 391.(34/202)
قَال الْغَرْقَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل مَا أَفْتَى بِهِ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ مِنْ صِحَّةِ وَقْفِ الْخُلُوِّ وَجَرَى بِهِ الْعَمَل كَثِيرًا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ (1) .
وَصَرَّحَ عُلَيْشٌ بِأَنَّ الْخُلُوَّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. الْجَدِكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ (2) .
وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِخُصُوصِ وَقْفِ الْكَدِكِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ وَقْفَ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ (3) ، وَهَذَا لَيْسَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
بَيْعُ الْكَدِكِ:
10 - إِذَا ثَبَتَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْقَرَارِ فِي حَانُوتِ الْوَقْفِ، فَالْكَدِكُ الَّذِي يَضَعُهُ فِيهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَيَكُونُ لِهَذَا الْمُسْتَأْجِرِ بَيْعُ مَا وَضَعَهُ، وَيَنْتَقِل حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي فَقَدْ قَال الْمَهْدِيُّ الْعَبَّاسِيُّ: فَإِنْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ إِذْنِ النَّاظِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ لاَ حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الإِْسْقَاطِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ إِجَارَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا، وَلاَ إِلَى اسْتِئْجَارِ الأَْجْنَبِيِّ مِنَ النَّاظِرِ، بَل يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْمَذْكُورِ بَيْعُ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، فَيَنْتَقِل حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي،
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 209 ط. المكتبة التجارية.
(2) فتح العلي المالك 2 / 210.
(3) روضة الطالبين 5 / 316، وكشاف القناع 4 / 269، ومطالب أولي النهى 4 / 340 - 341.(34/203)
وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمَذْكُورِ أَجْرُ مِثْل الأَْرْضِ خَالِيَةً عَمَّا أَحْدَثَ فِيهَا (1) .
وَجَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: الْكَدِكُ الْمُتَّصِل بِالأَْرْضِ بِنَاءً وَغِرَاسًا أَوْ تَرْكِيبًا عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ هُوَ أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ، تُبَاعُ وَتُورَثُ، وَلأَِصْحَابِهَا حَقُّ الْقَرَارِ، وَلَهُمُ اسْتِبْقَاؤُهَا بِأَجْرِ الْمِثْل (2) .
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إِذْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقِيسُونَ الْجَدِكَ الْمُتَّصِل اتِّصَال قَرَارٍ عَلَى الْخُلُوِّ، قَال عُلَيْشٌ: بَعْضُ الْجَدِكَاتِ بِنَاءٌ أَوْ إِصْلاَحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلاً بِإِذْنٍ وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ (3) .
وَالْخُلُوُّ يَصِيرُ كَالْمِلْكِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ وَالْهِبَةُ وَالرَّهْنُ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ وَالإِْرْثُ (4) .
الشُّفْعَةُ فِي الْكَدِكِ:
11 - لاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي بَيْعِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الأَْرْضِ (5) إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّيِّدُ مُحَمَّدٌ أَبُو السُّعُودِ الْحَنَفِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الأَْشْبَاهِ: لَوْ كَانَ الْخُلُوُّ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا بِالأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ أَوِ الْمَمْلُوكَةِ يَجْرِي فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا اتَّصَل بِالأَْرْضِ اتِّصَال قَرَارٍ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ:
__________
(1) الفتاوى المهدية 5 / 61 ط. المطبعة الأزهرية.
(2) مرشد الحيران المادة (707) .
(3) فتح العلي المالك 2 / 210 ط. المكتبة التجارية.
(4) فتح العلي المالك 2 / 209.
(5) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 166، ونهاية المحتاج 5 / 194، وروضة الطالبين 5 / 70.(34/203)
مَا ذَكَرَهُ (السَّيِّدُ مُحَمَّدُ أَبُو السُّعُودِ) مِنْ جَرَيَانِ الشُّفْعَةِ فِيهِ سَهْوٌ ظَاهِرٌ، لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ لِمَنِ اشْتَرَكَ فِي الْبِنَاءِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ الْمُحْتَكَرَةِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ، قَال الْعَدَوِيُّ عِنْدَ بَيَانِ صُوَرِ الْخُلُوِّ: أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ مُحْبَسَةٌ فَيَسْتَأْجِرَهَا مِنَ النَّاظِرِ وَيَبْنِيَ فِيهَا دَارًا مَثَلاً عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُل شَهْرٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ ثَلاَثِينَ نِصْفًا فِضَّةً، وَلَكِنَّ الدَّارَ تُكْرَى بِسِتِّينَ نِصْفَ فِضَّةٍ مَثَلاً، فَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقَابِل الثَّلاَثِينَ الأُْخْرَى يُقَال لَهَا خُلُوٌّ، وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ جَمَاعَةٌ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ بَيْعَ حِصَّتِهِ فِي الْبَاءِ، فَلِشُرَكَائِهِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 17 - 18.
(2) العدوي على الخرشي 7 / 79(34/204)
كَذِب
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَذِبُ لُغَةً: الإِْخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلاَفِ مَا هُوَ، سَوَاءٌ فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّزْوِيرُ:
2 - التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: تَزْيِينُ الْكَذِبِ، وَزَوَّرْتُ الْكَلاَمَ فِي نَفْسِي: هَيَّأْتُهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلاَفِ صِفَتِهِ حَتَّى يُخَيَّل إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِل بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ.
وَبَيْنَ الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي الْقَوْل وَالْفِعْل، وَالْكَذِبُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوْل.
(ر: تَزْوِيرٌ ف 1) .
وَالْكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ،
__________
(1) المصباح المنير مادة: كذب.(34/204)
وَالتَّزْوِيرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْكَذِبِ الْمُمَوَّهِ.
ب - الاِفْتِرَاءُ:
3 - الاِفْتِرَاءُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: الْكَذِبُ وَالاِخْتِلاَقُ، قَال تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (1) أَيِ اخْتَلَقَهُ وَكَذَبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالاِفْتِرَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَإِنَّ الْكَذِبَ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيل الإِْفْسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيل الإِْصْلاَحِ، كَالْكَذِبِ لِلإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، أَمَّا الاِفْتِرَاءُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الإِْفْسَادِ (ر: افْتِرَاءٌ ف 1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل فِي الْكَذِبِ أَنَّهُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ الْعُيُوبِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (2) .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُل لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُل
__________
(1) سورة يونس / 38.
(2) سورة النحل / 116.(34/205)
لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا (1) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ (2) .
وَإِجْمَاعُ الأُْمَّةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَعَ النُّصُوصِ الْمُتَظَاهِرَةِ عَلَى ذَلِكَ (3) .
5 - وَقَدْ يَكُونُ الْكَذِبُ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا، فَالْكَلاَمُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَكُل مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكَذِبُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إِلاَّ بِالْكَذِبِ جَازَ الْكَذِبُ فِيهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ تَحْصِيل ذَلِكَ الْقَصْدِ مُبَاحًا كَانَ الْكَذِبُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْكَذِبُ وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ عِصْمَةَ دَمِ الْمُسْلِمِ وَاجِبَةٌ، فَإِذَا كَانَ فِي الصِّدْقِ سَفْكُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَدِ اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ فَالْكَذِبُ فِيهِ وَاجِبٌ، وَمَحَل الْوُجُوبِ مَا لَمْ يَخْشَ التَّبَيُّنَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ لاَ يُحْتَمَل.
وَإِذَا كَانَ لاَ يَتِمُّ مَقْصُودُ الْحَرْبِ أَوْ إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوِ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلاَّ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " إن الصدق يهدي إلى البر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 507) ومسلم (4 / 2012 - 2013) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " كبرت خيانة أن تحدث أخاك. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 253 - 254) من حديث سفيان بن أسيد الحضرمي، وضعف إسناده النووي في الأذكار ص 585.
(3) إحياء علوم الدين 9 / 1582، والأذكار ص335.(34/205)
بِكَذِبٍ فَالْكَذِبُ فِيهِ مُبَاحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا فَتَحَ بَابَ الْكَذِبِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُخْشَى أَنْ يَتَدَاعَى إِلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَإِلَى مَا لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَيَكُونُ الْكَذِبُ حَرَامًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالَّذِي يَدُل عَلَى هَذَا الاِسْتِثْنَاءِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُول خَيْرًا (1) ، وَوَرَدَ عَنْهَا: لَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُول النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الْحَرْبِ، وَالإِْصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الرَّجُل امْرَأَتَهُ وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا (2) ، فَهَذِهِ الثَّلاَثُ وَرَدَ فِيهَا صَرِيحُ الاِسْتِثْنَاءِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا عَدَاهَا إِذَا ارْتَبَطَ بِهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.
فَأَمَّا مَا هُوَ صَحِيحٌ لَهُ فَمِثْل أَنْ يَأْخُذَهُ ظَالِمٌ وَيَسْأَلَهُ عَنْ مَالِهِ فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ سُلْطَانٌ فَيَسْأَلَهُ عَنْ فَاحِشَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ارْتَكَبَهَا فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ، فَيَقُول: مَا زَنَيْتُ، مَا سَرَقْتُ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا،
__________
(1) حديث أم كلثوم: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 299) ومسلم (4 / 2011) .
(2) حديث أم كلثوم: " لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2011) .(34/206)
فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) ، وَذَلِكَ أَنَّ إِظْهَارَ الْفَاحِشَةِ فَاحِشَةٌ أُخْرَى، فَلِلرَّجُل أَنْ يَحْفَظَ دَمَهُ وَمَالَهُ الَّذِي يُؤْخَذُ ظُلْمًا وَعِرْضَهُ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا.
وَأَمَّا عِرْضُ غَيْرِهِ فَبِأَنْ يُسْأَل عَنْ سِرِّ أَخِيهِ فَلَهُ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ فِيهِ أَنَّ الْكَذِبَ مَحْذُورٌ، وَلَوْ صَدَقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ تَوَلَّدَ مِنْهُ مَحْذُورٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابَل أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ، وَيَزِنَ بِالْمِيزَانِ الْقِسْطِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي يَحْصُل بِالصِّدْقِ أَشَدُّ وَقْعًا فِي الشَّرْعِ مِنَ الْكَذِبِ فَلَهُ أَنْ يَكْذِبَ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَهْوَنَ مِنْ مَقْصُودِ الصِّدْقِ فَيَجِبُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَتَقَابَل الأَْمْرَانِ بِحَيْثُ يَتَرَدَّدُ فِيهِمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَيْل إِلَى الصِّدْقِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْكَذِبَ يُبَاحُ لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ، فَإِنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْحَاجَةِ مُهِمَّةً، فَالأَْصْل التَّحْرِيمُ، فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ.
وَلأَِجْل غُمُوضِ إِدْرَاكِ مَرَاتِبِ الْمَقَاصِدِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْكَذِبِ مَا أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ مَهْمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ لَهُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ أَغْرَاضَهُ وَيَهْجُرَ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا هذه القاذورة. . . ". أخرجه الحاكم وصححه (4 / 244) من حديث ابن عمر، ووافقه الذهبي.(34/206)
الْكَذِبَ، فَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ الْغَرَضُ بِغَيْرِهِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُسَامَحَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَالإِْضْرَارُ بِهِ (1) .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَحَمَلُوا الْكَذِبَ الْمُرَادَ فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ عَلَى التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ، كَمَنْ يَقُول لِلظَّالِمِ: دَعَوْتُ لَكَ أَمْسِ، وَهُوَ يُرِيدُ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَعِدُ امْرَأَتَهُ بِعَطِيَّةِ شَيْءٍ، وَيُرِيدُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُل إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لاَ يَسْقُطُ حَقًّا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا أَوْ أَخْذُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا.
تَغْلِيطُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
6 - الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي لاَ يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَال أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَال سَأُنْزِل مِثْل مَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (3) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 9 / 1588، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين لابن علان الشافعي 4 / 398 طبعة البابي الحلبي.، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 20 - 22 مكتبة ابن تيمية.
(2) سورة الأنعام / 93
(3) سورة الزمر / 60.(34/207)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، بَل قَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ، وَقَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ وَلاَ رَيْبَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا الْكَلاَمُ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَكَمَا يَحْرُمُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَال رُوَاتِهِ وَوَضْعَهُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ (3) .
وَلِهَذَا قَال الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ رِوَايَةَ
__________
(1) حديث: " من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 202) ومسلم (1 / 10) من حديث أبي هريرة.
(2) الزواجر 1 / 97.
(3) حديث: " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 9) من حديث المغيرة بن شعبة.(34/207)
الْحَدِيثِ أَوْ ذِكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، أَوْ فَعَلَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلاَ يَقُل: قَال أَوْ فَعَل أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَشَبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ، بَل يَقُول: رُوِيَ عَنْهُ كَذَا أَوْ جَاءَ عَنْهُ كَذَا أَوْ يُرْوَى أَوْ يُذْكَرُ أَوْ يُحْكَى أَوْ يُقَال أَوْ بَلَغَنَا وَمَا أَشْبَهَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) .
الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ:
7 - الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَتُسَمَّى الْغَمُوسَ وَهِيَ الَّتِي يَحْلِفُهَا الإِْنْسَانُ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ الأَْمْرَ بِخِلاَفِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِيُحِقَّ بِهَا بَاطِلاً أَوْ يُبْطِل حَقًّا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 102 - 114) .
شَهَادَةُ الزُّورِ:
8 - شَهَادَةُ الزُّورِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْبَاطِل مِنْ إِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَةُ الزُّورِ ف 1 - 2) .
الْكَذِبُ فِي الْمُزَاحِ:
9 - الْكَذِبُ فِي الْمُزَاحِ حَرَامٌ كَالْكَذِبِ فِي
__________
(1) شرح صحيح مسلم 1 / 59.(34/208)
غَيْرِهِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الإِْيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ مِنَ الْمُزَاحَةِ، وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا (2) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأََمْزَحُ وَلاَ أَقُول إِلاَّ حَقًّا (3) .
الْكَذِبُ فِي مُلاَعَبَةِ الصِّبْيَانِ:
10 - يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنَ الْكَذِبِ فِي مُلاَعَبَةِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ حَذَّرَ مِنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ: هَا تَعَال أُعْطِيكَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرَدْتَ أَنْ تُعْطِيَهُ؟ قَالَتْ: أُعْطِيَهُ تَمْرًا، فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكَ كِذْبَةٌ (4) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال لِصَبِيٍّ تَعَال هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كِذْبَةٌ (5) .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 18.
(2) حديث: " لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب. . . ". أخرجه أحمد (2 / 352 - 353) من حديث أبي هريرة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 92) وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه منصور بن أذين ولم أر من ذكره.
(3) حديث: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 16) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.
(4) حديث عبد الله بن عامر: " دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 265) ، وفي إسناده جهالة الراوي عن عبد الله بن عامر، كذا في مختصر السنن للمنذري (7 / 281) .
(5) حديث أبي هريرة: " من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه. . . ". أخرجه أحمد (2 / 152) ، وقال الهيثمي في المجمع (1 / 142) : رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة، ولم يسمعه منه.(34/208)
الْكَذِبُ فِي الرُّؤْيَا:
11 - حَذَّرَ الشَّارِعُ مِنَ الْكَذِبِ فِي الرُّؤْيَا وَنَهَى عَنْهُ، فَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُدْعَى الرَّجُل إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُول عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُل (1) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعْرَتَيْنِ وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا اشْتَدَّ فِيهِ الْوَعِيدُ مَعَ أَنَّ الْكَذِبَ فِي الْيَقِظَةِ قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ مَفْسَدَةً مِنْهُ؛ إِذْ قَدْ تَكُونُ شَهَادَةً فِي قَتْلٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ أَخْذِ مَالٍ؛ لأَِنَّ الْكَذِبَ فِي الْمَنَامِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَرَاهُ مَا لَمْ يَرَهُ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ أَشَدُّ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُول الأَْشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (3) ، وَإِنَّمَا كَانَ
__________
(1) حديث: " إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 540) من حديث واثلة بن الأسقع.
(2) حديث: " من تحلم كاذبًا كلف يوم القيامة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 427) والترمذي (4 / 538) من حديث ابن عباس، واللفظ للترمذي.
(3) سورة هود / 18.(34/209)
الْكَذِبُ فِي الْمَنَامِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ لِحَدِيثِ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ (1) ، وَمَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مِنْ قِبَل اللَّهِ تَعَالَى (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال عُلَمَاؤُنَا: إِنْ قِيل مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَاهُ فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ أَيَلْزَمُهُ حُكْمُهَا؟ قُلْنَا: لاَ يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا قَال لِلسَّاقِي: إِنَّكَ تُرَدُّ عَلَى عَمَلِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ سَقْيِ الْمَلِكِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَقَال لِلآْخَرِ وَكَانَ خَبَّازًا: وَأَمَّا أَنْتَ فَتُدْعَى إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَتُصْلَبُ فَتَأْكُل الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ، قَال الْخَبَّازُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، قَال: رَأَيْتَ أَوْ لَمْ تَرَ {قُضِيَ الأَْمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (3) .
لأَِنَّهُ نَبِيٌّ وَتَعْبِيرُ النَّبِيِّ حُكْمٌ، وَقَدْ قَال: إِنَّهُ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَأَوْجَدَ اللَّهُ مَا أَخْبَرَ كَمَا قَال تَحْقِيقًا لِنُبُوَّتِهِ (4) .
مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ:
12 - إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا الشَّارِعُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَتَغْيِيرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ
__________
(1) حديث: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 373) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) فتح الباري 12 / 374.
(3) سورة يوسف / 41.
(4) تفسير القرطبي 9 / 193.(34/209)
تَعَالَى أَنْ يَنْتَسِبَ الْمَرْءُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يَدَّعِيَ ابْنًا لَيْسَ ابْنَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ (1) ، وَالْكُفْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ تَأْوِيلاَنِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِل، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالإِْحْسَانِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ أَبِيهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ مِلَّةِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَ ابْنِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، اسْتِلْحَاقٌ ف 2) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " لا ترغبوا عن آبائكم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 54) ومسلم (1 / 80) .
(2) شرح صحيح مسلم 1 / 249، 251.
(3) حديث: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم. . . " أخرجه أبو داود (695 - 696) من حديث أبي هريرة، وأشار ابن حجر إلى إعلاله بجهالة أحد رواته، كذا في الفتح (12 / 54) .(34/210)
الْكَذِبُ فِي الْبَيْعِ وَالْغِشُّ فِيهِ:
13 - مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الأَْسْوَاقِ الْكَذِبُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَإِخْفَاءُ الْعَيْبِ فَمَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِعَشَرَةٍ وَأَرْبَحُ فِيهَا كَذَا، وَكَانَ كَاذِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ، وَعَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ بِكَذِبِهِ، فَإِنْ سَكَتَ مُرَاعَاةً لِقَلْبِ الْبَائِعِ كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي الإِْثْمِ وَعَصَى بِسُكُوتِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غِشٌّ ف 5) .
غِشُّ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ وَكَذِبُهُ عَلَيْهِمْ:
14 - غِشُّ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ وَكَذِبُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُمْ وَأَلاَّ يَغُشَّهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَعَهُمْ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الأَْلِيمِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ (1) ، وَعَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ قَال: " إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (2) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم. . . " أخرجه مسلم (1 / 102 - 103) .
(2) حديث معقل بن يسار: " لا يسترعي الله عبدًا رعية. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 127) ، ومسلم (1 / 125) واللفظ لمسلم.(34/210)
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُل مَعَهُمُ الْجَنَّةَ (1) ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِذَا خَانَ الأَْمِيرُ فِيمَا أُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُل مُتَصَدٍّ بِإِدْخَال دَاخِلَةٍ فِيهَا، أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَال حُدُودِهِمْ، أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ، أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْل فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ، وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَةِ الْمُبْعِدَةِ عَنِ الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) .
التَّحَدُّثُ بِكُل مَا سَمِعَ:
15 - نَهَى الشَّارِعُ أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ بِكُل مَا سَمِعَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُل مَا سَمِعَ (3) ، قَال النَّوَوِيُّ:
__________
(1) حديث: " ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم. . . " أخرجه مسلم (1 / 126) .
(2) شرح صحيح مسلم 1 / 349.
(3) حديث: " كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع " أخرجه مسلم (1 / 10) .(34/211)
وَالآْثَارُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا الزَّجْرُ عَنِ التَّحَدُّثِ بِكُل مَا سَمِعَ الإِْنْسَانُ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَإِذَا حَدَّثَ بِكُل مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَمَذْهَبُ أَهْل الْحَقِّ أَنَّ الْكَذِبَ: الإِْخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ، لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ إِثْمًا (1) .
الاِسْتِغْنَاءُ عَنِ الْكَذِبِ بِالْمَعَارِيضِ:
16 - نُقِل عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ، قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الرَّجُل عَنِ الْكَذِبِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا اضْطُرَّ الإِْنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَلاَ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ وَلاَ التَّصْرِيحُ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ.
وَمِثَال التَّعْرِيضِ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَامِلاً لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا أَتَى بِهِ الْعُمَّال إِلَى أَهْلِهِمْ؟ وَمَا كَانَ قَدْ أَتَاهَا بِشَيْءٍ، فَقَال: كَانَ عِنْدِي ضَاغِطٌ، قَالَتْ: كُنْتَ أَمِينًا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ
__________
(1) شرح صحيح مسلم 1 / 60.(34/211)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَعَثَ عُمَرُ مَعَكَ ضَاغِطًا. وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ نِسَائِهَا، وَاشْتَكَتْ عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا مُعَاذًا وَقَال: بَعَثْتُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟ قَال: لَمْ أَجِدْ مَا أَعْتَذِرُ بِهِ إِلَيْهَا إِلاَّ ذَلِكَ، فَضَحِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا، فَقَال: أَرْضِهَا بِهِ،
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (ضَاغِطًا) يَعْنِي رَقِيبًا، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَكَانَ النَّخَعِيُّ لاَ يَقُول لاِبْنَتِهِ: أَشْتَرِي لَكِ سُكَّرًا، بَل يَقُول: أَرَأَيْتِ لَوِ اشْتَرَيْتُ لَكِ سُكَّرًا؟ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لاَ يَتَّفِقُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الدَّارِ قَال لِلْجَارِيَةِ: قَوْلِي لَهُ: اطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلاَ تَقُولِي: لَيْسَ هُنَا كَيْ لاَ يَكُونَ كَذِبًا.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فَلاَ؛ لأَِنَّ هَذَا تَفْهِيمٌ لِلْكَذِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ كَذِبًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ قَال: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَخَرَجْتُ وَعَلَيَّ ثَوْبٌ، فَجَعَل النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا كَسَاكَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَكُنْتُ أَقُول: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، فَقَال لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الْكَذِبَ وَمَا أَشْبَهَهُ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى ظَنٍّ(34/212)
كَاذِبٍ لأَِجْل غَرَضِ الْمُفَاخَرَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ بَاطِلٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ.
وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ لِغَرَضٍ خَفِيفٍ كَتَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمُزَاحِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قَال: أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَبَكَتْ فَقَال: إِنَّكِ لَسْتِ بِعَجُوزٍ يَوْمِئِذٍ (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (2) ، وَقَال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ امْرَأَةً يُقَال لَهَا أُمُّ أَيْمَنَ جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يَدْعُوكَ، قَال: وَمَنْ هُوَ؟ أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، فَقَال: بَلَى، إِنَّ بِعَيْنِهِ بَيَاضًا، فَقَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَبِعَيْنِهِ بَيَاضٌ (3) وَأَرَادَ بِهِ الْبَيَاضَ الْمُحِيطَ بِالْحَدَقَةِ.
وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلاً اسْتَحْمَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا أَصْنَعُ
__________
(1) حديث: " لا يدخل الجنة عجوز. . . " قال العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (3 / 125 بهامش الإحياء) : أخرجه الترمذي في الشمائل مرسلاً، وأسنده ابن الجوزي في الوفاء من حديث أنس بسند ضعيف.
(2) سورة الواقعة / 35 - 36.
(3) حديث زيد بن أسلم: " ما من أحد إلا وبعينه بياض. . . " عزاه العراقي في تخريج الإحياء (3 / 126 - بهامش الإحياء) إلى كتاب الفكاهة والمزاح للزبير بن بكار، وإلى ابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم الفهري.(34/212)
بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَل تَلِدُ الإِْبِل إِلاَّ النُّوقُ؟ (1) ، وَكَانَ يَمْزَحُ بِهِ (2) .
كِرَاء
انْظُرْ: إِجَارَة
__________
(1) حديث أنس بن مالك: " أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 357) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) إحياء علوم الدين 9 / 1574 - 1593.(34/213)
كِرَاءُ الْعَقِبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِرَاءُ - بِالْمَدِّ - الأُْجْرَةُ، وَهُوَ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ مِنْ كَارَيْتُهُ مِنْ بَابِ قَاتَل، وَالْفَاعِل مُكَارٍ عَلَى النَّقْصِ، وَالْجَمْعُ مُكَارُونَ، وَمُكَارِينَ، مِثْل: قَاضُونَ وَقَاضِينَ، وَأَكْرَيْتُهُ الدَّارَ وَغَيْرَهَا إِكْرَاءً فَاكْتَرَاهُ بِمَعْنَى آجَرْتُهُ فَاسْتَأْجَرَ، وَالْكَرِيُّ عَلَى فَعِيلٍ مُكْرِي الدَّوَابِّ (1) . وَالْعُقْبُ فِي الأَْصْل مَجِيءُ الشَّيْءِ بِعَقِبِ الشَّيْءِ الآْخَرِ أَيْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ: الْمُتَعَاقِبَانِ، أَيْ يَأْتِي كُلٌّ مِنْهُمَا عَقِبَ صَاحِبِهِ، وَالْعُقْبَةُ: النَّوْبَةُ وَالْجَمْعُ عُقَبٌ، مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ وَتَعَاقَبُوا عَلَى الرَّاحِلَةِ رَكِبَ كُل وَاحِدٍ عُقْبَةً (2) .
وَكِرَاءُ الْعَقِبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يُؤَجِّرَ دَابَّةً لِرَجُلَيْنِ لِيَرْكَبَ هَذَا أَيَّامًا وَذَا أَيَّامًا أُخَرَ، أَوْ لِيَرْكَبَ هَذَا مَسَافَةً مَعْلُومَةً مِنَ الطَّرِيقِ وَذَا
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.(34/213)
مَسَافَةً مَعْلُومَةً أُخْرَى، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الإِْجَارَةُ بِهَذَا الاِسْمِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَعْقُبُ صَاحِبَهُ وَيَرْكَبُ مَوْضِعَهُ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ كِرَاءُ الْعَقِبِ وَلَهُ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ يُؤَجِّرَ دَابَّتَهُ لِرَجُلَيْنِ لِيَرْكَبَ هَذَا أَيَّامًا وَذَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً بِالتَّنَاوُبِ، أَوْ لِيَرْكَبَ أَحَدُهُمَا مَسَافَةً مَعْلُومَةً كَنِصْفِ الطَّرِيقِ أَوْ رُبُعِهِ مَثَلاً وَيَرْكَبَ الآْخَرُ مَسَافَةً مَعْلُومَةً أُخْرَى مَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عَادَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ مَضْبُوطَةٌ بِزَمَانٍ أَوْ مَسَافَةٍ اتُّبِعَتْ.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا شَخْصًا لِيَرْكَبَهَا بَعْضَ الطَّرِيقِ مَضْبُوطًا - كَمَا سَبَقَ - بِزَمَانٍ أَوْ مَسَافَةٍ مَعْلُومَتَيْنِ وَيَرْكَبَ الْمُؤَجِّرُ الْبَعْضَ الآْخَرَ تَنَاوُبًا مَعَ عَدَمِ شَرْطِ الْبُدَاءَةِ بِالْمُؤَجِّرِ - كَمَا هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيَّةِ - سَوَاءٌ أَشَرَطَاهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَمْ أَطْلَقَا أَوْ قَالاَ لِيَرْكَبْ أَحَدُنَا، وَسَوَاءٌ وَرَدَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ أَمْ فِي الذِّمَّةِ، لِثُبُوتِ الاِسْتِحْقَاقِ حَالاً، وَالتَّأْخِيرُ الْوَاقِعُ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِسْمَةِ (2) .
أَمَّا إِذَا اشْتَرَطَا - فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ - أَنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 194، ومغني المحتاج 2 / 339، والمغني لابن قدامة 5 / 519.
(2) فتح القدير 2 / 127، جواهر الإكليل 2 / 194، مغني المحتاج 2 / 339، المغني لابن قدامة 5 / 519.(34/214)
يَرْكَبَهَا الْمُؤَجِّرُ أَوَّلاً فَإِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ؛ لِتَأْخِيرِ حَقِّ الْمُكْتَرِي وَتَعَلُّقِ الإِْجَارَةِ بِالْمُسْتَقْبَل.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الطَّرِيقِ وَيَرْكَبَ الثَّانِي الْبَعْضَ الآْخَرَ دُونَ تَحْدِيدِ هَذَا الْبَعْضِ فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ مَضْبُوطَةٌ بِزَمَانٍ مِثْل أَنْ يَرْكَبَ هَذَا لَيْلاً وَيَمْشِيَ نَهَارًا، أَوْ يَرْكَبَ الآْخَرُ نَهَارًا وَيَمْشِيَ لَيْلاً، أَوْ بِمَسَافَةٍ مِثْل أَنْ يَرْكَبَ أَحَدُهُمَا بِفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ وَيَرْكَبَ الآْخَرُ بِفَرَاسِخَ مَعْلُومَةٍ أُخْرَى اتُّبِعَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ فَيَقْتَسِمَانِ الرُّكُوبَ بِالتَّرَاضِي عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَوِ الْمُبَيَّنِ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الاِبْتِدَاءِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
وَالزَّمَانُ الْمَحْسُوبُ فِي الْمُنَاوَبَةِ زَمَنُ السَّيْرِ دُونَ زَمَنِ النُّزُول حَتَّى لَوْ نَزَل أَحَدُهُمَا لِلاِسْتِرَاحَةِ أَوْ لِعَلَفِ الدَّابَّةِ لَمْ يُحْسَبْ زَمَنُ النُّزُول؛ لأَِنَّ نَفْسَ الزَّمَانِ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ (1) .
وَلَوِ اسْتَأْجَرَ اثْنَانِ دَابَّةً لاَ تَحْمِلُهُمَا مَعًا حُمِل الاِسْتِئْجَارُ عَلَى التَّعَاقُبِ وَيَقْتَسِمَانِ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَسَافَةِ فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْبُدَاءَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ كَانَتْ تَحْمِلُهُمَا مَعًا رَكِبَاهَا جَمِيعًا.
وَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بَعْضَ الطَّرِيقِ مُتَوَالِيًا صَحَّ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ، أَوِ اسْتَأْجَرَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 339، المغني لابن قدامة 5 / 519.(34/214)
نِصْفَ الدَّابَّةِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا صَحَّتِ الإِْجَارَةُ مُشَاعَةً كَبَيْعِ الْمُشَاعِ وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَسَافَةِ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ تَنَازَعَا فِي الْبُدَاءَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا مَرَّ.
وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَرْكَبَ يَوْمًا وَيَمْشِيَ يَوْمًا جَازَ، وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَرْكَبَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَيَمْشِيَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ مَا زَادَ وَنَقَصَ جَازَ كَذَلِكَ.
فَإِنِ اخْتَلَفَا لَمْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، الْمَاشِي لِدَوَامِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، عَلَى الدَّابَّةِ لِدَوَامِ الرُّكُوبِ عَلَيْهَا؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا رَكِبَ بَعْدَ شِدَّةِ تَعَبِهِ كَانَ أَثْقَل عَلَى الدَّابَّةِ.
وَإِنْ اكْتَرَى اثْنَانِ جَمَلاً يَرْكَبَانِهِ عُقْبَةً وَعُقْبَةً جَازَ وَيَكُونُ كِرَاؤُهُمَا طُول الطَّرِيقِ وَالاِسْتِيفَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَشَاحَّا قُسِمَ بَيْنَهُمَا لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرَاسِخُ مَعْلُومَةٌ أَوْ لأَِحَدِهِمَا اللَّيْل وَلِلآْخَرِ النَّهَارُ، وَإِنْ كَانَ بِذَلِكَ عُرْفٌ رُجِعَ إِلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْبَادِئِ مِنْهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِل أَنْ لاَ يَصِحَّ كِرَاؤُهُمَا إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رُكُوبٍ مَعْلُومٍ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَجْهُولٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَيَا عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا مُعَيَّنًا(34/215)
مِنْهُمَا (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا الْمَنْعُ، أَيْ مَنْعُ كِرَاءِ الْعَقِبِ بِصُورَتَيْهِ؛ لأَِنَّهَا إِجَارَةُ أَزْمَانٍ مُنْقَطِعَةٍ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ كِرَاءُ الْعَقِبِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي تُؤَجَّرُ الدَّابَّةُ فِيهَا لِرَجُلَيْنِ؛ لاِتِّصَال زَمَنِ الإِْجَارَةِ فِيهَا دُونَ الصُّورَةِ الأُْخْرَى وَهِيَ الَّتِي يَتَعَاقَبُ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ.
وَالثَّالِثُ: تَصِحُّ فِي الصُّورَتَيْنِ إِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ.
قَال الإِْمَامُ الْمُزَنِيُّ: لاَ يَجُوزُ اكْتِرَاءُ الْعُقْبَةِ إِلاَّ مَضْمُونًا، لأَِنَّهُ يَتَأَخَّرُ حَقُّ أَحَدِهِمَا عَنِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ أَكْرَاهُ ظَهْرًا فِي مُدَّةٍ تَتَأَخَّرُ عَنِ الْعَقْدِ.
وَلاَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً (2) .
وَهَذَا التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ كِرَاءِ الْعَقِبِ، فَفِي بَابِ الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الرَّاحِلَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً أَيْ مَا يُتَعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ فَرْسَخًا بِفَرْسَخٍ أَوْ مَنْزِلاً بِمَنْزِلٍ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 339، المغني لابن قدامة 5 / 519.
(2) مغني المحتاج 2 / 339.(34/215)
الرَّاحِلَةِ إِذْ ذَاكَ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لاَ مَاشِيًا وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لاَ يَرْكَبُ فِي كُل الطَّرِيقِ بَل يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ الآْخَرِ (1) .
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ كِرَاءَ الْعَقِبِ فِي أَصْلِهِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَلاَ سِيَّمَا الصُّورَةُ الَّتِي يَكْتَرِي فِيهَا الاِثْنَانِ رَاحِلَةً يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا يَرْكَبُ أَحَدُهُمَا مَرْحَلَةً وَالآْخَرُ مَرْحَلَةً أُخْرَى لِنَصِّهِمْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عُقْبَةُ الأَْجِيرِ، قَالُوا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ. أَيْ يَجُوزُ لِلْمُكْرِي اشْتِرَاطُ رُكُوبِ الأَْجِيرِ الْمِيل السَّادِسَ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْمُكْتَرِي أَوْ بَدَلَهُ وَيَمْشِيَهُ الْمُكْتَرِي لأَِنَّهُ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ.
وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْجَمَّال أَنَّهُ بَعْدَ كُل خَمْسَةِ أَمْيَالٍ يَرْكَبُ خَدَّامُ الْمُسْتَأْجِرِ الْمِيل السَّادِسَ أَوْ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ أَوْ بِمَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ مَسَافَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ كَثِيرَةٍ مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ كِرَاءَ الْعَقِبِ فِي الأَْصْل جَائِزٌ عِنْدَهُمْ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 122 وما بعدها، الهداية وشروحها، فتح القدير والعناية 2 / 127.
(2) المصدرين السابقين.
(3) انظر جواهر الإكليل 2 / 194، وحاشية الخرشي 7 / 38، شرح الزرقاني 7 / 40، والعُقْبة عند المالكية هي: رأس ستة أميال.(34/216)
كَرَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَرَامَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ كَرُمَ، يُقَال: كَرُمَ الرَّجُل كَرَامَةً: عَزَّ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ: فَتُطْلَقُ أَوَّلاً: بِمَعْنَى: ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ شَخْصٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
وَتُطْلَقُ ثَانِيًا: بِمَعْنَى: الإِْعْزَازِ وَالتَّفْضِيل وَالتَّشْرِيفِ، وَتُطْلَقُ ثَالِثًا: بِمَعْنَى: إِكْرَامِ الضَّيْفِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُعْجِزَةُ:
2 - الْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ مَا يَعْجِزُ الْخَصْمُ عِنْدَ التَّحَدِّي.
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ صِدْقِ مَنِ ادَّعَى
__________
(1) لسان العرب.
(2) التعريفات للجرجاني.(34/216)
النُّبُوَّةَ مَعَ عَجْزِ الْمُنْكِرِينَ عَنِ الإِْتْيَانِ بِمِثْلِهِ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالْمُعْجِزَةُ أَخَصُّ مِنَ الْكَرَامَةِ.
ب - الإِْرْهَاصُ:
3 - الإِْرْهَاصُ: مَا يَظْهَرُ مِنَ الْخَوَارِقِ قَبْل ظُهُورِ النَّبِيِّ (2) .
وَالْكَرَامَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.
ج - الاِسْتِدْرَاجُ:
4 - الاِسْتِدْرَاجُ: مَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الاِسْتِدْرَاجِ وَالْكَرَامَةِ الضِّدْيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَرَامَةِ:
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالإِْعْزَازِ:
5 - الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالإِْعْزَازِ، مَنْزِلَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ وَفَضَّلَهُمْ بِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، قَال عَزَّ مَنْ قَائِلٌ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (4) ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي
__________
(1) القاموس المحيط، وحاشية البيجوري على جوهرة التوحيد ص80.
(2) التعريفات للجرجاني، وحاشية البيجوري على جوهرة التوحيد ص80.
(3) الإقناع للشربيني 1 / 691، والتعريفات للجرجاني.
(4) سورة الإسراء / 70.(34/217)
تَفْسِيرِ الآْيَةِ: أَيْ: لَقَدْ شَرَّفْنَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، بِالْعَقْل، وَالْعِلْمِ، وَالنُّطْقِ، وَتَسْخِيرِ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُمْ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى مَنْ خَلَقْنَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ، وَالْبَهَائِمِ وَالْوَحْشِ وَالطَّيْرِ (1) ، وَقَدْ حَافَظَ الإِْسْلاَمُ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لِبَنِي آدَمَ جَعَلَهُ مَبْدَأَ الْحُكْمِ، وَأَسَاسَ الْمُعَامَلَةِ، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ مِنَ التَّشْرِيعَاتِ، فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ إِهْدَارُ كَرَامَةِ أَحَدٍ بِالاِعْتِدَاءِ عَلَيْهَا: بِالْقَتْل، قَال تَعَالَى: {مَنْ قَتَل نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعًا} (2) أَوْ بِهَتْكِ عِرْضِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) ، أَوْ بِالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ وَالاِسْتِهْزَاءِ بِهِ، قَال تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} (4) ، وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الأَْعْدَاءِ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ، وَبَعْدَ
__________
(1) تفسير ابن كثير في الآية 70 من سورة الإسراء.
(2) سورة المائدة / 32.
(3) سورة النور / 4.
(4) سورة الحجرات / 11.(34/217)
انْتِهَائِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا (1) . (ر: جِهَادٌ ف 31) .
إِكْرَامُ الضَّيْفِ:
6 - رَغَّبَ الإِْسْلاَمُ فِي كَرَامَةِ الضَّيْفِ وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ الإِْيمَانِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ (2) .
كَرَامَةُ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَهْل الْفَضْل:
7 - حَثَّ الإِْسْلاَمُ عَلَى تَوْقِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَأَهْل الْفَضْل، قَال تَعَالَى: {قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (3) ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ مِنْ إِجْلاَل اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِل الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ (4) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ
__________
(1) حديث: " لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا " أخرجه مسلم (3 / 1357) من حديث بريدة.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 532) ومسلم (1 / 68) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الزمر / 9.
(4) حديث: " إن من إجلال الله. . . " أخرجه أبو داود (5 / 124) من حديث أبي موسى الأشعري، وحسنه النووي في رياض الصالحين ص 184.(34/218)
مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ (1) .
الْكَرَامَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى جَوَازِ ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُؤْمِنٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَإِلَى وُقُوعِهَا فِعْلاً، وَيُسَمَّى وَلِيًّا.
وَالْوَلِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ حَسَبَ الإِْمْكَانِ، وَالْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَةِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَرْتَكِبُ مَعْصِيَةً بِدُونِ تَوْبَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِلأَْنْبِيَاءِ (ر: وِلاَيَةٌ) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِهَا بِأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مُحَالٌّ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) ، قَال الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: هَذَا دَلِيل جَوَازِ الْكَرَامَةِ
__________
(1) حديث: " ما أكرم شاب شيخًا لسنه. . " أخرجه الترمذي (4 / 372) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث غريب ".
(2) سورة آل عمران / 37.(34/218)
لِلأَْوْلِيَاءِ، وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَهْ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ: لأَِنَّ حُصُول الرِّزْقِ عِنْدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لاَ شَكَّ أَنَّهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لاَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَلَيْسَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ الْمَوْجُودَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ لَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ أَمْرُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُل لِمَرْيَمَ: {أَنَّى لَكَ هَذَا} وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الآْيَةِ: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1) ، مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ أَمْرِ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ - قِيل: أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ - لَمَّا سَأَلَهَا عَنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ غَيْرِ الْعَادِيَّةِ، وَذَكَرَتْ لَهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، هُنَالِكَ طَمِعَ فِي انْخِرَاقِ الْعَادَةِ بِحُصُول الْوَلَدِ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ الشَّيْخَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَائِسًا مِنَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ شَيْخُوخَتِهِ وَشَيْخُوخَةِ زَوْجَتِهِ وَعُقْمِهَا، فَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَا رَآهُ فِي حَقِّ مَرْيَمَ مِنَ الْخَوَارِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُل لَهُ إِلاَّ بِإِخْبَارِ مَرْيَمَ - لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمَا كَانَتْ رُؤْيَةُ تِلْكَ الْخَوَارِقِ فِي مَرْيَمَ سَبَبًا لِطَمَعِهِ بِوِلاَدَةِ الْعَاقِرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ - وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: ثَبَتَ أَنَّ
__________
(1) سورة آل عمران / 38.(34/219)
تِلْكَ الْخَوَارِقَ مَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلاَ لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ، لِعَدَمِ وُجُودِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِمَرْيَمَ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِهَا بِقِصَّةِ أَهْل الْكَهْفِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ (2) ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً سَبْعَةً مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ خَافُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنْ مَلِكِهِمْ فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَدَخَلُوا غَارًا فَلَبِثُوا فِيهِ بِلاَ طَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ ثَلَثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ بِلاَ آفَةٍ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ، وَلاَ الرِّسَالَةَ.
وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَقَدْ أَتَى بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ طَرْفُ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ فَرَأَى سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ بِلَمْحَةِ طَرْفِ الْعَيْنِ، قَال تَعَالَى: {قَال الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي} (3) .
وَكَذَلِكَ بِمَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ مِنْ كَرَامَاتٍ فِي
__________
(1) تفسير البيضاوي وحاشية الشيخ زادة في تفسير الآيات 37، 38، 33 من سورة آل عمران.
(2) سورة الكهف من الآية 9 - إلى الآية 22 من السورة.
(3) سورة النمل / 40.(34/219)
حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِمْ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وَجَّهَ عُمَرُ جَيْشًا، وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً يُدْعَى: سَارِيَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ: الْجَبَل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُول الْجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الْجَبَل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الْجَبَل فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ حَيْثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَكَانِ الْجَيْشِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ " (1) .
وَوَقَعَتْ لِلصَّحَابَةِ كَرَامَاتٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي حَنْظَلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدِ اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ تَغْسِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ خَرَجَ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ
__________
(1) حديث أنس: " أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 125) والرواية التي صرحت باسميهما عزاها ابن حجر إلى أحمد والحاكم.(34/220)
الْمَلاَئِكَةُ (1) .
وَلاَ تَزَال تَقَعُ الْكَرَامَاتُ لِصُلَحَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَِنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَدَ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيُعِينَهُمْ، وَيُؤَيِّدَهُمْ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأَُعِيذَنَّهُ (2) ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ وَتَأْيِيدِهِ، وَإِعَانَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: يُنْزِل نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآْلاَتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا (3) ، وَلِذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي " (4) ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِلَتُهُ بِاللَّهِ فَلاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُكْرِمَهُ بِظُهُورِ مَا لاَ يُطِيقُهُ غَيْرُهُ عَلَى يَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ.
وَأَنْكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ حُصُول مَا يَخْرِقُ الْعَادَةَ
__________
(1) حديث: " إن صاحبكم تغسله الملائكة. . ". أخرجه الحاكم (3 / 204 - 205) وصححه.
(2) حديث: " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 341) من حديث أبي هريرة.
(3) فتح الباري 11 / 341.
(4) رواية: " فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي " أورده ابن حجر في الفتح (11 / 344) نقلاً عن الطوفي ولم يعزها إلى أي مصدر.(34/220)
عَلَى يَدِ غَيْرِ نَبِيٍّ، وَقَالُوا: إِنَّ الْخَوَارِقَ دَلاَلاَتُ صِدْقِ الأَْنْبِيَاءِ، وَدَلِيل النُّبُوَّةِ لاَ يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِ النَّبِيِّ، وَلأَِنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ بِأَيْدِي الأَْوْلِيَاءِ لَكَثُرَتْ بِكَثْرَتِهِمْ، وَلَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهَا كَذَلِكَ (1) .
قَوْل مَنِ ادَّعَى مَا لاَ يُمْكِنُ عَادَةً:
9 - إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ مَا لاَ يُمْكِنُ عَادَةً، وَيُمْكِنُ بِالْكَرَامَةِ فَلاَ يُقْبَل شَرْعًا وَهُوَ لَغْوٌ، كَأَنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَهَنَ دَارِهِ بِالشَّامِ وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهَا، وَهُمَا بِمَكَّةَ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ كَرَامَاتِ الأَْوْلِيَاءِ، وَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فِي الْمَغْرِبِ وَهُوَ بِالْمَشْرِقِ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لاَ يَلْحَقُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ لاَ يُعَوَّل عَلَيْهَا بِالشَّرْعِ، وَإِنْ خَصَّ الشَّارِعُ شَخْصًا بِحُكْمٍ يَبْقَى الْحُكْمُ خَاصًّا بِهِ، وَلاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ فَحَسْبُهُ (2) ، وَهَذِهِ مَكْرُمَةٌ خَاصَّةٌ بِخُزَيْمَةَ بَعْدَ شَهَادَتِهِ بِشَهَادَتَيْنِ، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لأَِنَّهُ كَرَامَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (3)
__________
(1) حاشية شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم البيجوري المسماة بتحفة المريد على جوهرة التوحيد ص 80 وما بعدها.
(2) حديث: " من شهد له خزيمة أو شهد عليه. . ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4 / 87) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 320) : رجاله ثقات.
(3) تحفة المحتاج 5 / 107، ومسلم الثبوت 2 / 327.(34/221)
كَرَاهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَرَاهَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَرِهَ، يُقَال: كَرِهَ الشَّيْءَ كَرْهًا وَكَرَاهَةً وَكَرَاهِيَةً فَلاَ أَحَبَّهُ، فَهُوَ كَرِيهٌ وَمَكْرُوهٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْفِعْل اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ (2) .
أَقْسَامُ الْكَرَاهَةِ:
2 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: قَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ إِرْشَادِيَّةً أَيْ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَمِنْهُ كَرَاهَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْل التَّمْرِ لِصُهَيْبٍ وَهُوَ أَرْمَدُ (3) ، وَمِنْهُ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ عَلَى رَأْيٍ (4) .
وَتَنْقَسِمُ الْكَرَاهَةُ إِلَى كَرَاهَةٍ تَحْرِيمِيَّةٍ، وَكَرَاهَةٍ تَنْزِيهِيَّةٍ.
__________
(1) المفردات، والتعريفات، والمعجم الوسيط.
(2) جمع الجوامع 1 / 80، وشرح مسلم الثبوت 1 / 58.
(3) حديث: " كراهة النبي صلى الله عليه وسلم أكل التمر لصهيب وهو أرمد ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1139) من حديث صهيب، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 206) .
(4) البحر المحيط 1 / 298.(34/221)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَدْ يُطْلَقُ الْمَكْرُوهُ عَلَى الْحَرَامِ، كَقَوْل الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْل صَلاَةِ الإِْمَامِ وَلاَ عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا، وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ وَيُسَمِّيهِ مُحَمَّدٌ حَرَامًا ظَنِّيًّا.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا وَهُوَ مَا كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، وَيُرَادَفُ خِلاَفَ الأَْوْلَى، وَفِي الْبَحْرِ مِنْ مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَهُوَ الْمَحْمَل عِنْدَ إِطْلاَقِهِمُ الْكَرَاهَةَ، وَذَكَرَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّهُ فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْوَاجِبُ يَعْنِي بِالظَّنِّيِّ الثُّبُوتُ.
ثَانِيهِمَا: الْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا، وَمَرْجِعُهُ إِلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ " الْكَرَاهَةَ ". . . فَحِينَئِذٍ إِذَا ذَكَرُوا مَكْرُوهًا فَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ نَهْيًا ظَنِّيًّا يُحْكَمُ بِكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، إِلاَّ لِصَارِفٍ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى النَّدْبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيل نَهْيًا، بَل كَانَ لِلتَّرْكِ غَيْرِ الْجَازِمِ فَهِيَ تَنْزِيهِيَّةٌ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَيُطْلَقُ " الْمَكْرُوهُ " عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: الْحَرَامُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كُل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 89.(34/222)
ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (1) أَيْ مُحَرَّمًا. وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَمِنْهُ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الآْنِيَةِ: وَأَكْرَهُ آنِيَةَ الْعَاجِ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ: وَأَكْرَهُ اشْتِرَاطَ الأَْعْجَفِ وَالْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ؛ لأَِنَّ الأَْعْجَفَ مَعِيبٌ، وَشَرْطُ الْمَعِيبِ مُفْسِدٌ، قَال الصَّيْدَلاَنِيُّ: وَهُوَ غَالِبٌ فِي عِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (2) فَكَرِهُوا إِطْلاَقَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ.
الثَّانِي: مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
الثَّالِثُ: تَرْكُ الأَْوْلَى، كَصَلاَةِ الضُّحَى لِكَثْرَةِ الْفَضْل فِي فِعْلِهَا، حَكَى الإِْمَامُ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ تَرْكَ غُسْل الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ مَعَ أَنَّهُ لاَ نَهْيَ فِيهِ، قَال: وَهَذَا عِنْدِي جَارٍ فِي كُل مَسْنُونٍ صَحَّ الأَْمْرُ بِهِ مَقْصُودًا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ غُسْل الإِْحْرَامِ مَكْرُوهٌ، وَفَرَّقَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَال فِيهِ: مَكْرُوهٌ، وَمَا لاَ، يُقَال فِيهِ خِلاَفُ الأَْوْلَى وَلاَ يُقَال: مَكْرُوهٌ (3) .
__________
(1) سورة الإسراء / 38.
(2) سورة النحل / 116.
(3) البحر المحيط 1 / 296، وحاشية ابن عابدين 1 / 48 وما بعدها، وانظر جواهر الإكليل 1 / 233.(34/222)
الرَّابِعُ: مَا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي تَحْرِيمِهِ كَلَحْمِ السَّبُعِ وَيَسِيرِ النَّبِيذِ، هَكَذَا عَدَّهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى مِنْ أَقْسَامِ الْكَرَاهَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا فِي الْفُرُوعِ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهَا، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حِلِّهِ فَلاَ مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ فِي حَقِّهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي شُبْهَةِ الْخَصْمِ حَزَازَةٌ فِي نَفْسِهِ، وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ، فَلاَ يَصْلُحُ إِطْلاَقُ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الظَّنِّ الْحِل، وَيَتَّجِهُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُول: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول: كُل مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَالْحِل عِنْدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ (1) .
3 - وَهَل إِطْلاَقُ الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذِهِ الأُْمُورِ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّنْزِيهِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَهَل الْمَكْرُوهُ مِنَ التَّكْلِيفِ أَمْ لاَ وَهَل الْمَكْرُوهُ مِنَ الْقَبِيحِ أَمْ لاَ يُوصَفُ بِقُبْحٍ وَلاَ حُسْنٍ، وَهَل الْمَكْرُوهُ يَدْخُل تَحْتَ الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ أَمْ لاَ، وَهَل هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَمْ لاَ وَهَل تَرْكُ الْمَنْدُوبِ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا أَمْ لاَ؟ .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 1 / 297.(34/223)
خِلاَفُ الأَْوْلَى:
4 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: هَذَا النَّوْعُ أَهْمَلَهُ الأُْصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالإِْبَاحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ هَل هِيَ مَكْرُوهَةٌ، أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى كَالنَّفْضِ وَالتَّنْشِيفِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا؟
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. . . التَّعَرُّضُ لِلْفَصْل بَيْنَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَال فِيهِ: مَكْرُوهٌ، وَمَا لاَ فَهُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى وَلاَ يُقَال: مَكْرُوهٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَكُونَ مُصَرَّحًا بِهِ كَقَوْلِهِ: لاَ تَفْعَلُوا كَذَا، أَوْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ كَذَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَمَرَ بِمُسْتَحَبٍّ فَإِنَّ تَرْكَهُ لاَ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ الأَْمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ؛ لأَِنَّا اسْتَفَدْنَاهُ بِاللاَّزِمِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّمَا يُقَال: تَرْكُ الأَْوْلَى إِذَا كَانَ مُنْضَبِطًا كَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْل، وَمَا لاَ تَحْدِيدَ لَهُ وَلاَ ضَابِطَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ لاَ يُسَمَّى تَرْكُهُ مَكْرُوهًا، وَإِلاَّ لَكَانَ الإِْنْسَانُ فِي كُل وَقْتٍ مُلاَبِسًا لِلْمَكْرُوهَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يَعُودُ مَرِيضًا وَنَحْوَهُ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ بَعْدَ نَقْل هَذِهِ الأَْقْوَال: وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ خِلاَفَ الأَْوْلَى قِسْمٌ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَدَرَجَاتُ الْمَكْرُوهِ تَتَفَاوَتُ كَمَا فِي(34/223)
السُّنَّةِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قِسْمًا آخَرَ وَإِلاَّ لَكَانَتِ الأَْحْكَامُ سِتَّةً وَهُوَ خِلاَفُ الْمَعْرُوفِ أَوْ كَانَ خِلاَفُ الأَْوْلَى خَارِجًا عَنِ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (1) ، وَهَذَا رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَال: إِنَّ مَرْجِعَ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ خِلاَفَ الأَْوْلَى مَا لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ نَهْيٍ كَتَرْكِ صَلاَةِ الضُّحَى، بِخِلاَفِ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا، قَال فِي الْبَحْرِ: وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ ثُبُوتُ الْكَرَاهَةِ؛ إِذْ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ عَقِبَ هَذَا الْكَلاَمِ: أَقُول وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ إِذْ لاَ شُبْهَةَ أَنَّ النَّوَافِل مِنَ الطَّاعَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا فِعْلُهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِلاَ عَارِضٍ، وَلاَ يُقَال: إِنَّ تَرْكَهَا مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا (2) .
__________
(1) البحر المحيط 1 / 302 وما بعدها.
(2) انظر رد المحتار على الدر المختار 1 / 84.(34/224)
كِرْدَار
التَّعْرِيفُ
1 - الْكِرْدَارُ - وَيُسَمَّى بِخُوَارِزْمَ حَقَّ الْقَرَارِ - فَارِسِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُبْنَى أَوْ يُغْرَسُ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ لِلْوَقْفِ، وَالأَْرَاضِي الَّتِي حَازَهَا الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال وَيَدْفَعُهَا مُزَارَعَةً إِلَى النَّاسِ بِالنِّصْفِ فَيَصِيرُ لَهُمْ فِيهَا بِنَاءٌ وَغَرْسٌ أَوْ كَبْسٌ بِالتُّرَابِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِي الأَْرَاضِي الْمُحْتَكَرَةِ لِلْوَقْفِ وَنَحْوِهَا بَيْعُ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ، أَوْ غَرْسٍ، أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ إِذَا كَانَ الْكِرْدَارُ مَعْلُومًا؛ لأَِنَّ مَا أَحْدَثَهُ فِيهَا مِلْكُهُ، وَلَهُ فِي الأَْرْضِ حَقُّ الْقَرَارِ فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ (2) .
وَأَمَّا الشُّفْعَةُ فِي الْكِرْدَارِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (كَدِكٌ ف 11) .
__________
(1) متن اللغة مادة (كدر) وحاشية ابن عابدين 5 / 138، وتكملة البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8 / 148، وشرح منلا مسكين بحاشية أبي السعود 3 / 337.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 138 - 139، حاشية أبي السعود على شرح الكنز لمنلا مسكين 3 / 337.(34/224)
كُرّ
انْظُرْ: مَقَادِير(34/225)
كُرَّاثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُرَّاثُ لُغَةً بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ: بَقْلٌ مَعْرُوفٌ خَبِيثُ الرَّائِحَةِ كَرِيهُ الْعَرَقِ.
وَيُقَال: الْكَرَاثُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ وَاحِدَتُهُ كَرَاثَةٌ وَبِهِ سُمِّيَ الرَّجُل كَرَاثَةً.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ: الْكَرَاثُ شَجَرَةٌ جَبَلِيَّةٌ لَهَا خُضْرَةٌ نَاعِمَةٌ لَيِّنَةٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَقْل:
2 - وَهُوَ كُل مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ، وَكُل نَبَاتٍ اخْضَرَّتْ بِهِ الأَْرْضُ، وَكُل مَا يَنْبُتُ أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ فِي الشِّتَاءِ فَهُوَ بَقْلٌ (2) .
فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكُرَّاثِ.
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس مادة (كرث) .
(2) لسان العرب مادة (بقل) ، والكليات 1 / 389، والمغرب في ترتيب المعرب 48.(34/225)
ب - الثُّومُ:
3 - بَقْلَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَوِيَّةُ الرَّائِحَةِ، وَهِيَ بِبَلَدِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا بَرِّيٌّ وَمِنْهَا رِيفِيٌّ، وَاحِدَتُهُ ثُومَةٌ (1) .
وَالْكُرَّاثُ وَالثُّومُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنَ الْبَقْل.
ج - الْبَصَل:
4 - نَبَاتٌ مَعْرُوفٌ يَنْمُو تَحْتَ الأَْرْضِ وَلَهُ جُذُورٌ دَقِيقَةٌ وَيُؤْكَل نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا (2) ، وَاحِدَتُهُ بَصَلَةٌ.
وَهُوَ غَيْرُ الْكُرَّاثِ وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ
د - الْفُجْل:
5 - بَقْلَةٌ حَوْلِيَّةٌ وَلَهُ أَرُومَةٌ خَبِيثَةُ الْجُشَاءِ، وَاحِدَتُهُ فُجْلَةٌ - بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - وَفُجُلَةٌ - بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْجِيمِ (3) -. وَهُوَ غَيْرُ الْكُرَّاثِ، وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنَ الْبُقُول.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُرَّاثِ مِنْ أَحْكَامٍ:
حُكْمُ أَكْلِهِ وَأَثَرُهُ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ.
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ: أَكْل كُل ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (ثوم) .
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (بصل) .
(3) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (فجل) .(34/226)
تَعَذَّرَ زَوَال رَائِحَتِهِ (1) لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وَقَال مَرَّةً: مَنْ أَكَل الْبَصَل وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ ف 33) .
7 - وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى الْمَسْجِدِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الذَّهَابَ لِلْمَسْجِدِ فَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا بِكَرَاهِيَةِ أَكْلِهِ إِلاَّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى إِزَالَةِ رِيحِهَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُكْرَهُ أَكْل الْبَصَل وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْل وَكُل ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ مِنْ أَجْل رَائِحَتِهِ، سَوَاءٌ أَرَادَ دُخُول الْمَسْجِدِ أَمْ لَمْ يُرِدْ (3) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ (4) .
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: وَأَمَّا أَكْلُهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ فَمَكْرُوهٌ إِنْ لَمْ يُرِدِ الذَّهَابَ لِلْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 390، وجواهر الإكليل 1 / 100، ومغني المحتاج 1 / 236، والقليوبي وعميرة 1 / 227، وكشاف القناع 1 / 497، والمغني 11 / 88 - 89، وعمدة القاري 6 / 146.
(2) حديث: " من أكل من هذه. . . " أخرجه مسلم (1 / 395) .
(3) المغني 11 / 88 - 89، وكشاف القناع 1 / 497 - 498.
(4) حديث: " إن الملائكة تتأذى. . " أخرجه مسلم (1 / 395) .(34/226)
الْمَسْجِدِ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ حَرَامٌ (1) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَأَكْلُهَا مَكْرُوهٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّاجِحِ وَكَذَا فِي حَقِّنَا وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. نَعَمْ. قَال ابْنُ حَجَرٍ وَشَيْخُ الإِْسْلاَمِ: لاَ يُكْرَهُ أَكْلُهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى إِزَالَةِ رِيحِهَا وَلاَ لِمَنْ لَمْ يُرِدِ الاِجْتِمَاعَ مَعَ النَّاسِ، وَيَحْرُمُ أَكْلُهَا بِقَصْدِ إِسْقَاطِ وَاجِبٍ كَالْجُمُعَةِ وَيَجِبُ السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ رِيحِهَا (2) .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبُقُول حَلاَلٌ (3) .
أَكْل الزَّوْجَةِ لِلْكُرَّاثِ:
8 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَثُومٍ أَوْ بَصَلٍ أَوْ كُرَّاثٍ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْقُبْلَةَ وَكَمَال الاِسْتِمْتَاعِ.
فَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ أَكْل كُل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مَا لَمْ يَأْكُلْهُ مَعَهَا أَوْ يَكُنْ فَاقِدَ الشَّمِّ وَأَمَّا هِيَ فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تَأْكُل (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 390.
(2) القليوبي وعميرة 1 / 227.
(3) شرح مسلم 5 / 48.
(4) فتح القدير 2 / 520، والفتاوى الهندية 1 / 341، والشرح الصغير 1 / 520 ط. الحلبي.(34/227)
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَبَصَلٍ أَوْ ثُومٍ (1) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَتُمْنَعُ الزَّوْجَةُ مِنْ أَكْل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَبَصَلٍ أَوْ ثُومٍ وَكُرَّاثٍ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ (2) .
وَهُنَاكَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِشْرَةٌ ف 14) .
السَّلَمُ فِي الْكُرَّاثِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْبُقُول وَالَّتِي مِنْهَا الْكُرَّاثُ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ لأَِنَّ الْبُقُول مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال؛ وَلأَِنَّهَا تَخْتَلِفُ وَلاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِالْحُزَمِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى صِحَّةِ ذَلِكَ (5) .
بَيْعُ الْكُرَّاثِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 189.
(2) كشاف القناع 5 / 190، وانظر المغني 8 / 128.
(3) المغني 8 / 128، والإنصاف 8 / 352.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 185، والبحر الرائق 6 / 171، والإنصاف 5 / 86، وشرح منتهى الإرادات 2 / 215، وكشاف القناع 3 / 290.
(5) المدونة 4 / 14، والتاج والإكليل 4 / 531، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 5 / 213، ونهاية المحتاج 4 / 206 ط. المكتبة الإسلامية، والإنصاف 5 / 86.(34/227)
الْكُرَّاثِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ (1) لِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا (2) .
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 70 - 87) .
كُرْكِيّ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 38، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 176، والقليوبي وعميرة 2 / 235، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 204، والمغني 4 / 104، والإنصاف 5 / 67، والقواعد النورانية (123) .
(2) حديث: " نهى عن بيع الثمار. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 394) ومسلم (3 / 1165) .(34/228)
كُرْهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُرْهُ فِي اللُّغَةِ - بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا - الْمَشَقَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ كَرِهْتُ الشَّيْءَ أَكْرَهُهُ كُرْهًا - بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ - ضِدُّ أَحْبَبْتُهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ إِلَى أَنَّ الْكُرْهَ وَالْكَرْهَ لُغَتَانِ، فَبِأَيِّ لُغَةٍ وَقَعَ فَهُوَ جَائِزٌ، إِلاَّ الْفَرَّاءَ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْكُرْهَ - بِالضَّمِّ - مَا أَكْرَهْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ، وَالْكَرْهُ - بِالْفَتْحِ - مَا أَكْرَهَكَ غَيْرُكَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: الْكَرْهُ - بِالْفَتْحِ - الْمَشَقَّةُ، وَبِالضَّمِّ: الْقَهْرُ، وَقِيل: بِالْفَتْحِ: الإِْكْرَاهُ، وَبِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) القرطبي 3 / 38 - 39.(34/228)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُغْضُ:
2 - الْبُغْضُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْحُبِّ، وَبَغَضَ الشَّيْءَ بُغْضًا: مَقَتَهُ وَكَرِهَهُ، وَبَغُضَ الرَّجُل - بِالضَّمِّ - بَغَاضَةً، أَيْ صَارَ بَغِيضًا، وَبَغَّضَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ تَبْغِيضًا فَأَبْغَضُوهُ، أَيْ مَقَتُوهُ.
وَفِي الْمُفْرَدَاتِ: الْبُغْضُ: نِفَارُ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ (1) .
وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ فَقَال: إِنَّهُ قَدِ اتَّسَعَ بِالْبُغْضِ مَا لَمْ يَتَّسِعْ بِالْكَرَاهَةِ، فَقِيل: أَبْغَضُ زَيْدًا أَيْ أَبْغَضُ إِكْرَامَهُ وَنَفْعَهُ، وَلاَ يُقَال: أَكْرَهُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ تُسْتَعْمَل فِيمَا لاَ يُسْتَعْمَل فِيهِ الْبُغْضُ، فَيُقَال: أَكْرَهُ هَذَا الطَّعَامَ وَلاَ يُقَال أَبْغَضُهُ، وَالْمُرَادُ أَنِّي أَكْرَهُ أَكْلَهُ (2) .
ب - الْحُبُّ:
3 - الْحُبُّ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْبُغْضِ، وَالْحُبُّ: الْوِدَادُ وَالْمَحَبَّةُ، وَأُحِبُّهُ فَهُوَ مُحَبٌّ وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ - بِالْكَسْرِ - فَهُوَ مَحْبُوبٌ، وَتَحَبَّبَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن.
(2) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري.(34/229)
إِلَيْهِ: تَوَدَّدَ (1) .
وَالْحُبُّ نَقِيضُ الْكُرْهِ.
أَنْوَاعُ الْكُرْهِ:
4 - جَاءَ فِي الْمُفْرَدَاتِ: الْكُرْهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُعَافُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ.
وَالثَّانِي: مَا يُعَافُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْل أَوِ الشَّرْعُ.
وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُول الإِْنْسَانُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ: إِنِّي أُرِيدُهُ وَأَكْرَهُهُ، بِمَعْنَى أَنِّي أُرِيدُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ، وَأَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْل أَوِ الشَّرْعُ، وَأُرِيدُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْل أَوِ الشَّرْعُ، وَأَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (2) ، أَيْ تَكْرَهُونَهُ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعُ (3) .
وَقَدْ قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: كَانَ الْجِهَادُ كُرْهًا لأَِنَّ فِيهِ إِخْرَاجَ الْمَال وَمُفَارَقَةَ الأَْهْل وَالْوَطَنِ، وَالتَّعَرُّضَ بِالْجَسَدِ لِلشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَذَهَابِ النَّفْسِ فَكَانَتْ كَرَاهِيَتُهُمْ لِذَلِكَ، لاَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا فَرْضَ اللَّهِ (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكُرْهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَكُرْهِ الْكُفْرِ وَكُرْهِ الْمَعْصِيَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ فَضْل اللَّهِ عَلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) سورة البقرة / 216.
(3) المفردات في غريب القرآن.
(4) القرطبي 3 / 38 - 39.(34/229)
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.
وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِْيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الْكُرْهُ حَرَامًا كَكُرْهِ الإِْسْلاَمِ أَوِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَوِ الصَّالِحِينَ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الْكُرْهُ مُبَاحًا كَكَرَاهَةِ الْمَقْضِيِّ بِهِ إِنْ كَانَ مَعْصِيَةً؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ مُطَالَبٌ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا، أَمَّا الْمَقْضِيُّ بِهِ فَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَالْوَاجِبُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مَعْصِيَةً فَلْيَرْضَ بِالْقَضَاءِ وَلاَ يَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ بِهِ بَل يَكْرَهُهُ (3) .
يَقُول الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ السَّخَطَ بِالْقَضَاءِ
__________
(1) فتح الباري 1 / 58، وقواعد الأحكام 1 / 188 - 189، والقرطبي 6 / 216 - 217، 9 / 108. وحديث: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 60) من حديث أنس ابن مالك.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 291، والزواجر 1 / 102، 2 / 218، وشرح العقيدة الطحاوية ص 467، وإحياء علوم الدين 3 / 189.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 188.(34/230)
حَرَامٌ إِجْمَاعًا وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا بِخِلاَفِ الْمَقْضِيِّ بِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ابْتُلِيَ الإِْنْسَانُ بِمَرَضٍ فَتَأَلَّمَ مِنَ الْمَرَضِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ فَهَذَا لَيْسَ عَدَمَ رِضَا بِالْقَضَاءِ بَل عَدَمَ رِضَا بِالْمَقْضِيِّ وَنَحْنُ لَمْ نُؤْمَرْ بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلاَيَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ، وَلَمْ تَرِدَ الشَّرِيعَةُ بِتَكْلِيفِ أَحَدٍ بِمَا لَيْسَ فِي طَبْعِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرَ الأَْرْمَدُ بِاسْتِطَابَةِ الرَّمَدِ الْمُؤْلِمِ وَلاَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَرَضِ، بَل ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لاَ يَتَأَلَّمُونَ وَلاَ يَجِدُونَ لِلْبَأْسَاءِ وَقْعًا فَذَمَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (1) ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَلَمْ يَذِل لِلْمُؤْلِمَاتِ وَيُظْهِرُ الْجَزَعَ مِنْهَا وَيَسْأَل رَبَّهُ إِقَالَةَ الْعَثْرَةِ مِنْهَا فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ بَعِيدٌ عَنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، فَالْمَقْضِيُّ وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَقَطْ، أَمَّا الْمَقْضِيُّ فَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبَاتُ إِذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلإِْنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَحَرَامًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَمُبَاحًا فِي الْمُبَاحَاتِ، وَأَمَّا الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَوَاجِبٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَقَدْ حَزِنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْتِ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ (2) وَرَمْيِ السَّيِّدَةِ عَائِشَة
__________
(1) سورة المؤمنون / 76.
(2) حديث: " حزن النبي صلى الله عليه وسلم لموت ولده إبراهيم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 172 - 173) من حديث أنس بن مالك.(34/230)
بِمَا رُمِيَتْ بِهِ (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنَ الْمَقْضِيِّ، وَالأَْنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ طِبَاعُهُمْ تَتَأَلَّمُ وَتَتَوَجَّعُ مِنَ الْمُؤْلِمَاتِ وَتُسَرُّ بِالْمَسَرَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ بِهِ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي طَبَائِعِ الأَْنْبِيَاءِ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى (2) .
وَمِنَ الْكُرْهِ الْمُبَاحِ مَا يَنْقُصُ الإِْنْسَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، يَقُول الْغَزَالِيُّ: لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ يَكْرَهُ تَخَلُّفَ نَفْسِهِ وَنُقْصَانَهَا فِي الْمُبَاحَاتِ (3) .
أَثَرُ الْكُرْهِ فِي الْعَقِيدَةِ:
6 - مَنْ كَرِهَ الإِْسْلاَمَ، أَوْ كَرِهَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَافِرًا وَيُقْتَل مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتُبْ.
أَمَّا بُغْضُ الأَْنْصَارِ وَالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ كُرْهُهُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِعْزَازُهُمُ الدِّينَ وَبَذْلُهُمُ النَّفْسَ وَالْمَال فِي نُصْرَةِ الإِْسْلاَمِ وَنُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَرِهَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَمَّا مَنْ كَرِهَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ فَهُوَ عَاصٍ (4) .
__________
(1) حديث: " تألم النبي صلى الله عليه وسلم لرمي السيدة عائشة بما رميت به " أخرجه البخاري (فتح البخاري 7 / 453) .
(2) الفروق للقرافي 4 / 229 - 231.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 190 - 192.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 291، وشرح العقيدة الطحاوية ص 467، والأبي والسنوسي شرح صحيح مسلم 1 / 183 - 184.(34/231)
أَثَرُ الْكُرْهِ فِي الإِْمَامَةِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّصَدِّي لِلإِْمَامَةِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ يَكْرَهُونَهُ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الآْبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْقَوْمُ يَكْرَهُونَهُ لِفَسَادٍ فِيهِ أَوْ لأَِنَّهُمْ أَحَقُّ بِالإِْمَامَةِ مِنْهُ كُرِهَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الأَْحَقَّ بِالإِْمَامَةِ فَلاَ يُكْرَهُ وَالْكَرَاهَةُ عَلَيْهِمْ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَرِهَهُ أَقَل الْقَوْمِ وَلَوْ غَيْرُ ذَوِي الْفَضْل مِنْهُمْ لِتَلَبُّسِهِ بِالأُْمُورِ الْمُزْرِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلزُّهْدِ فِيهِ وَالْكَرَاهَةِ لَهُ أَوْ لِتَسَاهُلِهِ فِي تَرْكِ السُّنَنِ كَالْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ وَتَرْكِ النَّوَافِل كُرِهَتْ إِمَامَتُهُ، أَمَّا إِذَا كَرِهَهُ كُل الْقَوْمِ أَوْ جُلُّهُمْ أَوْ ذَوُو الْفَضْل مِنْهُمْ وَإِنْ قَلُّوا فَتَحْرُمُ إِمَامَتُهُ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأََنْ تُضْرَبَ عُنُقِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُل قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ لأَِمْرٍ مَذْمُومٍ شَرْعًا كَوَالٍ
__________
(1) حديث أبي أمامة: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم. . " أخرجه الترمذي (2 / 193) وقال: حديث حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 376.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 330.(34/231)
ظَالِمٍ أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى إِمَامَةِ الصَّلاَةِ وَلاَ يَسْتَحِقُّهَا أَوْ لاَ يَحْتَرِزُ مِنَ النَّجَاسَةِ، أَوْ يَمْحُو هَيْئَاتِ الصَّلاَةِ، أَوْ يَتَعَاطَى مَعِيشَةً مَذْمُومَةً، أَوْ يُعَاشِرُ الْفَسَقَةَ أَوْ نَحْوَهُمْ وَإِنْ نَصَبَهُ لَهَا الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ، لِحَدِيثِ: ثَلاَثَةٌ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ آذَانَهُمْ. . . وَمِنْهُمْ: إِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ.
وَالأَْكْثَرُ فِي حُكْمِ الْكُل، وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ لِكُرْهِ الأَْكْثَرِ لاَ الأَْقَل لأَِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ هَل يَتَّصِفُ الإِْمَامُ بِمَا يَجْعَلُهُ مَكْرُوهًا أَمْ لاَ، فَيُعْتَبَرُ قَوْل الأَْكْثَرِ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، أَمَّا إِذَا كَرِهَهُ دُونَ الأَْكْثَرِ لاَ لأَِمْرٍ مَذْمُومٍ فَلاَ تُكْرَهُ لَهُ الإِْمَامَةُ.
وَنَقَل الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ عَلَى قَوْمٍ رَجُلاً يَكْرَهُهُ أَكْثَرُهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَلاَ يُكْرَهُ إِنْ كَرِهَهُ دُونَ الأَْكْثَرِ بِخِلاَفِ الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى فَإِنَّهَا، تُكْرَهُ إِذَا كَرِهَهَا الْبَعْضُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَؤُمَّ رَجُلٌ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ إِذَا كَانَتْ كَرَاهَتُهُمْ لَهُ بِحَقٍّ كَخَلَلٍ فِي دِينِهِ أَوْ فَضْلِهِ لِلْحَدِيثِ، فَإِنْ كَرِهُوهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسُنَّةٍ، قَال مَنْصُورٌ: إِنَّا سَأَلْنَا أَمْرَ الإِْمَامَةِ فَقِيل لَنَا: إِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الظَّلَمَةَ، فَأَمَّا
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 245.(34/232)
مَنْ أَقَامَ السُّنَّةَ فَإِنَّمَا الإِْثْمُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلأَْكْثَرِ مِنَ الْقَوْمِ أَمَّا الأَْقَل فَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: إِذَا كَرِهَهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ فَلاَ بَأْسَ حَتَّى يَكْرَهَهُ أَكْثَرُ الْقَوْمِ (1) .
أَثَرُ كُرْهِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ:
8 - إِذَا كَرِهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ لِدَمَامَةٍ أَوْ سُوءِ خُلُقٍ أَوْ سُوءِ عِشْرَةٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ فَاحِشَةٍ أَوْ نُشُوزٍ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ احْتِمَالُهَا وَعَدَمُ فِرَاقِهَا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (2) . أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إِمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ؛ إِذْ عَسَى أَنْ يَؤُول الأَْمْرُ إِلَى أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مِنْهَا أَوْلاَدًا صَالِحِينَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ (3) أَيْ لاَ يَبْغُضُهَا بُغْضًا كُلِّيًّا يَحْمِلُهُ عَلَى فِرَاقِهَا، بَل يَغْفِرُ سَيِّئَتَهَا لِحَسَنَتِهَا وَيَتَغَاضَى عَمَّا يَكْرَهُ لِمَا يُحِبُّ.
أَمَّا إِذَا كَرِهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ لِكَوْنِهَا غَيْرَ عَفِيفَةٍ
__________
(1) المغني 2 / 229 ط. الرياض، وشرح منتهى الإرادات 1 / 261 - 262.
(2) سورة النساء / 19.
(3) حديث أبي هريرة: " لا يفرك مؤمن مؤمنة. . . " أخرجه مسلم (2 / 1091) .(34/232)
أَوْ لِتَفْرِيطِهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا مِثْل الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا وَلاَ يُمْكِنُهُ إِجْبَارُهَا عَلَيْهَا، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ إِمْسَاكُهَا لأَِنَّ فِيهِ نَقْصًا لِدِينِهِ وَلاَ يَأْمَنُ إِفْسَادَهَا لِفِرَاشِهِ وَإِلْحَاقَهَا بِهِ وَلَدًا لَيْسَ هُوَ مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ امْرَأَتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلِّقْهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ بَأْسَ بِعَضْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَال وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا لِتَفْتَدِي مِنْهُ (2) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) .
وَإِذَا كَرِهَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِقُبْحِ مَنْظَرٍ أَوْ سُوءِ عِشْرَةٍ أَوْ كِبَرِهِ أَوْ ضَعْفِهِ وَخَشِيَتْ أَلاَّ تُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِعِوَضٍ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا مِنْهُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (4) ، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول
__________
(1) حديث: " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس. . " أخرجه النسائي (6 / 67) ، وصححه ابن حجر في التلخيص (3 / 225) .
(2) تفسير القرطبي 5 / 98، ومختصر تفسير ابن كثير 1 / 369، وبدائع الصنائع 3 / 95، والاختيار 3 / 121، والمهذب 2 / 79، والمغني 7 / 97.
(3) سورة النساء / 19.
(4) سورة البقرة / 229.(34/233)
اللَّهِ مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ، إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فِي الإِْسْلاَمِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا (1) ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ لِغَيْرِ بُغْضٍ كُرِهَ لَهَا ذَلِكَ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 9) .
كَسَاد
انْظُرْ: نُقُود
__________
(1) حديث: " أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 395) .
(2) الاختيار 3 / 156 - 157، والمهذب 2 / 71 - 72، والمغني 7 / 51.(34/233)
كَسْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَسْبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ كَسَبَ، يُقَال: كَسَبَ مَالاً أَيْ رَبِحَهُ وَاكْتَسَبَ كَذَلِكَ، وَكَسَبَ لأَِهْلِهِ وَاكْتَسَبَ: طَلَبَ الْمَعِيشَةَ، وَكَسَبَ الإِْثْمَ وَاكْتَسَبَهُ: تَحَمَّلَهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْفِعْل الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلاَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الْحِرْفَةُ:
2 - الْحِرْفَةُ - بِالْكَسْرِ - فِي اللُّغَةِ: الطُّعْمَةُ، وَالصِّنَاعَةُ يُرْتَزَقُ مِنْهَا، وَكُل مَا اشْتَغَل الإِْنْسَانُ وَرَضِيَ بِهِ يُسَمَّى صَنْعَةً وَحِرْفَةً؛ لأَِنَّهُ يَتَحَرَّفُ إِلَيْهَا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الرَّمْلِيُّ: الْحِرْفَةُ مَا يُتَحَرَّفُ بِهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الصَّنَائِعِ
__________
(1) المصباح المنير مادة (كسب) ، والكسب للإمام محمد بن الحسن الشيباني ص 32 بتحقيق سهل زكار.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) القاموس المحيط، والمصباح المنير.(34/234)
وَغَيْرِهَا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحِرْفَةِ وَالْكَسْبِ هِيَ أَنَّ الْكَسْبَ أَعَمُّ مِنَ الْحِرْفَةِ؛ لأَِنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَكُونُ حِرْفَةً وَقَدْ لاَ يَكُونُ.
ب - الرِّبْحُ:
3 - الرِّبْحُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكْسَبُ (2) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: رَبِحَ فِي تِجَارَتِهِ: إِذَا أَفْضَل فِيهَا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْكَسْبِ أَنَّ الرِّبْحَ ثَمَرَةُ الْكَسْبِ.
ج - الْغِنَى:
4 - الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ فِي اللُّغَةِ: الْيَسَارُ (5) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْوَاعٌ (6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْكَسْبِ أَنَّ الْكَسْبَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل الْغِنَى.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 253.
(2) المعجم الوسيط.
(3) المصباح المنير مادة (ربح) .
(4) قواعد الفقه للبركتي.
(5) مختار الصحاح.
(6) بدائع الصنائع 2 / 47، 48، 319، والتاج والإكليل مع مواهب الجليل 2 / 342، والمهذب 2 / 42.(34/234)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْكَسْبُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ (1) ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ (2) ، فَإِنْ تَرَكَ الاِكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَسِعَهُ، وَإِنِ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ (3) ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْبِسُ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ كَسْبُ مَا زَادَ عَلَى أَقَل الْكِفَايَةِ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا أَوْ يَصِل بِهِ قَرِيبًا (5) .
وَيُبَاحُ كَسْبُ الْحَلاَل لِزِيَادَةِ الْمَال وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال مَعَ سَلاَمَةِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ إِذَنْ (6) .
وَأَمَّا الْكَسْبُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ - وَإِنْ كَانَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 348، والكسب لمحمد بن الحسن ص 57، ومطالب أولي النهى 6 / 341، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 278.
(2) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس. . . " أخرجه مسلم (2 / 692) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 58.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنتهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 502) من حديث عمر بن الخطاب.
(5) الفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 60، ومطالب أولي النهى 6 / 342.
(6) مطالب أولي النهى 6 / 341، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 178، والفتاوى الهندية 5 / 349، والكسب ص 60.(34/235)
مِنْ حِلٍّ - فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاظُمِ الْمُفْضِي إِلَى هَلاَكِ صَاحِبِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى (1) .
آدَابُ الْكَسْبِ:
6 - قَال أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَسْبُهُ طَيِّبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: أَنْ لاَ يُؤَخِّرَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لأَِجْل الْكَسْبِ، وَلاَ يُدْخِل النَّقْصَ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لأَِجْل الْكَسْبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِكَسْبِهِ اسْتِعْفَافًا لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ، وَلاَ يَقْصِدَ بِهِ الْجَمْعَ وَالْكَثْرَةَ.
الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْكَسْبِ جِدًّا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَرَى رِزْقَهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَيَرَى الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَسْبُ سَبَبًا (2) .
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكْتَسِبٍ تَحْصِيل عِلْمِ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الَّتِي لاَ تَنْفَكُّ الْمَكَاسِبُ عَنْهَا، وَهِيَ الْبَيْعُ وَالرِّبَا وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ، وَمَهْمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 349، ومطالب أولي النهى 6 / 342.
(2) تنبيه الغافلين 2 / 500 - 501.(34/235)
حَصَل عِلْمُ هَذِهِ الْعُقُودِ وَقَفَ الْمُكْتَسِبُ عَلَى مُفْسِدَاتِ الْمُعَامَلَةِ فَيَتَّقِيهَا (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَبَيْنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الاِشْتِغَال بِالْكَسْبِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ بَعْدَ تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْهُ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي لاَ يُقْصَدُ بِهِ التَّكَاثُرُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَسُّل إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، مِنْ صِلَةِ الإِْخْوَانِ وَالتَّعَفُّفِ عَنْ وُجُوهِ النَّاسِ، هُوَ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ (2) ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الاِكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَإِنَّ مَا اكْتَسَبَهُ الزَّارِعُ تَصِل مَنْفَعَتُهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ عَادَةً، وَالَّذِي يَشْتَغِل بِالْعِبَادَةِ إِنَّمَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّهُ بِفِعْلِهِ يُحَصِّل النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَالثَّوَابَ لِجِسْمِهِ، وَمَا كَانَ أَعَمَّ فَهُوَ أَفْضَل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (3) ، وَلِهَذَا كَانَ الاِشْتِغَال بِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَل مِنَ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَلِهَذَا كَانَتِ الإِْمَارَةُ وَالسَّلْطَنَةُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 66.
(2) الكسب ص 48، والمبسوط 30 / 251، والآداب الشرعية 3 / 280، ومطالب أولي النهى 6 / 341، والمدخل لابن الحاج 4 / 299 - 300.
(3) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 / 223) من حديث جابر وقواه السخاوي في المقاصد الحسنة ص325.(34/236)
بِالْعَدْل أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ كَمَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْعِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْجِهَادُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي طَلَبِ الْحَلاَل (1) ، يَعْنِي طَلَبَ الْحَلاَل لِلإِْنْفَاقِ عَلَى الْعِيَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى الأَْقَارِبِ وَالأَْجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ إِلاَّ مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ أَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ وَالرُّسُل عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الأَْوْقَاتِ، وَلاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْعِبَادَةِ فِي عُمُرِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لأَِنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، وَكَذَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ يَحْتَاجُونَ إِلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَيَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ لاَ
__________
(1) حديث: " العبادة عشرة أجزاء " وحديث: " الجهاد عشرة أجزاء. . . " أوردهما السرخسي في المبسوط (30 / 252) ولم نعثر عليهما فيما لدينا من مراجع السنن.
(2) الكسب ص48 - 49، والمبسوط 30 / 251 - 252.(34/236)
بِالْكَسْبِ، وَالنَّاسُ إِنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْعِبَادِ دُونَ الْمُكْتَسِبِينَ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ، وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْضِيل الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ؛ لأَِنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ، وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةَ أَفْضَل مِنَ الْعَجْزِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى؛ لأَِنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ، وَالْغَنِيَّ مُلاَبِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَل مِنْ مُلاَبَسَتِهَا، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلاَمَةِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى (3) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل التَّوَسُّطِ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى، لِيَصِل إِلَى فَضِيلَةِ الأَْمْرَيْنِ، وَيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيل الاِعْتِدَال، وَأَنَّ
__________
(1) الكسب ص 48 - 49، والمبسوط للسرخسي 30 / 251 - 252.
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي 351 - 352 تحقيق محمد السواس ط. دار ابن كثير.
(3) الكسب ص 50، والمبسوط 30 / 252.(34/237)
خِيَارَ الأُْمُورِ أَوْسَاطُهَا (1) .
التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَسْبِ الرِّزْقِ وَبَيْنَ التَّوَكُّل:
9 - جَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ (2) .
وَتَقْصِيرُ الإِْنْسَانِ عَنْ طَلَبِ كِفَايَتِهِ - كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ - قَدْ يَكُونُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: فَيَكُونُ تَارَةً كَسَلاً، وَتَارَةً تَوَكُّلاً، وَتَارَةً زُهْدًا وَتَقَنُّعًا.
فَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِكَسَلٍ فَقَدْ حُرِمَ ثَرْوَةَ النَّشَاطِ وَمَرَحَ الاِغْتِبَاطِ، فَلَنْ يُعْدَمَ أَنْ يَكُونَ كَلًّا قَصِيًّا أَوْ ضَائِعًا شَقِيًّا.
وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُهُ لِتَوَكُّلٍ فَذَلِكَ عَجْزٌ قَدْ أَعْذَرَ بِهِ نَفْسَهُ، وَتَرْكُ حَزْمٍ قَدْ غَيَّرَ اسْمَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَكُّل عِنْدَ انْقِطَاعِ الْحِيَل وَالتَّسْلِيمِ إِلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ الإِْعْذَارِ (3) ، فَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَافِقُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رُفَقَاءَ، فَجَاءَتْ رُفْقَةٌ يُهْرَفُونَ (4) بِرَجُلٍ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مِثْل فُلاَنٍ، إِنْ نَزَلْنَا فَصَلاَةٌ وَإِنْ رَكِبْنَا فَقِرَاءَةٌ، وَلاَ يُفْطِرُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يَرْحَل لَهُ، وَمَنْ كَانَ يَعْمَل
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي 352.
(2) الكسب ص 44، والمبسوط 30 / 250.
(3) أدب الدنيا والدين للماوردي ص344 - 345 ط. دار ابن كثير.
(4) أي يمدحونه ويطنبون في الثناء عليه.(34/237)
لَهُ؟ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ فَقَالُوا: نَحْنُ، فَقَال: كُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: قَال قَوْمٌ: إِنَّ الْكَسْبَ يَنْفِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَكُّل قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) فَمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَكُّل يَكُونُ حَرَامًا، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْفِي التَّوَكُّل قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا (3) .
وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ (4) .
أَنْوَاعُ الْكَسْبِ:
10 - إِنَّ حَاجَةَ الإِْنْسَانِ لِلْمَادَّةِ لاَزِمَةٌ لاَ يَعْرَى مِنْهَا بَشَرٌ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ نَفْسِهِ لَمْ تَدُمْ لَهُ حَيَاةٌ، وَلَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ دُنْيَا، وَإِذَا تَعَذَّرَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ لَحِقَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي نَفْسِهِ وَالاِخْتِلاَل فِي دُنْيَاهُ بِقَدْرِ مَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَادَّةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَائِمَ بِغَيْرِهِ يَكْمُل بِكَمَالِهِ، وَيَخْتَل بِاخْتِلاَلِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الْمَوَادُّ مَطْلُوبَةً
__________
(1) حديث أبي قلابة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرافق بين أصحابه. . . " أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2 / 356) مرسلاً.
(2) سورة المائدة / 23.
(3) حديث: " لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله. . . " أخرجه الترمذي (4 / 573) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) المبسوط 30 / 247، وانظر الكسب ص 37 وما بعدها.(34/238)