قِيمَتُهَا وَتَزِيدُ بِحَسَبِ مَا تُسَاوِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
فَإِذَا طَرَأَ مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ عَلَى الْفُلُوسِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَمِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ هَذِهِ الدُّيُونِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
7 - الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ إذَا اشْتَرَى بِهَا أَحَدٌ ثُمَّ كَسَدَتْ أَوِ انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَيَرُدُّ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلاَّ فَيَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَهَذَا إنْ كَانَ الْقَبْضُ حَاصِلاً، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلاً، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، لأَِنَّ الْمُتَعَذِّرَ إنَّمَا هُوَ التَّسْلِيمُ بَعْدَ الْكَسَادِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفَسَادِ لاِحْتِمَال زَوَال الْكَسَادِ بِالرَّوَاجِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِالرَّطْبَةِ ثُمَّ انْقَطَعَ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَرَّرْ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ وَتَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي وَقْتِ الْقِيمَةِ، فَقَال أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْكَسَادِ وَهُوَ آخِرُ مَا يَتَعَامَل بِهِ النَّاسُ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفَتْوَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَفِي الذَّخِيرَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ: أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْمُحِيطِ(32/206)
وَالتَّتِمَّةِ وَالْحَقَائِقِ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ رِفْقًا بِالنَّاسِ.
وَلَوْ غَلَتِ الْفُلُوسُ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، أَمَّا إذَا رَخُصَتْ قِيمَتُهَا وَنَقَصَتْ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّائِنِ إلاَّ الْمِثْل، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ أَوَّلاً، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ هَذَا الْقَوْل لِيَقُول قَوْلاً ثَانِيًا وَهُوَ: أَنَّ عَلَى الْمَدِينِ قِيمَةَ الْفُلُوسِ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى هَذَا الْقَوْل.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلاَفِ فِي الْفُلُوسِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ الْمُؤَجَّل الثَّمَنِ يُقَال فِي الْفُلُوسِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّل وَشِبْهِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُؤَثِّرُ الاِنْقِطَاعُ وَالْكَسَادُ وَالرُّخْصُ وَالْغَلاَءُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ الْمِثْل، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِالذَّهَبِ يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْكَسَادِ أَوِ الاِنْقِطَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، أَمَّا فِي الرُّخْصِ فَيَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَرْضِ. (1)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَال هُوَ: دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مِنَ النُّقُودِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَقَدْ أَفْتَى شَيْخُ ابْنِ عَابِدِينَ وَتَابَعَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِلُزُومِ الصُّلْحِ بَيْنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 242 ط2، فتح القدير 5 / 285، تنبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين ضمن مجموعة رسائله ص58 وبعدها.(32/207)
الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى نَوْعِ الْوَفَاءِ. (1)
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ الْكَاسَانِيُّ صُوَرًا مِنْ صَرْفِ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْفُلُوسِ.
مِثَالُهُ: لَوِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتِ الْفُلُوسُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَبْطُل لأَِنَّهُ بِالاِسْتِحْقَاقِ وَإِنِ انْتَقَضَ الْقَبْضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ إلاَّ أَنَّ الاِفْتِرَاقَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ حَصَل عَنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ دُونَ الْفُلُوسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِبُطْلاَنِ الْعَقْدِ، وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا، وَنَفْسُ الْحُكْمِ فِيمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا، وَأُخِذَ قَدْرُ الْمُسْتَحَقِّ، فَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْل الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَمِثْلُهُ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْفُلُوسِ كَاسِدَةً يَرُدُّ الْبَائِعُ بِقَدْرِ الْكَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْفُلُوسَ وَلَمْ يَنْقُدِ الدَّرَاهِمَ وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتِ الْفُلُوسُ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَجَازَ نَقْدَ الْبَائِعِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ فَجَازَ النَّقْدُ وَالْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ بِمِثْلِهَا، وَيَنْقُدُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ لِبَائِعِ الْفُلُوسِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجِزْ وَأَخَذَ الْفُلُوسَ وَبَطَل الْعَقْدُ لأَِنَّهُ
__________
(1) تنبيه الرقود ص64.(32/207)
تَبَيَّنَ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا حَصَل لاَ عَنْ قَبْضٍ أَصْلاً. (1)
ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
8 - الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْفُلُوسَ إذَا قُطِعَ التَّعَامُل بِهَا أَوْ تَغَيَّرَتْ نَقْصًا أَوْ زِيَادَةً وَكَانَتْ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ لِلدَّائِنِ الْمِثْل.
أَمَّا إذَا عُدِمَتْ فَإِنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل وَغَيْرِهِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْقِيمَةِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ مُمَاطِلاً، فَإِنْ كَانَ مُمَاطِلاً فَإِنَّ لَهُ الأَْحَظَّ مِنْ أَخْذِ الْقِيمَةِ أَوْ مِمَّا آل إلَيْهِ الأَْمْرُ مِنَ السِّكَّةِ الْجَدِيدَةِ الزَّائِدَةِ عَنِ الْقَدِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ - كَمَا يَقُول الصَّاوِيُّ - بِسَبَبِ ظُلْمِ الْمَدِينِ بِمَطْلِهِ. وَذَكَرَ الْخَرَشِيُّ أَنَّ لَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ أَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ عِنْدَ تَخَالُفِ الْوَقْتَيْنِ مِنَ الْعَدَمِ وَالاِسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ كَانَ انْقِطَاعُ التَّعَامُل بِهَا أَوْ تَغَيُّرُهَا نَقْصًا أَوْ غَلاَءً أَوَّل الشَّهْرِ الْفُلاَنِيِّ وَإِنَّمَا حَل الأَْجَل آخِرَهُ فَلَهُ الْقِيمَةُ آخِرَهُ، وَبِالْعَكْسِ بِأَنْ حَل الأَْجَل أَوَّلَهُ وَعَدِمَتْ آخِرَهُ فَإِنَّ لَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْعَدَمِ. (2)
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ شَاذٌّ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 242.
(2) المدونة 8 / 153، الخرشي 5 / 55، حاشية الدسوقي 3 / 40، بلغة السالك 2 / 23.(32/208)
الْمَذْهَبِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ إذَا بَطَلَتِ الْفُلُوسُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ وَمَعْزُوٌّ إلَى أَشْهَبَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْبَائِعَ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِخْذِ شَيْءٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلاَ يُظْلَمُ بِإِعْطَاءِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقِيل: الْوَاجِبُ قِيمَةُ السِّلْعَةِ يَوْمَ دَفْعِهَا لاَ قِيمَةُ السِّكَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ.
وَقَدْ قَال الرَّهُونِيُّ: ظَاهِرُ كَلاَمِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ وَصَرِيحُ كَلاَمِ آخَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّ الْخِلاَفَ السَّابِقَ مَحَلُّهُ إذَا قُطِعَ التَّعَامُل بِالسِّكَّةِ الْقَدِيمَةِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَلاَ، ثُمَّ أَرْدَفَ الرَّهُونِيُّ قَائِلاً: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّل بِهَا الْمُخَالِفُ. (1)
ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
9 - الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفُلُوسَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ إلاَّ مِثْل فُلُوسِهِ الَّتِي سَلَفَ أَوْ بَاعَ بِهَا حِينَ الْعَقْدِ.
وَنَفْسُ الْحُكْمِ يُقَال فِيمَا لَوْ رَخُصَتْ أَوْ
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر تحليل خليل وحاشية الرهوني عليه 5 / 60.(32/208)
غَلَتِ الْفُلُوسُ لَيْسَ لَهُ إلاَّ الْمِثْل، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْبَائِعَ بِالْفُلُوسِ الَّتِي أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ: إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ قَبْل الْقَبْضِ. (1)
رَابِعًا - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
10 - يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَبْلَغَ الْقَرْضِ لَوْ كَانَ فُلُوسًا فَأَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ وَتُرِكَتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا كَانَ لِلْمُقْرِضِ قِيمَتُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا، وَيُقَوِّمُهَا كَمْ تُسَاوِي يَوْمَ أَخَذَهَا ثُمَّ يُعْطِيهِ، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، فَإِذَا لَمْ يُبْطِلْهَا السُّلْطَانُ وَجَبَ رَدُّ الْمِثْل، سَوَاءٌ رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ أَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا. (2)
__________
(1) الأم 3 / 33 طبعة دار المعرفة، وقطع المجادلة ضمن كتاب الحاوي 1 / 97، والمجموع شرح المهذب 9 / 282.
(2) المغني والشرح الكبير 4 / 365، 358، مطالب أولي النهى 3 / 241.(32/209)
فَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَمُ مِنَ الإِْنْسَانِ: فَتْحَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْوَجْهِ وَرَاءَهَا تَجْوِيفٌ يَحْتَوِي عَلَى جِهَازَيِ الْمَضْغِ وَالنُّطْقِ.
وَيُسْتَعْمَل لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَجَازًا، فَيُقَال: فَمُ الْقِرْبَةِ وَفَمُ التُّرْعَةِ، لِمَدْخَل الْمَاءِ، وَفَمُ الْوَادِي: أَوَّلُهُ. (1)
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الْفَمُ هُوَ الْوِعَاءُ الْكُلِّيُّ لأَِعْضَاءِ الْكَلاَمِ فِي الإِْنْسَانِ، وَالتَّصْوِيتِ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُصَوِّتَةِ، وَالشَّفَتَانِ غِطَاؤُهُ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ مَا يَأْتِي:
أ - غَسْل الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الشَّفَتَيْنِ - وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا - جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ،
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير
(2) الكليات للكفوي 3 / 355.(32/209)
وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ غَسْل بَاطِنِ الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل بَاطِنِ الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ، بَل يُسَنُّ وَذَلِكَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِفَرْضِيَّةِ غَسْل الْفَمِ - الْمَضْمَضَةِ - فِي الْغُسْل. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْفَمَ مِنَ الْوَجْهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (3) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ (4) .
وَفِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ. (5)
ب) تَغْطِيَةُ الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّلَثُّمِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 66، والفتاوى الهندية 1 / 4، وجواهر الإكليل 1 / 38، وكشاف القناع 1 / 96.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 102، والفتاوى الهندية 1 / 6، 13، وحاشية الدسوقي 1 / 97، 136، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 43، 63.
(3) كشاف القناع 1 / 96.
(4) حديث: " المضمضة والاستنشاق من. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 84) وأعله بأن الصواب إرساله.
(5) حديث: " إذا توضأت فمضمض ". أخرجه أبو داود (1 / 100) .(32/210)
الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُل فَاهُ فِي الصَّلاَةِ. (1)
وَالتَّلَثُّمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ وَالأَْنْفِ.
وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يَصِل لآِخِرِ الشَّفَةِ السُّفْلَى. (2)
ج) تَقْبِيل الْفَمِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَقْبِيل الْفَمِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُل مَعَ الرَّجُل، أَوِ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ قَل أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً.
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ، أَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ فَجَائِزٌ.
وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يُقَبِّل الرَّجُل مَحَارِمَهُ عَلَى الْفَمِ مُطْلَقًا.
وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إنْ كَانَ بِلاَ حَاجَةٍ وَلاَ شَفَقَةٍ، وَأَجَازُوهُ إنْ كَانَ لَهُمَا.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَقْبِيل ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ
__________
(1) حديث: " نهى أن يغطي الرجل فاه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 423) والحاكم (1 / 353) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 439، حاشية الدسوقي 1 / 218، المجموع 3 / 179، كشاف القناع 1 / 275.(32/210)
فَمَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ، أَمَّا تَقْبِيل الزَّوْجِ فَمَ زَوْجَتِهِ وَالْعَكْسُ فَجَائِزٌ بِالاِتِّفَاقِ. (1)
فَهْدٌ
اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
فَوَائِتُ
اُنْظُرْ: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 244، والبناية في شرح الهداية 9 / 326، والفواكه الدواني 2 / 425، وروض الطالب 3 / 114، وحواشي الشرواني وابن القاسم العبادي على تحفة المحتاج 7 / 202، وكشاف القناع 5 / 16، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 275، 279.(32/211)
فَوَات
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَوَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ فَاتَ الأَْمْرُ يَفُوتُهُ فَوْتًا وَفَوَاتًا: ذَهَبَ عَنْهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّبْقِ، تَقُول: فَاتَنِي فُلاَنٌ بِكَذَا: أَيْ سَبَقَنِي بِهِ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ خُرُوجُ الْعَمَل الْمَطْلُوبِ شَرْعًا عَنْ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَائِتُ الْحَجِّ هُوَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ ثُمَّ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْدَاءُ:
2 - الأَْدَاءُ لُغَةً: الإِْيصَال، وَفِي اصْطِلاَحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الأَْدَاءُ فِعْل بَعْضٍ، وَقِيل: كُل مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا.
__________
(1) القاموس المحيط للفيروز آبادي، والنهاية، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) المسلك المتقسط للقاري ص283، وبدائع الصنائع 2 / 133 - 136.(32/211)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالأَْمْرِ.
وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَل أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَاتِ، وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْل الْوَاجِبِ وَالنَّفَل. (1)
وَالأَْدَاءُ خِلاَفُ الْفَوَاتِ.
ب - الْقَضَاءُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الأَْدَاءُ يُقَال: قَضَيْتُ الْحَجَّ وَالدَّيْنَ: أَدَّيْتُهُ، قَال تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} ، (2) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا، فَالْقَضَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الأَْدَاءِ. وَاسْتَعْمَل الْعُلَمَاءُ الْقَضَاءَ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تُفْعَل خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، وَالأَْدَاءَ إذَا فُعِلَتْ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لَكِنَّهُ اصْطِلاَحٌ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. (3)
وَالْفَوَاتُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ.
ج - الإِْحْصَارُ:
4 - الإِْحْصَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إتْمَامِ أَرْكَانِ
__________
(1) التوضيح والتلويح 1 / 161 - 162 وكشف الأسرار عن أصول البرذوي 1 / 135 - 136.
(2) سورة البقرة / 200.
(3) المصباح المنير.(32/212)
الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. (1)
وَالإِْحْصَارُ سَبَبٌ لِلْفَوَاتِ.
د - الإِْفْسَادُ:
5 - الإِْفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الإِْصْلاَحِ. (2)
وَاصْطِلاَحًا: جَعْل الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمُفْسِدُ، كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ، كَالْجِمَاعِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. (3)
وَالإِْفْسَادُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَوَاتِ.
مَا يَحْصُل بِهِ الْفَوَاتُ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - الْعِبَادَاتُ الْمُحَدَّدَةُ بِوَقْتٍ تَفُوتُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ - أَيْ تُصْبِحُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ - إلَى أَنْ تُقْضَى.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَدَاءٌ ف 7) .
7 - الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُطْلَقَةُ: كَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَائِهَا، هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ قَبْل مَوْتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ غَالِبِ ظَنِّهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 473.
(2) لسان العرب.
(3) المنثور للزركشي 3 / 7، وحاشية ابن عابدين 4 / 199.(32/212)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَدَاءٌ ف 8) .
وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُطْلَقَ يَفُوتُ الْمُكَلَّفَ بِوَفَاتِهِ. (1)
فَوَاتُ الْحَجِّ:
8 - اُخْتُصَّ الْحَجُّ بِأَنَّ لِفَوَاتِهِ حَالَيْنِ:
الأُْولَى: وَفَاةُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْل أَدَائِهِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي، أَوْ عَلَى الْفَوْرِ. (2)
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِحَيْثُ لاَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ وَمَكَانِهِ الْمُحَدَّدِ، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً، أَيْ أَدْنَى فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ إطْلاَقِهِمْ " فَوَاتُ " أَوْ " فَاتَهُ الْحَجُّ ".
وَلِلتَّفْصِيل (ر: حَجٌّ ف 123) .
9 - وَالأَْصْل فِي الْحُكْمِ بِفَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. (3)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَل الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 221، والمسلك المتقسط ص285.
(2) بدائع الصنائع 2 / 221.
(3) حديث: " الحج عرفة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 228) والحاكم (1 / 464) من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وصححه ووافقه الذهبي.(32/213)
فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لاَ يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَل تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ احْتِمَال الْفَوَاتِ. (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيُحِل بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. (2) وَبِذَلِكَ ثَبَتَتِ الآْثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْل أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ سَبْعًا وَيَطَّوَّفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيُهُ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْل أَنْ يَحْلِقَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فَلْيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ ثُمَّ لِيَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ (3) .
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ حَاجًّا، حَتَّى
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 220.
(2) حديث: " من وقف بعرفات بليل. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 241) من حديث ابن عمر، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(3) أثر ابن عمر: " من لم يدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر. . . " أخرجه البيهقي (5 / 174) .(32/213)
إذَا كَانَ بِالنَّازِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ، فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ.
كَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ (1) . وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَفُوتُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِهَا بِالإِْجْمَاعِ، لأَِنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، إنَّمَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْعُمُرِ. (2)
(ر: عُمْرَةٌ) .
تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
10 - لَمَّا كَانَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الْعَامِ لاَ يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَلاَ يَكُونُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا كَانَ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، وَلَهُ مَحْظُورَاتٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا، وَيَشُقُّ تَحَمُّلُهَا زَمَنًا طَوِيلاً، فَقَدْ شُرِعَ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ مِنْ إحْرَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا،
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 335.
(2) المسلك المتقسط ص285.(32/214)
وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَهَذَا التَّحَلُّل وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى الْعَامِ الْقَادِمِ وَصَابَرَ الإِْحْرَامَ، فَحَجَّ بِذَلِكَ الإِْحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الأَْدِلَّةِ وَالآْثَارِ حَتَّى قِيل: هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. (1)
وَلأَِنَّ مُوجَبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجَبِهِ (2) وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِئَلاَّ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِلْعَامِ الْقَابِل، وَإِنْ شَاءَ تَحَلَّل، وَالتَّحَلُّل أَفْضَل مُطْلَقًا حَسَبَ ظَاهِرِ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنْ دَخَل مَكَّةَ أَوْ قَارَبَهَا فَالأَْفْضَل لَهُ التَّحَلُّل، وَكُرِهَ إبْقَاءُ إحْرَامِهِ، فَإِنْ هَذَا مَحَلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهَا فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الإِْحْرَامِ وَالإِْحْلاَل عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. (4) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: إنَّ تَطَاوُل الْمُدَّةِ بَيْنَ الإِْحْرَامِ وَفِعْل
__________
(1) المجموع 8 / 234.
(2) المسلك المتقسط ص284.
(3) المجموع 8 / 234، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 489، 480، ط بولاق وهذا بناء على مذهب الشافعية أنه لا يصح الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، كما سبق في الإحرام (ف 34) .
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 95، والمغني 3 / 529.(32/214)
النُّسُكِ لاَ يَمْنَعُ إتْمَامَهُ كَالْعُمْرَةِ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ (1) .
كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
11 - يَظَل الْحَاجُّ الَّذِي فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَتَلْبِيَتِهِ، حَتَّى يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ.
وَيَحْصُل التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ، بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، وَهَذِهِ هِيَ أَفْعَال الْعُمْرَةِ.
12 - لَكِنْ هَل هَذِهِ الأَْفْعَال هِيَ عَمْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهَا أَفْعَال عُمْرَةٍ، وَلَيْسَتْ عُمْرَةً حَقِيقِيَّةً، لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ " أَفْعَال عُمْرَةٍ " كَمَا ذَكَرْنَا " وَبِعَمَل عُمْرَةٍ " وَلاَ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ عُمْرَةً، بَل إنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ إلَى أَنْ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجْعَل إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ (3) ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
__________
(1) المغني 3 / 529.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 95، وبدائع الصنائع 2 / 220، ومغني المحتاج 1 / 537، والمغني 3 / 529.
(3) المغني 3 / 529.(32/215)
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ. (1)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِالآْثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَفِيهَا قَوْلُهُمْ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، وَيَذْكُرُونَ الأَْعْمَال: الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالْحِلاَقِ، وَلَمْ يُسَمُّوهَا عُمْرَةً.
وَبِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَالْقَوْل بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ عُمْرَةٍ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ (2) : لأَِنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَلاَ يَنْصَرِفُ لآِخَرَ، كَعَكْسِهِ أَيْ كَمَا لاَ يَنْصَرِفُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلاَقِ كَمَا يَتَحَلَّل أَهْل الآْفَاقِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل، وَلَوِ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْحَال أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ فَائِتِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْل أَفْعَال الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّل لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْعُمْرَةِ
__________
(1) البدائع 2 / 220، والمسلك المتقسط ص284، ورد المحتار 2 / 259.
(2) نهاية المحتاج 2 / 480.(32/215)
الْمُبْتَدَأَةِ. (1)
وَبِأَنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال فِي الْحَقِيقَةِ تَحَلُّلٌ لاَ عُمْرَةٌ بِدَلِيل عَدَمِ تَجْدِيدِ إحْرَامٍ لَهَا. (2)
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ فَائِتِ الْحَجِّ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ السَّابِقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ " فَلْيُحِل بِعُمْرَةٍ ". (3)
وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى (4) .
أَحْكَامُ التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
13 - لاَ تَحْتَاجُ أَعْمَال التَّحَلُّل لِفَائِتِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّحَلُّل، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّل، (5) وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقِيَاسُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يُوجِبُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَنْوِيَ فَسْخَ حَجِّهِ إلَى عُمْرَةٍ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: إحْرَامٌ ف 127) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 220.
(2) الدسوقي 2 / 96.
(3) بدائع الصنائع 2 / 220، وحديث: " فليحل بعمرة. . . " سبق تخريجه ف9.
(4) المغني 3 / 527.
(5) الدسوقي 2 / 95، ونهاية المحتاج 2 / 480.(32/216)
14 - وَتَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِاخْتِلاَفِ إحْرَامِهِ: إفْرَادًا كَانَ أَوْ تَمَتُّعًا أَوْ قِرَانًا.
فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَفَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ كَتَحَلُّل الْمُفْرِدِ أَيْضًا، وَيَبْطُل تَمَتُّعُهُ، لأَِنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَتَّى إنْ كَانَ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِتَمَتُّعِهِ يَفْعَل بِهِ مَا يَشَاءُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ (1)
وَإِنْ كَانَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَارِنًا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّل كَمَا يَتَحَلَّل الْمُفْرِدُ، لاِنْدِمَاجِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ، وَتَفُوتُ الْعُمْرَةُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَفُوتُ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بَل يَلْزَمُهُ إضَافَةً إلَى هَدْيِ التَّحَلُّل عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّحَلُّل فَقَالُوا: كُل مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَفَاتَهُ الْحَجُّ يُؤْمَرُ لأَِجْل التَّحَلُّل أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِل ثُمَّ يَقُومُ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل، وَذَلِكَ لِيَجْمَعَ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 195، 196، والفواكه الدواني 1 / 434 والمجموع 8 / 222، والمغني 3 / 401.(32/216)
إحْرَامِهِ لِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَل مَكَّةَ مُعْتَمِرًا ثُمَّ أَرْدَفَ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي مَكَّةَ وَفَاته الْحَجُّ يَخْرُجُ إلَى الْحِل وَيَعْمَل أَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لاَ غَيْرُ، لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ إحْرَامِ عُمْرَتِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ، وَالْعُمْرَةُ لاَ تَفُوتُ، لأَِنَّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ وَقْتُهَا، فَيَأْتِي بِهَا، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ فَلأَِنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لاَ يَتَحَلَّل إلاَّ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ.
وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْجَمْعُ فَلاَ يَجِبُ الدَّمُ. (2)
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي الْعِبَادَاتِ:
14 - يَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ حُكْمَانِ: -
__________
(1) الدسوقي 2 / 94، ونهاية المحتاج 2 / 480، والمغني 3 / 398، 400.
(2) البدائع 2 / 221.(32/217)
أَوَّلُهُمَا: ارْتِكَابُ الإِْثْمِ فِي تَفْوِيتِ الْوَاجِبِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْوَاجِبِ بِالذِّمَّةِ وَوُجُوبُ قَضَائِهِ فَيَجِبُ قَضَاءُ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ سَوَاءٌ كَانَ تَرْكُهُ خَطَأً أَوْ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِاتِّفَاقٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 19) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ)
15 - أَمَّا النَّفَل، سَوَاءٌ مِنْهُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُتَرَتِّبُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَائِهِ إذَا فَاتَ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُقْضَى شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّوَافِل قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا إذَا فَاتَ لاَ يُقْضَى.
وَالثَّانِي: مُؤَقَّتٌ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ، اخْتَارَ صَاحِبُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ أَنَّهُ يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ، إلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 120) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
__________
(1) المجموع 4 / 41.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 230.(32/217)
فَوَاسِقُ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل الْفِسْقِ لُغَةً: الْخُرُوجُ عَنِ الأَْمْرِ، تَقُول الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إذَا خَرَجَتْ.
وَقَدْ سَمَّى الشَّارِعُ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ فَوَاسِقَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعَارَةِ امْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، وَهَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ هِيَ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: أَصْل الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ، وَالْجَوْرُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْعَاصِي فَاسِقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فَوَاسِقَ عَلَى الاِسْتِعَارَةِ لِخُبْثِهِنَّ، وَقِيل: لِخُرُوجِهِنَّ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، أَيْ لاَ حُرْمَةَ لَهُنَّ بِحَالٍ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (فسق) ، والمغرب ص360.
(2) فتح القدير 2 / 266.(32/218)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاسِقِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْفَوَاسِقُ مِنَ الدَّوَابِّ:
2 - سَمَّى الشَّارِعُ بَعْضَ الدَّوَابِّ فَوَاسِقَ. وَذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. وَالْحُدَيَّا. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغُرَابَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا ذَلِكَ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُل الْجِيَفَ أَيِ النَّجَاسَاتِ مَعَ غَيْرِهَا، فَيَأْكُل الْحَبَّ تَارَةً وَالنَّجَاسَةَ أُخْرَى وَلَيْسَ مِنْهُ الْعَقْعَقُ، لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى غُرَابًا، وَلاَ يَبْتَدِئُ بِالأَْذَى، وَكَذَا غُرَابُ الزَّرْعِ وَهُوَ الَّذِي يَأْكُل الزَّرْعَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدِّ الْغُرَابِ مِنَ الْفَوَاسِقِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ أَبْقَعَ وَهُوَ الَّذِي خَالَطَ سَوَادَهُ بَيَاضٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغُرَابُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الأَْبْقَعُ وَهُوَ فَاسِقٌ مُحَرَّمٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمِنْهَا الأَْسْوَدُ الْكَبِيرُ، وَيُقَال لَهُ: الْغُدَافُ الْكَبِيرُ. وَيُقَال: الْغُرَابُ الْجَبَلِيُّ، لأَِنَّهُ يَسْكُنُ الْجِبَال. وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَمِنْهَا: غُرَابُ الزَّرْعِ. وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ يُقَال لَهُ: الزَّاغُ، وَقَدْ يَكُونُ
__________
(1) حديث: " خمس فواسق يقتلن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 355) ومسلم (2 / 856) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.(32/218)
مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ حَلاَلٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَمِنْهَا: غُرَابٌ آخَرُ صَغِيرٌ أَسْوَدُ، أَوْ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ، وَقَدْ يُقَال لَهُ: الْغُدَافُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَكَذَا الْعَقْعَقُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، فَلاَ يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ أَكْل الْعَقْعَقِ وَالْقَاقِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ. (1) كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِدَأَةَ مِنَ الْفَوَاسِقِ. (2)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَقْرَبَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، قَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَلْحَقُ بِهَا الرُّتَيْلاَ، وَهِيَ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ رُبَّمَا قَتَلَتْ مَنْ لَدَغَتْهُ، وَالزُّنْبُورُ وَهُوَ ذَكَرُ النَّحْل. (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدِّ الْحَيَّةِ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
قَال الْعَدَوِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَيَدْخُل فِيهَا الأَْفْعَى، وَهِيَ حَيَّةٌ رَقْشَاءُ دَقِيقَةُ الْعُنُقِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، روضة الطالبين 3 / 272، القليوبي وعميرة 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439، 5 / 190.
(2) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، نهاية المحتاج 3 / 333، كشاف القناع 2 / 439.
(3) فتح القدير 2 / 266، حاشية ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، حاشية القليوبي على المحلي 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.
(4) فتح القدير 2 / 266، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، العدوي على الخرشي 2 / 366، حاشية القليوبي 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.(32/219)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْفَأْرَ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّبَّ وَالْيَرْبُوعَ لَيْسَا مِنَ الْفَوَاسِقِ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَبْدَآنِ بِالأَْذَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَلْحَقُ بِالْفَأْرَةِ ابْنُ عُرْسٍ وَمَا يَقْرِضُ الثِّيَابَ مِنَ الدَّوَابِّ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الْفَأْرُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْجُرَذُ، وَالْخُلْدُ، وَفَأْرَةُ الإِْبِل، وَفَأْرَةُ الْمِسْكِ، وَفَأْرَةُ الْغَيْطِ، وَحُكْمُهَا فِي تَحْرِيمِ الأَْكْل وَجَوَازِ الْقَتْل سَوَاءٌ (1) .
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلْبِ غَيْرِ الْعَقُورِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْكَلْبَ غَيْرَ الْعَقُورِ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاسِقِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ مِنْهَا. (2)
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَل يَلْحَقُ بِالْفَوَاسِقِ غَيْرُهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إلَى
__________
(1) فتح القدير 2 / 267، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، كشاف القناع 2 / 439، فتح الباري 4 / 39
(2) فتح القدير 2 / 267، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 72، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، حاشية الجمل 2 / 522، كشاف القناع 2 / 439، الإنصاف 3 / 488.(32/219)
أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْفَوَاسِقِ غَيْرُهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى، فَأَلْحَقُوا بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ مَثَلاً: الذِّئْبَ وَالأَْسَدَ وَالنَّمِرَ وَالْفَهْدَ، وَقَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ (بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ) هُوَ عَادِيُّ السِّبَاعِ مِنْ أَسَدٍ وَفَهْدٍ وَنَمِرٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَهَبِ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ. . . فَجَاءَ الأَْسَدُ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِهِ.
(1) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى عَدَمِ الإِْلْحَاقِ وَالاِقْتِصَارِ عَلَى الْخَمْسَةِ، إلاَّ أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِهَا الْحَيَّةَ وَالذِّئْبَ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ.
قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: الْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَال الْعَدَدِ، وَاسْمُ الْكَلْبِ لاَ يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ عُرْفًا (2) .
قَتْل الْفَوَاسِقِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ قَتْل الْفَوَاسِقِ مِنَ الدَّوَابِّ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
__________
(1) حديث: " اللهم سلط عليه كلبك. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 539) من حديث أبي عقرب، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (4 / 39) .
(2) فتح القدير 2 / 268، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، القليوبي وعميرة 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.(32/220)
وَالْحُدَيَّا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى اسْتِحْبَابِ قَتْلِهَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَقَالُوا بِوُجُوبِ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لِيُدْفَعَ شَرُّهُ عَنِ النَّاسِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تُقْتَل كَلْبَةٌ عَقَرَتْ مَنْ قَرُبَ مِنْ وَلَدِهَا أَوْ خَرَقَتْ ثَوْبَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَادَةً لَهَا، بَل تُنْقَل بَعِيدًا عَنْ مُرُورِ النَّاسِ دَفْعًا لِشَرِّهَا. كَمَا نَصُّوا عَلَى قَتْل الْكَلْبِ الأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لأََمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ (2) وَلاَ يُبَاحُ قَتْل غَيْرِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ مِنَ الْكِلاَبِ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ سُنِّيَّةَ قَتْل الْكَلْبِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ أَمَّا غَيْرُ الْعَقُورِ فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلاَ فَرْقَ فِي تِلْكَ الأَْحْكَامِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ وَالْمُحْرِمِ، وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ. (3)
__________
(1) حديث: " خمس فواسق يقتلن. . . " تقدم تخريجه ف2.
(2) حديث " أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلب الأسود. . . " أخرجه مسلم (3 / 1200) من حديث جابر.
(3) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 512، كشاف القناع 2 / 439، 6 / 223، الإنصاف 3 / 488.(32/220)
قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلاَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُقْتُلُوا الأَْسْوَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ: الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ، (1) قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ الْحَنَفِيُّ: الْحَدِيثُ بِإِطْلاَقِهِ يَشْمَل مَا إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ أَوْ قَلِيلٍ، وَقِيل: بَل إذَا كَانَ قَلِيلاً. وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ فِي حَال مَا إذَا كَانَ الْعَقْرَبُ أَوِ الثُّعْبَانُ مُقْبِلَةً عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا قَتْلَهَا فِي حَال عَدَمِ إقْبَالِهَا.
وَصَرَّحَ الدَّرْدِيرُ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِانْحِطَاطِهِ لأَِخْذِ حَجَرٍ يَرْمِيهَا بِهِ أَوْ لِقَتْلِهَا، لَكِنْ نَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ أَنَّ الاِنْحِطَاطَ مِنْ قِيَامٍ لأَِخْذِ حَجَرٍ أَوْ قَوْسٍ مِنَ الْفِعْل الْكَثِيرِ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِقَتْل عَقْرَبٍ لَمْ تَرُدَّهُ أَوْ لِطَائِرٍ أَوْ صَيْدٍ.
وَنَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ قَتْل غَيْرِ الْعَقْرَبِ وَالثُّعْبَانِ مِنْ طَيْرٍ أَوْ دُودَةٍ أَوْ نَحْلَةٍ مُطْلَقًا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ أَمْ لاَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِيهَا إذَا كَانَ الْعَمَل
__________
(1) حديث: " اقتلوا الأسودين في الصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 566) والترمذي (2 / 234) من حديث أبي هريرة واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حسن صحيح.(32/221)
قَلِيلاً، وَبُطْلاَنِهَا إنْ كَانَ كَثِيرًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ضَابِطِ الْعَمَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ الْعَادَةُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ قَلِيلاً لاَ يَضُرُّ، وَمَا يَعُدُّونَهُ كَثِيرًا يَضُرُّ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: عَلَى هَذَا الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْخُطْوَةِ وَالضَّرْبَةِ قَلِيلٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَالثَّلاَثُ كَثِيرٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَفِي الاِثْنَيْنِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا قَلِيلٌ، وَاتَّفَقَ الأَْصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ إنَّمَا يُبْطِل إذَا تَوَالَى، فَإِنْ تَفَرَّقَ لَمْ يَضُرَّ. (1)
__________
(1) فتح القدير 1 / 296، حاشية الدسوقي 1 / 284، المجموع للنووي 4 / 93، 94، كشاف القناع 1 / 376، مطالب أولي النهى 1 / 484.(32/221)
فَوْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَوْرُ: مَصْدَرٌ لِلْفِعْل: فَارَ يَفُورُ فَوَرَانًا، يُقَال: فَارَتِ الْقِدْرُ تَفُورُ فَوَرَانًا، إذَا غَلَتْ، وَجَاشَتْ، وَفَارَ الْمَاءُ: نَبَعَ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي تَأْتِي أَوَّل الْوَقْتِ بِلاَ تَأْخِيرٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرَاخِي:
2 - التَّرَاخِي فِي اللُّغَةِ: التَّقَاعُدُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّقَاعُسُ عَنْهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كَوْنُ الأَْدَاءِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَوَّل وَقْتِ الإِْمْكَانِ إلَى مَظِنَّةِ الْفَوْتِ. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي الضِّدِّيَّةُ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 594.(32/222)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَوْرِ:
دَلاَلَةُ الأَْمْرِ عَلَى الْفَوْرِ:
3 - بَحَثَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ مُقْتَضَى الأَْمْرِ هَل صِيغَةُ الأَْمْرِ " افْعَل " وَمَا بِمَعْنَاهَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ أَوِ التَّرَاخِيَ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إنْ صَرَّحَ الآْمِرُ فِيهِ بِفِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ الْمَأْمُورُ، أَوْ قَال: لَك التَّأْخِيرُ، فَهُوَ لِلتَّرَاخِي، وَإِنْ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّعْجِيل فَهُوَ لِلْفَوْرِ، وَإِنْ أَمَرَ مُطْلَقًا، أَيْ كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ دَلاَلَةِ التَّعْجِيل أَوِ التَّأْخِيرِ وَجَبَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْفِعْل قَطْعًا، وَهَل يَقْتَضِي الأَْمْرُ الْمُطْلَقُ الْفِعْل عَلَى الْفَوْرِ أَوْ يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهِ؟
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَال قَائِلُونَ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى فَوَاتَهُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ. وَقَال آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، يَلْزَمُ عَلَى الْمَأْمُورِ فِعْلُهُ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ. وَقَال قَوْمٌ: بِالْوَقْفِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْفَوْرُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
4 - بِنَاءً عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي مُقْتَضَى دَلاَلَةِ الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى
__________
(1) الفصول في الأصول 2 / 153، والبحر المحيط 2 / 396، والمستصفى للغزالي 2 / 9.(32/222)
الْفَوْرِ، أَوْ جَوَازِ تَأْخِيرِهَا إلَى وَقْتٍ يَخْشَى فَوَاتَهَا بِالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ:
أ - الْحَجُّ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ، وَجَوَازِ التَّرَاخِي فِي أَدَائِهِ بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الأُْولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَيَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِالتَّأْخِيرِ، وَيُفَسَّقُ بِهِ، وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: إنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ حَيْثُ الأَْدَاءُ، إنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَوْرًا، إلاَّ فِي حَالاَتٍ: كَأَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ، أَوْ خَافَ مِنْ غَصْبٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ قَضَاءِ عَارِضٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (حَجٌّ ف 5 وَأَمْرٌ ف 7) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 119، وابن عابدين 2 / 140، وحاشية الدسوقي 2 / 2، والمغني 3 / 241 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج 3 / 235، والأم للشافعي 2 / 117 - 118، والمصادر السابقة.(32/223)
ب - أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَوْرِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، حِينَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا، وَيَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ، حَتَّى عِنْدَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَلاَ التَّرَاخِيَ، بَل مُجَرَّدَ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ مَعَهُ قَرِينَةُ إرَادَةِ الْفَوْرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ لَزِمَ الْمُزَكِّيَ وَقَدَرَ عَلَى أَدَائِهِ، وَدَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى طَلَبِهِ، وَهِيَ حَاجَةُ الأَْصْنَافِ، وَهِيَ مُعَجَّلَةٌ، فَمَتَى لَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ الإِْيجَابِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِهِمْ: أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَأَنِ افْتِرَاضَهَا عُمْرِيٌّ، لِمَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الأَْمْرِ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) . (ر: زَكَاةٌ ف 125) .
ج - وُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ بِدُخُول الْوَقْتِ:
7 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 114 ط دار إحياء التراث العربي بيروت، ونهاية المحتاج 3 / 135 ط شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، والمغني 2 / 510، والإنصاف 3 / 186.(32/223)
الْخَمْسَ مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ، لاَ تَصِحُّ قَبْلَهَا، وَيَفُوتُ أَدَاؤُهَا بِخُرُوجِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهَا أَوَّل أَوْقَاتِهَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِشَرْطِ أَنْ يَعْزِمَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ، أَيْ إنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ لأَِدَائِهَا فَقَطْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَدَاؤُهَا فَوْرًا وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا، وَلاَ يَأْثَمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُهَا وَإِنْ مَاتَ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (1) وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلأَِنَّ دُخُول الْوَقْتِ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حِينَ وُجُودِهِ، وَلأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ تَجِبْ لَصَحَّتْ بِدُونِ نِيَّةِ الْوَاجِبِ كَالنَّافِلَةِ، وَتُفَارِقُ النَّافِلَةَ فَإِنَّهَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهَا ذَلِكَ، وَيَجُوزُ تَرْكُهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى فِعْلِهَا، وَهَذِهِ إنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا تُؤَخَّرُ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَمَا تُؤَخَّرُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَغِلاً بِتَحْصِيل شُرُوطِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ فَوْرَ دُخُول
__________
(1) سورة الإسراء / 78.
(2) المغني 1 / 373، ونهاية المحتاج 1 / 358 - 374.(32/224)
أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، إنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى إنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا فِي أَوْسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً، حَتَّى يَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَعَيَّنُ الأَْدَاءُ بِنَفْسِهِ (1)
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَدَاءٌ ف 7) .
د - قَضَاءُ النُّسُكِ عَلَى الْفَوْرِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إلَى أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ نُسُكَهُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِهِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ، لِقَوْل جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ عَقِيبَ التَّحَلُّل مِنَ النُّسُكِ الْفَاسِدِ، وَبِالْحَجِّ فِي سَنَتِهِ إنْ أَمْكَنَهُ، بِأَنْ يَحْصُرَهُ الْعَدُوُّ بَعْدَ الإِْفْسَادِ فَيَتَحَلَّل، ثُمَّ يَزُول الإِْحْصَارُ، أَوْ يَتَحَلَّل كَذَلِكَ لِمَرَضٍ شُرِطَ التَّحَلُّل بِهِ، ثُمَّ شُفِيَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَيَشْتَغِل بِالْقَضَاءِ، وَتَسْمِيَةُ مَا ذُكِرَ بِالْقَضَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ الْعُمُرُ لاَ يُشْكِل عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ وَقْتَهُ الْعُمُرُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَتَى بِهِ مِنْ قَابِلٍ وُجُوبًا، لأَِنَّهُ بِالإِْحْرَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 95، وفتح القدير 1 / 191.(32/224)
بِالأَْدَاءِ تَضَيَّقَ وَقْتُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إحْرَامٌ ف 185) .
هـ - الْفَوْرُ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، وَقَيَّدُوهُ بِمَا إذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِل رَمَضَانُ آخَرُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ قَضَاءُ الصَّوْمِ عَلَى الْفَوْرِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: يَوْمُ الشَّكِّ إنْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْمُتَعَدِّي بِالْفِطْرِ، وَالْمُرْتَدُّ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الإِْسْلاَمِ، وَتَارِكُ النِّيَّةِ لَيْلاً عَمْدًا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 86) .
و قَضَاءُ الصَّلاَةِ فَوْرًا:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ قَضَاءَ الصَّلاَةِ الْفَائِتَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ بِعُذْرٍ كَنَوْمٍ، وَنِسْيَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا، وَلَكِنْ يُسَنُّ لَهُ الْمُبَادَرَةُ بِقَضَائِهَا، أَمَّا إذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 331، والقليوبي 2 / 136، والدسوقي 6 / 69، ومطالب أولي النهى 1 / 943.
(2) حاشية القليوبي 2 / 64، ونهاية المحتاج 3 / 211.(32/225)
فَاتَتْ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا (1) .
(ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
ثَانِيًا: الْفَوْرُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ:
أ - الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي إلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ بِأَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَال اطِّلاَعِهِ عَلَى الْعَيْبِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمَبِيعِ اللُّزُومُ، فَيَبْطُل بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلأَِنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَال، فَكَانَ فَوْرِيًّا كَالشُّفْعَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي مَبِيعٍ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَبَضَ شَيْئًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ بِنَحْوِ بَيْعٍ أَوْ سَلَمٍ، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ إلاَّ بِالرِّضَا بِعَيْبِهِ، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ (2) . . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خِيَارُ الْعَيْبِ ف 27 - 29) .
ب - طَلَبُ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 328.
(2) ابن عابدين 4 / 95، وحاشية الدسوقي 3 / 121، ونهاية المحتاج 2 / 47، ومغني المحتاج 2 / 56، والمغني 4 / 160.(32/225)
أَنَّ حَقَّ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَطْلُبُ سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ، لأَِنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ (1) . (ر: شُفْعَةٌ ف 28 - 32)
ج - الْفَوْرُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ:
13 - إذَا أَتَتِ امْرَأَةٌ بِوَلَدٍ لَزِمَ زَوْجَهَا نَسَبُهُ بِالْفِرَاشِ، فَإِذَا أَرَادَ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ عَلَى الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ فَوْرَ الْعِلْمِ بِالْوِلاَدَةِ مَعَ إمْكَانِهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ زَمَنًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِحَالٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ النَّفْيِ مُدَّةً قَدَّرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي قَوْلٍ لأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ.
وَقَدَّرَهَا الصَّاحِبَانِ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ النَّفْيَ مَتَى شَاءَ وَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 243، وحاشية الدسوقي 3 / 484، ونهاية المحتاج 5 / 215، ومغني المحتاج 2 / 307، والمغني 4 / 324.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 591، والخرشي 4 / 129، والمغني 7 / 424، وكشاف القناع 5 / 403، ومغني المحتاج 3 / 380.(32/226)
د - فَوْرِيَّةُ الْقَبُول عَقِبَ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الْمَجْلِسُ بِتَشَاغُلٍ أَوْ غَيْرِهِ سَقَطَ الإِْيجَابُ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ قَبُولٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول (1) .
هـ - الْفَوْرُ فِي الْفَسْخِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:
15 - خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّرَاخِي لاَ يَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ طَالِبِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ مِنَ الْقَوْل، وَالاِسْتِمْتَاعِ مِنَ الزَّوْجِ، أَوِ التَّمْكِينِ مِنَ الْمَرْأَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنَّ خِيَارَ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لأَِنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالْبَيْعِ، وَالشُّفْعَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ هُنَا: أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَسْخِ، وَالرَّفْعَ إلَى الْحَاكِمِ يَكُونَانِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ ضَرْبَ الْمُدَّةِ فِي الْعُنَّةِ، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 137، وحاشية الدسوقي 3 / 5، ومغني المحتاج 2 / 6، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.(32/226)
فَيُبَادِرُ بِالرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ. ثُمَّ يُبَادِرُ بِالْفَسْخِ عِنْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَهُ، وَإِلاَّ سَقَطَ خِيَارُهُ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 264، والخرشي 3 / 241، ومغني المحتاج 3 / 204، ونهاية المحتاج 6 / 312، المغني 6 / 654.(32/227)
فَيْء
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْفَيْءِ فِي اللُّغَةِ: الظِّل، وَالْجَمْعُ أَفَيَاءٌ وَفُيُوءٌ، وَتَفَيَّأَ فِيهِ: تَظَلَّل، وَالْفَيْءُ: مَا بَعْدَ الزَّوَال مِنَ الظِّل.
وَمِنْهَا: الرُّجُوعُ، يُقَال: فَاءَ إلَى الأَْمْرِ يَفِيءُ وَفَاءً وَفَيْئًا وَفُيُوءًا: رَجَعَ إلَيْهِ، وَيُقَال: فِئْتُ إلَى الأَْمْرِ فَيْئًا: إذَا رَجَعْتُ إلَيْهِ النَّظَرَ، وَفَاءَ مِنْ غَضَبِهِ: رَجَعَ.
وَمِنْهَا: الْغَنِيمَةُ وَالْخَرَاجُ، وَمَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْل دِينِهِ مِنْ أَمْوَال مَنْ خَالَفَ دِينَهُ بِلاَ قِتَالٍ (1) .
وَالْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ لَهُ مَعْنَيَانِ:
(الْمَعْنَى الأَْوَّل) : اسْمٌ لِمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، نَحْوُ الأَْمْوَال الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالأَْمْوَال الْمَأْخُوذَةِ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْل الْحَرْبِ (2) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 116، وانظر روضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 402، وتفسير القرطبي 18 / 14.(32/227)
(الْمَعْنَى الثَّانِي) : رُجُوعُ الزَّوْجِ إلَى جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَنِيمَةُ:
2 - الْغَنِيمَةُ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمُ وَالْغُنْمُ بِالضَّمِّ لُغَةً: الْفَيْءُ، يُقَال: غَنِمَ الشَّيْءَ غُنْمًا فَازَ بِهِ، وَغَنِمَ الْغَازِي فِي الْحَرْبِ: ظَفِرَ بِمَال عَدُوِّهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالْغَنِيمَةِ: أَنَّ اسْمَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ عَلَى الآْخَرِ إذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا افْتَرَقَا كَاسْمَيِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ.
(ر: غَنِيمَةٌ) .
ب - النَّفَل:
3 - النَّفَل بِالتَّحْرِيكِ لُغَةً: الْغَنِيمَةُ، وَالْجَمْعُ أَنْفَالٌ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا خَصَّهُ الإِْمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَال سُمِّيَ نَفَلاً لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَالنَّفَل قَدْ يُؤْخَذُ مِنَ الْفَيْءِ أَوْ مِنَ الْغَنِيمَةِ
__________
(1) المهذب 2 / 110.
(2) المصباح المنير، وروضة الطالبين 6 / 354.(32/228)
أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَيُعْطَى لِمَنْ خَصَّهُمُ الإِْمَامُ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالنَّفَل هِيَ الْبَعْضِيَّةُ.
ج - السَّلَبُ:
4 - السَّلَبُ: مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقِرْنَيْنِ فِي الْحَرْبِ مِنْ قِرْنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَدَابَّةٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَسْلُوبٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالسَّلَبُ زِيَادَةٌ عَلَى سَهْمِ الْمُقَاتِل مِمَّا مَعَ الْقَتِيل إذَا قَتَلَهُ وَلاَ يُخَمَّسُ، وَالْفَيْءُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَيُخَمَّسُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالسَّلَبِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ، إلاَّ أَنَّ الْفَيْءَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَالسَّلَبُ بِقِتَالٍ.
د - الرَّضْخُ:
5 - الرَّضْخُ لُغَةً: الرَّمْيُ بِالسِّهَامِ، وَالدَّقُّ وَالْكَسْرُ، وَمِنْهُ، الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَالٌ مَوْكُولٌ تَقْدِيرُهُ
__________
(1) المصباح المنير، وروضة الطالبين 6 / 368، والقوانين الفقهية ص148.
(2) لسان العرب، وروضة الطالبين 6 / 372، وبدائع الصنائع 7 / 115.(32/228)
لِلإِْمَامِ مَحَلُّهُ الْخُمُسُ لِمَنْ لاَ يَلْزَمُهُ الْقِتَال إلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالرَّضْخِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ
هـ - الصَّفِيُّ:
6 - الصَّفِيُّ لُغَةً: هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَمَا اخْتَارَهُ الرَّئِيسُ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَنَائِمِ كَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ، وَهَذَا الصَّفِيُّ لَيْسَ لأَِحَدٍ غَيْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالصَّفِيِّ أَنَّهُمَا جَمِيعَهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ، إلاَّ أَنَّ الصَّفِيَّ خَاصٌّ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و الظِّهَارُ:
7 - الظِّهَارُ هُوَ: تَشْبِيهُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا أَوْ جُزْءًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالظِّهَارِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 126، وحاشية الدسوقي 2 / 171، وروضة الطالبين 6 / 370، والمغني لابن قدامة 8 / 410.
(2) لسان العرب، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 333، وبدائع الصنائع 7 / 125، والدر المختار 3 / 237.
(3) مغني المحتاج 3 / 353، وفتح القدير 3 / 225، وحاشية الدسوقي 2 / 439، وكشاف القناع 5 / 368.(32/229)
هِيَ أَنَّ الظِّهَارَ مَانِعٌ مِنَ الْفَيْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ.
ز - الإِْيلاَءُ:
8 - الإِْيلاَءُ: أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَر (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالإِْيلاَءِ هِيَ الضِّدِّيَّةُ، وَأَنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ يُنْهِي حُكْمَ الإِْيلاَءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَيْءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل:
أ - مَشْرُوعِيَّةُ الْفَيْءِ:
9 - الْفَيْءُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالأَْثَرِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (3) .
وَأَمَّا الأَْثَرُ فَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 171، والخرشي 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 334، والمغني 7 / 298.
(2) سورة الحشر / 6.
(3) سورة الحشر / 7.(32/229)
أَنَّهُ قَال: كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ (1) .
ب - مَوَارِدُ الْفَيْءِ:
10 - مِنْ مَوَارِدِ الْفَيْءِ:
(1) مَا جَلاَ عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَْرَاضِيِ وَالْعَقَارَاتِ.
(2) مَا تَرَكَهُ الْكُفَّارُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ.
(3) مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنِ الأَْرَاضِيِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَدُفِعَتْ بِالإِْجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ عَنِ الأَْرَاضِيِ الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.
(4) الْجِزْيَةُ.
(5) عُشُورُ أَهْل الذِّمَّةِ.
(6) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ.
(7) مَال الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِل أَوْ مَاتَ.
(8) مَال الذِّمِّيِّ إنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ وَمَا
__________
(1) أثر عمر: " كانت أموال بني النضير. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 93) ومسلم (3 / 1376 - 1377) من حديث مالك بن أوس. وانظر أحكام القرآن للقرطبي 18 / 11.(32/230)
فَضَل مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ.
(9) الأَْرَاضِيُ الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَال وَهِيَ الأَْرَاضِيُ الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْتُ الْمَال ف 6) .
ج - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، وَإِنَّمَا كُلُّهُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ذُكِرُوا مَعَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ} (1) فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ خُمُسًا وَلأَِنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَال الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي الْفَيْءِ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ مُبَاحًا مُلِكَ لاَ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلاَ نَحْفَظُ مِنْ أَحَدٍ قَبْل الشَّافِعِيِّ فِي الْفَيْءِ الْخُمُسَ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ. كَمَا لَوْ صُولِحُوا عَلَى
__________
(1) سورة الحشر / 7 - 10.(32/230)
الضِّيَافَةِ فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لأَِهْل الْخُمُسِ فِي مَال الضِّيَافَةِ بَل يَخْتَصُّ بِهِ الطَّارِقُونَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (2) ،
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ الْفَيْءِ لِهَؤُلاَءِ، وَهُمْ أَهْل الْخُمُسِ.
وَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الآْيَةَ قَال: اسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الآْيَةُ النَّاسَ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ (3) ، وَجَاءَتِ الأَْخْبَارُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَالَّةً عَلَى اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَيْ لاَ تَتَنَاقَضَ الآْيَةُ وَالأَْخْبَارُ وَتَتَعَارَضَ، وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ وَتَوْفِيقٌ بَيْنَهَا، فَإِنَّ خُمُسَهُ لِلَّذِي سُمِّيَ فِي الآْيَةِ وَسَائِرَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْ فِي الْخَبَرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 116، وحاشية الدسوقي 2 / 169، والمغني لابن قدامة 6 / 404، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 343، وكشاف القناع 3 / 101.
(2) سورة الحشر / 7.
(3) أثر عمر: " استوعبت هذه الآية الناس لم يبق أحد من المسلمين إلا له. . . ". أخرجه النسائي (7 / 137) من حديث مالك بن أوس، وأصله في البخاري (فتح الباري 6 / 197 - 198) ومسلم (3 / 1377 - 1378) .(32/231)
كَالْغَنِيمَةِ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُخَمَّسَ كَالْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ (1) .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَقِيت عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ (2) .
د - تَقْسِيمُ خُمُسِ الْفَيْءِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِتَخْمِيسِهِ:
12 - يُقْسَمُ مَال الْفَيْءِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِتَخْمِيسِهِ:
السَّهْمُ الأَْوَّل الْمُضَافُ إلَى اللَّهِ عَزَّ جَل وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَا فَضَل جَعَلَهُ فِي السِّلاَحِ عِدَّةً فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ.
وَأَمَّا سَهْمُ اللَّهِ الَّذِي أَضَافَهُ إلَيْهِ - فَهُوَ لاِفْتِتَاحِ الْكَلاَمِ بِاسْمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، لاَ لإِِفْرَادِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 117، وروضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 404.
(2) حديث البراء بن عازب: " لقيت عمي ومعه راية. . . " أخرجه أبو داود (4 / 602 - 604) والترمذي (3 / 634) واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حسن غريب.(32/231)
بِسَهْمٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالآْخِرَةَ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خُمُسِهِ. . (2) .
السَّهْمُ الثَّانِي: لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِيَّ نَوْفَلٍ - لأَِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُوا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إسْلاَمٍ، كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (3) ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، وَلاَ يُفَضَّل أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلاَّ بِالذُّكُورَةِ، فَلِلذَّكْرِ سَهْمَانِ وَلِلأُْنْثَى سَهْمٌ.
وَقَال الْمُزَنِيُّ: يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْمُدْلِي بِجِهَتَيْنِ يُفَضَّل عَلَى الْمُدْلِي بِجِهَةٍ.
السَّهْمُ الثَّالِثُ: لِلْيَتَامَى، وَالْيَتِيمُ الصَّغِيرُ الَّذِي لاَ أَبَ لَهُ وَقِيل: وَلاَ جَدَّ لَهُ قَبْل الْحُلُمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُتْمَ بَعْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 124، والمغني لابن قدامة 6 / 406، 407.
(2) حديث ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ". أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 124) ، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 340) فيه نهشل بن سعيد وهو متروك.
(3) حديث: " بنو هاشم وبنو المطلب لم يفارقوا الرسول. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 244) ، وأبو داود (3 / 383 - 384) ، من حديث جبير بن مطعم واللفظ له.(32/232)
احْتِلاَمٍ (1) وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَقْرُ.
السَّهْمُ الرَّابِعُ: الْمَسَاكِينُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ، وَيَدْخُل فِيهِ الْفَقِيرُ.
السَّهْمُ الْخَامِسُ: ابْنُ السَّبِيل وَهُوَ كُل مَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ بَلَدٍ كَانَ مُقِيمًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مَنْ لاَ مَال لَهُ أَصْلاً، وَكَذَا مَنْ لَهُ مَالٌ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُنْتَقِل إلَيْهِ مِنْهُ.
وَإِذَا فُقِدَ بَعْضُ الأَْصْنَافِ وُزِّعَ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ كَالزَّكَاةِ.
13 - وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَهِيَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ (2) .
هـ - مَصْرِفُ الْفَيْءِ وَمَا يَخُصُّ الرَّسُول بَعْدَ وَفَاتِهِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ وَمَا يَخُصُّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُمُسَ الْفَيْءِ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ، أَمْ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ لِسُقُوطِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ.
__________
(1) حديث: " لا يتم بعد احتلام ". أخرجه أبو داود (3 / 293 - 394) من حديث علي، وحسن إسناده النووي في رياض الصالحين (609) .
(2) روضة الطالبين 6 / 358، وكشاف القناع 3 / 101، والمغني لابن قدامة 6 / 410، ونيل الأوطار للشوكاني 8 / 73.(32/232)
وَذَكَرَ أَحْمَدُ الْفَيْءَ فَقَال: فِيهِ حَقٌّ لِكُل الْمُسْلِمِينَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ (1) .
وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى أَنَّ مَال الْفَيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الأَْئِمَّةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَهْل الْفَيْءِ هُمْ أَهْل الْجِهَادِ وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ لِحُصُول النُّصْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ بِالْخَيْل وَالْجُنْدِ وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيَكُونُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، لأَِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي الْمَال الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَنَّ الإِْمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ فِي الْمَال الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ لأَِنَّ هَيْبَتَهُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ، فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا هَيْبَةُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ مِنَ الرُّعْبِ لاَ بِأَصْحَابِهِ، كَمَا قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ (2) لِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ (3) .
__________
(1) أثر عمر: " فلم يبقَ أحد من المسلمين. . . ". تقدم ف11.
(2) حديث: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 436) ومسلم (1 / 370) من حديث جابر واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 7 / 116، وحاشية الدسوقي 2 / 190، وروضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 414، 485، وكشاف القناع 3 / 100 - 101، والقوانين الفقهية ص101، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص136.(32/233)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْتُ الْمَال ف 12 - 13 - 14) .
15 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْفَيْءِ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصْرَفُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - خُمُسُ خُمُسِ الْفَيْءِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالأَْئِمَّةِ وَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ.
ب - أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ تُصْرَفُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ لِلْمُرْتَزِقَةِ الْمُرْصَدَيْنِ لِلْجِهَادِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهَا لِلْمَصَالِحِ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا تُقْسَمُ كَمَا يُقْسَمُ الْخُمُسُ (1) .
ثَانِيًا: الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
16 - وَأَمَّا الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ رُجُوعُ الزَّوْجِ إلَى جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) هُوَ الْجِمَاعُ، وَسُمِّيَ الْجِمَاعُ مِنَ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 355 - 356.
(2) سورة البقرة / 226 - 227.(32/233)
الْمُولِي فَيْئَةً، لأَِنَّهُ رَجَعَ إلَى فِعْل مَا تَرَكَهُ.
وَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ وَطِئَ قَبْل انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ انْحَل الإِْيلاَءُ وَلَزِمَهُ جَزَاءُ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِاَللَّهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ طَلاَقًا وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ عِتْقًا لَزِمَهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إيلاَءٌ ف 20 وَمَا بَعْدَهَا) .
فَيْئَةٌ
اُنْظُرْ: إيلاَءٌ
فِيلٌ
اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 161، 162، وحاشية الدسوقي 2 / 379، والمغني لابن قدامة 7 / 398.(32/234)
قَائِدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَائِدُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ السَّائِقِ، وَقَادَ الرَّجُل الْفَرَسَ قَوْدًا مِنْ بَابِ قَال، وَقِيَادًا بِالْكَسْرِ وَقِيَادَةً، وَالْقَوْدُ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ أَمَامَ الدَّابَّةِ آخِذًا بِقِيَادِهَا أَوْ مِقْوَدِهَا، وَيُقَال: قَادَ الْجَيْشَ أَيْ: رَأْسَهُ وَدَبَّرَ أَمْرَهُ، وَالْقَائِدُ: مَنْ يَقُودُ الْجَيْشَ، وَجَمْعُهُ: قَادَةٌ وَقُوَّادٌ، وَالْمَصْدَرُ الْقِيَادَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّائِقُ:
2 - السَّوْقُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ خَلْفَ الدَّابَّةِ، يُقَال: سُقْتُ الدَّابَّةَ أَسُوقُهَا سَوْقًا، وَسَوْقُ الإِْبِل: جَلْبُهَا وَطَرْدُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَاقَ الصَّدَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ أَيْ حَمَلَهُ إلَيْهَا.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط.(32/234)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {وَجَاءَتْ كُل نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (1) ، وَالْجَمْعُ سَاقَةٌ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَوَجَّهُ بِالشَّيْءِ إلَى الأَْمَامِ، إلاَّ أَنَّ الْقَائِدَ يَكُونُ فِي الأَْمَامِ وَالسَّائِقَ فِي الْخَلْفِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَائِدِ:
أَوَّلاً: قَائِدُ الْجَيْشِ:
أ - حُكْمُ تَوْلِيَتِهِ وَصِفَاتُهُ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْجَيْشِ قَائِدًا، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِدُ رَجُلاً ثِقَةً فِي دِينِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ شُجَاعًا فِي نَفْسِهِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْهَرَبِ، وَيَتَقَدَّمُ عِنْدَ الطَّلَبِ، حَسَنَ الإِْنَابَةِ، ذَا رَأْيٍ فِي السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، لِيَسُوسَ الْجَيْشَ عَلَى اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ فِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَمَكَائِدِ الْحَرْبِ، وَإِدَارَةِ الْمَعَارِكِ، وَأَنْ يَكُونَ عَادِلاً فِي تَعَامُلِهِ مَعَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجَيْشِ، لاَ يُمَالِئُ مَنْ نَاسَبَهُ، أَوْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ عَلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي نَسَبٍ، أَوْ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ، أَوْ مَذْهَبٍ، فَيَظْهَرُ مِنْ أَحْوَال الْمُبَايَنَةِ
__________
(1) سورة ق / 21.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، المغرب في ترتيب المعرب، والمعجم الوسيط.(32/235)
مَا تَتَفَرَّقُ بِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ تَشَاغُلاً بِالتَّقَاطُعِ وَالاِخْتِلاَفِ (1) .
ب - مَهَامُّهُ:
4 - مَا يُسْنَدُ إلَى قَائِدِ الْجَيْشِ مِنَ الأَْعْمَال مُفَوَّضٌ إلَى الإِْمَامِ، فَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْجِهَادِ مِنْ سِيَاسَةِ الْجَيْشِ، وَتَسْيِيرِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، وَتَقْسِيمِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ، وَإِعْلاَنِ الْهُدْنَةِ، وَبَعْثِ السَّرَايَا وَالطَّلاَئِعِ، وَعَقْدِ الرَّايَاتِ، وَفَكِّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ.
وَإِنْ قَصَرَ تَفْوِيضَهُ بِسِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَتَسْيِيرِهِ اقْتَصَرَ عَمَلُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَوَلَّى تَسْيِيرَ الطَّلاَئِعِ، وَإِرْسَال الْجَوَاسِيسِ لِنَقْل أَخْبَارِ الْكُفَّارِ إلَيْنَا، كَمَا يَتَوَلَّى بَعْثَ السَّرَايَا، وَعَقْدِ الرَّايَاتِ وَتَعْيِينِ الأُْمَرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَدَمِ الْفِرَارِ وَالطَّاعَةِ.
كَمَا أَنَّ مَنْ حَقِّ الْقَائِدِ أَنْ يُصْدِرَ أَوَامِرَهُ إلَى جَيْشِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْجُنُودِ طَاعَةُ أَوَامِرِهِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، إلاَّ مَا كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ (2) ، لِحَدِيثِ: لاَ طَاعَةَ فِي
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص37، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص41، مغني المحتاج 4 / 220، المغني لابن قدامة 8 / 366.
(2) المصادر السابقة.(32/235)
مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1) .
ج - آدَابُهُ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ آدَابًا كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا قَائِدُ الْجَيْشِ نُلَخِّصُهَا فِيمَا يَأْتِي:
(1) الرِّفْقُ بِالْجُنُودِ فِي السَّيْرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَضْعَفُهُمْ وَيَحْفَظُ بِهِ قُوَّةَ أَقْوَاهُمْ، وَلاَ يَجِدُّ فِي السَّيْرِ فَيُهْلِكَ الضَّعِيفَ، وَيَسْتَفْرِغَ جَلَدَ الْقَوِيِّ (2) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِل فِيهِ بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى (3) .
لَكِنْ إنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إلَى الْجَدِّ فِي السَّيْرِ جَازَ لَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي السَّيْرِ جَدًّا شَدِيدًا حِينَ بَلَغَهُ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَيُخْرِجَنَّ الأَْعَزُّ مِنْهَا الأَْذَل، لِيُشْغِل النَّاسَ عَنِ الْخَوْضِ فِي كَلاَمِ ابْنِ أُبَيٍّ (4) .
(2) أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَال مَا يَمْتَطُونَهُ مِنْ دَوَابَّ وَمَرْكَبَاتٍ، فَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ، وَيَمْنَعَ مَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا مَا يَزِيدُ
__________
(1) حديث: " لا طاعة في معصية الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 233) ومسلم (3 / 1469) من حديث علي بن أبي طالب، واللفظ لمسلم.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص35.
(3) حديث: " إن هذا الدين متين. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 62) وقال:، رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب.
(4) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " جد في السير جدًّا شديدًا ". أورده ابن كثير في البداية والنهاية (4 / 157) وعزاه إلى ابن إسحاق.(32/236)
عَنْ طَاقَتِهَا، كَمَا يَمْنَعُ مَا يُظْهِرُ الْجَيْشَ الإِْسْلاَمِيَّ بِمَظْهَرِ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) .
(3) أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَال مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ صِنْفَانِ:
(أ) أَصْحَابُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْل الْفَيْءِ وَالْجِهَادِ: (الْجُنُودُ النِّظَامِيُّونَ) الَّذِينَ يُفْرَضُ لَهُمُ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
(ب) الْمُتَطَوِّعَةُ، وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْل الْبَوَادِي وَالأَْعْرَابِ وَسُكَّانِ الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ} (2) .
(4) أَنْ يُعَرِّفَ عَلَى الْجُنُودِ الْعُرَفَاءَ، وَيُنَقِّبَ عَلَيْهِمُ النُّقَبَاءَ، لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ أَحْوَالَهُمْ، وَيَقْرَبُونَ عَلَيْهِ إذَا دَعَاهُمْ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) سورة التوبة / 41.
(3) حديث رفع العرفاء الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 168) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.(32/236)
(5) أَنْ يَجْعَل لِكُل طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ شِعَارًا يَتَدَاعَوْنَ إلَيْهِ، لِيَصِيرُوا مُتَمَيِّزِينَ بِهِ، وَبِالاِجْتِمَاعِ فِيهِ مُتَظَافِرِينَ، لِمَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ - يَوْمَ بَدْرٍ - يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الأَْوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَمَّى خَيْلَهُ خَيْل اللَّهِ (1) .
(6) أَنْ يَتَصَفَّحَ الْجَيْشَ وَمَنْ فِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِيهِ تَخْذِيلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِرْجَافٌ لِلْمُجَاهِدَيْنِ، أَوْ عَيْنًا عَلَيْهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ.
(7) أَنْ يَحْرُسَ جُنُودَهُ مِنْ غِرَّةٍ وَخُدْعَةٍ يَظْفَرُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَتَبَّعَ الْمَكَامِنَ فَيَحْفَظَهَا عَلَيْهِمْ، وَيُحَوِّطَ أَسْوَارَهُمْ بِحَرَسٍ يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَرِحَالِهِمْ، لِيَسْكُنُوا فِي وَقْتِ الدَّعَةِ، وَيَأْمَنُوا مَا وَرَاءَهُمْ فِي وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ.
(8) أَنْ يَتَخَيَّرَ لِجُنُودِهِ الْمَنَازِل لِمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُمْ عَلَى الْمُنَازَلَةِ.
(9) أَنْ يُعِدَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجَيْشُ مِنْ زَادٍ وَعَلَفٍ، وَوُقُودٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِيُوَزَّعَ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ حَتَّى تَسْكُنَ
__________
(1) حديث عروة بن الزبير: " جعل رسول الله شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن. . . ". أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3 / 70) .(32/237)
نُفُوسُهُمْ إلَى مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الطَّلَبِ، لِيَكُونُوا عَلَى الْحَرْبِ أَوْفَرَ، وَعَلَى مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ أَقْدَر.
(10) أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهِمْ وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهُمْ، فَيَأْمَنَ مَكْرَهُمْ، وَيَلْتَمِسَ الْغِرَّةَ فِي الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ.
(11) أَنْ يُرَتَّبَ الْجَيْشَ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ، وَأَنْ يُعَوِّل مِنْ كُل جِهَةٍ عَلَى مَنْ يَرَاهُ كُفْئًا لَهَا، وَيُرَاعِيَ كُل جِهَةٍ يَمِيل الْعَدُوُّ عَلَيْهَا بِمَدَدٍ يَكُونُ عَوْنًا لَهَا.
(12) أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمُ الظَّفَرَ، وَيُخَيِّل لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ لِيَقِل الْعَدُوُّ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَيَكُونُوا عَلَيْهِ أَجْرَأ، قَال تَعَالَى: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) .
(13) أَنْ يَعِدَ أَهْل الصَّبْرِ وَالْبَلاَءِ مِنْهُمْ بِثَوَابٍ فِي الآْخِرَةِ، وَالنَّفَل مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (2) .
(14) أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنَ الْجَيْشِ فِيمَا أَعْضَل مِنَ الأُْمُورِ، وَيَرْجِعَ إلَى أَهْل الْحَزْمِ فِيمَا أَشْكَل عَلَيْهِ، لِيَأْمَنَ مِنَ الْخَطَأِ، وَيَسْلَمَ مِنَ
__________
(1) سورة الأنفال / 43.
(2) سورة آل عمران / 145.(32/237)
الزَّلَل، فَيَكُونَ مِنَ الظَّفَرِ أَقْرَبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ مَا أَمَدَّهُ مِنَ التَّوْفِيقِ وَأَعَانَهُ مِنَ التَّأْيِيدِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ الآْخَرُونَ.
(15) أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ حَتَّى لاَ يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَجَوُّزٌ فِي الدِّينِ.
(16) أَنْ لاَ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَل بِتِجَارَةٍ، أَوْ زِرَاعَةٍ يَصْرِفُهُ الاِهْتِمَامُ بِهَا عَنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ.
(17) أَنْ يَدْخُل دَارَ الْحَرْبِ بِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ أَحْوَطُ وَأَرْهَبُ، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِجُنُودِهِ.
(18) أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ: عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
(19) أَنْ يَسْتَنْصِرَ بِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ (3) .
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) حديث: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء. . . ". أخرجه ابن حبان (5 / 5) من حديث سهل بن سعد، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 379) .
(3) حديث: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 88) من حديث سعد بن أبي وقاص.(32/238)
(20) أَنْ يُكَبِّرَ - أَثْنَاءَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ - بِلاَ إسْرَافٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ.
(21) أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّل النَّهَارِ إنْ أَمْكَنَ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (1) .
(22) أَنْ يَعْرِضَ الإِْسْلاَمَ عَلَى الْكُفَّارِ قَبْل بَدْءِ الْقِتَال مَعَهُمْ إنْ عَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ (3) .
ثَانِيًا: قَائِدُ الدَّابَّةِ:
6 - الأَْصْل فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ أَنَّهَا هَدَرٌ، إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ قَائِدَ الدَّابَّةِ وَرَاكِبَهَا وَسَائِقَهَا إذَا حَصَل مِنْهُ تَقْصِيرٌ أَوْ تَعَدٍّ فِي اسْتِعْمَالِهَا، وَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ جِنَايَةٌ أَوْ إتْلاَفٌ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسْبِيبِ (4) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " كان يحب أن يخرج يوم الخميس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 113) من حديث كعب ابن مالك.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 366، مغني المحتاج 4 / 220، الأحكام السلطانية للماوردي ص35 وما بعدها، وللقاضي أبي يعلى ص39 وما بعدها.
(3) حديث: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 261) من حديث ابن عباس.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 386 وما بعدها، مغني المحتاج 4 / 204 وما بعدها، ومجلة الأحكام العدلية مادة (931 - 940) .(32/238)
أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُل الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 104 وَمَا بَعْدَهَا) .
قَائِفٌ
اُنْظُرْ: قِيَافَةٌ
__________
(1) حديث: " من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في أسواقهم فأوطأت يد رجل فهو ضامن ". أخرجه البيهقي (8 / 344) من حديث النعمان بن بشير، ثم ذكر تضعيف روايين في إسناده.(32/239)
قَابِلَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَابِلَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتَلَقَّى الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَجَمْعُهَا قَوَابِل، وَالْقَابِلَةُ أَيْضًا: اللَّيْلَةُ الْمُقْبِلَةُ. وَالْقَبَل: لُطْفُ الْقَابِلَةِ لإِِخْرَاجِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّبِيبُ:
2 - الطَّبِيبُ هُوَ: مَنْ حِرْفَتُهُ الطِّبُّ أَيِ الَّذِي يُعَالِجُ الْمَرْضَى.
وَالطِّبُّ فِي اللُّغَةِ: الْحِذْقُ وَالْمَهَارَةُ وَحُسْنُ الاِحْتِيَال وَالسِّحْرُ وَالدَّأْبُ وَالْعَادَةُ وَعِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَطَبَّهُ يَطِبُّهُ طِبًّا مِنْ بَابِ قَتَل: دَاوَاهُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمغرب في ترتيب المعرب.(32/239)
وَالاِسْمُ: الطِّبُّ: بِالْكَسْرِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ طِبِّيٌّ عَلَى لَفْظِهِ (1) .
وَالطَّبِيبُ قَدْ يَقُومُ بِعَمَل الْقَابِلَةِ وَيَزِيدُ فِي فُرُوعٍ أُخْرَى مِنَ الطِّبِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَابِلَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْقَابِلَةِ وَعَمَلِهَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ، مِنْهَا:
أَوَّلاً - أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ هَل هِيَ عَلَى الزَّوْجِ أَمْ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى مَنِ اسْتَأْجَرَهَا مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ - مِنْ أَحَدِهِمَا - فَيُحْتَمَل عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، لأَِنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ مُؤَنِ الْجِمَاعِ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ عَلَى الزَّوْجَةِ كَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِجَمِيعِ مَصَالِحِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ وِلاَدَتِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ أَمْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤَنِ الْجِمَاعِ، وَلأَِنَّهُ لِمَنْفَعَةِ وَلَدِهِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ أَمَةً مُطَلَّقَةً فَيَسْقُطَ ذَلِكَ عَنْهُ، لأَِنَّ
__________
(1) المراجع السابقة ومغني المحتاج 3 / 60، 4 / 210.
(2) فتح القدير 3 / 328.(32/240)
وَلَدَهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهَا وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أُجْرَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ أُجْرَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ لِلْوَلَدِ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ، إنْ كَانَ عَمَل الْقَابِلَةِ يَسْتَغْنِي عَنْهُ النِّسَاءُ فَهُوَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ النِّسَاءُ فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَا يَنْتَفِعَانِ بِهِ جَمِيعًا فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ كُل وَاحِدٍ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ فَعَلَى الزَّوْجَةِ بِالاِتِّفَاقِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَالأَْشْبَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجِ، لأَِنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ كُل مَا تَرَتَّبَ عَلَى سَبَبٍ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ، كَثَمَنِ مَاءِ غُسْل الْجِمَاعِ وَالنِّفَاسِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ مُؤَنِ الْجِمَاعِ فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَوْفِيرُهُ لَهَا (2) .
ثَانِيًا - نَظَرُ الْقَابِلَةِ إلَى الْعَوْرَةِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ مَنْ تَتَوَلَّى وِلاَدَتَهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُبَاشِرَ هَذِهِ الْعَوْرَةَ بِالْمَسِّ، لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إلَى ذَلِكَ.
وَقَال أَحْمَدُ: لاَ تَنْظُرُ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 184، وجواهر الإكليل 1 / 403.
(2) مغني المحتاج 3 / 430.(32/240)
إلَى فَرْجِ الْمُسْلِمَةِ وَلاَ تَقْبَلُهَا حِينَ تَلِدُ (1) .
ثَالِثًا - شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ الْقَوَابِل فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلاَّ النِّسَاءُ لِقَوْل الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، فِيمَا يَلِينَ مِنْ وِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ، وَاسْتِهْلاَل الْجَنِينِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَلاَ يَلِيهِ إلاَّ هُنَّ، فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي تَقْبَل النِّسَاءَ فَمَا فَوْقَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي اسْتِهْلاَل الْجَنِينِ جَازَتْ (2) .
فَإِذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ أَوِ الْوَرَثَةُ وُقُوعَ الْوِلاَدَةِ، أَوْ وُجُودَ الْحَمْل أَوِ الاِسْتِهْلاَل، وَشَهِدَتِ الْقَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمَوْلُودِ وَيَشْتَرِكُ فِي الإِْرْثِ مَعَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتِ الْمُطَلَّقَةُ أَنَّهَا حَامِلٌ وَعُرِضَ عَلَيْهَا الْقَوَابِل، فَذَكَرْنَ أَنَّهَا حَامِلٌ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ، وَلَزِمَ عَلَى مُطَلِّقِهَا النَّفَقَةُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا أَمْ رَجْعِيًّا، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَال غَالِبًا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَكَذَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَالَةِ عَدَمِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ إلى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل
__________
(1) فتح القدير 5 / 121، ومواهب الجليل 1 / 499، مغني المحتاج 3 / 133، والمغني لابن قدامة 6 / 562.
(2) قول الزهري: أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8 / 333) .(32/241)
شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ، لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ، وَلأَِنَّ هَذَا لاَ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِالأَْقْوَى فَلاَ يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِقَوْل امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْعَدَالَةِ، لأَِنَّ هَذَا مَوْضُوعٌ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ فِي الرَّضَاعِ، وَلِمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ (1) . وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ صَاحِبَيْهِ وَمَنْ مَعَهُمَا فِي قَبُول قَوْل الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَ النِّكَاحُ مَازَال قَائِمًا وَجَحَدَ الزَّوْجُ الْوِلاَدَةَ فَشَهِدَتْ بِوُقُوعِهَا، لِتَأْيِيدِهَا بِقِيَامِ الْفِرَاشِ، وَيَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِشَرْطِ أَنْ يُولَدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَلأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ مَا لاَ يُحْتَاطُ لِغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) حديث حذيفة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ". أخرجه الدارقطني (4 / 332) وذكر أن في إسناده رجلاً مجهولاً، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 80) عن ابن عبد الهادي أنه قال: " حديث باطل ".
(2) فتح القدير 3 / 306 وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 239، ومغني المحتاج 4 / 442، 443، والمغني لابن قدامة 7 / 581، 610، 9 / 155 وما بعدها.(32/241)
قَاتِلٌ
اُنْظُرْ: قَتْلٌ
قَاذِفٌ
اُنْظُرْ: قَذْفٌ
قَاسِمٌ
اُنْظُرْ: قِسْمَةٌ(32/242)
قَاصِرٌ
اُنْظُرْ: صِغَرٌ
قَاضِي
اُنْظُرْ: قَضَاءٌ
قَافَةٌ
اُنْظُرْ: قِيَافَةٌ(32/242)
قَبَالَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ: الْكَفَالَةُ وَهِيَ مَصْدَرُ قَبَل فُلاَنًا: إذَا كَفَلَهُ وَيُقَال: قَبُل بِالضَّمِّ إذَا صَارَ قَبِيلاً: أَيْ كَفِيلاً، وَتُطْلَقُ الْقَبَالَةُ عَلَى الصَّكِّ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الدَّيْنُ، وَنَحْوُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا، وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ، وَيَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا (2) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ بِأَنَّهُ: أَنْ يَتَقَبَّل بِخَرَاجٍ أَوْ جِبَايَةٍ أَكْثَر مِمَّا أَعْطَى (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْقْطَاعُ:
2 - الإِْقْطَاعُ مِنْ قَطَعَ لَهُ، وَأَقْطَعَ لَهُ، وَاسْتَقْطَعَهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ فَقَطَعَ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4 / 10، ولسان العرب وابن عابدين 4 / 145.
(2) الرتاج شرح كتاب الخراج لأبي يوسف 2 / 3.
(3) النهاية في غريب الحديث 4 / 10.(32/243)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الإِْقْطَاعُ عَلَى مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ - أَيْ يُعْطِيهِ - مِنَ الأَْرَاضِيِ رَقَبَةً، أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْقْطَاعِ وَالْقَبَالَةِ أَنَّ الإِْقْطَاعَ أَعَمُّ مِنَ الْقَبَالَةِ، لأَِنَّ الإِْقْطَاعَ قَدْ يَكُونُ بِبَدَلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، أَمَّا الْقَبَالَةُ، فَلاَ تَكُونُ إلاَّ بِبَدَلٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْقَبَالَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَبَاطِلَةٌ شَرْعًا (2) ، لأَِنَّ الْعَامِل مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ، وَيُؤَدِّي مَا حَصَّل، فَهُوَ كَالْوَكِيل الَّذِي إذَا أَدَّى الأَْمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا، وَلَمْ يَمْلِكْ زِيَادَةً، وَضَمَانُ الأَْمْوَال بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الاِقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ، وَغُرْمِ مَا نَقَصَ، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الأَْمَانَةِ فَبَطَل، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عَسْفِ أَهْل الْخَرَاجِ، وَالْحَمْل عَلَيْهِمْ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظُلْمِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ، لأَِنَّ الْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي مَا يُصِيبُ أَهْل الْخَرَاجِ.
جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو يُوسُفَ إلَى الْخَلِيفَةِ الرَّشِيدِ: رَأَيْتُ أَنْ لاَ تُقْبِل شَيْئًا مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 392.
(2) الأحكام السلطانية ص176، والخراج لأبي يوسف 2 / 3، والأموال لأبي عبيد 370، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 186.(32/243)
السَّوَادِ وَلاَ غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّل - إذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ - عَسَفَ أَهْل الْخَرَاجِ، وَحَمَل عَلَيْهِمْ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ، لِيَسْلَمَ مِمَّا يَدْخُل فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلاَدِ، وَهَلاَكُ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي بِهَلاَكِهِمْ لِصَلاَحِ أَمْرِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِل بَعْدَ مَا يَتَقَبَّل بِهِ فَضْلاً كَبِيرًا، وَلاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ، وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الأَْعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَال أَهْل الْخَرَاجِ مِنْهُ، وَهَذَا مَا لاَ يَحِل، وَلاَ يَصْلُحُ، وَلاَ يَسَعُ، وَالْحَمْل عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ بِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْعَفْوُ، وَلاَ يَحِل أَنْ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ لأَِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يُحَمِّل هَذَا الْمُتَقَبِّل عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَك، فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا وَيَدَعُوهُ، فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ، فَلَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، وَلَنْ يَقِل مَعَ الصَّلاَحِ شَيْءٌ، إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنِ الْفَسَادِ (1) ، قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بَعْدَ إصْلاَحِهَا} (2) .
__________
(1) كتاب الخراج 2 / 3 وما بعدها.
(2) سورة الأعراف / 56.(32/244)
وَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ: قَال: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إنَّا نَتَقَبَّل الأَْرْضَ فَنُصِيبُ مِنْ ثِمَارِهَا - يَعْنِي الْفَضْل - قَال: ذَلِكَ الرِّبَا الْعَجْلاَنُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَال: أَتَقَبَّل مِنْكَ الأَْيْلَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَضَرَبَهُ مِائَةً وَصَلَبَهُ حَيًّا. وَرَوَى أَبُو هِلاَلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَال: الْقَبَالاَتُ حَرَامٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهَا رِبًا (1) .
__________
(1) الأموال لأبي عبيد 37، والأحكام السلطانية للماوردي 176، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4 / 10.(32/244)
قَبْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبْرُ: مَدْفَنُ الإِْنْسَانِ، يُقَال قَبَرَهُ يَقْبِرُهُ وَيَقْبُرُهُ قَبْرًا وَمَقْبَرًا: دَفَنَهُ، وَأَقْبَرَهُ: جَعَل لَهُ قَبْرًا، وَالْمَقْبَرَةُ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا: مَوْضِعُ الْقُبُورِ أَيْ مَوْضِعُ دَفْنِ الْمَوْتَى.
وَالْقَابِرُ: الدَّافِنُ بِيَدِهِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبْرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - احْتِرَامُ الْقَبْرِ:
2 - الْقَبْرُ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الْقَبْرِ وَالْمَشْيِ عَلَيْهِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوطَأَ الْقُبُورُ (2) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ خَصُّوا الْكَرَاهَةَ بِمَا إذَا كَانَ مُسَنَّمًا، كَمَا اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَطْءَ
__________
(1) لسان العرب، وتهذيب الأسماء واللغات، والمغرب.
(2) حديث: " نهى أن توطأ القبور ". أخرجه الترمذي (3 / 359) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: حديث حسن صحيح.(32/245)
الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ مِنَ الْكَرَاهَةِ كَمَا إذَا كَانَ لاَ يَصِل إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إلاَّ بِوَطْءِ قَبْرِ آخَرَ.
3 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إلَيْهَا (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الاِتِّكَاءِ عَلَى الْقَبْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَال: رَآنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ فَقَال: يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ، انْزِل مِنْ عَلَى الْقَبْرِ لاَ تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ وَلاَ يُؤْذِيكَ (3) ، وَكَذَا يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الاِسْتِنَادُ إلَيْهِ.
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّخَلِّي عَلَى
__________
(1) حديث: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " أخرجه مسلم (2 / 668) .
(2) حديث: " لأن يجلس أحدكم على جمرة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 667) .
(3) حديث عمارة بن حزم " رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على قبر. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 61) وقال:، رواه الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وقد وثق.(32/245)
الْقُبُورِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَوْ وَسْطَ السُّوقِ (1) ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ حُرْمَةَ التَّخَلِّي بَيْنَهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ النَّوْمِ عِنْدَ الْقَبْرِ (2) .
ب - كَيْفِيَّةُ حَفْرِ الْقَبْرِ:
أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الْقَبْرِ وَأَكْمَلُهُ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا.
قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى مَا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْدْنَى أَنْ يُعَمِّقَ نِصْفَ الْقَامَةِ (3) .
أَمَّا الأَْكْمَل: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالأَْكْثَرُ مِنَ
__________
(1) حديث: " لأن أمشي على جمرة أو سيف. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 499) وجود إسناده المنذري في الترغيب (4 / 280) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 606، وحاشية الدسوقي 1 / 428، وروضة الطالبين 2 / 139، والقليوبي وعميرة 1 / 342، وكشاف القناع 2 / 140.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 599، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 429، وروضة الطالبين 2 / 132، وكشاف القناع 2 / 134.(32/246)
الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْسِيعُ الْقَبْرِ وَتَعْمِيقُهُ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ، وَالْمُرَادُ قَامَةُ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ يَقُومُ وَيَبْسُطُ يَدَهُ مَرْفُوعَةً، فَقَدْ أَوْصَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعَمَّقَ قَبْرُهُ قَامَةً وَبَسْطَةً (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهِ لَكِنْ يُنْدَبُ عَدَمُ عُمْقِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَال: لاَ تُعَمِّقُوا قَبْرِي فَإِنَّ خَيْرَ الأَْرْضِ أَعْلاَهَا وَشَرَّهَا أَسْفَلُهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَعْمِيقُ الْقَبْرِ وَتَوْسِيعُهُ بِلاَ حَدٍّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا وَأَحْسِنُوا (3) ، وَلأَِنَّ تَعْمِيقَ الْقَبْرِ أَنْفَى لِظُهُورِ الرَّائِحَةِ الَّتِي تَسْتَضِرُّ بِهَا الأَْحْيَاءُ، وَأَبْعَدُ لِقُدْرَةِ الْوَحْشِ عَلَى نَبْشِهِ وَآكَدُ لِسَتْرِ الْمَيِّتِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ قَامَةٍ، وَطُولُهُ عَلَى طُول قَدْرِ الْمَيِّتِ، وَعَرْضُهُ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 132، وكشاف القناع 2 / 134.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 419، 429، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 130، 145.
(3) حديث: " احفروا وأعمقوا وأحسنوا ". أخرجه النسائي (4 / 81) من حديث هشام بن عامر، وأخرجه الترمذي (4 / 213) بلفظ مقارب وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) كشاف القناع 2 / 133، والإنصاف 2 / 545، والمغني 2 / 497.(32/246)
عَلَى قَدْرِ نِصْفِ طُولِهِ (1) .
اللَّحْدُ وَالشَّقُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صِفَةَ اللَّحْدِ هِيَ أَنْ يُحْفَرَ فِي أَسْفَل حَائِطِ الْقَبْرِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ وَيُجْعَل ذَلِكَ كَالْبَيْتِ الْمَسْقُوفِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الشَّقِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُحْفَرُ فِي وَسْطِ الْقَبْرِ حَفِيرَةٌ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهَا وَيُبْنَى جَانِبَاهَا بِاللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ وَيُسْقَفُ عَلَيْهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الشَّقُّ هُوَ أَنْ يُحْفَرَ فِي أَسْفَل الْقَبْرِ أَضْيَق مِنْ أَعْلاَهُ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ ثُمَّ يُغَطَّى فَمُ الشَّقِّ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّحْدَ أَفْضَل مِنَ الشَّقِّ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا (2) .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَال فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ رِخْوَةً فَلاَ بَأْسَ بِالشَّقِّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 599، والفتاوى الهندية 1 / 166.
(2) حديث: " اللحد لنا والشق لغيرنا ". أخرجه الترمذي (3 / 354) من حديث ابن عباس، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) أثر سعد بن أبي وقاص " أنه قال في مرض موته. . . ". أخرجه مسلم (2 / 665) .(32/247)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَفْضَلِيَّةِ الشَّقِّ فِي الأَْرْضِ غَيْرِ الصُّلْبَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَتِ الأَْرْضُ رِخْوَةً لاَ يَثْبُتُ فِيهَا اللَّحْدُ شُقَّ لِلْحَاجَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل فِيهَا اللَّحْدُ مِنَ الْجَنَادِل وَاللَّبِنِ وَالْحِجَارَةِ جُعِل وَلَمْ يُعْدَل إلَى الشَّقِّ (1) .
اتِّخَاذُ التَّابُوتِ فِي الدَّفْنِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ إلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 11) .
ج - كَيْفِيَّةُ إدْخَال الْمَيِّتِ الْقَبْرَ وَوَضْعِهِ فِيهِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَفْنٌ ف 8)
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 599، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 419، والفتاوى الهندية 1 / 165، وروضة الطالبين 2 / 133، وكشاف القناع 2 / 133.(32/247)
د - تَغْطِيَةُ الْقَبْرِ حِينَ الدَّفْنِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الْمَرْأَةِ حِينَ الدَّفْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْطِيَةِ قَبْرِ الرَّجُل. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 10)
هـ - الْجُلُوسُ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ:
10 - قَال الطَّحَاوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَفَنَ الْمَيِّتَ الْجُلُوسُ عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 45) .
و دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ مَيِّتٍ فِي الْقَبْرِ:
11 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ أَكْثَرُ مِنْ مَيِّتٍ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ كُل مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ فِعْل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلاَّ لِلضَّرُورَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْنِ أَكْثَرَ مِنْ مَيِّتٍ فِي الْقَبْرِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى الْكَرَاهَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى الْحُرْمَةِ.
__________
(1) حديث: " ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد ". أخرجه الترمذي (4 / 213) من حديث هشام بن عامر، وقال: " حديث حسن صحيح ".(32/248)
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْكَرَاهَةُ هُوَ مَا مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَاعْتَمَدَ شَيْخُنَا الزِّيَادِيُّ وَشَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ أَنَّهُ حَرَامٌ وَلَوْ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَوِ الْمَحْرَمِيَّةِ أَوِ الصِّغَرِ، وَلَوْ دُفِنَ لَمْ يُنْبَشْ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِمْ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 14) .
ز - تَسْنِيمُ الْقَبْرِ وَتَسْطِيحُهُ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ تَسْنِيمَ الْقَبْرِ - أَيْ جَعْل التُّرَابِ مُرْتَفِعًا عَلَيْهِ كَسَنَامِ الْجَمَل - مَنْدُوبٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ سُفْيَانِ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُرْفَعُ قَدْرَ شِبْرٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ شَيْئًا قَلِيلاً.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ فَيُتَوَقَّى، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ (3) ، وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَال: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَة فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 598، وحاشية الدسوقي 1 / 422، والقليوبي وعميرة 1 / 341، 342، وكشاف القناع 2 / 143.
(2) حديث سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مُسنَّمًا. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 255) .
(3) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر ". أخرجه البيهقي (3 / 410) ورجح إرساله.(32/248)
لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ مُشْرِفَةٍ وَلاَ لاَطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنْ زِيدَ عَلَى التَّسْنِيمِ أَيْ مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ التُّرَابِ بِحَيْثُ يَكُونُ جِرْمًا مُسَنَّمًا عَظِيمًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِهِ فَوْقَ شِبْرٍ لِحَدِيثِ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَهُ (2) .
قَالُوا: وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا، بِدَلِيل مَا سَبَقَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ " لاَ مُشْرِفَةٍ وَلاَ لاَطِئَةٍ " وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ التَّسْنِيمِ وَنَدْبِ التَّسْطِيحِ، أَيْ يُجْعَل عَلَيْهِ سَطْحٌ كَالْمِصْطَبَةِ وَلَكِنْ لاَ يُسَوَّى ذَلِكَ السَّطْحُ بِالأَْرْضِ بَل يُرْفَعُ كَشِبْرٍ، وَقِيل يُرْفَعُ قَلِيلاً بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ
__________
(1) حديث القاسم بن محمد: " دخلت على عائشة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 539) . والحاكم (1 / 369) وصححه ووافقه الذهبي. والمشرفة: المرتفعة غاية الارتفاع، واللاطئة: المستوية على وجه الأرض، والمبطوحة: المسواة المبسوطة على الأرض، قاله ابن الملك: (عون المعبود 9 / 39 نشر دار الفكر) .
(2) حديث أبي الهياج عن علي أنه قال له: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 666) .(32/249)
أَفْضَل مِنْ تَسْنِيمِهِ (1) .
13 - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فِي بِلاَدِ الْكُفَّارِ فَلاَ يُرْفَعُ قَبْرُهُ بَل يُخْفَى لِئَلاَّ يَتَعَرَّضُوا لَهُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: تَسْوِيَةُ قَبْرِ الْمُسْلِمِ بِالأَْرْضِ وَإِخْفَاؤُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْبَشَ فَيُمَثَّل بِهِ (2) .
ح - تَطْيِينُ الْقَبْرِ وَتَجْصِيصُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ مَاءٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ بِقَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (3) ، وَأَمَرَ بِهِ فِي قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ (4) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ حَصًى صِغَارٌ، لِمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ (5) ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 418، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 129، وروضة الطالبين 2 / 136، 137، والقليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 341، وكشاف القناع 2 / 138.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر سعد بن معاذ ". أخرجه ابن ماجه (1 / 495) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 274) .
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برش قبر عثمان بن مظعون ". أخرجه البزار، (كشف الأستار 1 / 397) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 45) : " رجاله موثقون إلا أن شيخ البزار محمد بن عبد الله لم أعرفه ".
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ". أخرجه الهيثمي (3 / 411) معضلاً.(32/249)
أَثْبَتُ لَهُ وَأَبْعَدُ لِدُرُوسِهِ، وَأَمْنَعُ لِتُرَابِهِ مِنْ أَنْ تُذْهِبَهُ الرِّيَاحُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْرُمُ رَشُّهُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَيُكْرَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ (1) .
15 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْيِينِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُخْتَارِ - وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَطْيِينِ الْقَبْرِ، وَنَقَل التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّطْيِينِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ.
وَدَلِيل الْجَوَازِ قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي وَصْفِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ " مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ " (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى كَرَاهَةِ تَطْيِينِ الْقَبْرِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: أَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَطْيِينِهِ مِنْ فَوْقٍ، وَنَقَل ابْنُ عَاشِرٍ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّهُ يَشْمَل تَطْيِينَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (3) .
16 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَهَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 601، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى 1 / 351، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 138.
(2) حديث القاسم بن محمد تقدم تخريجه ف12.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 424، وحاشية القليوبي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 138.(32/250)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: التَّجْصِيصُ التَّبْيِيضُ بِالْجِصِّ وَهُوَ الْجِيرُ.
قَال عَمِيرَةُ: وَحِكْمَةُ النَّهْيِ التَّزْيِينُ، وَزَادَ إضَاعَةَ الْمَال عَلَى غَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ (2) .
17 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى كَرَاهَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْجُمْلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (3) .
وَسَوَاءٌ فِي الْبِنَاءِ بِنَاءُ قُبَّةٍ أَمْ بَيْتٌ أَمْ غَيْرُهُمَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ لَوْ لِلزِّينَةِ، وَيُكْرَهُ لَوْ لِلإِْحْكَامِ بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَفِي الإِْمْدَادِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَالْيَوْمَ اعْتَادُوا التَّسْنِيمَ بِاللَّبِنِ صِيَانَةً لِلْقَبْرِ عَنِ النَّبْشِ وَرَأَوْا ذَلِكَ حَسَنًا، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَوُجُوبِ هَدْمِهِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إلاَّ إذَا كَانَ يَسِيرًا لِلتَّمْيِيزِ.
__________
(1) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 667) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي 1 / 424، وحاشية القليوبي وعميرة 1 / 350، وكشاف القناع 2 / 140.
(3) حديث جابر تقدم تخريجه ف16.(32/250)
كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَحْوِيزِ الْقَبْرِ - بِأَنْ يُبْنَى حَوْلَهُ حِيطَانٌ تُحْدِقُ بِهِ - وَوُجُوبِ هَدْمِ ذَلِكَ فِيمَا إذَا بُوهِيَ بِالْبِنَاءِ، أَوْ صَارَ مَأْوًى لأَِهْل الْفَسَادِ، أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ حَوْلَهُ فِي الأَْرَاضِي الثَّلاَثَةِ - وَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِإِذْنِ وَالْمَوَاتُ - حَرَامٌ عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَجَائِزٌ عِنْدَ قَصْدِ التَّمْيِيزِ وَإِنْ خَلاَ عَنْ ذَلِكَ كُرِهَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي الْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ:
رِوَايَةٌ بِالْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ، لأَِنَّهُ تَضْيِيقٌ بِلاَ فَائِدَةٍ وَاسْتِعْمَالٌ لِلْمُسَبَّلَةِ فِيمَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ.
وَرِوَايَةٌ بِالْمَنْعِ، صَوَّبَهَا الْبُهُوتِيُّ قَائِلاً: الْمَنْقُول فِي هَذَا مَا سَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَمَّنِ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَقْبَرَةِ، قَال: لاَ يُدْفَنُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ لاَ يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ.
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ بَنَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ فِيهَا فَهُوَ غَاصِبٌ (1) .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْفُسْطَاطَ وَالْخَيْمَةَ عَلَى الْقَبْرِ، لأَِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ " أَوْصَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لاَ تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا وَقَال الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي 1 / 424، 425، وحاشية القليوبي 1 / 350، وكشاف القناع 2 / 139، والإنصاف 2 / 549 - 550.(32/251)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَال: انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ (1) .
ط - تَعْلِيمُ الْقَبْرِ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيمِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ، فَدُفِنَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَحَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَال: أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَعْلِيمُ الْقَبْرِ بِأَنْ يُوضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ وَنَحْوُهُمَا، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ (3) .
19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 139.
(2) حديث: " لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 543) ، وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 133) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، وروضة الطالبين 2 / 136، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 138، 139.(32/251)
قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنْ بُوهِيَ بِهَا حَرُمَ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: النَّقْشُ مَكْرُوهٌ وَلَوْ قُرْآنًا، وَيَنْبَغِي الْحُرْمَةُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى امْتِهَانِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إنِ احْتِيجَ إلَيْهَا حَتَّى لاَ يَذْهَبَ الأَْثَرُ وَلاَ يُمْتَهَنَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِْجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ قَال هَذِهِ الأَْسَانِيدُ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَيُتَقَوَّى بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَل حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَال: أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (2) ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَل هَذَا الإِْجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا
__________
(1) حديث جابر: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 667) دون قوله: " وأن يكتب عليه "، فهو عند الترمذي (3 / 359) .
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حمل حجرًا فوضعها على رأس عثمان ابن مظعون. . . ". تقدم تخريجه ف 18.(32/252)
كَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى يُكْرَهَ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الشِّعْرِ أَوْ إطْرَاءُ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (1) .
ي - زِيَارَةُ الْقُبُورِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلرِّجَال، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآْخِرَةَ (2) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل أَحْكَامِ الزِّيَارَةِ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَةُ الْقُبُورِ ف 1) ، كَمَا سَبَقَ تَفْصِيل أَحْكَامِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 2) .
ك - نَبْشُ الْقَبْرِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنَ الأَْرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الأَْعْذَارِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُعَدُّ عُذْرًا وَغَرَضًا صَحِيحًا سِوَى هَذِهِ الأَْعْذَارِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601 - 602، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 140.
(2) حديث: " إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور. . . ". أخرجه مسلم (2 / 672) ، وأحمد (5 / 354) من حديث بريدة إلا أن مسلمًا ليس في روايته: فزوروها. . . الخ.(32/252)
فَمِنَ الْعُذْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَعَلُّقُ حَقِّ الآْدَمِيِّ بِهِ كَأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَغْصُوبَةً أَوْ أُخِذَتْ بِشُفْعَةٍ أَوْ سَقَطَ فِي الْقَبْرِ مَتَاعٌ أَوْ كَفَنٌ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمَال دِرْهَمًا، أَمَّا لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا دُفِنَ بِلاَ غُسْلٍ أَوْ صَلاَةٍ أَوْ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ يَمِينِهِ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُنْبَشُ بَعْدَ إهَالَةِ التُّرَابِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ مَنْعِ النَّبْشِ خَمْسَ مَسَائِل:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَغْصُوبًا سَوَاءٌ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِ فَيُنْبَشُ إنْ أَبَى رَبُّهُ أَخْذَ قِيمَتِهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَيِّتُ.
الثَّانِيَةُ: إذَا دُفِنَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إذْنِهِ، وَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: لِلْمَالِكِ إخْرَاجُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ طَال الزَّمَنُ أَمْ لاَ.
وَقَال اللَّخْمِيُّ: لَهُ إخْرَاجُهُ إنْ كَانَ بِالْفَوْرِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّول فَلَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهُ وَجُبِرَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ.
وَقَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ فَلَهُ إخْرَاجُهُ، وَإِنْ طَال فَلَهُ الاِنْتِفَاعُ بِظَاهِرِ الأَْرْضِ وَلاَ يُخْرِجُهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 602، وفتح القدير 1 / 472 ط الأميرية 1315هـ.(32/253)
الثَّالِثَةُ: إنْ نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ لِغَيْرِهِ وَلَوْ قَل، أَوْ لَهُ وَشَحَّ الْوَارِثُ وَكَانَ لَهُ بَالٌ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ غَيْرُ الْوَارِثِ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل وَلاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ.
الرَّابِعَةُ: عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي دَفْنِ غَيْرِهِ فَيُنْبَشُ.
الْخَامِسَةُ: عِنْدَ إرَادَةِ نَقْلِهِ عِنْدَ تَوَافُرِ شُرُوطِ النَّقْل (1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ النَّبْشَ لِلضَّرُورَةِ فَقَطْ، وَمِنَ الضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ: لَوْ دُفِنَ بِلاَ غُسْلٍ فَيَجِبُ نَبْشُهُ تَدَارُكًا لِغُسْلِهِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلِلصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَخُشِيَ فَسَادُهُ لَمْ يَجُزْ نَبْشُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ.
وَلَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ، فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ لِيُرَدَّ كُلٌّ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَرْضَ بِبَقَائِهِ، وَفِي الثَّوْبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّبْشُ لِرَدِّهِ لأَِنَّهُ كَالتَّالِفِ فَيُعْطَى صَاحِبُهُ قِيمَتَهُ.
وَلَوْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالٌ فَيَجِبُ نَبْشُهُ لأَِخْذِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: هَكَذَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا، وَقَيَّدَ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ الْوُجُوبَ بِالطَّلَبِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 428، والخرشي على مختصر خليل 2 / 144 - 145.(32/253)
فَعِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ يَجُوزُ وَلاَ يَجِبُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَوْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ حَرُمَ نَبْشُهُ وَشَقُّ جَوْفِهِ لإِِخْرَاجِهِ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَلَوْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ مَال غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَطْلُبْهُ صَاحِبُهُ أَوْ ضَمِنُوهُ لِصَاحِبِهِ وَإِلاَّ وَجَبَ.
وَلَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَتَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَلَوْ دُفِنَتِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ رُجِيَ حَيَاةُ جَنِينِهَا فَتُنْبَشُ وَيُشَقُّ جَوْفُهَا.
وَلَوْ دُفِنَ فِي مَسْجِدٍ فَيُنْبَشُ مُطْلَقًا وَيُخْرَجُ مِنْهُ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ نَبْشَ الْقَبْرِ لِتَدَارُكِ الْوَاجِبِ وَلِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ.
فَمِنَ النَّبْشِ لِتَدَارُكِ الْوَاجِبِ مَا لَوْ دُفِنَ قَبْل الْغُسْل فَيَلْزَمُ نَبْشُهُ وَيُغَسَّل تَدَارُكًا لِوَاجِبِ الْغُسْل، مَا لَمْ يُخَفْ تَفَسُّخُهُ أَوْ تَغَيُّرُهُ.
وَلَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا يُنْبَشُ وَيُوَجَّهُ إلَيْهَا تَدَارُكًا لِذَلِكَ الْوَاجِبِ.
وَلَوْ دُفِنَ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِيُوجَدَ شَرْطُ الصَّلاَةِ وَهُوَ عَدَمُ الْحَائِل، وَقَال ابْنُ شِهَابٍ وَالْقَاضِي: لاَ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ لإِِمْكَانِهَا عَلَيْهِ.
وَلَوْ دُفِنَ قَبْل تَكْفِينِهِ يُخْرَجُ وَيُكَفَّنُ، لِمَا
__________
(1) القليوبي وعميرة 1 / 352.(32/254)
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ رِجَالاً قَبَرُوا صَاحِبًا لَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ، وَلَمْ يَجِدُوا لَهُ كَفَنًا، ثُمَّ لَقُوا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَأَخْبَرُوهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ غُسِّل وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كُفِّنَ بِحَرِيرٍ هَل يُنْبَشُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قَال فِي الإِْنْصَافِ: الأَْوْلَى عَدَمُ نَبْشِهِ احْتِرَامًا لَهُ.
وَمِنَ النَّبْشِ لِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ تَحْسِينُ الْكَفَنِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُول بَعْدَمَا أُدْخِل حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ (1) ، وَدَفَنَهُ فِي بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا فَيَجُوزُ نَبْشُهُ لِذَلِكَ وَلِمُجَاوَرَةِ صَالِحٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ وَكَإِفْرَادِهِ فِي قَبْرٍ عَمَّنْ دُفِنَ مَعَهُ، لِقَوْل جَابِرٍ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَبِي أَوَّل قَتِيلٍ، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآْخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْد سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ (2) .
وَلَوْ دُفِنَ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ
__________
(1) حديث جابر: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سلول. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 214) ومسلم (4 / 2140) .
(2) قوله: " دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 214، 215) بروايتيه.(32/254)
فَيُنْبَشُ وَيُخْرَجُ تَدَارُكًا لِلْعَمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إذْنِ رَبِّهِ، فَلِلْمَالِكِ إلْزَامُ دَافِنِهِ بِنَقْلِهِ لِيَفْرُغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شَغَلَهُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالُوا: وَالأَْوْلَى لِلْمَالِكِ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ.
وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ عُرْفًا أَوْ رَمَاهُ رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَضَعَ خَاتَمَهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال خَاتَمِي، فَدَخَل وَأَخَذَهُ، وَكَانَ يَقُول: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، قَال أَحْمَدُ: إذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ يُنْبَشَ.
وَإِنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ غُصِبَ وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغَرِمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ حُرْمَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ الْكَفَنُ إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ الْكَفَنِ وَإِنْ بَلَعَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَانَ مِمَّا تَبْقَى مَالِيَّتُهُ كَخَاتَمٍ وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغَرِمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ نُبِشَ الْقَبْرُ وَشُقَّ جَوْفُهُ إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ الْمَال
__________
(1) حديث: " أن المغيرة بن شعبة وضع خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن سعد في الطبقات (2 / 302) ، وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (قسم السيرة - ص582) هذا حديث منقطع.(32/255)
لِرَبِّهِ وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ، وَإِنْ بَلَعَ مَال الْغَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أُخِذَ إذَا بَلِيَ الْمَيِّتُ، لأَِنَّ مَالِكَهُ هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالإِْذْنِ لَهُ، وَلاَ يُعْرَضُ لِلْمَيِّتِ قَبْل أَنْ يَبْلَى.
وَإِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ لَمْ يُنْبَشْ قَبْل أَنْ يَبْلَى، لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُنْبَشُ وَيُشَقُّ جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ وَيُوَفَّى دَيْنُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ (1) .
ل - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ بَل تُسْتَحَبُّ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا قَال: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ فِيهَا يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِهِمْ حَسَنَاتٌ (2) ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَمِمَّا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الإِْخْلاَصِ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً وَأَهْدَى
__________
(1) كشاف القناع 2 / 86، 87، 145.
(2) حديث أنس: " من دخل المقابر فقرأ فيها. . . ". أورده الزبيدي في إتحاف المتقين (10 / 373) وعزاه إلى عبد العزيز صاحب الخلال.(32/255)
ثَوَابَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبٌ بِعَدَدِ الْمَوْتَى فِيهَا.
وَرَوَى السَّلَفُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْطَى لَهُ مِنَ الأَْجْرِ بِعَدَدِ الأَْمْوَاتِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ اللُّبَابِ: وَيَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّل الْبَقَرَةِ إلَى الْمُفْلِحُونَ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآمَنَ الرَّسُول، وَسُورَةِ يس، وَتَبَارَكَ الْمُلْكِ، وَسُورَةِ التَّكَاثُرِ وَالإِْخْلاَصِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَلاَثًا.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: قَال السَّامِرِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَتِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إجْلاَسُ الْقَارِئِينَ عِنْدَ الْقَبْرِ، قَال: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل السَّلَفِ، قَال الدَّرْدِيرُ: الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
لَكِنْ رَجَّحَ الدُّسُوقِيُّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605، 607، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 423، والقليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 147.(32/256)
م - الصَّلاَةُ عَلَى الْقَبْرِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنَائِزُ ف 37) .
ن - تَقْبِيل الْقَبْرِ وَاسْتِلاَمُهُ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَقْبِيل الْقَبْرِ وَاسْتِلاَمِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ وَعَدُّوهُ مِنَ الْبِدَعِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى الْكَرَاهَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ قُصِدَ بِتَقْبِيل الأَْضْرِحَةِ التَّبَرُّكُ لَمْ يُكْرَهْ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْبِدَعِ (1) .
__________
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 1 / 267 ط مصطفى الحلبي 1348هـ، المدخل لابن الحاج 1 / 256 ط مصطفى الحلبي 1960م، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 206، وكشاف القناع 2 / 140.(32/256)
قَبْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَبْضِ لُغَةً: تَنَاوُل الشَّيْءِ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَمِنْهُ قَبْضُ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ، وَيُقَال: قَبَضَ الْمَال، أَيْ أَخَذَهُ، وَقَبَضَ الْيَدَ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ جَمَعَهَا بَعْدَ تَنَاوُلِهِ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: الإِْمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ، يُقَال: قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ جَمَعَهَا قَبْل تَنَاوُلِهِ، وَذَلِكَ إمْسَاكٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ قِيل لإِِمْسَاكِ الْيَدِ عَنِ الْبَذْل وَالْعَطَاءِ: قَبْضٌ.
وَيُسْتَعَارُ الْقَبْضُ لِتَحْصِيل الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْكَفِّ، نَحْوُ: قَبَضْتُ الدَّارَ وَالأَْرْضَ مِنْ فُلاَنٍ: أَيْ حُزْتُهَا، وَيُقَال: هَذَا الشَّيْءُ فِي قَبْضَةِ فُلاَنٍ، أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالْقَبْضِ عَنِ الْمَوْتِ. فَيُقَال: قُبِضَ فُلاَنٌ، أَيْ مَاتَ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ (1) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى
__________
(1) الصحاح للجوهري، ومفردات الراغب الأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 4 / 288، والمصباح المنير، ومعجم مقاييس اللغة، والمغرب للمطرزي.(32/257)
: {وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (1) وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} (2) فَإِنَّهُ تَجَوُّزٌ بِالْقَبْضِ عَنِ الإِْعْدَامِ، لأَِنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ مَكَانٍ يَخْلُو مِنْهُ مَحَلُّهُ كَمَا يَخْلُو الْمَحَل عَنِ الشَّيْءِ إذَا عُدِمَ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ (4) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً (5) ، وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: قَوْلُهُمْ قَبَضْتُ الدَّارَ وَالأَْرْضَ وَالْعَبْدَ وَالْبَعِيرَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الاِسْتِيلاَءَ وَالتَّمَكُّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ (6) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّقْدُ:
2 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (النَّقْدِ) بِمَعْنَى الإِْقْبَاضِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُعْطَى نُقُودًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: نَقَدْتُ الرَّجُل
__________
(1) سورة البقرة / 245.
(2) سورة الفرقان / 46.
(3) الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام ص106.
(4) القوانين الفقهية لابن جزي ص 328 ط. الدار العربية للكتاب، والبهجة 1 / 168، وميارة على العاصمية 2 / 144، وحدود ابن عرفة وشرحه للرصاع ص415.
(5) بدائع الصنائع 5 / 148.
(6) الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص106.(32/257)
الدَّرَاهِمَ، بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ. . . فَانْتَقَدَهَا، أَيْ قَبَضَهَا (1) . وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: النَّقْدُ خِلاَفُ الدَّيْنِ وَالْقَرْضِ (2) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ إقْبَاضُ الدَّرَاهِمِ نَقْدًا لِتَضَمُّنِهِ - فِي الأَْصْل (3) - تَمْيِيزَهَا وَكَشْفَ حَالِهَا فِي الْجَوْدَةِ وَإِخْرَاجِ الزَّيْفِ مِنْهَا مِنْ قِبَل الْمُعْطِي وَالآْخِذِ (4) .
أَمَّا (بَيْعُ النَّقْدِ) فَهُوَ - كَمَا قَال ابْنُ جُزَيٍّ - أَنْ يُعَجِّل الثَّمَنَ وَالْمَثْمُونَ (5) .
فَكُل نَقْدٍ قَبْضٌ وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْحِيَازَةُ:
3 - يَقُول أَهْل اللُّغَةِ: كُل مَنْ ضَمَّ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً (6) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَل هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ لَيَسْتَعْمِلُونَهُ افِي كُتُبِهِمْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الآْخَرِ:
أ - أَمَّا بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ فَهِيَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ مَعْنَى الْقَبْضِ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ. قَال الْقَيْرَوَانِيُّ:
__________
(1) المصباح المنير والصحاح، وانظر المطلع للبعلي ص234.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 23.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمطلع ص265.
(4) معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب.
(5) القوانين الفقهية ص254.
(6) الصحاح للجوهري، الكليات للكفوي 2 / 187 ط. دمشق.(32/258)
لاَ تَتِمُّ هِبَةٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ حَبْسٌ إلاَّ بِالْحِيَازَةِ (1) ، أَيْ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَال التَّسَوُّلِيُّ: الْحَوْزُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ (2) ، وَقَال الْحَسَنُ بْنُ رَحَّالٍ: الْحَوْزُ وَالْقَبْضُ شَيْءٌ وَاحِدٌ (3) .
ب - أَمَّا الْحِيَازَةُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ: الْحِيَازَةُ هِيَ وَضْعُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّيْءِ الْمَحُوزِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالْهَدْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ (4) ، وَقَال الْحَطَّابُ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، أَضْعَفُهَا: السُّكْنَى وَالاِزْدِرَاعُ، وَيَلِيهَا: الْهَدْمُ وَالْبُنْيَانُ وَالْغَرْسُ وَالاِسْتِغْلاَل. وَيَلِيهَا: التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنِّحْلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَطْءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَفْعَلُهُ الرَّجُل إلاَّ فِي مَالِهِ (5) .
وَالْقَبْضُ مُرَادِفٌ لِلْحِيَازَةِ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ.
ج - الْيَدُ:
4 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (الْيَدِ) بِمَعْنَى
__________
(1) الرسالة (تحقيق محمد أبو الأجفان) ص228، والتاودي على تحفة ابن عاصم 1 / 168.
(2) شرح التسولي على التحفة 1 / 168.
(3) حاشية الحسن بن رحال على شرح تحفة ابن عاصم 1 / 109، والقوانين الفقهية ص 328.
(4) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني 2 / 340.
(5) مواهب الجليل 6 / 222.(32/258)
حَوْزِ الشَّيْءِ وَالْمُكْنَةُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ، فَيَقُولُونَ: بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي النِّتَاجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ (1) ، وَيُرِيدُونَ بِذِي الْيَدِ الْحَائِزَ الْمُنْتَفِعَ، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْت: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ سِلْعَةً فِي يَدَيَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَيْتُ أَنَّهَا لِي، وَهِيَ فِي يَدَيَّ، وَأَقَمْتُ الْبَيِّنَةَ؟ قَال لِي مَالِكٌ: هِيَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ إذَا تَكَافَأَتِ الْبَيِّنَتَانِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْيَدَ تَدُل عَلَى الْقَبْضِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَبْضِ:
كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:
5 - تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الأَْشْيَاءِ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ نَوْعَانِ: عَقَارٌ وَمَنْقُولٌ.
أ - كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْعَقَارِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ بِأَنْ مَنَعَهُ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م. 1759، وجامع الفصولين 1 / 107.
(2) المدونة 13 / 37.
(3) رد المحتار 4 / 561 وما بعدها، و263 من المجلة العدلية، وم435 من مرشد الحيران، روضة الطالبين 3 / 515، مغني المحتاج 2 / 71، المجموع شرح المهذب 9 / 276، منح الجليل 2 / 689، مواهب الجليل 4 / 477، كشاف القناع 3 / 202 ط. أنصار السنة المحمدية، المغني 4 / 333، 5 / 596 ط. المنار 1367هـ.(32/259)
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ: ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ الْعَقَارُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِيهِ تَقْدِيرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِيهِ - كَمَا إذَا اشْتَرَى أَرْضًا مُذَارَعَةً - فَلاَ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ وَالتَّمْكِينُ، بَل لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الذَّرْعِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلاَ تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا، وَهُوَ رَأْيُ الصَّاحِبَيْنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ فِي الدَّارِ بِأَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ إنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ إذَا كَانَ لَهُ قُفْلٌ، فَيَكْفِي فِي قَبْضِهِ تَسْلِيمُ الْمِفْتَاحِ مَعَ تَخْلِيَتِهِ، بِحَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ فَتْحُهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ (2) .
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الثَّمَرَ عَلَى الشَّجَرِ بِالْعَقَارِ فِي اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ قَبْضًا لَهُ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَتَعَارُفِهِمْ عَلَيْهِ (3) .
ب - كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْمَنْقُول:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْمَنْقُول
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 73، روضة الطالبين 3 / 517.
(2) رد المحتار 4 / 561 وما بعدها ط. الحلبي، والفتاوى الهندية 3 / 16 وما بعدها، والحموي على الأشباه والنظائر 1 / 327، وانظر م 270، 271، من المجلة العدلية، وم 435، 436 من مرشد الحيران.
(3) شرح معاني الآثار 4 / 36، والمغني 4 / 333، ط. المنار وقواعد الأحكام لابن عبد السلام 2 / 81، 172.(32/259)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَنْقُولاَتِ فِيمَا يُعْتَبَرُ قَبْضًا لَهَا، حَيْثُ إنَّ بَعْضَهَا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ عَادَةً وَبَعْضَهَا الآْخَرَ لاَ يُتَنَاوَل، وَمَا لاَ يُتَنَاوَل بِالْيَدِ نَوْعَانِ،
أَحَدُهُمَا: لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي الْعَقْدِ،
وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ، فَتَحْصُل لَدَيْهِمْ فِي الْمَنْقُول ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
8 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ عَادَةً، كَالنُّقُودِ وَالثِّيَابِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْحُلِيِّ وَمَا إلَيْهَا، وَقَبْضُهُ يَكُونُ بِتَنَاوُلِهِ بِالْيَدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
9 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، إمَّا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَإِمَّا مَعَ إمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ، كَالأَْمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ وَالدَّوَابِّ وَالصُّبْرَةِ جُزَافًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَبْضِهِ إلَى الْعُرْفِ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 276، ومغني المحتاج 2 / 72، والذخيرة للقرافي 1 / 152، والمغني 4 / 332، وكشاف القناع 3 / 202.
(2) شرح الخرشي 5 / 158، الشرح الكبير للدردير 3 / 145 ط. مصطفى محمد.(32/260)
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ بِنَقْلِهِ وَتَحْوِيلِهِ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْمَنْقُول وَالْعُرْفِ، فَأَمَّا الْمَنْقُول فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ (2) ، وَقِيسَ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرُهُ (3) ، وَأَمَّا الْعُرْفُ، فَلأَِنَّ أَهْلَهُ لاَ يَعُدُّونَ احْتِوَاءَ الْيَدِ عَلَيْهِ قَبْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ، إذِ الْبَرَاجِمُ لاَ تَصْلُحُ قَرَارًا لَهُ (4) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ:
10 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، كَمَنِ اشْتَرَى صُبْرَةَ حِنْطَةٍ مُكَايَلَةً أَوْ مَتَاعًا مُوَازَنَةً أَوْ ثَوْبًا مُذَارَعَةً أَوْ مَعْدُودًا بِالْعَدَدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ بِاسْتِيفَائِهِ بِمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 72، وروضة الطالبين 3 / 515، والمغني 4 / 112، 332 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202.
(2) حديث: " كنا نتلقى الركبان. . . ". أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (4 / 8) وأصله في البخاري (فتح الباري 4 / 347) ومسلم (3 / 1161) .
(3) مغني المحتاج 2 / 72، والمغني 4 / 332.
(4) المجموع شرح المهذب 9 / 282، والمغني 4 / 112.
(5) مغني المحتاج 2 / 73، روضة الطالبين 3 / 517 وما بعدها، فتح العزيز 8 / 448، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 82، 171 ط. التجارية بمصر، والشرح الكبير للدردير 3 / 144، كشاف القناع 3 / 201، 272.(32/260)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ بِالإِْضَافَةِ إلَى ذَلِكَ نَقْلَهُ وَتَحْوِيلَهُ.
وَدَلِيل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَوْفِيَتِهَا بِالْوَحْدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ الْمُرَاعَاةِ فِيهَا مِنَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الذَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (1) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ (2) ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْصُل فِيهِ الْقَبْضُ إلاَّ بِالْكَيْل، فَتَعَيَّنَ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْل الْكَيْل، وَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَاقِي (3) .
11 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَبْضُ الْمَنْقُول يَكُونُ بِالتَّنَاوُل بِالْيَدِ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْكِينِ (4) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 750) من حديث جابر، وأشار ابن حجر في التلخيص (3 / 27) إلى تضعيف إسناده، ثم خرجه عن صحابة آخرين، ونقل عن البيهقي أنه قواه بطرقه.
(2) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ". أخرجه مسلم (3 / 1160) من حديث ابن عباس.
(3) مغني المحتاج 2 / 73، المغني لابن قدامة 4 / 111 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 201.
(4) لسان الحكام لابن الشحنة ص311، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 200 وما بعدها، ومجلة الأحكام العدلية م 272، 273، 274، 275.(32/261)
جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: " تَسْلِيمُ الْعُرُوضِ يَكُونُ بِإِعْطَائِهَا لِيَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِوَضْعِهَا عِنْدَهُ أَوْ بِإِعْطَاءِ الإِْذْنِ لَهُ بِالْقَبْضِ مَعَ إرَاءَتِهَا لَهُ (1) ".
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: رَجُلٌ بَاعَ مَكِيلاً فِي بَيْتٍ مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً، وَقَال: خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ، وَلَمْ يَكِلْهُ وَلَمْ يَزِنْهُ، صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.
وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَكَذَا التَّسْلِيمُ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْكِينِ فِي الْمَنْقُولاَتِ قَبْضًا بِأَنَّ تَسْلِيمَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ جَعْلُهُ سَالِمًا خَالِصًا لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُل بِالتَّخْلِيَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ، أَمَّا الإِْقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا لاَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 274.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 16.(32/261)
يَجُوزُ (1) .
وَقَدْ وَافَقَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَنْقُول قَبْضًا، وَذَلِكَ لِحُصُول الاِسْتِيلاَءِ بِالتَّخْلِيَةِ، إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ، وَقَدْ حَصَل بِهَا (2) .
تَقْسِيمُ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الْمَشْرُوعِيَّةُ:
12 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالْقَرَافِيُّ الْقَبْضَ كَتَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَالإِْذْنُ فِيهِ إلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ (3) .
(الضَّرْبُ الأَْوَّل) قَبْضٌ بِمُجَرَّدِ إذْنِ الشَّرْعِ دُونَ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: قَبْضُ وُلاَةِ الأُْمُورِ وَالْحُكَّامِ الأَْعْيَانَ الْمَغْصُوبَةَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال الْمَصَالِحِ وَالزَّكَاةَ وَحُقُوقَ بَيْتِ الْمَال، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لاَ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال الْمَجَانِينِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ بِسَفَهٍ وَنَحْوِهِمْ.
وَمِنْهَا: قَبْضُ مَنْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 244.
(2) المغني 4 / 111 ط، المنار، الإفصاح لابن هبيرة ص224 ط. الطباخ بحلب.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 71 ط. المكتبة التجارية بمصر، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص455 وما بعدها. (بعناية ط عبد الرؤوف سعد) .(32/262)
أَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ أَوْ دَارِهِ، وَمِنْهَا: قَبْضُ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ الأَْجَانِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ لِمَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ، وَمِنْهَا: قَبْضُ الإِْنْسَانِ حَقَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِجِنْسِهِ.
(وَالضَّرْبُ الثَّانِي) قَبْضُ مَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ قَبْضِهِ عَلَى إذْنِ مُسْتَحِقِّهِ، كَقَبْضِ الْمَبِيعِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَقَبْضِ الْمُسْتَامِ، وَالْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَقَبْضِ الرُّهُونِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ، وَقَبْضِ جَمِيعِ الأَْمَانَاتِ.
(وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ) قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ وَلاَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ، كَقَبْضِ الْمَغْصُوبِ، فَيَأْثَمُ الْغَاصِبُ، وَيَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ إذْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَنْ قَبَضَ مَالاً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالُهُ، فَإِذَا هُوَ لِغَيْرِهِ، قَال الْقَرَافِيُّ: فَلاَ يُقَال إنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ، بَل عَفَا عَنْهُ بِإِسْقَاطِ الإِْثْمِ (1) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ، وَلاَ إبَاحَةَ فِيهِ، وَهُوَ فِي ضَمَانِهِ.
الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ:
13 - الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُقَامُ مُقَامَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا حِسًّا فِي الْوَاقِعِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَاتٍ وَمُسَوِّغَاتٍ
__________
(1) شرح تنقيح الفصول ص456.(32/262)
تَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ تَقْدِيرًا وَحُكْمًا، وَتَرْتِيبَ أَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَالاَتٍ ثَلاَثٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: عِنْدَ إقْبَاضِ الْمَنْقُولاَتِ بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ التَّمْكِينِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا الطَّرَفُ الآْخَرُ حَقِيقَةً، حَيْثُ إنَّهُمْ يَعُدُّونَ تَنَاوُلَهَا بِالْيَدِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَبْضَ بِالتَّخْلِيَةِ قَبْضًا حُكْمِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الأَْحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ كَأَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا وَجَبَ الإِْقْبَاضُ وَاتَّحَدَتْ يَدُ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَعَ الْقَبْضُ بِالنِّيَّةِ (2) ، قَال الْقَرَافِيُّ: وَمِنَ الإِْقْبَاضِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَدْيُونِ حَقٌّ فِي يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ، فَيَأْمُرَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ يَدِهِ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ إقْبَاضٌ بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ، وَيَصِيرُ قَبْضُهُ لَهُ بِالنِّيَّةِ، كَقَبْضِ الأَْبِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ مَال وَلَدِهِ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ (3) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اعْتِبَارُ الدَّائِنِ قَابِضًا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا لِلدَّيْنِ إذَا كَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِمِثْلِهِ (4) لِلْمَدِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال الثَّابِتَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 244، وم 263، 462 من مجلة الأحكام العدلية، ورد المحتار 4 / 561، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر 2 / 217.
(2) تنقيح الفصول وشرحه للقرافي ص456، وانظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 72 (ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر) .
(3) شرح تنقيح الفصول للقرافي ص456.
(4) أي بمثله في الجنس والصفة ووقت الأداء.(32/263)
الذِّمَّةِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَدِينُ قَبْضَ مِثْلِهِ مِنْ دَائِنِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوْ بِأَحَدِ مُوجِبَاتِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا مِنْ قِبَل ذَلِكَ الْمَدِينِ. وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا:
أ - اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الآْخَرِ:
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَجُوزُ اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الآْخَرِ، وَيَكُونُ صَرْفًا بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ (1) ، وَقَال الأُْبِّيُّ الْمَالِكِيُّ: لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الصَّرْفِ الْمُنَاجَزَةُ، وَصَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَسْرَعُ مُنَاجَزَةً مِنْ صَرْفِ الْمُعَيَّنَاتِ، لأَِنَّ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ يَنْقَضِي بِنَفْسِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَالْقَبْضِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَرْفُ الْمُعَيَّنَاتِ لاَ يَنْقَضِي إلاَّ بِقَبْضِهِمَا مَعًا، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعُدُول، فَصَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 54 (ط. مكتبة الرياض الحديثة) .
(2) شرح الأبي على صحيح مسلم 4 / 264.(32/263)
تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِبْدَال عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا غَيْرُ حَاضِرَيْنِ جَمِيعًا، بَل الْحَاضِرُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ اللاَّزِمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْحَاضِرِ (2) .
ب - الْمُقَاصَّةُ:
إذَا انْشَغَلَتْ ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْل مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الأَْدَاءِ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مُقَابَلَةً بِالْمِثْل مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَقَابُضٍ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ، سَقَطَ مِنَ الأَْكْثَرِ بِقَدْرِ الأَْقَل، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلآْخَرِ بِمَا زَادَ (3) . (ر: مُقَاصَّةٌ)
ج - تَطَارُحُ الدَّيْنَيْنِ صَرْفًا:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَوْ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل بالبقيع. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 651) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 25) إعلاله بالوقف عن جماعة من العلماء.
(2) نيل الأوطار 5 / 157.
(3) مرشد الحيران م 224 - 226، 230، 231.(32/264)
كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دَنَانِيرُ، وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ الصَّرْفُ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّقَابُضِ الْحَقِيقِيِّ - مَعَ أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الصَّرْفِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ - وَذَلِكَ لِوُجُودِ التَّقَابُضِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّقَابُضِ الْحِسِّيِّ، قَالُوا: لأَِنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ قَدْ حَلاَّ مَعًا، فَأَقَامُوا حُلُول الأَْجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ، أَيِ الْيَدِ بِالْيَدِ (1) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَقْبُوضٌ لَهُ بِمَا فِي ذِمَّةِ الآْخَرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الآْخَرِ وَدِيعَةٌ فَاشْتَرَاهَا بِوَدِيعَتِهِ عِنْدَ الآْخَرِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَنَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يُحْضِرْ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا النَّقْدَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ عَقْدُ الصَّرْفِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 239 (بولاق 1272هـ) ، والزرقاني على خليل 5 / 232، ومواهب الجليل 4 / 310، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 128، وطبقات الشافعية لابن السبكي 10 / 231، والأبي على مسلم 4 / 264.
(2) الأم 3 / 33، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المبدع 4 / 156، / 53 المغني 4 / 53 (ط. مكتبة الرياض الحديثة) ، كشاف القناع 3 / 257 (م ط. الحكومة بمكة المكرمة) ، ونظرية العقد لابن تيمية ص235.(32/264)
د - جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ، لأَِنَّ ذَلِكَ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دِينَارًا، فَجَعَلَهُ سَلَمًا فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَبْضٍ حَقِيقِيٍّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ - مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال مُعَجَّلاً لِصِحَّةِ السَّلَمِ - وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ، وَهُوَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَكَأَنَّ الدَّائِنَ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَمِ قَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ، فَصَارَ مُعَجَّلاً حُكْمًا فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ، فَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 209 بولاق 1272 هـ، وتبيين الحقائق 4 / 140، ونهاية المحتاج 4 /! 80، وفتح العزيز 9 / 212، وبدائع الصنائع 7 / 3155 مط. الإمام، وشرح منتهى الإرادات 2 / 221، المغني 4 / 329 ط، مكتبة الرياض الحديثة.(32/265)
دَيْنٌ، وَسَقَطَ لَهُ عَنْهُ دَيْنٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ الإِْجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا، وَلاَ إجْمَاعَ فِيهِ، قَالَهُ شَيْخُنَا، وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ (1) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ أَهْلاً لِلْقَبْضِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِنْ أَهْلٍ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَكُونُ أَهْلاً لَهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِل غَيْرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّخْصِ لِلْقَبْضِ هِيَ نَفْسُهَا أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعُقُودِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ عَاقِلاً، فَلاَ يَصِحُّ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل (3) ، أَمَّا الْبُلُوغُ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَتَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيْرِ الْبَالِغِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (بعناية طه عبد الرؤوف سعد) 2 / 9.
(2) مغني المحتاج 2 / 128، والمجموع 9 / 157، وكشاف القناع 4 / 254 (مط. السنة المحمدية) ، والمغني 4 / 329 (ط. دار المنار) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 126.(32/265)
النَّوْعُ الأَْوَّل: التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا. كَمَا إذَا وُهِبَ الصَّبِيُّ، أَوْ تَصَدَّقَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قَبْضِهِ بُلُوغُهُ إذَا كَانَ يَعْقِل اسْتِحْسَانًا (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا كَتَبَرُّعَاتِهِ وَكَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَال، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ قُبُوضٍ لاِشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ فِي صِحَّتِهَا (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَإِجَارَتِهِ وَاسْتِئْجَارِهِ وَنِكَاحِهِ وَمَا شَاكَل ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ قُبُوضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهَا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدَّهَا بَطَلَتْ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِمَّنْ يَتَمَتَّعُ بِأَهْلِيَّةِ الْمُعَامَلَةِ، بَل تَكْفِي الصِّفَةُ الإِْنْسَانِيَّةُ مَنَاطًا لاِعْتِبَارِهِ أَهْلاً لِلْقَبْضِ، فَيَصِحُّ قَبْضُ الصَّغِيرِ وَالْمَحْجُورِ، وَيَكُونُ قَبْضًا تَامًّا (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 126، 141، جامع أحكام الصغار (بهامش جامع الفصولين) 1 / 181، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1374، شرح المجلة للأتاسي 3 / 364، 530.
(2) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4 / 1375 وما بعدها، وشرح المجلة للأتاسي 3 / 530، وانظر م967 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) المراجع السابقة.
(4) البهجة شرح التحفة 1 / 201.(32/266)
الشَّرْطُ الثَّانِي: صُدُورُ الْقَبْضِ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَتُهُ:
15 - الْقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ.
أ - أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وِلاَيَةَ هَذَا الْقَبْضِ تَكُونُ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ (1) .
ب - وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ: فَوِلاَيَتُهُ تَثْبُتُ إمَّا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ وِلاَيَةِ الْوَكِيل بِالْقَبْضِ، لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً مَلَكَ التَّوْكِيل فِيهِ، وَالْقَبْضُ مِمَّا يَحْتَمِل النِّيَابَةَ، فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيل بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّل وَلاَ فَرْقَ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً لِلْقَبْضِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْوَكِيل بِالْقَبْضِ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ إنْ كَانَ مُوَكِّلُهُ قَدْ وَكَّلَهُ بِوَكَالَةٍ عَامَّةٍ، بِأَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 126، الأم 3 / 124، 482، (بولاق) ، القوانين الفقهية ص 399 (ط. دار العلم للملايين) ، وشرح ميارة على التحفة 2 / 143، وقواعد الأحكام 2 / 159 (ط. المكتبة التجارية الكبرى) .
(2) البدائع 5 / 152، 6 / 126، 141، شرح المجلة للأتاسي 3 / 135، 4 / 313 وما بعدها، والشرح الكبير للدردير 3 / 377، 244، والبهجة شرح التحفة 2 / 233، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص 455، والتسهيل لابن جزي 1 / 97، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان 2 / 355.(32/266)
قَال لَهُ وَقْتَ التَّوْكِيل بِالْقَبْضِ: اصْنَعْ مَا شِئْت، أَوْ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا إذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ خَاصَّةً، بِأَنْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ عِنْدَ التَّوْكِيل بِالْقَبْضِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ فَعَل فَلاَ تَكُونُ لِمَنْ وَكَّلَهُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ، لأَِنَّ الْوَكِيل إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحُدُودِ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّل، فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ لاَ أَكْثَر (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ لِلْمُوَكِّل، وَلاَ يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً لِغَيْرِهِ فِي قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ بِطَعَامٍ إذَا دَفَعَ لِلدَّائِنِ دَرَاهِمَ وَقَال لَهُ: اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ مِثْل الطَّعَامِ الَّذِي لَك عَلَيَّ، وَاقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِك، فَفَعَل، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ عِنْدَ الدَّائِنِ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ (3)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 25.
(2) المهذب 1 / 309.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 295، 296 ط. مكة المكرمة.(32/267)
ثَلاَثِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِقْبَاضِ الْمَبِيعِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ فِي أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ إذْنًا بِالْقَبْضِ وَالإِْقْبَاضِ دَلاَلَةً (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ بِأَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، فَلِلْوَكِيل عِنْدَئِذٍ وِلاَيَةُ الْقَبْضِ وَالإِْقْبَاضِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، فَيَمْلِكُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنِ الْحَال وَتَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بَعْدَهُ إنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْمُوَكِّل مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ الإِْذْنُ فِي الْبَيْعِ إذْنًا فِيهِ دَلاَلَةً.
__________
(1) انظر م 949، 950، من مرشد الحيران، وم 1503 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 381، شرح ميارة على تحفة ابن عاصم 1 / 138، والبهجة شرح التحفة 1 / 213.(32/267)
فَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّل عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (1) .
(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، لأَِنَّ إطْلاَقَ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، لِكَوْنِهِ مِنْ تَمَامِهِ، بِخِلاَفِ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يَقْبِضَهُ، لأَِنَّ الْبَائِعَ قَدْ يُوَكِّل بِالْبَيْعِ مَنْ لاَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى الثَّمَنِ (2) .
وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْحُكْمِ بِسَلْبِ وِلاَيَةِ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مَا إذَا كَانَتِ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ قَبْضَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ، فَقَال: وَلَوْ وَكَّل غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ، وَالْعُرْفُ قَبْضُ ثَمَنِهِ، مَلَكَ ذَلِكَ (3) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي قَبْضِ الْحَقِّ.
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ وَهُوَ الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ أَخَذَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ:
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 307، 309، ومغني المحتاج 2 / 225، وفتح العزيز للرافعي 11 / 32 - 35.
(2) كشاف القناع 3 / 400 وما بعدها (مط. السنة المحمدية) والمغني 5 / 92 وما بعدها (ط. دار المنار) .
(3) إعلام الموقعين 2 / 393 (تحقيق محمد عبد الحميد) .(32/268)
وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ يَكُونُ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُ وِلاَيَتُهُ، لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ تَثْبِيتُ الْحَقَّ، وَلَيْسَ كُل مَنْ يُرْتَضَى لِتَثْبِيتِ حَقٍّ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، فَقَدْ يُوثَقُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لاَ يُوثَقُ عَلَى الْمَال. وَأَيْضًا فَلأَِنَّ الإِْذْنَ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَيْسَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، إذِ الإِْثْبَاتُ لاَ يَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ مِنْ لَوَازِمِهِ أَوْ مُتَعَلِّقَاتِهِ، بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَقَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَقَدْ أَقَامَهُ الْمُوَكِّل مُقَامَ نَفْسِهِ فِيهَا (1) .
(وَالثَّانِي) لأَِبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ أَنْ يَقْبِضَ الْحَقَّ بَعْدَ إثْبَاتِهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ، فَقَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى قَبْضِهِ، لأَِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ لاَ تَنْتَهِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ التَّوْكِيل بِهَا تَوْكِيلاً بِالْقَبْضِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وِلاَيَةُ الْعَدْل فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ:
19 - إذَا اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنْ يُجْعَل
__________
(1) المهذب 1 / 358، وكشاف القناع 3 / 402 (مط. السنة المحمدية) ، والمغني لابن قدامة 5 / 91 (ط. دار المنار) ، وبدائع الصنائع 6 / 25، ورد المحتار 5 / 529 (ط. مصطفى الحلبي) ، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 515 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 25، ورد المحتار 5 / 529 (ط. مصطفى البابي الحلبي) .(32/268)
الْمَرْهُونُ فِي يَدِ عَدْلٍ (1) ، فَهَل يَكُونُ لِلْعَدْل وِلاَيَةُ قَبْضِهِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ لِلْعَدْل أَنْ يَقْبِضَ الْمَرْهُونَ، وَيَكُونُ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلاَ فَرْقَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ قَدْ لاَ يَثِقُ بِصَاحِبِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى الْعَدْل، وَكَمَا يَتَوَلَّى الْعَدْل الْحِفْظَ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى الْقَبْضَ، وَبِهَذَا قَال الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.
وَلأَِنَّ الْعَدْل نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَكَانَ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْوَكِيل فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.
ثُمَّ إنَّ مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَدْل كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ بِالْقَبْضِ: أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَتَى شَاءَ أَنْ يَفْسَخَ الرَّهْنَ وَيُبْطِل يَدَ الْعَدْل وَيَرُدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ إبْطَال يَدِ الْعَدْل، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَدْل وَكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ (2) .
__________
(1) العدل: هو من رضي الراهن والمرتهن في أن يكون المرهون بيده، وقد سمي بذلك لعدالته في نظرهما. انظر الدر المختار 6 / 502 مع حاشية رد المحتار عليه، وجاء في م 705 من مجلة الأحكام العدلية " العدل هو الذي ائتمنه الراهن والمرتهن وسلماه وأودعاه الرهن ".
(2) بدائع الصنائع 6 / 137، 141 وما بعدها، ورد المحتار 6 / 503، (ط. الحلبي) وشرح المجلة للأتاسي 3 / 198 وما بعدها، والأم 3 / 169، ومغني المحتاج 2 / 133، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 216، والتسهيل لابن جزي 1 / 97، وتفسير القرطبي ص 1218 (ط. الشعب) ، والمغني 4 / 351 (ط. دار المنار) ، وكشاف القناع 3 / 282، (مط. السنة المحمدية) .(32/269)
(وَالثَّانِي) لاِبْنِ شُبْرُمَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَدْل أَنْ يَقْبِضَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ فَلاَ يَكُونُ الْقَبْضُ مُعْتَبَرًا، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ:
20 - وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ هِيَ وِلاَيَةُ مَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ فِي قَبْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَحْجُورُ، وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ الْمُسْتَحِقِّ، لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوَالِدَ يَحُوزُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا صِغَارًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنْ ذَلِكَ وِلاَيَةُ مَنْ يَعُول
__________
(1) تفسير القرطبي ص 1218 (ط. دار الشعب) ، وبدائع الصنائع 6 / 137، المغني 4 / 351، بداية المجتهد 2 / 230، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 5.
(2) بدائع الصنائع 5 / 152، 6 / 126، والأم 3 / 124، 284 ط بولاق، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 80 مط. الحسينية، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه 4 / 107، والمغني 5 / 601 ط. دار المنار.
(3) الأم 3 / 284، سنن البيهقي 6 / 170.(32/269)
الصَّغِيرَ وَيَكْفُلُهُ فِي قَبْضِ مَا يُوهَبُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاهِبُ هُوَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا أَمْ غَيْرَ قَرِيبٍ (1) .
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَيَحُوزُ لِلْمَحْجُورِ وَصِيُّهُ، وَيَحُوزُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ مَا وَهَبَهُ لَهُ هُوَ مَا عَدَا الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، وَمَا وَهَبَهُ لَهُ غَيْرُهُ مُطْلَقًا (2) .
21 - وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْحُكْمِ وِلاَيَةُ الشَّخْصِ فِي قَبْضِ اللُّقَطَةِ، وَمَال اللَّقِيطِ، وَالثَّوْبُ الَّذِي أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ، وَحَقُّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ، وَوِلاَيَةُ الْحَاكِمِ فِي قَبْضِ أَمْوَال الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهَا لِتُحْفَظَ لَهُمْ، وَوِلاَيَتُهُ فِي قَبْضِ الْمَال الْمُودَعِ إذَا مَاتَ الْمُودِعُ وَالْمُودَعُ وَوَرَثَةُ الْمُودَعِ غَائِبُونَ، وَوِلاَيَتُهُ فِي قَبْضِ أَمْوَال الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالزَّكَوَاتِ، وَكَذَا وِلاَيَةُ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ طَعَامِ الأَْجَانِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ (3) .
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِوِلاَيَةِ الْقَبْضِ لِلْغَيْرِ مَا يَأْتِي:
وِلاَيَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ:
22 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَوِلاَيَةُ قَبْضِ مَهْرِهَا لِمَنْ يَنْظُرُ
__________
(1) مرشد الحيران م (84) .
(2) القوانين الفقهية ص 374 ط. الدار العربية للكتاب.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 71 (ط. المكتبة التجارية الكبرى) ، وشرح تنقيح الفصول ص 455 وما بعدها، والذخيرة للقرافي 1 / 152.(32/270)
فِي مَالِهَا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، وَمَتَى قَبَضَهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الزَّوْجِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ثَانِيَةً وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بَل تَأْخُذُهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ مِنْ زَوْجِهَا، لأَِنَّ الزَّوْجَ قَدْ دَفَعَهُ لِمَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ شَرْعًا فِي قَبْضِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الدَّفْعُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ، وَمَتَى بَرِئَتْ ذِمَّةُ شَخْصٍ مِنْ دَيْنٍ، فَلاَ يَعُودُ مَدِينًا بِهِ، إذِ السَّاقِطُ لاَ يَعُودُ.
أَمَّا إذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَالِغَةً رَشِيدَةً: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا بِنَفْسِهَا بِدُونِ مُعَارَضَةٍ لَهَا مِنْ أَحَدٍ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَى أَمْوَالِهَا ثَابِتَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ شَاءَتْ تَوَلَّتْ هِيَ قَبْضَ الْمَهْرِ بِنَفْسِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ وَكَّلَتْ مَنْ تَخْتَارُهُ فِي قَبْضِ مَهْرِهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ قَبْضُهُ إلاَّ بِتَوْكِيلٍ صَرِيحٍ مِنْهَا (1) .
أَمَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مَهْرَهَا، بَل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 240، رد المحتار 3 / 161 (ط. الحلبي) ، والمهذب 2 / 58، وروضة الطالبين 7 / 330، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 328، وكشاف القناع 5 / 109، 116 (مط. السنة المحمدية) ، والمغني 6 / 735 وما بعدها (ط. دار المنار) .(32/270)
تَقْبِضُهُ هِيَ بِنَفْسِهَا، أَوْ تُوَكِّل مَنْ يَقْبِضُهُ لَهَا، لأَِنَّهَا رَشِيدَةٌ تَلِي مَالَهَا، فَلَيْسَ لِغَيْرِهَا أَنْ يَقْبِضَ صَدَاقَهَا أَوْ أَيَّ عِوَضٍ تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَثَمَنِ مَبِيعِهَا وَأُجْرَةِ دَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَقْبِضَ مَهْرَهَا إذَا لَمْ يَحْصُل مِنْهَا نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ قَبْضِهِ. فَإِنْ نَهَتْهُ فَلاَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَلاَ يَبْرَأُ الزَّوْجُ إنْ سَلَّمَهُ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ أَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي مِنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا بِخِلاَفِ الثَّيِّبِ، فَيَقُومُ وَلِيُّهَا مَقَامَهَا، وَلأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهَا بِدَلاَلَةِ الْعُرْفِ - بِخِلاَفِ الثَّيِّبِ - وَالإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالإِْذْنِ اللَّفْظِيِّ (2) .
وِلاَيَةُ عِيَال الْمُعِيرِ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةُ عِنْدَ رَدِّهَا:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْقَضِي الْتِزَامُهُ بِرَدِّ الْعَارِيَّةُ، وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا إذَا سَلَّمَهَا لِصَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ بِقَبْضِهَا.
غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ قَامَ بِرَدِّهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَال الْمُعِيرِ كَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) الأم 5 / 65، والروضة للنووي 7 / 330، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 328، والمغني 6 / 735 وما بعدها.
(2) رد المحتار 3 / 161 (ط. الحلبي) ، بدائع الصنائع 2 / 240، الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 319، ومجمع الضمانات للبغدادي ص 340.(32/271)
(أَحَدُهُمَا) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَعِيرِ بِرَدِّ الْعَارِيَّةُ وَتَسْلِيمِهَا إلَى زَوْجَةِ الْمُعِيرِ أَوْ وَلَدِهِ. . وَلَوْ ضَاعَتِ الْعَارِيَّةُ بَعْدَ قَبْضِهِمَا فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ، وَإِنْ شَاءَ غَرَّمَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْوَلَدَ، فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَعِيرَ، رَجَعَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ غَرَّمَهُمَا، لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا رَدَّ الْعَارِيَّةَ إلَى عِيَال الْمُعِيرِ الَّذِينَ لاَ عَادَةَ لَهُمْ بِقَبْضِ مَالِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا وَلاَ نَائِبِهِ فِي قَبْضِهَا، فَكَأَنَّهُ سَلَّمَهَا لأَِجْنَبِيٍّ، فَلاَ يَبْرَأُ، أَمَّا إذَا رَدَّهَا إلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ كَزَوْجَةٍ مُتَصَرِّفَةٍ فِي مَالِهِ وَخَازِنٍ إذَا رَدَّ إلَيْهِمَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمَا بِقَبْضِهِ، فَيَصِحُّ الرَّدُّ وَيَنْقَضِي الْتِزَامُ الْمُسْتَعِيرِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ نُطْقًا (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الإِْذْنُ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الإِْذْنِ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي يَدِ
__________
(1) روضة الطالبين للنووي 4 / 446، وأسنى المطالب 2 / 329.
(2) كشاف القناع 4 / 80، 81، مط. الحكومة بمكة المكرمة، والمغني 5 / 244 ط. مكتبة الرياض الحديثة.(32/271)
الْوَاهِبِ، وَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ نَقْدِ الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ، أَوْ قَبْلَهُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً، فَذَهَبُوا فِي الْحَالَةِ الأُْولَى إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ، وَذَهَبُوا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ، وَصَحَّحُوا الْقَبْضَ بِدُونِ إذْنِهِ (1) .
وَعَلَّلُوا اشْتِرَاطَ الإِْذْنِ فِي الأُْولَى بِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِ الشَّيْءِ، فَلاَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِ، وَاسْتَحَقَّ قَبْضَهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْعَطَايَا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ، لِبَقَاءِ مِلْكِ الرَّاهِنِ فِي الرَّهْنِ دُونَهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ وَفِي الْعَطَايَا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ. فَإِنْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ أَوِ الْمَوْهُوبُ أَوِ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ أَوِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 123 وما بعدها، 6 / 138، ورد المحتار 4 / 562 ط. الحلبي، وروضة الطالبين 3 / 517، 5 / 376، ومغني المحتاج 2 / 73، 400.
(2) المنتقى للباجي 6 / 100، وفتح العلي المالك 2 / 243، والشرح الكبير للدردير 4 / 101.(32/272)
الْوَاهِبِ أَوِ الْمُتَصَدِّقِ، فَسَدَ الْقَبْضُ، وَلَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ (1) .
نَوْعَا الإِْذْنِ:
25 - الإِْذْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَدَلاَلَةٌ، أَمَّا الصَّرِيحُ، فَنَحْوُ أَنْ يَقُول: اقْبِضْ، أَوْ أَذِنْتُ لَكَ بِالْقَبْضِ، أَوْ رَضِيتُ بِهِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، وَأَمَّا الدَّلاَلَةُ، فَنَحْوُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ الْهِبَةَ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ فَيَسْكُتَ وَلاَ يَنْهَاهُ، وَكَسُكُوتِ الْبَائِعِ حِينَ يَرَى الْمُشْتَرِيَ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ، وَكَسُكُوتِ الرَّاهِنِ عِنْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ أَمَامَهُ (2) .
الرُّجُوعُ فِي الإِْذْنِ:
26 - حَيْثُمَا اُشْتُرِطَ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَذِنَ بِالْقَبْضِ الرُّجُوعَ فِي الإِْذْنِ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَهُ بَطَل الإِْذْنُ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ الإِْذْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يُؤَثِّرْ رُجُوعُهُ (3) .
أَمَّا بُطْلاَنُ الإِْذْنِ بِرُجُوعِهِ قَبْل الْقَبْضِ،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 272، 4 / 253 مط. السنة المحمدية: والمغني 4 / 332 ط. دار المنار.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 154 وما بعدها، لسان الحكام لابن الشحنة ص 321، وكشاف القناع 4 / 253 مط. السنة المحمدية والمغني 4 / 332 ط. دار المنار.
(3) روضة الطالبين 5 / 376، مغني المحتاج 2 / 401، والمهذب 1 / 313، والمغني 4 / 332 ط. دار المنار، وكشاف القناع 4 / 253 (مط. السنة المحمدية) .(32/272)
فَلِقُوَّةِ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ بِبَقَاءِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ لاَ يَأْذَنَ بِقَبْضِهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إذْنِهِ قَبْل حُصُول الْقَبْضِ، وَأَمَّا عَدَمُ تَأْثِيرِ رُجُوعِهِ عَلَى صِحَّةِ الإِْذْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلأَِنَّ مَنْ سَعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ قِبَلِهِ فَسَعْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
اشْتِرَاطُ بَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الآْذِنِ حَتَّى يَحْصُل الْقَبْضُ:
27 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بُطْلاَنِ الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ إذَا جُنَّ الآْذِنُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الآْذِنُ أَوِ الْمَأْذُونُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ، بَطَل الإِْذْنُ بِالْقَبْضِ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا
__________
(1) المهذب 1 / 313.
(2) روضة الطالبين 5 / 376، وكشاف القناع 4 / 253 (مط. السنة المحمدية) .(32/273)
مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ لِلْبَائِعِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبْضُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا فَارِغَةً (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ إلاَّ فِي دَارِ السُّكْنَى، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قَبْضِهَا إخْلاَؤُهَا (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَيَصِحُّ قَبْضُ الشَّيْءِ الْمَشْغُول بِحَقِّ غَيْرِهِ، فَلَوْ خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الدَّارِ الْمُبَاعَةِ، وَفِيهَا مَتَاعٌ لِلْبَائِعِ صَحَّ الْقَبْضُ، لأَِنَّ اتِّصَالَهَا بِمِلْكِ الْبَائِعِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ (3) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مُنْفَصِلاً مُتَمَيِّزًا:
29 - هَذَا الشَّرْطُ قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مُنْفَصِلاً مُتَمَيِّزًا عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلاً بِهِ اتِّصَال الأَْجْزَاءِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبْضُ.
وَعَلَى هَذَا: فَلَوْ رَهَنَ أَوْ وَهَبَ الأَْرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 17، ورد المحتار 4 / 562، 5 / 690 ط. الحلبي، بدائع الصنائع 6 / 125، 140، ومجمع الضمانات للبغدادي ص219، 238، وفتح العزيز 8 / 442، والمجموع شرح المهذب 9 / 276، ومغني المحتاج 2 / 72.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 145، ومنح الجليل 2 / 689.
(3) المغني 4 / 333 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202 مط. أنصار السنة المحمدية.(32/273)
وَالشَّجَرَ بِدُونِ الأَْرْضِ، أَوِ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوِ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبْضُ وَلَوْ سَلَّمَ الْكُل، لأَِنَّ الْمَرْهُونَ أَوِ الْمَوْهُوبَ الْمُرَادَ قَبْضُهُ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ اتِّصَال الأَْجْزَاءِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ (1) .
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِهِمْ هَذَا الشَّرْطَ أَنَّ اتِّصَال الشَّيْءِ بِحَقِّ الْغَيْرِ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَيَحُول دُونَهُ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ قَبْضُهُ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَال (2) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةً شَائِعَةً:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الشُّيُوعِ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ قَبْضُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ، لأَِنَّ الشُّيُوعَ لاَ يُنَافِي صِحَّةَ الْقَبْضِ، إذْ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حِصَّتِهِ، لَكَانَ كُل شَرِيكَيْنِ فِي مِلْكٍ شَائِعٍ غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ، وَلَوْ كَانَا غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ لَكَانَ مُهْمَلاً لاَ يَدَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعِيَانُ، أَمَّا الشَّرْعُ، فَلأَِنَّهُ جَعَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 125، 140، والفتاوى الهندية 3 / 17.
(2) رد المحتار 6 / 479 ط. الحلبي.(32/274)
تَصَرُّفَهُمَا فِيهِ تَصَرُّفَ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْعِيَانُ، فَلِكَوْنِهِ عِنْدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةً يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، أَوْ عِنْدَهُمَا مَعًا يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَيَسْتَغِلاَّنِهِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ قَبْضِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ الشُّيُوعِ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ:
أ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ قَبْضَ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بِقَبْضِ الْكُل.
فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ مَا عَدَا حِصَّتِهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِشَرِيكِهِ، لأَِنَّ قَبْضَ الشَّيْءِ يَعْنِي وَضْعَ الْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنَ مِنْهُ، وَفِي قَبْضِهِ لِلْكُل وَضْعٌ لِيَدِهِ عَلَى حِصَّتِهِ وَتَمَكُّنٌ مِنْهَا.
قَالُوا: وَلاَ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ إذْنُ الشَّرِيكِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا يُقْبَضُ بِالتَّخْلِيَةِ. أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يُقْبَضُ بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، فَيُشْتَرَطُ إذْنُ الشَّرِيكِ، لأَِنَّ قَبْضَهُ بِنَقْلِهِ، وَنَقْلُهُ لاَ يَتَأَتَّى إلاَّ بِنَقْل حِصَّةِ شَرِيكِهِ مَعَ حِصَّتِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي مَال الْغَيْرِ بِدُونِ إذْنِهِ لاَ يَجُوزُ.
فَإِنْ أَبَى الشَّرِيكُ الإِْذْنَ، فَلِمُسْتَحِقِّ قَبْضِهِ أَنْ يُوَكِّل شَرِيكَهُ فِي قَبْضِ حِصَّتِهِ،
__________
(1) الأم 3 / 125، 169 (ط بولاق) ، وفتح العزيز 8 / 459، وشرح التاودي على تحفة ابن عاصم 1 / 178، 2 / 234، والبهجة شرح التحفة 2 / 235، والمغني 4 / 333، 5 / 596 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202، 4 / 257 مط. السنة المحمدية.(32/274)
فَيَصِحُّ الْقَبْضُ، فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ قَبَضَ لَهُ الْحَاكِمُ، أَوْ نَصَبَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُمَا، فَيَنْقُلُهُ لِيَحْصُل الْقَبْضُ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ، وَيَتِمُّ بِهِ عَقْدُ شَرِيكِهِ (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَبْضُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا كَمَا كَانَ صَاحِبُهَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا مَعَ شَرِيكِهِ، إلاَّ فِي الْمَرْهُونِ الَّذِي يَكُونُ الشَّرِيكُ فِيهِ الرَّاهِنَ، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْكُل كَيْ لاَ تَجْتَمِعَ يَدُ الرَّاهِنِ وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ مَعًا، سَوَاءٌ أَذِنَ الشَّرِيكُ الرَّاهِنُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ نِصْفَ دَارِهِ، وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا، فَدَخَل الْمَوْهُوبُ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِيهَا، وَصَارَ حَائِزًا بِالسُّكْنَى وَالاِرْتِفَاقِ بِمَنَافِعِ الدَّارِ، وَالْوَاهِبُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَفْعَلُهُ الشَّرِيكَانِ فِي السُّكْنَى، فَذَلِكَ قَبْضٌ تَامٌّ، وَكَذَلِكَ كُل مَنْ وَهَبَ جُزْءًا مِنْ مَالٍ أَوْ دَارٍ، وَتَوَلَّى احْتِيَازَ ذَلِكَ مَعَ وَاهِبِهِ، وَشَارَكَهُ فِي الاِغْتِلاَل وَالاِرْتِفَاقِ، فَهُوَ قَبْضٌ (2) .
لَكِنْ لَوْ رَهَنَ شَخْصٌ نِصْفَ دَارِهِ شَائِعًا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ إلاَّ بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ جَمِيعِهَا لِئَلاَّ تَجُول يَدُ الرَّاهِنِ فِيهَا (3) ، أَمَّا لَوْ كَانَ النِّصْفُ غَيْرُ الْمَرْهُونِ لِغَيْرِ الرَّاهِنِ فَيَحْصُل الْقَبْضُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 400، وكشاف القناع 3 / 202، 4 / 257.
(2) شرح ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 146.
(3) شرح التاودي على التحفة 1 / 178، وشرح ميارة على التحفة 1 / 116.(32/275)
بِحُلُولِهِ فِي حِصَّةِ الرَّاهِنِ مَعَ الشَّرِيكِ فِي السُّكْنَى وَالاِرْتِفَاقِ (1) .
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ أَلاَ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةً شَائِعَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ إثْبَاتُ الْيَدِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ الْمَقْبُوضِ، وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لاَ يُتَصَوَّرُ، فَإِنَّ سُكْنَى بَعْضِ الدَّارِ شَائِعًا وَلُبْسَ بَعْضِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ، وَإِنْ قَابَضَهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَلَوْ حَازَ الْكُل، نَظَرًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الشَّرِيكِ بِهِ. (2)
مَا يَحِل مَحَل الْقَبْضِ:
الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ بِالْعَقْدِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِ الشَّخْصِ قَبْل أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِ صَاحِبِهِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى:
31 - إنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِيَدِ الشَّخْصِ قَبْل أَنْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَهُ بِالْعَقْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ غَاصِبٍ أَوْ مُسْتَعِيرٍ أَوْ مُودَعٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَل يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ عَلَى الْعَقْدِ عَنِ الْقَبْضِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ أَمْ لاَ؟
__________
(1) لباب اللباب لابن راشد القفصي ص 170، وشرح ميارة على التحفة 1 / 116 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 120، 138.(32/275)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(الْقَوْل الأَْوَّل) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَدَ ضَمَانٍ أَمْ يَدَ أَمَانَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ أَمَانَةٍ أَمْ قَبْضَ ضَمَانٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ وَلاَ مُضِيُّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ (1) .
أَمَّا نِيَابَتُهُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَلأَِنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً، لِوُجُودِ الْحِيَازَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَلاَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي وُقُوعُهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ أَوْ كَوْنِ الْقَبْضِ السَّابِقِ أَقْوَى، بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِ الْيَدِ، حَتَّى يَنُوبَ عَنِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَلأَِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ: إثْبَاتُ الْيَدِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الأَْمْرُ، وُجِدَ الْقَبْضُ، أَمَّا مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا أَوْ أَمَانَةً فِي يَدِ الْقَابِضِ، فَلَيْسَ لِذَلِكَ أَيَّةُ عَلاَقَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ فِي حَقِيقَةِ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَاجَةِ لِلإِْذْنِ، فَلأَِنَّ إقْرَارَهُ لَهُ فِي
__________
(1) شرح ميارة على التحفة 1 / 111، المحرر للمجد بن تيمية 1 / 374، ونظرية العقد لابن تيمية ص 236، كشاف القناع 3 / 249، 273، 4 / 253 (مط. أنصار السنة المحمدية) ، المغني 4 / 334 وما بعدها، 5 / 594 ط. دار المنار.(32/276)
يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ، كَمَا أَنَّ إجْرَاءَهُ الْعَقْدَ مَعَ كَوْنِ الْمَال فِي يَدِهِ يَكْشِفُ عَنْ رِضَاهُ بِالْقَبْضِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الإِْذْنِ الْمُشْتَرَطِ فِي الاِبْتِدَاءِ، إذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَاجَةِ إلَى مُضِيِّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ، فَلأَِنَّ مُضِيَّ هَذَا الزَّمَانِ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعَقْدِ لاَعْتُبِرَ مُضِيُّ الزَّمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْضُ، لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ حُصُول الْقَبْضِ بِدُونِهِ، أَمَّا مَعَ كَوْنِهِ سَابِقًا لِلْعَقْدِ فَلاَ.
(الْقَوْل الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ، إذَا كَانَ مِثْل الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَهُ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ كِلاَهُمَا قَبْضَ أَمَانَةٍ أَوْ قَبْضَ ضَمَانٍ، لأَِنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ، لأَِنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرُ أَنْ يَنُوبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ.
أَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ، بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَبْضَ أَمَانَةٍ، وَالآْخَرُ قَبْضَ ضَمَانٍ، فَيُنْظَرُ: إنْ كَانَ الْقَبْضُ السَّابِقُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْتَحَقِّ، بِأَنْ كَانَ السَّابِقُ قَبْضَ ضَمَانٍ وَالْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ أَمَانَةٍ، فَيَنُوبَ عَنْهُ، لأَِنَّ بِهِ يُوجَدُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ، وَإِنْ كَانَ(32/276)
دُونَهُ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لاِنْعِدَامِ الْقَبْضِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، إذْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إلاَّ بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْ كُلِّهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَصْبٍ أَوْ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَاشْتَرَاهُ مِنَ الْمَالِكِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، فَيَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الشَّيْءُ قَبْل أَنْ يَذْهَبَ الْمُشْتَرِي إلَى بَيْتِهِ، وَيَصِل إلَيْهِ، أَوْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، كَانَ الْهَلاَكُ عَلَيْهِ، لِتَمَاثُل الْقَبْضَيْنِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَهُ مِنْهُ مَالِكُهُ، فَلاَ يُحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ، وَيَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي، لِتَمَاثُلِهِمَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا أَمَانَةً.
وَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَوَهَبَهُ الْمَالِكُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ أَصْل الْقَبْضِ، وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ.
أَمَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ، فَلاَ يَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي، وَلاَ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الضَّمَانِ فِي الْبَيْعِ، لِعَدَمِ(32/277)
وُجُودِ الْقَبْضِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ (1) .
(الْقَوْل الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدُ الْقَابِضِ السَّابِقَةُ بِجِهَةِ ضَمَانٍ أَمْ بِجِهَةِ أَمَانَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ أَمَانَةٍ أَمْ قَبْضَ ضَمَانٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: الإِْذْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي الأَْظْهَرِ إنْ كَانَ لَهُ فِي الأَْصْل الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ، كَالْمَرْهُونِ، وَالْمَبِيعِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَمْ يُوفِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْحَقُّ كَالْمَبِيعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، أَوْ حَالٍّ بَعْدَ نَقْدِ ثَمَنِهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ ذَلِكَ الإِْذْنُ.
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الإِْذْنِ مِنْ مُسْتَحِقِّ حَبْسِهِ فِي الأَْصْل، هُوَ عَدَمُ جَوَازِ إسْقَاطِ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ.
وَالثَّانِي: مُضِيُّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ، إذَا كَانَ الشَّيْءُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، لاَحْتَاجَ إلَى مُضِيِّ هَذَا الزَّمَانِ لِيَحُوزَهُ وَيَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَلأَِنَّا جَعَلْنَا دَوَامَ الْيَدِ كَابْتِدَاءِ الْقَبْضِ، فَلاَ أَقَل مِنْ مُضِيِّ زَمَانٍ يُتَصَوَّرُ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْقَبْضِ، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ ذَهَابُهُ وَمَصِيرُهُ إلَيْهِ فِعْلاً.
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي ص 217، بدائع الصنائع 5 / 248، 6 / 126 وما بعدها، الفتاوى الهندية 3 / 22 وما بعدها.(32/277)
وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ زَمَانِ إمْكَانِ الْقَبْضِ، مِنْ وَقْتِ الإِْذْنِ فِيهِ، لاَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
32 - إذَا كَانَ الشَّيْءُ بِيَدِ صَاحِبِهِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ بَائِعِهِ، أَوِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ وَاهِبِهِ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ - فِي قَضِيَّةِ مَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَبْضِ - بَيْنَ حَالَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَبَيْنَ حَالَةِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ الْوَاهِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ:
أ - أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ قَبْضِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ بَائِعِهِ، أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِإِتْلاَفٍ أَوْ تَعْيِيبٍ أَوْ تَغْيِيرِ صُورَةٍ أَوِ اسْتِعْمَالٍ، لأَِنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَالإِْتْلاَفُ وَالتَّعْيِيبُ وَتَغْيِيرُ الصُّورَةِ وَالاِسْتِعْمَال تَصَرُّفٌ فِيهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ قَبْضًا مِنْ بَابِ أَوْلَى، لأَِنَّ التَّمْكِينَ مِنَ التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ، كَمَا أَنَّ صُدُورَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْمُشْتَرِي يَنْطَوِي عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ فِعْلاً، إذْ لاَ يُتَصَوَّرُ صُدُورُهَا مِنْهُ مَعَ تَخَلُّفِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَتْ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ضَرُورَةً.
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ مَا لَوْ فَعَل الْبَائِعُ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 281، ومغني المحتاج 2 / 128، وفتح العزيز للرافعي 10 / 65 - 71.(32/278)
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْل الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا، صَارَ بِذَلِكَ قَابِضًا لأَِنَّهُ بِالإِْعَارَةِ وَالإِْيدَاعِ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فِيهِ، فَصَارَ قَابِضًا، وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ أَجْنَبِيًّا، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ.
أَمَّا إذَا أَعَارَهُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ، أَوْ آجَرَهُ إيَّاهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْضًا، لأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ تَصِحُّ مِنَ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ ثَابِتَةٌ لِلْبَائِعِ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ لَهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَلَمْ تَصِحَّ، وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ حِسًّا أَوْ شَرْعًا قَبْل قَبْضِهِ، كَانَ إتْلاَفُهُ قَبْضًا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُتْلِفُ الْمَبِيعَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُهُ قَبْضًا.
وَإِذَا أَتْلَفَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ، وَهُوَ بِيَدِ الزَّوْجِ، صَارَتْ بِذَلِكَ قَابِضَةً، وَبَرِئَ الزَّوْجُ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ، وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 246 وما بعدها، ورد المحتار 4 / 561 ط. الحلبي.
(2) مغني المحتاج 2 / 66 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 499 وما بعدها و7 / 251.(32/278)
قَبْضًا لَهُ، وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ مَالُهُ وَقَدْ أَتْلَفَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْتْلاَفُ عَنْ عَمْدٍ أَمْ خَطَأٍ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِهِ. (1)
(ب) أَمَّا إذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِيَدِ الْوَاهِبِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ إتْلاَفُ الْمَوْهُوبِ لِلْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ قَبْضًا، لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ الْقَبْضَ بِدُونِ إذْنِ الْوَاهِبِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إذَا أَتْلَفَ الْمُتَّهَبُ الْمَوْهُوبَ، وَهُوَ فِي يَدِ الْوَاهِبِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، اُعْتُبِرَ قَبْضًا وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ وَآثَارُهُ:
33 - دَلَّتِ النُّصُوصُ وَالْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الاِشْتِرَاطُ مُخْتَلَفًا فِي مَدَاهُ بَيْنَ عَقْدٍ وَآخَرَ، وَبَيْنَ رَأْيِ فَقِيهٍ أَوْ مَذْهَبٍ وَبَيْنَ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُجْتَهِدِينَ.
فَتَارَةً يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، بِحَيْثُ يَبْطُل الْعَقْدُ إذَا تَفَرَّقَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 191، وكشاف القناع 3 / 231 مط. الحكومة بمكة المكرمة.
(2) روضة الطالبين 5 / 377.
(3) كشاف القناع 3 / 231 مط. الحكومة بمكة المكرمة، وشرح منتهى الإرادات 2 / 191.(32/279)
الْعَاقِدَانِ قَبْلَهُ، وَتَارَةً يَكُونُ شَرْطًا فِي انْتِقَال مِلْكِيَّةِ مَحَل الْعَقْدِ وَاسْتِقْرَارِهَا، كَمَا أَنَّهُ أَحْيَانَا يَكُونُ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْعَقْدِ، بِحَيْثُ يَكُونُ جَائِزًا قَبْلَهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهَا لِنَقْل الْمِلْكِيَّةِ:
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ - فِي الْجُمْلَةِ - الْقَبْضُ لِنَقْل مِلْكِيَّةِ مَحَل الْعَقْدِ فِيهَا خَمْسَةٌ:
(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِنَقْل مِلْكِيَّةِ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ إلَى الْمَوْهُوبِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمَوْهُوبِ، وَأَنَّ الْهِبَةَ لاَ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ إلاَّ بِقَبْضِهَا.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ إذْنَ الْوَاهِبِ فِي الْقَبْضِ (1) .
(الثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّهُ
__________
(1) تكملة رد المحتار 8 / 424، 470 ط. الحلبي، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص353، وانظر م80، 82، 83 من مرشد الحيران، وروضة الطالبين 5 / 375، ومغني المحتاج 2 / 400، والأم 3 / 274 بولاق، والأشباه والنظائر للسيوطي ص319، والمحرر لمجد الدين بن تيمية 1 / 374، والقواعد لابن رجب ص71.(32/279)
لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمَوْهُوبِ بَل تَثْبُتُ لَهُ بِالْعَقْدِ وَعَلَى الْوَاهِبِ إقْبَاضُهُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) حَتَّى إنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى إجْبَارِ الْوَاهِبِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ إنِ امْتَنَعَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ، حَيْثُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ مَا اشْتَرَاهُ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، ثُمَّ قَال لأُِمِّ سَلَمَةَ: إنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ، فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ، فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ، فَكَانَ كَمَا قَال (3) فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ لاَ تُمْلَكُ إلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَال: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلاَ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) الشرح الكبير 4 / 101.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه ولم أهدى إلى النجاشي أواقًا من مسك. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 188) وقال الذهبي: منكر، ومسلم الزنجي ضعيف.(32/280)
بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أَبَتِ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ، فَمَنِ الأُْخْرَى؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ، أَرَاهَا جَارِيَةً (1) ، قَالُوا: فَلَوْلاَ تَوَقُّفُ الْمِلْكِ فِي الْمَوْهُوبِ عَلَى الْقَبْضِ لَمَا قَال إنَّهُ مَال وَارِثٍ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الأَْنْحَال: أَنَّ مَا قُبِضَ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا لَمْ يُقْبَضْ فَهُوَ مِيرَاثٌ (2) ، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (3) ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلأَِنَّ انْتِفَاءَ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ يُضَعِّفُ مِنْ سَبَبِيَّةِ الْعَقْدِ لإِِضَافَةِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ، فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ يَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى الْعَقْدُ بِالْقَبْضِ (4) .
(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ
__________
(1) أثر عائشة أخرجه مالك في الموطأ 2 / 752.
(2) أثر عمر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6 / 170) .
(3) روى ذلك عنهم البيهقي في السنن الكبرى (6 / 170) .
(4) كشف الأسرار على أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري 2 / 69.(32/280)
لِتَمَامِ الْوَقْفِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَبُو يُوسُفَ، إلَى أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ زَال بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَزَوَال مِلْكِيَّةِ الْوَقْفِ عَنِ الْوَاقِفِ (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً، وَلاَ يَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ إلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إنْ بَنَى شَخْصٌ سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ خَانًا لِيَسْكُنَهُ أَبْنَاءُ السَّبِيل، أَوْ رِبَاطًا لِلْمُجَاهِدِينَ، أَوْ خَلَّى أَرْضًا مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا لِلْمُصَلِّينَ، زَال مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدٌ: إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنَ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 383، والمغني 5 / 600، والكافي 2 / 455، نشر المكتب الإسلامي، والاختيار 3 / 41 - 42، والمبسوط 12 / 35.
(2) القوانين الفقهية ص364 - 365، نشر دار الكتاب العربي، والمغني 5 / 6000، والكافي 2 / 455، والاختيار 3 / 41، وحاشية ابن عابدين 3 / 364 - 365، والمبسوط 12 / 35، ومغني المحتاج 3 / 383.
(3) ابن عابدين 3 / 357، والهداية مع فتح القدير 5 / 418، 447، 448.(32/281)
وَالرِّبَاطَ وَدَفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مُسْلِمٌ زَال مِلْكُهُ عَنِ الْمَوْقُوفِ، وَلاَ يُزَال مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَقْفٌ) .
(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْقَرْضِ لِنَقْل الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ، إلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَال الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُقْرِضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأَِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا
__________
(1) رد المحتار 5 / 164، والأشباه والنظائر لابن نجيم وحاشية الحموي عليه 2 / 204، وفتح العزيز 9 / 391، ومغني المحتاج 2 / 120، والمهذب 1 / 310، وكشاف القناع 3 / 257 ط. السنة المحمدية، والمحرر 1 / 334، ومنتهى الإرادات 1 / 397.(32/281)
اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأَِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَال الْمُسْتَقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ، لأَِنَّ غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إنَّمَا هِيَ بَذْل مَنَافِعِ الْمَال الْمُقْرَضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ مَجَّانًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَال، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِل الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْمَال الْمُقْرَضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ. (1)
(وَالثَّالِثُ) لأَِبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَال الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُل عَمَلٍ يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعْتَاقِ وَالإِْتْلاَفِ، وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ وَالإِْجَارَةُ وَطَحْنُ الْحِنْطَةِ وَخَبْزُ الدَّقِيقِ وَذَبْحُ الشَّاةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 226، والبهجة شرح التحفة 2 / 288.
(2) بدائع الصنائع 7 / 396، وروضة الطالبين 4 / 35، وفتح العزيز 9 / 391، ومغني المحتاج 2 / 120، والمهذب 1 / 310، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 320، والتنبيه للشيرازي ص 70.(32/282)
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا إذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُقْرَضَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَيَكُونُ هَلاَكُهَا فِي عُهْدَتِهِ، لأَِنَّهَا لَمْ تَزَل فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الْمُقْتَرِضُ بَعْدُ، فَلاَ تَنْشَغِل ذِمَّتُهُ بِعِوَضِهَا أَصْلاً، بَيْنَمَا يَكُونُ ضَمَانُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَحَمَّل تَبِعَةَ هَلاَكِهَا، وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا لأَِنَّهَا هَلَكَتْ فِي مِلْكِهِ.
كَمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى ذَلِكَ الْكُرَّ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُقْرِضِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ الْمُقْتَرِضَ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، فَيَصِيرُ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ التَّالِي مُشْتَرِيًا مِلْكَ نَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ فَالْكُرُّ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ، وَيَصِيرُ الْمُسْتَقْرِضُ مُشْتَرِيًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ (1) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 164 ط. الحلبي، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 440.(32/282)
رَابِعًا) الْعَارِيَّةُ:
37 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ لاَ تَنْتَقِل إلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، لاَ بِالْقَبْضِ وَلاَ بِغَيْرِهِ. لأَِنَّ الْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ تُفِيدُ إبَاحَةَ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَعِيرِ لاَ تَمْلِيكَهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال مَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ الإِْعَارَةَ تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الشَّيْءِ الْمُعَارِ، فَلاَ تُمْلَكُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ (1) .
(ر: إعَارَةٌ ف 14) .
(خَامِسًا) الْمُعَاوَضَاتُ الْفَاسِدَةُ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْقَبْضِ نَاقِلاً لِلْمِلْكِيَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْفَاسِدَةِ أَوْ غَيْرَ نَاقِلٍ (2) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالْبَاطِل، لاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَتَاتًا، سَوَاءٌ قَبَضَ الْعَاقِدُ الْبَدَل الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَنْتَقِل فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدِ بِقَبْضِهِ بِرِضَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 214، 7 / 396، ولسان الحكام ص87، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 138، 3 / 309، ونهاية المحتاج 5 / 119، والمغني 5 / 227.
(2) وهي العقود التي تقوم على أساس إنشاء حقوق والتزامات مالية بين العاقدين، كالبيع والإجارة والسلم ونحوها.(32/283)
صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ (1) .
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي صِحَّتِهَا:
(أَوَّلاً) الصَّرْفُ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ التَّقَابُضُ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْل التَّفَرُّقِ (2) ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْل أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. (4)
__________
(1) رد المحتار 5 / 49، 99 وما بعدها ط. الحلبي، ومواهب الجليل 4 / 380، والمغني 4 / 229، والمجموع 9 / 377 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 5 / 215، ورد المحتار 5 / 258 ط. الحلبي، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 554، وروضة الطالبين 3 / 379، والأم 3 / 36 ط بولاق، وفتح العلي المالك لعليش 2 / 110، وكشاف القناع 3 / 217، والمغني 4 / 51 ط. دار المنار، ومنتهى الإرادات 1 / 380.
(3) المغني 4 / 51، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 69، وكشاف القناع 3 / 217 ط. السنة المحمدية.
(4) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) .(32/283)
وَبِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآْخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ أَيِ الرِّبَا (1) .
لِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُتَصَارِفَيْنِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ وَأَرَادَا الاِفْتِرَاقَ، لَزِمَهُمَا دِيَانَةً أَنْ يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَبْل التَّفَرُّقِ كَيْ لاَ يَأْثَمَا بِتَأْخِيرِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لأَِنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رِبًا إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُل هَذَا الشَّرْطُ حَصَل الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي التَّفَاسُخِ قَبْل التَّفَرُّقِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ تَلْزَمُهُمَا شُرُوطُهُ (2) .
لَكِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - هُوَ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ لِصِحَّةِ الصَّرْفِ - مَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ غَلَبَةً، أَيْ بِمَا يُغْلَبَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، كَنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنَ الصَّرَّافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ:
__________
(1) أثر ابن عمر: أخرجه البيهقي، ومالك، وعبد الرزاق في مصنفه، (انظر نصب الراية 4 / 56، والسنن الكبرى للبيهقي 5 / 284) .
(2) المجموع شرح المهذب للنووي 9 / 404، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 14.(32/284)
وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ بِحَيْلُولَةِ سَيْلٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَدُوٍّ قَبْل التَّقَابُضِ (1) وَقَالُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (2) .
(ثَانِيًا) بَيْعُ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا الْحُلُول وَانْتِفَاءُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا إذَا بِيعَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَكَانَ الْمَالاَنِ الرِّبَوِيَّانِ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ مُثَمَّنًا، كَبَيْعِ الْمَوْزُونَاتِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. (4)
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ هَذَا عَلَى
__________
(1) التاج والإكليل 4 / 307، ومنح الجليل 2 / 508.
(2) القوانين الفقهية ص276 (دار العلم للملايين) ، وبداية المجتهد 2 / 164 ط الجمالية.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 552، والأم 3 / 26، 31 ط بولاق، وروضة الطالبين 3 / 378 وما بعدها، والدر المختار مع رد المحتار 5 / 172 ط. الحلبي، وبداية المجتهد 2 / 107 ط الجمالية 1329 هـ) ، والمنتقى للباجي 5 / 3، وكشاف القناع 3 / 215، وما بعدها ط السنة المحمدية، والمغني 4 / 9 وما بعدها ط. دار المنار.
(4) تقدم تخريجه ف39.(32/284)
اشْتِرَاطِ الْحُلُول وَانْتِفَاءِ النَّسِيئَةِ، اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ بَطَل الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّسِيئَةِ ثَبَتَ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا، وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ مُتَلاَزِمَانِ، إذْ مِنَ الْمُحَال أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّارِعُ انْتِفَاءَ الأَْجَل فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، وَيَكُونُ تَأْجِيل التَّقَابُضِ فِي بَعْضِهَا جَائِزًا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَدًا بِيَدٍ وَهَاءَ وَهَاءَ فِي شَأْنِ بَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ السِّتَّةِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِيهَا جَمِيعًا (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ إلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ - كَبَيْعِ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حِنْطَةٍ - فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ التَّعْيِينُ دُونَ التَّقَابُضِ، لأَِنَّ الْبَدَل فِي غَيْرِ الصَّرْفِ يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ
__________
(1) فتح العزيز 8 / 165 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 378 وما بعدها، والمنتقى للباجي 4 / 260، 5 / 3، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 256، وكشاف القناع 3 / 216، والمغني 4 / 9.(32/285)
قَبْل الْقَبْضِ، وَيَتَمَكَّنُ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّعَيُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْبَدَل فِي الصَّرْفِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إذِ الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، حَيْثُ إنَّ الأَْثْمَانَ لاَ تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً إلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ تَبْدِيلُهَا بِمِثْلِهَا قَبْل تَسْلِيمِهَا (1) .
(ثَالِثًا) السَّلَمُ:
41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَال قَبْل الاِفْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل تَفَرُّقِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ أَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ "، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ.
(ر: سَلَمٌ ف 16 - 19) .
(رَابِعًا) إجَارَةُ الذِّمَّةِ:
42 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الإِْجَارَةَ بِاعْتِبَارِ مَحَل تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا إلَى
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 172، 178. ط. الحلبي.(32/285)
قِسْمَيْنِ: إجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.
أ - فَالإِْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ: يَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ سَيَّارَةً مُعَيَّنَةً، أَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْجَارَةِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الأُْجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ لُزُومِهِ أَوِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا - إذِ الإِْجَارَةُ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مَعْلُومٍ - وَبَيْعُ الْعَيْنِ يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ الإِْجَارَةُ.
ب - أَمَّا الإِْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ: فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْل بِأَنْ قَال: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ قَال: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِنَاءَ جِدَارٍ صِفَتُهُ كَذَا، فَقَبِل الْمُؤَجَّرُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الأُْجْرَةِ فِيهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) : لِلْحَنَفِيَّةِ، فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ الأَْجْرَ لاَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَلاَ يُمْلَكُ، فَلاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِهِ، بَل بِتَعْجِيلِهِ أَوْ شَرْطِهِ فِي الإِْجَارَةِ(32/286)
الْمُنَجَّزَةِ أَوِ الاِسْتِيفَاءِ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الأَْجْرِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإِْجَارَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يُمْلَكُ الأَْجْرُ بِالْعَقْدِ، لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَشَأْنُ الْبَدَل أَنْ يَكُونَ مُقَابِلاً لِلْمُبْدَل، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا حَالاً لاَ يَلْزَمُ بَدَلُهَا حَالاً، إلاَّ إذَا شَرَطَهُ وَلَوْ حُكْمًا، بِأَنْ عَجَّلَهُ لأَِنَّهُ صَارَ مُلْتَزِمًا لَهُ بِنَفْسِهِ وَأَبْطَل الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ (1) .
(وَالثَّانِي) : لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَعْجِيل الأُْجْرَةِ، لاِسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ تَعْمِيرَ الذِّمَّتَيْنِ وَبَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلاَّ إذَا شَرَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ الْمَوْصُوفَةَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطِ أَنْ تَحْمِلَهُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ تَأْخِيرُ الأُْجْرَةِ، لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الْمُؤَخَّرِ بِالْمُؤَخَّرِ، حَيْثُ إنَّ قَبْضَ أَوَائِل الْمَنْفَعَةِ كَقَبْضِ أَوَاخِرِهَا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي حُكْمِ تَعْجِيل الأُْجْرَةِ تَأْخِيرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، لأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ (2) ، وَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 6، والفتاوى الهندية 4 / 412.
(2) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 4 / 3 ط. مصطفى محمد 1373هـ، والخرشي على خليل 7 / 3، والفروق للقرافي 2 / 133.(32/286)
فَرْقَ بَيْنَ عَقْدِهَا بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ.
(وَالثَّالِثُ) : لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ قَبْضُ الْمُؤَجِّرِ الأُْجْرَةَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، كَمَا اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ بَطَلَتِ الإِْجَارَةُ، لأَِنَّ إجَارَةَ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ، فَكَانَتْ كَالسَّلَمِ فِي الأَْعْيَانِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ (1) .
(وَالرَّابِعُ) : لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إذَا جَرَتْ بِلَفْظِ " سَلَمٍ " أَوْ " سَلَفٍ " - كَأَسْلَمْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي مَنْفَعَةِ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَكَانِ كَذَا، أَوْ فِي مَنْفَعَةِ آدَمِيٍّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا لِبِنَاءِ حَائِطٍ صِفَتُهُ كَذَا مَثَلاً - وَقَبِل الْمُؤَجِّرُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَئِذٍ تَسْلِيمُ الأُْجْرَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهَا بِذَلِكَ تَكُونُ سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَضْ قَبْل تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ لآَل الأَْمْرُ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَجْرِ إجَارَةُ الذِّمَّةِ بِلَفْظِ " سَلَمٍ " وَلاَ " سَلَفٍ "، فَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْجِيل الأُْجْرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ سَلَمًا، فَلاَ يَلْزَمُ فِيهَا شَرْطُهُ (2) .
__________
(1) فتح العزيز 12 / 205، وروضة الطالبين 5 / 176، والمهذب 1 / 406، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، ونهاية المحتاج 4 / 208، 301.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 360، وانظر م 539 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد.(32/287)
(خَامِسًا) الْمُضَارَبَةُ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إلَى الْعَامِل، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالْعَمَل مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الْعَمَل إلاَّ بَعْدَ خُرُوجِ رَأْسِ الْمَال مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال إلَى الْعَامِل (1) ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال إلَيْهِ حَال الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِل الْعَامِل بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَال (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِل فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْضُ الْعَامِل لِرَأْسِ الْمَال (4) ، قَال الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِيَدِ رَبِّهِ، لأَِنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْعَمَل (5) .
__________
(1) رد المحتار 8 / 283 ط الحلبي، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 370 وما بعدها، ومغنيي المحتاج 2 / 310، وروضة الطالبين 5 / 118 وما بعدها، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 517، وما بعدها، والمغني 5 / 25 ط. دار المنار.
(2) مغني المحتاج 2 / 310.
(3) البدائع 6 / 84، ومغني المحتاج 2 / 310.
(4) المغني 5 / 25.
(5) شرح منتهى الإرادات 2 / 327.(32/287)
سَادِسًا) الْمُزَارَعَةُ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمُ الأَْرْضِ إلَى الْعَامِل مُخْلاَةً، أَيْ أَنْ تُوجَدَ التَّخْلِيَةُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ الْعَامِل، حَتَّى لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَل عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ أَوْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا مَعًا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ) .
(سَابِعًا) الْمُسَاقَاةُ:
45 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ تَسْلِيمُ الأَْشْجَارِ إلَى الْعَامِل، فَلَوْ شُرِطَ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتُهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُول التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَبَيْنَ الْعَامِل (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاةٌ)
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا:
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:
46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِلُزُومِ الْهِبَةِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ، وَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ قَبْل
__________
(1) رد المحتار 6 / 276، وبدائع الصنائع 6 / 178.
(2) رد المحتار 6 / 86، وفتح العزيز 12 / 131، والروضة 5 / 155، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 394.(32/288)
الْقَبْضِ الرُّجُوعُ فِيهَا، فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَزِمَتْ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لِسَائِرِ الأُْصُول عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل قَبْضِهَا.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ يَئُول إلَى اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلاَ تَبْطُل الْهِبَةُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإِْقْبَاضِ أَوِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
وَاسْتَدَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لأُِمِّ سَلَمَةَ: إنِّي أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، وَإِنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ (2) ، وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يَقُول ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي. . وَهَل لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 375، والأم 3 / 285 بولاق، والمهذب 1 / 454، وكفاية الأخيار 1 / 176، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، وكشاف القناع 4 / 253 وما بعدها. ط السنة المحمدية، والمغني 5 / 591 وما بعدها. ط. دار المنار.
(2) حديث: " إني أهديت إلى النجاشي أواقًا من مسك. . . ". تقدم تخريجه ف 34.(32/288)
فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ (1) ، فَقَدْ شَرَطَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ الإِْمْضَاءَ، وَالإِْمْضَاءُ هُوَ الإِْقْبَاضُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ إلاَّ إذَا كَانَتْ لأُِصُول الْوَاهِبِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ لأَِخِيهِ أَوْ لأُِخْتِهِ أَوْ أَوْلاَدِهِمَا أَوْ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ فِي غَيْرِ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ بِرِضَا الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لِلْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْهِبَةَ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، لَكِنَّهَا لاَ تَتِمُّ وَلاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى إقْبَاضِهَا مَا دَامَ الْعَاقِدَانِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْل الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِيرَاثًا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ فَلاَ تَبْطُل، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاهِبِ بِهَا، لأَِنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لِمُوَرِّثِهِمْ قَبْل مَوْتِهِ (4) .
(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) حديث: " يقول ابن آدم مالي مالي. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2273) من حديث عبد الله بن الشخير.
(2) انظر أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن فرج القرطبي ص504.
(3) مجلة الأحكام العدلية (م 864 - 868) ، وبدائع الصنائع 6 / 129 وما بعدها.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 101، والقوانين الفقهية ص399 ط. دار العلم للملايين.(32/289)
الْقَبْضِ فِي الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ - إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، بَل يَلْزَمُ وَيَتِمُّ بِدُونِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّل ثَمَرَةَ أَرْضِهِ وَيَحْبِسَ أَصْلَهَا (1) وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِحَبْسِ الأَْصْل وَتَسْبِيل الثَّمَرَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقْبِضَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لأََمَرَهُ بِهِ (2) ، وَبِقَوْل الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آل عُمَرَ وَآل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَوَلِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ (3) ، وَبِقِيَاسِ الْوَقْفِ عَلَى الْعِتْقِ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل
__________
(1) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يسبل ثمرة أرضه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 392) مسلم (3 / 1255) .
(2) الأم 3 / 281 ط. بولاق.
(3) الأم 3 / 281، وسنن البيهقي 6 / 161 وما بعدها، وانظر بدائع الصنائع 6 / 219.(32/289)
إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارَهُ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَهَا، وَلاَ يَمْلِكُ مِنْ رَقَبَتِهَا شَيْئًا، لأَِنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، فَكَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يَلْزَمُ بِالْقَوْل وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْل (1) ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْل، وَلأَِنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَابِضَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوَقْفِ، فَيَكُونُ قَبْضُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً (2) .
(وَالثَّانِي) لاِبْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِقَبْضِهِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ بِأَنْ يَجْعَل لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيهَا فَمَا فَوْقَ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَصَدُّقٌ بِالْمَنَافِعِ، وَالْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ لاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ لِلُزُومِهِ.
(وَالثَّالِثُ) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
__________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي 4 / 98، وبدائع الصنائع 6 / 219، المغني لابن قدامة 5 / 547 ط. دار المنار.
(2) شرح معاني الآثار 4 / 98.
(3) لسان الحكام ص114، خزانة الفقه للسمرقندي ص268 وما بعدها، بدائع الصنائع 6 / 219، القواعد لابن رجب ص71، المغني 5 / 547.(32/290)
الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْل قَبْضِ الْمَوْقُوفِ بَطَل الْوَقْفُ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنَ النَّاسِ (1) .
(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْقَرْضِ أَوْ لُزُومِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُقْتَرِضُ، بَل يَلْزَمُ بِالْقَوْل (2) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.
وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ (3) .
(رَابِعًا) الرَّهْنُ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ (4) .
__________
(1) لباب اللباب للقفصي ص239، وكفاية الطالبي الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 203، 212.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 226.
(3) مغني المحتاج 2 / 128، منتهى الإرادات 1 / 397.
(4) رد المحتار 6 / 479، تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 63، مغني المحتاج 2 / 128، المهذب 1 / 312، الأشباه والنظائر للسيوطي ص280، المغني 4 / 328 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 272 وما بعدها ط. السنة المحمدية، وشرح منتهى الإرادات 2 / 232.(32/290)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) حَيْثُ إنَّ الْمَصْدَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ يُرَادُ بِهِ الأَْمْرُ، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ شَرْطًا فِيهِ، إذِ الْمَشْرُوعُ بِصِفَةٍ لاَ يُوجَدُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلأَِنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ إذْ لاَ يَسْتَوْجِبُ الرَّاهِنُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلِهَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْمْضَاءِ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ، وَالإِْمْضَاءُ يَكُونُ بِالْقَبْضِ.
وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل وَصَفَ الرِّهَانَ بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا، وَلَوْ لَزِمَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالإِْقْبَاضِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: أَمَّا لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ، فَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْل الْقَبْضِ، وَأَمَّا إلْزَامُ الرَّاهِنِ بِالإِْقْبَاضِ، فَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) دَلِيلٌ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 283.
(2) سورة المائدة / 1.(32/291)
إلْزَامِ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ لِلْمُرْتَهِنِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ (1) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الرَّهْنِ وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَلاَ لُزُومِهِ بَل يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالأُْخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ (3) .
اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَلَوِ اسْتَرْجَعَهُ الرَّاهِنُ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ صَحَّ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطِ اسْتِدَامَتُهُ كَالْهِبَةِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 231، القوانين الفقهية ص352 (ط. دار العلم للملايين) والإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 2، المنتقى للباجي 5 / 248، كفاية الطالب الرباني 2 / 216، شرح التاودي على التحفة 1 / 168، بداية المجتهد 2 / 230 (ط. الجمالية) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ص1218 (ط. دار الشعب) ، والتسهيل لابن جزي 1 / 97.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 231.
(3) المغني 4 / 328.(32/291)
مَتَى شَاءَ (1) ، وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُول: (يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ (2)) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ كِرَاءٍ بَطَل الرَّهْنُ، لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمَرْهُونِ فِي الاِبْتِدَاءِ هُوَ أَنْ تَحْصُل وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ، فَكَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطًا فِيهِ (3) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ زَال لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ، وَلاَ يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، لأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَاخَى الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ أَوَّل مَرَّةٍ، وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَإِبَاقِ الْعَبْدِ وَضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلُزُومُ الْعَقْدِ
__________
(1) رد المحتار 6 / 511، الأم 3 / 124 ط بولاق، ودرر الحكام لعلي حيدر 2 / 161.
(2) م 55 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 2، القوانين الفقهية ص352، بداية المجتهد 2 / 230.(32/292)
بَاقٍ، لأَِنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُمْ فِي يَدِهِ زَال ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ بَقَاءُ اللُّزُومِ مَنُوطًا بِدَوَامِ الْقَبْضِ (1) .
آثَارُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ:
51 - أَهَمُّ آثَارِ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ هُوَ انْتِقَال ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ إلَى الْقَابِضِ، وَتَسَلُّطُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَوُجُوبُ بَذْل عِوَضِهِ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
الأَْثَرُ الأَْوَّل: انْتِقَال الضَّمَانِ إلَى الْقَابِضِ:
52 - الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِل إلَى الْقَابِضِ: هُوَ تَحَمُّلُهُ لِتَبَعَةِ الْهَلاَكِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ التَّعْيِيبِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي أَحَدِ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَهِيَ هُنَا: الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ فِيمَا يَخُصُّ الصَّدَاقَ.
أَوَّلاً - ضَمَانُ الْمَبِيعِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَل يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، بِحَيْثُ لاَ يَنْتَقِل ضَمَانُهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، أَمْ أَنَّهُ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ بِالْعَقْدِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 233، كشاف القناع 3 / 274.(32/292)
سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ انْتَقَل الضَّمَانُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، لأَِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إلْزَامَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ يَتَهَيَّأُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِالتَّسْلِيمِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِ لَهُ ضَرُورَةً.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنَ الْمَبِيعَاتِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَبَيْنَ مَا لاَ يَكُونُ فِيهِ، بِحَيْثُ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ، وَدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلاَتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ فِي حَالَةِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَنِ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلاً، فَلاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُهُ، وَكُل ذَلِكَ لاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ قَبْل الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْدَهُ، وَالْهَلاَكُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْل الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، أَوْ بِفِعْل(32/293)
الْمَبِيعِ، أَوْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ ف 31 وَمَا بَعْدَهَا) .
(ثَانِيًا) ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ:
أ - الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الأَْعْيَانِ:
54 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَكَذَا مَنَافِعُهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا تَكُونُ قَبْل الْقَبْضِ فِي ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ ضَمَانَ الْعَيْنِ لاَ يَنْتَقِل إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَلأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَبَضَ الْعَيْنَ لاِسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَلاَ يَضْمَنُهَا، كَمَا إذَا قَبَضَ النَّخْلَةَ الَّتِي اشْتَرَى ثَمَرَتَهَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (1) .
ب - الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الأَْعْمَال:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الأَْجِيرَ فِي الإِْجَارَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعَمَل قِسْمَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 210، مجمع الضمانات ص13، روضة الطالبين 5 / 226، المهذب 1 / 415، الشرح الكبير للدردير 4 / 24، المبدع 5 / 113، المغني 5 / 488، كشاف القناع 4 / 39، 49 (ط. الحكومة بمكة المكرمة) .(32/293)
خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ
ضَمَانُ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ:
55 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ لاَ يَضْمَنُ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَال الْمُؤَجِّرِ، بَل يَكُونُ مَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لاَ يَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ إلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إلَى مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، كَالْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ (1) .
ضَمَانُ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ضَامِنًا لِمَا يَكُونُ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا تَلِفَ بِفِعْل الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، بِحَيْثُ إذَا كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا أَمْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قَاصِدًا أَمْ مُخْطِئًا.
أَمَّا مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٌ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 211، الفتاوى الهندية 4 / 500، روضة الطالبين 5 / 228، نهاية المحتاج 5 / 311، الشرح الكبير للدردير 4 / 28، جواهر الإكليل 2 / 191، المغني 5 / 481، شرح منتهى الإرادات 2 / 376.(32/294)
وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَذَهَبَا إلَى تَضْمِينِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا، إلاَّ إذَا وَقَعَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ لاَ يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْصْل فِي يَدِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهَا يَدُ أَمَانَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا فَسَدَ النَّاسُ وَظَهَرَتْ خِيَانَةُ الأُْجَرَاءِ ضَمِنَ الصُّنَّاعُ وَكُل مَنْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَضْمِينَهُ مِنَ الأُْجَرَاءِ الْمُشْتَرَكِينَ حَيْثُ تَقُومُ بِهِ التُّهْمَةُ (3) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ أَنَّ يَدَ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ يَدُ أَمَانَةٍ (4) .
وَالرَّابِعُ: قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ تَدْخُل فِي ضَمَانِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْيَدِ، ضَمِنَ هَلاَكَهَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ النَّاسِ وَخِيَانَةِ الأُْجَرَاءِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنِ الأَْجِيرُ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ، لأَِنَّ الْمَال غَيْرُ مُسَلَّمٍ إلَيْهِ حَقِيقَةً (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 135 وما بعدها، ومجمع الأنهر، والدر المنتقى 2 / 391 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 26 وما بعدها. والإنصاف للمرداوي 6 / 72 - 73.
(2) بدائع الصنائع 4 / 210 وما بعدها، مجمع الضمانات ص27.
(3) البهجة شرح التحفة ص283.
(4) روضة الطالبين 5 / 228 وما بعدها، ونهاية المحتاج 5 / 310.
(5) روضة الطالبين 5 / 228، والمهذب 1 / 415.(32/294)
وَالتَّفْصِيل فِي (إجَارَةٌ ف 103 وَمَا بَعْدَهَا، 133، 134) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 60 - 61) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْعَارِيَّةُ:
57 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى مَالِكِهَا مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ هَلَكَتْ كَانَ هَلاَكُهَا مِنْ مَالِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ، فَفِي انْتِقَال ضَمَانِهَا إلَيْهِ بِالْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 12) وَمُصْطَلَحِ (إعَارَةٌ ف 15) .
رَابِعًا: ضَمَانُ الْمَرْهُونِ:
58 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرْهُونَ يَكُونُ فِي ضَمَانِ الرَّاهِنِ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَفِي انْتِقَال ضَمَانِهِ إلَيْهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف 8، 18) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 62 وَمَا بَعْدَهَا) .
خَامِسًا: ضَمَانُ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ قَبْضِ الزَّوْجَةِ لِمَهْرِهَا بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَاقِلاً لِضَمَانِهِ مِنَ الزَّوْجِ إلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ كَالْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالْمَاشِيَةِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِذَاتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَبْل أَنْ(32/295)
تَقْبِضَهُ مِنَ الزَّوْجِ وَبَعْدَهُ، فَلَوْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، كَانَ هَلاَكُهُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْقَبْضِ أَيُّ أَثَرٍ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الضَّمَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ، وَقَدْ مَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَهُ لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ انْتَقَل الضَّمَانُ إلَيْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 147) وَمُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
الأَْثَرُ الثَّانِي: التَّسَلُّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ:
60 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بَعْدَ قَبْضِهَا، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا قَبْل قَبْضِهَا، سَوَاءٌ مُلِكَتْ بِبَيْعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِغَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفَاتِ، وَحَاصِل كَلاَمِهِمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: بَيْعُ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، عَقَارًا(32/295)
كَانَ أَوْ مَنْقُولاً، سَوَاءٌ بِيعَ مُقَدَّرًا أَوْ جُزَافًا، وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ، مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَسَوَاءٌ بِيعَ مُقَدَّرًا أَمْ جُزَافًا، إلاَّ الْعَقَارَ الَّذِي لاَ يُخْشَى هَلاَكُهُ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ هَلاَكُهُ، بِأَنْ كَانَ عُلُوًّا أَوْ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْمَنْقُولاَتِ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا، فَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ - مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ - سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّعَامُ رِبَوِيًّا أَمْ غَيْرَ رِبَوِيٍّ، أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ جُزَافًا - أَيْ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ - فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ تَعْجِيل الثَّمَنِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إلَى بَيْعِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 68، المجموع شرح المهذب 9 / 264، طرح التثريب 6 / 114، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد وحاشية الصنعاني عليه 4 / 80 وما بعدها، معالم السنن للخطابي 3 / 135 (ط. الطباخ) ، المغني 4 / 113، وبدائع الفوائد 3 / 250 وما بعدها، ورد المحتار 5 / 147، شرح المجلة للأتاسي 2 / 173.
(2) بدائع الصنائع 5 / 180، الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 147.(32/296)
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِ الْمَطْعُومِ قَبْل قَبْضِهِ، أَمَّا الْمَطْعُومُ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اُشْتُرِيَ جُزَافًا أَوْ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
الْقَوْل الْخَامِسُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا اشْتَرَاهُ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَطْعُومًا أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَإِنِ اُشْتُرِيَ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ جَازَ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (3) .
الْقَوْل السَّادِسُ: جَوَازُ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا أَمْ مَنْقُولاً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَبِهَذَا قَال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ (4) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 151 وما بعدها، المنتقى للباجي 4 / 279، 280، 283، كفاية الطالبي الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 118 وما بعدها.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 118.
(3) كشاف القناع 3 / 197 وما بعدها، المغني 4 / 107، المحرر 1 / 322.
(4) العدة للصنعاني على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 4 / 81 ط. السلفية بالقاهرة، والنووي على صحيح مسلم 10 / 170، والمغني لابن قدامة 4 / 113.(32/296)
وَالْحُجَّةِ الْمُجْمَعَةِ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَظُنُّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَمِثْل هَذَا لاَ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 42 إلَى ف 52) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيْعُ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْل قَبْضِهَا:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ مَا مُلِكَ بِغَيْرِ الشِّرَاءِ قَبْل قَبْضِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، كَالأُْجْرَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولاً مُعَيَّنًا، وَكُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، كَالْمَهْرِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَبَدَل الْعِتْقِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُودَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَاوَضَةٌ، وَغَيْرُ مُعَاوَضَةٍ.
فَمَا مُلِكَ بِعَقْدٍ لَيْسَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ كَالْقَرْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَمَا مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ مُلِكَ بِمَا يَخْتَصُّ بِالْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَايَسَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إنْ كَانَ طَعَامًا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إلَى بَيْعِ الْعِينَةِ، وَإِنْ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَتَرَدَّدُ
__________
(1) المغني 4 / 113. وطرح التثريب 6 / 114.(32/297)
بَيْنَ قَصْدِ الرِّفْقِ وَالْمُغَابَنَةِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُغَابَنَةِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُغَابَنَةِ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْعْيَانَ الْمُسْتَحَقَّةَ لِلإِْنْسَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ ضَرْبَانِ: أَمَانَةٌ وَمَضْمُونَةٌ، فَالأَْمَانَةُ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا قَبْل قَبْضِهَا، لأَِنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ.
وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ:
(الأَْوَّل) الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْيَدِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ.
(وَالثَّانِي) الْمَضْمُونُ بِعِوَضٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ - كَأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي إجَارَةٍ، وَعِوَضٍ مُعَيَّنٍ فِي صُلْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَكَذَا مَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ - كَعِوَضِ خُلْعٍ وَعِتْقٍ وَكَمَهْرٍ وَمُصَالَحٍ بِهِ عَنْ
__________
(1) المنتقى للباجي 4 / 280 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 121.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 265 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 508 وما بعدها، وطرح التثريب 6 / 116.(32/297)
دَمِ عَمْدٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إذَا احْتَاجَ لِتَوْفِيَةٍ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل الْقَبْضِ، وَكَذَا كُل مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَلاَ يُتَوَهَّمُ غَرَرُ الْفَسْخِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ قَبْضُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِهِ، كَرَأْسِ مَال السَّلَمِ وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ الْبَيْعِ فِي الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا:
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ فِي الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِْقْرَاضِ وَالرَّهْنِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالتَّزْوِيجِ، أَمَّا إجَارَتُهُ فَلاَ تَجُوزُ مُطْلَقًا (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 189، 190، والمغني 4 / 114 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 233 ط. الحكومة بمكة.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 147 وما بعدها، وبدائع الصنائع 5 / 180، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 173 وما بعدها.(32/298)
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا، أَوْ كَانَ مَطْعُومًا وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ، أَمَّا الطَّعَامُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِأَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْل قَبْضِهِ، أَمَّا بِغَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ، كَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَقَرْضٍ وَشَرِكَةٍ وَتَوْلِيَةٍ، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل أَنْ يُقْبَضَ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، كَالإِْجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالإِْقْرَاضِ، أَوْ جَعْلُهُ صَدَاقًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ عِوَضًا فِي صُلْحٍ أَوْ رَأْسِ مَال سَلَمٍ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْمِلْكِ، إلاَّ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ وَالاِسْتِيلاَدَ وَالتَّزْوِيجَ وَالْقِسْمَةَ وَالْوَقْفَ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ (2) .
وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا اُشْتُرِيَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِإِجَارَةٍ وَلاَ هِبَةٍ وَلاَ رَهْنٍ وَلاَ حَوَالَةٍ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ، لأَِنَّهُ مِنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 279 - 280، والمنتقى للباجي 4 / 282، والقوانين الفقهية ص 284 دار العلم للملايين.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 264 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 69، وكفاية الأخبار 1 / 133، وروضة الطالبين 3 / 506 وما بعدها.(32/298)
ضَمَانِ بَائِعِهِ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَجَعْلُهُ مَهْرًا وَبَدَل خُلْعٍ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِهِ قَبْل أَنْ يُقْبَضَ، وَذَلِكَ لاِغْتِفَارِ الْغَرَرِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.
أَمَّا مَا اُشْتُرِيَ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا بِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَبِالْعَكْسِ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (1) ، إلاَّ مَا بِيعَ بِصِفَةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ بِكَيْلٍ وَنَحْوِهِ (2) .
الأَْثَرُ الثَّالِثُ: وُجُوبُ بَذْل الْعِوَضِ:
64 - مِنَ الآْثَارِ الْهَامَّةِ لِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وُجُوبُ بَذْل الْعِوَضِ الْمُقَابِل مُعَجَّلاً مِنْ قِبَل الْقَابِضِ، حَتَّى تَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْدِ ثَمَرَاتُهُ، وَتَتَحَقَّقَ مَقَاصِدُهُ وَغَايَاتُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَأْخِيرِهِ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُهُ، لِرِضَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع. . " تقدم تخريجه ف13.
(2) كشاف القناع 3 / 230 ط. الحكومة بمكة المكرمة، وشرح منتهى الإرادات 2 / 187 - 189.(32/299)
مُسْتَحِقِّهِ بِالتَّأْجِيل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(أَوَّلاً) فِي الْبَيْعِ:
65 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ إذَا قَبَضَ الْبَدَل الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل عِوَضِهِ لِلطَّرَفِ الثَّانِي دُونَ تَأْخِيرٍ، تَنْفِيذًا لِلْعَقْدِ وَوَفَاءً بِالاِلْتِزَامِ، وَحَتَّى يَتَمَكَّنُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِمَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ، إذِ الْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ يَتَهَيَّأُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِقَبْضِهِ، تَحْقِيقًا لِلْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَأْجِيل الْبَدَل الآْخَرِ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَجِبُ عَلَى قَابِضِ الْبَدَل الْمُعَجَّل تَسْلِيمُ عِوَضِهِ حَتَّى يَحِل أَجَلُهُ، لِرِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالتَّأْجِيل وَتَنَزُّلِهِ عَنْ حَقِّهِ بِالتَّعْجِيل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ف 61 - 64)
66 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَبَيْعُ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُهَا عِلَّةٌ رِبَوِيَّةٌ وَاحِدَةٌ بِبَعْضِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَابِضِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ عِوَضِ مَا قَبَضَهُ، وَلَوْ رَضِيَ مُسْتَحِقُّهُ بِتَأْخِيرِهِ، لِوُجُوبِ التَّقَابُضِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِحَقِّ الشَّرْعِ، إذْ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ(32/299)
بِالتَّرَاضِي رِبَا النَّسَاءِ (1) .
(ثَانِيًا) فِي الإِْجَارَةِ:
67 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ إلَى وُجُوبِ بَذْل الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ إذَا قَبَضَ الْعَاقِدُ بَدَلَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَأْجِيل الْعِوَضِ، فَيُتَّبَعُ الشَّرْطُ وَيُرَاعَى الاِتِّفَاقُ عِنْدَهُ (2) ، وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ مُخْتَلِفَةً بِحَسَبِ نَوْعِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا (إجَارَةُ أَعْيَانٍ أَوْ إجَارَةُ أَعْمَالٍ) ، وَبِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ الْمَنَافِعِ مِنْ كَوْنِهَا أَعْرَاضًا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَآنًا فَآنًا عَلَى حُدُوثِ الأَْزْمَانِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إجَارَةٌ ف 45 وَمَا بَعْدَهَا)
(ثَالِثًا) فِي الصَّدَاقِ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إذَا سَلَّمَ زَوْجَتَهُ مَهْرَهَا الْمُعَجَّل، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا.
أَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا مَهْرَهَا الْمُعَجَّل، فَهَل يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ عَنْ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؟ لَقَدْ فَرَّقَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 215، ورد المحتار 5 / 258 ط. الحلبي، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 554، وروضة الطالبين 3 / 379، والأم 3 / 26 (بولاق) ، وفتح العلي المالك 2 / 110، وكشاف القناع 3 / 217، والمغني 4 / 51 ط. دار المنار، ومنتهى الإرادات 1 / 380.
(2) بدائع الصنائع 4 / 204، والمغني 5 / 406 وما بعدها.(32/300)
الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ حَقِّهَا فِي ذَلِكَ قَبْل الدُّخُول بِهَا، وَبَيْنَ حَقِّهَا فِيهِ بَعْدَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
قُبُلٌ
اُنْظُرْ: فَرْجٌ(32/300)
قِبْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ، يُقَال: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ وَاَلَّتِي يُصَلَّى إلَيْهَا، وَالْحَالَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الإِْنْسَانُ مِنَ الاِسْتِقْبَال، يُقَال: مَا لِكَلاَمِهِ قِبْلَةٌ، ثُمَّ صَارَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْكَعْبَةِ 42 الْمُشَرَّفَةِ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا غَيْرُهَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّطْرُ:
2 - شَطْرُ كُل شَيْءٍ نِصْفُهُ، وَالشَّطْرُ الْقَصْدُ وَالْجِهَةُ، قَال تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) أَيْ قَصْدَهُ وَجِهَتَهُ (3) .
وَالشَّطْرُ أَعَمُّ مِنَ الْقِبْلَةِ.
ب - النَّحْوُ:
3 - النَّحْوُ الْقَصْدُ، تَقُول: نَحَوْتُ نَحْوَ الشَّيْءِ - مِنْ بَابِ قَتَل - إذَا قَصَدْتُهُ (4) .
وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِبْلَةِ.
__________
(1) لسان العرب، ومغني المحتاج 1 / 142.
(2) سورة البقرة / 144.
(3) المصباح المنير.
(4) المصباح المنير.(32/301)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِبْلَةِ:
أَوَّلاً: تَشْرِيعُ التَّوَجُّهِ فِي الصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ:
4 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ بِذَلِكَ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ، رَجَاءَ أَنْ يَنْزِل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاَلَّذِي سَأَل، فَأَنْزَل اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَل وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (1) أَيْ حَوِّل وَجْهَك نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَارْتَابَ الْيَهُودُ، فَأَنْشَئُوا يَقُولُونَ: قَدِ اشْتَاقَ الرَّجُل إلَى بَيْتِ أَبِيهِ، وَمَا لَهُمْ حَتَّى تَرَكُوا قِبْلَتَهُمْ، يُصَلُّونَ مَرَّةً وَجْهًا وَمَرَّةً وَجْهًا آخَرَ؟ وَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِكُمْ، وَقَال الْمُنَافِقُونَ: مَا بَالُهُمْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ زَمَانًا، ثُمَّ تَرَكُوهَا، وَتَوَجَّهُوا إلَى غَيْرِهَا، وَقَال الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ: تَحَيَّرَ عَلَى مُحَمَّدٍ دِينُهُ فَتَوَجَّهَ بِقِبْلَتِهِ إلَيْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّكُمْ أَهْدَى مِنْهُ، وَيُوشِكُ أَنْ يَدْخُل فِي دِينِكُمْ، فَأَنْزَل اللَّهُ الآْيَاتِ: {سَيَقُول السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 144.(32/301)
عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (1) وَالآْيَاتِ بَعْدَهَا (2) } .
ثَانِيًا: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلاَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (3)
وَالاِسْتِقْبَال لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَل الْكَعْبَةِ وَقَال: هَذِهِ الْقِبْلَةُ (4) ، مَعَ حَدِيثِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (5) فَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا بِدُونِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَاحْتُرِزَ بِالْقَادِرِ عَنِ الْعَاجِزِ كَمَرِيضٍ عَجَزَ عَمَّنْ يُوَجِّهُهُ وَمَرْبُوطٍ عَلَى خَشَبَةٍ، وَغَرِيقٍ عَلَى لَوْحٍ يَخَافُ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ الْغَرَقَ، وَمَنْ خَافَ مِنْ نُزُولِهِ عَنْ دَابَّتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ
__________
(1) سورة البقرة / 142 - 150.
(2) الدر المنثور في التفسير المأثور 1 / 359، تفسير الخازن 1 / 93، وتفسير البيضاوي 1 / 97.
(3) سورة البقرة / 144.
(4) حديث: " ركع ركعتين قبل الكعبة وقال: هذه القبلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 501) ومسلم (2 / 968) من حديث ابن عباس.
(5) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111 ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.(32/302)
انْقِطَاعًا عَنِ الرُّفْقَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَعِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إلَى الْقِبْلَةِ، لاِلْتِحَامِ الْجَيْشِ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ رَاجِلاً وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (اسْتِقْبَالٌ ف 9) (وَصَلاَةُ الْخَوْفِ ف 9) .
وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا مِنْ وُجُوبِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ: صَلاَةُ الْمُتَطَوِّعِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (اسْتِقْبَالٌ ف 9) .
ثَالِثًا: مَا يُجْزِئُ فِي الاِسْتِقْبَال:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِجْتِهَادُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ غَابَ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهَا لِبُعْدِهَا عَنْهُ، هَل فَرْضُهُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَوِ الْجِهَةُ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْعَيْنُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ الْجِهَةُ (1) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 223، ونهاية المحتاج 1 / 408، والشرح الكبير مع المغني 1 / 489.(32/302)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَالٌ ف 12 - 19) .
قُبْلَةٌ
اُنْظُرْ: تَقْبِيلٌ(32/303)
قَبُولٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبُول فِي اللُّغَةِ مِنْ قَبِل الشَّيْءَ قَبُولاً وَقُبُولاً: أَخَذَهُ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ، يُقَال: قَبِل الْهَدِيَّةَ وَنَحْوَهَا.
وَقَبِلْتُ الْخَبَرَ: صَدَّقْتُهُ، وَقَبِلْتُ الشَّيْءَ قَبُولاً: إذَا رَضِيتُهُ، وَقَبِل الْعَمَل: رَضِيَهُ.
وَالْقَبُول: الرِّضَا بِالشَّيْءِ وَمَيْل النَّفْسِ إلَيْهِ، وَقَبِل اللَّهُ الدُّعَاءَ: اسْتَجَابَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَجْعَلُهُ الْفُقَهَاءُ عَلاَمَةً عَلَى الرِّضَا بِالشَّيْءِ فِي الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى تَصْدِيقِ الْكَلاَمِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَبِمَعْنَى الأَْخْذِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي، وَكَمَا فِي قَبْضِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط مادة (قبل) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 6، 7، 11، 376، 508، 509، والحطاب 6 / 151، وحاشية الجمل 3 / 8، وجواهر الإكليل 2 / 2، والمغني 3 / 561.(32/303)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْيجَابُ:
2 - الإِْيجَابُ لُغَةً: الإِْلْزَامُ، يُقَال: أَوْجَبَ الأَْمْرَ عَلَى النَّاسِ إيجَابًا: أَيْ أَلْزَمَهُمْ إلْزَامًا، وَيُقَال: وَجَبَ الْبَيْعُ، أَيْ: لَزِمَ وَثَبَتَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ اصْطِلاَحًا: اللَّفْظُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُوجِبُ بِهِ أَمْرًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ شَطْرَ الصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ، وَيَكُونُ الْقَبُول هُوَ الشَّطْرُ الآْخَرُ الْمُتَمِّمُ لِلصِّيغَةِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا يُذْكَرُ أَوَّلاً مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْقَبُول مَا يُذْكَرُ ثَانِيًا مِنَ الآْخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ: بِعْتُ أَوِ اشْتَرَيْتُ (1) .
مَا يَكُونُ بِهِ الْقَبُول:
3 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ بِاللَّفْظِ كَقَوْل الْمُشْتَرِي - بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ - قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي (2) .
وَقَدْ يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ قَبُولاً دَلاَلَةً، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْقَبُول مِنَ الْمُودَعِ صَرِيحًا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 4 / 6، 7، 11.
(2) الدسوقي 3 / 3، وشرح منتهى الإرادات 3 / 140 - 141، وابن عابدين 4 / 502، والمنثور 2 / 405.(32/304)
كَقَبِلْتُ، أَوْ دَلاَلَةً كَمَا لَوْ سَكَتَ عِنْدَ وَضْعِهِ، فَإِنَّهُ قَبُولٌ دَلاَلَةً (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول بِالإِْشَارَةِ، فَإِنَّ إشَارَةَ الأَْخْرَسِ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، فَالْكِتَابَةُ بِالْقَبُول يَنْعَقِدُ بِهَا التَّصَرُّفُ لأَِنَّهَا قَبُولٌ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَنْ تَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ عَصَى، وَلِلإِْمَامِ إجْبَارُهُ عَلَى الْقَبُول (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول مُسْتَحَبًّا، كَقَبُول الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ (5) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دُعِيتُ إلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأََجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ (6) ، وَقَبِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَهَادَاهُ أَيْضًا (7)
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول حَرَامًا، كَقَبُول الرِّشْوَةِ، وَخَاصَّةً مَا يُبْذَل لِلْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 494، والاختيار 3 / 92.
(2) مغني المحتاج 2 / 7، والمغني 3 / 566، والدسوقي 3 / 3.
(3) البدائع 5 / 138، والدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 5.
(4) مغني المحتاج 4 / 373، وجواهر الإكليل 2 / 221.
(5) الاختيار 3 / 48، ومغني المحتاج 2 / 396.
(6) حديث: " لو دعيت إلى ذراع. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 199) من حديث أبي هريرة.
(7) حديث: " قبول هدية النجاشي ". أخرجه البيهقي (1 / 282) ، وضعفه ابن التركماني في الجوهر النقي.(32/304)
الْحَقِّ (1) لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول مُبَاحًا، كَالْقَبُول فِي الْعُقُودِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي الْوَدِيعَةِ مَا يَجْعَل قَبُولَهَا وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا وَمِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ (3) .
تَقَدُّمُ الْقَبُول عَلَى الإِْيجَابِ:
5 - الْقَبُول عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِمَّنْ يَتَمَلَّكُ الْمَبِيعَ أَوِ الْقَرْضَ، أَوْ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، أَوْ مِمَّنْ يَلْتَزِمُ بِعَمَلٍ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُودَعِ، أَوْ مِمَّنْ يَمْلِكُ الاِسْتِمْتَاعَ بِالْبُضْعِ كَالزَّوْجِ، وَسَوَاءٌ صَدَرَ الْقَبُول أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالإِْيجَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَوَلِيِّ الزَّوْجَةِ وَهَكَذَا، وَسَوَاءٌ صَدَرَ الإِْيجَابُ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُول عَلَى الإِْيجَابِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِتَحْدِيدِ الْقَابِل وَالْمُوجِبِ.
إلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُخَالِفُونَ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ
__________
(1) المغني 9 / 87، ومغني المحتاج 4 / 392.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ". أخرجه الترمذي (3 / 614) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) منح الجليل 3 / 452 - 453، وابن عابدين 4 / 494.(32/305)
فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَقَدُّمُ الإِْيجَابِ عَلَى الْقَبُول فِيهِ قَالُوا: لأَِنَّ الْقَبُول إنَّمَا يَكُونُ لِلإِْيجَابِ، فَمَتَى وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولاً لِعَدَمِ مَعْنَاهُ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ لَفْظٌ، بَل يَصِحُّ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ مِمَّا يُؤَدِّي الْمَعْنَى (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْقَبُول عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَذْكُرُهُ الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعَقْدِ دَالًّا عَلَى رِضَاهُ بِمَا أَوْجَبَهُ الطَّرَفُ الأَْوَّل. فَهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْكَلاَمَ الَّذِي يَصْدُرُ أَوَّلاً إيجَابًا وَالْكَلاَمَ الَّذِي يَصْدُرُ ثَانِيًا قَبُولاً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَابِل بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا، مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُؤَجِّرًا، الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ أَوْ وَلِيَّهَا، يَقُول الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الإِْيجَابُ: هُوَ إثْبَاتُ الْفِعْل الدَّال عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلاً سَوَاءٌ وَقَعَ مِنَ الْبَائِعِ كَبِعْتُ، أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُول: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ، وَالْقَبُول: الْفِعْل الثَّانِي، وَإِلاَّ فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ أَيْ إثْبَاتٌ، فَسُمِّيَ الإِْثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُول تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الإِْثْبَاتِ الأَْوَّل، وَلأَِنَّهُ يَقَعُ قَبُولاً وَرِضًا بِفِعْل الأَْوَّل (2) .
__________
(1) الحطاب 4 / 229 وجواهر الإكليل 2 / 2، ومنح الجليل 2 / 11، ومغني المحتاج 3 / 140، ونهاية المحتاج 3 / 366 - 367، 6 / 207، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، 3 / 12، والمغني 6 / 534 - 535.
(2) ابن عابدين 4 / 7، وفتح القدير 5 / 456، نشر دار إحياء التراث.(32/305)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبُول مِنْ أَحْكَامٍ:
6 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
7 - الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى الصَّفْحِ وَالسَّتْرِ وَالْغُفْرَانِ، وَذَلِكَ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} . (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَةٌ ف 12) .
الثَّانِي: يَكُونُ الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَعْنَى الإِْثَابَةِ عَلَى الْعَمَل، لَكِنْ هَل هُنَاكَ تَلاَزُمٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْعَمَل وَإِجْزَائِهِ وَبَيْنَ قَبُولِهِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمْ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَهُمَا؟ .
يَقُول الْقَرَافِيُّ: هُنَا قَاعِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْل الصَّحِيحِ، فَالْمُجْزِئُ مِنَ الأَْفْعَال وَهُوَ الصَّحِيحُ: مَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهُ وَأَرْكَانُهُ، وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، فَهَذَا يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ
__________
(1) سورة الشورى / 25 وانظر مختصر تفسير ابن كثير 3 / 277.(32/306)
مُطِيعًا بَرِيءَ الذِّمَّةِ، فَهَذَا أَمْرٌ لاَزِمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الثَّوَابُ عَلَيْهِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْل وَلاَ يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُول.
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنِ ابْنَيْ آدَمَ {إنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) لَمَّا قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّل مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّل مِنَ الآْخَرِ، مَعَ أَنَّ قُرْبَانَهُ كَانَ عَلَى وَفْقِ الأَْمْرِ، وَيَدُل عَلَيْهِ أَنَّ أَخَاهُ عَلَّل عَدَمَ الْقَبُول بِعَدَمِ التَّقْوَى، وَلَوْ أَنَّ الْفِعْل مُخْتَلٌّ فِي نَفْسِهِ لَقَال لَهُ إنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّهُ الْعَمَل الصَّحِيحَ الصَّالِحَ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لِعَدَمِ الْقَبُول، فَحَيْثُ عَدَل عَنْهُ دَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِعْل كَانَ صَحِيحًا مُجْزِئًا، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْقَبُول لأَِجْل انْتِفَاءِ التَّقْوَى، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَل الْمُجْزِئَ قَدْ لاَ يُقْبَل وَإِنْ بَرِئَتِ الذِّمَّةُ بِهِ وَصَحَّ فِي نَفْسِهِ.
وَثَانِيهَا: قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) فَسُؤَالُهُمَا الْقَبُول فِي فِعْلِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا
__________
(1) سورة المائدة / 27.
(2) سورة البقرة / 127.(32/306)
وَسَلاَمُهُ لاَ يَفْعَلاَنِ إلاَّ فِعْلاً صَحِيحًا يَدُل عَلَى أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ لاَزِمٍ لِلْفِعْل الصَّحِيحِ وَلِذَلِكَ دَعَوْا بِهِ لأَِنْفُسِهِمَا.
وَثَالِثُهَا: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِْسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِل فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِْسْلاَمِ أُوخِذَ بِالأَْوَّل وَالآْخِرِ (1) فَاشْتَرَطَ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ أَنْ يُحْسِنَ فِي الإِْسْلاَمِ وَالإِْحْسَانُ فِي الإِْسْلاَمِ هُوَ التَّقْوَى.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الأُْضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا: اللَّهُمَّ تَقَبَّل مِنْ مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ (2) ، فَسَأَل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبُول مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ كَانَ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَبُول وَرَاءَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالإِْجْزَاءِ، وَإِلاَّ لَمَا سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ سُؤَال تَحْصِيل الْحَاصِل لاَ يَجُوزُ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ صُلَحَاءَ الأُْمَّةِ وَخِيَارَهَا لاَ يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُول فِي الْعَمَل، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلصِّحَّةِ وَالإِْجْزَاءِ لَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ إنَّمَا يَحْسُنُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، فَيُسْأَل اللَّهُ تَعَالَى تَيْسِيرَ الأَْرْكَانِ
__________
(1) حديث: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 265) ومسلم (1 / 11) من حديث ابن مسعود.
(2) حديث: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد ". أخرجه مسلم (3 / 1557) من حديث عائشة.(32/307)
وَالشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ، أَمَّا بَعْدَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِهَا فَلاَ يَحْسُنُ ذَلِكَ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ الثَّوَابُ.
وَسَاقَ الْقَرَافِيُّ أَدِلَّةً أُخْرَى غَيْرَ مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَال: إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْفَرْقُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْفَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي الْقَبُول بَعْدَ الإِْجْزَاءِ، وَالتَّقْوَى هَاهُنَا لَيْسَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مُجَرَّدُ الاِتِّقَاءِ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَلَكِنَّهَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْل الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى الشَّخْصِ (1)
ثَانِيًا: قَبُول الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:
8 - قَبُول الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يَكُونُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول، وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَتَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ الْعُقُودُ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهَا عَلَى الْقَبُول، إذْ هُوَ مُقَابِل الإِْيجَابِ، وَالْعَقْدُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، لأَِنَّهُمَا يُكَوِّنَانِ الصِّيغَةَ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْعَقْدِ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول، وَهِيَ الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 51 - 54.(32/307)
ذَلِكَ: الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِمِثْل ذَلِكَ، مِنْهَا الإِْسْقَاطَاتُ الْمَحْضَةُ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبُولٌ وَيَكْفِي لِتَمَامِهَا الإِْيجَابُ فَقَطْ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِيهِ، كَالإِْبْرَاءِ بِنَاءً عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي أَنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْدٌ) .
9 - وَمِمَّا يَتَّصِل بِالْقَبُول مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْعُقُودِ كَقَبُول شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَقَبُول الدَّعْوَةِ لِلْوَلاَئِمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
شُرُوطُ الْقَبُول فِي الْعُقُودِ:
لِلْقَبُول فِي الْعُقُودِ شُرُوطٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ:
10 - وَهَذَا شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِل غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ
__________
(1) المنثور 2 / 397 - 398، والبدائع 2 / 299، 4 / 174، و5 / 33، و6 / 20، 79، والحطاب 6 / 22، 54، وابن عابدين 4 / 5، ومغني المحتاج 2 / 179، وأشباه السيوطي 303 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 3 / 543.(32/308)
الْعَقْدُ، فَلَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ فَقَال الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ف 20) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ:
11 - هَذَا الشَّرْطُ يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِ (اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ) وَالْمُرَادُ بِهَذَا: أَلاَ يَتَفَرَّقَ الْعَاقِدَانِ قَبْل الْقَبُول، وَأَلاَّ يَشْتَغِل الْقَابِل أَوِ الْمُوجِبُ بِعَمَلٍ غَيْرِ مَا عُقِدَ لَهُ الْمَجْلِسُ، لأَِنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا، أَوْ تَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ عُرْفًا فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ ذَلِكَ إعْرَاضٌ عَنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَلاَ يَضُرُّ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كُل مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول مِنَ الْعُقُودِ فَعَلَى الْفَوْرِ أَيْ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ الإِْيجَابِ، وَلاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمُ الْفَصْل الْيَسِيرُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، والحطاب 4 / 230، وحاشية الجمل 3 / 14، وكشاف القناع 3 / 146 - 148، ومغني المحتاج 2 / 6.
(2) البدائع 5 / 137، والهداية 3 / 21، وابن عابدين 4 / 19 - 20، 2 / 266، والدسوقي 3 / 5، والحطاب 4 / 240، والجمل 3 / 12، ومغني المحتاج 2 / 6، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.(32/308)
ج - عَدَمُ لُزُومِ الْقَبُول:
12 - إذَا صَدَرَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالْعَاقِدُ الآْخَرُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ قَبِل فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِ (خِيَارِ الْقَبُول) قَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارُ الْقَبُول يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَيَمْتَدُّ خِيَارُ الْقَبُول إلَى انْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ، فَمَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا فَلَهُ أَنْ يَقْبَل أَوْ يَدَعَ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُوجِبُ عَنْ إيجَابِهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ.
وَيُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، لأَِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَهُمْ لِمَنْ تَقَدَّمَ كَلاَمُهُ أَوَّلاً وَلَوْ قَبْل رِضَا الآْخَرِ، إلاَّ فِي حَالَةِ مَا إذَا كَانَ كَلاَمُ الْمُتَقَدِّمِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْبَيْعَ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَعْدَ أَوِ الْهَزْل، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 333) ومسلم (3 / 1163) .
(2) البدائع 5 / 134، والهداية 3 / 21، وابن عابدين 4 / 29، والحطاب 4 / 240، والدسوقي 3 / 5، ومغني المحتاج 2 / 43 - 44، والمغني 3 / 563.(32/309)
وَإِذَا صَدَرَ الْقَبُول بَعْدَ الإِْيجَابِ مُوَافِقًا لَهُ أَصْبَحَ التَّصَرُّفُ لاَزِمًا لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إنْ كَانَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ اللاَّزِمَةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ إلاَّ بِانْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ أَوِ الإِْلْزَامِ. (1)
وَيَسْتَدِل ابْنُ قُدَامَةَ بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الْمَجْلِسِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - أَنْ يَكُونَ الْقَابِل أَهْلاً لِلتَّصَرُّفَاتِ:
13 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، وَذَلِكَ شَرْطٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبُول مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، وَإِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا الأَْبُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوِ الْقَاضِي.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 20، والحطاب 4 / 228، وحاشية الجمل 3 / 10، والمغني 3 / 563 وما بعدها.
(2) حديث: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار. . . ". سبق تخريجه ف 12.(32/309)
أَمَّا فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَيَصِحُّ الْقَبُول مِنْهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغِبْطَةِ لَهُمَا، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْقَبُول عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّةٌ ف 21، 27) .
ثَالِثًا: قَبُول الشَّهَادَةِ:
14 - الْمَقْصُودُ بِقَبُول الشَّهَادَةِ: تَصْدِيقُ الْقَاضِي فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ الشَّاهِدُ لِيُرَتِّبَ الْحُكْمَ عَلَى شَهَادَتِهِ، إذْ الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا، لأَِنَّهَا إذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا كَانَتْ مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
وَنَظَرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا لِقَبُول الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّاهِدُ كَكَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلاً عَدْلاً غَيْرَ مُتَّهَمٍ. . . إلَخْ وَمِنْ حَيْثُ الْمَشْهُودُ بِهِ كَكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَمِنْ حَيْثُ عَدَدُ الشُّهُودِ. . . وَهَكَذَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
رَابِعًا: قَبُول الدَّعْوَةِ:
يُقْصَدُ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَمْرَانِ.(32/310)
أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ إلَى الإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالإِْيمَانِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ:
15 - وَقَبُول الدَّعْوَةِ إلَى الإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ إذِ الإِْقْبَال عَلَى مَا دَعَا إلَيْهِ الدَّاعِي وَمُتَابَعَتُهُ فِيمَا دَعَا إلَيْهِ هُوَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَسُوقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ قَبِل الدَّعْوَةَ، فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ. . .، إلَى أَنْ قَال: فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى دَارًا جَعَل فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَل الدَّارَ وَأَكَل مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُل الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُل مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا: الدَّارُ: الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ " (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ ف 17) .
الأَْمْرُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ إلَى الطَّعَامِ:
16 - وَالْقَبُول هُنَا هُوَ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَالذَّهَابُ إلَى الْوَلِيمَةِ الَّتِي دُعِيَ إلَيْهَا.
وَقَبُول الدَّعْوَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ إنْ كَانَتِ الْوَلِيمَةُ وَلِيمَةَ عُرْسٍ.
__________
(1) حديث جابر: " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 249) .(32/310)
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْوَلاَئِمِ كَالْعَقِيقَةِ وَالْعَذِيرَةِ وَالْوَكِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قَبُول الدَّعْوَةِ إلَيْهَا، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ ف 32) .(32/311)
قَبِيلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبِيلَةُ فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ تَنْتَسِبُ إلَى أَبٍ أَوْ جَدٍّ وَاحِدٍ، وَقِيل: الْقَبِيلَةُ الْبَطْنُ، وَالْقَبِيل: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْ قَوْمٍ شَتَّى.
وَالْقَبِيلَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ: الصِّنْفُ، جَمْعُ قَبَائِل وَقَبِيلٍ، وَقَبَائِل الشَّجَرَةِ أَغْصَانُهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقَبِيلَةُ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(أ) الشَّعْبُ:
2 - الشَّعْبُ بِفَتْحِ الشَّيْنِ: الْقَبِيلَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقِيل: الْحَيُّ الْعَظِيمُ يَتَشَعَّبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَقِيل هُوَ الْقَبِيلَةُ نَفْسُهَا، وَجَمْعُهُ شُعُوبٌ.
وَالشَّعْبُ أَبُو الْقَبَائِل الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) الحطاب 6 / 266 وما بعدها.(32/311)
أَيْ يَجْمَعُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ، وَقِيل: الشُّعُوبُ الْجُمَّاعُ، وَالْقَبَائِل الْبُطُونُ، وَالشَّعْبُ مَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِل الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكُل جِيلٍ شَعْبٌ، وَالشَّعْبُ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَهُوَ مَا انْقَسَمَتْ فِيهِ الْقَبَائِل، وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْقَبِيلَةِ (1) .
(ب) الْعَشِيرَةُ:
3 - الْعَشِيرَةُ فِي أَصْل اللُّغَةِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، وَلاَ وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْجَمْعُ عَشَائِرُ وَعَشِيرَاتٌ، وَعَشِيرَةُ الرَّجُل بَنُو أَبِيهِ الأَْقْرَبُونَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَهْل الرَّجُل الَّذِينَ يَتَكَثَّرُ بِهِمْ أَيْ يَصِيرُونَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ الْكَامِل، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ هُوَ الْعَدَدُ الْكَامِل، فَصَارَتِ اسْمًا لِكُل جَمَاعَةٍ مِنْ أَقَارِبِ الرَّجُل الَّذِينَ يَتَكَثَّرُ بِهِمْ. (2)
وَالْعَشِيرَةُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبِيلَةِ.
(ح) الْقَوْمُ
4 - الْقَوْمُ فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةُ الرِّجَال لَيْسَ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} (3) الْوَاحِدُ مِنْهُ رَجُلٌ وَامْرُؤٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَالْجَمْعُ أَقْوَامٌ، سُمُّوا
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(3) سورة الحجرات / 11.(32/312)
بِذَلِكَ لِقِيَامِهِمْ بِالْعَظَائِمِ وَالْمُهِمَّاتِ، وَلَفْظُ الْقَوْمِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَال: قَامَ الْقَوْمُ، وَقَامَتِ الْقَوْمُ، وَكَذَلِكَ كُل اسْمِ جَمْعٍ لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، نَحْوُ رَهْطٍ وَنَفَرٍ.
وَقَوْمُ الرَّجُل أَقْرِبَاؤُهُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ فِي جَدٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُقِيمُ الرَّجُل بَيْنَ الأَْجَانِبِ فَيُسَمِّيهِمْ قَوْمَهُ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ.
قَال الْعُلَمَاءُ: الْقَوْمُ فِي الأَْصْل جَمَاعَةُ الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ إلاَّ أَنَّهُ فِي عَامَّةِ الْقُرْآنِ أُرِيدَ بِهِ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا (1) .
وَالْقَوْمُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبِيلَةِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبِيلَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّسَبِ إلَى الْقَبِيلَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى اعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الرَّجُل لَيْسَ كُفْئًا لاِمْرَأَةٍ تُنْسَبُ إلَى قَبِيلَةٍ أَشْرَفَ مِنْ قَبِيلَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ أَوِ النَّسَبِ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فَقَطْ هُوَ الدِّينُ، (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) الرزقاني 3 / 202، جواهر الإكليل 1 / 288، تفسير القرطبي 16 / 346 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1713 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 2 / 318 وما بعدها، مغني المحتاج 3 / 165 - 166، المغني لابن قدامة 6 / 480 وما بعدها.(32/312)
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ، وَكَفَاءَةٌ) .
(ب) التَّعَصُّبُ لِلْقَبِيلَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّعَصُّبِ لِلْقَبِيلَةِ وَأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ وَالاِنْحِيَازِ إلَى الْقَرَابَةِ، وَالْمُحَابَاةِ بِسَبَبِهَا، وَالاِقْتِتَال مِنْ أَجْلِهَا أَوْ تَحْتَ لِوَائِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَقِّ.
وَقَدْ جَاءَ الإِْسْلاَمُ لِيُزِيل آثَارَ الْقَبَلِيَّةِ السَّيِّئَةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَمَنَعَ التَّقَاطُعَ، وَالتَّدَابُرَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} ، (2) وَقَال تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لَتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . (3)
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَنِي بَيَاضَةَ أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا هِنْدٍ امْرَأَةً مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ: نُزَوِّجُ بَنَاتَنَا مَوَالِيَنَا؟ فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل
__________
(1) سورة الحجرات / 13.
(2) سورة آل عمران / 103.
(3) سورة الحجرات / 13.(32/313)
هَذِهِ الآْيَةَ. (1) وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَقَى بِلاَلٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَذَّنَ فَقَال بَعْضُ النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَهَذَا الْعَبْدُ الأَْسْوَدُ يُؤَذِّنُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: إنْ يَسْخَطِ اللَّهُ هَذَا يُغَيِّرْهُ فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: زَجَرَهُمْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالأَْنْسَابِ، وَالتَّكَاثُرِ بِالأَْمْوَال، وَالاِزْدِرَاءِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّقْوَى (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَل الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، إنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ. (4)
__________
(1) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند. . . ". أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 195) من حديث الزهري مرسلاً.
(2) حديث ابن أبي مليكة: " لما كان يوم الفتح رقى بلال. . . ". أخرجه الواحدي في أسباب النزول (ص 418) من حديث ابن أبي مليكة مرسلاً.
(3) تفسير القرطبي 16 / 340 وما بعدها، 4 / 155، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1713.
(4) حديث: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 734) وقال: حديث حسن غريب.(32/313)
وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسْطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْل لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَِحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ لأَِسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلاَّ بِالتَّقْوَى. أَبَلَّغْتُ؟ (1) الْحَدِيثَ.
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِ لِلْعَصَبِيَّةِ الْقَبَلِيَّةِ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ (2)
__________
(1) حديث أبي نضرة " عمن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أحمد (5 / 411) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 266) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(2) حديث: " دعوها فإنها منتنة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 652) ومسلم (4 / 1999) من حديث جابر بن عبد الله.(32/314)
قِتَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِتَال مَصْدَرُ قَاتَل، وَمَصْدَرُ الثُّلاَثِيِّ مِنْهُ قَتْلٌ، وَأَصْل الْقَتْل: الإِْمَاتَةُ، وَهِيَ إزَالَةُ الرُّوحِ عَنِ الْجَسَدِ، لَكِنْ إذَا اُعْتُبِرَ بِفِعْل الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ يُقَال: قَتْلٌ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ بِفَوْتِ الْحَيَاةِ يُقَال: مَوْتٌ.
وَالْقِتَال مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْمُقَاتِلَةُ - بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا - الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقِتَال، لأَِنَّ الْفِعْل وَاقِعٌ مِنْ كُل وَاحِدٍ.
وَقَاتَلَهُ اللَّهُ: لَعَنَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَّفْظِ " قِتَالٌ " عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِرَابَةُ:
2 - الْحِرَابَةُ لُغَةً: مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) المهذب 2 / 218 - 219، وفتح القدير 4 / 411، وجواهر الإكليل 1 / 207.(32/314)
السِّلْمِ، يُقَال: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - وَهُوَ السَّلْبُ (1) .
وَالْحِرَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ الْبُرُوزُ لِلنَّاسِ لأَِخْذِ الْمَال أَوْ لِلْقَتْل أَوْ لِلإِْرْعَابِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ (2) .
وَبَيْنَ الْقِتَال وَالْحِرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
ب - الْجِهَادُ:
3 - الْجِهَادُ لُغَةً: قِتَال الْعَدُوِّ، يُقَال: جَاهَدَ الْعَدُوَّ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا إذَا قَاتَلَهُ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: قِتَال الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ غَيْرَ الْمُعَاهِدِينَ إعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إلَى الإِْسْلاَمِ وَإِبَائِهِمْ (4) .
وَبَيْنَ الْقِتَال وَالْجِهَادِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْقِتَال قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَذَلِكَ كَقِتَال الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . (5) وَكَقِتَال الْبُغَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} . (6)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المغني 8 / 278، ومغني المحتاج 4 / 180.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(4) فتح القدير 4 / 277، وجواهر الإكليل 1 / 250.
(5) سورة البقرة / 216.
(6) سورة الحجرات / 9.(32/315)
وَقَدْ يَكُونُ الْقِتَال حَرَامًا، كَالْقِتَال الَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَنِ الإِْمَامِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْقِتَال لِدَفْعِ الصَّائِل عَنِ النَّفْسِ أَوِ الْبُضْعِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ إذَا قَصَدَهُ وَحْدَهُ. قَال فِي مِنَحِ الْجَلِيل: إذَا قَصْدَهُ وَحْدَهُ فَالأَْمْرَانِ - أَيِ الدَّفْعُ وَعَدَمُهُ - سَوَاءٌ، وَالسَّاكِتُ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقْتَل لاَ يُعَدُّ آثِمًا وَلاَ قَاتِلاً لِنَفْسِهِ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَال مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - قِتَال الْكُفَّارِ:
5 - قِتَال الْكُفَّارِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، (4) لَكِنَّ الْقِتَال يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إلَى الإِْسْلاَمِ بِاللِّسَانِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيل وَإِبَائِهِمْ، قَال الْكَاسَانِيُّ: إنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إلَى الإِْسْلاَمِ لَمْ تَبْلُغِ الْكُفَّارَ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الدَّعْوَةُ إلَى الإِْسْلاَمِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيل رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ
__________
(1) المهذب 2 / 219، 228، والبدائع 7 / 100، والمغني 8 / 107 - 108.
(2) منح الجليل 4 / 562، والفروق للقرافي 4 / 184.
(3) سورة البقرة / 216.
(4) سورة التوبة / 5.(32/315)
أَحْسَنُ} ، (1) وَلاَ يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَال قَبْل الدَّعْوَةِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال، وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الأُْولَى، لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةً بِالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اُحْتُمِل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا. هَذَا إذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لأَِنَّ الْحُجَّةَ لاَزِمَةٌ، وَالْعُذْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةَ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال إلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الإِْجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَاتَل قَوْمًا حَتَّى يَدْعُوَهُمْ (2) ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا، (3) فَإِنْ أَبَوُا الإِْجَابَةَ إلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ إلاَّ
__________
(1) سورة النحل / 125.
(2) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قاتل قومًا حتى يدعوهم ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 304) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". أخرجه مسلم (1 / 53) من حديث جابر بن عبد الله.(32/316)
مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَال: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيل اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَل لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ(32/316)
وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ (1) .
ب - قِتَال الْبُغَاةِ:
6 - الْبُغَاةُ هُمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الإِْمَامِ يَبْغُونَ خَلْعَهُ أَوْ مَنْعَ الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، أَوْ مَنْعَ حَقٍّ وَاجِبٍ بِتَأْوِيلٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِهِمْ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ وَوَجَبَتْ مَعُونَتُهُ، وَمُحَرَّمٌ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَيَدْخُل الْخَارِجُ فِي عُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ
__________
(1) حديث بريدة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1357 - 1358) ، وانظر البدائع 7 / 100.
(2) الفروق 4 / 171.
(3) سورة الحجرات / 9.(32/317)
كَانَ، (1) فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بَاغِيًا وَجَبَ قِتَالُهُ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ قِتَال الْبُغَاةِ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمُ الإِْمَامُ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ، وَيُزِيل مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الْمَظَالِمِ، فَإِنْ لَجُّوا قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الأَْمْرَ بِالإِْصْلاَحِ قَبْل الْقِتَال.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَاسَل أَهْل الْبَصْرَةِ قَبْل وَقْعَةِ الْجَمَل، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لاَ يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَال، وَكَذَلِكَ بَعَثَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى الْحَرُورِيَّةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (2) .
فَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْبَدْءِ بِقِتَالِهِمْ، هَل يَجُوزُ الْبَدْءُ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمُ الاِنْتِظَارِ، أَمْ لاَ يَبْدَؤُهُمْ الإِْمَامُ بِالْقِتَال حَتَّى يَبْدَءُوهُ، لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ ف 11) .
ح - قِتَال الْمُرْتَدِّينَ:
7 - إذَا ارْتَدَّ أَهْل بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ
__________
(1) حديث: " من خرج على أمتي وهم جميع. . . ". أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2 / 526) من حديث أسامة ابن شريك، وله شاهد من حديث عرفجة عند مسلم (3 / 1479) .
(2) المغني 8 / 107 - 108.(32/317)
ذَرَارِيِّهِمُ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَعَلَى الإِْمَامِ قِتَالُهُمْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَل أَهْل الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَال الْكُفَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَهَؤُلاَءِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِالْقِتَال، لأَِنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالاِرْتِدَادِ مَعَهُمْ، فَيَكْثُرَ الضَّرَرُ، وَإِذَا قَاتَلَهُمْ قَتَل مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَتَّبِعُ مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ ارْتَدَّ أَهْل مَدِينَةٍ اُسْتُتِيبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُوتِلُوا، وَلاَ يُسْبَوْنَ وَلاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَمُصْطَلَحِ (سَبْيٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) ، مُصْطَلَحِ (اسْتِرْقَاقٌ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - الْقِتَال دِفَاعًا عَنِ الْعِرْضِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال:
8 - إذَا تَعَرَّضَ شَخْصٌ لإِِنْسَانٍ يُرِيدُ الاِعْتِدَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ رَدُّهُ بِأَسْهَل طَرِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ فَعَل ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ إلاَّ بِالْقِتَال قَاتَلَهُ، فَإِنْ قُتِل الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَإِنْ قُتِل الْمُعْتَدِي فَلاَ(32/318)
قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. (1)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ، فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَال: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَال: قَاتِلْهُ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَال: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَال: هُوَ فِي النَّارِ. (2)
إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُفَرِّقُونَ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ وَالْقِتَال بَيْنَ مُحَاوِلَةِ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَال، فَبِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْعِرْضِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْعِرْضِ بِكُل مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِهِ وَلَوْ بِالْقِتَال، لأَِنَّ الْعِرْضَ لاَ يَجُوزُ إبَاحَتُهُ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ أَرَادَهَا رَجُلٌ عَنْ
__________
(1) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول اله: " أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 124) .(32/318)
نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ لِتَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى النَّفْسِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ إلاَّ بِالْقِتَال فَإِنَّهُ يُقَاتِلُهُ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ، وَيَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ إذَا لَمْ يَكُنِ الْمُعْتَدِي مُهْدَرَ الدَّمِ، فَإِنْ كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ كَالْكَافِرِ وَجَبَ قِتَالُهُ، وَمَا سَبَقَ مِنَ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْفِتْنَةِ، أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ فَلاَ يَجِبُ الْقِتَال، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْمَال فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنِ الْمَال بِالْقِتَال إذَا لَمْ يُمْكِنْ سِوَى ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ فِي اللُّصُوصِ يُرِيدُونَ نَفْسَكَ وَمَالَكَ: قَاتِلْهُمْ تَمْنَعْ نَفْسَكَ وَمَالَكَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَال، لأَِنَّ الْمَال يَجُوزُ بَذْلُهُ وَإِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صِيَالٌ ف 5، 12) .
__________
(1) الهداية 4 / 164 - 165، وابن عابدين 5 / 351، ومنح الجليل 4 / 562، وجواهر الإكليل 2 / 297، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 185 - 186، 272 - 274، ومغني المحتاج 4 / 194، والمهذب 2 / 225 - 226، ومنتهى الإرادات 3 / 378، والمغني 8 / 330 - 332.(32/319)
هـ - قِتَال مَانِعِ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ عَنِ الْمُضْطَرِّ:
9 - مَنِ اُضْطُرَّ إلَى الطَّعَامِ فَلَمْ يَجِدْ إلاَّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بَذْلُهُ، لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِهِ إعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (1) فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ وَلَوْ بِالثَّمَنِ فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ، وَإِنِ احْتَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى قِتَالٍ قَاتَلَهُ، فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ قُتِل صَاحِبُ الطَّعَامِ فَهُوَ هَدَرٌ لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُضْطَرِّ قِتَال الْمُمْتَنِعِ مِنْ بَذْل الطَّعَامِ لَكِنْ بِدُونِ سِلاَحٍ (2) .
وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْل مَاءٍ مَمْلُوكٍ لَهُ مُحْرَزٍ فِي الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا وَاحْتَاجَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لِشُرْبِهِ أَوْ شُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بَذْلُهُ لَهُ،
__________
(1) حديث: " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 83) .
(2) ابن عابدين 5 / 215، والبدائع 6 / 188، والتبصرة بهامش فتح العلل المالك 2 / 193، والمهذب 1 / 257، ومغني المحتاج 4 / 308، والمغني 8 / 602.(32/319)
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُمْنَعُ فَضْل الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَُ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يُقَاتِل الْمُمْتَنِعَ عَنْ بَذْل فَضْل الْمَاءِ لِيَأْخُذَهُ، لَكِنْ خَصَّ الْحَنَفِيَّةُ الْقِتَال هُنَا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ سِلاَحٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ وَاضْطُرَّ نَاسٌ إلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُقَال لِصَاحِبِ الْمَاءِ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ لِهَؤُلاَءِ النَّاسِ بِالدُّخُول، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُول، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ عَنْهُمْ وَعَنْ دَوَابِّهِمْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ، إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلام ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 31) ومسلم (3 / 1198) من حديث أبي هريرة.
(2) البدائع 6 / 188، ومنح الجليل 4 / 26 - 28، ومغني المحتاج 2 / 375، والمهذب 1 / 435، ومنتهى الإرادات 2 / 461.
(3) البدائع 6 / 189، وابن عابدين 5 / 283، والهداية 4 / 104.(32/320)
و - قِتَال الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ أَدَاءِ الشَّعَائِرِ:
10 - يُعْتَبَرُ الأَْذَانُ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَخَصَائِصِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ قَاتَلَهُمُ الإِْمَامُ، لأَِنَّ الاِجْتِمَاعَ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يُحْبَسُونَ وَيُضْرَبُونَ وَلاَ يُقَاتَلُونَ بِالسِّلاَحِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ ف 5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 209، ومنح الجليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 / 134.(32/320)
قَتْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل فِي اللُّغَةِ: فِعْلٌ يَحْصُل بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ (1) يُقَال: قَتَلَهُ قَتْلاً: أَزْهَقَ رُوحَهُ، وَالرَّجُل قَتِيلٌ وَالْمَرْأَةُ قَتِيلٌ إذَا كَانَ وَصْفًا، فَإِذَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ جُعِل اسْمًا وَدَخَلَتِ الْهَاءُ نَحْوُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلاَنٍ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ يُقَال: قَتَلَهُ بِضَرْبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ سُمٍّ: أَمَاتَهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبَابَرْتِيُّ: إنَّ الْقَتْل فِعْلٌ مِنَ الْعِبَادِ تَزُول بِهِ الْحَيَاةُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَرْحُ:
2 - الْجَرْحُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَرَحَ يَجْرَحُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) لسان العرب.
(3) العناية على الهداية ونتائج الأفكار 8 / 244 ط. دار صادر للطباعة.(32/321)
جَرْحًا: أَثَرٌ بِالسِّلاَحِ وَنَحْوِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْجَرْحُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْل.
ب - الضَّرْبُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الضَّرْبِ: الإِْصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوِ السَّيْفِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَالضَّرْبُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَجْرِي عَلَى قَتْل الآْدَمِيِّ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَيَكُونُ الْقَتْل حَرَامًا كَقَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا.
وَيَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْل الْمُرْتَدِّ إذَا لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا كَقَتْل الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا كَقَتْل الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.(32/321)
وَيَكُونُ مُبَاحًا: كَقَتْل الإِْمَامِ الأَْسِيرَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ. (1)
قَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ:
5 - قَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ، لأَِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى صُنْعِ اللَّهِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . (3)
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيل: وَمَا هُنَّ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 3، ونهاية المحتاج 7 / 245، وحاشية القليوبي 4 / 95.
(2) سورة الإسراء / 33.
(3) سورة النساء / 93.
(4) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ومسلم (1 / 92) من حديث أبي هريرة.(32/322)
الْقَتْل الْمَشْرُوعُ:
6 - الْقَتْل الْمَشْرُوعُ هُوَ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ الْقَتْل بِحَقٍّ، كَقَتْل الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْل قِصَاصًا، وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا، كَالْبَاغِي، وَهَذَا الإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ لِلإِْمَامِ لاَ لِلأَْفْرَادِ، لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ، لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ عَنِ الاِنْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَيُحْفَظَ الدِّينُ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، الْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ، (1) وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (رِدَّةٌ ف 4، وَأَهْل الْحَرْبِ ف 11، وَقِصَاصٌ، وَحِرَابَةٌ ف 16 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَقْسَامُ الْقَتْل:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَتْل النَّفْسِ
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 201) ومسلم (3 / 1302 - 1303) من حديث ابن مسعود واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " من شهر سيفه. . . ". أخرجه النسائي (7 / 117) والحاكم (2 / 159) من حديث ابن الزبير وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(32/322)
بِحَسَبِ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
(أ) - قَتْلٌ عَمْدٌ.
(ب) - قَتْلٌ شِبْهُ عَمْدٍ.
(ج) - قَتْلٌ خَطَأٌ.
وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ.
وَيَعْتَبِرُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ قِسْمًا وَاحِدًا، فَالْقَتْل عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (جِنَايَةٌ فِقْرَةُ 6) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْقَتْل عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ (1) .
وَتَفْصِيل أَقْسَامِ الْقَتْل تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا (قَتْلٌ عَمْدٌ، وَقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ خَطَأٌ وَقَتْلٌ بِسَبَبٍ) .
قَتْل غَيْرِ الآْدَمِيِّ:
8 - يَجْرِي فِي قَتْل غَيْرِ الآْدَمِيِّ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَقَدْ يَحْرُمُ كَقَتْل الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ مِنَ الْمُحْرِمِ، وَلَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 339 وما بعدها، وتكملة فتح القدير 9 / 137 وما بعدها، ونهاية المحتاج 7 / 249، ومغني المحتاج 4 / 3، والمغني 7 / 636، وكشاف القناع 5 / 520 - 521، وبداية المجتهد 2 / 429، وشرح الزرقاني على الموطأ 4 / 202.(32/323)
حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى حُرْمَةِ قَتْل صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ الْمُحْرِمِ وَالْمُحِل، إلاَّ مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْبَلَدُ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ. (2)
وَقَدْ يُسْتَحَبُّ كَقَتْل الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، وَهِيَ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحَيَّةُ، لِخَبَرِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْل خَمْسِ فَوَاسِق فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (3) وَكَذَا كُل سَبُعٍ ضَارٍ، كَالأَْسَدِ، وَالنَّمِرِ.
وَقَدْ يُكْرَهُ كَقَتْل مَا لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ وَلاَ مَضَرَّةٌ، كَالْقِرْدِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالْخُطَّافِ، وَالضُّفْدَعِ، وَالْخُنْفُسَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا، كَقَتْل الْهَوَامِّ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل، كَالْبُرْغُوثِ، وَالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ صَيْدًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ.
__________
(1) سورة المائدة / 96.
(2) حديث: " هذا البلد حرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 47) ومسلم (2 / 986) من حديث ابن عباس.
(3) حديث عائشة: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق. . . ". أخرجه مسلم (2 / 857) .(32/323)
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْل الْحَيَوَانِ الصَّائِل الَّذِي يُهَدِّدُ حَيَاةَ الإِْنْسَانِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (صَيْدٌ ف 10، وَصِيَالٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
قَتْلٌ أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ
اُنْظُرْ: قَتْلٌ خَطَأٌ
__________
(1) القليوبي 2 / 138، وبدائع الصنائع 2 / 196 وما بعدها، والمغني 3 / 506.(32/324)
قَتْلٌ بِسَبَبٍ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل بِسَبَبٍ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، هُمَا: الْقَتْل وَالسَّبَبُ.
وَيُنْظَرُ تَعْرِيفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَالْقَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ يَقْتُل غَالِبًا، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
__________
(1) الاختيار 5 / 22، 26، ورد المحتار 5 / 341 - 342 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) مغني المحتاج 4 / 3.(32/324)
ب - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
3 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا (1) .
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَالْقَتْل بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
ج - الْقَتْل الْخَطَأُ:
4 - هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ يَقَعُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ، بِخِلاَفِ الْقَتْل بِسَبَبٍ.
حَالاَتُ الْقَتْل بِسَبَبٍ:
5 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْقَتْل أَقْسَامًا اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْقَتْل بِسَبَبٍ، فَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْل الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَجْعَلُوهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا أَحْكَامَهُ فِي الأَْقْسَامِ الأُْخْرَى وَمِنْ ذَلِكَ الْحَالاَتُ التَّالِيَةُ:
أ - الإِْكْرَاهُ:
6 - الْقَتْل بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ أَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْل آخَرَ فَيَقْتُلَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 4 / 4.(32/325)
الْقِصَاصُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إكْرَاهٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - الشَّهَادَةُ بِالْقَتْل:
7 - إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقُتِل بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَبِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ يُقْتَل بِهِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا فِي شَهَادَتِهِمَا، فَقَال عَلِيٌّ: " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ، وَلأَِنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الرَّجُل بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ تَوَصَّلاَ إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَقْتُل غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ كَالْمُكْرَهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا بَل عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَلاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ (1) .
ج - حُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَتْل رَجُلٍ:
8 - إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى شَخْصٍ بِالْقَتْل بِنَاءً
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 646، حاشية الدسوقي 4 / 210، مغني المحتاج 4 / 706، البدائع 2 / 285، وجواهر الإكليل 2 / 246.(32/325)
عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَاعْتَرَفَ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا حِينَ الْحُكْمِ أَوِ الْقَتْل دُونَ الْوَلِيِّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَاكِمِ.
وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَتَعَمُّدِ قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .
د - حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ:
9 - مِنْ صُوَرِ الْقَتْل بِسَبَبٍ حَفْرُ الْبِئْرِ وَنَصْبُ حَجَرٍ أَوْ سِكِّينٍ تَعَدِّيًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إذْنٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ وَأَدَّى إلَى قَتْل إنْسَانٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ قَتْل خَطَأٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ الْقَتْل مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الأَْصْل، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لاَ يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ.
أَمَّا إذَا قَصَدَ الْجِنَايَةَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ هَلاَكَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهَلَكَ فِعْلاً، فَعَلَى الْفَاعِل الْقِصَاصُ، وَإِنْ هَلَكَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 646.(32/326)
غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ، كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اعْتِبَارِ حَفْرِ الْبِئْرِ شَرْطًا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْهَلاَكِ وَلاَ يُحَصِّلُهُ، بَل يَحْصُل التَّلَفُ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَفْرَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ، وَلاَ يُحَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّخَطِّي فِي صَوْبِ الْحُفْرَةِ، وَالْمُحَصِّل لِلتَّلَفِ التَّرَدِّي فِيهَا وَمُصَادَمَتُهَا، لَكِنْ لَوْلاَ الْحَفْرُ لَمَا حَصَل التَّلَفُ وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 253، الاختيار 5 / 26، وحاشية الدسوقي 4 / 243 - 244، مغني المحتاج 4 / 6، كشاف القناع 5 / 513، / 514.(32/326)
قَتْلٌ خَطَأٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل الْخَطَأُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: قَتْلٌ، وَخَطَأٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَالْقَتْل الْخَطَأُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (2) .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَمْدَ يَتَوَفَّرُ فِيهِ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، بِخِلاَفِ الْخَطَأِ.
ب - الْجِنَايَةُ:
3 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 4 / 3.(32/327)
وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ (1) .
فَالْجِنَايَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْل الْخَطَأِ.
ج - الإِْجْهَاضُ:
4 - يُطْلَقُ الإِْجْهَاضُ فِي اللُّغَةِ عَلَى صُورَتَيْنِ:
إلْقَاءُ الْحَمْل نَاقِصَ الْخَلْقِ، أَوْ نَاقِصَ الْمُدَّةِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَالإِْطْلاَقُ اللُّغَوِيُّ يَصْدُقُ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْلْقَاءُ بِفِعْل فَاعِلٍ أَمْ تِلْقَائِيًّا.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ " إجْهَاضٍ " عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) ، وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الإِْجْهَاضِ بِمُرَادِفَاتِهِ: كَالإِْسْقَاطِ وَالإِْلْقَاءِ وَالطَّرْحِ وَالإِْمْلاَصِ.
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الإِْجْهَاضَ جِنَايَةٌ عَلَى الْحَمْل وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَأَمَّا الْقَتْل الْخَطَأُ فَجِنَايَةٌ عَلَى مُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ.
د - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا (3) .
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ فِيهِ قَصْدٌ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، بِخِلاَفِ الْقَتْل الْخَطَأِ.
__________
(1) لسان العرب، والدر المختار 5 / 339.
(2) لسان العرب، والبحر الرائق 8 / 389، وحاشية البجيرمي 2 / 250.
(3) مغني المحتاج 4 / 4.(32/327)
هـ - الْقَتْل بِسَبَبٍ:
6 - الْقَتْل بِسَبَبٍ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ (1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
أَقْسَامُ الْقَتْل الْخَطَأِ:
7 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَتْل الْخَطَأَ إلَى قِسْمَيْنِ: الْخَطَأُ فِي الْفِعْل، وَالْخَطَأُ فِي الْقَصْدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّمْيَ إلَى شَيْءٍ مَثَلاً يَشْتَمِل عَلَى فِعْل الْجَارِحَةِ وَهُوَ الرَّمْيُ وَفِعْل الْقَلْبِ وَهُوَ الْقَصْدُ فَإِنِ اتَّصَل الْخَطَأُ بِالأَْوَّل فَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْفِعْل، وَإِنِ اتَّصَل بِالثَّانِي فَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقَصْدِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ عَلَى أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَقْصِدَ ضَرْبًا، كَرَمْيِهِ شَيْئًا أَوْ حَرْبِيًّا فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، فَهَذَا خَطَأٌ بِإِجْمَاعٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ الضَّرْبَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، فَهُوَ خَطَأٌ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، خِلاَفًا لِمُطَرَّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخَطَأُ نَوْعَانِ: الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَقْصِدَ أَصْل الْفِعْل.
__________
(1) الاختيار 5 / 26، ورد المحتار 5 / 341، 342.
(2) فتح القدير 9 / 147، والاختيار 5 / 25.
(3) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 383.(32/328)
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَهُ دُونَ الشَّخْصِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ أَوْ يَفْعَل مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَيَئُول إلَى إتْلاَفِ حُرٍّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُل فِي بِلاَدِ الرُّومِ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَافِرٌ وَيَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَمَ إسْلاَمَهُ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّخَلُّصِ إلَى أَرْضِ الإِْسْلاَمِ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْخَطَأِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْخَطَأِ مَا يَلِي:
أ - وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} . (3)
وَيَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (4)
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: قَدَّمَ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ وَفِي الْكَافِرِ الدِّيَةَ، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) المغني 7 / 650 - 651.
(3) سورة النساء / 92.
(4) سورة النساء / 92.(32/328)
تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَافِرَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ شَيْءٍ فِي قَتْل كَافِرٍ لاَ عَهْدَ لَهُ. (1)
ب - وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَقَطْ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُقْتَل فِي بِلاَدِ الْكُفَّارِ أَوْ فِي حُرُوبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يُوجِبُ قِصَاصًا لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْل مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّهُ صَيْدًا فَبَانَ آدَمِيًّا، إلاَّ أَنَّ هَذَا لاَ تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ إنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} (4)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 341، والاختيار 5 / 25، وتكملة فتح القدير 9 / 147، وبداية المجتهد 2 / 534، وحاشية الجمل 5 / 102، والمغني 7 / 651، ونيل المآرب 2 / 315.
(2) سورة النساء / 92.
(3) فتح القدير 4 / 355، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 240، والجامع لأحكام القرآن 5 / 323 - 324، وحاشية الجمل 5 / 120، والمغني 7 / 651 - 652.
(4) سورة النساء / 92.(32/329)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إذَا قَتَل إنْسَانًا يَظُنُّهُ عَلَى حَالٍ فَكَانَ بِخِلاَفِهِ كَمَا إذَا قَتَل مُسْلِمًا ظَنَّ كُفْرَهُ، لأَِنَّهُ رَآهُ يُعَظِّمُ آلِهَتَهُمْ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ جَزْمًا لِلْعُذْرِ الظَّاهِرِ، وَكَذَا لاَ دِيَةَ فِي الأَْظْهَرِ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِمُقَامِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ دَارُ الإِْبَاحَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ.
أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ جَزْمًا (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) .
ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل لاَ يَرِثُ، (3) وَلأَِنَّ الْقَتْل قَطَعَ الْمُوَالاَةَ وَهِيَ سَبَبُ الإِْرْثِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُوَرِّثَهُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنَ الْمَال وَلاَ يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ. (5)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْمَضْمُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 13.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث: " القاتل لا يرث. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 220) من حديث أبي هريرة وأعله بضعف أحد رواته ثم قال: شواهد تقويه.
(4) تكملة فتح القدير 9 / 148، ومغني المحتاج 3 / 25.
(5) حاشية الدسوقي 4 / 486.(32/329)
بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ لاَ إرْثَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ، كَمَنْ قَصَدَ مُوَلِّيَهُ مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ مِنْ سَقْيِ دَوَاءٍ أَوْ رَبْطِ جِرَاحَةٍ فَمَاتَ فَيَرِثُهُ، لأَِنَّهُ تَرَتَّبَ عَنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُوَفَّقُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَصْوَبُ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ (1) .
د - الْحِرْمَانُ مِنَ الْوَصِيَّةِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي هَذَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا لأَِنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالذِّمِّيِّ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، لأَِنَّ الْقَتْل يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ أَيْضًا.
وَفَرَّقَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَالْوَصِيَّةِ قَبْلَهُ، فَقَال: إنْ وَصَّى
__________
(1) كشاف القناع 4 / 492 - 493.(32/330)
لَهُ بَعْدَ جَرْحِهِ صَحَّ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ قَبْلَهُ ثُمَّ طَرَأَ الْقَتْل عَلَى الْوَصِيَّةِ أَبْطَلَهَا، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَيْضًا وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْجَرْحِ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهَا بِخِلاَفِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ الْقَتْل طَرَأَ عَلَيْهَا فَأَبْطَلَهَا، لأَِنَّهُ يُبْطِل مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ إنْ عَلِمَ الْمُوصِي بِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً صَحَّ الإِْيصَاءُ مِنْهُ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي الْخَطَأِ فِي الْمَال وَالدِّيَةِ، وَفِي الْعَمْدِ فِي الْمَال فَقَطْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي فَتَأْوِيلاَنِ فِي صِحَّةِ إيصَائِهِ وَعَدَمِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
أَنْوَاعُ الْقَتْل الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَطَأِ:
أ - عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ:
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ كَالْخَطَأِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ، لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقَصْدِ الصَّحِيحِ (2) . وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 338 - 340، وحاشية الدسوقي 4 / 426، ومغني المحتاج 3 / 43، والمغني 6 / 111، 112، وكشاف القناع 4 / 358.
(2) المغني 7 / 637.(32/330)
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ. (1)
وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَزَائِل الْعَقْل كَالْحُدُودِ، وَلأَِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَهُمْ كَالْقَاتِل خَطَأً (2) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فَقَالُوا: إنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَمْدٌ فِي الأَْظْهَرِ أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَعَمْدُهُ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَأَضَافُوا أَنَّ الصَّبِيَّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَلَكِنَّ الأَْمْرَ يَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ، وَفِي مَالِهِ إنِ اُعْتُبِرَ عَمْدُهُ عَمْدًا. (3)
ب - مَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قِسْمًا آخَرَ لِلْقَتْل سَمَّوْهُ مَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ، وَيُعْتَبَرُ الْقَتْل الْجَارِي مَجْرَى الْخَطَأِ كَالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ، فَمِثْل النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخَطَأِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً، لأَِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْل
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه النسائي (6 / 156) والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) المغني 7 / 664.
(3) مغني المحتاج 4 / 10.(32/331)
الْقَصْدِ أَصْلاً، فَلاَ يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْعَمْدِ وَلاَ بِالْخَطَأِ، إلاَّ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ لِحُصُول الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ.
وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ عَنْ نَوْمِهِ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلاً، وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْل الْخَطَأِ إنَّمَا تَجِبُ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ، وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْل، لأَِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا، قَصْدًا مِنْهُ إلَى اسْتِعْجَال الإِْرْثِ، أَمَّا الَّذِي سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، فَمِثْل النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلَهُ، لِكَوْنِهِ قَتْلاً لِلْمَعْصُومِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الصُّوَرَ بِالْقَتْل الْخَطَأِ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 148، والاختيار 5 / 26، وابن عابدين 5 / 341، 342، والقوانين الفقهية 338 - 339 ط دار الكتاب العربي، وشرح الزرقاني 8 / 8 ط دار الفكر، والقليوبي 4 / 96 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 7 / 637 وما بعدها ط الرياض، ونيل المآرب 2 / 315، وكشاف القناع 5 / 505، 513، مغني المحتاج 4 / 4 - 5.(32/331)
قَتْلٌ شِبْهُ الْعَمْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَتْلٌ شِبْهُ الْعَمْدِ مُرَكَّبٌ مِنْ: قَتْلٌ، وَشِبْهٌ، وَعَمْدٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَنَّهُ تَعَمُّدُ شَخْصٍ ضَرْبَ آخَرَ بِمَا لَيْسَ بِسِلاَحٍ وَلاَ مَا جَرَى مَجْرَى السِّلاَحِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ قَصْدُ ضَرْبِ الشَّخْصِ عُدْوَانًا بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا (1) .
وَلَمْ يُعَرِّفْهُ الْمَالِكِيَّةُ لأَِنَّ الْقَتْل عِنْدَهُمْ عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَقَطْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 2 - 3، روضة الطالبين 9 / 124، مغني المحتاج 4 / 403، المغني لابن قدامة 7 / 650.
(2) المنتقى للباجي 7 / 100، والقوانين الفقهية / 339.(32/332)
بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّ الْجَانِيَ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ يَسْتَعْمِل آلَةً تَقْتُل غَالِبًا كَالسَّيْفِ بِخِلاَفِ شِبْهِ الْعَمْدِ.
ب - الْقَتْل الْخَطَأُ:
3 - الْقَتْل الْخَطَأُ: مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ لاَ يُقْصَدُ فِيهِ الْفِعْل غَالِبًا، وَأَمَّا الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ فَيُقْصَدُ فِيهِ الْفِعْل وَلاَ يُقْصَدُ إزْهَاقُ الرُّوحِ.
ج - الْقَتْل بِسَبَبٍ:
4 - الْقَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَوَضْعِ حَجَرٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَل (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ قَتْلٌ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ قَتْلٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ حَرَامٌ إنْ كَانَ نَتِيجَةً لِضَرْبٍ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 3.
(2) مغني المحتاج 4 / 4.
(3) بدائع الصنائع 7 / 339.(32/332)
مُتَعَمَّدٍ عُدْوَانًا، وَالْعُدْوَانُ مُحَرَّمٌ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . (1)
أَنْوَاعُ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى الْقَوْل بِالْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إثْبَاتِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (2) وَفِي رِوَايَةٍ: عَقْل شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْل عَقْل الْعَمْدِ وَلاَ يُقْتَل صَاحِبُهُ.
(3) وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ إلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: شِبْهُ الْعَمْدِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
مِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْل بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَطْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهَا الْهَلاَكَ، كَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ وَلَمْ يُوَال فِي الضَّرَبَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ وَيُوَالِيَ
__________
(1) سورة البقرة / 190.
(2) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد. . . ". أخرجه النسائي (8 / 41) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15) .
(3) حديث: " عقل شبه العمد. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 695) من حديث عبد الله بن عمرو.(32/333)
فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ.
وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْهَا: مَا قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِبُ فِيهِ الْهَلاَكُ مِمَّا لَيْسَ بِجَارِحٍ وَلاَ طَاعِنٍ، كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَمْدٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.
وَقَال جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِقَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ صُورَتَيْنِ لِلْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
الأُْولَى: أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ عُدْوَانًا بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا كَخَشَبَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَكْزَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ تَأْدِيبًا وَيُسْرِفَ فِي الضَّرْبِ فَيُفْضِيَ إلَى الْقَتْل. (1)
7 - وَكَمَا يَكُونُ الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْفِعْل يَكُونُ بِالْمَنْعِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْجَانِي عَنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فَأَدَّى هَذَا إلَى قَتْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْقَتْل يُعْتَبَرُ هَذَا الْقَتْل عَمْدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ يُعْتَبَرُ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأً عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَنْ حَبَسَ إنْسَانًا وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 233 بتصرف، روضة الطالبين 9 / 124، والمغني 7 / 650.(32/333)
الشَّرَابَ فَمَاتَ
، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِهِ عَمْدًا وَشِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأً، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ هَذَا لاَ يُعْتَبَرُ قَتْلاً، لاَ شِبْهَ عَمْدٍ وَلاَ خَطَأً، لأَِنَّ الْهَلاَكَ حَصَل بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلاَ صُنْعَ لأَِحَدٍ فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ لاَ بَقَاءَ لِلآْدَمِيِّ إلاَّ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ، فَالْمَنْعُ عِنْدَ اسْتِيلاَءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عَلَيْهِ يَكُونُ إهْلاَكًا لَهُ، فَأَشْبَهَ حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إلَى أَنَّ هَذَا قَتْل عَمْدٍ إذَا مَاتَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالأَْحْوَال، فَإِذَا كَانَ عَطَشًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَمُتْ إلاَّ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَشِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
8 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَتْل نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلاَّ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَمَنْ زَادَ قِسْمًا ثَالِثًا زَادَ عَلَى النَّصِّ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 234 - 235.
(2) مغني المحتاج 4 / 5، نهاية المحتاج 7 / 239، المغني لابن قدامة 7 / 643.(32/334)
أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . (1)
فَلاَ وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَالْعَمْدُ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ كُل فِعْلٍ تَعَمَّدَهُ الإِْنْسَانُ بِقَصْدِ الْعُدْوَانِ، فَأَدَّى لِلْمَوْتِ، أَيًّا كَانَتِ الآْلَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الْقَتْل، أَمَّا إذَا كَانَ مَوْتُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ فِعْلٍ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالتَّأْدِيبِ فَهُوَ قَتْلٌ خَطَأٌ.
وَفِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَقُول ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِثُبُوتِ شِبْهِ الْعَمْدِ، رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَحَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ، وَصُورَتُهُ عِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ مَا كَانَ بِعَصًا أَوْ وَكْزَةٍ أَوْ لَطْمَةٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ فَفِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ فَفِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ.
__________
(1) سورة النساء / 92 - 93.(32/334)
وَيَرَى الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الضَّرْبَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الضَّرْبَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ (1) .
مَا يَجِبُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
9 - يَجِبُ عَلَى الْجَانِي فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَيَلْحَقُهُ الإِْثْمُ نَتِيجَةَ جِنَايَتِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الدِّيَةُ:
10 - الدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ تَكُونُ مُغَلَّظَةً، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَلاَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 15 - 16) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 16) وَمُصْطَلَحِ: (تَغْلِيظٌ فِقْرَةُ 4) .
ب - الْكَفَّارَةُ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ
__________
(1) المدونة الكبرى 16 / 108، الخرشي 8 / 31، المنتقى للباجي 7 / 100 - 101، بداية المجتهد 2 / 433.(32/335)
الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَدَا الْكَرْخِيَّ: لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، لأَِنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَالْمُؤَاخَذَةُ فِيهَا ثَابِتَةٌ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَةٌ) .
ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
12 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ ف 18) .(32/335)
قَتْلٌ عَمْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل الْعَمْدُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: " الْقَتْل " " وَالْعَمْدُ "، وَسَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْل الْعَمْدِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ: هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَتْل الْعَمْدُ: هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَ الْمَقْتُول فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ بِآلَةٍ تُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ كَالسَّيْفِ، وَاللِّيطَةِ، وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ، لأَِنَّ الْعَمْدَ فِعْل الْقَلْبِ، لأَِنَّهُ الْقَصْدُ، وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إلاَّ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الآْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْل عَادَةً (1) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 22، 25 ط. دار المعرفة، وابن عابدين 5 / 339 ط. دار إحياء التراث العربي، والبدائع 7 / 233 ط. دار الكتب العلمية، والشرح الصغير 4 / 338 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص339، والقليوبي 4 / 96، وروضة الطالبين 9 / 123، 124، والمغني 7 / 639، ونيل المآرب 2 / 313 - 314، وكشاف القناع 5 / 504 - 505.(32/336)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِنَايَةُ:
2 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ
وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَقِيل: كُل فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا، إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَل بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَل بِمَالٍ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقَتْل الْعَمْدِ، أَنَّ الْقَتْل تَتَحَقَّقُ بِهِ الْحِنَايَةُ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يَحِل بِالنَّفْسِ، وَأَنَّ كُل قَتْلٍ جِنَايَةٌ وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْجِرَاحُ:
3 - الْجِرَاحُ لُغَةً جَمْعُ جُرْحٍ، وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، يُقَال: جَرَحَهُ إذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ.
وَالْجُرْحُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الاِسْمُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءُ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْجِرَاحِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
__________
(1) لسان العرب، وابن عابدين 5 / 339 والطحطاوي 1 / 519 ط. دار المعرفة، والتعريفات للجرجاني مادة " جناية ".
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) نهاية المحتاج 7 / 233.(32/336)
ح - الْقَتْل الْخَطَأُ:
4 - الْقَتْل الْخَطَأُ: مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (1) .
وَالْعَلاَقَةُ الضِّدْيَةُ فِي الْقَصْدِ.
د - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ: قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ كَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالْيَدِ.
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ بِأَدَاةِ الْقَتْل (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
6 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} ، (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} ، (4) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
__________
(1) مغني المحتاج. 4 / 4
(2) الاختيار 5 / 25، البدائع 7 / 234، ابن عابدين 5 / 341، والقوانين الفقهية 339، والشرح الصغير 4 / 340 وما بعدها، القليوبي 4 / 96، والمغني 7 / 652، ونيل المآرب 2 / 315.
(3) سورة الأنعام / 151.
(4) سورة النساء / 93.(32/337)
يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (1) .
صُوَرُ الْقَتْل الْعَمْدِ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ:
7 - إذَا ضَرَبَ شَخْصٌ آخَرَ بِمُحَدَّدٍ وَهُوَ مَا يَقْطَعُ وَيَدْخُل فِي الْبَدَنِ، كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُحَدِّدُ فَيَجْرَحُ مِنَ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحَجَرِ، وَالْقَصَبِ، وَالْخَشَبِ، وَأَمْثَالِهَا، فَجَرَحَ بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا فَمَاتَ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ.
وَأَمَّا إذَا جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةٍ: فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَأَصْل الأُْذُنِ، فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا، لأَِنَّ الإِْصَابَةَ بِذَلِكَ فِي الْمَقْتَل كَالْجَرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالشَّافِعِيَّةِ (3) وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 201) من حديث ابن مسعود.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 340.
(3) مغني المحتاج 4 / 4.
(4) المغني / 637 - 638.(32/337)
الْمَذْهَبُ: إنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ غَرَزَ إبْرَةً فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ فَتَوَرَّمَ وَتَأَلَّمَ حَتَّى مَاتَ فَعَمْدٌ، لِحُصُول الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ فَمَاتَ فِي الْحَال فَشِبْهُ عَمْدٍ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتُل غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ الْخَفِيفِ، وَقِيل: هُوَ عَمْدٌ، لأَِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِل خَفِيَّةً وَمَوْتُهُ حَالاً يُشْعِرُ بِإِصَابَةِ بَعْضِهَا، وَقِيل: لاَ شَيْءَ، إحَالَةً لِلْمَوْتِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ.
أَمَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمَوْتُ عَنِ الْغَرْزِ فَلاَ ضَمَانَ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدَنِ الْمُعْتَدِل، أَمَّا الشَّيْخُ وَالصَّغِيرُ وَنِضْوُ الْخِلْقَةِ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ غَرَزَهَا فِيمَا لاَ يُؤْلِمُ، كَجِلْدَةِ عَقِبٍ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي إدْخَالِهَا فَمَاتَ، فَلاَ شَيْءَ سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْحَال أَمْ بَعْدَهُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، أَمَّا إذَا بَالَغَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّ هَذَا يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْل كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ زَمَنًا حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ الْقَوَدُ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 5.(32/338)
لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَال فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ، لأَِنَّ الْمُحَدَّدَ لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُول الْقَتْل بِهِ، وَلأَِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِل خَفِيَّةً وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ.
وَالثَّانِي: لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ. (1)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَتْل بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُول الزُّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ.
وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَل جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. (2)
__________
(1) المغني 7 / 638.
(2) ابن عابدين 5 / 341، وحاشية الدسوقي 4 / 242، ومغني المحتاج 4 / 4، المغني 7 / 638، 639. وحديث أنس: " أن يهوديًا قتل جارية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 200) ومسلم (3 / 1299) .(32/338)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لاَ قَوَدَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بِالنَّارِ، وَحُجَّتُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ إنَّ قَتِيل الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (1) فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَأِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَلأَِنَّ الْعَمْدَ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا لِحُصُول الْعَمْدِ بِدُونِهِ فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا.
وَقَال ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُوسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلاَحِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مُثَقَّل الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ: الْمَذْهَبُ أَنَّ فِيهِ الْقَوَدَ (2) .
9 - وَمِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ: الضَّرْبُ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ يَقْتُل مِثْلُهُ غَالِبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ كَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ، أَوْ حَجَرٍ ثَقِيلٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ، وَحَدَّ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْخَشَبَةَ الْكَبِيرَةَ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ: يَعْنِي الْعُمُدَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الأَْعْرَابُ لِبُيُوتِهِمْ، وَفِيهَا دِقَّةٌ، وَأَمَّا عُمُدُ الْخِيَامِ فَكَبِيرَةٌ تَقْتُل غَالِبًا فَلَمْ يُرِدْهَا الْخِرَقِيُّ.
__________
(1) حديث: " ألا إن قتيل. . . ". أخرجه النسائي (8 / 42) وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15) .
(2) حاشية ابن عابدين: 5 / 339 - 340، والمغني 7 / 638 - 639.(32/339)
وَإِنَّمَا حَدَّ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ضَرَبَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، (1) وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل الْعَمْدَ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْقَتْل بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ فَهُوَ عَمْدٌ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا أَوْ صَخْرَةً، أَوْ خَشَبَةً عَظِيمَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُهْلِكُهُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا. (2)
10 - وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ صَغِيرٍ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، أَوْ لَكَزَهُ بِيَدِهِ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي حَال ضَعْفٍ مِنَ الْمَضْرُوبِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ فِي زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ بِحَيْثُ تَقْتُلُهُ تِلْكَ الضَّرْبَةُ، أَوْ كَرَّرَ الضَّرْبَ حَتَّى قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُل مِثْلُهُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) حديث: " المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1310 - 1311) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 4، المغني 7 / 638 - 639.
(3) المراجع السابقة.(32/339)
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَتْل بِالْخَنْقِ:
11 - أَنْ يَجْعَل فِي عُنُقِهِ خُرَاطَةً، ثُمَّ يُعَلِّقَهُ فِي خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنِ الأَْرْضِ فَيَخْتَنِقَ وَيَمُوتَ، فَهَذَا عَمْدٌ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَال أَوْ بَقِيَ زَمَنًا، لأَِنَّ هَذَا أَوْحَى أَنْوَاعِ الْخَنْقِ، وَكَذَا أَنْ يَخْنُقَهُ وَهُوَ عَلَى الأَْرْضِ بِيَدَيْهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ أَوْ بِحَبْلٍ، أَوْ شَيْءٍ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ، أَوْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيَمُوتَ، فَهَذَا إنْ فَعَل بِهِ ذَلِكَ مُدَّةً يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيُّ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خَنْقٌ ف 3)
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي مَهْلَكَةٍ:
وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل:
12 - أَنْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ كَرَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ حَائِطٍ عَالٍ يَهْلِكُ بِهِ غَالِبًا فَيَمُوتَ، فَهُوَ عَمْدٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي:
13 - أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُ، وَلاَ يُمْكِنُهُ
__________
(1) الاختيار 5 / 29، حاشية الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 6، المغني 7 / 640.(32/340)
التَّخَلُّصُ مِنْهُ، إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَاءِ أَوِ النَّارِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنِ التَّخَلُّصِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا، أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ كَوْنِهِ فِي حَفِيرَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ مِنْهَا، وَنَحْوِ هَذَا، فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ فَلاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، لأَِنَّ هَذَا الْفِعْل لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَل مَوْتُهُ بِلُبْثِهِ فِيهِ وَهُوَ فِعْل نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا (1) .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ:
14 - أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ نَمِرٍ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ كَذُبْيَةٍ وَنَحْوِهَا فَيَقْتُلَهُ، فَهَذَا أَيْضًا عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَل السَّبُعُ بِهِ فِعْلاً يَقْتُل مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَل بِهِ فِعْلاً لَوْ فَعَلَهُ الآْدَمِيُّ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ بِهِ، لأَِنَّ السَّبُعَ صَارَ آلَةً لِلآْدَمِيِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيِ الأَْسَدِ أَوِ النَّمِرِ فِي فَضَاءٍ فَأَكَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَان ضَيِّقٍ فَنَهَشَتْهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّ هَذَا يَقْتُل غَالِبًا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 340، حاشية الدسوقي 4 / 243، مغني المحتاج 4 / 8، روضة الطالبين 9 / 143، المغني 7 / 641.(32/340)
فَكَانَ عَمْدًا مَحْضًا كَسَائِرِ الصُّوَرِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
الضَّرْبُ الرَّابِعُ:
15 - أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَان وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لاَ يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّ هَذَا يَقْتُل غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالأَْحْوَال، فَإِذَا كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ، وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَمُتْ إلاَّ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْكٌ ف 13) .
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَتْل بِالسُّمِّ:
16 - إذَا قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَمَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ قَدَّمَهُ لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُمٌّ ف 7) .
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ: الْقَتْل بِالسِّحْرِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَل غَيْرَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُل غَالِبًا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع 7 / 234، الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 5، وروضة الطالبين 9 / 126، المغني 7 / 643.(32/341)
بِمَا يَقْتُل غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَقْتُل غَالِبًا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سِحْرٌ ف 16) .
الصُّورَةُ السَّابِعَةُ: الْقَتْل بِسَبَبٍ:
18 - الْقَتْل بِسَبَبٍ قَدْ يَدْخُل تَحْتَ الْقَتْل الْعَمْدِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَيَكُونُ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَأَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْل آخَرَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا، أَوْ يَشْهَدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ وَيَعْتَرِفَا بِكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ.
أَوْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْل بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِسَبَبٍ ف 6 وَ 7) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ:
إذَا تَحَقَّقَ الْقَتْل الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَلِي:
أ - الْقِصَاصُ:
19 - إذَا كَانَ الْمَقْتُول حُرًّا، مُسْلِمًا، مُكَافِئًا لِلْقَاتِل، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ خِلاَفًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ بِعُمُومِهَا قَال تَعَالَى:(32/341)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى} (1) .
إلاَّ أَنَّهُ يُقَيَّدُ الْقَتْل بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَمْدُ قَوَدٌ، إلاَّ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُول (2) وَفِي لَفْظٍ: مَنْ قُتِل عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ. (3)
وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ بِالْعَمْدِيَّةِ تَتَكَامَل، وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لاَ شَرْعَ لَهَا بِدُونِ الْعَمْدِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .
ب - الدِّيَةُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ بِرِضَا الْجَانِي، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) حديث: " العمد قود. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 365) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " من قتل عمدًا فهو قود ". أخرجه النسائي (8 / 40) من حديث ابن عباس.
(4) تكملة فتح القدير 9 / 140، والمغني 7 / 647.(32/342)
الْقَتْل الْعَمْدِ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 17) .
ج - الْكَفَّارَةُ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، لأَِنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَلاَ يُنَاطُ بِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ، فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا (1) .
د - الْحِرْمَانُ مِنَ الْوَصِيَّةِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل وَعَدَمِ جَوَازِهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ الْوَصِيَّة لِلْقَاتِل وَهَذَا قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 140، 143، وابن عابدين 5 / 339 - 340، والقوانين الفقهية 339، وحاشية القليوبي 4 / 96، وروضة الطالبين 9 / 122، والمغني 7 / 639، 647.(32/342)
الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، لأَِنَّ الْقَتْل يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ) .
هـ - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِل الْبَالِغَ الْعَاقِل مِنَ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الْقَتْل مُبَاشِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ ف 17) .
و الإِْثْمُ فِي الآْخِرَةِ:
24 - انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى التَّأْثِيمِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} . (2)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا (3) وَمَا رُوِيَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 242، حاشية الدسوقي 4 / 426، روضة الطالبين 6 / 107، والمغني 6 / 111، 112.
(2) سورة النساء / 93.
(3) حديث: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 573) من حديث ابن عباس.(32/343)
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: لَزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْل مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. (1)
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَلأَِنَّ حُرْمَتَهُ أَشَدُّ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِجَوَازِهِ لِمُكْرَهٍ بِخِلاَفِ الْقَتْل. (2)
قِدَاحٌ
اُنْظُرْ: أَزْلاَمٌ، مَيْسِرٌ
قَدَحٌ
اُنْظُرْ: مَقَادِيرُ
__________
(1) حديث: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) من حديث البراء بن عازب، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 256) .
(2) ابن عابدين 5 / 340، وتكملة فتح القدير 9 / 140 - 141، والاختيار 5 / 23.(32/343)
قَدْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَدْرُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَبْلَغُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، قَال الرَّاغِبُ: الْقَدْرُ وَالتَّقْدِيرُ تَبْيِينُ كَمْيَّةِ الشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِلاَل: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ (2) أَيْ قَدِّرُوا عَدَدَ الشَّهْرِ حَتَّى تُكْمِلُوا ثَلاَثِينَ يَوْمًا (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدْرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الْقَدْرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ كَالدَّمِ وَالْبَوْل وَالْخَمْرِ
__________
(1) المغرب للمطرزي ص373، والمصباح المنير.
(2) حديث: " فإن غم عليكم فاقدروا له ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ومسلم (2 / 950) من حديث ابن عمر.
(3) قواعد الفقه للبركتي.(32/344)
وَنَحْوِهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَجَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهُ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو عَنْهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا بِالْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرَفُ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عَفْوٌ ف 7) .
ب - قَدْرُ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا:
3 - يَخْتَلِفُ قَدْرُ النِّصَابِ فِي أَنْوَاعِ الأَْمْوَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَنِصَابِ زَكَاةِ الأَْنْعَامِ، فَفِي الإِْبِل إذَا بَلَغَتْ خَمْسًا شَاةٌ وَفِي الْبَقَرِ إذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي الْغَنَمِ إذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ.
وَفِي زَكَاةِ الذَّهَبِ إذَا بَلَغَ النِّصَابُ عِشْرِينَ مِثْقَالاً وَالْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ تُقَوَّمُ ثُمَّ تُعَامَل مُعَامَلَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَفِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فِيهَا الْعُشْرُ إنْ سُقِيَتْ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ سُقِيَتْ بِكُلْفَةٍ.(32/344)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 44، 51، 57، 72، 87، 115) .
ج - الْقَدْرُ مِنَ الْعِلَل الرِّبَوِيَّةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا (1) فِي حَدِيثِ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ. . . . (2)
كَمَا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ وَأَنَّ فِيهَا مَعْنًى وَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى غَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال. (3)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الأَْعْيَانِ الأَْرْبَعَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ (4) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْجِنْسِيَّةُ وَالْقَدْرُ، عُرِفَتِ الْجِنْسِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (5) وَعُرِفَ الْقَدْرُ
__________
(1) المغني 4 / 4.
(2) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) والترمذي (3 / 532) من حديث عبادة بن الصامت، واللفظ للترمذي.
(3) المبسوط 12 / 112، والاختيار 2 / 30.
(4) المغني 4 / 5.
(5) حديث: " التمر بالتمر. . . ". أحرجه مسلم (2 / 1211) من حديث أبي هريرة.(32/345)
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلاً بِمِثْلٍ وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ (1) ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيل فَمِثْل ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، (3) وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمَا عِلَّةُ الْحُكْمِ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الاِسْمِ الْمُشْتَقِّ يُنْبِئُ عَنْ عِلِّيَّةِ مَأْخَذِ الاِشْتِقَاقِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ مِثْلاً بِمِثْلٍ بِسَبَبِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ، وَاَلَّذِي يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَال: أَكُل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَال إنَّا نَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَال: فَلاَ تَفْعَل، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَقَال: فِي الْمِيزَانِ مِثْل ذَلِكَ، (4) أَيْ
__________
(1) المبسوط 12 / 113.
(2) الاختيار 2 / 30.
(3) حديث أنس: " ما وزن مثل بمثل. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 18) .
(4) حديث أبي سعيد وأبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 317) ومسلم (2 / 1215) .(32/345)
فِي الْمَوْزُونِ، إذْ نَفْسُ الْمِيزَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا، وَهُوَ أَقْوَى حُجَّةً فِي عِلِّيَّةِ الْقَدْرِ، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَل الْمَوْزُونَ كُلَّهُ الثَّمَنَ وَالْمَطْعُومَ وَغَيْرَهُمَا (1) .
هَذَا وَلِمَعْرِفَةِ أَقْوَال بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رِبَا ف 21 - 25) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 86.(32/346)
قُدْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُدْرَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ قَدَرْتُ عَلَى الشَّيْءِ أَقْدِرُ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - قَوِيتُ عَلَيْهِ وَتَمَكَّنْتُ مِنْهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تُمَكِّنُ الْحَيَّ مِنَ الْفِعْل وَتَرْكِهِ بِالإِْرَادَةِ (2) .
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْقُدْرَةُ إذَا وُصِفَ بِهَا الإِْنْسَانُ فَاسْمٌ لِهَيْئَةٍ لَهُ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْل شَيْءٍ مَا، وَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَهِيَ نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ مَعْنًى، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا (3) .
الْقُدْرَةُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ:
2 - يَقُول الأُْصُولِيُّونَ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ كُل أَمْرٍ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني والكليات للكفوي 4 / 13.
(3) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.(32/346)
قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} (1) أَيْ طَاقَتَهَا وَقُدْرَتَهَا.
وَيَقُول الْجَصَّاصُ: نَصُّ التَّنْزِيل قَدْ أَسْقَطَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْل وَلاَ يُطِيقُهُ، مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا لاَ تَتَّسِعُ لَهُ قُوَاهُمْ، لأَِنَّ الْوُسْعَ هُوَ دُونَ الطَّاقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمُ اسْتِفْرَاغُ الْجَهْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، نَحْوُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي جِسْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْشَ الْمَوْتَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ، لأَِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلاَّ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدْرَةَ إلَى قُدْرَةٍ مُمْكِنَةٍ، وَهِيَ مُفَسَّرَةٌ بِسَلاَمَةِ الآْلاَتِ وَصِحَّةِ الأَْسْبَابِ، وَإِلَى قُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا الإِْنْسَانُ عَلَى الْفِعْل مَعَ يُسْرٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِطَاعَةٌ ف 10) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ:
يَخْتَلِفُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمْ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) كشف الأسرار 1 / 192 - 193، والتلويح على التوضيح 1 / 198 وما بعدها، ومسلم الثبوت 1 / 135 - 137، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 537 - 538.(32/347)
الْمُعَامَلاَتِ،
الْقُدْرَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أَوَّلاً - الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل تَتَحَقَّقُ بِمَا يَأْتِي:
أ - وُجُودُ الْمَاءِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ وَالْفَائِضِ عَنِ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . (1)
ب - إمْكَانُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّهُ، أَوِ اسْتِعْمَالِهِ بِمُسَاعِدٍ وَلَوْ بِأَجْرٍ، لأَِنَّ الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل يُعْتَبَرُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ الْغَيْرِ.
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ الْمَاءِ أَوْ إمْكَانُ الاِسْتِعْمَال، فَلاَ يُعْتَبَرُ الشَّخْصُ قَادِرًا، وَيَنْتَقِل مِنَ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ إلَى التَّيَمُّمِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ ف 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ تَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلاَةِ بِسَلاَمَةِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ الَّتِي
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) فتح القدير مع الكفاية والعناية 1 / 117 - 125، وابن عابدين 1 / 155 - 158، 170، والدسوقي 1 / 147 وما بعدها، والمهذب 1 / 39 - 41، وكشاف القناع 1 / 162 - 167.(32/347)
يَتَمَكَّنُ بِهَا الْمُصَلِّي مِنَ الإِْتْيَانِ بِالأَْرْكَانِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. (1)
وَإِذَا عَجَزَتْ أَعْضَاءُ الْبَدَنِ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُعْتَبَرُ قَادِرًا بِمَا يُمْكِنُهُ الإِْتْيَانُ بِهِ وَلَوْ بِإِيمَاءَةٍ بِرَأْسِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِذَلِكَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ إلاَّ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ (2) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَفِي رِوَايَةٍ:
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا. (3)
ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
5 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111) من حديث مالك ابن الحويرث.
(2) الهداية 1 / 77، وجواهر الإكليل 1 / 55، ومغني المحتاج 1 / 151 - 153، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270 - 271.
(3) حديث: " صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا. . . ط. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 487) . والرواية الأخرى عزاها ابن حجر في التلخيص (1 / 225) إلى النسائي.(32/348)
الأَْدَاءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بِحُضُورِ الْمَال وَحُضُورِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوْ حُضُورِ الإِْمَامِ أَوِ السَّاعِي، لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الأَْدَاءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَثْبُتُ وُجُوبُهَا فِي الذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ الأَْدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا) .
رَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الاِسْتِطَاعَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} . (1)
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ، أَيِ الْقُدْرَةَ تَتَحَقَّقُ بِمَا يَأْتِي:
أ - وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ وُجُودُ الْمَال الَّذِي يَكْفِي النَّفَقَةَ ذَهَابًا وَإِيَابًا.
ب - سَلاَمَةُ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ، وَيُعْتَبَرُ الْعَاجِزُ بِنَفْسِهِ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ، كَالأَْعْمَى الَّذِي يَجِدُ مَنْ
__________
(1) سورة آل عمران / 97.(32/348)
يَقُودُهُ، وَالْمُقْعَدِ الَّذِي يَجِدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ج - أَمْنُ الطَّرِيقِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
د - وُجُودُ مَحْرَمٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْقُدْرَةُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أَوَّلاً - الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ غَيْرَ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالْمَعْدُومِ، وَتَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِأَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ مَالِكًا لَهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَلاَ الْجَمَل الشَّارِدِ، وَلاَ مَا لاَ يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 32) .
ثَانِيًا - الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِصِحَّةِ الإِْجَارَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَتَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 5، مغني المحتاج 2 / 12 - 13، ومنتهى الإرادات 2 / 145.(32/349)
مِنَ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَلِذَلِكَ لاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الدَّابَّةِ الْفَارَّةِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الأَْقْطَعِ أَوِ الأَْشَل لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهَا مَنَافِعُ لاَ تَحْدُثُ إلاَّ عِنْدَ سَلاَمَةِ الأَْسْبَابِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إجَارَةٌ ف 30)
ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} . (2)
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ طَلَبِهِ مَتَى كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (3) وَيَتَحَقَّقُ الْمَطْل عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ بَعْدَ الطَّلَبِ.
أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل، لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
وَإِذَا مَاطَل الْقَادِرُ وَلَمْ يُؤَدِّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ
__________
(1) البدائع 4 / 187، والقليوبي 3 / 69 - 72.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) حديث: " مطل الغني ظلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 464) ومسلم (3 / 1197) .(32/349)
غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ، (1) وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ.
(2) وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَاعَ مَال أُسَيْفِعَ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ (3) .
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا أَوْ أَفْلَسَ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إعْسَارٌ ف 15) (وَإِفْلاَسٌ ف 6) .
رَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
10 - الأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
__________
(1) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه ابو داود (4 / 45 - 46) من حديث الشريد بن سويد وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 62) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله وقضى ديونه ". أخرجه الدارقطني (4 / 231) من حديث كعب بن مالك، وأعله عبد الحق الإشبيلي بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (3 / 37) .
(3) البدائع 7 / 173، وجواهر الإكليل 2 / 92، ومغني المحتاج 2 / 157، والمغني 4 / 484 - 485، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274 - 275، وأثر عمر أخرجه البيهقي في سننه (6 / 49) .(32/350)
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ. (2)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقُدْرَةُ أَصْلٌ، وَتَكُونُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنِ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: يَجِبُ قِتَال الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُصِرِّينَ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الإِْنْسَانُ ذَلِكَ فَلْيُنْكِرْ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ الإِْنْكَارُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ أَصْلاً (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ف 5) .
خَامِسًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَارِبِ:
11 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْمُحَارِبُونَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ، وَجَزَاؤُهُمْ هُوَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ
__________
(1) سورة آل عمران / 104.
(2) حديث: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . . ". أخرجه مسلم (1 / 69) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) جواهر الإكليل 1 / 251، والفتاوى الهندية 5 / 353، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 266 - 267، وإحياء علوم الدين 2 / 319، والزواجر 2 / 161.(32/350)
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (1) .
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تُنَفَّذُ فِيهِمْ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمُ الْحَاكِمُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ قَبْل أَنْ يَتُوبُوا وَيَأْتُوا مُعْلِنِينَ تَوْبَتَهُمْ، وَلِذَلِكَ إذَا تَابُوا قَبْل أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِمُ الْحَاكِمُ سَقَطَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَةٌ ف 24)
سَادِسًا الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ:
12 - مَنْ أَمْكَنَهُ إنْقَاذُ شَخْصٍ مِنَ الْهَلاَكِ كَمَنْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ وَكَانَ غَيْرُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَدَ أَعْمَى كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ وَجَدَ إنْسَانًا كَادَ أَنْ يَغْرَقَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْقَاذُهُ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي صَلاَةٍ وَجَبَ قَطْعُهَا لإِِنْقَاذِ غَيْرِهِ مِنَ الْهَلاَكِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الإِْنْسَانُ مِنْ بَذْل الطَّعَامِ الزَّائِدِ عَنْ حَاجَتِهِ، أَوِ امْتَنَعَ عَنْ إنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ ضَيَاعًا بَيْنَ أَقْوَامٍ أَغْنِيَاءَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) سورة المائدة / 34.(32/351)
ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ (1)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَاءٌ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَاضْطُرَّ قَوْمٌ إلَيْهِ وَخَافُوا الْهَلاَكَ يُقَال لَهُ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُول وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُول فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (2) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمُوسِرِينَ، كَكِسْوَةِ عَارٍ وَإِطْعَامِ جَائِعٍ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَضْمَنُ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيصَ شَيْءٍ مُعَرَّضٍ لِلْهَلاَكِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَسَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى تَخْلِيصِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ أَوْ جَاهِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (3) .
__________
(1) حديث: " أيما رجل مات ضياعًا. . . ". أورده الموصلي في الاختبار (4 / 175) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إلى من أخرجه
(2) أثر عمر: أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج (ص 112) .
(3) البدائع 6 / 189، والاختيار 4 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 215، ومغني المحتاج 4 / 212، 309، ومنتهى الإرادات 3 / 401 - 402.(32/351)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ضَمَانٌ) .
سَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى تَرْبِيَةِ الْمَحْضُونِ:
13 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَثْبُتُ لَهُ الْحَضَانَةُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى صَوْنِ الصَّغِيرِ فِي خُلُقِهِ وَصِحَّتِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لِلْعَاجِزِ لِكِبَرِ سِنٍّ أَوْ مَرَضٍ يَعُوقُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَاهَةٍ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالصَّمَمِ، أَوْ كَانَتِ الْحَاضِنَةُ تَخْرُجُ كَثِيرًا لِعَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَتْرُكُ الْوَلَدَ ضَائِعًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَضَانَةٌ ف 14) .
قَدَرِيَّةٌ
اُنْظُرْ: فِرَقُ الأُْمَّةِ
قُدْسٌ
اُنْظُرْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ(32/352)
قِدَمٌ
اُنْظُرْ: تَقَادُمٌ
قُدْوَةٌ
اُنْظُرْ: اقْتِدَاءْ(32/352)
قَذْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَذْفُ لُغَةً: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَالتَّقَاذُفُ التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ فِيهِ الأَْنْصَارُ مِنَ الأَْشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ (1) أَيْ: تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ؛ لأَِنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: " فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ "، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللِّعَانُ:
2 - اللِّعَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ لاَعَنَ كَقَاتَل مِنَ
__________
(1) حديث: " كان عند عائشة قينتان. . . " أخرجه البخاري (7 / 246) بلفظ " تعازفت " وذكر ابن حجر في الفتح (4412) أنه وقع في رواية: " تقاذفت ".
(2) الاختيار لتعليل المختار 3 / 280 طبعة المعاهد الأزهرية.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 43، 44، الشرح الصغير 2 / 425 - 424 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 155، والمغني لابن قدامة 8 / 215.(33/5)
اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ.
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ (1) ، أَوْ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالأَْيْمَانِ، مَقْرُونَةٍ بِاللَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الأُْخْرَى، قَائِمَةٍ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ.
ب - السَّبُّ:
3 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّتْمُ، وَهُوَ: كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ (3) .
وَالصِّلَةُ: أَنَّ السَّبَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.
ج - الرَّمْيُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الرَّمْيِ: الْقَذْفُ وَالإِْلْقَاءُ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} (4) ، أَيْ: يَقْذِفُونَ، وَيُقَال: رَمَيْتُ الْحَجَرَ: أَلْقَيْتُهُ.
وَالرَّمْيُ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ (5) .
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 75 طبعة دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 482.
(3) الموسوعة مصطلح (سب ف 1 - 4) ، وحاشية الدسوقي 4 / 309.
(4) سورة النور / 4.
(5) لسان العرب والمصباح المنير، والموسوعة الفقهية. مصطلح (رمى 1 - 2) .(33/5)
د - الزِّنَا:
5 - الزِّنَا بِالْقَصْرِ لُغَةُ أَهْل الْحِجَازِ، وَبِالْمَدِّ لُغَةُ أَهْل نَجْدٍ، وَمَعْنَاهُ الْفُجُورُ، يُقَال: زَنَى يَزْنِي زِنًا: فَجَرَ. وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُل فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ اتِّهَامٌ بِالزِّنَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4، وبداية المجتهد 2 / 324.
(2) سورة النور / 4.
(3) سورة النور / 23.(33/6)
وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ: أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ثُمَّ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَى وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا.
وَمُبَاحٌ: وَهُوَ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ.
صِيغَةُ الْقَذْفِ:
7 - الْقَذْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.
فَاللَّفْظُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْقَذْفُ: إِنْ لَمْ يَحْتَمِل غَيْرَهُ فَصَرِيحٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ، وَإِلاَّ فَتَعْرِيضٌ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِشُرُوطِهِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:
إِذَا أَنْكَرَ الْقَذْفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلإِْيذَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إِذَا خَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ السَّبِّ وَالذَّمِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُبِسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَال حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
__________
(1) المغني 8 / 215. وحديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ، ومسلم (1 / 92) من حديث أبي هريرة.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 3 / 201.(33/6)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَْلْفَاظِ:
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا قَال لِرَجُلٍ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: يَا فَاجِرَةُ، يَا فَاسِقَةُ، يَا خَبِيثَةُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، أَوْ لاَ تَرُدِّينَ يَدَ لاَمِسٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا قَال لآِخَرَ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، يُؤَدَّبُ، فَإِذَا قَال: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُحْبَسُ، فَإِنْ طَال حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَإِذَا قَال: يَا فَاجِرُ بِفُلاَنَةَ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا إِذَا قَال: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَمْرٍ صَنَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْفُجُورِ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ يَدَّعِيهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَخْرَجٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِذَا قَال لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ عُفِيَ عَنْهُ بَعْدَ الأَْدَبِ، وَلاَ يُضْرَبُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَإِنَّمَا تُقْبَل يَمِينُهُ، إِذَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 369.(33/7)
كَانَ الْمَقْذُوفُ فِيهِ تَأْنِيثٌ وَلِينٌ وَاسْتِرْخَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ، وَيَحْلِفُ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْنِيثَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَمْ تُقْبَل يَمِينُهُ، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا (1) ، وَلَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاجِرُ ابْنَ الْفَاجِرِ، أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلاَ أُمَّهُ إِلَى صَرِيحِ الزِّنَا، فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْفِعْل، فَلاَ يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ، فَقَدْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْقِيَاسِ، وَلاَ مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ وَلأَِنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ (3) .
8 - وَلَوْ قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: زَنَأْتَ مَهْمُوزًا، كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 330، والمدونة 4 / 387.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 328، ومغني المحتاج 3 / 368.
(3) المبسوط 9 / 119، والمغني 8 / 221، 222، وكشاف القناع 6 / 110.(33/7)
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لاَ يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَال: زَنَيْتَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ فَكِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأَِنَّ الْعَامَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ زَنَيْتَ وَزَنَأْتَ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ.
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا.
9 - وَلَوْ قَال لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، لاَ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيل مِنْهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلاَّمَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُغْنِي؛ لأَِنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لأَِحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلآْخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلأَِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: " يَا زَانِي " حُدَّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ التَّرْخِيمَ(33/8)
شَائِعٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي " مَالِكٍ ": " يَا مَال " وَفِي " حَارِثٍ ": " يَا حَارِ (1) ".
10 - وَإِنْ قَال زَنَى فَرْجُكِ، أَوْ ذَكَرُكَ، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأَِنَّ الزِّنَا يَقَعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَال: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ كَانَ قَذْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الزِّنَا لاَ يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ (2) ، وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ قَذْفٌ، لأَِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ (3) ، فَإِنْ قَال: زَنَى بَدَنُكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الزِّنَا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى جَمِيعِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 191، والمهذب 2 / 291، والمغني 8 / 225.
(2) حديث: " إن الله كتب على ابن آدم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 26) ، ومسلم (4 / 2046) من حديث أبي هريرة.
(3) مغني المحتاج 3 / 370.(33/8)
الْبَدَنِ، وَالْفَرْجُ دَاخِلٌ فِيهِ (1) .
وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ أَفْعَل يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ مَعْنَى كَلاَمِهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ قَذْفًا فَيُحَدُّ، وَهَل يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، لأَِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَيْهِمَا، وَجَعَل أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الآْخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ: " أَفْعَل " لِلتَّفْضِيل، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْل الْفِعْل، وَتَفْضِيل أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: " أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ ".
وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ لَفْظَةَ: " أَفْعَل " قَدْ تُسْتَعْمَل لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْل، كَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَال لِرَجُلٍ:
__________
(1) المبسوط 9 / 129، والمهذب 2 / 290، 291.
(2) سورة يونس / 35.(33/9)
يَا زَانِي، فَقَال آخَرُ: صَدَقْتَ، لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لأَِنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لاَ يَكْفِي لإِِيجَابِ الْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَال: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلاَمِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَقَال زُفَرُ: فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَانٍ، وَقَال آخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا، لاَ حَدَّ عَلَى الآْخَرِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلاَمٌ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْقَذْفُ إِلاَّ أَنْ يَقُول: أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْل مَا شَهِدْتَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ (1) .
11 - وَمَنْ قَذَفَ رَجُلاً بِعَمَل قَوْمِ لُوطٍ إِمَّا فَاعِلاً أَوْ مَفْعُولاً، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ بِوَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْل الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَال عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا،
__________
(1) المبسوط 9 / 120، 121.(33/9)
أَوْ قَذَفَ رَجُلاً بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا.
وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: " يَا لُوطِيُّ "، وَقَال: أَرَدْتُ أَنَّكَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَمَا صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيل الْقَذْفَ، لأَِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا إِلاَّ الْقَذْفُ بِعَمَل قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: " يَا زَانِي "، وَلأَِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلاَ يُحْتَمَل أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ.
وَقَال الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا قَال: نَوَيْتُ أَنَّ دِينَهُ دِينُ قَوْمِ لُوطٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ أَنَّكَ تَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَّرَ كَلاَمَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ يَحْتَمِل، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلاً بِكَلاَمِهِ (1) .
حُكْمُ التَّعْرِيضِ:
12 - وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ قَذْفٌ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 156، وحاشية الدسوقي 4 / 326، والشرح الصغير 2 / 426 ط الحلبي، والمهذب 2 / 290، والمغني 8 / 221.(33/10)
لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى: بَل أَنْتَ زَانٍ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأَْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ (2) .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَال لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَال عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ (3) .
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَل، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَل اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلاَ احْتِمَال، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال، هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ. وَقِيل: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُول الْفَهْمِ وَالإِْيذَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا (4) ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 191.
(2) شرح الزرقاني 8 / 87.
(3) المغني 8 / 222.
(4) روضة الطالبين 8 / 312.(33/10)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ:
لِحَدِّ الْقَذْفِ شُرُوطٌ فِي الْقَاذِفِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْذُوفِ:
أ - شُرُوطُ الْقَاذِفِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاذِفِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْل وَالاِخْتِيَارُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطٍ، مِنْهَا:
1 - الإِْقَامَةُ فِي دَارِ الْعَدْل: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
2 - النُّطْقُ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الأَْخْرَسِ.
3 - الْتِزَامُ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ.
4 - الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ.
5 - عَدَمُ إِذْنِ الْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ،
__________
(1) المغني 8 / 222.(33/11)
كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الأَْكْثَرِينَ.
6 - أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ غَيْرَ أَصْلٍ لِلْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدُّ الأَْبُ بِقَذْفِ ابْنِهِ (1) .
ب - شُرُوطُ الْمَقْذُوفِ:
كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا:
14 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ - الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا، وَشُرُوطُ الإِْحْصَانِ فِي الْقَذْفِ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْل، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ مَا رَمَى بِهِ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَوْ تَحَقَّقَ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَاقِلاً بِمَا دُونَ الْوَطْءِ، وَإِنْ قَذَفَ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ (2) ، وَإِنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَال الْحَدِّ، فَيَمْنَعُ وُجُوبَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 167 - 168، وبدائع الصنائع 7 / 40، ومغني المحتاج 4 / 155 - 156، ومطالب أولي النهى 6 / 194، ونيل المآرب 2 / 360، وحاشية الدسوقي 4 / 325 و331.
(2) حديث: " من أشرك بالله فليس بمحصن " أخرجه الدارقطني (3 / 147) ، مرفوعًا وموقوفًا وصوب وقفه.(33/11)
الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَذَفَ زَانِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، فَأَسْقَطَ الْحَدَّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَنَى، فَدَل عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهُ وَهُوَ زَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَال مَالِكٌ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا: يُحَدُّ قَاذِفُهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إِلْحَاقِ الْعَارِ، وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 15 - 19) .
وُقُوعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الإِْسْلاَمِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْقَاذِفِ، كَمَا يَجِبُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْحُدُودِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (3) ، وَقَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) فتح القدير 4 / 192، 193، وحاشية الدسوقي 4 / 325، والقرطبي سورة النور ص 4565 طبعة دار الشعب، والمهذب 2 / 79، والمغني 8 / 216.
(3) سورة النور / 4.(33/12)
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، وَقَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْحَرَامُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حَرَامٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَلاَ تَضَعُ عَنْهُ بِلاَدُ الْكُفْرِ شَيْئًا، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي كُل مَوْضِعٍ؛ لأَِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُل مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ فِي دَارٍ لاَ حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَلأَِنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلاَيَةِ الإِْمَامِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ إِذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفَى لاَ يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَوْ دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ، حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
وَيُحَدُّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرِ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) المغني 8 / 216، والأم 7 / 322، والخرشي 3 / 111.(33/12)
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلأَِنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الأَْمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَارُ الْحَرْبِ ف 5)
ثُبُوتُ حَدِّ الْقَذْفِ: ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ:
16 - يَثْبُتُ الْقَذْفُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَلاَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَال فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: جَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلاَ تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلاَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي؛ لأَِنَّ مُوجِبَهُ حَدٌّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ.
وَقَال مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَذْهَبِ: تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَفِي كُل حَقٍّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الأَْصْل، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقْبَل فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي (2) .
__________
(1) المبسوط 9 / 118 - 119.
(2) المبسوط 9 / 111، وبداية المجتهد 2 / 348، والمدونة 4 / 410، ومغني المحتاج 4 / 442 و453، والمغني 9 / 206.(33/13)
ثُبُوتُهُ بِالإِْقْرَارِ:
17 - وَيَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ؛ لأَِنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا، فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلاَفِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ لاَ مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، فَيُقْبَل رُجُوعُهُ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِقْرَار ف 59 - 60)
وَمُصْطَلَحَ (رُجُوع ف 38) .
حَدُّ الْقَذْفِ:
18 - حَدُّ الْقَذْفِ لِلْحُرِّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) ، وَيُنَصَّفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 46، 47 وَ 48) .
وَيُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ.
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ لِقَوْل اللَّهِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 199، والاختيار 3 / 280 طبعة الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، وجواهر الإكليل 2 / 132، ومغني المحتاج 4 / 157.
(2) سورة النور / 4.
(3) القرطبي سورة النور ص 4554، 4555، وفتح القدير 4 / 192.(33/13)
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} ، فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْقْرَارِ مِنَ الْمَقْذُوفِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اشْتُرِطَ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
الثَّانِي: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ وَاسْتِدَامَةُ مُطَالَبَتِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى قَبْل طَلَبِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَمَنْ قَال: إِنَّ الْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُطَالَبَةَ، بَل عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ (1) .
مَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ:
أَوَّلاً: عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا طَلَبُ اسْتِيفَائِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رُفِعَ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ لَمْ يُرْفَعْ.
__________
(1) المغني 8 / 217.(33/14)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ بَعْدَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الإِْمَامِ، إِلاَّ الاِبْنُ فِي أَبِيهِ، أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل الْعَفْوُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَضْل الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَفَافِ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُدَارُونَ بِعَفْوِهِمْ سَتْرًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ (1) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ هَل هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَال حَقٌّ لِلَّهِ: لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَا، وَمَنْ قَال حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ: أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَال حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا وَغَلَبَ حَقُّ الإِْمَامِ إِذَا وَصَل إِلَيْهِ، قَال بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِل الإِْمَامَ أَوْ لاَ يَصِل، وَقِيَاسًا عَلَى الأَْثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَلاَّ يُقْطَعَ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ (2) ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِ، فَرَأَوْا مِنْهُ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَال وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لاَ تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ إِذَا
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 106، 107، والمغني 8 / 217، وتبصرة الحكام 2 / 182، 183، والبدائع 7 / 56، وحاشية ابن عابدين 3 / 182.
(2) حديث صفوان بن أمية " فهلا كان هذا. . . " أخرجه أبو داود (4 / 555) وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (3 / 369) .(33/14)
انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ (1) .
وَعُمْدَةُ مَنْ قَال إِنَّهُ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ -: أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ (2) .
ثَانِيًا: اللِّعَانُ:
20 - وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لاَعَنَ زَوْجَتَهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَان) .
ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ:
21 - إِذَا ثَبَتَ زِنَا الْمَقْذُوفِ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حُدَّ الْمَقْذُوفُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) ، وَفِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ (إِقْرَار ف 34 - 37، وَشَهَادَة ف 29، وَزِنًى ف 30 - 41) .
__________
(1) حديث ابن مسعود في قصة الذي سرق. أخرجه أحمد (1 / 438) ، والحاكم (4 / 382 - 283 +) وصححه الحاكم.
(2) المدونة 4 / 387، بداية المجتهد 2 / 331، والمغني 8 / 217.
(3) سورة النور / 4.(33/15)
رَابِعًا: زَوَال الإِْحْصَانِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا، ثُمَّ زَال أَحَدُ أَوْصَافِ الإِْحْصَانِ عَنْهُ، كَأَنْ زَنَى الْمَقْذُوفُ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ الإِْحْصَانَ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ اسْتِمْرَارُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ: حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّ الإِْحْصَانَ لاَ يُسْتَيْقَنُ بَل يُظَنُّ، وَلَكِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لاَ يَسْقُطُ بِرِدَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا أَنَّ الزِّنَا يُكْتَمُ مَا أَمْكَنَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَشْعَرَ بِسَبْقِ مِثْلِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ لاَ يَهْتِكُ السِّتْرَ أَوَّل مَرَّةٍ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالرِّدَّةُ عَقِيدَةٌ، وَالْعَقَائِدُ لاَ تَخْفَى غَالِبًا، فَإِظْهَارُهَا لاَ يَدُل عَلَى سَبْقِ الْخَفَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ كَذَلِكَ بِجُنُونِ الْمَقْذُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِزَوَال شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ جُنَّ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ بِذَلِكَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 168، وحاشية الدسوقي 4 / 326، ومغني المحتاج 3 / 371 - 372، وروضة الطالبين 8 / 327، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 219، وكشاف القناع 6 / 105 - 106.(33/15)
خَامِسًا: رُجُوعُ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ عَنِ الشَّهَادَةِ:
23 - إِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ، سَقَطَ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ رُجُوعَهُمْ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 37) .
التَّعْزِيرُ فِي الْقَذْفِ:
24 - لاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشُرُوطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَل، فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ، وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 37) .
ثُبُوتُ فِسْقِ الْقَاذِفِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
25 - إِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفَةِ فِسْقٌ، وَلاَ حَدٌّ، وَلاَ رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ قَذْفُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ(33/16)
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فَإِنْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَال الْفِسْقُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ إِذَا جُلِدَ وَإِنْ تَابَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 21) .
تَكْرَارُ الْقَذْفِ:
26 - إِنْ قَذَفَ رَجُلاً مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزِنْيَاتٍ؛ لأَِنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلاَ كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَل، كَالدُّيُونِ (1) .
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَعُزِّرَ لِلإِْيذَاءِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَال: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ
__________
(1) فتح القدير 4 / 208، وجواهر الإكليل 2 / 294، والمهذب 2 / 293، والمغني 8 / 235.(33/16)
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَقَال: شَاطَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ فَقَال: أَمَّا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَال: شُهُودُ زُورٍ، فَقَال أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَال: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَال أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَال عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ (1) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلاَ يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ.
فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُول الْفَصْل فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُل حَالٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَال الْفَصْل؛ وَلأَِنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلأَْوَّل، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْسْبَابِ.
__________
(1) قصة المغيرة بن شعبة أنه شهد عليه ثلاثة نفر، أخرجه الأثرم كما في المغني لابن قدامة (8 / 235) ، وبمعناها أخرجها البيهقي (8 / 224 - 225) .(33/17)
الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الأَْوَّل (1) .
حُكْمُ قَذْفِ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ:
27 - مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ، فَإِنْ سَقَطَ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلاً اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا، أَوْ قَذَفَهَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ قَذْفَهُ لِلزَّانِي كَانَ حَقًّا، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، لَكِنَّ الزِّنَا بِهَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهَا مَعَ رَفْعِ الإِْثْمِ عَنْهَا.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 7) وَمُصْطَلَحِ (زِنًا ف 16 - 21)
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا:
28 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَسْقُطْ إِحْصَانُهُ، وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضٍ عَلَى احْتِمَال الزَّوَال، وَهَذَا لأَِنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَل لاَ يَكُونُ الْفِعْل زِنًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 205، والمبسوط 9 / 117، والإقناع 3 / 203، والمغني 8 / 235.
(2) المبسوط 9 / 116، وروضة الطالبين 8 / 322.(33/17)
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الزِّنَا:
29 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لأَِبَوَيْهِ، وَفِعْلُهُمَا لاَ يُسْقِطُ إِحْصَانَهُ (1) .
حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
30 - وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلاَعَنَةِ فَقَال: هُوَ وَلَدُ زِنًا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى، وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ. وَإِذَا قَال الْقَاذِفُ: هُوَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ قَال: لَيْسَ هُوَ ابْنَ فُلاَنٍ يَعْنِي الْمُلاَعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ صَادِقٌ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَال لاِبْنِ الْمُلاَعَنَةِ: لَسْتَ لأَِبِيكَ الَّذِي لاَعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (3) .
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ:
31 - لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ
__________
(1) المبسوط 9 / 127، وكشاف القناع 6 / 106.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة. . . . أخرجه أبو داود (2 / 690) وأشار ابن حجر إلى إعلاله في التلخيص (3 / 227) .
(3) المبسوط 9 / 127، وفتح القدير 4 / 203، ومواهب الجليل 6 / 301، وحاشية الدسوقي 4 / 327، وروضة الطالبين 8 / 319، والمغني 8 / 230.(33/18)
فَاسِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ إِحْصَانُهُ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَسْقُطِ الإِْحْصَانُ، فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ (1) .
حُكْمُ قَذْفِ اللَّقِيطِ:
32 - وَمَنْ قَذَفَ اللَّقِيطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
وَمَنْ قَال لَهُ: يَا ابْنَ الزِّنَا، فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْوَّل: يُحَدُّ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ نُبِذَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ. الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَنْبُوذِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زِنًا، وَهُوَ قَوْل اللَّخْمِيِّ.
وَأَمَّا لَوْ قَال لَهُ: يَا ابْنَ الزَّانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَهَذَا قَذْفٌ بِزِنَا أَبَوَيْهِ، لاَ بِنَفْيِ نَسَبٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ اتِّفَاقًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِجَهْل أَبَوَيْهِ (2) .
__________
(1) المبسوط 9 / 117، والمهذب 2 / 209.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 325.(33/18)
قَذْفُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا:
33 - وَمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لأَِنَّهُ صَادِقٌ سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا؛ لأَِنَّهُ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأَِنَّ الْمُحْصَنَ لاَ يَكُونُ زَانِيًا، وَمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ يُعَزَّرُ؛ لأَِنَّهُ آذَى مَنْ لاَ يَجُوزُ أَذَاهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ تَابَ بَعْدَ زِنَاهُ وَصَلُحَ حَالُهُ، فَلَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا أَبَدًا، وَلَوْ لاَزَمَ الْعَدَالَةَ وَصَارَ مِنْ أَوْرَعِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَزْهَدِهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ، سَوَاءٌ أَقَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا أَمْ بِزِنًا بَعْدَهُ أَمْ أَطْلَقَ؛ لأَِنَّ الْعِرْضَ إِذَا انْخَرَمَ بِالزِّنَا لَمْ يَزُل خَلَلُهُ بِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلاَ يَرِدُ حَدِيثُ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (1) لأَِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَقْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فِي ظَاهِرِ حَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَائِبًا مِنْهُ؛ لأَِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ أَوْ حُدَّ لِلزِّنَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَيُعَزَّرُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ إِنْ
__________
(1) حديث " التائب من الذنب. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1420) من حديث ابن مسعود وحسنه ابن حجر كما في المقاصد الحسنة للسخاوي ص 249.(33/19)
قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقٌ لِلشَّيْنِ بِهِ (1) .
قَذْفُ الْمَرْأَةِ الْمُلاَعَنَةِ:
34 - وَمَنْ قَذَفَ الْمُلاَعَنَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لأَِنَّ إِحْصَانَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلاَ يَثْبُتُ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (2) .
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَتِ الْمُلاَعَنَةُ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِوَلَدٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ، فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَالْعِفَّةُ شَرْطُ الإِْحْصَانِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الْمُلاَعَنَةِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ
__________
(1) المبسوط 9 / 116، وحاشية الدسوقي 4 / 326، ومغني المحتاج 3 / 372، وكشاف القناع 6 / 106، ومطالب أولي النهى 6 / 196، والمغني 8 / 230.
(2) حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة. . . " تقدم فقرة 30.(33/19)
زَوْجًا وَقَذَفَهَا فِي غَيْرِ مَا لاَعَنَهَا فِيهِ حُدَّ مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ الْمُلاَعِنُ نَفْسُهُ وَقَذَفَهَا فِيمَا لاَعَنَهَا فِيهِ لَمْ يُحَدَّ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ الْقَذْفَ (1) .
قَذْفُ الْمَيِّتِ:
35 - أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا مُحْصَنًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِذَا طَالَبَ بِالْحَدِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ الإِْحْصَانَ وَلاَ يَنْفِيهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ مُحْصَنٌ فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ؛ لأَِنَّ قَذْفَ أُمِّهِ قَذْفٌ لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلاَ يُحَدُّ (2) .
قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ:
36 - مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ قَذَفَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لاَعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلاَعِنْ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 203، حاشية الدسوقي 4 / 327، وروضة الطالبين 8 / 338، والمغني 8 / 230.
(2) المبسوط 9 / 112، وحاشية الدسوقي 4 / 331، والمهذب 2 / 292، ومغني المحتاج 3 / 372، والمغني 8 / 233، 234.(33/20)
بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ حُدَّ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ فَلاَ يُحَدَّ لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلاَ الْحَدُّ (1) .
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ الأَْجْنَبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا:
37 - مَنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُلاَعِنُ، لأَِنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَال كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَجَبَ الْحَدُّ، وَلاَ يَمْلِكُ اللِّعَانَ لأَِنَّهُ قَاذِفٌ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ (2) .
مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ:
38 - مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَهِيَ شَرْطُ الإِْحْصَانِ وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ (3) .
قَذْفُ وَاحِدٍ لِجَمَاعَةٍ:
39 - مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ طَالَبُوهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ طَالَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَإِنْ حُدَّ لِلأَْوَّل لَمْ يُحَدَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ
__________
(1) المغني 8 / 230، وروضة الطالبين 8 / 313.
(2) ابن عابدين 2 / 585، وحاشية الدسوقي 2 / 458، وروضة الطالبين 8 / 335، والمغني 8 / 402.
(3) فتح القدير 4 / 203.(33/20)
ثَانِيًا إِلاَّ إِذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَعِنْدَ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ فَلِكُل وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لأَِنَّهَا حُقُوقٌ لآِدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَل كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَّحَهَا فِي الْمُغْنِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلأَِنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلأَِنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَال الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُول الْمَعَرَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَذَفَ كُل وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلاَ تَزُول الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفَيْنِ بِحَدِّهِ لِلآْخَرِ.
__________
(1) سورة النور / 4.(33/21)
وَقَال الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجِبُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ، لأَِنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِقَذْفِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لِكُل وَاحِدِ مِنْهُمْ حَدٌّ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ (1) .
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا إِذَا قَذَفَ إِنْسَانًا فَحُدَّ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ قَذَفَ إِنْسَانًا آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَامُ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرْبِ إِلاَّ سَوْطٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يُضْرَبُ إِلاَّ ذَلِكَ السَّوْطَ لِلتَّدَاخُل؛ لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ حَدَّانِ؛ وَلأَِنَّ كَمَال الْحَدِّ الأَْوَّل بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ كَرَّرَ أَثْنَاءَ الْجَلْدِ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنَ الْجَلْدِ أَقَلَّهُ أُلْغِيَ مَا مَضَى، وَابْتُدِئَ الْعَدَدُ وَبِذَلِكَ يُسْتَوْفَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ قَلِيلاً فَيَكْمُل الأَْوَّل، ثُمَّ يَبْتَدِئُ لِلثَّانِي (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ زُنَاةً عَادَةً لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ، وَلاَ عَارَ عَلَى الْمَقْذُوفِ لأَِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْكَذِبِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 208، وحاشية الدسوقي 4 / 327، والمهذب 2 / 292، 293، والمغني 8 / 233، 234.
(2) فتح القدير 4 / 208، وحاشية الدسوقي 4 / 327.
(3) المهذب 4 / 328، والإقناع في فقه الإمام أحمد 4 / 264.(33/21)
قَذْفُ الرَّجُل نَفْسَهُ:
40 - مَنْ قَذَفَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَال: أَنَا وَلَدُ زِنًا، حُدَّ لأَِنَّهُ قَذْفٌ لأُِمِّهِ (1) .
حُكْمُ قَذْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّهِ:
41 - قَذْفُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَذْفُ أُمِّهِ رِدَّةٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَمَنْ قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَقُتِل وَلَوْ تَابَ أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، لاَ إِنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ (2) .
قَذْفُ زَوْجَةٍ مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَل بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَل هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُل امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِْثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبَرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
أَمَّا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي 4 / 328.
(2) المغني 8 / 233، والإقناع 4 / 265.
(3) سورة النور / 11 - 17.(33/22)
الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُنَّ مِثْل عَائِشَةَ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (1) ، وَقَذْفُهُنَّ طَعْنٌ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَارٌ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى عَائِشَةَ كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ؛ لأَِنَّهُ قَاذِفٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (رِدَّة ف 18، وَسَبّ ف 18)
حُكْمُ قَذْفِ الأَْنْبِيَاءِ:
43 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ يُقْتَل، وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَسُول ف 3) ،
وَمُصْطَلَحَ: (سَبّ ف 11 - 13)
حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ، وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل؛ لأَِنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلاً مَعْنًى لَهُمَا، فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ
__________
(1) سورة النور / 26.
(2) الشفاء للقاضي عياض 2 / 1109، 1110.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 290، و، وجواهر الإكليل 2 / 280.(33/22)
الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الأَْصْل فِي الْخُصُومَةِ؛ لأَِنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا، فَلاَ يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلاَ لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ،
وَيَثْبُتَ لِلأَْبْعَدِ مَعَ وُجُوبِ الأَْقْرَبِ، وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لاِبْنِهِ الْكَافِرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلاَفًا لِزُفَرَ، إِذْ يَقُول: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الإِْرْثَ عِنْدَنَا، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلاً لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَذْفِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ إِحْصَانِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ.
وَلَكِنَّا نَقُول: إِنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ، فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لأَِنَّ الإِْحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَال، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِل إِلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الاِسْتِحْقَاقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَنَاوَل الْقَذْفُ نَفْسَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَال، لِفَقْدِ الإِْحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى الزِّنَا.
وَالْحَاصِل أَنَّ السَّبَبَ التَّعْيِيرُ الْكَامِل، وَهُوَ(33/23)
بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقِ التَّعْيِيرُ الْكَامِل فِي حَقِّهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ: لِلْوَارِثِ حَقَّ الْقِيَامِ بِحَقِّ مُوَرِّثِهِ الْمَقْذُوفِ قَبْل مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ وَوَلَدُهُ وَإِنْ سَفَل، وَأَبٌ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأَْخُ فَابْنُهُ. فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَهَكَذَا وَلِكُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. كَابْنِ الاِبْنِ مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ؛ لأَِنَّ الْمَعَرَّةَ تَلْحَقُ الْجَمِيعَ وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ أُنْثَى خِلاَفًا لأَِشْهَبَ الْقَائِل: يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ الْمَقْذُوفِ كَالْقِيَامِ بِالدَّمِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ وَهُوَ مِمَّنْ يُورَثُ انْتَقَل ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ، وَفِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّهُ مَوْرُوثٌ فَكَانَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ كَالْمَال، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ (3) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ لِمَنْ يَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ، وَلاَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ عَارٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ لاَ تَبْقَى
__________
(1) فتح القدير 4 / 194 - 196.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 331.
(3) روضة الطالبين 8 / 326.(33/23)
زَوْجِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ دُونَ غَيْرِهِمْ لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لِلآْخَرِ الْحَدُّ لأَِنَّهُ جُعِل لِلرَّدْعِ، وَلاَ يَحْصُل الرَّدْعُ إِلاَّ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل لِلرَّدْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الاِبْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا.
أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلاَ يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ لأَِنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلاَ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإِْرْثِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ لأَِنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ
__________
(1) المهذب 2 / 292.(33/24)
عَبْدٌ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الأُْمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ فَهُوَ كَقَذْفِ أُمِّهِ.
فَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لاَحِقًا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ (1) .
قَذْفُ الْمَجْهُول:
45 - مَنْ قَذَفَ مَجْهُولاً لاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَعَرَّةِ، إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ وَالْحَدُّ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعَرَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَجُلاَنِ فِي شَيْءٍ فَقَال أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ زَانِيَةٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَإِذَا سَمِعَ السُّلْطَانُ رَجُلاً يَقُول: زَنَى رَجُلٌ، لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2) ، وَلأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا هُزَال، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ (3) ، وَإِنْ قَال
__________
(1) المغني 8 / 230، 232.
(2) سورة المائدة / 101.
(3) حديث " يا هزال، لو سترته بثوبك كان خيرًا لك " أخرجه الحاكم (4 / 363) وصححه. ووافقه الذهبي.(33/24)
سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُول: إِنَّ فُلاَنًا زَنَى، لَمْ يُحَدَّ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَاكٍ، وَلاَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ قَال لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامُوا كُلُّهُمْ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ الْمَعَرَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ، وَهَذَا إِذَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَنْ زَادُوا عَلَى ثَلاَثَةٍ، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوِ اثْنَيْنِ حُدَّ إِنْ قَامُوا أَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ وَعَفَا الْبَعْضُ الْبَاقِي، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَقَال: لَمْ أُرِدِ الْقَائِمَ لَمْ يُحَدَّ سَوَاءٌ عَفَا الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لأَِنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ (1) .
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ:
46 - مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلإِْسْلاَمِ، وَقَال الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لاَ تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلاَ يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحَدِّ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 211، حاشية الدسوقي 4 / 330، والمهذب 2 / 293، والمغني 8 / 236.(33/25)
وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ (1) ، وَقَال الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُل الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْل الأَْوَّل، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلاَ لَقِيتُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ (2) .
وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ (3) ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآْيَةَ (4) .
قَذْفُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا مُدْنِفًا وَالرَّتْقَاءِ:
47 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِفِقْدَانِ آلَةِ الزِّنَا وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُمَا الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لاَ يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ
__________
(1) حديث " من أشرك بالله فليس بمحصن " تقدم ف 14.
(2) فتح القدير 4 / 210، والمدونة 4 / 396، والقرطبي سورة النور 4516، والمهذب 2 / 289، 290.
(3) الدسوقي 4 / 326.
(4) سورة النور / 4.(33/25)
خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ مَرِيضًا مُدْنِفًا أَوْ رَتْقَاءَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُومِ الآْيَةِ، وَلأَِنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلأَِنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلاَ يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ.
وَقَال الْحَسَنُ: لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لأَِنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ (2) .
حُكْمُ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ:
48 - إِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَل لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الاِبْنِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لإِِطْلاَقِ آيَةِ {فَاجْلِدُوهُمْ} (3) ، وَلأَِنَّهُ حَدٌّ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) المبسوط 9 / 111، وحاشية الدسوقي 4 / 326، والمغني 8 / 216، 217.
(3) سورة النور / 4.(33/26)
هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلاَدَةِ كَالزِّنَا.
وَالْجَوَابُ عَلَى مَنْ قَال بِوُجُوبِ الْحَدِّ: أَنَّ الإِْطْلاَقَ أَوِ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيل الْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} (1) وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ، وَلِهَذَا لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حَقَّ لِلآْدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ (2) .
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) فتح القدير 4 / 196، 197، الدسوقي 4 / 331، وتحفة المحتاج 9 / 120، والمغني 8 / 219.(33/26)
قُرْءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْءُ لُغَةً: بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْحَيْضُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ، وَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْل قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ.
وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْوَقْتِ (1) .
وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، حَيْثُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقُرْءَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُذَكَّرُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ عَلَى طَرِيقِ الاِشْتِرَاكِ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ لِلْقُرْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالأَْقْرَاءِ فِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب، والقاموس المحيط، والمفردات.(33/27)
الْعِدَّةِ الأَْطْهَارُ (1) ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الأَْقْرَاءُ الأَْطْهَارُ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ: كُنْتُ أَقُول إِنَّهُ الأَْطْهَارُ، وَأَنَا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ الْحِيَضُ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْءِ:
عِدَّةُ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا ذَاتِ الأَْقْرَاءِ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (4) ، سَوَاءٌ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 308 ط بولاق، وبدائع الصنائع 3 / 193 ط. دار الكتاب العربي، والقرطبي 3 / 113، ومغني المحتاج 3 / 385 ط. مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 452، وكشاف القناع 5 / 417 ط. عالم الكتب، وسبل السلام 3 / 204 ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) أثر عائشة رضي الله عنها " الأقراء الأطهار ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (4 / 506 - ط. دار المعارف) .
(3) المراجع الفقهية السابقة.
(4) سورة البقرة / 228.(33/27)
أَهْل الْعِلْمِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لاَ يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ، حَتَّى لاَ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلاَثَ حِيَضٍ كَوَامِل بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالاِعْتِدَادِ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِل الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لأَِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلاَقُ مَحْسُوبٌ مِنَ الأَْقْرَاءِ، وَالثَّلاَثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالاِسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لاَ يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَل بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الاِعْتِدَادُ بِثَلاَثٍ كَوَامِل؛ لأَِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ، فَيَكُونُ عَمَلاً بِالْكِتَابِ؛ وَلأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَال الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلاَ تُصَلِّي (2) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 270، والدسوقي 2 / 469، ومغني المحتاج 3 / 384، والمغني 7 / 449، 450 ط. الرياض.
(2) حديث: " إذا أتى قرؤك فلا تصلي ". أخرجه أبو داود (1 / 191) .(33/28)
وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُل بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرُوءِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ الأَْطْهَارُ، فَإِنَّهَا لَوْ طُلِّقَتْ طَاهِرًا وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لأَِنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) ، أَيْ فِي وَقْتِ عِدَّتِهِنَّ، لَكِنَّ الطَّلاَقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ، فَيُصْرَفُ الإِْذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَال: فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (3) ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ، وَلِدُخُول الْهَاءِ فِي الثَّلاَثَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ، وَإِنَّمَا تَدْخُل الْهَاءُ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لاَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يُقَال ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الأَْطْهَارُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 194، والمغني لابن قدامة 7 / 455، وسبل السلام 3 / 205.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 346) من حديث ابن عمر.
(4) الكتاب مع اللباب 3 / 80، والقوانين الفقهية ص 235، والمغني 7 / 452، ومغني المحتاج 3 / 385، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 128.(33/28)
انْتِقَال الْعِدَّةِ:
أ - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الأَْشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَصْبَحَتْ يَائِسَةً، فَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الأَْشْهُرِ، فَتَسْتَقْبِل بِالأَْشْهُرِ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا أَيِسَتْ قَدْ صَارَتْ عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (2) ، فَالأَْشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ.
ب - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْل:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّل إِلَى وَضْعِ الْحَمْل، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ وَلأَِنَّ وَضْعَ الْحَمْل أَقْوَى مِنَ الدَّمِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 200، وحاشية الدسوقي 2 / 276، وروضة الطالبين 8 / 371، والمغني 9 / 103.
(2) سورة الطلاق / 4.(33/29)
بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة ف 38)
ج - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، تَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْشْهُرَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل قَبْل حُصُول الْمَقْصُودِ بِالْبَدَل تُبْطِل حُكْمَ الْبَدَل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: (عِدَّة ف 28 - 31)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 201، والدسوقي 2 / 474، ونهاية المحتاج 7 / 129، وروضة الطالبين 1 / 377، ومغني المحتاج 3 / 389، والمغني 9 / 103.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) البدائع 3 / 200، والدسوقي 3 / 473، ومغني المحتاج 3 / 386، وروضة الطالبين 8 / 372، والمغني 9 / 102، 103.(33/29)
قُرْآنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْآنُ لُغَةً: فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ مِنْ قَرَأَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، يُقَال: قَرَأَ قُرْآنًا، قَال تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (1) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَثْبَتْنَاهُ فِي صَدْرِكَ فَاعْمَل بِهِ، وَخُصَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ لَهُ كَالْعَلَمِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْبَزْدَوِيُّ: هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، بِلاَ شُبْهَةٍ، وَهُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَعَلَى كُل جُزْءٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُمْ يَبْحَثُونَ
__________
(1) سورة القيامة / 17، 18.
(2) القاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن.
(3) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1 / 67 - 72 نشر دار الكتاب العربي.(33/30)
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ آيَةٌ آيَةٌ لاَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ (1) .
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا: سَمَّاهُ كِتَابًا، وَمُبِينًا، وَقُرْآنًا، وَكَرِيمًا، وَكَلاَمًا، وَنُورًا، وَهُدًى، وَرَحْمَةً، وَفُرْقَانًا، وَشِفَاءً، وَمَوْعِظَةً، وَذِكْرًا، وَمُبَارَكًا، وَعَلِيًّا، وَحِكْمَةً. . . إِلَخْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُصْحَفُ:
2 - الْمُصْحَفُ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا (3) -، مَا جُعِل جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ، وَجَمْعُهُ مَصَاحِفُ (4) . وَرَوَى السُّيُوطِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ أَوَّل مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ الْمُصْحَفَ (5) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُصْحَفَ مَا جُمِعَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
حُجِّيَّةُ الْقُرْآنِ:
3 - الْقُرْآنُ هُوَ الأَْصْل الأَْوَّل مِنْ أُصُول الشَّرْعِ، وَهُوَ حُجَّةٌ مِنْ كُل وَجْهٍ لِتَوَقُّفِ حُجِّيَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الأُْصُول عَلَيْهِ لِثُبُوتِهَا بِهِ، فَإِنَّ الرَّسُول
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 157.
(2) الإتقان في علوم القرآن 1 / 159 - 161.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 34 نشر دار القلم، والقاموس المحيط.
(4) المفردات للراغب الأصفهاني.
(5) الإتقان في علوم القرآن 1 / 164 ط. دار ابن كثير، والبرهان في علوم القرآن 1 / 273 - 276.(33/30)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ} (1) ، وَكَذَا الإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَدِلَّةِ حُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الأَْحْكَامِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
خَصَائِصُ الْقُرْآنِ:
أ - الْكِتَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ:
4 - الْقُرْآنُ هُوَ مَا نُقِل إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، وَقُيِّدَ بِالْمَصَاحِفِ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَالَغُوا فِي نَقْلِهِ وَتَجْرِيدِهِ عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى كَرِهُوا التَّعَاشِيرَ وَالنَّقْطَ كَيْ لاَ يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، فَنَعْلَمَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَيْسَ مِنْهُ، إِذْ يَسْتَحِيل فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَعَ تَوَافُرِ الدَّوَاعِي عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ أَنْ يُهْمَل بَعْضُهُ فَلاَ يُنْقَل أَوْ يُخْلَطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ (3) .
ب - التَّوَاتُرُ:
5 - لاَ خِلاَفَ أَنَّ كُل مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) شرح المنار وحواشيه من علم الأصول ص 25 ط. دار سعادت.
(3) روضة الناظر لابن قدامة المقدسي ص 34 ط. دار الكتب العلمية، والمستصفى 1 / 101.(33/31)
أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ كَذَلِكَ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (1) .
فَقَدْ جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: مَا نُقِل آحَادًا فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ قَطْعًا، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلاَفٌ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْمَذَاهِبِ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ لِتَضَمُّنِهِ التَّحَدِّيَ؛ وَلأَِنَّهُ أَصْل الأَْحْكَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَالنَّظْمِ جَمِيعًا حَتَّى تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ فِي كُل عَصْرٍ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِذَا عُلِمَ جَهْدُ الصَّحَابَةِ فِي حِفْظِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ، وَكُل مَا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي نَقْلِهِ يُنْقَل مُتَوَاتِرًا عَادَةً، فَوُجُودُهُ مَلْزُومٌ لِلتَّوَاتُرِ عِنْدَ الْكُل عَادَةً، فَإِذَا انْتَفَى اللاَّزِمُ وَهُوَ التَّوَاتُرُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ قَطْعًا، وَالْمَنْقُول آحَادًا لَيْسَ مُتَوَاتِرًا، فَلَيْسَ قُرْآنًا.
كَمَا جَاءَ فِيهِ: عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ آيِ كُل سُورَةٍ تَوْقِيفِيٌّ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِأَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ، وَجَاءَ أَيْضًا: بَقِيَ أَمْرُ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيل هَذَا التَّرْتِيبُ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. . . وَالْحَقُّ هُوَ الأَْوَّل (2) .
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 2 / 125.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 9.(33/31)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَف) .
ج - الإِْعْجَازُ:
6 - مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ، الْمُتَحَدَّى بِإِعْجَازِهِ، وَالْمُرَادُ بِالإِْعْجَازِ ارْتِقَاؤُهُ فِي الْبَلاَغَةِ إِلَى حَدٍّ خَارِجٍ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ (1) ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُقَلاَءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ (2) ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3) .
قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا - وَهُوَ قَوْل أَبِي الْحَسَنِ الأَْشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ - إِلَى أَنَّ أَقَل مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا، قَال: فَإِذَا كَانَتِ الآْيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ، فَذَلِكَ مُعْجِزٌ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 30، والتلويح على التوضيح 1 / 157.
(2) البحر المحيط 1 / 446.
(3) سورة البقرة / 23، 24.
(4) البرهان في علوم القرآن 2 / 108.(33/32)
د - كَوْنُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ:
7 - لَقَدْ أَنْزَل اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (2) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلاَمٌ مُرَكَّبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ فِيهِ أَسْمَاءَ أَعْلاَمٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، كَإِسْرَائِيل، وَجَبْرَائِيل، وَنُوحٍ، وَلُوطٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَل فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلاَمٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلاَمِ الْعَرَبِ؟
فَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نُقِل عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ (3) .
وَاحْتَجَّ هَذَا الْفَرِيقُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (4) ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ لُغَةُ الْعَجَمِ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا مَحْضًا، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ بِالإِْتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلاَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمَا لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ وَلاَ يُحْسِنُونَهُ (5) .
قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَالْقُرْآنُ يَدُل عَلَى أَنْ لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ بِلِسَانِ
__________
(1) البحر المحيط 1 / 444.
(2) سورة إبراهيم / 4.
(3) البحر المحيط 1 / 449.
(4) سورة فصلت / 44.
(5) روضة الناظر ص 35.(33/32)
الْعَرَبِ (1) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ فِيهِ لُغَةُ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ " الْمِشْكَاةَ " هِنْدِيَّةٌ، " وَالإِْسْتَبْرَقَ " فَارِسِيَّةٌ (2) .
وَقَال مَنْ نَصَرَ هَذَا: اشْتِمَال الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا أَعْجَمِيَّةٍ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَعَنْ إِطْلاَقِ هَذَا الاِسْمِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمَهِّدُ لِلْعَرَبِ حُجَّةً، فَإِنَّ الشِّعْرَ الْفَارِسِيَّ يُسَمَّى فَارِسِيًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ آحَادُ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أَصْلُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ عَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ وَاسْتَعْمَلَتْهَا، فَصَارَتْ مِنْ لِسَانِهَا بِتَعْرِيبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا لَهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا أَعْجَمِيًّا (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
هـ - كَوْنُهُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى:
8 - تَكَفَّل اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، قَال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ
__________
(1) الرسالة ص 42 ط. الحلبي.
(2) المستصفى 1 / 105، وانظر إرشاد الفحول ص 32.
(3) روضة الناظر ص 35، وانظر المستصفى 1 / 106.
(4) روضة الناظر 1 / 35.
(5) سورة الحجر / 9.(33/33)
أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ، قَال قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلاً أَوْ تُنْقِصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِفْظَهُ، فَلَمْ يَزَل مَحْفُوظًا، وَقَال فِي غَيْرِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (1) ، فَوَكَّل حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا (2) .
و نَسْخُ الْقُرْآنِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ النَّسْخِ وَأَحْوَالِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
7 - جَمْعُ الْقُرْآنِ:
ز - جُمِعَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَثَانِيَةً فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَف) :
8 - تَنْجِيمُ الْقُرْآنِ:
ح - نَزَل الْقُرْآنُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
__________
(1) سورة المائدة / 44.
(2) القرطبي 10 / 5.(33/33)
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْحَفٍ) .
ط - رَسْمُ الْمُصْحَفِ:
12 - كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى شَكْلٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى يَدِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَوُزِّعَتِ النُّسَخُ الَّتِي كَتَبُوهَا عَلَى الْعَوَاصِمِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْتِزَامِهَا فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَف) .
الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ:
أَوَّلاً: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ رُكْنٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ (1) ، وَفِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ بِالْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَة. ف 19 وَقِرَاءَة) .
ثَانِيًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
14 - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 300، والاختيار لتعليل المختار 1 / 56 نشر دار المعرفة، والقوانين الفقهية ص 63 دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 1 / 156، ومطالب أولي النهى 1 / 494.(33/34)
سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُول الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ (2) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ (3) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَِصْحَابِهِ (4) .
آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
15 - يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقْرَأُ عَلَى حَال مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ (5) ، وَيَنْبَغِي إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ أَنْ يُنَظِّفَ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ (6) .
__________
(1) سورة فاطر / 29.
(2) حديث: " من قرأ حرفًا من كتاب الله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 175) من حديث ابن مسعود وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عائشة: " الماهر بالقرآن مع السفرة. . . " أخرجه مسلم (1 / 55) . والتتعتع: التردد في الكلام عيًا وصعوبة (تفسير القرطبي 1 / 7) .
(4) حديث: " اقرأوا القرآن. . . " أخرجه مسلم (1 / 553) من حديث أبي أمامة، وتفسير القرطبي 1 / 7، وإحياء علوم الدين 1 / 279.
(5) التبيان في آداب حملة القرآن ص 95 نشر دار الدعوة.
(6) التبيان ص 95، والإتقان في علوم القرآن 1 / 329 ط. دار ابن كثير.(33/34)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ وَإِنْ قَرَأَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ دُونَ مَسِّ الْمُصْحَفِ جَازَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالْجُنُبُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقْرَأُ الْجُنُبُ وِرْدَهُ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ (3) .
وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ قَبْل الْحَيْضِ، إِلاَّ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا دَمُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمُسْتَحَاضَةٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْرَأُ إِنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ (5) .
(ر: حَيْض ف 39) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُخْتَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ، لِكَوْنِهِ
__________
(1) التبيان ص 97، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 325، والإتقان 1 / 328، والمجموع 2 / 69 نشر المكتبة السلفية.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 13، والقوانين الفقهية ص 36 ط. دار الكتاب العربي، والمجموع 2 / 162، والمغني 1 / 143، 144.
(3) المغني 1 / 144، والموسوعة الفقهية 16 / 53، 54.
(4) الاختيار 1 / 13، والمجموع 2 / 162، والمغني 1 / 143، والقوانين الفقهية ص 44.
(5) الزرقاني 1 / 138.(33/35)
جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، وَمُحَصِّلاً لِفَضِيلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الاِعْتِكَافُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (ر: قِرَاءَة) .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ أَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُطْرِقًا رَأْسَهُ، وَيَكُونَ جُلُوسُهُ وَحْدَهُ فِي تَحْسِينِ أَدَبِهِ وَخُضُوعِهِ كَجُلُوسِهِ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ، فَهَذَا هُوَ الأَْكْمَل، وَلَوْ قَرَأَ قَائِمًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ فِي فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْوَال جَازَ وَلَهُ أَجْرٌ، وَلَكِنْ دُونَ الأَْوَّل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْوَال الَّتِي تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (ر: قِرَاءَة) .
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ فَقَال: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، هَكَذَا قَال الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ: يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ (3)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْل الْقِرَاءَةِ فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ، وَإِنْ قَطَعَهَا لِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ
__________
(1) التبيان ص 100، والإتقان 1 / 329.
(2) التبيان ص 102 - 104، والإتقان 1 / 329 ط. دار ابن كثير، والآداب الشرعية ص 325.
(3) التبيان ص 105، والإتقان 1 / 329.(33/35)
الأَْوَّل مَا لَمْ يَطُل الْفَصْل (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَحَل الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ (ر: اسْتِعَاذَة ف 7 وَتِلاَوَة ف 6) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّل كُل سُورَةٍ سِوَى سُورَةِ " بَرَاءَةٌ (2) "، (ر: تِلاَوَة ف 7) . وَلِلتَّفْصِيل فِي اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ يُنْظَرُ (بَسْمَلَة ف 2) .
فَإِذَا شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الْخُشُوعَ وَالتَّدَبُّرَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ، وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ (3) ، (ر: تِلاَوَة ف 10) .
وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ} (4) ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثِهِ: فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (5) ، وَطَرِيقُهُ فِي تَحْصِيل الْبُكَاءِ أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ الْحُزْنُ بِأَنْ يَتَأَمَّل مَا فِيهِ مِنَ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 460.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 460، والإتقان 1 / 331، والتبيان ص 106.
(3) التبيان ص 107.
(4) سورة الإسراء / 109.
(5) الإتقان 1 / 335، والتبيان ص 112. وحديث " فإذا عيناه تذرفان " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 94) ، ومسلم (1 / 551) واللفظ للبخاري.(33/36)
التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، ثُمَّ يَتَأَمَّل تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ وَبُكَاءٌ كَمَا يَحْضُرُ الْخَوَاصَّ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ (1) .
وَيُسَنُّ التَّرْتِيل فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (2) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَتِّل الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (3) .
(ر: تِلاَوَة ف 9) .
وَمِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيَتَأَكَّدُ الأَْمْرُ بِهِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ مِنْ أُمُورٍ قَدْ يَتَسَاهَل فِيهَا بَعْضُ الْغَافِلِينَ الْقَارِئِينَ مُجْتَمِعِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الضَّحِكِ وَاللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ فِي خِلاَل الْقِرَاءَةِ إِلاَّ كَلاَمًا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعَبَثُ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلاَ يَعْبَثُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى مَا يُلْهِي وَيُبَدِّدُ الذِّهْنَ (4) .
آدَابُ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ:
16 - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنَ الآْدَابِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا، وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ (5) .
__________
(1) التبيان ص 114، وإحياء علوم الدين 1 / 284 ط. الحلبي، والإتقان 1 / 335.
(2) الإتقان 1 / 331، والتبيان ص 114.
(3) سورة المزمل / 4.
(4) التبيان ص 120.
(5) الإتقان 1 / 343، والبرهان في علوم القرآن 1 / 475، وشرح منتهى الإرادات 1 / 242.(33/36)
قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالاِشْتِغَال عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لاَ يَكُونُ أَفْضَل مِنَ الاِسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ لِلْمَصْلَحَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ الاِسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ (ر: اسْتِمَاع ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
آدَابُ حَامِل الْقُرْآنِ:
17 - آدَابُ حَامِل الْقُرْآنِ مُقْرِئًا كَانَ أَوْ قَارِئًا هِيَ فِي الْجُمْلَةِ آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ الَّتِي سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي (تَعَلُّم وَتَعْلِيم ف 9 - 10) .
وَمِنْ آدَابِهِ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَل الأَْحْوَال وَأَكْرَمِ الشَّمَائِل، وَأَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ كُل مَا نَهَى الْقُرْآنُ عَنْهُ إِجْلاَلاً لِلْقُرْآنِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّنًا عَنْ دَنِيءِ الاِكْتِسَابِ، شَرِيفَ النَّفْسِ، مُتَرَفِّعًا عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْجُفَاةِ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا، مُتَوَاضِعًا لِلصَّالِحِينَ وَأَهْل الْخَيْرِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ وَضَحَ لَكُمُ الطَّرِيقُ، وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لاَ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 475.
(2) ابن عابدين 1 / 366، وتفسير الجصاص 1 / 49 ط. البهية المصرية.(33/37)
تَكُونُوا عِيَالاً عَلَى النَّاسِ (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ أَنْ يَحْذَرَ كُل الْحَذَرِ مِنِ اتِّخَاذِ الْقُرْآنِ مَعِيشَةً يَكْتَسِبُ بِهَا (2) ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِجَارَة ف 109 - 110) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى تِلاَوَتِهِ وَيُكْثِرَ مِنْهَا (4) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلاَوَةَ آيَاتِ اللَّهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ أَنَاءَ اللَّيْل} (5) وَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ (6) ، فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِْبِل فِي عُقُلِهَا (7)
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 71.
(2) التبيان ص 73.
(3) حديث: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 73) وقال: رواه الطبراني، و، ورجاله ثقات.
(4) التبيان ص 78.
(5) سورة آل عمران / 113.
(6) البرهان في علوم القرآن 1 / 458.
(7) حديث: " تعاهدوا هذا القرآن. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 79) ، ومسلم (1 / 545) من حديث أبي موسى الأشعري، و، واللفظ لمسلم.(33/37)
وَقَال: بِئْسَمَا لأَِحَدِهِمْ يَقُول: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَل هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَال مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا (1) .
آدَابُ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ:
18 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهُ حَرْفًا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَوْ زَادَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَافِرٌ (2) .
تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ:
19 - كِتَابُ اللَّهِ بَحْرُهُ عَمِيقٌ، وَفَهْمُهُ دَقِيقٌ، لاَ يَصِل إِلَى فَهْمِهِ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْعُلُومِ وَعَامَل اللَّهَ بِتَقْوَاهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَأَجَلَّهُ عِنْدَ مَوَاقِفِ الشُّبُهَاتِ (3) ، وَلِهَذَا قَال الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْكَلاَمُ فِي مَعَانِيهِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لِلْعُلَمَاءِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ، وَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّفْسِيرِ جَامِعًا لِلأَْدَوَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَعْنَاهُ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمُرَادُ، فَسَّرَهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ،
__________
(1) حديث: " بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 79) ، ومسلم (1 / 544) واللفظ لمسلم.
(2) التبيان ص 202.
(3) البرهان في علوم القرآن 2 / 153.(33/38)
كَالْمَعَانِي وَالأَْحْكَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالإِْعْرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ، كَالأُْمُورِ الَّتِي طَرِيقُهَا النَّقْل وَتَفْسِيرُ الأَْلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْكَلاَمُ فِيهِ إِلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ (1) .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعٍ لأَِدَوَاتِهِ، فَحَرَامٌ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَنْقُل التَّفْسِيرَ عَنِ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَفْسِير ف 9، 10) .
تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ (2) .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لاَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لاَ تَجُوزُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) ، وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ (4) .
__________
(1) التبيان ص 204.
(2) مواهب الجليل 1 / 519، وروضة الطالبين 1 / 244، وكشاف القناع 1 / 340.
(3) سورة الزخرف / 3.
(4) بدائع الصنائع 1 / 112، وتبيين الحقائق 1 / 110.(33/38)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَرْجَمَة ف 6 وَقِرَاءَة) .
وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيل مَعْنَاهُ، فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ (1) .
وَتَكُونُ تِلْكَ التَّرْجَمَةُ عِبَارَةً عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَتَفْسِيرًا لَهُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ (2) .
(ر: تَرْجَمَة ف 3 - 5) .
سُوَرُ الْقُرْآنِ:
21 - انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الأَْئِمَّةِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، الَّتِي جَمَعَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَتَبَ بِهَا الْمَصَاحِفَ، وَبَعَثَ كُل مُصْحَفٍ إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مُدُنِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُعَرَّجُ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ عَدَدَهَا مِائَةٌ وَسِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً، وَلاَ عَلَى قَوْل مَنْ قَال: مِائَةٌ وَثَلاَثَ عَشْرَةَ سُورَةً بِجَعْل الأَْنْفَال وَبَرَاءَةٌ سُورَةً، وَجَعَل بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيل وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً، وَبَعْضُهُمْ جَعَل الْمُعَوِّذَتَيْنِ سُورَةً، وَكُل ذَلِكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لاَ الْتِفَاتَ إِلَيْهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي تَرْتِيبِ نُزُول سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَشَكْلِهِ وَنَقْطِهِ وَتَحْزِيبِهِ وَتَعْشِيرِهِ وَعَدَدِ
__________
(1) الموافقات 2 / 68.
(2) كشاف القناع 1 / 340 - 341.
(3) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز لمجد الدين الفيروز آبادي 1 / 97 ط. المكتبة العلمية.(33/39)
حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيِهِ يُنْظَرُ (مُصْحَف) .
خَتْمُ الْقُرْآنِ:
22 - كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُمْ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي قَدْرِ مَا يَخْتِمُونَ فِيهِ (1) .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً، وَبَعْضُهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى ثَلاَثٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ فِي الشَّهْرِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالاِخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُل لَهُ كَمَال فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولاً بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَحْصُل بِسَبَبِهِ إِخْلاَلٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَل وَالْهَذْرَمَةِ (3) .
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْخَتْمَ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (4) .
وَقَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ
__________
(1) التبيان ص 78.
(2) إحياء علوم الدين 1 / 282.
(3) التبيان ص 81 - 82 (والهذرمة: السرعة في القراءة) .
(4) التبيان ص 82.(33/39)
ثَلاَثٍ، (1) يُحْتَمَل أَنَّهُ الأَْفْضَل فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ أَنَّهُ الأَْفْضَل فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو، لِمَا عُلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ، وَعُلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنِ اسْتِدَامَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حُدَّ لَهُ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُل لَيْلَةٍ فَقَال: مَا أُحْسِنُ ذَلِكَ. إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُ كُل خَيْرٍ (2) .
23 - وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ عَقِبَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، لِحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مَرْفُوعًا مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ (3) . وَيُسَنُّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخَتْمَةِ أَنْ يَشْرَعَ فِي أُخْرَى عَقِبَ الْخَتْمِ (4) ، لِحَدِيثِ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ الْحَال الْمُرْتَحِل، الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّل الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، كُلَّمَا حَل ارْتَحَل (5) .
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يختم في سبع أو ثلاث " ورد ضمن حديثين الأول فيه ذكر السبع. أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 94) والثاني فيه ذكر الثلاث. أخرجه أحمد (2 / 198) .
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 471.
(3) حديث: " من ختم القرآن فله دعوة مستجابة " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18 / 259) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 172) وقال: فيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف.
(4) الإتقان 1 / 346.
(5) حديث: " أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل. . . " أخرجه الترمذي (5 / 198) من حديث ابن عباس وقال: إسناده ليس بالقوي.(33/40)
نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ:
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُرْجَى أَنْ يَجُوزَ (1) .
النُّشْرَةُ:
25 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّشْرَةِ وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَمْسَحَ بِهِ الْمَرِيضَ أَوْ يَسْقِيَهُ، فَأَجَازَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قِيل: الرَّجُل يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَل عَنْهُ وَيُنَشَّرُ؟ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ (2) .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ قَال: لاَ يَجُوزُ ابْتِلاَعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ، وَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْل الأَْطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ (3) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: النُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ، فَهِيَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 323، والزرقاني 1 / 93، وروضة الطالبين 1 / 80، والتبيان ص 213، وكشاف القناع 1 / 137.
(2) تفسير القرطبي 10 / 318، والآداب الشرعية 3 / 73.
(3) البرهان في علوم القرآن 1 / 476، وكشاف القناع 2 / 77، وشرح منتهى الإرادات 1 / 320، ومطالب أولي النهى 1 / 836.(33/40)
كَوُضُوءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (2) ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل (3) .
وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 319.
(2) حديث: " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " أخرجه مسلم (4 / 1727) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(3) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " أخرجه مسلم (4 / 1726) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) تفسير القرطبي 10 / 318.(33/41)
قِرَاءَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِرَاءَاتُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ قِرَاءَةٍ وَهِيَ التِّلاَوَةُ (1) .
وَالْقِرَاءَاتُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَاخْتِلاَفِهَا مَعْزُوًّا لِنَاقِلِهِ.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ: كَلِمَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَفَائِدَتُهُ: صِيَانَتُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُبْنَى عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
2 - الْقُرْآنُ: هُوَ الْكَلاَمُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة (قرأ) .
(2) إتحاف فضلاء البشر ص 5، وإبراز المعاني من حرز الأماني ص 12.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني ص 29.(33/41)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَاتُ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيَانِ وَالإِْعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ اخْتِلاَفُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ، مِنَ الْحُرُوفِ وَكَيْفِيَّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا (1) .
أَرْكَانُ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ:
3 - قَال ابْنُ الْجَزَرِيِّ: كُل قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ - وَلَوْ بِوَجْهٍ - وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ - وَلَوِ احْتِمَالاً - وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لاَ يَجُوزُ رَدُّهَا، وَلاَ يَحِل إِنْكَارُهَا، بَل هِيَ مِنَ الأَْحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الأَْئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشَرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَل رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ الثَّلاَثَةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةً، أَوْ شَاذَّةً، أَوْ بَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
قَال أَبُو شَامَةَ: فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُل قِرَاءَةٍ تُعْزَى إِلَى أَحَدِ السَّبْعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ هَكَذَا، إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1 / 80، وإتحاف فضلاء البشر ص 5.(33/42)
الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُل قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلاَءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِل عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَل عَنْ غَيْرِهِمْ (1) .
الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ:
4 - الْخِلاَفُ فِي الْقِرَاءَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الإِْمَامِ، أَوْ إِلَى الرَّاوِي عَنِ الإِْمَامِ، أَوْ إِلَى الآْخِذِ عَنِ الرَّاوِي.
فَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ مَنْسُوبًا لإِِمَامٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ فَهُوَ قِرَاءَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا لِلرَّاوِي عَنِ الإِْمَامِ فَهُوَ رِوَايَةٌ، وَكُل مَا نُسِبَ لِلآْخِذِ عَنِ الرَّاوِي وَإِنْ سَفَل فَهُوَ طَرِيقٌ.
وَهَذَا هُوَ الْخِلاَفُ الْوَاجِبُ، فَهُوَ عَيْنُ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ مُلْزَمٌ بِالإِْتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، فَلَوْ أَخَل بِشَيْءٍ مِنْهَا عُدَّ ذَلِكَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا الْخِلاَفُ الْجَائِزُ، فَهُوَ خِلاَفُ الأَْوْجُهِ الَّتِي عَلَى سَبِيل التَّخْيِيرِ وَالإِْبَاحَةِ، كَأَوْجُهِ الْبَسْمَلَةِ، وَأَوْجُهِ الْوَقْفِ عَلَى عَارِضِ السُّكُونِ، فَالْقَارِئُ مُخَيَّرٌ فِي الإِْتْيَانِ بِأَيِّ وَجْهٍ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 9 ط. المكتبة التجارية الكبرى، والإتقان 1 / 75 ط. مصطفى الحلبي 1935 م، وإتحاف فضلاء البشر ص 6.(33/42)
مِنْهَا، غَيْرُ مُلْزَمٍ بِالإِْتْيَانِ بِهَا كُلِّهَا، فَلَوْ أَتَى بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ، وَلاَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَهَذِهِ الأَْوْجُهُ الاِخْتِيَارِيَّةُ لاَ يُقَال لَهَا قِرَاءَاتٌ، وَلاَ رِوَايَاتٌ، وَلاَ طُرُقٌ، بَل يُقَال لَهَا أَوْجُهٌ فَقَطْ (1) .
أَنْوَاعُ الْقِرَاءَاتِ:
5 - قَال الإِْمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلاَثُ خِلاَلٍ وَهُنَّ: أَنْ يُنْقَل عَنِ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا، وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلاَل الثَّلاَثُ قُرِئَ بِهِ، وَقُطِعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ؛ لأَِنَّهُ أُخِذَ عَنْ إِجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الآْحَادِ، وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا يُقْبَل وَلاَ يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، إِنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الآْحَادِ، وَلاَ يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر 17 - 18، والبدور الزاهرة ص 10.(33/43)
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، فَلاَ يُقْطَعُ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ، وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلاَ يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ، وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ، أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلاَ وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهَذَا لاَ يُقْبَل وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالسُّيُوطِيُّ كَلاَمَ أَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيٍّ (1) .
6 - وَتَنْقَسِمُ الْقِرَاءَاتُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
الأَْوَّل: الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، عَنْ مِثْلِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَغَالِبُ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْمُتَوَاتِرِ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنَ الْغَلَطِ، وَلاَ مِنَ الشُّذُوذِ، وَيُقْرَأُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَا اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ فِي نَقْلِهِ عَنِ السَّبْعَةِ، فَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
الثَّالِثُ: الآْحَادُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَخَالَفَ الرَّسْمَ أَوِ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ لَمْ يَشْتَهِرِ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 14 ط، المكتبة التجارية الكبرى. والإتقان في علوم القرآن 1 / 76 ط. مصطفى الحلبي 1935 م.(33/43)
الاِشْتِهَارَ الْمَذْكُورَ، وَلاَ يُقْرَأُ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ لِذَلِكَ بَابًا أَخْرَجَا فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا صَحِيحَ الإِْسْنَادِ.
الرَّابِعُ: الشَّاذُّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ.
الْخَامِسُ: الْمَوْضُوعُ، كَقِرَاءَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
قَال السُّيُوطِيُّ: وَظَهَرَ لِي سَادِسٌ يُشْبِهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الْمُدْرَجِ، وَهُوَ مَا زِيدَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ) (1) ، وَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) (2)
الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالشَّاذَّةُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ قِرَاءَاتُ قُرَّاءِ الإِْسْلاَمِ الْمَشْهُورِينَ الْعَشَرَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْقُرْآنُ الَّذِي تَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ بِالاِتِّفَاقِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْمَصَاحِفِ
__________
(1) قوله تعالى: (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) سورة النساء / 12.
(2) قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) سورة البقرة / 198. انظر الإتقان في علوم القرآن 1 / 241، 242، 243 ط. دار ابن كثير 1987 م.(33/44)
الأَْئِمَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الأَْمْصَارِ، وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الأَْئِمَّةُ الْعَشَرَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَوَاتِرُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً، فَمَا فَوْقَ السَّبْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ غَيْرُ شَاذٍّ، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَال الْعَدَوِيُّ: الشَّاذُّ عِنْدَ ابْنِ السُّبْكِيِّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي أُصُولِهِ مَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ، وَقَوْل ابْنِ السُّبْكِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الأُْصُول، وَقَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ مَرْجُوعٌ فِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ سَبْعٌ فَقَطْ، وَهِيَ قِرَاءَاتُ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَمَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ شَاذٌّ
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الشَّاذَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ وَغَيْرُهُ (1) .
أَشْهَرُ الْقُرَّاءِ وَرُوَاتُهُمْ:
8 - الْقِرَاءَاتُ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ، قِرَاءَاتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ.
فَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَوَاتُرِهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 326، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 25، وشرح روض الطالب 1 / 63، ومطالب أولي النهى 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 345.(33/44)
سَبْعَةٌ، وَهُمْ:
1 - نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ أَبُو رُوَيْمٍ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ اللَّيْثِيُّ وَرَاوِيَاهُ: قَالُونُ، وَوَرْشٌ.
2 - ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ. وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ، وَقُنْبُلٌ.
3 - أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ زَبَّانُ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الدُّورِيُّ، وَالسُّوسِيُّ.
4 - ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ الْيَحْصُبِيُّ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، قَاضِي دِمَشْقَ فِي خِلاَفَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُكَنَّى أَبَا عِمْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: هِشَامٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ.
5 - عَاصِمٌ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَيُقَال لَهُ ابْنُ بَهْدَلَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: شُعْبَةُ، وَحَفْصٌ.
6 - حَمْزَةُ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ الزَّيَّاتُ الْفَرَضِيُّ التَّيْمِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ، وَرَاوِيَاهُ: خَلَفٌ، وَخَلاَّدٌ.
7 - الْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ النَّحْوِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَرَاوِيَاهُ: أَبُو الْحَارِثِ، وَحَفْصٌ الدُّورِيُّ.(33/45)
وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَوَاتُرِهَا ثَلاَثَةٌ، وَهُمْ:
1 - أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَرَاوِيَاهُ: ابْنُ وَرْدَانَ، وَابْنُ جَمَّازٍ.
2 - يَعْقُوبُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: رُوَيْسٌ، وَرَوْحٌ.
3 - خَلَفٌ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ خَلَفُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ثَعْلَبٍ الْبَزَّازُ الْبَغْدَادِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: إِسْحَاقُ، وَإِدْرِيسُ.
(وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ هُمْ:
1 - ابْنُ مَحِيصٍ: وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ السَّابِقُ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَنَبُوذَ.
2 - الْيَزِيدِيُّ: وَهُوَ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ، وَرَاوِيَاهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَحْمَدُ بْنُ فَرْحٍ.
3 - الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ، وَرَاوِيَاهُ: شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْبَلْخِيُّ، وَالدُّورِيُّ أَحَدُ رَاوِيَيْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاَءِ.
4 - الأَْعْمَشُ: وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: الْحَسَنُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، وَأَبُو الْفَرَجِ الشَّبَنُوذِيُّ الشَّطَوِيُّ (1) .
__________
(1) النشر في القراءات 1 / 54، وإتحاف فضلاء البشر ص 7.(33/45)
الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الصَّلاَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَاخْتَارَ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ (1) .
وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل ذَلِكَ، وَحُكْمُ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 326، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 25، والمجموع شرح المهذب 3 / 392، وكشاف القناع 1 / 345.(33/46)
قِرَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِرَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: التِّلاَوَةُ، يُقَال قَرَأَ الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا: تَتَبَّعَ كَلِمَاتِهِ نَظَرًا، نَطَقَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْطِقْ.
وَقَرَأَ الآْيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: نَطَقَ بِأَلْفَاظِهَا عَنْ نَظَرٍ أَوْ عَنْ حِفْظٍ فَهُوَ قَارِئٌ، وَالْجَمْعُ قُرَّاءٌ، وَقَرَأَ السَّلاَمَ عَلَيْهِ قِرَاءَةً: أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ، وَقَرَأَ الشَّيْءَ قُرْءًا وَقُرْآنًا: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.
وَاقْتَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ: قَرَأَهُ، وَاسْتَقْرَأَهُ: طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ، وَقَارَأَهُ مُقَارَأَةً وَقِرَاءً: دَارَسَهُ.
وَالْقَرَّاءُ: الْحَسَنُ الْقِرَاءَةِ (1) .
وَالْقِرَاءَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ بِلِسَانِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَفِي قَوْلٍ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ (2) .
__________
(1) القاموس المحيط والمعجم الوسيط مادة (قرأ) .
(2) غنية المتملي في شرح منية المصلي 275 ط. دار سعادت 1325 هـ، وجواهر الإكليل 1 / 47، وشرح روض الطالب 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 332.(33/46)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّلاَوَةُ:
2 - التِّلاَوَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِرَاءَةُ، تَقُول: تَلَوْتُ الْقُرْآنَ تِلاَوَةً قَرَأْتَهُ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى تَبِعَ، تَقُول: تَلَوْتُ الرَّجُل أَتْلُوهُ تُلُوًّا: تَبِعْتَهُ، وَتَتَالَتِ الأُْمُورُ: تَلاَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْخِذْلاَنِ (1) .
وَالتِّلاَوَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعَةً (2) .
وَفِي فُرُوقِ أَبِي هِلاَلٍ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتِّلاَوَةِ: أَنَّ التِّلاَوَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِكَلِمَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالْقِرَاءَةُ تَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، يُقَال قَرَأَ فُلاَنٌ اسْمَهُ، وَلاَ يُقَال تَلاَ اسْمَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْل التِّلاَوَةِ اتِّبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ، يُقَال تَلاَهُ: إِذَا تَبِعَهُ، فَتَكُونُ التِّلاَوَةُ فِي الْكَلِمَاتِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلاَ تَكُونُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِذْ لاَ يَصِحُّ فِيهَا التُّلُوُّ (3) .
وَقَال صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ مِنَ التِّلاَوَةِ (4) .
ب - التَّرْتِيل:
3 - التَّرْتِيل فِي اللُّغَةِ: التَّمَهُّل وَالإِْبَانَةُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (تلو) .
(2) الكليات 2 / 95.
(3) الفروق لأبي هلال العسكري ص 48.
(4) الكليات 2 / 95.(33/47)
يُقَال رَتَّل الْكَلاَمَ: أَحْسَنَ تَأْلِيفَهُ وَأَبَانَهُ وَتَمَهَّل فِيهِ.
وَالتَّرْتِيل فِي الْقِرَاءَةِ: التَّرَسُّل فِيهَا وَالتَّبْيِينُ مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ (1) .
وَالتَّرْتِيل اصْطِلاَحًا: التَّأَنِّي فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّمَهُّل وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْتِيل عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِرَاءَةِ
أَوَّلاً: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
أ - الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلاَةِ:
مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، فَتَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ كُل صَلاَةٍ، فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقِرَاءَةِ فِي
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) تفسير القرطبي 1 / 17 ط. دار الكتب المصرية، والمغرب 183.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 237) ، ومسلم (1 / 295) من حديث عبادة بن الصامت، والرواية الأخرى أخرجها الدارقطني (1 / 322) . وصحح إسنادها.(33/47)
الصَّلاَةِ يَتَحَقَّقُ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . (1)
أَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 38) .
وَيَقْصِدُونَ بِالآْيَةِ هُنَا الطَّائِفَةَ مِنَ الْقُرْآنِ مُتَرْجَمَةً - أَيِ اعْتُبِرَ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَقْطَعٌ - وَأَقَلُّهَا سِتَّةُ أَحْرُفٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ} . (2)
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ ثَلاَثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ (3) .
مَا يُسَنُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، فَإِنْ أَتَى بِهَا انْتَفَتِ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، أَمَّا مَا يَحْصُل بِهِ أَصْل السُّنَّةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة الإخلاص / 3.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 300، 360، وفتح القدير 1 / 234، وحاشية الدسوقي 1 / 231، 236، ومغني المحتاج 1 / 155، 156، وكشاف القناع 1 / 336، 386.(33/48)
مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 66) .
كَمَا سَبَقَ تَفْصِيل مَا يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَهُ مِنَ الْمُفَصَّل فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة ف 66) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَصَّل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طِوَال الْمُفَصَّل مِنَ (الْحُجُرَاتِ) إِلَى (الْبُرُوجِ) ، وَالأَْوْسَاطَ مِنْهَا إِلَى (لَمْ يَكُنْ) ، وَالْقِصَارَ مِنْهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ طِوَال الْمُفَصَّل مِنَ (الْحُجُرَاتِ) إِلَى (النَّازِعَاتِ) ، وَأَوْسَاطُهُ مِنْ (عَبَسَ) إِلَى (الضُّحَى) ، وَقِصَارُهُ مِنَ (الضُّحَى) إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: طِوَال الْمُفَصَّل كَالْحُجُرَاتِ وَاقْتَرَبَتْ وَالرَّحْمَنُ، وَأَوْسَاطُهُ كَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى، وَقِصَارُهُ كَالْعَصْرِ وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل سُورَةُ ق، لِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَال: " سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلاَثٌ وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّل وَحْدَهُ ". (1)
قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل
__________
(1) حديث أوس بن حذيفة: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (2 / 116) .(33/48)
السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالأَْرْبَعُونَ مِنْ أَوَّل الْبَقَرَةِ لاَ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَآخِرَ طِوَالِهِ سُورَةُ عَمَّ، وَأَوْسَاطَهُ مِنْهَا لِلضُّحَى، وَقِصَارَهُ مِنْهَا لآِخِرِ الْقُرْآنِ (1) .
مَا يُكْرَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَمَا يَجُوزُ فِي الصَّلاَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ، بَل اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ وَالإِْنْسَانِ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِمَا لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ مُلاَزَمَةُ سُورَةٍ يُحْسِنُ غَيْرَهَا مَعَ اعْتِقَادِهِ جَوَازَ غَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالسَّجْدَةِ وَالإِْنْسَانِ لِفَجْرِ الْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ لِلْجُمُعَةِ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الْمُدَاوَمَةُ مُطْلَقًا مَكْرُوهَةٌ سَوَاءٌ رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ أَوْ لاَ، لإِِيهَامِهِ التَّعْيِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا تَبَرُّكًا بِالْمَأْثُورِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 362، وتبيين الحقائق 1 / 129، وحاشية الدسوقي 1 / 242، 247، والخرشي على خليل 1 / 274، وشرح روض الطالب 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 161، وكشاف القناع 1 / 342، ومطالب أولي النهى 1 / 435، 436.
(2) فتح القدير 1 / 238، حاشية الدسوقي 1 / 242، مغني المحتاج 1 / 163، شرح روض الطالب 1 / 155، كشاف القناع 1 / 374.(33/49)
وَكَرِهَ مَالِكٌ الاِقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ آخِرَ سُورَةٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ آخِرَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (1) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا} (2) وَفِي الثَّانِيَةِ قَوْله تَعَالَى: {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} . (3)
لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السُّورَةَ الْكَامِلَةَ أَفْضَل مِنْ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ؛ لأَِنَّ الاِبْتِدَاءَ بِهَا وَالْوَقْفَ عَلَى آخِرِهَا صَحِيحَانِ بِالْقَطْعِ بِخِلاَفِهِمَا فِي بَعْضِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُمَا يَخْفَيَانِ، وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ، أَمَّا فِيهَا فَقِرَاءَةُ بَعْضِ الطَّوِيلَةِ أَفْضَل، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ، بَل صَرَّحُوا بِأَنَّ كُل مَحَلٍّ وَرَدَ فِيهِ الأَْمْرُ بِالْبَعْضِ فَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ أَفْضَل كَقِرَاءَةِ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآل عِمْرَانَ فِي
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة البقرة / 136.
(3) سورة آل عمران / 64، والحديث أخرجه مسلم (1 / 502) .(33/49)
رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ، لَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَل، وَلَوْ فَعَل لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِكَرَاهَةِ الاِنْتِقَال مِنْ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ إِلَى آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى، أَوْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَبَيْنَهُمَا آيَاتٌ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ كُل الْقُرْآنِ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَلِلإِْطَالَةِ، وَلاَ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ كُلِّهِ فِي نَفْلٍ؛ لأَِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَلاَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى تَرْتِيبِهِ.
قَال حَرْبٌ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي الصَّلاَةِ، الْيَوْمَ سُورَةً وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا؟ قَال: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ فِي الْمُفَصَّل وَحْدَهُ (3) .
مَا يَحْرُمُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ تَرَكَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا أَصْلِيًّا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 242، وحاشية الدسوقي 1 / 242، ومغني المحتاج 1 / 162، كشاف القناع 1 / 374.
(2) فتح القدير 1 / 242 - 243.
(3) كشاف القناع 1 / 375.
(4) ابن عابدين 1 / 497.(33/50)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الآْيَاتِ الْمُتَلاَصِقَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ كَكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً فَإِذَا بَدَأَ بِنِصْفِهَا الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ بَدَأَ بِهِ عَامِدًا أَمْ سَاهِيًا وَيَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ. هَذَا مَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى. فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْلاَل نَظْمِهِ كَلاَمًا أَجْنَبِيًّا يُبْطِل الصَّلاَةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ عَمَّا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: قَال فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ " وَظَاهِرُهُ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ " (3)
الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ: كَالصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَيُسِرُّ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 242.
(2) حاشية القليوبي وعميرة 1 / 149، وروض الطالب 1 / 151.
(3) كشاف القناع 1 / 345.(33/50)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَهْرِ عَلَى الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ وَالإِْسْرَارِ فِي الصَّلاَةِ غَيْرِ الْجَهْرِيَّةِ (1) .
كَمَا يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ فِي الصُّبْحِ وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُخَيَّرُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتْ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَهْر ف 7) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاِعْتِبَارِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُسْمِعَ الْقَارِئُ نَفْسَهُ، فَلاَ تَكْفِي حَرَكَةُ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ إِسْمَاعٍ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ لاَ يُسَمَّى قِرَاءَةً بِلاَ صَوْتٍ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ اسْمٌ لِمَسْمُوعٍ مَفْهُومٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَضْلِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمَشَايِخُ.
وَاخْتَارَ الْكَرْخِيُّ عَدَمَ اعْتِبَارِ السَّمَاعِ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْل اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحُرُوفِ دُونَ الصِّمَاخِ؛ لأَِنَّ السَّمَاعَ فِعْل السَّامِعِ لاَ الْقَارِئِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا.
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 126، 127، وحاشية الدسوقي 1 / 242، 243، ومغني المحتاج 1 / 162، وكشاف القناع 1 / 332.
(2) المراجع السابقة، وكشاف القناع 1 / 343.(33/51)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَتَكْفِي عِنْدَهُمْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ، أَمَّا إِجْرَاؤُهَا عَلَى الْقَلْبِ دُونَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ فَلاَ يَكْفِي، لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِسْمَاعَ نَفْسِهِ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ (1) .
اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ فِي الْقِرَاءَةِ إِنْ كَانَ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ مَعَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّحْنِ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا بِأَنْ قَرَأَ: {وَعَصَى آدَمَ رَبُّهُ} (2) ، بِنَصَبِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الرَّبِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - مِمَّا لَوْ تَعَمَّدَ بِهِ يَكْفُرُ - إِذَا قَرَأَهُ خَطَأً فَسَدَتْ صَلاَتُهُ فِي قَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَال الْمُتَأَخِّرُونَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَّمٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلْخِيُّ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْل، وَالشَّيْخُ الإِْمَامُ الزَّاهِدُ وَشَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ
__________
(1) غنية المتملي 275، وفتح القدير 1 / 233، وجواهر الإكليل 1 / 47، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 237، ومغني المحتاج 1 / 156، وكشاف القناع 1 / 332.
(2) والآية (وعصى آدم ربه فغوى) سورة طه / 121.(33/51)
أَحْوَطُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لاَ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَوْسَعُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إِعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ وَلَوْ غَيَّرَ الْمَعْنَى لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِذَا كَانَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَامِدًا عَالِمًا قَادِرًا، وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنْ قَدَرَ وَأَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، وَإِلاَّ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِنْ كَانَ يُحِيل الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى إِصْلاَحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلاَحِهِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَقَطِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) ، وَلاَ يَقْرَأُ مَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ قَرَأَ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَيَكْفُرُ إِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ، وَإِنْ قَرَأَ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلاً أَوْ خَطَأً لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ، ومسلم (2 / 975) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 81، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 236، والقليوبي وعميرة 1 / 231، وكشاف القناع 1 / 481، والإنصاف 2 / 270.(33/52)
قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلاَةُ جَهْرِيَّةً أَوْ سِرِّيَّةً لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِْمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ (1) ، قَال ابْنُ قُنْدُسٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ إِنَّمَا تَقُومُ عَنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ إِذَا كَانَتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ صَحِيحَةً، احْتِزَازًا عَنِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ صَلاَةِ الْمَأْمُومِ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رُكْنِ الصَّلاَةِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَأْمُومِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ مِنْ أَعْيَانِ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ مَنِ اسْتَثْنَاهُ. نَعَمْ وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ كَلاَمِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْشْيَاخِ وَالأَْخْبَارِ خِلاَفُهُ لِلْمَشَقَّةِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي السِّرِّيَّةِ.
__________
(1) حديث: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " أخرجه ابن ماجه (1 / 277) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 175) .(33/52)
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تَجِبُ فِي صَلاَةِ السِّرِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال بِلُزُومِهَا لِلْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لاَ يَقْرَأُ مُطْلَقًا خَلْفَ الإِْمَامِ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ الإِْمَامِ، فَإِنْ قَرَأَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ فِي الأَْصَحِّ.
قَالُوا: وَيَسْتَمِعُ الْمَأْمُومُ إِذَا جَهَرَ الإِْمَامُ وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ خَلْفَهُ قَوْمٌ، فَنَزَلَتْ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
(2) قَال أَحْمَدُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ فِي الصَّلاَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: وَحَاصِل الآْيَةِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَا أَمْرَانِ: الاِسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ فَيُعْمَل بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالأَْوَّل يُخَصُّ بِالْجَهْرِيَّةِ وَالثَّانِي لاَ، فَيَجْرِي عَلَى إِطْلاَقِهِ فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: لاَ قِرَاءَةَ مَعَ الإِْمَامِ فِي شَيْءٍ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 236 - 237، والخرشي على خليل 1 / 269، وكشاف القناع 1 / 386، والإنصاف 2 / 228.
(2) حديث ابن عباس: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي (3 / 155) . والآية من سورة الأعراف / 204.(33/53)
وَمَنْعُ الْمُؤْتَمِّ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَأْثُورٌ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّ الْمَأْمُومَ مُخَاطَبٌ بِالاِسْتِمَاعِ إِجْمَاعًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يُنَافِيهِ، إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَصَارَ نَظِيرَ الْخُطْبَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالاِسْتِمَاعِ لاَ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ أَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بَل لاَ يَجُوزُ، فَكَذَا هَذَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا سِرِّيَّةً كَانَتْ أَوْ جَهْرِيَّةً (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. (4)
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ حَال جَهْرِ الإِْمَامِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَال مَا إِذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَهُ لاَ يَقْرَأُ السُّورَةَ أَوْ إِلاَّ سُورَةً قَصِيرَةً وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا مَعَ الإِْمَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الإِْمَامِ أَوْ إِذَا كَانَ لاَ يَسْمَعُ الإِْمَامَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 131، وحاشية ابن عابدين 1 / 366.
(2) مغني المحتاج 1 / 156، وشرح روض الطالب 1 / 149.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " تقدم فقرة 4.
(4) حديث: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها. . . ". تقدم ف 4.(33/53)
لِبُعْدِهِ أَوْ لِصَمَمٍ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الإِْمَامِ الْفَاتِحَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مُقْتَضَى نُصُوصِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَفْضَل.
قَال فِي جَامِعِ الاِخْتِيَارَاتِ: مُقْتَضَى هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ غَيْرُهَا أَفْضَل إِذَا سَمِعَهَا وَإِلاَّ فَهِيَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا (1) .
الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ (2) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ. (3)
وَلأَِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَالَتَا ذُلٍّ فِي
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 1 / 58، والإنصاف 2 / 229 وما بعدها.
(2) حديث: " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا. . . " أخرجه مسلم (1 / 348) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد " أخرجه مسلم (1 / 349) .(33/54)
الظَّاهِرِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْقَارِئِ التَّلَبُّسُ بِحَالَةِ الرِّفْعَةِ وَالْعَظَمَةِ ظَاهِرًا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَحَل الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا قَصَدَ بِهَا الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ قَصَدَ بِهَا الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ (1) .
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ عَجَزَ وَتَفْسُدُ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَال: أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: كَذَبْتَ. فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 440، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 253، وشرح روض الطالب 1 / 157، والمجموع شرح المهذب للنووي 3 / 414، وكشاف القناع 1 / 348.(33/54)
إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَال: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: فَلَوْ جَازَتِ التَّرْجَمَةُ لأََنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِرَاضَهُ فِي شَيْءٍ جَائِزٍ.
وَلأَِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ هَذَا النَّظْمُ الْمُعْجِزُ، وَبِالتَّرْجَمَةِ يَزُول الإِْعْجَازُ فَلَمْ تَجُزْ، وَكَمَا أَنَّ الشِّعْرَ يُخْرِجُهُ تَرْجَمَتُهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا فَكَذَا الْقُرْآنُ إِضَافَةً إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالاِتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الاِخْتِرَاعِ، وَطَرِيقُ الْقِيَاسِ مَفْسَدَةٌ فِيهَا (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ آخَرَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَْوَّلِينَ} (3) ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذَا النَّظْمِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُْولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
__________
(1) حديث عمر بن الخطاب: " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 23) .
(2) المجموع شرح المهذب للنووي 3 / 379 - 381، وكشاف القناع 1 / 340.
(3) سورة الشعراء / 196.(33/55)
وَمُوسَى} (1) ، فَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَصُحُفُ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَدَل عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا حَيْثُ وَقَعَ الإِْعْجَازُ بِهِمَا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَل النَّظْمَ رُكْنًا لاَزِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلاَةِ خَاصَّةً رُخْصَةً؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِحَالَةِ الإِْعْجَازِ، وَقَدْ جَاءَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ التِّلاَوَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَكَذَا هُنَا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) ، وَقَال تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) ، وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ، وَلأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمَ الْخَاصَّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، وَالأَْعْجَمِيُّ إِنَّمَا يُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَنْهُ.
وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَيُرْوَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا.
__________
(1) سورة الأعلى / 19.
(2) سورة الزخرف / 3.
(3) سورة يوسف / 2.(33/55)
قَال الشَّلَبِيُّ نَقْلاً عَنِ الْعَيْنِيِّ: صَحَّ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلاَثَةُ - أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ - عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَصِحَّةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ (1) .
الْقِرَاءَةُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَات ف 7) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَقْرَأَ بِالرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ وَالإِْمَالاَتِ عِنْدَ الْعَوَامِّ صِيَانَةً لِدِينِهِمْ؛ لأَِنَّ بَعْضَ السُّفَهَاءِ يَقُولُونَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ فَيَقَعُونَ فِي الإِْثْمِ وَالشَّقَاءِ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلأَْئِمَّةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْعَوَامَّ عَلَى مَا فِيهِ نُقْصَانُ دِينِهِمْ فَلاَ يُقْرَأُ عِنْدَهُمْ مِثْل قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ، إِذْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَضْحَكُونَ وَإِنْ كَانَ كُل الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ صَحِيحَةً فَصِيحَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَشَايِخُنَا اخْتَارُوا قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 109 - 110، وحاشية ابن عابدين 1 / 325.(33/56)
مَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَشَرَةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مُصْحَفِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: وَصَحَّ سَنَدُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ، قَال فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ: وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ.
وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْكَسْرِ وَالإِْدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ، وَأَنْكَرَهَا بَعْضُ السَّلَفِ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ.
وَاخْتَارَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَفْسُدُ بِقِرَاءَةِ الشَّاذِّ، وَلَكِنْ لاَ تُجْزِئُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمِنْ ثَمَّ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ مَعَهُ بِالتَّوَاتُرِ، فَالْفَسَادُ لِتَرْكِهِ الْقِرَاءَةَ بِالْمُتَوَاتِرِ لاَ لِلْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، لَكِنْ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِالشَّاذِّ إِلاَّ إِذَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلاَةِ بِالشَّاذِّ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالتَّوَاتُرِ، وَتَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ إِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فِي الْفَاتِحَةِ.(33/56)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ صَلاَتُهُ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَاتِهِمْ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ، وَكَانَتْ صَلاَتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ (1) .
الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ، قَال أَحْمَدُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ، قِيل لَهُ: الْفَرِيضَةُ؟ قَال: لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا شَيْئًا.
وَسُئِل الزُّهْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَال: كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْمَصَاحِفِ.
وَفِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيِّ: قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُل - أَيِ الصَّلاَةُ - لأَِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 326، 363 - 364، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 328، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 2 / 25، والمجموع شرح المهذب 3 / 392، وشرح روض الطالب 1 / 63، 151، والبجيرمي على الخطيب 2 / 22، وكشاف القناع 1 / 345.(33/57)
أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لاَ يُشْعِرُ بِالإِْعْرَاضِ، وَالْقَلِيل مِنَ الْفِعْل الَّذِي يُبْطِل كَثِيرُهُ إِذَا تَعَمَّدَهُ بِلاَ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ (1) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَفَرَّقُوا فِي صَلاَةِ النَّفْل بَيْنَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِهَا، فَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِهِ، وَجَوَّزُوا الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي أَوَّلِهَا؛ لأَِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى فَسَادِ الصَّلاَةِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ مُطْلَقًا، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أُمِّيًّا لاَ يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِلاَّ مِنْهُ أَوْ لاَ، وَذَكَرُوا لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي عِلَّةِ الْفَسَادِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْل الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الأَْوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى الثَّانِي لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُول عِنْدَهُ، وَعَلَى الأَْوَّل يَفْتَرِقَانِ.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ حَافِظًا لِمَا قَرَأَهُ وَقَرَأَ بِلاَ حَمْلٍ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مُضَافَةٌ إِلَى حِفْظِهِ لاَ إِلَى تَلَقُّنِهِ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 156، مطالب أولي النهى 1 / 483 - 484، شرح روض الطالب 1 / 183.
(2) جواهر الإكليل 1 / 74.(33/57)
الْمُصْحَفِ وَمُجَرَّدُ النَّظَرِ بِلاَ حَمْلٍ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِعَدَمِ وَجْهَيِ الْفَسَادِ.
وَقِيل: لاَ تَفْسُدُ مَا لَمْ يَقْرَأْ آيَةً؛ لأَِنَّهُ مِقْدَارُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ - أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - إِلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ إِنْ قَصَدَ التَّشَبُّهَ بِأَهْل الْكِتَابِ (1) .
ب - الْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلاَةِ
حُكْمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
15 - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْل} (2) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وَآنَاءَ النَّهَارِ. . . (3) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الأَْيَّامِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ فِيهَا الْقُرْآنَ.
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُل أُسْبُوعٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 419.
(2) سورة آل عمران / 113.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن 78، شرح روض الطالب 1 / 64. وحديث: " لا حسد إلا في اثنتين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 502) ، ومسلم (1 / 558) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.
(4) حديث: " اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 95) ، ومسلم (2 / 823) .(33/58)
قَالُوا: وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلاَثٍ فَحَسَنٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِي قُوَّةً، قَال: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُل ثَلاَثٍ. (1)
لَكِنْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ سَرْدِ حُرُوفِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَأْخِيرِ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى نِسْيَانِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ، وَبِتَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الْخَتْمِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ إِنْ خَافَ نِسْيَانَهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِحَافِظِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُل أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالاِعْتِبَارُ بِمَا فِيهِ لاَ مُجَرَّدُ التِّلاَوَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4) ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالتَّأَنِّي لاَ بِالتَّوَانِي فِي الْمَعَانِي، فَقَدَّرَ لِلْخَتْمِ أَقَلَّهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، كُل يَوْمٍ حِزْبٌ وَنِصْفٌ أَوْ ثُلُثَا حِزْبٍ، وَقِيل: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَال: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي
__________
(1) حديث: " اقرأ القرآن في كل ثلاث. . . " أخرجه أحمد (2 / 198) .
(2) سورة النساء / 82.
(3) العدوي على شرح الرسالة 2 / 448، ومطالب أولي النهى 1 / 604.
(4) سورة محمد / 24.(33/58)
السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (1) ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثٍ.
(2) قَال النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ آثَارًا عَنِ السَّلَفِ فِي مُدَّةِ خَتْمِ الْقُرْآنِ: وَالاِخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُل لَهُ كَمَال فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولاً بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَحْصُل بِسَبَبِهِ إِخْلاَلٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَل وَالْهَذْرَمَةِ (3)
قِرَاءَةُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ لِلْقُرْآنِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ
__________
(1) غنية المتملي 496، تبيين الحقائق 6 / 229، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 482.
(2) حديث: " لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " أخرجه الترمذي (5 / 198) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن 81 - 82، والفتاوى الحديثية 58.(33/59)
شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِلْقُرْآنِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف 39) .
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (3) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. (4) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَابَة ف 17) .
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ وَالْقَبْرِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَدْبِ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ (5) ،
__________
(1) حديث: " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن " أخرجه الترمذي (1 / 236) من حديث ابن عمر، ونقل عن البخاري إعلاله بأحد رواته.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 195، 199، وحاشية الدسوقي 1 / 174 - 175، ومغني المحتاج 1 / 72، والمجموع 1 / 356، وكشاف القناع 1 / 147، والإنصاف 1 / 347.
(3) بدائع الصنائع 1 / 72، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 67، مغني المحتاج 1 / 37، والمغني لابن قدامة 1 / 143، 144.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن. . . " أخرجه الترمذي (1 / 204) ، والدارقطني (1 / 119) واللفظ للدارقطني، وذكره النووي في المجموع (2 / 159) ونقل عن الشافعي أنه قال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه.
(5) حديث: " اقرءوا يس على موتاكم " أخرجه أبو داود (3 / 489) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (2 / 104) عن ابن القطان أنه أعله بالاضطراب والوقف.(33/59)
أَيْ مَنْ حَضَرَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ (1) .
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا حَسَنَاتٌ (3) ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إِذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ وَعَلَى الْقَبْرِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (احْتِضَار ف 9) وَمُصْطَلَحِ (قَبْر) .
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءُ ثَوَابِهَا لَهُ:
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَدَائِعِ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْل لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الْمَيِّتُ يَصِل إِلَيْهِ كُل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 157، ونهاية المحتاج 2 / 427، 428، والمغني 2 / 450.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 605، 607، والقليوبي وعميرة 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 147.
(3) حديث: " من دخل المقابر فقرأ سورة يس. . . " أورده الزبيدي في إتحاف السادة (10 / 173) وعزاه إلى عبد العزيز صاحب الخلال.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 423، والشرح الصغير 1 / 228.(33/60)
شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُل مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُول ثَوَابِهَا إِلَيْهِ، لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فِي آخِرِ نَوَازِل ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَال عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (2) ، قَال: وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُل وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَل لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ.
وَقَال ابْنُ هِلاَلٍ: الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِل إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ إِذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ، وَبِهِ جَرَى عَمَل الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَوَقَّفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ (3) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605، وكشاف القناع 2 / 147، الإنصاف 2 / 558 - 560.
(2) سورة النجم / 39.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 423.(33/60)
لاَ يَصِل ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُصُول ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ.
قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ - لِلْقَارِئِ، وَيَحْصُل مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، أَوْ يَجْعَل ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلاَ دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلاَ قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الإِْجَارَةِ (1) .
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلاِسْتِشْفَاءِ:
19 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ الاِسْتِشْفَاءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَرِيضِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَى الْجَوَازِ عَمَل النَّاسِ الْيَوْمَ وَبِهِ وَرَدَتِ الآْثَارُ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي.
(2)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 93، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 175 - 176، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 67، 68.
(2) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات. . . " أخرجه مسلم (4 / 1723) .(33/61)
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ الْمَرِيضِ بِالْفَاتِحَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ. (1)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَ {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، وَ {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} مَعَ النَّفْثِ فِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
الاِجْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
20 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الاِجْتِمَاعَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. (3)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ مَعَ نَفَرٍ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا.
__________
(1) حديث: " وما أدراك أنها رقية " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 198) ، ومسلم (4 / 1727) .
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 232، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 453، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي 225 ط. دار الدعوة 1987 م، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 363.
(3) حديث: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله. . . " أخرجه مسلم (4 / 2074) .(33/61)
قَال الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الإِْدَارَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ قَارِئٌ ثُمَّ يَقْطَعَ، ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُ بِمَا بَعْدَ قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الأَْوَّل وَهَكَذَا فَلاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّ جِبْرِيل كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِرَمَضَانَ (1) .
حَكَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَةَ الإِْدَارَةِ حَسَنَةٌ كَالْقِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ عَنْ قِرَاءَةِ الإِْدَارَةِ: هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ، قَدْ سُئِل مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَصَوَّبَهُ الْبُنَانِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مَعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ وَلِلُزُومِ تَخْلِيطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَال صَاحِبُ غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: يُكْرَهُ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ، وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِهِ (2) .
__________
(1) حديث مدارسة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 30) .
(2) غنية المتملي شرح منية المصلي 497. ط. دار سعادت 1325 هـ، وحاشية الدسوقي 1 / 308، والتبيان في آداب حملة القرآن 128، 134، ومطالب أولي النهى 1 / 597 - 598.(33/62)
الأَْمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
21 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُخْتَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الآْيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْلَخِ وَالْمُغْتَسَل وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا إِلاَّ الآْيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْحَمَّامُ طَاهِرًا تَجُوزُ جَهْرًا وَخُفْيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الْجَهْرُ.
وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَجَازَهَا مُحَمَّدٌ وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ لِوُرُودِ الآْثَارِ بِهِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا اسْتَحَبَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتُهَا.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ(33/62)
يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَيَحْرُمُ رَفْعُ صَوْتِ الْقَارِئِ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الاِمْتِهَانِ لِلْقُرْآنِ (1) .
الأَْحْوَال الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالَّتِي تُكْرَهُ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَلْتَهِ عَنْهَا صَاحِبُهَا، فَإِنِ الْتَهَى صَاحِبُهَا عَنْهَا كُرِهَتْ.
قَال فِي غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: الْقِرَاءَةُ مَاشِيًا أَوْ وَهُوَ يَعْمَل عَمَلاً إِنْ كَانَ مُنْتَبِهًا لاَ يَشْغَل قَلْبَهُ الْمَشْيُ وَالْعَمَل جَائِزَةٌ وَإِلاَّ تُكْرَهْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ لِلْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ أَوْ إِلَى حَائِطِهِ، وَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ لِلْمَاشِي إِلَى السُّوقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاشِيَ لِلسُّوقِ فِي قِرَاءَتِهِ ضَرْبٌ مِنَ الإِْهَانَةِ لِلْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ فِي الطُّرُقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ؛ لأَِنَّ قِرَاءَتَهُ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ.
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِلْمُضْطَجِعِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ:
__________
(1) غنية المتملي في شرح منية المصلي 496 ط. دار سعادت 1325 هـ، حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 447، التبيان في آداب حملة القرآن ص 100 - 101، مطالب أولي النهى 1 / 596.(33/63)
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِي رِوَايَةٍ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي.
(1) قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَضُمُّ رِجْلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ التَّعْظِيمِ بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ (2) .
وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ بِأَنْ لاَ يَقْرَأَهُ فِي الأَْسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الاِشْتِغَال، فَإِذَا قَرَأَهُ فِيهِمَا كَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِحُرْمَتِهِ فَيَكُونُ الإِْثْمُ عَلَيْهِ دُونَ أَهْل الاِشْتِغَال دَفْعًا لِلْحَرَجِ فِي إِلْزَامِهِمْ تَرْكَ أَسْبَابِهِمُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، فَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَلاَ يُمْكِنُ الْكَاتِبَ الاِسْتِمَاعُ فَالإِْثْمُ عَلَى الْقَارِئِ لِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا فِي مَوْضِعِ اشْتِغَال النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْكَاتِبِ، وَلَوْ قَرَأَ عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْل جَهْرًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَأْثَمُ (3) .
وَمِثْل ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقَارِئِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا (4) .
وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِكَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ لِلنَّاعِسِ،
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 401) ، والرواية الأخرى لمسلم (1 / 246) .
(2) غنية المتملي 496، والعدوي على شرح الرسالة 2 / 448، والتبيان في آداب حملة القرآن 102 - 104، مطالب أولي النهى 1 / 596.
(3) غنية المتملي 496 - 497.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 596.(33/63)
قَال: كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ لِلنَّاعِسِ مَخَافَةً مِنَ الْغَلَطِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ حَال خُرُوجِ الرِّيحِ، فَإِذَا غَلَبَهُ الرِّيحُ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ ثُمَّ يَشْرَعَ بِهَا.
قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَتَكَامَل خُرُوجُهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ، وَإِذَا تَثَاءَبَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ ثُمَّ يَقْرَأَ (2) .
آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
23 - يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَل أَحْوَالِهِ مِنْ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مُسْتَقْبِلاً لِلْقِبْلَةِ، وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تِلاَوَة ف 6) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا.
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 102، وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كره القراءة للناعس "، ورد من حديث أبي هريرة ونصه: " إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع ". أخرجه مسلم (1 / 543) .
(2) مطالب أولي النهى 1 / 596، والتبيان في آداب حملة القرآن.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 596، التبيان في آداب حملة القرآن 102.(33/64)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا قَرَأَ جُنُبًا وَلَوْ نَاسِيًا لاَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَى التِّلاَوَةِ وَإِنْ صَارَ مُتَعَارَفًا، فَالْعُرْفُ لاَ يُجِيزُهُ؛ لأَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ مَا اسْتَدَل بِهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ، وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ، وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْبِرُوا بِهِ (1) ، وَالْعُرْفُ إِذَا خَالَفَ النَّصَّ يُرَدُّ بِالاِتِّفَاقِ، وَالَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ جَوَازُ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لاَ عَلَى تِلاَوَتِهِ خِلاَفًا لِمَنْ وَهَمَ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجَعَالَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِلاَ شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (2) .
ثَانِيًا: قِرَاءَةُ غَيْرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
قِرَاءَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ:
25 - سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْجُلُوسِ
__________
(1) حديث: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (40 / 73) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 442، جواهر الإكليل 2 / 189، القليوبي وعميرة 3 / 73، كشاف القناع 4 / 12، الإنصاف 6 / 46، 47.(33/64)
لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَقِرَاءَتِهِ هَل فِيهِ ثَوَابٌ أَمْ لاَ؟ فَقَال: إِنْ قَصَدَ بِسَمَاعِهِ الْحِفْظَ وَتَعَلُّمَ الأَْحْكَامِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اتِّصَال السَّنَدِ فَفِيهِ ثَوَابٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُتُونِ الأَْحَادِيثِ فَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّ قِرَاءَةَ مُتُونِهَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لِجَوَازِ قِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا بِالْمَعْنَى. قَال ابْنُ الْعِمَادِ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذْ لَوْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ أَلْفَاظِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لَمَا جَازَ تَغْيِيرُهَا وَرِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى لأَِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِخِلاَفِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُعْجِزٌ، وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْمُجَرَّدَةُ لاَ ثَوَابَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِمَاعِهِ الْمُجَرَّدِ عَمَّا مَرَّ ثَوَابٌ بِالأَْوْلَى، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدِي؛ لأَِنَّ سَمَاعَهَا لاَ يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ عَوْدُ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ إِنَّ سَمَاعَ الأَْذْكَارِ مُبَاحٌ لاَ سُنَّةٌ (1) .
قِرَاءَةُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ:
26 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً مِنَ التَّوْرَاةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي 278 ط. دار المعرفة بيروت.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر صحيفة من التوراة " أخرجه أحمد (3 / 387) وأورده ابن حجر في الفتح (13 / 334) وقال: رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفًا.(33/65)
وَمِثْل الْحَنَابِلَةِ الشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَعَدُّوهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (1) .
قِرَاءَةُ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهِ:
27 - لِلْفُقَهَاءِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ التَّعَلُّمِ أَوِ الْعَمَل تَفْصِيلاَتٌ اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سِحْر ف 13) .
قَرَائِن
انْظُرْ: قَرِينَة
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 272، القليوبي وعميرة 3 / 70، مطالب أولي النهى 1 / 607.(33/65)
قَرَابَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرَابَةُ لُغَةً: هِيَ الْقُرْبُ فِي الرَّحِمِ، قَال الرَّازِيُّ: الْقَرَابَةُ وَالْقُرْبَى: الْقُرْبُ فِي الرَّحِمِ وَهُوَ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ، تَقُول: بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ وَقُرْبٌ وَقُرْبَى وَمَقْرَبَةٌ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا - وَقُرْبَةٌ - بِسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا - وَهُوَ قَرِيبِي وَذُو قَرَابَتِي وَهُمْ أَقْرِبَائِي وَأَقَارِبِي (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَطَرَّقَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَعْرِيفِ الْقَرَابَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ أَوِ الْهِبَةِ لَهُمْ، وَيُمْكِنُ حَصْرُ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِلْقَرَابَةِ فِي اتِّجَاهَاتٍ سَبْعَةٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: تَضْيِيقُ دَائِرَةِ الْقَرَابَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ دُونَ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَيُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ فَقَطْ، فَلَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِقَرَابَةِ فُلاَنٍ دَخَل فِيهَا أَوْلاَدُهُ وَأَوْلاَدُ أَبِيهِ وَأَوْلاَدُ جَدِّهِ وَأَوْلاَدُ جَدِّ أَبِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى
__________
(1) مختار الصحاح للرازي محمد بن أبي بكر.(33/66)
قَرَابَةِ أُمِّهِ إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِلُهُمْ لَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ قَرَابَةَ الأُْمِّ لاَ تَدْخُل فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ فِي الأَْصَحِّ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: تُوَسَّعُ دَائِرَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضَ الشَّيْءِ فَتَشْمَل قَرَابَةَ الأُْمِّ وَقَرَابَةَ الأَْبِ مِنَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ غَيْرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَقَدْ نَقَلَهَا عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَجَّحَهَا الْكَاسَانِيُّ (2) ؛ لأَِنَّ الْقَرَابَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلأَِنَّ الاِسْمَ يَتَكَامَل بِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَنَاقِصٌ، فَكَانَ الاِسْمُ لِلرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لاَ لِغَيْرِهِ.
وَلاَ يَدْخُل فِيهَا الآْبَاءُ وَالأَْجْدَادُ وَالأَْوْلاَدُ وَالأَْحْفَادُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ مَنْ قَال لِلْوَالِدِ أَنَّهُ قَرِيبٌ فَهُوَ عَاقٌّ (4) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ لاَ يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا؛ لأَِنَّ الأَْبَ أَصْلٌ وَالْوَلَدَ جُزْؤُهُ، وَالْقَرِيبَ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى الإِْنْسَانِ بِغَيْرِهِ لاَ بِنَفْسِهِ، وَقَال تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 118، ومغني المحتاج 3 / 63.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 348.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 349.
(4) الدر المختار بهامش رد المحتار 5 / 429.(33/66)
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ} (1) ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الأَْصْل (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَوَلَدِ الصُّلْبِ، وَيَدْخُل فِيهَا الأَْجْدَادُ وَالأَْحْفَادُ، وَقَدْ نُقِل هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزِّيَادَاتِ فَذَكَرَ أَنَّ الأَْجْدَادَ وَالأَْحْفَادَ يَدْخُلاَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا (3) .
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى كُل ذِي رَحِمٍ وَإِنْ بَعُدَ، سَوَاءٌ كَانَ مَحْرَمًا أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ، غَيْرَ الأَْصْل وَالْفُرُوعِ ذَكَرَهَا الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ (4) .
الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى كُل ذِي رَحِمٍ وَإِنْ بَعُدَ إِلاَّ الأَْبَ وَالأُْمَّ وَالاِبْنَ وَالْبِنْتَ مِنْ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ وَرَجَّحَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ (5) ، وَهُوَ رَأْيُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَوْلٌ لأَِبِي يُوسُفَ (6) .
الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى أَيِّ قَرَابَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ وَيَدْخُل فِيهَا الأَْبُ وَالأُْمُّ وَوَلَدُ الصُّلْبِ، كَمَا يَدْخُل فِيهَا الأَْجْدَادُ وَالأَْحْفَادُ وَرَجَّحَهَا السُّبْكِيُّ وَقَال: هَذَا أَظْهَرُ بَحْثًا وَنَقْلاً (7) ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 180.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 348.
(3) بدائع الصنائع 7 / 348.
(4) مغني المحتاج للخطيب الشربيني، شرح المنهاج للنووي 3 / 63.
(5) منهاج الطالبين مع مغني المحتاج 3 / 63.
(6) المبسوط للسرخسي 14 / 157.
(7) مغني المحتاج للشربيني 3 / 63.(33/67)
الأُْمِّ (1) ، وَهُوَ مَعْنَى كَلاَمِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2) .
الاِتِّجَاهُ السَّابِعُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى أَيِّ قَرَابَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَوْ مِنَ الأَْوْلاَدِ، وَيُحْمَل عَلَيْهَا الزَّوْجِيَّةُ وَالْوَلاَءُ وَالرَّضَاعُ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ (3) . .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّسَبُ:
2 - النَّسَبُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدُ الأَْنْسَابِ، وَالنِّسْبَةُ وَالنُّسْبَةُ مِثْلُهُ وَانْتَسَبَ إِلَى أَبِيهِ أَيِ اعْتَزَى. وَتَنَسَّبَ أَيِ ادَّعَى أَنَّهُ نَسِيبُكَ، وَفِي الْمَثَل: " الْقَرِيبُ مَنْ تَقَرَّبَ لاَ مَنْ تَنَسَّبَ ".
وَفُلاَنٌ يُنَاسِبُ فُلاَنًا فَهُوَ نَسِيبُهُ أَيْ قَرِيبُهُ (4) .
وَشَرْعًا عَبَّرَ عَنْهُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ بِأَنَّهُ الْقَرَابَةُ.
وَعَبَّرَ عَنْهُ الْبُهُوتِيُّ بِأَنَّهُ الرَّحِمُ وَتَابَعَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ عَلَيْهِ، فَبَدَل أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 4 / 38.
(2) المدونة لسحنون عن الإمام مالك 6 / 96.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 350، والأم للإمام الشافعي 6 / 102، وشرح المارديني على الرحبية ص 54، العذب الفائض شرح عمدة الفرائض للعلامة إبراهيم بن عبد الله الفرضي 1 / 8، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 319.
(4) الصحاح مادة (نسب) .(33/67)
النَّسَبَ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرَضِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ بِقَرَابَةٍ لَهَا انْتِسَابٌ.
وَقَصَرَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ وَالْبُجَيْرِمِيُّ عَلَى غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ.
وَحَصَرَ ابْنُ الْجَلاَّبِ النَّسَبَ فِي الْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ وَالأُْخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَمَا تَنَاسَل مِنْهُمْ (1) .
وَمِمَّا تَقَدَّمَ لَنَا فِي تَعْرِيفِ الْقَرَابَةِ هَذَا نَرَى أَنَّ النَّسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ فِي الاِتِّصَال بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ بِالاِشْتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَيَنْفَرِدُ الأَْعَمُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ.
ب - الْمُصَاهَرَةُ:
3 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الأَْصْهَارُ أَهْل بَيْتِ الْمَرْأَةِ، عَنِ الْخَلِيل. وَقَال: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَل الصِّهْرَ مِنَ الأَْحْمَاءِ وَالأُْخْتَانِ جَمِيعًا.
يُقَال: صَاهَرْتُ إِلَيْهِمْ: إِذَا تَزَوَّجْتَ فِيهِمْ.
وَأَصْهَرْتُ بِهِمْ: إِذَا اتَّصَلْتَ بِهِمْ، وَتَحَرَّمْتُ بِجِوَارٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ تَزَوُّجٍ (2) .
وَشَرْعًا تُطْلَقُ عَلَى قَرَابَةٍ سَبَبُهَا النِّكَاحُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 486، حاشية البجيرمي على المنهج 3 / 174، 246، العذب الفائض 1 / 19، مغني المحتاج 3 / 4، التفريع 2 / 338، هداية الراغب 422.
(2) الصحاح مادة (صهر) .(33/68)
وَعَلَى مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ (1) .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَ الْمُصَاهَرَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا.
ج - الرَّحِمُ:
4 - الرَّحِمُ فِي اللُّغَةِ: رَحِمُ الأُْنْثَى وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ.
وَالرَّحِمُ أَيْضًا الْقَرَابَةُ (2) .
وَشَرْعًا أَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا يُرَادِفُ الْقَرَابَةَ أَحْيَانًا، وَبِمَا يَدُل عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا وَهُمُ الأَْقَارِبُ غَيْرُ ذَوِي الْفَرْضِ أَوِ الْعُصُوبَةِ أَحْيَانًا، فَعَلَى الأَْوَّل هِيَ مُرَادِفَةٌ لِلْقَرَابَةِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الرَّحِمُ أَخَصَّ مِنَ الْقَرَابَةِ (3) .
د - الْوَلاَءُ:
5 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْوَلاَءُ: وَلاَءُ الْمُعْتِقِ، وَالْمَوْلَى: الْمُعْتَقُ وَالْمُعْتِقُ (4) .
وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى: عُصُوبَةٍ سَبَبُهَا نِعْمَةُ الْمُعْتِقِ مُبَاشَرَةً أَوْ سِرَايَةً أَوْ شَرْعًا كَعِتْقِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ (5) ، وَفِيهِ يَقُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ (6) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 4، 246، والتفريع لابن الجلاب 2 / 44، 338.
(2) الصحاح مادة (رحم) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 486 و 504، وهداية الراغب 422.
(4) الصحاح مادة (ولي) .
(5) مغني المحتاج 3 / 4، ونيل الأوطار 6 / 70.
(6) حديث: " الولاء بمنزلة النسب " أخرجه البيهقي (10 / 294) من حديث علي بن أبي طالب.(33/68)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْوَلاَءِ وَبَيْنَ الْقَرَابَةِ حَسَبَ الاِتِّجَاهِ السَّابِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا.
هـ - الرَّضَاعُ:
6 - الرَّضَاعُ لُغَةً اسْمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ.
وَشَرْعًا اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَبَيْنَ الرَّضَاعِ وَالْقَرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَجْرِي مَجْرَى الْوِلاَدَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرَابَةِ:
أَوَّلاً: قَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَوُو الْقُرْبَى) :
الْمُرَادُ بِهِمْ:
7 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُهُ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ (2) ، وَيُعَلِّل الْخَرَشِيُّ لِذَلِكَ فَيَقُول: لأَِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ آلَهُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَاشِمٍ، لأَِنَّ الْمُطَّلِبَ أَخُو هَاشِمٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 403، نهاية المحتاج 7 / 172.
(2) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري للعيني 9 / 80، والخرشي على مختصر خليل 2 / 214.(33/69)
وَلَهُمَا أَيْضًا أَخَوَانِ: عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ، فَفَرْعُ كُلٍّ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لَيْسَ بِآلٍ قَطْعًا، وَفَرْعُ هَاشِمٍ آلٌ قَطْعًا، وَفَرْعُ الْمُطَّلِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِآلٍ. . . وَالْمُطَّلِبُ وَهَاشِمٌ شَقِيقَانِ وَأُمُّهُمَا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ شَقِيقَانِ وَأُمُّهُمَا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ (1) .
وَيُبَيِّنُ الْعَيْنِيُّ الْمُرَادَ بِبَنِي هَاشِمٍ فَيَقُول: وَبَنُو هَاشِمٍ هُمْ آل عَلِيٍّ وَآل عَبَّاسٍ وَآل جَعْفَرٍ وَآل عَقِيلٍ وَآل الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (2) .
يَقُول الشَّوْكَانِيُّ: وَلَمْ يَدْخُل فِي ذَلِكَ آل أَبِي لَهَبٍ، لِمَا قِيل مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَرُدُّهُ مَا فِي جَامِعِ الأُْصُول أَنَّهُ أَسْلَمَ عُتْبَةُ وَمُعَتِّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ عَامَ الْفَتْحِ وَسُرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلاَمِهِمَا وَدَعَا لَهُمَا، وَشَهِدَا مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَلَهُمَا عَقِبٌ عِنْدَ أَهْل النَّسَبِ (3) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (4) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَقَطْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (5) ، وَالْحَنَابِلَةِ (6) ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَال زَرُّوقٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ
__________
(1) الخرشي 2 / 216.
(2) عمدة القاري للعيني 9 / 80.
(3) نيل الأوطار 4 / 172. وحديث إسلام عتبة ومعتب ابني أبي لهب أخرجه ابن سعد في الطبقات (4 / 60) .
(4) نيل الأوطار 4 / 172.
(5) شرح النووي لصحيح مسلم 7 / 176.
(6) المغني لابن قدامة 6 / 410.(33/69)
الْمَذْهَبُ (1) .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَال: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَعْطَيْتُ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. (2)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَغَيْرَهَا وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ (3) ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ مَوَالِيهِمْ لأَِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمْ بَنُو قُصَيٍّ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْبَغَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَكَاهُ عَنْهُ الْعَيْنِيُّ (4) .
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى قُرَيْشٌ كُلُّهَا، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ} (5) ، دَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَال: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 2 / 344.
(2) حديث: جبير بن مطعم أنه قال: " مشيت أنا وعثمان بن عفان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 533) .
(3) الأم 4 / 71 هذه الرواية ذكرها في المسند (2 / 128 - ترتيبه) في حديث علي بن الحسين مرسلا.
(4) عمدة القاري 9 / 80.
(5) سورة الشعراء / 214.(33/70)
عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا. (1)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ: فَهَذِهِ قَرَابَاتُهُ الَّتِي دَعَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ حِينَ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ قَال لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ. (2)
حُكْمُ أَخْذِهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ:
8 - قَرَابَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ هُمْ: بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ أَخْذِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (آل ف 6 - 10) .
__________
(1) حديث: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا. . أخرجه مسلم (1 / 192) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 860، وحديث: " إنهم لم يفارقوني. . . " أخرجه النسائي (7 / 131) .(33/70)
حُكْمُ أَخْذِ ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ:
9 - لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا مَذَاهِبُ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ هُنَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْخُمُسِ، يَشْتَرِكُ فِي هَذَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى وَلَكِنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ ضِعْفَ الأُْنْثَى كَمَا فِي الْمِيرَاثِ (1) ، وَإِعْطَاءُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ هُنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي إِعْطَاءِ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنَ الزَّكَاةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} . (3)
وَهَذِهِ تُحْمَل عَلَى عُمُومِهَا فَيَدْخُل الأَْغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَا يُخَصِّصُهَا، بَل دَل عَلَى عُمُومِهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ فَمَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَال: لَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ جِئْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، هَؤُلاَءِ بَنُو هَاشِمٍ لاَ يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 94، والمغني 6 / 410.
(2) المغني 2 / 657.
(3) سورة الأنفال / 41.(33/71)
وَضَعَكَ اللَّهُ عَزَّ جَل مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَال: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَال: ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (1)
وَأَمَّا فِعْلُهُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَأُمَّهُ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ. (2)
وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَقَدْ كَانَتْ مُوسِرَةً؛ وَلأَِنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْتَحِقُّ بِقَرَابَةِ الأَْبِ فَفُضِّل فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنْ قَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ؛ وَلأَِنَّهُ سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ
__________
(1) حديث: جبير بن مطعم لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى. أخرجه أحمد (4 / 81) ، وهو في صحيح البخاري (فتح الباري 6 / 533) بسياق مختصر.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " أعطى الزبير سهمًا. . . " أخرجه أحمد (1 / 166) ، وأشار أحمد شاكر إلى انقطاع في سنده كما في التعليق عليه (3 / 18 ط دار المعارف) .
(3) مغني المحتاج 3 / 94، والمغني 6 / 411، وعمدة القاري 15 / 63.(33/71)
وَالأُْنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْفَيْءَ لاَ حَقَّ لَهُمْ فِيهِ بِوَصْفِهِمْ ذَوِي قُرْبَى لأَِنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ وَبَعْدَهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَمَّا الْخُمُسُ فِي الْغَنِيمَةِ فَلاَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَال فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ: أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لأَِبْنَاءِ السَّبِيل بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ (2) .
مَوَدَّةُ آل الْبَيْتِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَوَدَّةِ آل الْبَيْتِ؛ لأَِنَّ فِي مَوَدَّتِهِمْ مَوَدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ
__________
(1) المغني 6 / 411.
(2) بدائع الصنائع 7 / 125.(33/72)
حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْل بَيْتِي، قَالَهَا ثَلاَثًا. (1)
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل بَيْتِهِ (2) . وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِل مِنْ قَرَابَتِي (3) .
ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ النَّسَبِيَّةُ:
أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ الْمَحْرَمِيَّةُ وَغَيْرُهَا:
11 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ النَّسَبِيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَحَارِمُ وَغَيْرُ مَحَارِمَ.
فَالْمَحَارِمُ كُل شَخْصَيْنِ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ النَّسَبِيَّةَ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} (4) ، فَهَؤُلاَءِ سَبْعٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ (5) .
__________
(1) حديث: زيد بن أرقم: " أذكركم الله في أهل بيتي ". أخرجه مسلم (4 / 1873) .
(2) البخاري مع عمدة القاري 16 / 222، وقول أبي بكر: " ارقبوا محمدًا في أهل بيته " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 78) .
(3) قول أبي بكر: " والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 78) .
(4) سورة النساء / 23.
(5) المبسوط 4 / 198.(33/72)
الأَْوَّل: الأُْمَّهَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَأُمُّ الرَّجُل حَرَامٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَل أَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَل أُمِّهِ، فَعَلَى قَوْل مَنْ يَقُول إِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَقُول حُرِّمَتِ الْجَدَّاتُ بِالنَّصِّ لأَِنَّ اسْمَ الأُْمَّهَاتِ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا.
وَعَلَى قَوْل مَنْ يَقُول لاَ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ يَقُول: حُرِّمَتِ الْجَدَّاتُ بِدَلِيل الإِْجْمَاعِ (1) .
وَالثَّانِي: الْبَنَاتُ فَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل بَنَاتُ الْبَنَاتِ وَبَنَاتُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلْنَ حُرْمَتُهُنَّ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا لأَِنَّ الاِسْمَ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا، وَعَلَى الْقَوْل الآْخَرِ حُرْمَتُهُنَّ بِدَلِيل الإِْجْمَاعِ.
وَالثَّالِثُ: الأَْخَوَاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} وَهُنَّ أَصْنَافٌ ثَلاَثَةٌ: الأُْخْتُ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ، وَالأُْمُّ لأُِمٍّ، وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّصِّ فَالأُْخْتِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجَاوَرَةِ فِي الرَّحِمِ أَوْ فِي الصُّلْبِ فَكَانَ الاِسْمُ حَقِيقَةً يَتَنَاوَل الْفِرَقَ الثَّلاَثَ.
وَالرَّابِعُ: الْعَمَّاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَمَّاتُكُمْ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الأَْبِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
__________
(1) راجع في بحث هذه القاعدة الأصولية الإحكام للآمدي 2 / 87.(33/73)
وَالْخَامِسُ: الْخَالاَتُ: تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَالاَتُكُمْ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الأُْمِّ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
وَالسَّادِسُ: بَنَاتُ الأَْخِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأَْخِ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الأَْخِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
وَالسَّابِعُ: بَنَاتُ الأُْخْتِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الأُْخْتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْمَحَارِمِ فَبَقِيَّةُ الْقَرَابَاتِ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَتْ كَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ وَبَنَاتِ هَؤُلاَءِ.
جَوَازُ النِّكَاحِ وَعَدَمُهُ بَيْنَ الْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ - وَهُنَّ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْقَرَابَاتِ النَّسَبِيَّةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِنْتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ زِنَا الرَّجُل هَل يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (نِكَاح - وَمُحَرَّمَات وَوَلَدُ زِنًا) .
الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ:
13 - فِي الْعِتْقِ بِالْقَرَابَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 4 / 198.(33/73)
الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي (عِتْق ف 14) .
الْقَرَابَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقِصَاصِ:
14 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِهِ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَوْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ، مَا عَدَا الأَْصْل إِذَا قَتَل فَرْعَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قِصَاص) .
مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ:
15 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ هُمُ الْعَاقِلَةُ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الْعَصَبَةِ فَلاَ يَتَحَمَّلاَنِ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَات ف 76، وَعَاقِلَة ف 3) .
الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الْقَرَابَةِ:
16 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ فَقَدْ جَرَى فِيهَا اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّة) .
مَا يَقْطَعُ أَحْكَامَ الْقَرَابَةِ مِنَ الرِّدَّةِ أَوِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ
__________
(1) نتائج الأفكار 1 / 399، وابن عابدين 5 / 411، والخرشي 8 / 44 - 46، ومغني المحتاج 4 / 96، والمبدع 9 / 17.(33/74)
الْقَرَابَةِ تَتَأَثَّرُ بِالْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ ف 3، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ ف 2، وَرِدَّة ف 47، وَإِرْث ف 18) .
ثَالِثًا: الْقَرَابَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ:
18 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ هُوَ النِّكَاحُ، وَلِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَوِ الْمَحَارِمِ. وَأَحْكَامُ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُصَاهَرَة، وَنَفَقَة، وَزَكَاة ف 177، وَصَدَقَة ف 17) .
رَابِعًا: الْقَرَابَةُ بِالرَّضَاعِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ هُوَ حُصُول لَبَنِ الْمَرْأَةِ فِي جَوْفِ الطِّفْل، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِتَحَقُّقِ الرَّضَاعِ شَرْعًا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَضَاع ف 7) .
خَامِسًا: الْقَرَابَةُ بِسَبَبِ الْوَلاَءِ:
20 - الْوَلاَءُ كَمَا قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مِيرَاثٌ يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ بِسَبَبِ عِتْقِ شَخْصٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (عِتْق، وَوَلاَء) .
مُرَاعَاةُ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَبِمَ تَكُونُ:
21 - مِنْ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ غَيْرُ مَا قَدَّمْنَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ جُزَيٍّ فِي قَوْلِهِ: حُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى(33/74)
الْمُسْلِمِ عَشَرَةٌ:
أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيَعُودَهُ إِذَا مَرِضَ، وَيُجِيبَهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتَهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَشْهَدَ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُبِرَّ قَسَمَهُ إِذَا أَقْسَمَ، وَيَنْصَحَ لَهُ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكُفَّ عَنْهُ شَرَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَيَبْذُل لَهُ مِنْ خَيْرِهِ مَا اسْتَطَاعَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ فَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ.
فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقَرَابَةِ فَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ حَقُّ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالإِْحْسَانِ وَالزِّيَارَةِ وَحُسْنِ الْكَلاَمِ وَاحْتِمَال الْجَفَاءِ (1) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدَ الْوَالِدَيْنِ فَيَزِيدُ عَلَى هَذَا مَا أَشَارَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2) ، وَيُخَصِّصُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . (3)
__________
(1) القوانين الفقهية 291.
(2) سورة الإسراء / 23 - 24.
(3) سورة لقمان / 15.(33/75)
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ - فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آصِلُهَا؟ قَال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ. (1)
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صِلَةَ ذَوِي الأَْرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ (2) .
وَيَقُول ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ} (3) ، اتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تُعَاقِدُونَ وَتُعَاهِدُونَ بِهِ، وَاتَّقُوا الأَْرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَلَكِنْ بِرُّوهَا وَصِلُوهَا (4) .
__________
(1) حديث: أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: " إن أمي قدمت علي راغبة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 413) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 307.
(3) سورة النساء / 1.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 675.(33/75)
قَرَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: قَرَّ الشَّيْءُ قَرًّا: اسْتَقَرَّ بِالْمَكَانِ، وَالاِسْمُ الْقَرَارُ.
وَقَرَّ فِي الْمَكَانِ يَقِرُّ قَرَارًا: إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا جَامِدًا، وقَوْله تَعَالَى: {أَمَّنْ جَعَل الأَْرْضَ قَرَارًا} (1) أَيْ مُسْتَقَرًّا.
وَالْقَرَارُ وَالْقَرَارَةُ مِنَ الأَْرْضِ: الْمُطْمَئِنُّ الْمُسْتَقِرُّ.
وَالْقَرَارُ وَالْقَرَارَةُ: مَا قَرَّ فِيهِ الْمَاءُ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْقَرَارِ بِعِدَّةِ مَعَانٍ هِيَ:
أ - بِمَعْنَى الأَْرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسَايِرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِذَا حَصَل فِي هَوَاءِ الإِْنْسَانِ غُصْنُ شَجَرِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ لِيُخَلِّيَ مِلْكَهُ الْوَاجِبَ إِخْلاَؤُهُ، وَالْهَوَاءُ تَابِعٌ
__________
(1) سورة النمل / 61.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.(33/76)
لِلْقَرَارِ (1) .
ب - بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَعَدَمِ الاِنْفِصَال، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الاِتِّصَال بِالأَْشْيَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى اتِّصَال قَرَارٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُتَّصِل اتِّصَال قَرَارٍ: مَا وُضِعَ لاَ لِيُفْصَل كَالْبِنَاءِ (2) ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يُسَايِرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
ج - يَسْتَعْمِلُونَهُ مُضَافًا إِلَى لَفْظِ (حَقٍّ) فَيَقُولُونَ: حَقُّ الْقَرَارِ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ ثُبُوتَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَقَارِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْبَقَاءِ فِيهِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَهُ أَحَدٌ بِإِخْلاَئِهِ، فَهُوَ حَقُّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ (3) ، لأَِسْبَابٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي الْبَحْثِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكِرْدَارُ:
2 - الْكِرْدَارُ - بِكَسْرِ الْكَافِ - مِثْل الْبِنَاءِ وَالأَْشْجَارِ وَالْكَبْسِ إِذَا كَبَسَهُ مِنْ تُرَابٍ نَقَلَهُ مِنْ مَكَانٍ كَانَ يَمْلِكُهُ (4) .
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: الْكِرْدَارُ هُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ.
وَعَلاَقَةُ الْكِرْدَارِ بِالْقَرَارِ: أَنَّ الْكِرْدَارَ أَحَدُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 268.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 17.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 16.
(4) المغرب والقاموس المحيط.(33/76)
الأُْمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ حَقَّ الْقَرَارِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرَارِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْقَرَارُ بِمَعْنَى الأَْرْضِ:
حُكْمُ الاِرْتِفَاقِ بِمَا يَتْبَعُ الْقَرَارَ:
لِلاِرْتِفَاقِ بِمَا يَتْبَعُ الْقَرَارَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
3 - مَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا وَالْجَنَاحُ لاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مِلْكُ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ فَجَازَ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ؛ وَلأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ فَلَمَّا مَلَكَ الاِرْتِفَاقَ بِالطُّرُقِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، مَلَكَ الاِرْتِفَاقَ بِالْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِعَ أَحَدٌ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي الْعَادَةِ بِالْمَارَّةِ أَوْ لاَ يَضُرُّ، ثُمَّ قَال: وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ جَازَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ (2) .
وَإِنْ صَالَحَهُ الإِْمَامُ عَنِ الْجَنَاحِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، لأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 16.
(2) البدائع 6 / 49 - 50، وجواهر الإكليل 2 / 123، والفروق للقرافي 4 / 16، والمهذب 1 / 141، وشرح منتهى الإرادات 2 / 269، والمغني 4 / 551.(33/77)
يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ عِوَضٌ عَلَى حَقِّهِ كَالاِجْتِيَازِ فِي الطَّرِيقِ.
هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرِيقِ الْعَامِّ (1) .
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ فَلاَ يَجُوزُ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ صَالَحَ أَهْل الدَّرْبِ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ جَازَ؛ لأَِنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ فَجَازَ أَخْذُ عِوَضِهِ كَالْقَرَارِ.
وَقَال الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ لِلْهَوَاءِ دُونَ الْقَرَارِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الطَّرِيقُ الَّذِي لاَ يَنْفُذُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْل السِّكَّةِ إِشْرَاعُ الْجَنَاحِ فِيهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ لَهُمْ عَلَى الأَْصَحِّ الَّذِي قَالَهُ الأَْكْثَرُونَ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ تَضَرَّرُوا أَمْ لاَ.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْبَاقِينَ، فَإِنْ أَضَرَّ وَرَضِيَ أَهْل السِّكَّةِ جَازَ، وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ بِلاَ خِلاَفٍ لأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ، فَلاَ
__________
(1) المراجع السابقة، ومغني المحتاج 2 / 183.
(2) البدائع 6 / 49 - 50، والمغني 4 / 553، وشرح منتهى الإرادات 2 / 270، والفروق 4 / 16.(33/77)
يُفْرَدُ بِالْمَال صُلْحًا كَمَا لاَ يُفْرَدُ بِهِ بَيْعًا (1) .
4 - مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَ الْقَرَارِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ الْقَرَارَ مَلَكَ الْهَوَاءَ الَّذِي فَوْقَهُ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: جَازَ بَيْعُ هَوَاءٍ فَوْقَ هَوَاءٍ. وَأَوْلَى فَوْقَ بِنَاءٍ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِصَاحِبِ أَرْضٍ: بِعْنِي عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْهَوَاءِ فَوْقَ مَا تَبْنِيهِ بِأَرْضِكَ إِنْ وَصَفَ الْبِنَاءَ الأَْعْلَى وَالأَْسْفَل لِلأَْمْنِ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ.
وَجَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَصِحُّ شِرَاءُ عُلُوِّ بَيْتٍ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ الْبَيْتَ إِذَا وَصَفَ الْبَيْتَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعُلُوَّ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ فَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ كَالْقَرَارِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْهَوَاءَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ (2) .
5 - وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ صَالَحَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِهِ مُدَّةً وَلَوْ مُعَيَّنَةً لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ الْمَاءَ، لأَِنَّ الْمَاءَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ.
وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ النَّهْرِ كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ رُبْعٍ أَوْ خُمُسٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ أَيْ لِلْجُزْءِ الْمُسَمَّى مِنَ الْقَرَارِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 206 و207، والمهذب 1 / 341.
(2) البدائع 5 / 145، والفروق 4 / 16، والشرح الصغير 2 / 9، وشرح منتهى الإرادات 2 / 267.(33/78)
وَهُوَ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ أَوِ الْخُمُسُ، وَالْمَاءُ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْقَرَارِ (1) .
ثَانِيًا: الْقَرَارُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَعَدَمِ الاِنْفِصَال:
بَيْعُ مَا يَتَّصِل بِغَيْرِهِ اتِّصَال قَرَارٍ:
6 - التَّوَابِعُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَبِيعِ اتِّصَال قَرَارٍ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ (وَاتِّصَال الْقَرَارِ: وَضْعُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لاَ يُفْصَل مِنْ مَحَلِّهِ) فَيَدْخُل الشَّجَرُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ، فَإِذَا بِيعَتِ الأَْرْضُ فَالشَّجَرُ الْمَغْرُوسُ فِيهَا يَدْخُل فِي الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الأَْشْجَارَ مُتَّصِلَةٌ بِالأَْرْضِ اتِّصَال الْقَرَارِ، أَمَّا الأَْشْجَارُ الْيَابِسَةُ فَلاَ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الأَْشْجَارَ عَلَى شَرَفِ الْقَلْعِ، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْحَطَبِ فَلَيْسَ اتِّصَالُهَا بِالأَْرْضِ اتِّصَال قَرَارٍ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَرَارِ الأَْشْيَاءِ مَثَلاً، كَأَنْ يَدَّعِيَ الْمُشْتَرِي أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ قَدْ وُضِعَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ، وَيَدَّعِيَ الْبَائِعُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 205، والبدائع 6 / 1289، وجواهر الإكليل 2 / 204، ومغني المحتاج 2 / 191، وحواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج 5 / 221، وكشاف القناع 3 / 403.(33/78)
عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَبِيعِ، فَيَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَجَر ف 4) (وَبَيْع ف 39) .
ثَالِثًا - حَقُّ الْقَرَارِ وَمَا يَثْبُتُ بِهِ:
7 - مَا يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ مِنْ حَقِّ دَوَامِ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَقَارِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنَ الْوَقْفِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَهُ أَحَدٌ بِإِخْلاَئِهِ يُسَمَّى حَقَّ الْقَرَارِ.
وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمَا يَأْتِي:
أ - بِمَا يُحْدِثُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِ: بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ صَارَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ، فَلَهُ الاِسْتِبْقَاءُ بِأَجْرِ الْمِثْل، وَفِي الْخَيْرِيَّةِ: وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فَتَبْقَى فِي يَدِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 180 - 181 مادة 232، وانظر ابن عابدين 4 / 35، والدسوقي 3 / 171، ونهاية المحتاج 4 / 116 و 117، والمغني 4 / 86 و 87.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 16.(33/79)
لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْل إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَلَوْ أَبَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الْقَلْعَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ (1) .
ب - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مُعَطَّلَةً فَيَسْتَأْجِرَهَا مِنَ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا لِيُصْلِحَهَا لِلزِّرَاعَةِ وَيَحْرُثَهَا وَيَكْبِسَهَا، فَلاَ تُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْقِسْمِ الْمُتَعَارَفِ كَالْعُشْرِ وَنَحْوِهِ، وَإِذَا مَاتَ عَنِ ابْنٍ تُوَجَّهُ لاِبْنِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِيهَا (2) .
ج - مَنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِأَرْضِ الْوَقْفِ ثَلاَثَ سِنِينَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ، كَمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْقَرَارِ لِمَنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِالأَْرْضِ الأَْمِيرِيَّةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَقِيل: ثَلاَثِينَ سَنَةً (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف) .
د - الْخُلُوُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَال الَّذِي يَدْفَعُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُتَوَلِّي أَوِ الْمَالِكِ، فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ وَلاَ إِجَارَتَهُ لِغَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لِلْمَالِكِ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ قَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 147.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 150 - 151.
(3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 218، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 153.(33/79)
إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ، فَيُفْتِي بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ الَّذِي تَعَارَفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلُوّ ف 17) .
قِرَاضٌ
انْظُرْ: مُضَارَبَة
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 17.(33/80)
قِرَان
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِرَانُ لُغَةً: جَمْعُ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ يُقَال قَرَنَ الشَّخْصُ لِلسَّائِل: إِذَا جَمَعَ لَهُ بَعِيرَيْنِ فِي قِرَانٍ وَاحِدٍ، وَالْقِرَانُ: الْحَبْل يُقْرَنُ بِهِ، قَال الثَّعَالِبِيُّ: " لاَ يُقَال لِلْحَبْل قِرَانٌ حَتَّى يُقْرَنَ فِيهِ بَعِيرَانِ "، وَالْقَرَنُ: الْحَبْل أَيْضًا (1) . وَاصْطِلاَحًا: هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْل الطَّوَافِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْفْرَادُ:
2 - الإِْفْرَادُ: هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، أَيْ أَنْ يَنْوِيَهُ مُنْفَرِدًا (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَجِّ، غَيْرَ أَنَّ الْقِرَانَ يَتَضَمَّنُ نُسُكَيْنِ، وَالإِْفْرَادُ نُسُكًا وَاحِدًا.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 56، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، والمصباح المنير للفيومي مادة (قرن) .
(2) مغني المحتاج 1 / 513.
(3) الاختيار 1 / 158، وحاشية الدسوقي 2 / 28، والقليوبي 2 / 127، وكشاف القناع 2 / 411.(33/80)
ب - التَّمَتُّعُ:
3 - التَّمَتُّعُ: هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ يَفْرُغَ مِنْهَا وَيَتَحَلَّل، ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا فِي عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْقِرَانِ إِتْمَامَ نُسُكَيْنِ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْ أَحَدِهِمَا إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِهِمَا مَعًا، أَمَّا فِي التَّمَتُّعِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعُمْرَةَ، ثُمَّ يَتَحَلَّل مِنْهَا، وَيُنْشِئُ حَجًّا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ:
4 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . (2)
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ، وَأَهَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 45، وحاشية الدسوقي 2 / 29، ومغني المحتاج 1 / 514، وكشاف القناع 2 / 411.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) الهداية مع فتح القدير 2 / 203.(33/81)
يَوْمُ النَّحْرِ. (1)
فَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ عَلَى الْقِرَانِ، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَوْجُهِ الْحَجِّ الَّتِي عَرَفْنَاهَا، دُونَ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
قَال النَّوَوِيُّ: " وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى جَوَازِ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (2) ".
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالإِْفْرَادِ:
5 - بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الأَْوْجُهِ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ دُونَ كَرَاهَةٍ، اخْتَلَفُوا فِي أَيُّهَا الأَْفْضَل، وَقَدْ قِيل بِأَفْضَلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَسَبَقَ بَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاً. (ر: إِفْرَاد ف 7 - 8 وَتَمَتُّع ف 4 - 5) .
أَرْكَانُ الْقِرَانِ:
6 - الْقِرَانُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ، فَأَرْكَانُهُ هِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجّ ف 46 وَمَا بَعْدَهَا) وَمُصْطَلَحِ (عُمْرَة ف 12 - 24) .
لَكِنْ هَل يَلْزَمُ أَدَاءُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِكُلٍّ
__________
(1) حديث عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 421) .
(2) شرح مسلم للنووي 8 / 169.(33/81)
مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ يَتَدَاخَلاَنِ فَلاَ يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا؟
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّدَاخُل، وَأَنَّهُ يُجْزِئُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلاَ يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالنَّقْل وَالْقِيَاسِ:
أَمَّا النَّقْل: فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ: ". . وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا (2) " وَحَدِيثُهَا أَيْضًا لَمَّا جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. (3)
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. (4)
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلأَِنَّهُ نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ وَرَمْيٌ وَاحِدٌ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، كَالْمُفْرِدِ؛ وَلأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 28، والمنهاج وشرحه للمحلي 2 / 127، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 442 (مطبعة بولاق) ، والمغني 3 / 465، ومطالب أولي النهى 2 / 308.
(2) حديث عائشة: " وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 494) ، ومسلم (2 / 870) .
(3) حديث: " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة. . . " أخرجه مسلم (2 / 880) .
(4) حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة. . . أخرجه الترمذي (3 / 274) ، وأصله في مسلم (2 / 940) .(33/82)
جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَال الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى، كَالطَّهَارَتَيْنِ: الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - وَيُرْوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدِ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، قَالُوا: الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ: طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3) ، وَتَمَامُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَال، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ (4) ".
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ فِي قِصَّةِ حَجِّهِ قَارِنًا، قَال: " قَال - يَعْنِي عُمَرَ لَهُ -: فَصَنَعْتَ مَاذَا؟ قَال: " مَضَيْتُ فَطُفْتُ طَوَافًا لِعُمْرَتِي، وَسَعَيْتُ سَعْيًا لِعُمْرَتِي، ثُمَّ عُدْتُ فَفَعَلْتُ مِثْل ذَلِكَ لِحَجِّي، ثُمَّ بَقِيتُ حَرَامًا مَا أَقَمْنَا، أَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، حَتَّى قَضَيْتُ آخِرَ نُسُكِي قَال: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ (5) ".
__________
(1) المغني 3 / 466.
(2) الهداية 2 / 204، والبدائع 2 / 267، والمغني 3 / 465 - 466.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) المغني 3 / 466.
(5) عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإمام أبي حنيفة للزبيدي 1 / 141، وفتح القدير 2 / 205. وأثر عمر أخرجه أبو حنيفة في مسنده كما في " عقود الجواهر المنيفة " للزبيدي (1 / 133) ، وأصله في النسائي (5 / 147) وغيره مختصرًا.(33/82)
وَعَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِمَنْ أَهَل بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: تُهِل بِهِمَا جَمِيعًا ثُمَّ تَطُوفُ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ (1) .
وَبِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدِلَّةِ عَمَل كُل وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَال (2) .
شُرُوطُ الْقِرَانِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ:
7 - وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ إِحْرَامَهُ هَذَا صَحِيحٌ، وَيُصْبِحُ قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْل طَوَافِ الْعُمْرَةِ.
أَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَل الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ هَذَا الإِْحْرَامِ وَيَصِيرُ قَارِنًا - مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا -
__________
(1) أثر علي: " أنه قال لمن أهل بالحج والعمرة. . . " أخرجه البيهقي (5 / 108) .
(2) الهداية 2 / 206.
(3) مواهب الجليل 3 / 48، والزرقاني 2 / 257، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 27، والمدونة 2 / 130، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 127، ونهاية المحتاج 2 / 442، والإيضاح للنووي نسخة حاشية ابن حجر ص 157، والمهذب والمجموع 7 / 163 و166، ومغني المحتاج 1 / 514، والمغني 3 / 484، والكافي 1 / 532 - 533، ومطالب أولي النهى 2 / 308.(33/83)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 22 - 28) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْل فَسَادِ الْعُمْرَةِ:
8 - إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُدْخِل الْحَجَّ عَلَيْهَا وَمُحْرِمٌ بِهِ فَوْقَهَا، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ الإِْرْدَافِ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ (1) ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 24) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
9 - أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ الطَّوَافَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْل الشُّرُوعِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 25 - 27)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
10 - أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ كُل الأَْشْوَاطِ أَوْ أَكْثَرَهَا
__________
(1) المسلك المتقسط ص 171، وحاشية الدسوقي 2 / 28، ومواهب الجليل 3 / 51، ونهاية المحتاج 2 / 442، والمجموع 7 / 163 - 166.
(2) لباب المناسك ص 172، ورد المحتار 2 / 262 - 263.(33/83)
قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
11 - أَنْ يَصُونَهُمَا عَنِ الْفَسَادِ: فَلَوْ أَفْسَدَهُمَا بِأَنْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ وَقَبْل أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ بَطَل قِرَانُهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ الْفَسَادِ.
أَمَّا إِذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَقَطْ فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَزِمَهُ مُوجِبُ فَسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْقِرَانِ، انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَمَتُّع ف 13) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
12 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ الْقِرَانِ مِنَ الْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، فَجَعَلُوا هَذَا شَرْطًا لِلُزُومِ دَمِ الْقِرَانِ، لاَ لِلْمَشْرُوعِيَّةِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ اسْمَ الإِْشَارَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {
__________
(1) المسلك المتقسط ص 171 - 172.
(2) الشرح الكبير 2 / 27، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 490 - 491، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 130، ونهاية المحتاج 2 / 444 و 447، والمغني 3 / 468.(33/84)
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) ، يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ - وَهُوَ يَشْمَل الْقِرَانَ - إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَقِرَانُهُ وَتَمَتُّعُهُ صَحِيحَانِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِرَانِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْقَارِنُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الرَّاجِحِ (3) .
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِ (ذَلِكَ) الْوَارِدَةِ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ: التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ يَشْمَل الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِرَانَ وَلاَ تَمَتُّعَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهَدْيَ لَقَال: ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (4) .
وَيَدُل لِلْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) انظر تفسير الآية بهذا في روح المعاني للألوسي طبع بولاق 1 / 389، والقرطبي (الجامع لأحكام القرآن) 2 / 381، وابن العربي في أحكام القرآن 1 / 54 طبع عيسى الحلبي، والمجموع 7 / 162.
(3) الدر المختار وحاشيته 2 / 270 - 272، والمسلك المتقسط ص 172.
(4) أحكام القرآن للجصاص 1 / 339، وانظر ابن العربي والألوسي في الموضعين السابقين.(33/84)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَال: أَهَل الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. . . إِلَى أَنْ قَال: " فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْل مَكَّةَ، قَال اللَّهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) .
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
13 - عَدَمُ فَوَاتِ الْحَجِّ: فَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ لَمْ يَكُنْ قَارِنًا، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ (2) .
كَيْفِيَّةُ الْقِرَانِ:
14 - هِيَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ، لاَ بَعْدَهُ (3) .
وَمِيقَاتُ إِحْرَامِ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ إِحْرَامِ الْمُفْرِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِيقَاتُ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْخَاصِّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ قِرَانَ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقِرَانُ، وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ،
__________
(1) حديث ابن عباس: " أنه سئل عن متعة الحج " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 433) .
(2) لباب المناسك للسندي الحنفي ص 172، وابن عابدين 2 / 262.
(3) شرح المنهاج للمحلي 2 / 127.(33/85)
فَيُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِل فَيُحْرِمَ بِالْقِرَانِ.
(ر: إِحْرَام ف 40 وَ 52) .
15 - وَكَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الْقَارِنِ، أَنَّهُ بَعْدَمَا يَسْتَعِدُّ لِلإِْحْرَامِ يَقُول نَاوِيًا بِقَلْبِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي، أَوْ نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ. إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ، ثُمَّ يَقُول: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَعَاقِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِضَافَةً إِلَى الْعُمْرَةِ (ر: إِحْرَام ف 117) .
فَإِذَا انْعَقَدَ الإِْحْرَامُ قَارِنًا، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَفْعَل مَا يَفْعَل الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ، وَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَيَسْعَى بَعْدَهُ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ السَّعْيِ، ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ أَعْمَال الْحَجِّ، وَيَذْبَحُ هَدْيًا يَوْمَ النَّحْرِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (هَدْي) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ: طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ أَدَائِهِ لِلْقِرَانِ: إِذَا انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ قَارِنًا دَخَل مَكَّةَ، وَابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَرْمُل فِي(33/85)
الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْهَا، وَيَضْطَبِعُ فِيهَا كُلِّهَا، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذِهِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَال الْحَجِّ، فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَسْعَى بَعْدَهُ سَعْيَ الْحَجِّ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ (ر: سَعْي) وَعِنْدَئِذٍ يَرْمُل فِي الطَّوَافِ الثَّانِي وَيَضْطَبِعُ؛ لأَِنَّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (1) ، ثُمَّ يُتَابِعُ أَعْمَال الْحَجِّ كَمَا فِي الإِْفْرَادِ، وَيَذْبَحُ هَدْيًا إِلَى آخِرِهِ. . . لَكِنْ لاَ يَتَحَلَّل بِمَا أَدَّاهُ مِنْ أَفْعَال الْعُمْرَةِ وَلاَ يَحْلِقُ، لأَِنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ وَوَقْتُ تَحَلُّلِهِ يَوْمُ النَّحْرِ (2) .
تَحَلُّل الْقَارِنِ:
16 - لِلْقَارِنِ تَحَلُّلاَنِ:
التَّحَلُّل الأَْوَّل: وَيُسَمَّى أَيْضًا الأَْصْغَرَ.
وَيَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِفِعْل اثْنَيْنِ مِنْ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الْمَسْبُوقُ بِالسَّعْيِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَحِل حَتَّى يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، حَتَّى الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ الذَّبْحَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 263.
(2) شرح اللباب ص 174.(33/86)
لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّحَلُّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَحِل بِالتَّحَلُّل الأَْوَّل جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ إِلاَّ الْجِمَاعَ.
وَأَمَّا التَّحَلُّل الثَّانِي: وَيُسَمَّى التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ: فَتَحِل بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءَ إِجْمَاعًا.
وَيَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ بِشَرْطِ الْحَلْقِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ مَسْبُوقًا بِالسَّعْيِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ مَدْخَل لِلسَّعْيِ فِي التَّحَلُّل لأَِنَّهُ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَحْصُل بِاسْتِكْمَال أَفْعَال التَّحَلُّل الثِّقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (1) .
هَدْيُ الْقِرَانِ:
17 - يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) .
لأَِنَّ الْقَارِنَ فِي حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ،
__________
(1) فتح القدير 2 / 183، والمسلك المتقسط ص 155، وشرح رسالة ابن أبي زيد 1 / 479، والشرح الكبير للدردير 2 / 46، ونهاية المحتاج 2 / 431، والكافي 1 / 608، والمغني 3 / 442، ومطالب أولي النهى 2 / 427.
(2) المغني 3 / 468 و 469.
(3) سورة البقرة / 196.(33/86)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: " وَإِنَّمَا جُعِل الْقِرَانُ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ؛ لأَِنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى، وَيَتَمَتَّعُ بِجَمْعِهِمَا وَلَمْ يُحْرِمْ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ مِيقَاتِهِ، وَضَمَّ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَدَخَل تَحْتَ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ نُسُكَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا فَلأََنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الإِْحْرَامِ أَوْلَى (1) .
وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِيهِ شَاةٌ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَل، وَالْبَدَنَةُ أَفْضَل مِنْهُمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ هَذَا الْهَدْيِ، فَقَال الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ دَمُ شُكْرٍ، وَجَبَ شُكْرًا لِلَّهِ لِمَا وَفَّقَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، فَيَأْكُل مِنْهُ وَيُطْعِمُ مَنْ شَاءَ وَلَوْ غَنِيًّا، وَيَتَصَدَّقُ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ دَمُ جَبْرٍ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل
__________
(1) المهذب بشرح المجموع 7 / 190.
(2) فتح القدير 2 / 322، والمسلك المتقسط ص 174، وتبيين الحقائق 2 / 89، ورسالة ابن أبي زيد وشرحها 1 / 508 - 509، وشرح العشماوية للصفتي ص 203، وبداية المجتهد 1 / 267، والمغني 3 / 541، والكافي 1 / 535 - 539 و634 - 635، ومطالب أولي النهى 2 / 475.(33/87)
مِنْهُ، بَل يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (هَدْي) .
وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهَدْيِ فَعَلَيْهِ بِالإِْجْمَاعِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَمَتُّع ف 17 - 20) (وَهَدْي) .
صَيْرُورَةُ التَّمَتُّعِ قِرَانًا:
18 - إِذَا سَاقَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحِل الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ، وَلاَ يَحْلِقُ، وَلَوْ حَلَقَ لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ، وَيَكُونُ حَلْقُهُ جِنَايَةً عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ هَذِهِ، بَل يَظَل حَرَامًا، ثُمَّ يُهِل يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْحَجِّ، وَيَفْعَل مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ - لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ - حَتَّى يَحِل يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهُمَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) المجموع 8 / 332، ومغني المحتاج 1 / 517.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) الهداية 2 / 214 - 215، والمسلك المتقسط ص 192، ومطالب أولي النهى 2 / 315 - 316، 307.(33/87)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (2) ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ كَالَّذِي لَمْ يَسُقْهُ، يَتَحَلَّل بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ، وَيَمْكُثُ بِمَكَّةَ حَلاَلاً حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَمَتُّع ف 15) .
جِنَايَاتُ الْقَارِنِ عَلَى إِحْرَامِهِ:
19 - بِنَاءً عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْقَارِنِ، هَل يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ. كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، أَوْ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ لَهُمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ لِلْقَارِنِ.
فَالْجُمْهُورُ سَوَّوْا بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: " كُل شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - مِمَّا ذَكَرْنَا - أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ بِجِنَايَتِهِ دَمٌ فَعَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ، لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ ".
وَالتَّفْصِيل فِي (إِحْرَام ف 147 - 169) .
وَهَذَا إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لاَ اخْتِصَاصَ لَهَا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ وَالتَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَأَشْبَاهِهَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ فِيهَا جَزَاءَانِ.
__________
(1) متن العشماوية وحاشية الصفتي ص 202 - 203.
(2) المجموع 7 / 175.(33/88)
أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، كَتَرْكِ الرَّمْيِ، وَتَرْكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ (1) .
وَمِثْل الْقَارِنِ فِي ذَلِكَ كُل مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الإِْحْرَامَيْنِ، كَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ، أَوِ الَّذِي لَمْ يَسُقْهُ لَكِنْ لَمْ يَحِل مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَكَذَا كُل مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ أَوِ الْعُمْرَتَيْنِ (2) ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الإِْحْرَامِ بِهِمَا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَحَدِهِمَا وَلاَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (ر: إِحْرَام ف 22 - 29) .
أَمَّا جِمَاعُ الْقَارِنِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 178) .
__________
(1) انظر شرح اللباب ص 269 - 271.
(2) شرح اللباب ص 271.(33/88)
قُرْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْبُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْبُعْدِ، يُقَال:
قَرُبْتُ مِنْهُ أَقْرَبُ قُرْبًا وَقُرْبَانًا أَيْ دَنَوْتُ مِنْهُ وَبَاشَرْتُهُ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ فَيُقَال: قَرَّبْتُهُ.
وَيُسْتَعْمَل ذَلِكَ فِي الْمَكَانِ وَفِي الزَّمَانِ وَفِي النِّسْبَةِ وَفِي الْحَظْوَةِ وَفِي الرِّعَايَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَقِيل: الْقُرْبُ فِي الْمَكَانِ، وَالْقُرْبَةُ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالْقَرَابَةُ فِي الرَّحِمِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبُعْدُ:
2 - الْبُعْدُ ضِدُّ الْقُرْبِ، يُقَال: بَعُدَ الشَّيْءُ بُعْدًا فَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْجَمْعُ بُعَدَاءُ، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِالْهَمْزَةِ فَيُقَال: بَعَّدْتُ بِهِ جَعَلْتُهُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن مادة: (قرب) .(33/89)
بَعِيدًا، وَأَبْعَدْتُهُ: نَحَّيْتُهُ بَعِيدًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ.
وَعَلاَقَةُ الْبُعْدِ بِالْقُرْبِ الضِّدْيَةُ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْبُعْدُ ضِدُّ الْقُرْبِ، وَلَيْسَ لَهُمَا حَدٌّ مَحْدُودٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمَكَانِ بِغَيْرِهِ، يُقَال ذَلِكَ فِي الْمَحْسُوسِ وَهُوَ الأَْكْثَرُ، وَفِي الْمَعْقُول (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - فِي الإِْرْثِ
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْقْرَبَ مِنَ الْعَصَبَةِ الْوَارِثِينَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي الإِْرْثِ، فَلاَ يَرِثُ ابْنُ ابْنٍ مَعَ ابْنٍ صُلْبٍ أَوْ مَعَ ابْنِ ابْنٍ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (3) وَأَوْلَى الْوَارِدَةُ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ أَقْرَبُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 45، 54) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المفردات للراغب الأصفهاني.
(3) حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 11) ومسلم (3 / 1233) من حديث ابن عباس.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 492، والقوانين الفقهية ص 385، ومغني المحتاج 3 / 11، والمغني لابن قدامة 6 / 166.(33/89)
ب - فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ:
4 - جَاءَ فِي الْمُغْنِي: أَحَقُّ النَّاسِ بِإِنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا وَلاَ وِلاَيَةَ لأَِحَدٍ مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ أَكْمَل نَظَرًا وَأَشَدُّ شَفَقَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الْوِلاَيَةِ، ثُمَّ أَبُو الأَْبِ أَيِ الْجَدُّ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهَا وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَل (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وِلاَيَة) .
حُكْمُ إِنْكَاحِ الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ:
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْوَلِيُّ الأَْبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ الأَْقْرَبَ اسْتَحَقَّ الْوِلاَيَةَ بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ تَثْبُتْ لِلأَْبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ كَالْمِيرَاثِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ إِنْكَاحَ الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ فَلَهُ الاِعْتِرَاضُ وَالْفَسْخُ مَا لَمْ يَرْضَ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً كَقَبْضِهِ الْمَهْرَ مَثَلاً، وَمَا لَمْ يَسْكُتْ حَتَّى تَلِدَ أَوْ تَحْبَل.
فَإِنْ رَضِيَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً، أَوْ سَكَتَ حَتَّى تَلِدَ أَوْ تَحْبَل لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ، وَذَلِكَ لِئَلاَّ يَضِيعَ الْوَلَدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 311، والبدائع 2 / 240 - 250، والقوانين الفقهية ص 202، ومغني المحتاج 3 / 151، والمغني لابن قدامة 6 / 456.
(2) مغني المحتاج 3 / 154، 155، والمغني لابن قدامة 6 / 473.(33/90)
بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَإِنَّ بَقَاءَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى تَرْبِيَتِهِ أَحْفَظُ لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ صَحِيحًا إِذَا عَقَدَهُ الأَْبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الأَْقْرَبُ مُجْبَرًا، فَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا - وَهُوَ عِنْدَهُمُ الأَْبُ وَوَصِيُّهُ - فَلاَ يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ (2)
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة) (وَنِكَاح) .
ح - فِي الْحَضَانَةِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى بِالْحَضَانَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ الأُْمُّ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَهَا عَلَى مَذَاهِبَ، عَلَى أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ الْقُرْبَ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 9 - 13) .
د - فِي الْعَاقِلَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُرَاعَى فِيمَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنَ الْعَاقِلَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَلْزَمُ أَهْل الدِّيوَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِيوَانٌ وَجَبَتْ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 2 / 295 - 316، ومواهب الجليل 3 / 432.
(2) مواهب الجليل 3 / 432.(33/90)
الْقَبِيلَةِ مِنَ النَّسَبِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَاقِلَة ف 3) .
هـ - فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يُتَرَخَّصُ فِيهَا فِي السَّفَرِ:
8 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيل، وَمِنْهَا مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ: ثَلاَثَةٌ تَخْتَصُّ بِالطَّوِيل وَهِيَ: الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ وَمَسْحُ الْخُفِّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَاثْنَانِ يَجُوزَانِ فِي الطَّوِيل وَالْقَصِيرِ وَهُمَا: تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَثَلاَثَةٌ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالطَّوِيل قَوْلاَنِ وَهِيَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ وَجَوَازُ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَالأَْصَحُّ اخْتِصَاصُ الْجَمْعِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيل، عَدَمُ اخْتِصَاصِ السَّفَرِ الطَّوِيل بِجَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ (2) .
قَال السُّيُوطِيُّ: وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيل رُخْصَةً تَاسِعَةً صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ: مَا إِذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ وَلاَ
__________
(1) البدائع 7 / 256، والقوانين الفقهية ص 342، ومغني المحتاج 4 / 95، والمغني لابن قدامة 7 / 783.
(2) الأشباه للسيوطي ص 77، والمجموع للنووي 1 / 483، 4 / 322 وما بعدها.(33/91)
يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إِذَا رَجَعَ، وَهَل يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالطَّوِيل وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لاَ.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيل وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَهُوَ: الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسُقُوطُ الأُْضْحِيَّةِ، وَمَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ، بَل الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْخُرُوجِ عَنِ الْمِصْرِ وَهُوَ: تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ وَالنَّفَل عَلَى الدَّابَّةِ وَجَوَازُ التَّيَمُّمِ وَاسْتِحْبَابُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ نِسَائِهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ ف 3) (وَسَفَر ف 7، 11) .
و فِي انْتِقَال الْحَاضِنِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَال الْحَضَانَةِ مِنَ الْحَاضِنِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ فِي التَّرْتِيبِ بِالسَّفَرِ بُعْدًا أَوْ قُرْبًا، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل بِالسَّفَرِ الْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ، وَسَوَّى آخَرُونَ فِي الاِنْتِقَال بَيْنَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 15) .
__________
(1) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر 1 / 245، وجواهر الإكليل 1 / 88، والمغني لابن قدامة 2 / 255 وما بعدها.
(2) البدائع 4 / 44، وابن عابدين 2 / 642، والقوانين الفقهية ص 223، ومغني المحتاج 3 / 458، والمغني لابن قدامة 7 / 618.(33/91)
ز - فِي سَفَرِ الْمُعْتَدَّةِ وَعَوْدَتِهَا:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُنْشِئَ سَفَرًا قَرِيبًا كَانَ هَذَا السَّفَرُ أَوْ بَعِيدًا، بَل يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّفَرُ لأَِجْل الْحَجِّ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا خَرَجَتْ ثُمَّ طَرَأَتْ. الْعِدَّةُ هَل عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ لِتَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا، أَمْ يَجُوزَ لَهَا أَنْ تَمْضِيَ فِي سَفَرِهَا؟ وَهَل السَّفَرُ الْقَرِيبُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَنِ السَّفَرِ الْبَعِيدِ (1) ؟ .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد ف 19، 20، 22. 23) .
قُرْبَان
انْظُرْ: قُرْبَة
__________
(1) البدائع 3 / 205 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 392 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 402 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 531 وما بعدها.(33/92)
قُرْبَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْبَةُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالضَّمِّ لِلإِْتْبَاعِ - فِي اللُّغَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ قُرَبٌ وَقُرُبَاتٌ.
وَالْقُرْبَانُ - بِالضَّمِّ - مَا قُرِّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، تَقُول مِنْهُ: قَرَّبْتُ لِلَّهِ قُرْبَانًا، وَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ، أَيْ طَلَبَ بِهِ الْقُرْبَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى، قَال اللَّيْثُ: الْقُرْبَانُ: مَا قَرَّبْتَ إِلَى اللَّهِ تَبْتَغِي بِذَلِكَ قُرْبَةً وَوَسِيلَةً (1) .
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْقُرْبَةَ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الْقُرْبَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ (2) .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَال: الْقُرْبَةُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، أَوْ مَعَ الإِْحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 237.(33/92)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِبَادَةُ:
2 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ: فُلاَنٌ عَابِدٌ، وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لأَِمْرِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
أَوْ هِيَ: فِعْلٌ لاَ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّ الْقُرْبَةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ عِبَادَةً وَقَدْ لاَ تَكُونُ، كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ، وَالْقُرْبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عِبَادَةً لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ.
ب - الطَّاعَةُ:
3 - الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ، يُقَال: أَطَاعَهُ إِطَاعَةً، أَيِ انْقَادَ لَهُ، وَالاِسْمُ: طَاعَةٌ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ، مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: الطَّاعَةُ: فِعْل الْمَأْمُورَاتِ وَلَوْ نَدْبًا وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ كَرَاهَةً (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ هِيَ: أَنَّ الْقُرْبَةَ أَخَصُّ مِنَ الطَّاعَةِ، لاِعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 72، 2 / 237.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) الكليات للكفوي 3 / 156.(33/93)
الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْبَةِ (1) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ زَكَرِيَّا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَنَّ الْقُرْبَةَ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ.
وَالطَّاعَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لاَ، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ أَوْ لاَ، فَنَحْوُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُل مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفُ وَالْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لاَ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ لاَ قُرْبَةٌ وَلاَ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ لَيْسَ قُرْبَةً، لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُل بَعْدَهُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - مِنَ الْقُرَبِ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَالْفَرَائِضِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، فَهِيَ عِبَادَاتٌ مَقْصُودَةٌ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا، وَعُلِمَ مِنَ
__________
(1) الكليات للكفوي 3 / 156.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 72.(33/93)
الشَّارِعِ الاِهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً.
وَمِنَ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الْقُرَبُ الَّتِي يُلْزِمُ الإِْنْسَانُ بِهَا نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ (1) .
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، كَالنَّوَافِل وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ (2) .
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ، إِذْ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ تَكُونُ قُرْبَةً بِنِيَّةِ إِرَادَةِ الثَّوَابِ بِهَا، كَالأَْفْعَال الْعَادِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْبَةُ، كَالطَّعَامِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ (3) .
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَذَلِكَ كَالْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ، كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إِذَا فَعَلَهَا الإِْنْسَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِمَّا لاَ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلاَ يَحِل تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ (4) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، فَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْتِزَامَهُ قِيَامَ اللَّيْل وَصِيَامَ النَّهَارِ وَاجْتِنَابَ النِّسَاءِ، وَقَال لَهُ: {
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 72، والبدائع 5 / 82، والاختيار 4 / 76، وروضة الطالبين 3 / 301، والفروق 1 / 130.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 72، والمنثور في القواعد 3 / 61، والحطاب 2 / 545.
(3) المنثور في القواعد 3 / 287، والأشباه لابن نجيم ص 24.
(4) المنثور 3 / 278.(33/94)
أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ فَقَال: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، لَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَال: فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ (1) ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْل وَالاِخْتِصَاءِ، وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّهِمْ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرَعَ (2) ، فَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) .
وَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ كَالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ لاَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ (4)
مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ:
5 - الْقُرُبَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ غَيْرَ عِبَادَةٍ كَالتَّبَرُّعَاتِ مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلاَ
__________
(1) حديث: " أرغبت عن سنتي؟ . . . " أخرجه أبو داود (2 / 101) .
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 174.
(3) سورة المائدة / 87.
(4) مغني المحتاج 3 / 122، وشرح منتهى الإرادات 2 / 540.(33/94)
تَصِحُّ قُرُبَاتُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ (1) ، وَالصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا، قَال النَّوَوِيُّ: يُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ: كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْقِرَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ (2) ، وَحَدِيثُ صَلاَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ. قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَل لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِْفْطَارِ (4) .
__________
(1) البحر المحيط 1 / 415 - 416، والمنثور للزركشي 3 / 99، والمغني 5 / 555.
(2) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334) ، والحاكم (1 / 197) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم.
(3) حديث: أن ابن عباس صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 190) .
(4) حديث: الربيع بنت معوذ: " أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 200) .(33/95)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِغَر ف 32) وَمُصْطَلَحِ (جُنُون ف 11) .
وَإِنْ كَانَتِ الْقُرُبَاتُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مَالِيٌّ مِنْهَا أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ؛ لأَِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ وَعِتْقَهُ وَوَصِيَّتَهُ وَصَدَقَتَهُ صَحِيحَةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ عُقُودٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قُرُبَاتٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ (2) .
نِيَّةُ الْقُرْبَةِ:
6 - مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
أَوَّلاً: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ هِيَ كَمَا يَقُول الْقَرَافِيُّ: الَّتِي لاَ لَبْسَ فِيهَا، كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلاَلِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْ نِقَمِهِ، وَالرَّجَاءِ لِنِعَمِهِ، وَالتَّوَكُّل عَلَى كَرَمِهِ،
__________
(1) المجموع للنووي 7 / 34 تحقيق المطيعي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 119.
(2) مغني المحتاج 4 / 354، والبحر المحيط 1 / 415.(33/95)
وَالْحَيَاءِ مِنْ جَلاَلِهِ، وَالْمَحَبَّةِ لِجَمَالِهِ، وَالْمَهَابَةِ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيل، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ الأَْذْكَارِ، فَإِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِجَنَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (1) .
ثَانِيًا: الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهِيَ: الْعِبَادَاتُ، مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ مَنْدُوبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَعْظِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِهَا، وَالْخُضُوعُ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُل إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ بِالْفِعْل بِدُونِ الْمُعَظَّمِ مُحَالٌ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ (2) ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْعِبَادَاتِ هِيَ إِخْلاَصُ الْعَمَل لِلَّهِ تَعَالَى (3) ، يَقُول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) .
وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ إِنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، لِيَتَمَيَّزَ مَا لِلَّهِ عَنْ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ (5) .
__________
(1) الذخيرة ص 237، والمنثور في القواعد 3 / 288.
(2) الذخيرة ص 240، والفروق للقرافي 1 / 130.
(3) المنثور 3 / 285، والذخيرة ص 235.
(4) سورة البينة / 5.
(5) الذخيرة للقرافي ص 236، والأشباه للسيوطي ص 13، والأشباه لابن نجيم ص 29، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 285.(33/96)
فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا تَكُونُ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ: الْغُسْل، يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً، وَدَفْعُ الأَْمْوَال، يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَمُوَاصَلَةً عُرْفِيَّةً، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، يَكُونُ عِبَادَةً وَحَاجَةً، وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ، يَكُونُ مَقْصُودًا لِلصَّلاَةِ وَتَفَرُّجًا يَجْرِي مَجْرَى اللَّذَّاتِ، وَالذَّبْحُ، قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ الأَْكْل، وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْقُرَبِ مِنْ غَيْرِهَا.
أَمَّا نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِي الْعِبَادَاتِ، فَهِيَ لِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهَا، لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: الصَّلاَةُ، تَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضٍ وَمَنْدُوبٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَضَاءً وَأَدَاءً، وَالْمَنْدُوبُ يَنْقَسِمُ إِلَى رَاتِبٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ، وَغَيْرِ رَاتِبٍ كَالنَّوَافِل، وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي قُرُبَاتِ الْمَال وَالصَّوْمِ وَالنُّسُكِ (1) .
ثَالِثًا: الأَْعْمَال الْوَاجِبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لاَ تُعْتَبَرُ قُرُبَاتٍ فِي ذَاتِهَا، لَكِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ قُرُبَاتٍ إِذَا نَوَى بِهَا الْقُرْبَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيل مَصَالِحِهَا، كَدَفْعِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَنَفَقَاتِ
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 13، والأشباه لابن نجيم ص 29، والذخيرة للقرافي ص 236 - 237، وقواعد الأحكام 1 / 176 - 177.(33/96)
الزَّوْجَاتِ، وَالأَْقَارِبِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِل لَهَا، فَيَخْرُجُ الإِْنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا، فَمَنْ دَفَعَ دَيْنَهُ غَافِلاً عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ أَجْزَأَ عَنْهُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِامْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَصَل لَهُ الثَّوَابُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمِثْل ذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الأَْعْمَال، يَخْرُجُ الإِْنْسَانُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ فَإِنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّ التَّرْكَ يَصِيرُ قُرْبَةً وَيَحْصُل لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لأَِجْل نِيَّةِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّ صِفَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَتْ لأَِجْلِهِ، فَإِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقَوِّيَ عَلَى الطَّاعَاتِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَيْهَا كَانَتْ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا (2) .
وَفِي الْمَنْثُورِ: قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلاَمِ قُرْبَةٌ لاَ يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَقَطْعُ السَّرِقَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنَ الإِْمَامِ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 50 و1 / 130، والذخيرة ص 240، والمنثور 3 / 61، 287، 288، والأشباه لابن نجيم ص 23، وقواعد الأحكام 1 / 176 - 177.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 23، والمنثور 3 / 287، والفروق للقرافي 1 / 130.(33/97)
قُرْبَةٌ، وَلاَ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُثَبْ (1) .
الثَّوَابُ عَلَى الْقُرُبَاتِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
7 - يُثَابُ الإِْنْسَانُ وَيُعَاقَبُ عَلَى كَسْبِهِ وَاكْتِسَابِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِتَسَبُّبٍ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) ، وَقَال تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (3) ، أَيْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ جَزَاءُ سَعْيِهِ، وَقَال تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُل نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (4) ، وَالْغَرَضُ بِالتَّكَالِيفِ تَعْظِيمُ الإِْلَهِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِيهِ (5) .
وَالثَّوَابُ عَلَى الْعَمَل فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَلاَ اسْتِحْقَاقَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّل عَلَى عَمَلٍ لأَِجْلِهِ بِجَعْل الثَّوَابِ لَهُ، كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّل بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا (6) .
أَثَرُ الْقَصْدِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْقُرْبَةِ:
8 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ
__________
(1) المنثور 3 / 61.
(2) سورة الطور / 16.
(3) سورة النجم / 39.
(4) سورة الأنعام / 164.
(5) قواعد الأحكام 1 / 114 ط. دار الكتب العلمية بيروت.
(6) بدائع الصنائع 2 / 212.(33/97)
الإِْنْسَانُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَمَيَّزَ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ مَهْمَا قَصَدَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْمَعْرِفَةِ وَالإِْيمَانِ وَالأَْذَانِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنَ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ، فَهَذَا لاَ يُثَابُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِنِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: نِيَّةُ إِيجَادِ الْفِعْل، وَالثَّانِيَةُ: نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَل، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ أُثِيبَ عَلَى أَجْزَائِهِ الَّتِي لاَ تَقِفُ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّهْلِيلاَتِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا شُرِعَ لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الأُْخْرَوِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا، كَإِقْبَاضِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالصَّنَائِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا بَقَاءُ الْعَالَمِ، فَهَذَا لاَ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ جَل (1) .
وَقَدْ يَقُومُ الإِْنْسَانُ بِعَمَلٍ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَهُ وَأَرْكَانَهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنَّوَايَا، وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 149 ط. دار الكتب العلمية بيروت.(33/98)
فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (1) .
كَمَا قَدْ يُتْبِعُ الإِْنْسَانُ الْعَمَل الصَّحِيحَ بِمَا يُضَيِّعُ ثَوَابَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالأَْذَى يُبْطِل ثَوَابَ الصَّدَقَةِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى} (3) .
وَقَدْ يَعْمَل الإِْنْسَانُ الْعَمَل فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الصَّحِيحَ، فَقَدْ وَرَدَ حَدِيثَانِ يُؤَيِّدَانِ هَذَا الْمَعْنَى، أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُل أُتِيَ فَقِيل لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ (4) .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُل الَّذِي
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنية. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ، ومسلم (3 / 1515 - 1516) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ لمسلم.
(2) الموافقات للشاطبي 1 / 292، وفتح الباري 3 / 277.
(3) سورة البقرة / 264.
(4) حديث: " المتصدق الذي وقعت صدقته في يد سارق وزانية وغني. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 290) .(33/98)
وُضِعَتْ عِنْدَهُ، وَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ (1) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ (2) .
نَقْل ثَوَابِ الْقُرْبَةِ لِلْغَيْرِ:
9 - تَنْقَسِمُ الْقُرُبَاتُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ، وَلَمْ يَجْعَل لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ، كَالإِْيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إِيمَانَهُ لِيَدْخُل الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هِبَةُ ثَوَابِ مَا سَبَقَ مَعَ بَقَاءِ الأَْصْل، لاَ سَبِيل إِلَيْهِ.
وَقِسْمٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْل ثَوَابِهِ، وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.
وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ (3) ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَقْل ثَوَابِ مَا أَتَى بِهِ الإِْنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْيَاءِ وَالأَْمْوَاتِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ جَعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَاتِ وَالأَْحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِل ثَوَابُهُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ " عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
__________
(1) حديث " معن بن يزيد الذي أخذ صدقة أبيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 291) .
(2) فتح الباري 3 / 290 - 291.
(3) الفروق للقرافي 3 / 192، ومنح الجليل 1 / 306.(33/99)
أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَيَذْبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلاَغِ، وَذَبَحَ الآْخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآل مُحَمَّدٍ (1)
وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى ذَلِكَ عَمَل الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، وَجَعْل ثَوَابِهَا لِلأَْمْوَاتِ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَيَّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الإِْنْسَانُ وَجَعَل ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: كَالدُّعَاءِ وَالاِسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ (4) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجُوزُ نَقْل ثَوَابِ الصَّلاَةِ
__________
(1) حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا أراد أن يضحي. . . " أخرجه أحمد (6 / 225) من حديث عائشة.
(2) حديث: عائشة " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 388 - 389) ومعنى افتلتت في الحديث: ماتت فجأة.
(3) بدائع الصنائع 2 / 212.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 567 - 568 - 569، وشرح منتهى الإرادات 1 / 362.(33/99)
وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَى الْغَيْرِ، وَلاَ يَحْصُل شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (2) ، وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالصَّدَقَاتِ (3) .
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: تَنْفَعُ الْمَيِّتَ صَدَقَةٌ عَنْهُ، وَوَقْفٌ وَبِنَاءُ مَسْجِدٍ، وَحَفْرُ بِئْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَدُعَاءٌ لَهُ مِنْ وَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ كَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَكِنْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالأَْذْكَارِ وَجْهًا، أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل إِلَى الْمَيِّتِ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الأَْصْحَابِ (4) .
الأَْجْرُ عَلَى الْقُرُبَاتِ:
10 - الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ وَلاَ يَتَعَدَّى نَفْعُهَا فَاعِلَهَا كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْجْرَ عِوَضُ الاِنْتِفَاعِ وَلَمْ يَحْصُل لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) سورة النجم / 39.
(2) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1255) من حديث أبي هريرة.
(3) الفروق للقرافي 3 / 192، ومنح الجليل 1 / 306، 442.
(4) مغني المحتاج 3 / 69 - 70، والمنثور 3 / 312.(33/100)
مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ يَقَعُ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا لِلْغَيْرِ كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ كَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الأَْفْعَال كَوْنَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا.
لَكِنْ أَجَازَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اسْتِحْسَانًا وَمِثْل ذَلِكَ الإِْمَامَةُ وَالأَْذَانُ لِلْحَاجَةِ.
أَمَّا مَا يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ (2) .
وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْقُرُبَاتِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا كَالْقَضَاءِ، لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) البدائع 4 / 191، وجواهر الإكليل 2 / 189، ومغني المحتاج 2 / 344، والمغني 5 / 559.
(2) البدائع 4 / 191، وحاشية ابن عابدين 5 / 34 - 35، والهداية 3 / 247، وجواهر الإكليل 2 / 188 - 189، ومغني المحتاج 2 / 344، والمنثور 3 / 30 - 31، والمغني 3 / 231 و5 / 555، 559.(33/100)
أَجْرًا، يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً، بَل رِزْقٌ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَمَنْ عَمِل مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ، وَمَا يَأْخُذُهُ فَهُوَ رِزْقٌ لِلْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَال الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَال الْبِرِّ، وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ، لَيْسَ كَالأُْجْرَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ بَابَ الأَْرْزَاقِ أَدْخَل فِي بَابِ الإِْحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الإِْجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَل فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَائِل مِنْهَا: الْقُضَاةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الْقَضَاءِ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِسَبَبِ أَنَّ الأَْرْزَاقَ إِعَانَةٌ مِنَ الإِْمَامِ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، لاَ أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ وَنُهُوضِهَا، وَلَوِ اسْتُؤْجِرُوا عَلَى ذَلِكَ لَدَخَلَتِ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ، وَيَجُوزُ فِي الأَْرْزَاقِ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقَاضِي الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيل وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ، وَلَوْ كَانَ إِجَارَةً لَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ (2) .
__________
(1) الاختيارات لابن تيمية ص 153.
(2) الفروق للقرافي 3 / 3.(33/101)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ وَالإِْمَامَةُ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا (1) .
النِّيَابَةُ فِي الْقُرْبَةِ:
11 - مِنَ الْقُرُبَاتِ مَا لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ بِالإِْجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ، مِثْل الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ عَنِ الْحَيِّ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ، إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (2) ، فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُهْدَةِ لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ.
وَمِنَ الْقُرُبَاتِ مَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ بِالإِْجْمَاعِ، وَهِيَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالإِْبْرَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الإِْنْسَانُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال، وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ.
أَمَّا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) المغني 3 / 231.
(2) أثر ابن عباس: لا يصلي أحد عن أحد. أخرجه النسائي في سننه الكبرى (2 / 341) ، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 209) .(33/101)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ، وَقَال الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرَمِ، وَقَال أَشْهَبُ: إِنْ أَجَّرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلاَفِ (1) .
أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِحْجَاجِ رَجُلٍ عَنْهُ جَازَ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عَنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ، أَمَّا الصَّوْمُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، أَحَدُهُمَا لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لأَِنَّهُ
__________
(1) البدائع 2 / 103، 212، وحاشية ابن عابدين 2 / 236، 237، ومنح الجليل 1 / 442، 449 و 3 / 352، والحطاب 2 / 543، 544، والفروق 2 / 205 و3 / 185 - 186، والمهذب 1 / 206، والمنثور 3 / 312، ومغني المحتاج 1 / 468، و 3 / 67 - 70، والقليوبي 3 / 73، ومنتهى الإرادات 1 / 121، 418، 457، والمغني 9 / 30 - 31.(33/102)
عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (1) ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الأَْظْهَرُ، أَمَّا الْحَجُّ فَمَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَلَمْ يُؤَدِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْهَا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبَيْنِ بِأَصْل الشَّرْعِ - أَيِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ - لأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ، أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ، سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ عَنْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 192) ، ومسلم (2 / 803) من حديث عائشة.
(2) حديث بريدة: " أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة. . . " أخرجه مسلم (2 / 805) .
(3) البدائع 2 / 103، 212، وحاشية ابن عابدين 2 / 236، 237، منح الجليل 1 / 442، 449، و 3 / 352، والحطاب 2 / 543، 544، والفروق 2 / 205 و 3 / 185 - 186، والمهذب 1 / 206، والمنثور 3 / 312، ومغني المحتاج 1 / 468 و 3 / 87 إلى 70، والقليوبي 3 / 73، ومنتهى الإرادات 1 / 121، 418، 457، والمغني 9 / 30، 31.(33/102)
الإِْيثَارُ بِالْقُرَبِ:
12 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي حَاشِيَةِ الأَْشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنِ الْمُضْمِرَاتِ عَنِ النِّصَابِ: وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل فَدَخَل رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْل عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. اهـ
فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الإِْيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلاَ كَرَاهَةٍ، وَنَقَل الْعَلاَّمَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُل عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (1) ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَال لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَال: فَتَلَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ (2) ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الإِْذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَل مِنْهُ. أهـ.
أَقُول: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إِذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَل مِنْهَا، كَاحْتِرَامِ أَهْل الْعِلْمِ وَالأَْشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ. . .، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا
__________
(1) سورة الحشر / 9.
(2) حديث: " أنه عليه الصلاة والسلام أتى بشراب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1604) .(33/103)
أَنَّ الإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ، وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ (1) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الإِْيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ، قَال تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) .
قَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ إِيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ، فَلاَ إِيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ، وَلاَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلاَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالإِْجْلاَل، فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إِجْلاَل الإِْلَهِ وَتَعْظِيمَهُ.
وَقَال الإِْمَامُ: لَوْ دَخَل الْوَقْتُ - وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ - فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لاَ أَعْرِفُ فِيهِ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ الإِْيثَارَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ، لاَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ: لاَ يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ، فَإِنِ انْتَقَل إِلَى أَبْعَدَ مِنَ الإِْمَامِ كُرِهَ، قَال أَصْحَابُنَا: لأَِنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ.
وَقَال الْقَرَافِيُّ: مَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْيثَارُ، وَلَوْ أَرَادَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 382 - 383.
(2) سورة الحشر / 9.(33/103)
الْمُضْطَرُّ إِيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لاِسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلاَ يَسُوغُ فِيهِ الإِْيثَارُ، وَالْحَقُّ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إِلاَّ وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَحَسُنَ إِيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَقَال الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ: كَرِهَ قَوْمٌ إِيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ (1) .
مَرَاتِبُ الْقُرُبَاتِ:
13 - أ - أَفْضَل الْقُرُبَاتِ هُوَ الإِْيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (2) ، جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِْيمَانَ أَفْضَل الأَْعْمَال، لِجَلْبِهِ لأَِحْسَنِ الْمَصَالِحِ وَدَرْئِهِ لأَِقْبَحِ الْمَفَاسِدِ مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ، وَثَوَابُهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ (3) .
ب - ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 129 - 130.
(2) حديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الأعمال أفضل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 380) ، ومسلم (1 / 88) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) قواعد الأحكام 1 / 46 - 47، والفروق 2 / 215.(33/104)
اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأَُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ (1) .
جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ، وَفِي الإِْتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَال الأَْمْرِ وَاحْتِرَامُ الآْمِرِ، وَتَعْظِيمُهُ بِالاِنْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذُل الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَل (2) .
ج - وَبَعْدَ مَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ فِي الْقُرْبَةِ تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّوَافِل، بِدَلِيل مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، قَال الْفَاكِهَانِيُّ: إِذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِل، نَال مَحَبَّةَ
__________
(1) حديث " إن الله قال من عادى لي وليًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 340 - 341) .
(2) الفروق 2 / 122، وقواعد الأحكام 1 / 55، وفتح الباري 11 / 341 - 343.(33/104)
اللَّهِ تَعَالَى، وَكُل فَرِيضَةٍ تُقَدَّمُ عَلَى نَوْعِهَا مِنَ النَّوَافِل كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَفَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا، وَهَكَذَا (1) .
د - وَإِذَا كَانَتْ قُرَبُ الْفَرَائِضِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الإِْيمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَل هَذِهِ الْفَرَائِضِ، فَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ أَفْضَل الأَْعْمَال لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةُ (2) ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلاَةُ، وَقِيل: إِنَّ الصِّيَامَ أَفْضَل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: كُل عَمَل ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ (3) ، وَقِيل: إِنَّ الْحَجَّ أَفْضَل الأَْعْمَال (4) .
هـ - وَالْقُرَبُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَبِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لأَِنَّ طَلَبَ الْفِعْل مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّتَهُ عَلَى مَا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 55، والفروق 2 / 122، وفتح الباري 11 / 343.
(2) حديث: " اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " أخرجه ابن ماجه (1 / 101 - 102) ، والحاكم (1 / 130) من حديث ثوبان، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 118) ، ومسلم (2 / 806) من حديث أبي هريرة.
(4) الفروق 1 / 133، والمجموع شرح المهذب 3 / 457 تحقيق المطيعي، وقواعد الأحكام 1 / 55 - 56، والحطاب 2 / 538.(33/105)
طُلِبَ مِنَ الْبَعْضِ فَقَطْ؛ وَلأَِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكْرَارِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْل، وَفَرْضُ الأَْعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْل، وَالْفِعْل الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الَّذِي لاَ تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إِلاَّ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ (1) .
و عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَال الإِْنْسَانِ، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَل أَفْضَل؟ فَقَال: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَسُئِل: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَسُئِل أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَال السَّائِل، فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِل مِنَ الأَْعْمَال؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الأَْفْضَل إِلاَّ لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى ذِي الْجَلاَل، فَكَأَنَّ السَّائِل قَال: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل لِي فَقَال: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ "، لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِل بِبِرِّهِمَا، وَقَال لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَل الأَْعْمَال بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) ،
__________
(1) تهذيب الفروق بهامش الفروق 2 / 201.
(2) أحاديث: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، وحج مبرور، والجهاد في سبيل الله. أخرجها البخاري (فتح الباري 1 / 77، 10 / 400) .(33/105)
وَقَال لِمَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: الصَّلاَةُ لأَِوَّل وَقْتِهَا (1) .
ز - وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَرَاتِبِ النَّوَافِل مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ نَوَافِل الصَّلاَةِ أَفْضَل مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا لأَِنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَفْضَل تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (2) ، ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، ثُمَّ الصَّلاَةُ (3) .
ح - أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ: مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ، فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ، وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ، وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنَ الْكُل، لأَِنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنَ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَال (4) ، وَقِيل: إِنَّ الْقَرْضَ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ (5) ؛ لأَِنَّ " رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 56.
(2) سورة النساء / 95.
(3) الشرح الصغير 1 / 145 ط. الحلبي، والمهذب 1 / 89، والمجموع 2 / 456 - 459، وشرح منتهى الإرادات 1 / 222 - 223.
(4) المنثور 3 / 62.
(5) منح الجليل 3 / 46، والمهذب 1 / 309.(33/106)
عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ، وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ، فَسَأَل جِبْرِيل: مَا بَال الْقَرْضِ أَفْضَل مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَال: لأَِنَّ السَّائِل يَسْأَل وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ (1) .
وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْل الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْل تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ (2) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (3) .
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَل مِنَ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ (4) .
وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الإِْحْيَاءِ: أَنَّ فَضْل الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا، فَتَصَدُّقُ الْبَخِيل
__________
(1) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة أسري به مكتوبًا على باب الجنة. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 812) من حديث أنس بن مالك، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 47) .
(2) الاختيار 4 / 172.
(3) حديث: " خير الناس أنفعهم للناس " أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2 / 223) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) الأشباه ص 174.(33/106)
بِدِرْهَمٍ أَفْضَل فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ (1) .
نَذْرُ الْقُرْبَةِ:
14 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَذْرِ مَا يُعْتَبَرُ قُرْبَةً مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ الاِهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إِيقَاعَهَا عِبَادَةً، فَهَذَا النَّذْرُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقُرْبَةِ الْمَنْذُورَةِ أَنْ لاَ تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الإِْنْسَانِ ابْتِدَاءً، كَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ لَهُ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ مُوَضِّحًا مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ: قَال أَصْحَابُنَا: نَذْرُ الْوَاجِبِ كَالصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَنْعَقِدَ نَذْرُهُ مُوجِبًا كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِنْ تَرَكَهُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ.
لَكِنْ جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي الْوَاجِبِ، كَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَنَحْوُهُ كَصَلاَةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَال: وَعِنْدَ
__________
(1) المنثور 2 / 421 - 422.(33/107)
الأَْكْثَرِ لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَذْرِ الْقُرَبِ الَّتِي لاَ أَصْل لَهَا فِي الْفُرُوضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَدُخُول الْمَسْجِدِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ نَذْرِ هَذِهِ الْقُرَبِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَصِحُّ هَذَا النَّذْرُ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا لاَ أَصْل لَهُ فِي الْفُرُوضِ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِ مِثْل هَذِهِ الْقُرَبِ (2) .
الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ:
15 - تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ، فَتَزِيدُ بِهَا حَسَنَاتُهُ، وَقَدْ تَكُونُ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِيُدْرِكَ بِهَا مَا فَاتَ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 82، وحاشية الدسوقي 2 / 162، والمواق بهامش الحطاب 3 / 316، وروضة الطالبين 3 / 301، وحاشية الجمل 5 / 323، والمغني 9 / 1 - 6، ومنتهى الإرادات 3 / 449.
(2) البدائع 5 / 83، والدسوقي 2 / 162، وروضة الطالبين 3 / 302، وحاشية الجمل 5 / 323، والمغني 9 / 2، وشرح منتهى الإرادات 3 / 450.(33/107)
وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ، وَلِهَذَا لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ قُرْبَةَ فِيهِ كَوَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَنِيسَةِ (2) .
وَقَدْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إِذَا كَانَ عَلَى الإِْنْسَانِ قُرَبٌ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ (3) .
وَرَغْمَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ لاَ تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْقُرَبِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالإِْسْلاَمِ وَالصَّلاَةِ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُل ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ، فَلاَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِل دُنْيَاهُ وَلاَ أُخْرَاهُ (4) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْقُرَبِ
__________
(1) حديث: " إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 904) من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية للبيهقي (6 / 269) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 98) ، وأشار ابن حجر في " بلوغ المرام " (ص 323) إلى تقويته بطرقه.
(2) بدائع الصنائع 7 / 330، ومنح الجليل 4 / 643، 649، والمهذب 1 / 458، ومغني المحتاج 3 / 39، والمغني 9 / 2 - 3.
(3) البدائع 7 / 330، ومغني المحتاج 3 / 39، والمغني 9 / 1، ومنح الجليل 4 / 643.
(4) المغني 9 / 101، ومغني المحتاج 3 / 39، ومنح الجليل 4 / 643.(33/108)
عَلَى بَعْضٍ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهَا، سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْل الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لأَِنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنَ النَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الأَْهَمُّ، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالأَْهَمِّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ، ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الأُْضْحِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ، وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا.
فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إِلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَمَّا أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فَكُّ أَسِيرٍ، ثُمَّ مُدَبَّرٍ فِي حَال الصِّحَّةِ، ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى
__________
(1) الهداية 4 / 247 - 248.(33/108)
بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مَالِهِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَاقِي ثُلُثِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُول الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْحَوْل فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ بَعْدَ إِفْرَاكِ الْحَبِّ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَمَجِيءِ السَّاعِي، فَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ بَاقِي الثُّلُثِ زَكَاةَ الْفِطْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَقَتْل خَطَأٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَصَّى بِشَيْءٍ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ جَمِيعِهَا، لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْغَزْوِ نَصًّا، لِقَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّهُ أَفْضَل الْقُرَبِ، وَلَوْ قَال الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَيْثُ يُرِيكَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا عَمَلاً بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ، وَالأَْفْضَل صَرْفُهُ إِلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ؛ لأَِنَّهُ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (2) .
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ:
16 - الأَْصْل فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، إِذْ هُوَ حَبْسُ الأَْصْل وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 322 - 323.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 550.(33/109)
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَال أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيل، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ (1) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (2) .
وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً (3) .
وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أصاب عمر بخيبر أرضًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 399) .
(2) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله. . . " تقدم فقرة (9) .
(3) منح الجليل 4 / 34، والخرشي 7 / 81، والاختيار 3 / 40 - 41، والمهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 376، والمغني 5 / 597 - 598، وشرح منتهى الإرادات 2 / 489.(33/109)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلاَةِ وَالْحَجِّ، بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ أَصْلاً، بَل التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ (1) .
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلاَفِ ثَمَنِهِ، أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ، أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ، فَهَذَا وَقْفٌ لاَزِمٌ لاَ ثَوَابَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لاَ قُرْبَةَ فِيهِ، جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: إِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالأَْغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الأَْصَحِّ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ. وَالثَّانِي: لاَ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ وَأَهْل الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ (3) .
وَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 358.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 490، ومغني المحتاج 2 / 381، والدسوقي 4 / 77.
(3) مغني المحتاج 2 / 381.(33/110)
فِي مَحَل الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً، وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلاً عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ (1) .
قَرَد
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 360.(33/110)
قَرْض
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرْضُ (1) : فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَرَضَ الشَّيْءَ يَقْرِضُهُ: إِذَا قَطَعَهُ.
وَالْقَرْضُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِْقْرَاضِ. يُقَال: قَرَضْتُ الشَّيْءَ بِالْمِقْرَاضِ، وَالْقَرْضُ: مَا تُعْطِيهِ الإِْنْسَانَ مِنْ مَالِكَ لِتُقْضَاهُ، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ قَطَعْتَهُ مِنْ مَالِكَ، وَيُقَال: إِنَّ فُلاَنًا وَفُلاَنًا يَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ، إِذَا أَثْنَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ ثَنَاءً، كَقَرْضِ الْمَال (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ (3) .
__________
(1) بفتح القاف وكسرها، وممن حكى الكسر ابن السكيت والجوهري وآخرون عن حكاية الكسائي، (انظر الصحاح، والقاموس المحيط وتحرير ألفاظ التنبيه ص 193) .
(2) معجم مقاييس اللغة والصحاح للجوهري، والقاموس المحيط والمغرب للمطرزي، والزاهر للأزهري ص 247، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي، ط. دار القلم ص 193، والمطلع للبعلي ص 246، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 309، وبصائر ذوي التمييز 4 / 258، ومفردات الراغب الأصبهاني.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 171، ومرشد الحيران م 796، وكفاية الطالب الرباني 2 / 150، وتحفة المحتاج 5 / 36، وكشاف القناع 3 / 298.(33/111)
قَالُوا: وَيُسَمَّى نَفْسُ الْمَال الْمَدْفُوعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَرْضًا، وَالدَّافِعُ لِلْمَال مُقْرِضًا، وَالآْخِذُ: مُقْتَرِضًا وَمُسْتَقْرِضًا وَيُسَمَّى الْمَال الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُقْتَرِضُ إِلَى الْمُقْرِضِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ: بَدَل الْقَرْضِ، وَأَخْذُ الْمَال عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ: اقْتِرَاضًا.
وَالْقَرْضُ بِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْقَرْضُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَجَعَلُوا لَهُ قَسِيمًا سَمَّوْهُ: الْقَرْضَ الْحُكْمِيَّ، وَوَضَعُوا لَهُ أَحْكَامًا تَخُصُّهُ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى اللَّقِيطِ الْمُحْتَاجِ، وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، إِذَا لَمْ يَكُونَا فُقَرَاءَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ، وَبِمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِغَرَضِ الآْمِرِ.
كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ أَوْ فِدَاءِ أَسِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّلَفُ:
2 - مِنْ مَعَانِي السَّلَفِ الْقَرْضُ. يُقَال تَسَلَّفَ وَاسْتَسْلَفَ: أَيِ اسْتَقْرَضَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَسْلَفْتُهُ: أَيْ أَقْرَضْتُهُ، وَيَأْتِي السَّلَفُ
__________
(1) انظر تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 5 / 37، 40، ونهاية المحتاج 4 / 218، وأسنى المطالب 2 / 141.(33/111)
أَيْضًا بِمَعْنَى السَّلَمِ. يُقَال: سَلَّفَ وَأَسْلَفَ بِمَعْنَى سَلَّمَ وَأَسْلَمَ (1) .
وَالسَّلَفُ أَعَمُّ مِنَ الْقَرْضِ.
ب - الْقِرَاضُ:
3 - وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُل إِلَى الرَّجُل نَقْدًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَتَشَارَطَانِهِ. قَال الأَْزْهَرِيُّ: " وَأَصْل الْقِرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَال قَطَعَ لِلْعَامِل فِيهِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ، وَقَطَعَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا. . . وَخُصَّتْ شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ بِالْقِرَاضِ؛ لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرِّبْحِ شَيْئًا مَقْرُوضًا، أَيْ مَقْطُوعًا لاَ يَتَعَدَّاهُ (2) .
(ر: مُضَارَبَة) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَال إِلَى الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ وَفِي الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ:
4 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (3) .
أَمَّا الْكِتَابُ، فَبِالآْيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَحُثُّ
__________
(1) الزاهر ص 148، 217.
(2) الزاهر للأزهري ص 247.
(3) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 215، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني 5 / 36.(33/112)
عَلَى الإِْقْرَاضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (1) ، وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهَا أَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ شَبَّهَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةَ وَالإِْنْفَاقَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِالْمَال الْمُقْرَضِ، وَشَبَّهَ الْجَزَاءَ الْمُضَاعَفَ عَلَى ذَلِكَ بِبَدَل الْقَرْضِ، وَسَمَّى أَعْمَال الْبِرِّ قَرْضًا؛ لأَِنَّ الْمُحْسِنَ بَذَلَهَا لِيَأْخُذَ عِوَضَهَا، فَأَشْبَهَ مَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ رَوَى أَبُو رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (3) .
ثُمَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأَْجْرِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاَّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً (4) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 245.
(2) الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص 120.
(3) حديث أبي رافع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1224) .
(4) حديث: " ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضًا مرتين. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 812) من حديث عبد الله بن مسعود، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 2074) .(33/112)
جَوَازِ الْقَرْضِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَرْضِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْصْل فِي الْقَرْضِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيصَال النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ النَّدْبُ (2) ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ (3) ، لَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ أَوِ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْحُرْمَةُ أَوِ الإِْبَاحَةُ، بِحَسَبِ مَا يُلاَبِسُهُ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، إِذْ لِلْوَسَائِل حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ مُضْطَرًّا
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 429، ط. هجر، والمبدع 4 / 204، وكشاف القناع 3 / 298.
(2) قال الشبراملسي: ظاهر إطلاقه أنه لا فرق في ذلك بين كون المقترض مسلمًا أو غيره، وهو كذلك، فإن فعل المعروف مع الناس لا يختص بالمسلمين، ويجب علينا الذب عن أهل الذمة منهم، والصدقة عليهم جائزة، وإطعام المضطر منهم واجب، (حاشية الشبراملسي على نهاية المحتا وانظر حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 36) .
(3) حديث: " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا. . . " أخرجه مسلم (4 / 2074) .(33/113)
وَالْمُقْرِضُ مَلِيئًا كَانَ إِقْرَاضُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقْرِضُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا بِحَسَبِ الْحَال، وَلَوِ اقْتَرَضَ تَاجِرٌ لاَ لِحَاجَةٍ، بَل لِيَزِيدَ فِي تِجَارَتِهِ طَمَعًا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل مِنْهُ، كَانَ إِقْرَاضُهُ مُبَاحًا، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَشْتَمِل عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةٍ، لِيَكُونَ مَطْلُوبًا شَرْعًا (1) .
6 - أَمَّا فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ، فَالأَْصْل فِيهِ الإِْبَاحَةُ، وَذَلِكَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْوَفَاءَ، بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُرْتَجًى، وَعَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، مَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا - فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ فِي حَقِّهِ لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ - أَوْ كَانَ الْمُقْرِضُ عَالِمًا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ وَأَعْطَاهُ، فَلاَ يَحْرُمُ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِفَقِيرٍ
__________
(1) المغني 6 / 429 (ط. هجر) ، والمبدع 4 / 204، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، وكشاف القناع 3 / 299، والمهذب 1 / 309، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 140، ونهاية المحتاج 4 / 215 وما بعدها، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 5 / 36، ومواهب الجليل 4 / 545، والزرقاني على خليل 5 / 226، والعدوي على الخرشي 5 / 229، والعدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 150، والتاج والإكليل 4 / 545، والبهجة شرح التحفة 2 / 287، وروضة الطالبين 4 / 32، والإنافة في الصدقة والضيافة لابن حجر الهيتمي ص 155، 156.
(2) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني والعبادي عليه 5 / 36 وما بعدها، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 216، وكشاف القناع 3 / 299، والمغني 6 / 429 (ط. هجر) .(33/113)
إِظْهَارُ الْغِنَى عِنْدَ الاِقْتِرَاضِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا لِلْمُقْرِضِ (1) ، وَقَال أَيْضًا: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَرِضُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ لِنَحْوِ صَلاَحِهِ، وَهُوَ بَاطِنًا بِخِلاَفِ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الاِقْتِرَاضُ أَيْضًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (2) .
تَوْثِيقُ الْقَرْضِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَالإِْشْهَادَ عَلَيْهِ مَنْدُوبَانِ وَلَيْسَا وَاجِبَيْنِ مُطْلَقًا، وَالأَْمْرُ بِهِمَا فِي الآْيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى الأَْوْثَقِ وَالأَْحْوَطِ، وَلاَ يُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ (3) ، قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا أَمَرَ إِذَا لَمْ يَجِدُوا كَاتِبًا بِالرَّهْنِ، ثُمَّ أَبَاحَ تَرْكَ الرَّهْنِ وَقَال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (4) ، فَدَل عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ الأَْوَّل دَلاَلَةٌ عَلَى الْحَظِّ، لاَ فَرْضٌ فِيهِ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ (5) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق ف 7) .
أَرْكَانُ الْقَرْضِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ عَقْدِ
__________
(1) الإنافة في الصدقة والضيافة لابن حجر الهيتمي ص 155، وانظر نهاية المحتاج 4 / 216.
(2) تحفة المحتاج 5 / 37.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 481 - 482، والأم للشافعي 3 / 89 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 362، (ط. مكتبة الرياض الحديثة) وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 258، 262.
(4) سورة البقرة / 283.
(5) أحكام القرآن للإمام الشافعي 2 / 127.(33/114)
الْقَرْضِ ثَلاَثَةٌ:
1 - الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) .
2 - الْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ) .
3 - الْمَحَل (وَهُوَ الْمَال الْمُقْرَضُ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ وَتَوَافُقِهِمَا عَلَى إِنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ.
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) :
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ وَبِكُل مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا، كَأَقْرَضْتُكَ وَأَسْلَفْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ قَرْضًا أَوْ سَلَفًا، وَمَلَّكْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَخُذْ هَذَا فَاصْرِفْهُ فِي حَوَائِجِكَ وَرُدَّ لِي بَدَلَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. . . أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْقَرْضِ، كَأَنْ سَأَلَهُ قَرْضًا فَأَعْطَاهُ. . . وَكَذَا صِحَّةُ الْقَبُول بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل، مِثْل: اسْتَقْرَضْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى (1) ، قَال الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ:
__________
(1) بل إنَّ الحنفية نصوا على صحة القرض بلفظ الإعارة، نظرًا لأن إعارة المثليات قرض حقيقة (رد المحتار 4 / 171، والهداية مع فتح القدير، ط. الميمنية 4 / 474) ، وانظر بدائع الصنائع 7 / 394، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، وكشاف القناع 3 / 299، والمغني لابن قدامة 6 / 430 وما بعدها ط. هجر، والمهذب 1 / 309، وأسنى المطالب 2 / 140 - 141، ونهاية المحتاج 4 / 217 - 218، وتحفة المحتاج 5 / 37 - 39، وروضة الطالبين 4 / 32.(33/114)
وَظَاهِرٌ أَنَّ الاِلْتِمَاسَ مِنَ الْمُقْرِضِ، كَاقْتَرِضْ مِنِّي، يَقُومُ مَقَامَ الإِْيجَابِ، وَمِنَ الْمُقْتَرِضِ، كَأَقْرِضْنِي، يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُول، كَمَا فِي الْبَيْعِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَقَطَعَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الإِْيجَابُ وَلاَ الْقَبُول، بَل إِذَا قَال لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي كَذَا، أَوْ أَرْسَل إِلَيْهِ رَسُولاً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَال، صَحَّ الْقَرْضُ، وَكَذَا لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ ثَبَتَ الْقَرْضُ (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ - فِي الأَْصَحِّ - بِاشْتِرَاطِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول لِصِحَّةِ الْقَرْضِ، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا سَمَّوْهُ بِـ " الْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ "، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الصِّيغَةَ أَصْلاً (3) ، قَال الرَّمْلِيُّ: أَمَّا الْقَرْضُ الْحُكْمِيُّ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ صِيغَةٌ، كَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَكِسْوَةِ عَارٍ، وَإِنْفَاقٍ عَلَى لَقِيطٍ، وَمِنْهُ أَمْرُ غَيْرِهِ بِإِعْطَاءِ مَا لَهُ غَرَضٌ فِيهِ، كَإِعْطَاءِ شَاعِرٍ أَوْ ظَالِمٍ، أَوْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ، وَكَبِعْ هَذَا وَأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنِيَّةِ الْقَرْضِ (4) .
وَاتَّفَقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى
__________
(1) أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 141.
(2) روضة الطالبين 4 / 32.
(3) تحفة المحتاج 5 / 40، وأسنى المطالب 2 / 141.
(4) نهاية المحتاج 4 / 218.(33/115)
أَنَّ رُكْنَ الْقَرْضِ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الإِْيجَابُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْقَبُول فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يُقْرِضُ فُلاَنًا فَأَقْرَضَهُ، وَلَمْ يَقْبَل، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى: يَحْنَثُ (1) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الإِْقْرَاضَ إِعَارَةٌ وَالْقَبُول لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الإِْعَارَةِ، وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْل الْمُسْتَقْرِضِ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، فَكَانَ الْقَبُول رُكْنًا فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ (2) .
وَفَرَّعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول لاِنْعِقَادِ الْقَرْضِ، مَا لَوْ قَال الْمُقْرِضُ لِلْمُسْتَقْرِضِ: أَقْرَضْتُكَ أَلْفًا، وَقَبِل، وَتَفَرَّقَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ الأَْلْفَ، أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَطُل الْفَصْل جَازَ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَصَدَ الإِْيجَابَ، وَإِنْ طَال الْفَصْل لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُعِيدَ لَفْظَ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْبِنَاءُ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ طُول الْفَصْل (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (عَقْد ف 5 - 27) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 394.
(2) البدائع 7 / 394.
(3) المهذب 1 / 310.(33/115)
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْعَاقِدَانِ (الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ) :
(أ) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَرْضِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْرِضِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، أَيْ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً رَشِيدًا (1) ، قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، كَالصَّدَقَةِ (2) ، وَقَدْ أَكَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: لأَِنَّ الْقَرْضَ لِلْمَال تَبَرُّعٌ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَال، فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَال، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقَرْضِ شَائِبَةَ تَبَرُّعٍ، لاَ أَنَّهُ مِنْ عُقُودِ الإِْرْفَاقِ وَالتَّبَرُّعِ، فَقَال صَاحِبُ " أَسْنَى الْمَطَالِبِ " " لأَِنَّ الْقَرْضَ فِيهِ شَائِبَةُ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً لَجَازَ لِلْوَلِيِّ - غَيْرِ الْقَاضِي قَرْضُ مَال مُوَلِّيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلاَشْتُرِطَ فِي قَرْضِ الرِّبَوِيِّ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهِ شَرْطُ الأَْجَل، وَاللَّوَازِمُ بَاطِلَةٌ (4) ".
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُقْرِضِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 206، وفتح العزيز 9 / 351، ونهاية المحتاج 4 / 219، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225.
(2) كشاف القناع 3 / 300 (مطبعة الحكومة بمكة المكرمة) .
(3) بدائع الصنائع 7 / 394 (المطبعة الجمالية بمصر) .
(4) أسنى المطالب 2 / 140، وانظر تحفة المحتاج 5 / 41، ونهاية المحتاج 4 / 219.(33/116)
لِلتَّبَرُّعِ تَسْتَلْزِمُ اخْتِيَارَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضٌ مِنْ مُكْرَهٍ، قَالُوا: وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ، بِأَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْقْرَاضُ لِنَحْوِ اضْطِرَارٍ فَإِنَّ إِقْرَاضَهُ مَعَ الإِْكْرَاهِ يَكُونُ صَحِيحًا (1) .
وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فِي الْمُقْرَضِ عَدَمَ صِحَّةِ إِقْرَاضِ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ لِمَال الصَّغِيرِ (2) ، وَفَرَّعَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ قَرْضِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ لِمَالَيْهِمَا (3) ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ إِقْرَاضُ الْوَلِيِّ مَال مُوَلِّيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ، أَمَّا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُمْ إِقْرَاضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ - خِلاَفًا لِلسُّبْكِيِّ - بِشَرْطِ يَسَارِ الْمُقْتَرِضِ وَأَمَانَتِهِ وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِهِ إِنْ سَلَّمَ مِنْهَا مَال الْمَوْلَى عَلَيْهِ (4) ، وَالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ رَهْنًا إِنْ رَأَى ذَلِكَ (5) .
(ب) مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ:
11 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقْتَرِضِ
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 5 / 41، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 219.
(2) بدائع الصنائع 7 / 394، وجامع أحكام الصغار للأسروشني 4 / 104 (ط. بغداد 1983 م) ، ومرشد الحيران م 801، ورد المحتار 4 / 340.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 225.
(4) أو كان أقل شبهة (الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 41) .
(5) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 219، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني 5 / 41.(33/116)
أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ (1) ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُقْتَرِضِ تَمَتُّعُهُ بِالذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ فِي الذِّمَمِ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ الاِقْتِرَاضِ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ ذِمَمٍ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ عِنْدَهُمْ (2) ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى شُرُوطٍ خَاصَّةٍ لِلْمُقْتَرِضِ، وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ فُرُوعِهِمُ الْفِقْهِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمْ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا اسْتَقْرَضَ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً فَلِلْمُقْرِضِ اسْتِرْدَادُهَا (3) ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِرَاضِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وَجَاءَ فِي جَامِعِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلأُْسْرُوشَنِيِّ: اسْتِقْرَاضُ الأَْبِ لاِبْنِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُ الْوَصِيِّ لِلصَّغِيرِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رَهْنِ " الْهِدَايَةِ ": وَلَوِ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ وَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ
__________
(1) حاشية الشهاب الرملي على أسنى المطالب 2 / 140، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 220.
(2) كشاف القناع 3 / 300، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 225.
(3) رد المحتار 4 / 174 (ط. بولاق سنة 1272 هـ) ، وانظر مرشد الحيران (م 809) .(33/117)
جَازَ؛ لأَِنَّ الاِسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ، وَالرَّهْنُ يَقَعُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ، فَيَجُوزُ (1) .
الاِقْتِرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَال وَالْوَقْفِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى بَيْتِ الْمَال وَقْتَ الأَْزَمَاتِ وَعِنْدَ النَّوَائِبِ وَالْمُلِمَّاتِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الأَْوَّلُونَ مِنِ اسْتِسْلاَفِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ وَاسْتِعْجَالِهِ الزَّكَوَاتِ، فَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أُجَوِّزُ الاِسْتِقْرَاضَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَال وَانْقِطَاعِ الأَْمْوَال، وَمَصِيرُ الأَْمْرِ إِلَى مُنْتَهًى يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ اسْتِيعَابُ الْحَوَادِثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ فِي الاِسْتِقْبَال (2) .
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:
(أَحَدُهَا) أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِيرَادٌ مُرْتَجًى لِبَيْتِ الْمَال لِيُوَفَّى مِنْهُ الْقَرْضُ، قَال الشَّاطِبِيُّ: وَالاِسْتِقْرَاضُ فِي الأَْزَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُرْجَى لِبَيْتِ الْمَال دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى (3) .
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الاِسْتِقْرَاضُ مِنْ أَجْل
__________
(1) جامع أحكام الصغار 4 / 104 - 105 (ط. بغداد 1983 م) .
(2) غياث الأمم في التياث الظلم تحقيق د. الديب ص 279 (ط. قطر) .
(3) الاعتصام 2 / 122 (ط. دار الفكر بيروت) .(33/117)
الْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ ثَابِتٍ عَلَى بَيْتِ الْمَال، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِتَأْخِيرِهِ دَيْنًا لاَزِمًا عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يُسْتَقْرَضُ لَهُ، قَال أَبُو يَعْلَى: لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَال حَقَّانِ ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لأَِحَدِهِمَا، صُرِفَ فِيمَا يَصِيرُ مِنْهُمَا دَيْنًا فِيهِ، وَلَوْ ضَاقَ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ وَالْفَسَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَال مَا يَصْرِفُهُ فِي الدُّيُونِ دُونَ الإِْرْفَاقِ (1) ، وَكَانَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْوُلاَةِ مَأْخُوذًا بِقَضَائِهِ إِذَا اتَّسَعَ لَهُ بَيْتُ الْمَال (2) .
(وَالثَّالِثُ) أَنْ يُعِيدَ الإِْمَامُ إِلَى بَيْتِ الْمَال كُل مَا اقْتَطَعَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَذَوِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا وَضَعُوهُ فِي حَرَامٍ، وَتَبْقَى الْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِقْرَاضِ قَائِمَةً، قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: لَمَّا عَزَمَ السُّلْطَانُ قُطُزُ عَلَى الْمَسِيرِ مِنْ مِصْرَ لِمُحَارَبَةِ التَّتَارِ، وَقَدْ دَهَمُوا الْبِلاَدَ، جَمَعَ الْعَسَاكِرَ، فَضَاقَتْ يَدُهُ عَنْ نَفَقَاتِهِمْ، فَاسْتَفْتَى الإِْمَامَ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ أَمْوَال التُّجَّارِ، فَقَال لَهُ الْعِزُّ: إِذَا أَحْضَرْتَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ حَرِيمِكَ، وَأَحْضَرَ الأُْمَرَاءُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ الْحَرَامِ اتِّخَاذُهُ، وَضَرَبْتَهُ سِكَّةً وَنَقْدًا، وَفَرَّقْتَهُ فِي الْجَيْشِ وَلَمْ يَقُمْ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 252 - 253.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 253، والأحكام السلطانية للماوردي ص 215 (ط. مصطفى البابي الحلبي) وتحرير الكلام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعه (ط. قطر) ص 150، 151.(33/118)
بِكِفَايَتِهِمْ، ذَلِكَ الْوَقْتَ اطْلُبِ الْقَرْضَ، وَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَلاَ (1) .
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِقْرَاضِ الإِْمَامِ عَلَى بَيْتِ الْمَال لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ نَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ أَوْ كَانَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ - اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْتِ الْمَال مِقْدَارَ نَفَقَتِهِ (2) .
13 - أَمَّا الاِسْتِقْرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِدَاعِي الْمَصْلَحَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ وَبِهَذِهِ الْجِهَاتِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالِهِ، بَل مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ وَمَا يَحْدُثُ لِبَيْتِ الْمَال، أَوْ يُقَال: لاَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ رَأْسًا (3) ، أَيْ بِذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ الاِقْتِرَاضِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 215، وطبقات المفسرين للداودي 1 / 316.
(2) تحفة المحتاج 6 / 348، وكشاف القناع 4 / 252، وشرح منتهى الإرادات 2 / 482.
(3) كشاف القناع 3 / 300، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225.(33/118)
الْوَاقِفِ، إِلاَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ - كَتَعْمِيرٍ وَشِرَاءِ بَذْرٍ وَلَيْسَ لِلْوَقْفِ غَلَّةٌ قَائِمَةٌ بِيَدِ الْمُتَوَلِّي - فَيَجُوزُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: إِذْنُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَلأَِنَّ وِلاَيَتَهُ أَعَمُّ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَيَسْتَدِينُ النَّاظِرُ بِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَتَيَسَّرَ إِجَارَةُ الْعَيْنِ وَالصَّرْفِ مِنْ أُجْرَتِهَا (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ بِلاَ إِذْنِ حَاكِمٍ لِمَصْلَحَةٍ - كَمَا إِذَا قَامَتْ حَاجَةٌ لِتَعْمِيرِهِ، وَلاَ يُوجَدُ غَلَّةٌ لِلْوَقْفِ يُمْكِنُ الصَّرْفُ مِنْهَا عَلَى عِمَارَتِهِ - لأَِنَّ النَّاظِرَ مُؤْتَمَنٌ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ، فَالإِْذْنُ وَالاِئْتِمَانُ ثَابِتَانِ لَهُ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ الاِقْتِرَاضُ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِنْ شَرَطَهُ لَهُ الْوَاقِفُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْحَاكِمُ، قَالُوا: فَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي وَلاَ شَرْطٍ مِنَ الْوَاقِفِ لَمْ يَجُزْ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَقْفِ بِمَا صَرَفَهُ لِتَعَدِّيهِ فِيهِ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 3 / 419، والإسعاف للطرابلسي ص 47.
(2) مواهب الجليل 6 / 40، وكشاف القناع 3 / 300 و 4 / 295، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225.
(3) نهاية المحتاج 5 / 397، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 6 / 289.(33/119)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَل (الْمَال الْمُقْرَضُ) :
لِلْمَال الْمُقْرَضِ شُرُوطٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ:
14 - وَالْمِثْلِيَّاتُ: هِيَ الأَْمْوَال الَّتِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالنُّقُودِ وَسَائِرِ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يَصِحُّ قَرْضُ الْمِثْلِيَّاتِ وَحْدَهَا، أَمَّا الْقِيَمِيَّاتُ الَّتِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا تَفَاوُتًا تَخْتَلِفُ بِهِ قِيمَتُهَا، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهَا (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ، وَلاَ إِلَى إِيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِخْتِلاَفِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلاَفِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْل، فَيَخْتَصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ (2) ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَصِحُّ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى تَصِحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْل فِي
__________
(1) رد المحتار 4 / 171، وشرح معاني الآثار للطحاوي 4 / 60، ومرشد الحيران م (798، 799) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 395.(33/119)
الذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى جَوَازِ قَرْضِ الْمِثْلِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ وَسَّعُوا دَائِرَةَ مَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، فَقَالُوا: يَصِحُّ إِقْرَاضُ كُل مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ - حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَهُوَ كُل مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا (2) ، وَقِيسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، أَمَّا مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَهُوَ مَا لاَ يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ - كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ (3) .
ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَرْضِ مَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ جَوَازَ قَرْضِ الْخُبْزِ وَزْنًا لِلْحَاجَةِ وَالْمُسَامَحَةِ (4) .
وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ قَرْضِ كُل عَيْنٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ أَمْ لاَ (5) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 171 (ط. بولاق 1272 هـ) .
(2) الحديث سبق تخريجه في فقرة 4.
(3) القوانين الفقهية ص 293، ومواهب الجليل 4 / 545، ومنح الجليل 3 / 47، والمهذب 1 / 310، ونهاية المحتاج 4 / 222، وتحفة المحتاج 5 / 44.
(4) المهذب 1 / 310، وأسنى المطالب 2 / 141، وروضة الطالبين 4 / 32 - 33، ونهاية المحتاج 4 / 220 - 223، وتحفة المحتاج 5 / 41 - 44.
(5) كشاف القناع 3 / 300، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، والمغني 6 / 432 وما بعدها ط. هجر، والمبدع 4 / 205.(33/120)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ (1) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ وَمَنْشَئِهِ.
فَأَسَاسُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْقَرْضَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ (2) ، وَالْمَنَافِعُ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً فِي مَذْهَبِهِمْ؛ لأَِنَّ الْمَال عِنْدَهُمْ مَا يَمِيل إِلَيْهِ طَبْعُ الإِْنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإِْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ جَعْل الْمَنَافِعِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْقَرْضِ.
وَأَمَّا مُسْتَنَدُ مَنْعِ إِقْرَاضِ الْمَنَافِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ (3) ، أَيْ فِي الْعُرْفِ وَعَادَةِ النَّاسِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَنَافِعِ، مِثْل أَنْ يَحْصُدَ مَعَهُ يَوْمًا، وَيَحْصُدَ مَعَهُ الآْخَرُ يَوْمًا، أَوْ يُسْكِنَهُ دَارًا لِيُسْكِنَهُ الآْخَرُ بَدَلَهَا، لَكِنَّ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 225، والمبدع 4 / 205، وكشاف القناع 3 / 300.
(2) انظر رد المحتار 4 / 171، م (796) من مرشد الحيران م (126) من مجلة الأحكام العدلية.
(3) كشاف القناع 3 / 300.(33/120)
الْغَالِبَ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال، حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الأُْخْرَى الْقِيمَةُ، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْمُتَقَوِّمِ أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ الْمِثْل بِتَرَاضِيهِمَا (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي بَابِ الْقَرْضِ كَوْنَ مَحَل الْقَرْضِ عَيْنًا، وَلَكِنَّهُمْ أَقَامُوا ضَابِطًا لِمَا يَصِحُّ إِقْرَاضُهُ، وَهُوَ أَنَّ كُل مَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ صَحَّ إِقْرَاضُهُ، وَفِي بَابِ السَّلَمِ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأَْعْيَانِ (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ إِقْرَاضُ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ (3) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ مَعْلُومِيَّةِ مَحَل الْقَرْضِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْمُقْتَرِضُ مِنْ رَدِّ الْبَدَل الْمُمَاثِل لِلْمُقْرِضِ، وَهَذِهِ الْمَعْلُومِيَّةُ تَتَنَاوَل أَمْرَيْنِ: مَعْرِفَةَ الْقَدْرِ، وَمَعْرِفَةَ الْوَصْفِ (4) ، جَاءَ فِي
__________
(1) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 131، وكشاف القناع 3 / 300.
(2) روضة الطالبين 4 / 27، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 123، والخرشي 5 / 203، والقوانين الفقهية ص 280 (ط. الدار العربية للكتاب) .
(3) وهناك قول للقاضي حسين حكاه عنه النووي وهو أنه لا يجوز إقراض المنافع؛ لأنه لا يجوز السلم فيها، (روضة الطالبين 4 / 33) .
(4) روضة الطالبين 4 / 33 - 34، ونهاية المحتاج 4 / 223، وتحفة المحتاج 5 / 44، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، والمبدع 4 / 205، وكشاف القناع 3 / 300.(33/121)
" أَسْنَى الْمَطَالِبِ ": يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَاضِ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِيَتَأَتَّى أَدَاؤُهُ، فَلَوْ أَقْرَضَهُ كَفًّا مِنْ دَرَاهِمَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يُسْتَبَانَ مِقْدَارُهُ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ صَحَّ (1) .
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِلَّةَ هَذَا الاِشْتِرَاطِ، فَقَال: " وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْل، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمِثْل لَمْ يُمْكِنِ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَضَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا لَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ رَدُّ الْمِثْل، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْل ذَلِكَ (2) ".
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ مَحَل الْقَرْضِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَا سَمَّوْهُ بِالْقَرْضِ الْحُكْمِيِّ (3) ، كَقَوْلِهِ: " عَمِّرْ دَارِي " وَنَحْوِهِ، فَلَمْ يُوجِبُوا مَعْرِفَتَهُ لِصِحَّةِ الْقَرْضِ (4) .
أَحْكَامُ الْقَرْضِ:
أ - (مِنْ حَيْثُ أَثَرُهُ) :
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِ الْقَرْضِ،
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 142.
(2) المغني 6 / 434 (ط هجر) .
(3) انظر المراد بـ " القرض الحكمي " عند الشافعية في فقرة 1.
(4) حاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 4 / 223.(33/121)
وَهُوَ نَقْل مِلْكِيَّةِ مَحَلِّهِ مِنَ الْمُقْرِضِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ، هَل يَتِمُّ بِالْعَقْدِ، أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ، أَمْ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَصَرُّفِ الْمُقْتَرِضِ فِيهِ أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ. .؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَال الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ (1) ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْقَرْضِ غَيْرُ تَامٍّ لأَِنَّهُ يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ - بِأَنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، فَدَل عَلَى انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ.
ب - وَبِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْقَرْضِ، وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 173، والبدائع 7 / 396، والأشباه والنظائر لابن نجيم وحاشية الحموي عليه 2 / 204، ومرشد الحيران م (797) ، وأسنى المطالب 2 / 143، والروضة 4 / 35، والمهذب 1 / 310، ونهاية المحتاج 4 / 226، وتحفة المحتاج 5 / 48، وفتح العزيز 9 / 391، وكشاف القناع 3 / 301، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، والمبدع 4 / 206.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 310.(33/122)
ج - وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأَِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ: فَلأَِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَال الْمُقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ؛ لأَِنَّ غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إِنَّمَا هِيَ بَذْل مَنَافِعِ الْمَال الْمُقْرَضِ لِلْمُقْتَرِضِ مَجَّانًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي الْحَال، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا كَانَ حُكْمُهُ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِل الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ بِالتَّصَرُّفِ، وَلاَ بِالاِسْتِهْلاَكِ.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ الْقَرْضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ (1) ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّوْكَانِيُّ وَرَجَّحَهُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّرَاضِيَ هُوَ الْمَنَاطُ فِي نَقْل مِلْكِيَّةِ الأَْمْوَال مِنْ بَعْضِ الْعِبَادِ إِلَى بَعْضٍ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَال
__________
(1) الخرشي 5 / 232، والبهجة شرح التحفة 2 / 288، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 150، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 226.
(2) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني 3 / 144.(33/122)
الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ قِبَلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُل عَمَلٍ يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعْتَاقِ وَالإِْتْلاَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) قَالُوا: لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، إِذْ يَجِبُ فِيهِ الْبَدَل، وَلَيْسَ عَلَى حَقَائِقِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمَلُّكُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ بَدَلِهِ (2) .
(وَالرَّابِعُ) لأَِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ لاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الإِْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ الأَْجَل، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ الأَْبُ وَالْوَصِيُّ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ، وَهَؤُلاَءِ يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الإِْقْرَاضَ إِعَارَةٌ، فَتَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ قَبْل أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا الْمُقْتَرِضُ (3) .
ب - مِنْ حَيْثُ مُوجِبُهُ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ تَنْشَغِل ذِمَّتُهُ بِبَذْل الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِمَحَل الْقَرْضِ، وَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا بِرَدِّ الْبَدَل إِلَيْهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 226، وروضة الطالبين 4 / 35، وتحفة المحتاج 5 / 48، ومغني المحتاج 2 / 120، والمهذب 1 / 310، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 320.
(2) فتح العزيز للرافعي 9 / 392.
(3) رد المحتار 4 / 173، (ط. بولاق 1272 هـ) وبدائع الصنائع 7 / 396.(33/123)
أَمَّا صِفَةُ الْبَدَل، وَمَكَانُ رَدِّهِ، وَزَمَانُهُ، فَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
صِفَةُ بَدَل الْقَرْضِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَدَل الْقَرْضِ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ (2) ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَرُدَّ مِثْل الَّذِي اقْتَرَضَهُ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حَقِّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَوْ بِمِثْلِهِ صُورَةً (3) ، لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رُبَاعِيًّا، وَقَال: إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (4) ، وَلأَِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْقَرْضِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ مِثْلٌ.
قَال الْهَيْتَمِيُّ: وَمِنْ لاَزِمِ اعْتِبَارِ الْمِثْل
__________
(1) الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 232، والقوانين الفقهية ص 293.
(2) أسنى المطالب 2 / 143، وتحفة المحتاج 5 / 44، ونهاية المحتاج 4 / 223، وروضة الطالبين 4 / 35، 37.
(3) نهاية المحتاج 4 / 224، وروضة الطالبين 4 / 37، وتحفة المحتاج 5 / 45، والمهذب 1 / 311.
(4) حديث أبي رافع: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا. . . " سبق تخريجه (ف 4) .(33/123)
الصُّورِيِّ اعْتِبَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَزِيدُ بِهَا الْقِيمَةُ، فَيَرُدُّ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا، حَتَّى لاَ يَفُوتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ (1) .
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ بِمُجَرَّدِ تَمَلُّكِهِ لِلْعَيْنِ الْمُقْتَرَضَةِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا لاَ عَيْنُهَا وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَ مَحَل الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ (2) ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغَلاَئِهَا، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدُّ مِثْل مَا اقْتَرَضَهُ بِأَنِ اسْتَهْلَكَهَا ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى الاِنْتِظَارِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مِثْلُهَا، وَلاَ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ لأَِنَّ مَبْنَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ الْمِثْل مُطْلَقًا دُونَ الْقِيمَةِ هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْقَرْضِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ (3) .
__________
(1) تحفة المحتاج 5 / 44، ونهاية المحتاج 4 / 223، وقد علق الشبراملسي على قول صاحب النهاية: فيرد ما يجمع تلك الصفات: أي فإن لم يتأت اعتبر مع الصورة مراعاة القيمة 4 / 223 وانظر أسنى المطالب 2 / 144.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 207.
(3) رد المحتار 4 / 172 - 173 (ط. بولاق. 1272 هـ) ، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 279 (ط. بولاق 1300 هـ) ، ومواد (797، 805، 806) من مرشد الحيران.(33/124)
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَحَل الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قِيَمِيًّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ، وَقَالُوا:
(أ) إِنْ كَانَ مَحَل الْقَرْضِ مِثْلِيًّا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، فَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ مِثْلُهُ، وَلَوْ أَرَادَ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى قَبُولِهِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ عَيْنُهُ بِعَيْبٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ، فَلَزِمَ قَبُولُهُ كَالسَّلَمِ، وَلَوْ تَغَيَّرَ حَالُهَا بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَبُول الْمَرْدُودِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ دُونَ حَقِّهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَدَاءُ مِثْلِهِ (1) .
وَفِي الْحَالَيْنِ إِذَا رَدَّ الْمُقْتَرِضُ الْمِثْل وَجَبَ عَلَى الْمُقْرِضِ قَبُولُهُ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ أَوْ غَلاَ أَوْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمِثْل يُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ بِمِثْلِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا، فَإِنْ أَعْوَزَ الْمِثْل - أَيْ تَعَذَّرَ - فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ إِعْوَازِهِ؛ لأَِنَّهُ يَوْمَ ثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ.
(ب) وَإِنْ كَانَ مَحَل الْقَرْضِ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلاَ مَوْزُونٍ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ إِنْ كَانَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 226، وكشاف القناع 3 / 301 - 302، والمبدع 4 / 207 - 208، والمغني 6 / 431 - 432.(33/124)
مِمَّا لاَ يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِهَا قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأَِنَّ قِيمَتَهَا تَتَغَيَّرُ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الرَّاغِبِ وَكَثْرَتِهِ.
أَمَّا مَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ كَالْمَذْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ وَالْحَيَوَانِ، فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَرْضِ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْل صُورَةً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَرَدَّ مِثْلَهُ (1) .
20 - وَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ بَدَل الْقَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةُ لِمَحَل الْقَرْضِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ فِي الْوَصْفِ، أَوِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْقَدْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ لَوْ قَضَى دَائِنَهُ بِبَدَلٍ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ، أَوْ دُونَهُ، بِرِضَاهُمَا جَازَ مَا دَامَ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ أَوْ مُوَاطَأَةٍ (2) ، وَذَلِكَ لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا، فَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَال: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً (3) ؛ وَلأَِنَّهُ لَمْ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 315، والإنصاف 5 / 129، والمغني 4 / 352.
(2) المغني 6 / 438 وما بعدها، وروضة الطالبين 4 / 34، والمبدع 4 / 210، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، والقوانين الفقهية ص 294.
(3) الحديث سبق تخريجه (ف 4) .(33/125)
تُجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَةُ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ، وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَحَلَّتْ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرْضٌ، بَل إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُهُ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى التَّفْصِيل فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَ الْمُقْتَرِضُ فِي الْكَمِّ وَالْعَدَدِ إِلاَّ فِي الْيَسِيرِ جِدًّا، وَقَال: إِنَّمَا الإِْحْسَانُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَجْوَدَ عَيْنًا وَأَرْفَعَ صِفَةً، وَأَمَّا أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ فَلاَ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ حِينَ السَّلَفِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْفَضْل فِي الْقَرْضِ مُطْلَقًا، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُقْرِضَ يَأْخُذُ مِثْل قَرْضِهِ، وَلاَ يَأْخُذُ فَضْلاً؛ لِئَلاَّ يَكُونَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً (3) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِذَا قَضَى الدَّيْنَ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلاَ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُول، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَنْقَصَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَبِل جَازَ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ خِلاَفَ الْجِنْسِ. قَال
__________
(1) البدائع 7 / 395، وأسنى المطالب 2 / 143، وروضة الطالبين 4 / 37، وتحفة المحتاج 5 / 47.
(2) القوانين الفقهية ص 294، والكافي لابن عبد البر 358، والبهجة 2 / 288.
(3) المغني 6 / 438، والمبدع 4 / 210.(33/125)
فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
مَكَانُ رَدِّ الْبَدَل:
21 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْصْل فِي الْقَرْضِ وُجُوبُ رَدِّ بَدَلِهِ فِي نَفْسِ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا، وَأَنَّ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْوَفَاءُ بِهِ حَيْثُ قَبَضَهُ، إِذْ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ (2) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ مَشَقَّةً لِرَدِّ قَرْضِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لإِِحْسَانِهِ (3) .
لَكِنْ لَوْ بَذَلَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، أَوْ طَالَبَهُ الْمُقْرِضُ بِهِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ حَمْل لَهُ وَلاَ مُؤْنَةَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مُقْرِضَهَا أَخْذُهَا بِغَيْرِ مَحَل الْقَرْضِ، إِذْ لاَ كُلْفَةَ فِي حَمْلِهَا وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ (4) .
وَأَمَّا مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 204، وقال الحصكفي: يجبر على القبول، الدر المختار 4 / 174.
(2) التاج والإكليل 4 / 548، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 132.
(3) السيل الجرار للشوكاني 3 / 144.
(4) رد المحتار 4 / 174، والفتاوى الهندية 3 / 204، وشرح الخرشي 5 / 232، والبهجة شرح التحفة 2 / 288، وروضة الطالبين 4 / 36، وأسنى المطالب 2 / 143، ونهاية المحتاج 4 / 224 وما بعدها، وتحفة المحتاج 5 / 46، وشرح منتهى الإرادات 2 / 228، وكشاف القناع 3 / 306.(33/126)
فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ لاَ يَلْزَمُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْكُلْفَةِ، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْمُقْرِضُ بِأَخْذِهِ جَازَ وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مَخُوفًا (1) .
وَلَوِ الْتَقَى الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرِضُ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ، وَقِيمَةُ مَحَل الْقَرْضِ فِي الْبَلْدَتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ، فَطَلَبَ الْمُقْرِضُ أَخْذَهُ مِنْهُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ أَدَاؤُهَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ بَلَدِ الْقَرْضِ لأَِنَّهُ مَحَل التَّمَلُّكِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: تَكُونُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَرْضِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الْخُصُومَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَسْتَوْثِقُ لِلْمُقْرِضِ مِنَ الْمَطْلُوبِ بِكَفِيلٍ حَتَّى يُوفِيَهُ مِثْلَهُ حَيْثُ أَقْرَضَهُ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَقِيَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ فَطَالَبَهُ بِالْقَضَاءِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَلَزِمَ أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي اقْتَرَضَهُ فِيهِ، وَلَوِ اصْطَلَحَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي الْبَلَدِ الآْخَرِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إِنْ كَانَ بَعْدَ
__________
(1) المراجع السابقة.(33/126)
حُلُول الأَْجَل، وَإِنْ كَانَ قَبْل حُلُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ (1) .
زَمَانُ رَدِّ الْبَدَل:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ رَدِّ الْبَدَل فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ بَدَل الْقَرْضِ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلِلْمُقْتَرِضِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الْحَال مُطْلَقًا، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْقَرْضَ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَكَانَ حَالًّا، كَالإِْتْلاَفِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا مُتَفَرِّقَةً حَالَّةَ الثَّمَنِ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً (2) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَدَل لاَ يَثْبُتُ حَالًّا فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: لَوِ اقْتَرَضَ مُطْلَقًا - مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ - فَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْبَدَل لِمُقْرِضِهِ إِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 172 - 173، والفتاوى الهندية 3 / 205، والكافي لابن عبد البر ص 358، وروضة الطالبين 4 / 36، وأسنى المطالب 2 / 143، وشرح منتهى الإرادات 2 / 288، وكشاف القناع 3 / 306.
(2) البدائع 7 / 396، والفتاوى الهندية 3 / 202، وفتح العزيز 9 / 357، وروضة الطالبين 4 / 34، والنتف في الفتاوى للسغدي 1 / 493، وكشاف القناع 3 / 301، وشرح منتهى الإرادات 2 / 225، والمغني 6 / 431، والمبدع 4 / 206.(33/127)
أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهِ، وَيُجْبَرُ الْمُقْرِضُ عَلَى إِبْقَائِهِ عِنْدَهُ إِلَى قَدْرِ مَا يُرَى فِي الْعَادَةِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ (1) .
الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ:
الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فِي الْقَرْضِ أَنْوَاعٌ: فَمِنْهَا الْمَشْرُوعُ، وَمِنْهَا الْمَمْنُوعُ، مِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - اشْتِرَاطُ تَوْثِيقِ دَيْنِ الْقَرْضِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ الإِْقْرَاضِ بِشَرْطِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَإِشْهَادٍ أَوْ أَحَدِهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ تَوْثِيقَاتٌ لاَ مَنَافِعُ زَائِدَةٌ لِلْمُقْرِضِ، وَيُسْتَدَل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ (2) ؛ وَلأَِنَّ مَا جَازَ فِعْلُهُ جَازَ شَرْطُهُ؛ وَلأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) البهجة 2 / 288، والزرقاني على خليل 5 / 229، والخرشي 5 / 232، والتاج والإكليل 4 / 548، وإعلام الموقعين 3 / 375 مطبعة السعادة بمصر.
(2) حديث: " أنه اشترى من يهودي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 145) من حديث عائشة.
(3) بدائع الصنائع 5 / 171، وحاشية الدسوقي 3 / 65، وروضة الطالبين 4 / 34، وفتح العزيز 9 / 381، والمهذب 1 / 310، ونهاية المحتاج 4 / 226، وأسنى المطالب 2 / 143، وكشاف القناع 3 / 303، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، والمبدع 4 / 208.(33/127)
ب - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ:
24 - يَدْخُل هَذَا الاِشْتِرَاطُ فِي بَابِ السَّفْتَجَةِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (سَفْتَجَة ف 3) .
ج - اشْتِرَاطُ الْوَفَاءِ بِأَنْقَصَ
25 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ عَلَى الْمُقْرِضِ أَنْقَصَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ وَعَدَمِ لُزُومِهِ، وَهَل يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ؟
لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ جَرُّ الْمُقْرِضِ النَّفْعَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَاهُنَا لاَ نَفْعَ لَهُ فِي الشَّرْطِ، بَل النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، فَكَأَنَّ الْمُقْرِضَ زَادَ فِي الْمُسَامَحَةِ وَالإِْرْفَاقِ، وَوَعَدَهُ وَعْدًا حَسَنًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 395، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 175، ورد المحتار 4 / 174، ومنح الجليل 3 / 50، والزرقاني على خليل 5 / 229، والبهجة 2 / 288، والخرشي 5 / 231، وأسنى المطالب 2 / 142، وفتح العزيز 9 / 375 - 385، ونهاية المحتاج 4 / 225، وكشاف القناع 3 / 304، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227. والمغني 6 / 436 (ط. هجر) والاختيارات الفقهية ص 131.(33/128)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْفَسَادُ؛ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ (1) .
د - اشْتِرَاطُ الأَْجَل:
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الأَْجَل وَلُزُومِهِ فِي الْقَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ تَأْجِيل الْقَرْضِ، وَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، وَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل؛ لأَِنَّ الآْجَال فِي الْقُرُوضِ بَاطِلَةٌ (2) قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِهِمْ بِعَدَمِ لُزُومِ الأَْجَل فِي الْقَرْضِ أَرْبَعَ مَسَائِل: إِذَا كَانَ مَجْحُودًا بِأَنْ صَالَحَ الْمُقْرِضُ الْمُقْتَرِضَ الْجَاحِدَ لِلْقَرْضِ عَلَى مَبْلَغٍ إِلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الأَْجَل، أَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِلُزُومِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْل الدَّيْنِ
__________
(1) فتح العزيز 9 / 378، ونهاية المحتاج 4 / 226، والمهذب 1 / 311، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 303.
(2) النتف في الفتاوى للسغدي 1 / 493، والبدائع 7 / 396، ورد المحتار 4 / 170، وروضة الطالبين 4 / 34، ونهاية المحتاج 4 / 226، وأسنى المطالب 2 / 142، وفتح العزيز 9 / 357، 379، 380، وكشاف القناع 3 / 303، والمبدع 4 / 208، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، والمغني 6 / 431، وقد جاء في المادة (804) من مرشد الحيران: لا يلزم تأجيل القرض وإن اشترط ذلك في العقد، وللمقرض استرداده قبل حلول الأجل.
(3) المبدع 4 / 208، وكشاف القناع 3 / 303.(33/128)
عِنْدَهُ، أَوْ أَحَالَهُ عَلَى آخَرَ فَأَجَّلَهُ الْمُقْرِضُ أَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَدْيُونٍ مُؤَجَّلٍ دَيْنُهُ، لأَِنَّ الْحَوَالَةَ مُبْرِئَةٌ، وَالرَّابِعَةُ الْوَصِيَّةُ، بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلاَنًا إِلَى سَنَةٍ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاطِ الأَْجَل فِي الْقَرْضِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مُنِعَ فِيهِ التَّفَاضُل، فَمُنِعَ فِيهِ الأَْجَل كَالصَّرْفِ، إِذِ الْحَال لاَ يَتَأَجَّل بِالتَّأْجِيل، وَبِأَنَّهُ وَعْدٌ، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ غَيْرُ لاَزِمٍ (2) وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَأْجِيلِهِ بِأَنَّهُ إِعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الاِبْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظِ الإِْعَارَةِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَمُعَاوَضَةٌ فِي الاِنْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الاِبْتِدَاءِ لاَ يَلْزَمُ التَّأْجِيل فِيهِ، كَمَا فِي الإِْعَارَةِ، إِذْ لاَ جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الاِنْتِهَاءِ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً، وَهُوَ رِبًا (3) .
وَمَعَ اتِّفَاقِ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأَْجَل فِي الْقَرْضِ فَاسِدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ هَل يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 170، والبدائع 7 / 396.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 303.
(3) رد المحتار 4 / 170 (ط. بولاق 1272 هـ) ، وبدائع الصنائع 7 / 396.(33/129)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقَرْضُ صَحِيحٌ.
وَالأَْجَل بَاطِلٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شُرِطَ فِي الْقَرْضِ أَجَلٌ نُظِرَ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ غَرَضٌ فِي التَّأْجِيل (أَيْ مَنْفَعَةٌ لَهُ) لَغَا الشَّرْطُ، وَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ زَادَ فِي الإِْرْفَاقِ بِجَرِّهِ الْمَنْفَعَةَ لِلْمُقْتَرِضِ فِيهِ، وَيُنْدَبُ لَهُ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمُقْرِضِ فِيهِ غَرَضٌ، بِأَنْ كَانَ زَمَنَ نَهْبٍ، وَالْمُسْتَقْرِضُ مَلِيءٌ، فَوَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الْقَرْضَ؛ لأَِنَّ فِيهِ جَرَّ مَنْفَعَةٍ لِلْمُقْرِضِ (2) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيل بِالشَّرْطِ، فَإِذَا اشْتُرِطَ الأَْجَل فِي الْقَرْضِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ رَدُّ الْبَدَل قَبْل حُلُول الأَْجَل الْمُعَيَّنِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (4) .
__________
(1) النتف للسغدي 1 / 493، والفتاوى الهندية 3 / 202، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 303، ورد المحتار 4 / 170.
(2) روضة الطالبين 4 / 34، وأسنى المطالب 2 / 142، ونهاية المحتاج 4 / 226.
(3) ميارة على التحفة 2 / 196، والبهجة 2 / 288، والمغني لابن قدامة 6 / 431، والاختيارات الفقهية ص 132، وإعلام الموقعين 3 / 375 (مطبعة السعادة) .
(4) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن صحيح.(33/129)
ثُمَّ فَرَّعَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا: أَنَّهُ لَوْ رَغِبَ الْمُقْتَرِضُ تَعْجِيلَهُ لِرَبِّهِ قَبْل أَجَلِهِ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ فِي الأَْجَل لِلْمُقْتَرِضِ فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، عَيْنًا كَانَ الْبَدَل أَوْ عَرْضًا، أَوْ كَانَ نَفْسَ الْمَال الْمُقْتَرَضِ (1) .
هـ - اشْتِرَاطُ رَدِّ مَحَل الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ:
27 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَدَّ مَحَل الْقَرْضِ بِعَيْنِهِ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ؛ لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُقْتَرِضُ بِاسْتِهْلاَكِهِ وَرَدِّ بَدَلِهِ، فَاشْتِرَاطُ رَدِّهِ بِعَيْنِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، بَل يَبْقَى صَحِيحًا (2) .
و اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ لِلْمُقْرِضِ:
28 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِي بَدَل الْقَرْضِ لِلْمُقْرِضِ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْقَرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَزِيدَهُ هَدِيَّةً مِنْ مَالٍ آخَرَ، أَوْ كَانَتْ فِي
__________
(1) البهجة 2 / 288، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 153، والخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 232، والتاج والإكليل 4 / 548، والزرقاني على خليل 5 / 229، والكافي لابن عبد البر ص 358.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 225 - 227.(33/130)
الصِّفَةِ، بِأَنْ يَرُدَّ الْمُقْتَرِضُ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، وَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُعَدُّ مِنْ قَبِيل الرِّبَا (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكُل زِيَادَةٍ فِي سَلَفٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسَلِّفُ فَهِيَ رِبًا، وَلَوْ كَانَتْ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ إِنْ كَانَ بِشَرْطٍ (2) ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رِبًا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كُل قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا (4) أَيْ لِلْمُقْرِضِ.
وَبِأَنَّ مَوْضُوعَ عَقْدِ الْقَرْضِ الإِْرْفَاقُ وَالْقُرْبَةُ، فَإِذَا شَرَطَ الْمُقْرِضُ فِيهِ الزِّيَادَةَ لِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِهِ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَرْضًا لِلزِّيَادَةِ لاَ لِلإِْرْفَاقِ وَالْقُرْبَةِ؛ وَلأَِنَّ الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا؛ لأَِنَّهَا فَضْلٌ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 395، والنتف للسغدي 1 / 493، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 149، والبهجة 2 / 287، والقوانين الفقهية ص 293، والخرشي 5 / 232، والزرقاني على خليل 5 / 228، ومواهب الجليل 4 / 546، وأسنى المطالب 2 / 142، وروضة الطالبين 4 / 34، وفتح العزيز 9 / 375، 385، ونهاية المحتاج 4 / 225، وشرح منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 304.
(2) الكافي في فقه أهل المدينة 2 / 359 ط. بيروت.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 436.
(4) حديث " النهي عن كل قرض جر نفعًا " عزاه ابن حجر في التلخيص (3 / 34) إلى الحارث بن أبي أسامة وقال: في إسناده سوار بن مصعب وهو متروك.(33/130)
الرِّبَا وَاجِبٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَمِثْل ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْمُقْرِضِ أَيَّ عَمَلٍ يَجُرُّ إِلَيْهِ نَفْعًا، كَأَنْ يُسْكِنَهُ الْمُقْتَرِضُ دَارَهُ مَجَّانًا، أَوْ يُعِيرَهُ دَابَّتَهُ، أَوْ يَعْمَل لَهُ كَذَا، أَوْ يَنْتَفِعَ بِرَهْنِهِ. . . إِلَخْ (2) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ السَّلَفَ إِذَا وَقَعَ فَاسِدًا وَجَبَ فَسْخُهُ، وَيُرْجَعُ إِلَى الْمِثْل فِي ذَوَاتِ الأَْمْثَال، وَإِلَى الْقِيمَةِ فِي غَيْرِهَا (3) .
الْهَدِيَّةُ لِلْمُقْرِضِ ذَرِيعَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ:
29 - اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ لِلْمُقْرِضِ قَبْل الْوَفَاءِ بِالْقَرْضِ عَلَى أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) : لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهَدِيَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقَرْضُ لِمُقْرِضِهِ، لَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَوَرَّعَ الْمُقْرِضُ عَنْ قَبُول هَدِيَّتِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ لأَِجْل الْقَرْضِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ لاَ لأَِجْل الْقَرْضِ، بَل لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْقَبُول، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَعْرُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (4) فَالْحَالَةُ حَالَةُ الإِْشْكَال، فَيَتَوَرَّعُ عَنْهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 395.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 304، والمبدع 4 / 209.
(3) رد المحتار 4 / 172، والنتف للسغدي 1 / 493، والخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 230، والقوانين الفقهية ص 293.
(4) أي لم يتبين المقرض هل هدية المقترض لأجل القرض أم ليست لأجله.(33/131)
حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْدَى لاَ لأَِجْل الدَّيْنِ (1) .
(وَالثَّانِي) : لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يُهْدِيَ الدَّائِنَ رَجَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ بِدَيْنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الدَّائِنِ قَبُولُهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَ الْمَدِينِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّأْخِيرِ مُقَابِل الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ قَائِمَةً وَجَبَ رَدُّهَا، وَإِنْ فَاتَتْ بِمُفَوِّتٍ وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتِهَا يَوْمَ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْمَدِينُ ذَلِكَ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَ دَائِنَهُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: لَكِنْ يُكْرَهُ لِذِي الدَّيْنِ أَنْ يَقْبَل ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنْ تَحَقَّقَ صِحَّةَ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَرِيعَةً لاِسْتِجَازَةِ ذَلِكَ حَيْثُ لاَ يَجُوزُ (2) .
ثُمَّ أَوْضَحَ الْمَالِكِيَّةُ ضَابِطَ الْجَوَازِ حَيْثُ صَحَّتِ النِّيَّةُ وَانْتَفَى الْقَصْدُ الْمَحْظُورُ فَقَالُوا: إِنَّ هَدِيَّةَ الْمِدْيَانِ حَرَامٌ إِلاَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِثْل الْهَدِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَبْل الْمُدَايَنَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لأَِجْل الدَّيْنِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ حِينَئِذٍ حَالَةَ الْمُدَايَنَةِ، وَإِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ مُوجِبٌ لِلْهَدِيَّةِ بَعْدَ الْمُدَايَنَةِ، مِنْ صِهَارَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْرُمُ أَيْضًا (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 203.
(2) القوانين الفقهية ص 293، والكافي لابن عبد البر 2 / 359، ومواهب الجليل 4 / 546، والخرشي 5 / 230.
(3) الزرقاني على خليل 5 / 227، والخرشي 5 / 230.(33/131)
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلْمُقْرِضِ أَخْذُ هَدِيَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ بِلاَ شَرْطٍ وَلَوْ فِي الرِّبَوِيِّ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَوْلَى قَبْل رَدِّ الْبَدَل (1) .
(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إِذَا أَهْدَى لِمُقْرِضِهِ هَدِيَّةً قَبْل الْوَفَاءِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُقْرِضُ احْتِسَابَهَا مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ مُكَافَأَتَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ، إِلاَّ إِذَا جَرَتْ عَادَةٌ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ قَبْل الْقَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً بِهِ جَازَ أَمَّا إِذَا أَهْدَاهُ بَعْدَ الْوَفَاءِ - بِلاَ شَرْطٍ وَلاَ مُوَاطَأَةٍ - فَهُوَ جَائِزٌ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ وَلاَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَلاَ إِلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرْضٌ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلاَ يَرْكَبْهَا وَلاَ يَقْبَلْهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْل ذَلِكَ (3) وَمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 119، ونهاية المحتاج 4 / 225، وروضة الطالبين 4 / 37.
(2) منتهى الإرادات 2 / 227، وكشاف القناع 3 / 305، والمبدع 4 / 210، المغني 6 / 437.
(3) حديث: " إذا أقرض أحدكم قرضًا. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 813) وذكر البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 48) : أن في إسناده ضعيفًا ومجهولاً.(33/132)
عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ، فَقَال: لَقَدْ عَلِمَ أَهْل الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لاَ حَاجَةَ لَنَا، فَبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَبِل.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فَكَانَ رَدُّ عُمَرَ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَدِيَّتُهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ قَبِلَهَا، وَهَذَا فَصْل النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ (1) . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَّمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لأَِبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: إِنَّكَ فِي أَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْل تِبْنٍ أَوْ حِمْل شَعِيرٍ أَوْ حِمْل قَتٍّ فَإِنَّهُ رِبًا (2) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكُل ذَلِكَ سَدًّا لِذَرِيعَةِ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْل (3) .
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِجَوَازِ الْهَدِيَّةِ غَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ مِنَ الْمُقْتَرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ (4) .
ز - اشْتِرَاطُ عَقْدٍ آخَرَ فِي الْقَرْضِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا مُتَعَدِّدَةً لاِشْتِرَاطِ عَقْدٍ
__________
(1) تهذيب ابن القيم لمختصر سنن أبي داود للمنذري 5 / 150.
(2) أثر " قول عبد الله بن سلام لأبي بردة. . . " أخرجه البخاري فتح الباري 7 / 129.
(3) إغاثة اللهفان 1 / 364، وإعلام الموقعين 3 / 154، 184.
(4) المبدع 4 / 210.(33/132)
آخَرَ - كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُسَاقَاةٍ وَقَرْضٍ آخَرَ - فِي عَقْدِ الْقَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي الْحُكْمِ، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ مُنَافَاتِهَا لِمُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، وَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ التَّالِيَةِ:
أ - الصُّورَةُ الأُْولَى:
30 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَالاً آخَرَ، بِأَنْ قَال الْمُقْرِضُ لِلْمُقْتَرِضِ: أَقْرَضْتُكَ كَذَا بِشَرْطِ أَنْ أُقْرِضَكَ غَيْرَهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَرْضِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ لاَغٍ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالُوا: لأَِنَّهُ وَعْدٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَهَبَهُ غَيْرَهُ (1) .
ب - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
31 - إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ قَرْضٌ آخَرُ مِنَ الْمُقْتَرِضِ لِمُقْرِضِهِ فِي مُقَابِل الْقَرْضِ الأَْوَّل، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَسْلِفْنِي أُسُلِفْكَ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ، وَعَلَى فَسَادِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا (2) ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي مَذْهَبِهِمْ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 35، وفتح العزيز 9 / 371، 382، ونهاية المحتاج 4 / 226.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 437.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 227.(33/133)
وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ حَوْل هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ كَرَاهَةُ الْقَرْضِ مَعَ ذَلِكَ الشَّرْطِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْخُلاَصَةِ الْقَرْضُ بِالشَّرْطِ حَرَامٌ وَالشَّرْطُ لَغْوٌ (2) .
ج - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:
32 - إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَبِيعَهُ الْمُقْرِضُ شَيْئًا، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ، أَوْ يُؤَجِّرَهُ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ (4) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَحَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْبَيْعِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبْحِ فِي السَّلَفِ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَالتَّوَسُّل إِلَى ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ (5) ،
__________
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد الجد 2 / 519 ط. دار الغرب الإسلامي، وبداية المجتهد 8 / 93 (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) .
(2) ابن عابدين 4 / 174.
(3) القوانين الفقهية ص 293، وكفاية الطالب الرباني 2 / 149 - 150، والمهذب 1 / 311، وفتح العزيز 9 / 384، ونهاية المحتاج 4 / 225، وكشاف القناع 3 / 305.
(4) حديث: " لا يحل سلف وبيع " أخرجه الترمذي (3 / 527) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1 / 363.(33/133)
وَقَال: وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْبَيْعُ؛ فَلأَِنَّهُ إِذَا أَقْرَضَهُ مِائَةً إِلَى سَنَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةٍ، فَقَدْ جَعَل هَذَا الْبَيْعَ ذَرِيعَةً إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ الَّذِي مُوجِبُهُ رَدُّ الْمِثْل، وَلَوْلاَ هَذَا الْبَيْعُ لَمَا أَقْرَضَهُ، وَلَوْلاَ عَقْدُ الْقَرْضِ لَمَا اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ (1) ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرِّبَا (2) .
وَلأَِنَّهُمَا جَعَلاَ رِفْقَ الْقَرْضِ ثَمَنًا، وَالشَّرْطُ لَغْوٌ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَيَصِيرُ الْبَاقِي مَجْهُولاً، قَال الْخَطَّابِيُّ: وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُقْرِضُهُ عَلَى أَنْ يُحَابِيَهُ فِي الثَّمَنِ، فَيَدْخُل الثَّمَنُ فِي حَدِّ الْجَهَالَةِ (3) .
وَلأَِنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الآْخَرُ دَارَهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ دَارَهُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَتِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارَ الْمُقْرِضِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهَا كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ (4) .
وَلأَِنَّ الْقَرْضَ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عُقُودِ الْبِرِّ وَالْمُكَارَمَةِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِوَضٌ، فَإِنْ قَارَنَ الْقَرْضَ عَقْدُ
__________
(1) تهذيب ابن القيم لمختصر سنن أبي داود للمنذري 5 / 149.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين 3 / 153 مط السعادة بمصر.
(3) معالم السنن للخطابي 5 / 144 (مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري) .
(4) المغني 6 / 437.(33/134)
مُعَاوَضَةٍ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الْعِوَضِ، فَخَرَجَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، فَبَطَل وَبَطَل مَا قَارَنَهُ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَرْضُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ لِلْمُقْرِضِ، وَالْبَيْعُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ - كَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ - لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لِتَنَافِي حُكْمَيْهِمَا (1) .
33 - وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ شِرَاءُ الْمُقْتَرِضِ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنَ الْمُقْرِضِ بِثَمَنٍ غَالٍ لِحَاجَتِهِ لِلْقَرْضِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ وَيُكْرَهُ، وَقَدْ عَلَّقَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَقَال: أَيْ يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَهَذَا لَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بَعْدَ الْقَرْضِ، لِمَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْعُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ، وَلَكِنِ اشْتَرَى الْمُسْتَقْرِضُ مِنَ الْمُقْرِضِ بَعْدَ الْقَرْضِ مَتَاعًا بِثَمَنٍ غَالٍ.
فَعَلَى قَوْل الْكَرْخِيِّ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَقَال الْخَصَّافُ: مَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ: إِنَّهُ حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ يَقُول لَوْ لَمْ أَكُنِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ طَالَبَنِي بِالْقَرْضِ فِي الْحَال، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَال خُوَاهَرْ زَادَهْ: مَا نُقِل عَنِ السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ،
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ للباجي 5 / 29.(33/134)
وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهَذَا إِذَا تَقَدَّمَ الإِْقْرَاضُ عَلَى الْبَيْعِ.
فَإِنْ تَقَدَّمَ الْبَيْعُ - بِأَنْ بَاعَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْمُعَامَلَةُ مِنَ الطَّالِبِ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا، ثُمَّ أَقْرَضَهُ سِتِّينَ دِينَارًا أُخْرَى، حَتَّى صَارَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِائَةُ دِينَارٍ، وَحَصَل لِلْمُسْتَقْرِضِ ثَمَانُونَ دِينَارًا - ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ إِمَامِ بَلْخٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، إِذْ لَوْلاَهُ لَمْ يَتَحَمَّل الْمُسْتَقْرِضُ غَلاَءَ الثَّمَنِ، وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَال يُكْرَهُ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، لأَِنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا، فَكَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ، وَكَانَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِقَوْل الْخَصَّافِ وَابْنِ سَلَمَةَ، وَيَقُول: هَذَا لَيْسَ بِقَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، بَل هَذَا بَيْعٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَهِيَ الْقَرْضُ (1) .
ح - اشْتِرَاطُ الْجُعْل عَلَى الاِقْتِرَاضِ بِالْجَاهِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنِ اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، هَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ جُعْلاً ثَمَنًا لِجَاهِهِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) رد المحتار 4 / 175 (ط. بولاق 1272 هـ) ، والفتاوى الهندية 3 / 202.(33/135)
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال لِغَيْرِهِ اقْتَرِضْ لِي مِائَةً وَلَكَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ فَهُوَ جَعَالَةٌ (1) .
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لإِِخْوَانِهِ، قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يَعْنِي إِذَا كَانَ مَنْ يُقْتَرَضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ، لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَال الْمُقْرِضِ وَإِضْرَارًا بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ فَلاَ يُكْرَهُ؛ لِكَوْنِهِ إِعَانَةً لَهُ وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ (2) .
وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا اسْتَقْرَضَ الإِْنْسَانُ لِغَيْرِهِ بِجَاهِهِ، قَال الْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَخْذُ جُعْلٍ مِنْهُ مُقَابِل اقْتِرَاضِهِ لَهُ بِجَاهِهِ، بِخِلاَفِ أَخْذِ الْجُعْل عَلَى كَفَالَتِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ (3) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ قَال: اقْتَرِضْ لِي مِنْ فُلاَنٍ مِائَةً، وَلَكَ عَشَرَةٌ، فَلاَ بَأْسَ، وَلَوْ قَال: اكْفُل عَنِّي وَلَكَ أَلْفٌ لَمْ يَجُزْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَوْلَهُ اقْتَرِضْ لِي وَلَكَ عَشَرَةٌ جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَجَازَتْ، كَمَا لَوْ قَال: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَكَ عَشَرَةٌ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ، فَإِنَّ الْكَفِيل يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُول مِثْلُهُ، فَصَارَ كَالْقَرْضِ، فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا صَارَ الْقَرْضُ جَارًّا لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجُزْ (4) .
وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي ثَمَنِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 120.
(2) كشاف القناع 3 / 306، والمغني 6 / 430.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 225، وكشاف القناع 3 / 306، والمبدع 4 / 212.
(4) المغني 6 / 441.(33/135)
الْجَاهِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، وَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ بِإِطْلاَقٍ، وَمِنْ مُفَصِّلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْجَاهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَتَعَبٍ وَسَفَرٍ، فَأَخَذَ مِثْل أَجْرِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِلاَّ حَرُمَ، قَال التَّسَوُّلِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ (1) .
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 288.(33/136)
قُرْعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: السُّهْمَةُ وَالنَّصِيبُ، وَالْمُقَارَعَةُ: الْمُسَاهَمَةُ، وَأَقْرَعْتُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي شَيْءٍ يَقْسِمُونَهُ، وَيُقَال: كَانَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، إِذَا قَرَعَ أَصْحَابَهُ، وَقَارَعَهُ فَقَرَعَهُ يَقْرَعُهُ: أَيْ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ دُونَهُ، وَتُسْتَعْمَل فِي مَعَانٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبَرَكَتِيُّ: الْقُرْعَةُ السَّهْمُ وَالنَّصِيبُ، وَإِلْقَاءُ الْقُرْعَةِ: حِيلَةٌ يَتَعَيَّنُ بِهَا سَهْمُ الإِْنْسَانِ أَيْ نَصِيبُهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِسْمَةُ:
2 - الْقِسْمَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَسَمْتُهُ قَسْمًا أَيْ فَرَزْتُهُ أَجْزَاءً (3) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، ومعجم مقاييس اللغة لابن زكريا، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير مادة فسم.(33/136)
وَاصْطِلاَحًا: تَمْيِيزُ الْحِصَصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقِسْمَةِ، وَالْقُرْعَةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْقُرْعَةُ مَشْرُوعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَنْدُوبَةً أَوْ وَاجِبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً فِي أَحْوَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
فَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُل مَرْيَمَ} (3) ، أَيْ يَحْضُنُهَا فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا.
وَقَال تَعَالَى {وَإِنَّ يُونُسَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (4) .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَوْلُهُ (فَسَاهَمَ) يَقُول: أَقْرَعَ (5) .
وَأَمَّا مَشْرُوعِيَّتُهَا مِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَرَضَ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 269.
(2) الشرح الكبير 3 / 498.
(3) سورة آل عمران / 44.
(4) سورة الصافات / 139 - 141.
(5) تفسير الطبري 22 / 63.(33/137)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ (2) .
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
4 - قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمَيْل
حَتَّى لَوْ عَيَّنَ الْقَاضِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِ إِقْرَاعٍ جَازَ لأَِنَّهُ فِي الْقَضَاءِ فَيَمْلِكُ الإِْلْزَامَ (3) .
وَجَاءَ فِي تَكْمِلَةِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: " أَلاَ يُرَى أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْل هَذَا اسْتَعْمَل الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (4) ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا نُسِبَ إِلَى مَا لاَ يَلِيقُ بِالأَْنْبِيَاءِ فَاسْتَعْمَل الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْمَل الْقُرْعَةَ مَعَ الأَْحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ لِكَوْنِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " عرض النبي صلى الله عليه وسلم على قوم اليمين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 285) .
(2) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 218) .
(3) الهداية مع شرحها تكملة فتح القدير 8 / 363.
(4) سورة الصافات / 141.(33/137)
خَالَتِهَا عِنْدَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ كَمَا قَال تَعَالَى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُل مَرْيَمَ} (1) ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ (2) .
كَيْفِيَّةُ إِجْرَاءِ الْقُرْعَةِ:
5 - لِلْقُرْعَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ طَرِيقَتَانِ:
الأُْولَى: كِتَابَةُ أَسْمَاءِ الشُّرَكَاءِ فِي رِقَاعٍ.
وَالثَّانِيَةُ: كِتَابَةُ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ فِي رِقَاعٍ، وَقَدْ شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لإِِجْرَاءِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ الأَْنْصِبَاءُ مُتَسَاوِيَةً فَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَتَجُوزُ فِي الْعُرُوضِ خَاصَّةً (3) .
وَقَدْ أَجَازَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِجْرَاءَهَا فِي الصُّورَتَيْنِ إِلاَّ أَنَّ طَرِيقَةَ كِتَابَةِ الأَْسْمَاءِ أَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
مَا تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ:
6 - تَجْرِي الْقُرْعَةُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
الأَْوَّل: فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ إِذَا ثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تَسَاوِي الْمُسْتَحِقِّينَ، كَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عِدَّةِ
__________
(1) سورة آل عمران / 44.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 364 - 365. وحديث: " كان يقرع بين نسائه. . . " تقدم تخريجه ف 3.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 511.
(4) شرح الجلال المحلي على المنهاج 4 / 316، ومغني المحتاج 4 / 422، وكشاف القناع 6 / 380 - 381.(33/138)
أَعْبُدٍ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَسَعْ ثُلُثُهُ عِتْقَ جَمِيعِهِمْ، وَفِي الْحَاضِنَاتِ إِذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ لاِسْتِوَائِهِنَّ فِي الْحَقِّ فَوَجَبَتِ الْقُرْعَةُ لأَِنَّهَا مُرَجِّحَةٌ.
الثَّانِي: فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهِ وَالْعَجْزِ عَنِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْمْوَال وَالأَْبْضَاعُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَرَيَانِ الْقُرْعَةِ فِي الأَْبْضَاعِ.
الثَّالِثُ: فِي تَمْيِيزِ الأَْمْلاَكِ.
وَقِيل: إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ فِي ثَلاَثِ صُوَرٍ:
أَحَدُهَا: الإِْقْرَاعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ إِذَا لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِهِمْ.
وَثَانِيهَا: الإِْقْرَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ تَعْدِيل السِّهَامِ فِي الْقِسْمَةِ.
وَثَالِثُهَا: عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ.
الرَّابِعُ: فِي حُقُوقِ الاِخْتِصَاصَاتِ كَالتَّزَاحُمِ عَلَى الصَّفِّ الأَْوَّل، وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.
الْخَامِسُ: فِي حُقُوقِ الْوِلاَيَاتِ كَمَا إِذَا تَنَازَعَ الإِْمَامَةَ الْعُظْمَى اثْنَانِ وَتَكَافَآ فِي صِفَاتِ التَّرْجِيحِ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَكَاجْتِمَاعِ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَتَجْرِي بَيْنَهُمُ الْقُرْعَةُ لِتَرْجِيحِ(33/138)
أَحَدِهِمْ (1) .
مَا لاَ تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ:
7 - إِذَا تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْرَاعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الْقُرْعَةَ ضَيَاعُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَجْرِي الْقُرْعَةُ فِيمَا يُكَال أَوْ يُوزَنُ وَاتَّفَقَتْ صِفَتُهُ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا لاَ قُرْعَةً؛ لأَِنَّهُ إِذَا كِيل أَوْ وُزِنَ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْقُرْعَةِ فَلاَ وَجْهَ لِدُخُولِهَا فِيهِمَا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَمِمَّا لاَ تَجْرِي فِيهِ الْقُرْعَةُ الأَْبْضَاعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ فِي لِحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 / 106، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 62 وما بعدها، والفروق للقرافي 4 / 111 (الفرق 240) ، والقواعد لابن رجب ص 348 وما بعدها (القاعدة 160) ، وحاشية ابن عابدين 1 / 375، 2 / 401.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 501.
(3) القليوبي وعميرة 4 / 316، كشاف القناع 6 / 379.
(4) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 64، وقواعد ابن رجب ص 348.(33/139)
إِجْبَارُ الشُّرَكَاءِ عَلَى قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِذَا تَمَّتْ عَنْ طَرِيقِ قَاسِمٍ مِنْ قِبَل الْقَاضِي بِالْقُرْعَةِ كَانَتْ مُلْزِمَةً وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمُ الإِْبَاءُ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِ السِّهَامِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاسِمُ مُخْتَارًا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عَدْلاً كَانَ كَقَاسِمِ الْحَاكِمِ فِي لُزُومِ قِسْمَتِهِ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً لَمْ تَلْزَمْ قِسْمَتُهُ إِلاَّ بِتَرَاضِيهِمَا، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُتَقَاسِمَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْقَاسِمُ مُخْتَارًا مِنْ قِبَلِهِمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْقُرْعَةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ الآْبِينَ إِذَا طَلَبَهَا الْبَعْضُ إِنِ انْتَفَعَ كُلٌّ مِنَ الآْبِينَ وَغَيْرِهِمُ انْتِفَاعًا تَامًّا عُرْفًا بِمَا يُرَادُ لَهُ كَبَيْتِ السُّكْنَى، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ كُلٌّ انْتِفَاعًا تَامًّا لاَ يُجْبَرُ (2) .
الْقُرْعَةُ فِي مَعْرِفَةِ الأَْحَقِّ بِغُسْل الْمَيِّتِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْحَقَّ فِي غُسْل الْمَيِّتِ أَقَارِبُهُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا كَالإِْخْوَةِ
__________
(1) ابن عابدين 6 / 255، 263، والقليوبي وعميرة 4 / 316، 317، وكشاف القناع 6 / 378.
(2) الدسوقي 3 / 512.(33/139)
وَالأَْعْمَامِ الْمُسْتَوِينَ وَالزَّوْجَاتِ وَلاَ مُرَجِّحَ بَيْنَهُمْ فَالتَّقْدِيمُ بِقُرْعَةٍ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ قُدِّمَ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ سِوَاهَا (1) .
الْقُرْعَةُ فِي تَقْدِيمِ الأَْحَقِّ بِالإِْمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي يُقَدَّمُ بِهَا لِلإِْمَامَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ التَّنَازُعِ.
وَالتَّفَاضُل بَيْنَهُمْ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 14 - 18) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَنَائِز ف 41) .
الْقُرْعَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ فَلَهُ اخْتِيَارُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَحَبُّوا الْقُرْعَةَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي سَفَرِ الْقُرْبَةِ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرْبَةِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تَجِبُ مُطْلَقًا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ فِي
__________
(1) كشاف القناع 2 / 90، والقليوبي وعميرة 1 / 345.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 206، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 343.(33/140)
السَّفَرِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ طَوِيلاً أَمْ قَصِيرًا، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا فَلاَ تَجِبُ وَلاَ يُسْتَصْحَبُ لأَِنَّهُ كَالإِْقَامَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِدُونِهَا وَأَنْ يَخْلُفَهُنَّ حَذَرًا مِنَ الإِْضْرَارِ بِهِنَّ، بَل يَنْقُلُهُنَّ أَوْ يُطَلِّقُهُنَّ (1) .
الْقُرْعَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَبِيتِ:
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَبِيتِ؛ لأَِنَّ الْبُدَاءَةَ بِإِحْدَاهُنَّ تَفْضِيلٌ لَهَا وَالتَّسْوِيَةُ وَاجِبَةٌ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقُرْعَةِ بَيْنَهُنَّ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فَلاَ يَرَوْنَ الْقُرْعَةَ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَبْتَدِئُ بِهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
__________
(1) القليوبي 3 / 304 - 305، وكشاف القناع 5 / 199.
(2) شرح الجلال المحلي 3 / 302 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 327، وحاشية الدسوقي 2 / 341، وكشاف القناع 5 / 199 وما بعدها، وابن عابدين 3 / 208.(33/140)
الْقُرْعَةُ فِي الطَّلاَقِ:
13 - إِذَا كَانَ لِشَخْصٍ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ، فَطَلَّقَ وَاحِدَةً لاَ بِعَيْنِهَا، بِأَنْ قَال: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا تَعَيَّنَتْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَصْرِفُ الطَّلاَقَ إِلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي إِلَى طَلاَقِ الْجَمِيعِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُهُ التَّعْيِينُ، فَإِنِ امْتَنَعَ حُبِسَ وَعُزِّرَ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ ابْتِدَاءً وَتَعْيِينَهُ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَلَكَ تَعْيِينَهُ لأَِنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَا مَلَكَ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمَا فِي الْقُرْعَةِ وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ إِزَالَةُ مِلْكٍ بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَتَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ كَالْعِتْقِ، وَقَدْ ثَبَتَ الأَْصْل بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ السِّتَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً
__________
(1) ابن عابدين 3 / 291 طبعة الحلبي، الطبعة الثالثة، ومواهب الجليل 4 / 87، وروضة الطالبين 8 / 103، والمغني 7 / 251.(33/141)
أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاَثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَال لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا (1) .
وَلأَِنَّ الْحَقَّ لِوَاحِدٍ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَوَجَبَ تَعْيِينُهُ بِالْقُرْعَةِ.
وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْل الْقُرْعَةِ وَالتَّعْيِينِ، أَقْرَعَ الْوَرَثَةُ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا قُرْعَةُ الطَّلاَقِ فَحُكْمُهَا فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مَا لَوْ عَيَّنَهَا بِالتَّطْلِيقِ (2) .
وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيَهَا تَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَعَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ ذِكْرُهُ (3) .
الْقُرْعَةُ فِي الْحَضَانَةِ:
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى اخْتِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 10 - 14) .
الْقُرْعَةُ فِي الْمُوصَى بِعِتْقِهِمْ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَبِيدًا أَوْ أَوْصَى
__________
(1) حديث عمران بن حصين " أن رجلاً أعتق ستة مملوكين. . . " أخرجه مسلم (3 / 1288) .
(2) المغني 7 / 251 - 252.
(3) المراجع السابقة.(33/141)
بِعِتْقِهِمْ، وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَّسِعِ الثُّلُثُ لِعِتْقِهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَأُعْتِقَ مِنْهُمْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ (1) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
الْقُرْعَةُ فِي الْعَطَاءِ وَالْغَنِيمَةِ:
16 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقُرْعَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
أ - مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ فِيمَنْ يُقَدَّمُ - عِنْدَ الْعَطَاءِ - فَقَال: يُقَدَّمُ بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالدِّينِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالسِّنِّ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ قُدِّمَ بِالشَّجَاعَةِ، فَإِنْ تَقَارَبَا فِيهِ فَوَلِيُّ الأَْمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ بِرَأْيِهِمْ أَوِ اجْتِهَادِهِ.
ب - وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْهَا السَّلَبُ وَالْمُؤَنُ اللاَّزِمَةُ لِلأُْجُورِ وَالْحِفْظِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ يُجْعَل الْبَاقِي خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ يُجْرَى فِيهَا الْقُرْعَةُ لإِِخْرَاجِ سَهْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ الْمَصَالِحِ (3) .
الْقُرْعَةُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ:
17 - تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ لَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ كَمَا
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 378 - 379، مغني المحتاج 4 / 502 - 503، المغني لابن قدامة 9 / 358 - 359 - 363.
(2) حديث عمران بن حصين: تقدم تخريجه ف 13.
(3) روضة الطالبين 6 / 362، 376، ونهاية المحتاج 6 / 144.(33/142)
يَلِي:
أَوَّلاً: إِذَا ادَّعَى شَخْصَانِ عَيْنًا بِيَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ مُطْلَقَتَيِ التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةٌ وَالأُْخْرَى مُؤَرَّخَةٌ، وَالْحَال أَنَّ الْحَائِزَ لِلْعَيْنِ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهَا تُقْسَمُ نِصْفَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال الْمَبْنِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الدَّعْوَى - لاَ نِصْفَيْنِ - عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا وَيُصَارُ إِلَى التَّحَالُفِ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينًا، فَإِنْ رَضِيَا بِيَمِينٍ وَاحِدٍ فَالأَْصَحُّ الْمَنْعُ خِلاَفًا لِجَزْمِ الإِْمَامِ بِالْجَوَازِ، وَإِنْ رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تُسْتَعْمَلاَنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنِ الإِْلْغَاءِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الاِسْتِعْمَال ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 272، ورد المحتار 8 / 22، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 7 / 212 وما بعدها ط. دار الفكر، ومغني المحتاج 4 / 480، وروضة الطالبين 12 / 51.
(2) مغني المحتاج 4 / 480، وانظر الروضة 12 / 51.(33/142)
وَرِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجْمَالُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - تُقْسَمُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادٍ (1) .
ب - أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَتُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَهَذَا ثَانِي الأَْقْوَال الثَّلاَثَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الاِسْتِعْمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى رِوَايَةِ الاِسْتِعْمَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهَل يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى يَمِينٍ؟ قَوْلاَنِ
أَحَدُهُمَا: لاَ، وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ لِبَيِّنَتِهِ،
وَالثَّانِي: نَعَمْ، وَالْقُرْعَةُ تَجْعَل أَحَدَهُمَا أَحَقَّ بِالْيَمِينِ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ أَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِالْحَقِّ ثُمَّ يُقْضَى لَهُ (2) .
ج - تُوقَفُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ فِيهَا أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ ثَالِثُ الأَْقْوَال الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الاِسْتِعْمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ لأَِنَّهُ أَشْكَل الْحَال بَيْنَهُمَا فِيمَا يُرْجَى انْكِشَافُهُ فَيُوقَفُ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَمَاتَ قَبْل الْبَيَانِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ الْمِيرَاثُ، وَلَمْ يُرَجِّحِ النَّوَوِيُّ شَيْئًا وَلَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلاَمِ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الْوَقْفِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 480، والمغني 9 / 288.
(2) المغني 9 / 288، ومغني المحتاج 4 / 480، وروضة الطالبين 12 / 51.
(3) مغني المحتاج 4 / 480.(33/143)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى سُقُوطِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَيَقْتَرِعُ الْمُدَّعِيَانِ عَلَى الْيَمِينِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ (1) .
ثَانِيًا: وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بِيَدِهِمَا وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِيَّتِهِ لَهَا، وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ (2) ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا قَوْلَيِ الْوَقْفِ وَالْقُرْعَةِ، إِذْ يَرَوْنَ بَقَاءَ يَدِ كُلٍّ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ بَعْدَ تَسَاقُطِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَلاَ يَجِيءُ الْوَقْفُ إِذْ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ (3) .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ مَعَ زِيَادَةِ أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ (4) .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ حَلَفَ أَنَّهَا لاَ حَقَّ لِلآْخَرِ فِيهَا، وَكَانَتِ الْيَمِينُ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، وَقَال: وَالأَْوَّل أَصَحُّ لِلْخَبَرِ (5) .
__________
(1) المغني 9 / 287، 288.
(2) الزرقاني على المختصر 7 / 212، رد المحتار 8 / 22، 30.
(3) مغني المحتاج 4 / 480، وانظر روضة الطالبين 12 / 52.
(4) المغني 9 / 280 - 281.
(5) المغني 9 / 281.(33/143)
ثَالِثًا: وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ يُطَالِبُ بِكُل الْعَيْنِ وَالآْخَرُ بِنِصْفِهَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ، وَالْحَال أَنَّ الْعَيْنَ بِيَدِ شَخْصٍ ثَالِثٍ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ: بِأَنْ تُقْسَمَ بِقَدْرِ دَعْوَى كُلٍّ عَلَى الرَّاجِحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّصْفَ لِصَاحِبِ الْكُل لاَ مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي النِّصْفِ الآْخَرِ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَكَانَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِكُل وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا وَصَارَا كَمَنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا وَإِنْ قُلْنَا: تُسْتَعْمَل الْبَيِّنَتَانِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَالثَّانِي: يُقْسَمُ النِّصْفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ لِمُدَّعِي الْكُل ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهَا، وَإِلَى مِثْل قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ يَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ (1) بَيْنَمَا يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ (2) .
رَابِعًا: وَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ ادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا، وَادَّعَى الآْخَرُ نِصْفَهَا، وَالآْخَرُ ثُلُثَهَا، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُمْ. وَالْحَال أَنَّ الْعَيْنَ بِيَدِ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ بِأَنْ تُقْسَمَ الْعَيْنُ بِقَدْرِ دَعْوَى كُلٍّ عَلَى الرَّاجِحِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِعْطَاءِ النِّصْفِ لِمُدَّعِي الْكُل لأَِنَّهُ
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل 7 / 212 - 213، والمغني 9 / 283 - 284، والروضة 12 / 54.
(2) الدر المختار مع رد المحتار 8 / 40.(33/144)
لَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِيهِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُل أَوْ لِصَاحِبِ النِّصْفِ حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ حَلَفَ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الآْخَرِينَ فِي السُّدُسِ فَمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهُ (1) .
وَإِنْ أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ: فَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى رَأْيِهِمُ السَّابِقِ، وَالْحَنَابِلَةُ يَجْعَلُونَ النِّصْفَ لِمُدَّعِي الْكُل لِمَا ذَكَرْنَا، وَالسُّدُسُ الزَّائِدُ يَتَنَازَعُهُ مُدَّعِي الْكُل وَمُدَّعِي النِّصْفِ، وَالثُّلُثُ يَدَّعِيهِ الثَّلاَثَةُ وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَاتُ أَقْرَعْنَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، فَمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا قَوْل أَبِي عُبَيْدٍ (2) .
خَامِسًا: وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالثَّانِي ثُلُثَيْهَا، وَالثَّالِثُ نِصْفَهَا، وَالرَّابِعُ ثُلُثَهَا. . . وَالدَّارُ فِي يَدِ خَامِسٍ لاَ يَدَّعِيهَا وَلاَ بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ: فَالثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُل لأَِنَّ أَحَدًا لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ
__________
(1) الزرقاني على المختصر 7 / 212 - 213، المغني 9 / 284 - 285.
(2) الزرقاني على المختصر 7 / 212 - 213، والدر المختار مع رد المحتار 8 / 47، والمغني 9 / 285.(33/144)
خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِصَاحِبِ الْكُل أَوْ لِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ أَخَذَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ لِمُدَّعِي النِّصْفِ أَخَذَهُ وَأُقْرِعَ بَيْنَ الثَّلاَثَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَهَذَا قَوْل أَبِي عُبَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ إِذْ كَانَ بِالْعِرَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: لِمُدَّعِي الْكُل الثُّلُثُ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنِ النِّصْفِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ فِي السُّدُسِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ فِي الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَيَكُونُ الإِْقْرَاعُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى الثُّلُثُ لِمُدَّعِي الْكُل، وَيُقْسَمُ الزَّائِدُ عَنِ النِّصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ يُقْسَمُ السُّدُسُ الزَّائِدُ عَنِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ أَثْلاَثًا، ثُمَّ يُقْسَمُ الثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الأَْرْبَعَةِ أَرْبَاعًا (1) .
وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ فَارِقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ادَّعَاهُ، بَيْنَمَا فَرْضُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيَامُ بَيِّنَةٍ لِكُل وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَاهُ.
سَادِسًا: نَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلَيْنِ ثَوْبَيْنِ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالآْخَرُ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا ثَوْبُ هَذَا مِنْ
__________
(1) المغني 9 / 286 - 287.(33/145)
ثَوْبِ هَذَا، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ، يَعْنِي وَادَّعَاهُ الآْخَرُ، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَكَانَ الثَّوْبُ الْجَيِّدُ لَهُ، وَالآْخَرُ لِلآْخَرِ، وَإِنَّمَا قَال ذَلِكَ لأَِنَّهُمَا تَنَازَعَا عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا (1) .
سَابِعًا: إِذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا فَقَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذِهِ الْعَيْنُ لِي اشْتَرَيْتُهَا مِنْ زَيْدٍ بِمِائَةٍ وَنَقَدْتُهُ إِيَّاهَا، وَلاَ بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. . . وَقَال زَيْدٌ: لاَ أَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْكُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَأَخَذَهَا (2) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ فَارِقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إِقَامَةُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ، وَالأَْثَرُ هُوَ سُقُوطُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ، وَمُقَابِلُهُ: اسْتِعْمَالُهُمَا، فَفِي مَجِيءِ قَوْل الْوَقْفِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ، وَيَجِيءُ قَوْلاَ الْقُرْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، وَالتَّفْرِيعُ كَمَا سَبَقَ (3) .
وَتَكْمِلَةُ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا وَيَحْلِفُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِهِ وَلاَ اعْتِرَافِهِ، وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ زَوَال مِلْكِهِ وَأَنَّ يَدَهُ لاَ حُكْمَ لَهَا فَلاَ حُكْمَ لِقَوْلِهِ، فَمَنْ قَال: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ
__________
(1) المغني 9 / 290.
(2) المغني 9 / 290.
(3) روضة الطالبين 12 / 71.(33/145)
خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا، وَمَنْ قَال: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا قُسِمَتْ وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهَا أَقْوَالُهُمُ السَّابِقَةُ، بِالسُّقُوطِ لِلْبَيِّنَتَيْنِ، أَوِ اسْتِعْمَالِهِمَا، وَفِي حَالَةِ الاِسْتِعْمَال، يَجِيءُ الْوَقْفُ عَلَى الأَْصَحِّ فَتُنْزَعُ الدَّارُ مِنْ يَدِهِ وَالثَّمَنَانِ وَيُوقَفُ الْجَمِيعُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ الدَّارُ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ وَاسْتَرَدَّ الآْخَرُ الثَّمَنَ الَّذِي أَدَّاهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ فَلِكُل وَاحِدٍ نِصْفُ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ وَلَهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ (2) .
بَيْنَمَا يَتَّفِقُ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ الْقَوْل الأَْخِيرِ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَقْسِيمِ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا (3) .
ثَامِنًا: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الاِبْنَيْنِ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَادَّعَى الاِبْنُ الآْخَرُ وَهُوَ كَافِرٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ كَافِرًا، وَالْحَال أَنَّ الأَْبَ مَجْهُول الدِّينِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا أَثَرُ الْقُرْعَةِ فِي هَذَا الْخِلاَفِ فَهُوَ كَمَا يَلِي: يَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْوَلَدَيْنِ
__________
(1) المغني 9 / 291.
(2) الروضة 12 / 69.
(3) مجمع الأنهر على ملتقى الأبحر 2 / 274.(33/146)
أَخٌ صَغِيرٌ وَتَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُمَا عَنِ الْبَيِّنَةِ فَيَحْلِفَانِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، أَيْ يَحْلِفُ كُلٌّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ وَيَنْبَغِي التَّبْدِئَةُ بِالْقُرْعَةِ بِالْيَمِينِ إِذَا تَنَازَعَا فِيمَنْ يَحْلِفُ مِنْهُمَا أَوَّلاً وَيُوقَفُ لِلصَّغِيرِ الثُّلُثُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْتِي هُنَا أَقْوَالُهُمُ السَّابِقَةُ فِي الدَّعَاوَى الْمُتَعَارِضَةِ فَعَلَى قَوْل السُّقُوطِ يَسْقُطَانِ، وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَيُصَدَّقُ الْكَافِرُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالاِسْتِعْمَال فَعَلَى الْوَقْفِ يُوقَفُ، وَعَلَى الْقُرْعَةِ يُقْرَعُ فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ فَلَهُ التَّرِكَةُ، وَعَلَى الْقِسْمَةِ تُقْسَمُ فَيُجْعَل بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَغَيْرِ الإِْرْثِ (2) .
كَمَا طَبَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِيهَا قَاعِدَتَهُمُ السَّابِقَةَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ تُنْظَرَ فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ فِي أَيْدِيهِمَا قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ كَمَا إِذَا تَدَاعَيَا عَيْنًا (3) .
تَاسِعًا: كَمَا تَجْرِي الْقَوَاعِدُ السَّابِقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ وَالاِبْنُ وَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَأَخُو الْمَرْأَةِ حَيْثُ قَال الزَّوْجُ: مَاتَتِ الزَّوْجَةُ أَوَّلاً فَوَرِثْتُهَا أَنَا وَابْنِي ثُمَّ مَاتَ الاِبْنُ فَوَرِثْتُهُ، وَقَال الأَْخُ: مَاتَ الاِبْنُ
__________
(1) شرح الزرقاني 7 / 214، وحاشية الدسوقي 4 / 199.
(2) الروضة 12 / 76.
(3) المغني 9 / 312.(33/146)
أَوَّلاً فَوَرِثَتْ مِنْهُ أُخْتِي، ثُمَّ مَاتَتْ فَأَرِثُ مِنْهَا، فَفِي حَالَةِ الاِسْتِعْمَال إِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَجَرَتْ أَقْوَال التَّعَارُضِ السَّابِقَةِ أَيْ مِنَ الْوَقْفِ وَالْقُرْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، بَيْنَمَا يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالَةِ التَّعَارُضِ فِي هَذِهِ أَيْضًا إِلَى تَطْبِيقِ قَوَاعِدِهِمْ وَهِيَ: هَل تَسْقُطَانِ أَوْ تُسْتَعْمَلاَنِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا؟ أَوْ يَقْتَسِمَانِ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلاَثِ (1)
عَاشِرًا: كَذَلِكَ تَجْرِي قَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا قَال الْمُكْرِي: أَكْرَيْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ شَهْرَ كَذَا بِعَشَرَةٍ، فَقَال: اكْتَرَيْتُ جَمِيعَ الدَّارِ بِالْعَشَرَةِ. . . فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَقَوْلاَنِ. وَقِيل: وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ، لاِشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَةٍ وَهِيَ اكْتِرَاءُ جَمِيعِ الدَّارِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يَتَعَارَضَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيِ التَّعَارُضِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ: تَحَالَفَا، وَإِنْ قُلْنَا بِالاِسْتِعْمَال: جَازَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي الْيَمِينِ مَعَهَا الْخِلاَفُ السَّابِقُ، قَال ابْنُ سَلَمَةَ: لاَ يُقْرَعُ؛ لأَِنَّ الْقُرْعَةَ عِنْدَ تَسَاوِي الْجَانِبَيْنِ، وَلاَ تَسَاوِي لأَِنَّ جَانِبَ الْمُكْرِي أَقْوَى لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ وَالْقِسْمَةُ فَلاَ يَجِبَانِ (2) ، وَبِنَفْسِ هَذَا التَّصْوِيرِ أَوْرَدَ الْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، لَكِنْ
__________
(1) المغني 9 / 317.
(2) الروضة 12 / 67.(33/147)
قَالُوا فِي حَالَةِ التَّعَارُضِ: فَإِنْ قُلْنَا تَسَاقَطَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا قَدَّمْنَا قَوْل مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمُكْتَرِي لأَِنَّهَا تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ (1) .
الْبُدَاءَةُ بِالْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّحَالُفِ:
18 - لاَ يُحْتَاجُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَل الْقَاعِدَةُ هِيَ: تَخَيُّرُ الْقَاضِي فِي الْبَدْءِ بِتَحْلِيفِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ حَسَبَ مَا يَتَرَجَّحُ لَدَيْهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ إِنْكَارًا إِلاَّ فِي صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى فِي الْبَيْعِ: إِذَا كَانَ الاِخْتِلاَفُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ أَوْ فِيهِمَا: فَيُبْدَأُ بِتَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي، وَقِيل: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، هَذَا إِذَا كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ أَوْ ثَمَنٍ بِمُثَمَّنٍ فَالْقَاضِي مُخَيَّرٌ لِلاِسْتِوَاءِ (2) .
الثَّانِيَةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالأُْجْرَةِ، وَادَّعَيَا مَعًا يَحْلِفُ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي الْبَيْعِ (3) ، بَيْنَمَا لَمْ يُشِرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ إِلَى الاِقْتِرَاعِ لِمَعْرِفَةِ مَنْ يَبْدَأُ مِنَ الْمُتَحَالِفَيْنِ
__________
(1) المغني 9 / 317، 318.
(2) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 293.
(3) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 267.(33/147)
بِالْيَمِينِ، وَذَلِكَ فِي اخْتِلاَفِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَوِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، بَل يَجْعَلاَنِ الْخِيَارَ فِي ذَلِكَ لِلْقَاضِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي بَعْضِهَا الآْخَرِ يُبْدَأُ بِتَحْلِيفِ الْمُنْكِرِ، أَوِ الأَْقْوَى إِنْكَارًا مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَى الْمَذْهَبِ يَتَخَيَّرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِهِ مِنْهُمَا، وَقِيل: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُبْدَأُ بِمَنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ، وَالْخِلاَفُ جَمِيعُهُ فِي الاِسْتِحْبَابِ دُونَ الاِشْتِرَاطِ (2) .
اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ نَسَبِ اللَّقِيطِ:
19 - يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ نَسَبِ اللَّقِيطِ إِلَى أَحَدِ مُدَّعِي نَسَبِهِ (3) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ بِنَسَبِهِ سَقَطَتَا فِي الأَْظْهَرِ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْل الْقَائِفِ،
وَالثَّانِي: لاَ تَسْقُطَانِ، وَتُرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا الْمُوَافِقُ لَهَا قَوْل الْقَائِفِ بِقَوْلِهِ، فَمَال الاِثْنَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُمَا وَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْل التَّسَاقُطِ فِي التَّعَارُضِ فِي الأَْمْوَال، وَلاَ يَأْتِي هُنَا
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 188 - 195، وجواهر الإكليل 2 / 64 - 66 دار إحياء الكتب العربية، والمغني 4 / 211 - 221.
(2) شرح الجلال المحلي على المنهاج 2 / 239.
(3) جواهر الإكليل 2 / 220، والزرقاني 7 / 120، والدر المختار مع رد المحتار 4 / 272، وشرح الجلال المحلي 3 / 130، والمغني 5 / 766.(33/148)
مَا فُرِّعَ عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ أَقْوَال: الْوَقْفِ وَالْقِسْمَةِ وَالْقُرْعَةِ، وَقِيل: تَأْتِي الْقُرْعَةُ هُنَا (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ فَكَانَ لأَِحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ فَهُوَ ابْنُهُ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَاهُنَا؛ لأَِنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْمَال، إِمَّا بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَإِمَّا بِالإِْقْرَاعِ بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْعَةُ لاَ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ، فَإِنْ قِيل: إِنَّ ثُبُوتَهُ هَاهُنَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ لاَ بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ، قُلْنَا: يَلْزَمُ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ رَجُلاَنِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ لُحُوقُهُ بِالْوَطْءِ لاَ بِالْقُرْعَةِ (2) .
اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحَقِّيَّةِ حَضَانَةِ اللَّقِيطِ:
20 - يَذْهَبُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ لإِِثْبَاتِ أَحَقِّيَّةِ أَحَدِ الْمُدَّعِيَيْنِ أَخْذَ اللَّقِيطِ بِقَصْدِ حَضَانَتِهِ، أَوْ صَلاَحِيَّتِهِ لِلْحَضَانَةِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَاسْتَوَيَا فِي الصِّفَاتِ (3) .
__________
(1) شرح الجلال المحلي 3 / 130.
(2) المغني 5 / 766.
(3) جواهر الإكليل 2 / 220، والزرقاني 7 / 120، وشرح الجلال المحلي 3 / 124، والمغني 5 / 761.(33/148)
الْقُرْعَةُ عِنْدَ تَنَازُعِ أَوْلِيَاءِ الدِّمَاءِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
21 - مَنْ قَتَل جَمْعًا مُرَتَّبًا قُتِل بِأَوَّلِهِمْ، أَوْ مَعًا بِأَنْ مَاتُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَشْكَل الْحَال بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ فَبِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ قُتِل بِهِ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ (1) .
وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَفِي اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي تَمْكِينِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ مِنَ التَّنْفِيذِ، وَفِي تَمْكِينِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَوِينَ مِنْ تَنْفِيذِ الْقِصَاصِ عِنْدَ التَّنَازُعِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص) .
الْقُرْعَةُ فِي الْمُسَابَقَةِ:
22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.
فَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ يَقُولُونَ: لاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْبَادِئِ بِالرَّمْيِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِي الْعَقْدِ، وَالأَْظْهَرُ اشْتِرَاطُ بَيَانِ الْبَادِئِ بِالرَّمْيِ حَذَرًا مِنِ اشْتِبَاهِ الْمُصِيبِ بِالْمُخْطِئِ لَوْ رَمَيَا مَعًا (2) .
وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْقُرْعَةِ فِي الْمُسَابَقَةِ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَبْدَأُ الرَّمْيَ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ، فَإِذَا تَشَاحَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَأَيُّهُمَا كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ فَبَدَرَهُ الآْخَرُ فَرَمَى لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ
__________
(1) شرح الجلال المحلي وحاشية القليوبي وعميرة عليه 4 / 110.
(2) شرح الجلال المحلي 4 / 269.(33/149)
بِسَهْمِهِ أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ (1) .
الْحَاجَةُ إِلَى الْقُرْعَةِ فِي التَّبْدِئَةِ بِالشُّرْبِ:
23 - أَشَارَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْقُرْعَةِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا مَلَكَ جَمَاعَةٌ مَاءً بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ أَرْضِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا تَشَاحُّوا فِي التَّبْدِئَةِ بِأَنْ طَلَبَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ فَالْقُرْعَةُ (2) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: يَأْخُذُ كُل مِنْهُمْ مَا يَشَاءُ أَيْ إِنِ اتَّسَعَ وَكَفَى الْجَمِيعَ وَإِلاَّ قُدِّمَ عَطْشَانُ وَلَوْ مَسْبُوقًا عَلَى غَيْرِهِ، وَآدَمِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ، وَسَابِقٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنِ اسْتَوَوْا أُقْرِعَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ لِحَاجَةِ دَوَابِّهِمْ، وَلاَ تَدْخُل دَوَابُّهُمْ فِي قُرْعَتِهِمْ.
كَمَا قَالُوا فِي سَقْيِ الأَْرْضِ يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ إِلَى الْمَاءِ فَالأَْقْرَبُ، وَهَذَا إِنْ عُلِمَ تَقْدِيمُ الأَْقْرَبِ أَوْ جُهِل الْحَال، فَإِنْ سَبَقَ الأَْبْعَدُ قُدِّمَ، فَإِنِ اسْتَوَوْا وَجُهِل الأَْسْبَقُ وَأَحْيَوْا مَعًا أُقْرِعَ وُجُوبًا، وَلِلأَْبْعَدِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِحْيَاءَ مَوَاتٍ أَقْرَبَ مِنْهُ خَشْيَةَ إِثْبَاتِ حَقِّ سَبْقِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّل النَّهْرِ اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ
__________
(1) المغني 8 / 666 - 669.
(2) الشرح الكبير 4 / 74.
(3) شرح الجلال المحلي مع حاشية القليوبي وعميرة 3 / 96.(33/149)
الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لاَ يَفْضُل عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِلآْخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ لأَِنَّ الآْخَرَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ لاَ فِي أَصْل الْحَقِّ، بِخِلاَفِ الأَْعْلَى مَعَ الأَْسْفَل فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلأَْسْفَل حَقٌّ إِلاَّ فِيمَا فَضَل عَنِ الأَْعْلَى (1) .
__________
(1) المغني 5 / 584 - 585، وشرح الجلال المحلي 4 / 318.(33/150)
قَرْقَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرْقَرَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّحِكُ الْعَالِي.
وَالْقَرْقَرَةُ: رُغَاءُ الْبَعِيرِ، وَقَرْقَرَ بَطْنُهُ: صَوَّتَ، وَقَرْقَرَ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ: صَوَّتَ.
وَالْقَرْقَرَةُ اصْطِلاَحًا: حَبْسُ الرِّيحِ، ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَاقِبُ وَالْحَاقِنُ وَالْحَازِقُ وَالْحَافِزُ:
2 - الْحَاقِنُ: مُدَافِعُ الْبَوْل، وَالْحَاقِبُ: مُدَافِعُ الْغَائِطِ، وَالْحَازِقُ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مُدَافِعُ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، وَقِيل: مُدَافِعُ الرِّيحِ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْحَازِقُ الَّذِي ضَاقَ خُفُّهُ، وَالْحَافِزُ: مُدَافِعُ الرِّيحِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا عَكْسَ ذَلِكَ قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلاَ مَانِعَ مِنْهُ لأَِنَّهُ حُجَّةٌ (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قرر) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 115.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 431، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 115، حاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 194.(33/150)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَرْقَرَةِ حَبْسُ مَا يُنْقِضُ الْوُضُوءَ فِي كُلٍّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل أَنَّ الْقَرْقَرَةَ - حَبْسُ الرِّيحِ - إِنْ كَانَتْ تَمْنَعُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - كَمَا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الإِْيتَانِ بِهِ بِعُسْرٍ - فَإِنَّهَا تُبْطِل الْوُضُوءَ.
فَمَنْ حَصَرَهُ رِيحٌ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ أَصْلاً، أَوْ يَأْتِي بِهِ مَعَ عُسْرٍ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلاً، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَل بِهِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقَرْقَرَةُ لاَ تَمْنَعُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا لاَ تُبْطِل الْوُضُوءَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَرْقَرَةَ الشَّدِيدَةَ تُنْقِضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الإِْتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، وَالرَّاجِحُ الأَْوَّل.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِحَبْسِ الرِّيحِ، وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَهَا (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَاقِن ف 5 - 6) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 431، حاشية الدسوقي 1 / 115، القليوبي وعميرة 1 / 194، كشاف القناع 1 / 371.(33/151)
قَرْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ - بِالسُّكُونِ - مِنَ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ قُرُونٌ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٌ، وَالْقَرْنُ أَيْضًا: الذُّؤَابَةُ، وَالْجِيل مِنَ النَّاسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى وَقْتٍ مِنَ الزَّمَانِ.
وَقَرْنٌ أَيْضًا مِيقَاتُ أَهْل نَجْدٍ، وَهُوَ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى عَرَفَاتٍ، وَيُقَال لَهُ: قَرْنُ الْمَنَازِل، وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرْنِ:
أَوَّلاً: قَرْنٌ بِمَعْنَى الْمِيقَاتِ:
2 - قَرْنٌ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ - مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ نَجْدٍ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَيْهَا، وَيُقَال لَهَا قَرْنُ الْمَنَازِل وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ (2) ،
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) البناية 3 / 450 - 451، والشرح الصغير 2 / 21، والمجموع 7 / 197، وحاشية الجمل 2 / 402، والإقناع 1 / 235، والمغني 3 / 275.(33/151)
وَقَال ابْنُ جَمَاعَةٍ: يُقَال لَهُ: قَرْنٌ غَيْرُ مُضَافٍ، وَسَمَّاهُ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْنَدِ قَرْنَ الْمَعَادِنِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِحْرَام ف 40) .
ثَانِيًا: الْقَرْنُ مِنَ الْحَيَوَانِ:
التَّضْحِيَةُ بِمَا لاَ قَرْنَ لَهُ مِنْ غَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَدَا ابْنِ حَامِدٍ - أَنَّهُ يُجْزِئُ الْجَمَّاءُ - وَهِيَ الَّتِي لاَ قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً - فِي الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ التَّضْحِيَةَ بِالْجَمَّاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ (3) .
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: لاَ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْجَمَّاءِ لأَِنَّ ذَهَابَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقَرْنِ يَمْنَعُ، فَذَهَابُ الْجَمِيعِ أَوْلَى؛ وَلأَِنَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَوَرُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَمَى، وَكَذَلِكَ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَضَبُ يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَجَمَّ أَوْلَى (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَمَّاء ف 3) .
التَّضْحِيَةُ بِمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَكْسُورَةَ الْقَرْنِ تُجْزِئُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَسْرُ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 32.
(2) بدائع الصنائع 5 / 76، والمواق 3 / 240، وكشاف القناع 3 / 6، والمغني 8 / 625.
(3) المجموع 8 / 402.
(4) المغني 8 / 626.(33/152)
الْمُشَاشَ، فَإِذَا بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ فَإِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ، وَالْمُشَاشُ رُءُوسُ الْعِظَامِ مِثْل الرُّكْبَتَيْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ يُدْمِي فَلاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ مَرَضٌ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ الَّتِي انْكَسَرَ قَرْنُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ، سَوَاءٌ أَدْمَى قَرْنُهَا بِالاِنْكِسَارِ أَمْ لاَ؟ (3) قَال الْقَفَّال: إِلاَّ أَنْ يُؤَثِّرَ أَلَمُ الاِنْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ فَيَكُونَ كَالْجَرَبِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ الْعَضْبَاءُ - وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا - لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالأُْذُنِ (5) قَال قَتَادَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَال: الْعَضَبُ النِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَال أَحْمَدُ: الْعَضْبَاءُ مَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا، نَقَلَهُ حَنْبَلٌ لأَِنَّ الأَْكْثَرَ كَالْكُل (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 294.
(2) التاج والإكليل 3 / 241.
(3) المجموع 8 / 402.
(4) روضة الطالبين 3 / 196.
(5) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 90) ، وأعله المنذري في مختصر سنن أبي داود (4 / 108) بالكلام في أحد رواته.
(6) كشاف القناع 3 / 5 - 6.(33/152)
ثَالِثًا: الْقَرْنُ بِمَعْنَى الْجِيل مِنَ النَّاسِ، وَوَقْتٌ مِنَ الزَّمَانِ:
خَيْرُ الْقُرُونِ:
5 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَال عِمْرَانُ - رَاوِي الْحَدِيثِ -: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ، وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. . . (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحَابَةُ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُل مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةُ خَيْرُ النَّاسِ عَلَى عُمُومِهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيل الصَّحَابِيِّ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أَفْرَادُ النِّسَاءِ عَلَى
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 نشر دار القلم.
(2) حديث: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 3) ومسلم (4 / 1964) من حديث عمران بن حصين واللفظ للبخاري، والرواية الأخرى أخرجها البخاري (فتح الباري 7 / 3) ومسلم (4 / 1963) من حديث ابن مسعود.
(3) فتح الباري 7 / 5 - 6.(33/153)
مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَغَيْرِهِمَا، بَل الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل قَرْنٍ بِجُمْلَتِهِ.
قَال الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَرْنِ هُنَا فَقَال الْمُغِيرَةُ: قَرْنُهُ أَصْحَابُهُ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ، وَالثَّالِثُ أَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ، وَقَال شَهْرٌ: قَرْنُهُ مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْهُ، وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ كَذَلِكَ، وَقَال غَيْرُ وَاحِدٍ: الْقَرْنُ كُل أَهْل طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ، وَقِيل: هُوَ لأَِهْل مُدَّةٍ بُعِثَ فِيهَا نَبِيٌّ طَالَتْ مُدَّتُهُ أَمْ قَصُرَتْ.
وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ الْخِلاَفَ فِي قَدْرِهِ بِالسِّنِينَ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ قَال: وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ، وَرَأَى أَنَّ الْقَرْنَ كُل أُمَّةٍ هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ.
وَقَال الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: الْقَرْنُ عَشْرُ سِنِينَ، وَقَتَادَةُ: سَبْعُونَ، وَالنَّخَعِيُّ: أَرْبَعُونَ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: مِائَةٌ، وَقَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: هُوَ الْوَقْتُ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةُ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ، وَالثَّالِثُ تَابِعُوهُمْ (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 318 - 319 نشر دار القلم.(33/153)
قَرَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرَنُ: - بِفَتْحِ الرَّاءِ - مَصْدَرٌ، يُقَال:
قَرَنَتِ الْجَارِيَةُ قَرَنًا إِذَا كَانَ فِي فَرْجِهَا قَرْنٌ - بِالسُّكُونِ - أَيْ إِذَا كَانَ فِي فَرْجِهَا شَيْءٌ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيُقَال لَهُ: الْعَفَلَةُ.
وَقِيل: هُوَ كَالنُّتُوءِ فِي الرَّحِمِ، يَكُونُ فِي النَّاسِ وَالشَّاءِ وَالْبَقَرِ.
وَالْقَرْنَاءُ: الْعَفْلاَءُ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: الْقَرْنَاءُ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي فِي فَرْجِهَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ سُلُوكِ الذَّكَرِ فِيهِ إِمَّا غُدَّةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ لَحْمَةٌ مُرْتَتِقَةٌ أَوْ عَظْمٌ، يُقَال لِذَلِكَ كُلِّهِ: الْقَرَنُ.
وَلِلْقَرَنِ أَيْضًا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَالْقَرْنُ - بِالسُّكُونِ -: أَيْضًا مَوْضِعٌ وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْل نَجْدٍ.
وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الزَّمَنِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْقَرَنِ هُنَا فِي الاِصْطِلاَحِ أَحَدُ عُيُوبِ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (قرن) .(33/154)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: هُوَ لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي مَدْخَل الذَّكَرِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: كَالْغُدَّةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْبِهُ قَرْنَ الشَّاةِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَظْمًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ بِعَظْمٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ لَحْمٌ يَحْدُثُ فِي الْفَرْجِ يَسُدُّهُ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي وَظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ، وَقِيل: الْقَرَنُ: عَظْمٌ أَوْ غُدَّةٌ تَمْنَعُ وُلُوجَ الذَّكَرِ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمُطَّلِعِ وَالزَّرْكَشِيُّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّتَقُ:
2 - الرَّتَقُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْفَتْقِ، وَالرَّتَقُ: إِلْحَامُ الْفَتْقِ وَإِصْلاَحِهِ، يُقَال رَتَقَهُ يَرْتِقُهُ رَتْقًا فَارْتَتَقَ أَيِ الْتَأَمَ.
وَالرَّتَقُ - بِالتَّحْرِيكِ - مَصْدَرُ قَوْلِكَ رَتَقَتِ الْمَرْأَةُ رَتَقًا، وَهِيَ رَتْقَاءُ بَيِّنَةُ الرَّتَقِ: الْتَصَقَ خِتَانُهَا فَلَمْ تُنَل لاِرْتِتَاقِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهَا، فَهِيَ لاَ يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا (4) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ بِاللَّحْمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 597، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 278.
(2) نهاية المحتاج 6 / 303.
(3) كشاف القناع 5 / 109.
(4) لسان العرب والمصباح المنير مادة (رتق) .(33/154)
بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ مَعَهُ الْجِمَاعُ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَرَنِ وَالرَّتَقِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ عُيُوبِ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَرَنِ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ، فَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَوْ إِمْضَائِهِ إِذَا وَجَدَ زَوْجَتَهُ قَرْنَاءَ حَال الْعَقْدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا، وَذَلِكَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ الأَْصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبِ الْقَرَنِ فِي الزَّوْجَةِ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي زِيَادٍ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَذَلِكَ أَنَّ فَوْتَ الاِسْتِيفَاءِ أَصْلاً بِالْمَوْتِ لاَ يُوجِبُ الْفَسْخَ فَاخْتِلاَلُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى، وَهَذَا لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ مِنَ الثَّمَرَاتِ - وَفَوْتُ الثَّمَرَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ - وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 597، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 278، روضة الطالبين 7 / 177، كشاف القناع 5 / 109.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 278، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 83، وشرح روض الطالب 3 / 176، ونهاية المحتاج 6 / 303، وكشاف القناع 5 / 109، 110.(33/155)
التَّمَكُّنُ وَهُوَ حَاصِلٌ (1) .
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْقَرْنَاءِ:
4 - تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ الْقَرْنَاءِ عَلَى زَوْجِهَا؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ الاِحْتِبَاسُ لاِنْتِفَاعِ مَقْصُودٍ مِنْ وَطْءٍ أَوْ مِنْ دَوَاعِيهِ (2) .
وُجُوبُ الْقِسْمَةِ لِلْقَرْنَاءِ:
5 - تَجِبُ الْقِسْمَةُ لِلْقَرْنَاءِ، كَمَا تَجِبُ لِكُل مَنْ قَامَ بِهَا عُذْرٌ شَرْعِيٌّ أَوْ طَبْعِيٌّ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الأُْنْسُ لاَ الاِسْتِمْتَاعُ (3) .
إِجْبَارُ الزَّوْجَةِ الْقَرْنَاءِ عَلَى الْمُدَاوَاةِ:
6 - لاَ تُجْبَرُ الْقَرْنَاءُ عَلَى شَقِّ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ فَعَلَتْهُ وَأَمْكَنَ الْوَطْءُ فَلاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ شَقُّ مَوْضِعِ الاِنْسِدَادِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَتُجْبَرُ عَلَيْهِ إِنْ رَفَضَتْ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا لاَ يُمْكِنُهُ بِدُونِهِ (5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 597. وفتح القدير 3 / 267 - 268 ط. الأميرية 1315هـ.
(2) رد المحتار 2 / 645، مغني المحتاج 3 / 437، المغني 7 / 603، والشرح الكبير للدردير 2 / 517، وعبارته: ولها نفقة وإن كانت رتقاء إن دخل بها عالمًا أو رضي باستمتاعه بما دون الفرج.
(3) مغني المحتاج 3 / 252، رد المحتار 2 / 400، حاشية الدسوقي 2 / 339.
(4) نهاية المحتاج 6 / 303، أسنى المطالب 3 / 176، حاشية الدسوقي 2 / 284.
(5) رد المحتار 2 / 597.(33/155)
الإِْيلاَءُ مِنَ الزَّوْجَةِ الْقَرْنَاءِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِيلاَءِ الزَّوْجِ مِنْ زَوْجَتِهِ الْقَرْنَاءِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإِْيلاَءُ مِنَ الْقَرْنَاءِ وَالرَّتْقَاءِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ الْغَرَضُ مِنَ الإِْيلاَءِ مِنْ قَصْدِ إِيذَاءِ الزَّوْجَةِ بِالاِمْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهَا؛ لاِمْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ (1) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ الإِْيلاَءُ مِنَ الْقَرْنَاءِ وَالرَّتْقَاءِ لِعُمُومِ آيَةِ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) الآْيَةَ، وَيَكُونُ فَيْؤُهُ بِالْقَوْل كَأَنْ يَقُول: فِئْتُ إِلَيْهَا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيلاَء) .
قَرْنُ الْمَنَازِل
انْظُرْ: قَرْن
قَرِين
انْظُرْ: جِنّ
__________
(1) المحلي على القليوبي 3 / 9، والمغني لابن قدامة 7 / 313.
(2) سورة البقرة / 226.
(3) تبيين الحقائق 2 / 166، ابن عابدين 2 / 552.(33/156)
قَرِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ الْبَعِيرَيْنِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الأَْكْل، وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، وَمِنْهُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ قَرِينٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَدُل عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهِ صَرِيحًا (2) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَرِينَةِ:
2 - الْقَرِينَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (4) : إِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(3) سورة يوسف / 18.
(4) تفسير القرطبي 9 / 173 - 174.(33/156)
أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلاَمَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلاَمَةِ عَلاَمَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلاَمَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لاَبِسُ الْقَمِيصِ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَل عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَل الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى إِعْمَال الأَْمَارَاتِ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2) ، عَلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعَلاَمَةِ، إِذْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ كَذِبَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا نَسَبَتْهُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (3) .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا (4) ، فَجَعَل صُمَاتَهَا قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الأَْدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
كَمَا سَارَ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي عَرَضَتْ، وَمِنْ
__________
(1) التبصرة 2 / 95، والقرطبي 9 / 173.
(2) سورة يوسف / 26، 27.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 440.
(4) حديث: " الأيم أحق بنفسها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037) من حديث ابن عباس.(33/157)
ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ - بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، أَوْ قَاءَهَا، وَذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنْهُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهَا حَمْلٌ وَلاَ زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ قَال بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ (1) .
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (2) .
الْقَرَائِنُ الْقَاطِعَةُ وَغَيْرُ الْقَاطِعَةِ:
3 - إِنَّ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَقْوَى حَتَّى يُفِيدَ الْقَطْعَ، وَمِنْهَا مَا يَضْعُفُ (3) ، وَيُمَثِّلُونَ لِحَالَةِ الْقَطْعِ بِمُشَاهَدَةِ شَخْصٍ خَارِجٍ مِنْ دَارٍ خَالِيَةٍ خَائِفًا مَدْهُوشًا فِي يَدِهِ سِكِّينٌ مُلَوَّثَةٌ بِالدَّمِ، فَلَمَّا وَقَعَ الدُّخُول لِلدَّارِ رُئِيَ فِيهَا شَخْصٌ مَذْبُوحٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَشَخَّطُ فِي دِمَائِهِ، فَلاَ يُشْتَبَهُ هُنَا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ هُوَ الْقَاتِل، لِوُجُودِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ (4) .
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ وَلَكِنَّهَا ظَنِّيَّةٌ أَغْلَبِيَّةٌ، وَمِنْهَا الْقَرَائِنُ الْعُرْفِيَّةُ أَوِ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 97.
(2) سورة الأنبياء / 79.
(3) الطرق الحكمية ص 194.
(4) المادة (1741) مجلة الأحكام العدلية.(33/157)
وَقَائِعِ الدَّعْوَى وَتَصَرُّفَاتِ الْخُصُومِ، فَهِيَ دَلِيلٌ أَوَّلِيٌّ مُرَجِّحٌ لِزَعْمِ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ مَتَى اقْتَنَعَ بِهَا الْقَاضِي وَلَمْ يَثْبُتْ خِلاَفُهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تَرُدُّ حَقًّا وَلاَ تُكَذِّبُ دَلِيلاً وَلاَ تُبْطِل أَمَارَةً صَحِيحَةً، هَذَا وَقَدْ دَرَجَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فِي الْمَادَّةِ (1740) وَعَرَّفَتْهَا بِأَنَّهَا الأَْمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ وَذَلِكَ فِي الْمَادَّةِ (1741) .
الأَْخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
4 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَبْصِرَتِهِ نَاقِلاً عَنِ الإِْمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ قَوْلَهُ: عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الأَْمَارَاتِ وَالْعَلاَمَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا مَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، وَقَدْ جَاءَ الْعَمَل بِهَا فِي مَسَائِل اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ، وَبَعْضُهَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ خَاصَّةً (1) .
عَلَى أَنَّ ضَبْطَ كُل الصُّوَرِ الَّتِي تَعْمَل فِيهَا الْقَرِينَةُ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، إِذْ أَنَّ الْوَقَائِعَ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ، وَالْقَضَايَا مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَسْتَخْلِصُهَا الْقَاضِي بِفَهْمِهِ وَذَكَائِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ جَانِبًا مِنَ الصُّوَرِ لِلاِسْتِنَارَةِ بِهَا، وَلِلتَّدْلِيل عَلَى
__________
(1) التبصرة ص 97 - 98.(33/158)
اعْتِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ عَنْهَا، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهَا:
الأُْولَى: أَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِذَا أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلاَنِ أَنَّ هَذِهِ فُلاَنَةُ بِنْتُ فُلاَنٍ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقِ النِّسَاءُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
الثَّانِيَةُ: اعْتِمَادُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى الصِّبْيَانِ وَالإِْمَاءِ الْمُرْسَلَةِ مَعَهُمُ الْهَدَايَا إِلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَل بِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِذْنَ الصِّبْيَانِ فِي الدُّخُول لِلْمَنْزِل.
الرَّابِعَةُ: جَوَازُ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الإِْنْسَانِ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ، وَمَا لاَ يَتْبَعُهُ الإِْنْسَانُ نَفْسُهُ لِحَقَارَتِهِ، كَالتَّمْرَةِ وَالْفَلْسِ، وَكَجِوَازِ أَخْذِ مَا بَقِيَ فِي الْحَوَائِطِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْحَبِّ بَعْدَ انْتِقَال أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَسْيِيبِهِ، كَجَوَازِ أَخْذِ مَا يَسْقُطُ مِنَ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ مِمَّا لاَ يَعْتَنِي صَاحِبُ الزَّرْعِ بِلَقْطِهِ، وَكَأَخَذِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَقَّرَاتِ.
الْخَامِسَةُ: الشُّرْبُ مِنَ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ(33/158)
عَلَى الطُّرُقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّارِبُ إِذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى دَلاَلَةِ الْحَال.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ فِي الرِّكَازِ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَنْزٌ، وَيَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلاَمَاتُ الْكُفْرِ كَالصَّلِيبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ رِكَازٌ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَكِيل عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ قَبْضُ ثَمَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُوَكِّل فِي ذَلِكَ لَفْظًا، اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَال.
الثَّامِنَةُ: الْقَضَاءُ بِالنُّكُول وَاعْتِبَارُهُ فِي الأَْحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ رُجُوعًا إِلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
التَّاسِعَةُ: جَوَازُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِوَاصِفِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا.
الْعَاشِرَةُ: النَّظَرُ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى، وَالاِعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الأَْمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحْدَى حَالَتَيْهِ الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: مَعْرِفَةُ رِضَا الْبِكْرِ بِالزَّوْجِ بِصُمَاتِهَا.
الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَخَلاَ بِهَا، قَال أَصْحَابُنَا: إِذَا طَلَّقَهَا وَقَال إِنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا وَادَّعَتْ هِيَ الْوَطْءَ صُدِّقَتْ، وَكَانَ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً (1) .
__________
(1) هذه المجموعة من الأمثلة والصور التي أعملت فيها القرينة انتخبت من كتاب التبصرة تحت عنوان: فصل في بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم والقرائن والأمارات، وأيضًا من كتاب الطرق الحكمية لابن القيم، ومن كتاب معين الحكام الحنفي المذهب.(33/159)
وَمِنْ هَذَا الْعَرْضِ يَبْدُو اتِّفَاقُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْعَمَل بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال بِصِفَةٍ مُطْلَقَةٍ بِدُونِ قُيُودٍ وَلاَ حُدُودٍ، وَمَصَادِرُ مَذْهَبَيْهِمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ عَمِلُوا بِالْقَرَائِنِ فِي حُدُودٍ ضَيِّقَةٍ، وَيَعْتَدُّونَ بِالْقَرِينَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ، وَبِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ نُجَيْمٍ عِنْدَ إِحْصَائِهِ لِلْحُجَجِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْقَاضِي، فَقَال: إِنَّ الْحُجَّةَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ إِقْرَارٌ، أَوْ نُكُولٌ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ يَمِينٌ، أَوْ قَسَامَةٌ، أَوْ عِلْمُ الْقَاضِي بَعْدَ تَوَلِّيهِ، أَوْ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ، وَقَال: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ مِنَ الدَّعْوَى.
وَذُكِرَ أَنَّهُ لاَ يُقْضَى بِالْقَرِينَةِ إِلاَّ فِي مَسَائِل ذَكَرَهَا فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ التَّحَالُفِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمُزَنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالظُّنُونِ، بَعْدَ ذِكْرِ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَتَنَازُعِ عَطَّارٍ وَدَبَّاغٍ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِعْمَال الظُّنُونِ لَقُضِيَ بِالْعِطْرِ لِلْعَطَّارِ، وَالدِّبَاغِ لِلدَّبَّاغِ (2) .
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 95 وما بعدها، والطرق الحكمية ص 194.
(2) مختصر المزني على هامش كتاب الأم 5 / 266، وكتاب تبويب الأشباه والنظائر ص 310 للشيخ محمد أبي الفتح المفتي الحنفي.(33/159)
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الإِْمَامُ الْجَصَّاصُ صُوَرًا كَثِيرَةً عَمِلُوا فِي بَعْضِهَا بِالْقَرَائِنِ، كَالاِخْتِلاَفِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجَةِ، وَمَا لِلرِّجَال فَهُوَ لِلزَّوْجِ، فَحَكَمُوا بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ (1) .
وَمِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ يُعْمِلُونَ الْقَرَائِنَ - إِنِ اعْتَبَرُوهَا عَامِلَةً - فِي خُصُوصِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلاَ يُعْمِلُونَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، فَاعْتَبَرُوا مَثَلاً سُكُوتَ الْبِكْرِ أَوْ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَقَبْضَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِحَضْرَةِ الْمَالِكِ مَعَ سُكُوتِهِ إِذْنًا بِالْقَبْضِ، وَوَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ، وَقَبُول التَّهْنِئَةِ فِي وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ أَيَّامَ التَّهْنِئَةِ الْمُعْتَادَةِ قَرِينَةً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا عَلاَمَةَ الْكَنْزِ، وَقَالُوا إِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الإِْسْلاَمِ كَانَتْ لُقَطَةً، وَإِنْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْكُفْرِ فَفِيهَا الْخُمُسُ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الاِبْنُ تَعْلِيقًا عَلَى رِسَالَةِ وَالِدِهِ الْمُسَمَّاةِ نَشْرَ الْعُرْفِ فِي بِنَاءِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ عَلَى الْعُرْفِ فَقَال: لِلْمُفْتِي الآْنَ أَنْ يُفْتِيَ عَلَى عُرْفِ أَهْل زَمَانِهِ وَإِنْ خَالَفَ زَمَانَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 171 - 172.
(2) مجموع رسائل ابن عابدين 2 / 126، والمحلى وحاشية القليوبي عليه 3 / 350، 4 / 164.(33/160)
قَرْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرْيَةُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الأَْبْنِيَةُ وَاتُّخِذَ قَرَارًا.
وَتُطْلَقُ الْقَرْيَةُ عَلَى الْمُدُنِ وَغَيْرِهَا، وَالْقَرْيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّل هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (1) هُمَا مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ وَالطَّائِفُ، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمَسَاكِنِ وَالأَْبْنِيَةِ وَالضِّيَاعِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ وَلاَ شُرْطِيٌّ وَلاَ أَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلَةِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا الْبَلْدَةُ الْعَظِيمَةُ إِلاَّ أَنَّهَا دُونَ الْمِصْرِ (4) .
__________
(1) سورة الزخرف / 31.
(2) المصباح المنير، لسان العرب، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن.
(3) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 125، ومغني المحتاج 2 / 419.
(4) بدائع الصنائع 1 / 259.(33/160)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِصْرُ:
2 - الْمِصْرُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِكُل بَلَدٍ مَحْصُورٍ أَيْ مَحْدُودٍ تُقَامُ فِيهَا الدُّورُ وَالأَْسْوَاقُ وَالْمَدَارِسُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَيُقْسَمُ فِيهَا الْفَيْءُ وَالصَّدَقَاتُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْمِصْرَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَكٌّ وَأَسْوَاقٌ، وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ بِحَشَمِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ عِلْمِ غَيْرِهِ، وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ فِي الْحَوَادِثِ إِلَيْهِ.
قَال الْكَرْخِيُّ: إِنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ الْحُدُودُ وَنُفِّذَتْ فِيهِ الأَْحْكَامُ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْمِصْرُ الْعِمَارَةُ الْمُجْتَمِعَةُ الَّذِي فِيهِ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ وَشُرْطِيٌّ وَأَسْوَاقٌ لِلْمُعَامَلاَتِ.
وَالْمِصْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْقَرْيَةِ (1) .
ب - الْبَلَدُ:
3 - الْبَلَدُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُخْتَطِّ الْمَحْدُودِ الْمُتَأَنَّسِ بِاجْتِمَاعِ قُطَّانِهِ وَإِقَامَتِهِمْ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن، المعجم الوسيط مادة (مصر) ، بدائع الصنائع 1 / 259، الفواكه الدواني 1 / 305، حاشية القليوبي وعميرة 3 / 125، مغني المحتاج 2 / 419.(33/161)
فِيهِ، وَيَسْتَوْطِنُ فِيهِ جَمَاعَاتٌ وَيُسَمَّى الْمَكَانُ الْوَاسِعُ مِنَ الأَْرْضِ بَلَدًا.
وَالْبَلَدُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَرْيَةِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرْيَةِ:
أ - فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَهْل الْقُرَى فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَلاَ يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ وَلاَ فِطْرَ وَلاَ أَضْحَى إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ (2) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ (3) ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَقَامَهَا فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا الْبِلاَدَ وَمَا نَصَبُوا الْمَنَابِرَ إِلاَّ فِي الأَْمْصَارِ، وَلأَِنَّ الظُّهْرَ فَرِيضَةٌ فَلاَ يُتْرَكُ إِلاَّ بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ إِلاَّ فِي الأَْمْصَارِ وَلِهَذَا لاَ تُؤَدَّى الْجُمُعَةُ فِي الْبَرَارِيِّ؛ وَلأَِنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ فَتَخْتَصُّ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن مادة: (بلد) ، وحاشية القليوبي 3 / 125.
(2) حديث: " لا جمعة ولا تشريق. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 195) وقال: " غريب مرفوعًا، وإنما وجدناه موقوفًا على علي ".
(3) قول علي: " لا جمعة ولا تشريق. . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3 / 168.(33/161)
بِمَكَانِ إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا عَدَدٌ تَتَقَرَّى بِهِمُ الْقَرْيَةُ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ، يُمْكِنُهُمُ الإِْقَامَةُ آمَنِينَ مُسْتَغْنِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ قَرْيَتِهِمْ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا ذَلِكَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ بَل قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَاتِ وَالأَْوْطَانِ فِي كَثْرَةِ الأَْمْنِ وَالْخَوْفِ، فَفِي الْجِهَاتِ الآْمِنَةِ تَتَقَرَّى الْقَرْيَةُ بِالنَّفَرِ الْيَسِيرِ بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِمَّا يُتَوَقَّعُ فِيهِ الْخَوْفُ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَى الثَّلاَثَةِ وَالأَْرْبَعَةِ وَعَلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِمَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ، قَال الْمَوَّاقُ بَعْدَمَا اسْتَعْرَضَ أَقْوَال عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَدِ الَّذِينَ تَتَقَرَّى بِهِمُ الْقَرْيَةُ: وَقَدْ حَصَل مِنْ هَذَا صِحَّةُ مَا صَدَرَتْ مِنِّي بِهَا فُتْيَا وَهِيَ: أَنَّ مِنْ شَرْطِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ بِهَا ثَلاَثُونَ رَجُلاً فَإِنْ حَضَرُوا فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ صَلَّوْا ظُهْرًا فَإِنْ صَلَّوْا جُمُعَةً أَجْزَأَتْهُمْ، إِنْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً فَأَكْثَرَ، فَأَجَزْتُ الصَّلاَةَ مُرَاعَاةً لِقَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ - فِي هَذَا الْمَجَال (2) -.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَهْل الْقَرْيَةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ جَمْعٌ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 259.
(2) مواهب الجليل 2 / 161 وما بعدها، التاج والإكليل لمختصر خليل بالهامش 2 / 161.(33/162)
الْجُمُعَةُ لأَِنَّ الْقَرْيَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَدِينَةِ، وَكَذَا إِنْ بَلَغَهُمْ صَوْتٌ مِنْ مُؤَذِّنٍ يُؤَذِّنُ فِي الْبَلْدَةِ الْمُجَاوِرَةِ بِصُورَةٍ عَادِيَّةٍ فِي الأَْوْقَاتِ الْهَادِئَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ (1) .
وَلَوْ سَمِعَ أَهْل الْقَرْيَةِ النِّدَاءَ مِنْ بَلَدَيْنِ مُجَاوِرَيْنِ فَعَلَيْهِمْ حُضُورُ الأَْكْثَرِ جَمَاعَةً فَإِنِ اسْتَوَيَا فَمُرَاعَاةُ الأَْقْرَبِ أَوْلَى كَنَظِيرِهِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَقِيل: الأَْوْلَى مُرَاعَاةُ الأَْبْعَدِ لِكَثْرَةِ الأَْجْرِ بِسَبَبِ الْمَشْيِ الزَّائِدِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقَرْيَةِ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ نِدَاءُ الأَْذَانِ مِنْ بَلَدٍ مُجَاوِرٍ فَلاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ أَوْ قُرًى مُتَقَارِبَةٌ يَبْلُغُ بَعْضَهَا نِدَاءُ بَعْضٍ، وَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَنْقُصُ أَهْلُهَا عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَجِبِ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي إِحْدَى قُرَاهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ غَيْرُ مُتَوَطِّنِينَ فِي مَحَل الْجُمُعَةِ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَهْل الْقَرْيَةِ لاَ يَخْلُونَ مِنْ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
__________
(1) حديث: " الجمعة على من سمع النداء ". أخرجه أبو داود (1 / 640) من حديث عبد الله بن عمرو، وأشار إلى إعلاله بالوقف، وقال ابن حجر في الفتح (2 / 385) يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم: أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب.
(2) مغني المحتاج 1 / 278، المجموع للنووي 4 / 486 وما بعدها.(33/162)
الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ أَوْ لاَ؟ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ إِلَى الْمِصْرِ، وَحَالُهُمْ مُعْتَبَرٌ بِأَنْفُسِهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ وَاجْتَمَعَتْ فِيهِمْ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إِلَى الْمِصْرِ وَبَيْنَ إِقَامَتِهَا فِي قَرْيَتِهِمْ، وَالأَْفْضَل إِقَامَتُهَا فِي قَرْيَتِهِمْ لأَِنَّهُ إِذَا سَعَى بَعْضُهُمْ أَخَل عَلَى الْبَاقِينَ الْجُمُعَةَ، وَإِذَا أَقَامُوهَا فِي قَرْيَتِهِمْ حَضَرَهَا جَمِيعُهُمْ؛ وَلأَِنَّ إِقَامَتَهَا بِمَوْضِعِهِمْ تَكْثِيرٌ لِجَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ فَهُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ السَّعْيِ إِلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا ظُهْرًا، وَالأَْفْضَل السَّعْيُ إِلَيْهَا لِيَنَالُوا فَضْل السَّاعِي إِلَى الْجُمُعَةِ وَيَخْرُجُوا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَالْحَال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَرْيَتِهِمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ فَرْسَخٌ فَمَا دُونَ فَيُنْظَرُ فِيهِمْ فَإِنْ كَانُوا أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ - مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ - فَعَلَيْهِمُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) الآْيَةَ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ وَكَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِنْهُمْ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.(33/163)
قَرْيَةً أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُمُ السَّعْيُ إِلَيْهَا وَصَلَّوْا فِي مَكَانِهِمْ إِذْ لَيْسَتْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى، وَإِنْ أَحَبُّوا السَّعْيَ إِلَيْهَا جَازَ وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلُّوا فِي مَكَانِهِمْ، فَإِنْ سَعَى بَعْضُهُمْ فَنَقَصَ عَدَدُ الْبَاقِينَ لَزِمَهُمُ السَّعْيُ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ.
وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجُمُعَةِ الْقَرِيبُ مِصْرًا فَهُمْ مُخَيَّرُونَ أَيْضًا بَيْنَ السَّعْيِ إِلَى الْمِصْرِ وَبَيْنَ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي قَرْيَتِهِمْ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ السَّعْيَ إِلَى الْمِصْرِ يَلْزَمُهُمْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ فَيُصَلُّوا جُمُعَةً فِي قَرْيَتِهِمْ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ لأَِنَّ أَهْل الْقُرَى يُقِيمُونَ الْجُمَعَ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ كَانُوا قَرِيبِينَ مِنَ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَإِذَا كَانَ أَهْل الْمِصْرِ دُونَ الأَْرْبَعِينَ فَجَاءَهُمْ أَهْل الْقَرْيَةِ فَأَقَامُوا الْجُمُعَةَ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ أَهْل الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ فِي الْمِصْرِ وَأَهْل الْمِصْرِ لاَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ لِقِلَّتِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ أَهْل الْقَرْيَةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ لَزِمَ أَهْل الْمِصْرِ السَّعْيُ إِلَيْهِمْ، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ أَقَل مِنْ فَرْسَخٍ كَمَا يَلْزَمُ أَهْل الْقَرْيَةِ السَّعْيُ إِلَى الْمِصْرِ إِذَا أُقِيمَتْ بِهِ، وَكَانَ أَهْل الْقَرْيَةِ أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمِصْرِ وَالْقَرْيَةِ(33/163)
دُونَ الأَْرْبَعِينَ لَمْ تَجُزْ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
ب - فِي السَّفَرِ:
5 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ مَنْ سَافَرَ مِنْ قَرْيَةٍ لَهَا سُورٌ فَأَوَّل سَفَرِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ بِرُخَصِ السَّفَرِ - مِنْ قَصْرٍ لِلصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَجَمْعٍ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - هُوَ مُجَاوَزَةُ سُورِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَإِنْ تَعَدَّدَ السُّورُ أَوْ كَانَ فِي دَاخِلِهِ مَزَارِعُ وَبَسَاتِينُ وَخَرَابٌ؛ لأَِنَّ مَا فِي دَاخِل السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْقَرْيَةِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ، وَمِثْل السُّورِ الْخَنْدَقُ، أَوِ الْحَاجِزُ التُّرَابِيُّ الَّذِي يَحُوطُهُ أَهْل الْقُرَى بِقُرَاهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَرْيَةِ سُورٌ أَوْ نَحْوُهُ أَوْ لَهَا سُورٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِهَا، كَأَنْ جَمَعَ مَعَهَا قَرْيَةً أُخْرَى أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ، فَأَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ؛ لأَِنَّ الضَّرْبَ فِي الأَْرْضِ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (2) الآْيَةَ، يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ لِلَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلاَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ الَّتِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 361 وما بعدها.
(2) سورة النساء / 101.(33/164)
يَخْرُجُ مِنْهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْقَرْيَةِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقَرْيَةِ، وَلأَِنَّهَا لاَ تُتَّخَذُ لِلإِْقَامَةِ عَادَةً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا كَالْبَسَاتِينِ الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْلُهَا بِالْمَرَافِقِ الْمُتَّصِلَةِ مِنْ أَخْذِ نَارٍ وَطَبْخٍ وَخَبْزٍ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَى شِرَائِهِ، وَأَمَّا الْمَزَارِعُ وَالْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ حَقِيقَةً حُكْمًا فَلاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا.
وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَّصِلَتَانِ - قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمِثْلُهُمَا الْمُتَقَارِبَتَانِ بِحَيْثُ يَرْتَفِقُ أَهْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَهْل الأُْخْرَى - يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُمَا لأَِنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَتَانِ - قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الاِنْفِصَال يَسِيرًا - فَلاَ يُشْتَرَطُ تَجَاوُزُهُمَا بَل يَكْفِي لِتَحَقُّقِ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ قَرْيَتِهِ فَقَطْ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمِثْل الْمُنْفَصِلَتَيْنِ الْمُتَعَادِيَتَانِ بِحَيْثُ لاَ يَرْتَفِقُ أَهْل إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى بِسَبَبِ الْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَلاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُمَا.
وَيَنْتَهِي سَفَرُ الْمُسَافِرِ إِذَا رَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ بِبُلُوغِهِ مَا اشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 525، الفواكه الدواني 1 / 298، المجموع للنووي 4 / 346 وما بعدها، مغني المحتاج 1 / 264، المغني لابن قدامة 2 / 259.(33/164)
قَزَعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَزَعِ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ - فِي اللُّغَةِ: قِطَعٌ مِنَ السَّحَابِ رَقِيقَةٌ وَاحِدُهَا قَزَعَةٌ، وَصِغَارُ الإِْبِل، وَأَنْ يُحْلَقَ الرَّأْسُ وَيُتْرَكَ شَعْرٌ مُتَفَرِّقٌ فِي مَوَاضِعَ فَذَلِكَ الشَّعْرُ قَزَعٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَزَعُ: هُوَ أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ الرَّأْسِ وَيُتْرَكَ الْبَعْضُ قِطَعًا مِقْدَارَ ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ كَذَا فِي الْغَرَائِبِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْقَزَعُ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا، مِنْهُمْ مَنْ قَال: هُوَ حَلْقُ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْهُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقَزَعِ (3) ؛ لأَِنَّ
__________
(1) القاموس المحيط، والمغرب للمطرزي، والنهاية لابن الأثير، والصحاح.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 347 ط. دار القلم، وانظر فتح الباري 10 / 365، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 34 ط. دار القلم، وحاشية ابن عابدين 5 / 261.
(3) ابن عابدين 5 / 261، القوانين الفقهية ص 449 نشر الدار العربية للكتاب، وأسنى المطالب 1 / 551، والمغني 1 / 90، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 350 - 351.(33/165)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقَزَعِ وَقَال: احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيل: لِكَوْنِهِ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ، وَقِيل: لأَِنَّهُ زِيُّ الشَّيْطَانِ، وَقِيل لأَِنَّهُ زِيُّ الْيَهُودِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي رِوَايَةٍ لأَِبِي دَاوُدَ (2) ، وَقِيل زِيُّ أَهْل الشَّرِّ وَالدَّعَارَةِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهِيَتِهِ إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلاَّ لِلْمُدَاوَاةِ أَوْ نَحْوِهَا، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلاَمِ، وَقِيل فِي رِوَايَةٍ لَهُمْ: لاَ بَأْسَ بِهِ فِي الْقُصَّةِ، وَالْقَفَا لِلْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ قَال: وَمَذْهَبُنَا كَرَاهَتُهُ مُطْلَقًا (4) .
وَالْقُصَّةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: شَعْرُ الصُّدْغَيْنِ (5) .
__________
(1) حديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وقال: " احلقوه كله أو اتركوه كله ". أخرجه أبو داود (4 / 411) وأصله في البخاري (فتح الباري 10 / 363 - 364) ومسلم (3 / 1675) .
(2) فتح الباري 10 / 365. وحديث: " أن القزع من زي اليهود ". أخرجه أبو داود (4 / 412) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده رواية مجهولة كما في الميزان للذهبي (4 / 610) .
(3) عمدة القاري 22 / 58.
(4) فتح الباري 10 / 365.
(5) عمدة القاري 22 / 58.(33/165)
قَسَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَسَامَةِ فِي اللُّغَةِ: الأَْيْمَانُ تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل إِذَا ادَّعَوُا الدَّمَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا الْهُدْنَةُ: تَكُونُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ مَعَانِيهَا: الْحُسْنُ (1) .
وَالْقَسَامَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ أَنْ يَقُول خَمْسُونَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلاَ عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ - إِنَّ الْقَسَامَةَ هِيَ حَلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ جُزْءًا مِنْهَا عَلَى إِثْبَاتِ الدَّمِ (3) .
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اسْمٌ لِلأَْيْمَانِ الَّتِي تُقْسَمُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، وترتيب القاموس المحيط.
(2) بدائع الصنائع 7 / 286، وتكملة فتح القدير 8 / 384.
(3) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6 / 273، والقوانين الفقهية ص 228.
(4) مغني المحتاج 4 / 109.(33/166)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ الأَْيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتِيل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَمِينُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ، وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ: أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ.
ب - اللَّوْثُ:
3 - اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ.
حُكْمُ الْقَسَامَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنِ الدَّعْوَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، وَوُجِدَ اللَّوْثُ.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 2، والفروع لابن مفلح 6 / 46.
(2) القاموس المحيط.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 357، 358.
(4) روضة الطالبين 10 / 10.(33/166)
وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا: " مَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنّ - َ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
__________
(1) حديث: سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229) ومسلم (3 / 1291 - 1292) واللفظ لمسلم.(33/167)
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَى عَدَمِ الأَْخْذِ بِالْقَسَامَةِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْعَمَل بِهَا؛ لأَِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لأُِصُول الشَّرْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهَا.
وَمِنْ هَذِهِ الأُْصُول: أَنْ لاَ يَحْلِفَ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى مَا عَلِمَ قَطْعًا أَوْ شَاهَدَ حِسًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْسِمُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا الْقَاتِل، بَل قَدْ يَكُونُونَ فِي بَلَدٍ وَالْقَاتِل فِي بَلَدٍ آخَرَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) حديث: " رجل من الأنصار. . . " أخرجه مسلم (3 / 1295) .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 / 235.
(3) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1336) من حديث ابن عباس.(33/167)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْقَسَامَةِ:
5 - شُرِعَتِ الْقَسَامَةُ لِصِيَانَةِ الدِّمَاءِ وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، حَتَّى لاَ يُهْدَرَ دَمٌ فِي الإِْسْلاَمِ أَوْ يُطَل، وَكَيْ لاَ يَفْلِتَ مُجْرِمٌ مِنَ الْعِقَابِ، قَال عَلِيٌّ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَنْ مَاتَ مِنْ زِحَامٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ فِي الطَّوَافِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (1) .
فَالشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إِهْدَارِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْل يَكْثُرُ بَيْنَمَا تَقِل الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَاتِل يَتَحَرَّى بِالْقَتْل مَوَاضِعَ الْخَلَوَاتِ، جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ (2) .
شُرُوطُ الْقَسَامَةِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ لَوْثٌ:
6 - سَبَقَ تَعْرِيفُ اللَّوْثِ فِي الأَْلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَوْث) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا:
7 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ بِالْقَتْل مُكَلَّفًا حَتَّى تَصِحَّ الدَّعْوَى بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 9.
(2) بداية المجتهد 2 / 428.
(3) مغني المحتاج 4 / 111، وروضة الطالبين 10 / 10، والمغني والشرح الكبير 10 / 7، 8، وشرح الخرشي 8 / 51، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 370.(33/168)
لاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
أَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا:
8 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَلَّفًا، فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَى صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ، بَل يَدَّعِي لَهُمَا الْوَلِيُّ أَوْ يُوقَفُ إِلَى كَمَالِهِمَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَقْتَ الْقَتْل كَامِلاً مُكَلَّفًا عِنْدَ الدَّعْوَى سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْحَال بِالتَّسَامُعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، أَوْ بِسَمَاعٍ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَيَّنًا:
9 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى أَهْل مَدِينَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ (3) ، فَإِنِ ادَّعَى الْقَتْل عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، إِذَا ذَكَرَهُمْ لِلْقَاضِي وَطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً لاَ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 333، ومطالب أولي النهى 6 / 148، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159، وروضة الطالبين 10 / 4.
(2) الوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159، ومغني المحتاج 4 / 110.
(3) المغني والشرح الكبير 10 / 4، 5، وشرح الخرشي 8 / 55.(33/168)
الْقَتْل لاَ يُبَالِي بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُحَالٍ. وَلَوْ قَال: قَتَل أَبِي أَحَدُ هَذَيْنِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَيُحَلِّفَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهَل يُجِيبُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ، وَلَوْ قَال فِي دَعْوَاهُ عَلَى حَاضِرِينَ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ، أَوْ قَتَلَهُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَطَلَبَ تَحْلِيفَهُمْ لَمْ يُحَلِّفْهُمُ الْقَاضِي عَلَى الأَْصَحِّ، لإِِبْهَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى (1) ، وَذَلِكَ مِثْل لَوِ ادَّعَى وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرِّجَال، لَمْ يُسْمَعْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يُشْرَطُ لِلْقَسَامَةِ، بَل إِنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لاَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ابْتِدَاءً عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ، فَتَعْيِينُهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لاَ يُنَافِي مَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ، فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَيُكَلَّفُ الْوَلِيُّ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلاَّ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدًا (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 7 / 368، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 158.
(2) ابن عابدين 5 / 403، وتكملة فتح القدير 8 / 388.(33/169)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِي:
10 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ أَلاَّ تَتَنَاقَضَ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ، فَإِنْ قَال الْقَتِيل قَبْل مَوْتِهِ: قَتَلَنِي فُلاَنٌ عَمْدًا، وَقَالُوا: بَل قَتَلَهُ خَطَأً أَوِ الْعَكْسَ، فَإِنَّهُ لاَ قَسَامَةَ لَهُمْ وَبَطَل حَقُّهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْل الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يُجَابُونَ لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ كَذَّبُوا أَنْفُسَهُمْ (1) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْل، ثُمَّ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، أَوْ أَنَّهُ الْقَاتِل مُنْفَرِدًا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِمُنَاقَضَتِهَا الدَّعْوَى الأُْولَى وَتَكْذِيبِهَا، وَلَوِ ادَّعَى عَمْدًا وَوَصَفَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ أَوْ عَكْسُهُ بَطَل الْوَصْفُ، وَلَمْ يَبْطُل أَصْل دَعْوَى الْقَتْل فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ عَمْدًا، أَوْ عَكْسُهُ فَيَعْتَمِدُ تَفْسِيرَهُ (2) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ:
11 - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 51، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 58، والمغني والشرح الكبير 10 / 4، وكشاف القناع 6 / 73.
(2) مغني المحتاج 4 / 110 - 111، والوجيز في الفقه للغزالي 2 / 159.(33/169)
عَمْدًا، فَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَحْلِفُ الأَْيْمَانَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا مُكَلَّفًا، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى بِالْقَتْل خَطَأً، فَإِنَّ الَّذِي يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَقْتُول ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ كَانَ لِلْقَتِيل وَرَثَةٌ وُزِّعَتِ الأَْيْمَانُ بِحَسَبِ الإِْرْثِ، وَجُبِرَ الْمُنْكَسِرُ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل ذُكُورًا مُكَلَّفِينَ، وَلاَ يَقْدَحُ غَيْبَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ نُكُولُهُ، فَلِلذَّكَرِ الْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِهِ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْخَارِجِ، أَوْ كُلِّفَ أَنْ يَحْلِفَ بِقِسْطِ نَصِيبِهِ وَيَأْخُذَ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ (3) ؛ وَلأَِنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْل الْعَمْدِ، فَلاَ تُسْمَعُ مِنَ النِّسَاءِ كَالشَّهَادَةِ؛ وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْل، وَلاَ مَدْخَل لِلنِّسَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَال ضِمْنًا، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 293 - 295.
(2) مغني المحتاج 4 / 115 - 116.
(3) حديث: " يقسم خمسون رجلاً منكم وتستحقون. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 231) من حديث أنس بمعناه.(33/170)
رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلاَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهَا الْمَال (1) .
الشَّرْطُ السَّابِعُ: وَصْفُ الْقَتْل فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْقَسَامَةِ مُفَصَّلَةً (2) .
الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيل أَثَرُ قَتْلٍ:
13 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتِيل أَثَرُ قَتْلٍ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْل فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلاَ يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ الْقَيْءِ أَوِ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِمَا، فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلاً.
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 24، كشاف القناع 6 / 72 - 79.
(2) شرح الخرشي 8 / 51، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 6 / 270، ونهاية المحتاج 7 / 369 - 370، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 456، وحاشية البجيرمي 4 / 137، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 103، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 35.(33/170)
وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الدَّمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ خُرُوجُهُ بِسَبَبِ الْقَتْل، وَعَلَى هَذَا لاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ اللَّوْثَ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ تُوجَدَ الْجُثَّةُ فِي مَحَلَّةٍ وَبِهَا أَثَرُ الْقَتْل، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُودَ أَثَرِ الْقَتْل سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اللَّوْثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ ظُهُورُ دَمٍ وَلاَ جُرْحٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل الأَْنْصَارَ هَل بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَمْ لاَ؟ وَلأَِنَّ الْقَتْل يَحْصُل بِالْخَنْقِ وَعَصْرِ الْبَيْضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ قَامَ مَقَامَ الدَّمِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَإِنْ قَال فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ وَقَوْل الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ الْقَسَامَةِ (1) .
الشَّرْطُ التَّاسِعُ: أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيل فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَسَامَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيل مِلْكًا لأَِحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لأَِحَدٍ وَلاَ فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4739، وبداية المجتهد 2 / 431، ومغني المحتاج 4 / 111، والفواكه الدواني 2 / 249، والمغني والشرح الكبير 10 / 20، وكشاف القناع 6 / 70.(33/171)
فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَكَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لاَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلاَ لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللاَّزِمِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْقَتِيل فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لأَِحَدٍ فَإِنَّهُ لاَ قَسَامَةَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لاَ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنَ الأَْمْصَارِ وَلاَ مِنْ قَرْيَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَقْتُول فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ إِذَا كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا لاَ يُعْتَبَرُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُل قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَل فِيهِ الْقَسَامَةَ لاِبْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لأَِنَّ خَيْبَرَ مَا كَانَ يُخَالِطُ الْيَهُودَ فِيهَا غَيْرُهُمْ (2) .
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 289.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 292، والفواكه الدواني 2 / 250، وروضة الطالبين 10 / 10.(33/171)
الْقَتِيل غَيْرُ الْعَدُوِّ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل الأَْنْصَارَ هَل كَانَ فِي خَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لاَ؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا (1) .
الشَّرْطُ الْعَاشِرُ: إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
15 - ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) فَجَعَل جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ (3) .
الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ: الإِْسْلاَمُ:
16 - وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَقْتُول (4) فَلاَ تَصِحُّ الْقَسَامَةُ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيل الْكَافِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ، وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ شَاهِدٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ، وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 10 / 8.
(2) حديث: " واليمين على من أنكر ". أخرجه البيهقي (10 / 252) ، من حديث ابن عباس وذكره ابن حجر في التلخيص (4 / 39) وأعله بالإرسال وتضعيف أحد رواته.
(3) بدائع الصنائع 7 / 288.
(4) القوانين الفقهية ص 378، وشرح الخرشي 8 / 59، وحاشية الدسوقي 4 / 298، والفواكه الدواني 2 / 254.(33/172)
وَالْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْقَسَامَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ؛ وَلأَِنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِذِمَّتِهِ (1) ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
كَيْفِيَّةُ الْقَسَامَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو الزِّنَادِ فَقَالُوا: إِنَّ الأَْيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الْمُدَّعِينَ، فَيُكَلَّفُونَ حَلِفَهَا لِيَثْبُتَ مُدَّعَاهُمْ وَيُحْكَمَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْهَا وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَيَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيل خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ الْحَالِفُ أَلْفَاظَ الْيَمِينِ حَتَّى تَكُونَ الْيَمِينُ مُؤَكَّدَةً فَيَقُول: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَْعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. . .
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4742، والقليوبي وعميرة 4 / 63، والأم للشافعي 6 / 98، والمغني والشرح الكبير 10 / 31 - 32.
(2) حديث: " من آذى ذميًا فأنا خصمه. . . " أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (8 / 380) من حديث عبد الله ابن مسعود واستنكره.(33/172)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ بَاتَّةً قَاطِعَةً فِي ارْتِكَابِ الْمُتَّهَمِ الْجَرِيمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالاِشْتِرَاكِ مَعَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا إِذَا كَانَ الْجَانِي قَدْ تَعَمَّدَ الْقَتْل أَمْ لاَ فَيَقُول: وَاللَّهِ إِنَّ فُلاَنًا ابْنَ فُلاَنٍ قَتَل فُلاَنًا مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ مَا شَرِكَهُ غَيْرُهُ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ (1) أَنْ تَكُونَ الأَْيْمَانُ مُتَوَالِيَةً، فَلاَ تُفَرَّقُ عَلَى أَيَّامٍ أَوْ أَوْقَاتٍ؛ لأَِنَّ لِلْمُوَالاَةِ أَثَرًا فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ مُوَالاَتُهَا؛ لأَِنَّ الأَْيْمَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ، وَالْحُجَجُ يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ حَلَفُوا ثَبَتَ مُدَّعَاهُمْ، وَحُكِمَ لَهُمْ إِمَّا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ عَلَى الْخِلاَفِ فِي مُوجِبِ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِئَ، فَيَقُول: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلاَ شَارَكْتُ فِي قَتْلِهِ وَلاَ تَسَبَّبْتُ فِي مَوْتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ الْمُتَّهَمُونَ، وَكَانَتْ دِيَةُ الْقَتِيل فِي بَيْتِ الْمَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) ، وَإِنْ نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الأَْيْمَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 293.
(2) بداية المجتهد 2 / 430، وحاشية الدسوقي 4 / 289، ومغني المحتاج 4 / 116، والمغني والشرح الكبير 10 / 30.(33/173)
عَلَى الْمُدَّعِينَ (1) ، فَإِنْ حَلَفُوا عُوقِبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا لاَ شَيْءَ لَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) مَنْ نَكَل مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ، وَقِيل: يُجْلَدُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا، وَلاَ يُحْبَسُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَسَائِرِ الأَْيْمَانِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِمَا رَوَى سَهْل بْنُ أَبِي حَثْمَةَ " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ أَخُو الْمَقْتُول فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ يَتَكَلَّمُ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ - فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 116.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 229، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 296، والمغني والشرح الكبير 10 / 22.(33/173)
أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ، قَالُوا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ قَال سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِينَ أَوَّلاً إِلَى الْمُدَّعِينَ حِينَمَا سَأَلَهُمْ قَائِلاً: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِمُ ابْتِدَاءً مَا وَجَّهَهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا بِتَوْجِيهِ تِلْكَ الأَْيْمَانِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْل الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ يُقَال لَهُ سَهْل بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا مَا قَتَلْنَا وَلاَ عَلِمْنَا قَاتِلاً، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ
__________
(1) حديث سهل بن أبي حثمة. تقدم تخريجه ف / 4.(33/174)
فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً، فَقَال: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَال لَهُمْ تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَال: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا لاَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَل دَمُهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ (1) .
دَل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَوَّل مَا يُطْلَبُ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي وُجِّهَتِ الأَْيْمَانُ الْخَمْسُونَ الْخَاصَّةُ بِدَعْوَى الْقَسَامَةِ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا بَرِئُوا وَانْتَهَتِ الْخُصُومَةُ، وَلَكِنَّ الأَْنْصَارَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ لَمْ يَقْبَلُوا أَنْ يَحْلِفَ لَهُمُ الْيَهُودُ لِكُفْرِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَعْطَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ لأَِهْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ كَيْ لاَ يُهْدَرَ دَمُ مُسْلِمٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَكَل مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَكَذَا إِنْ نَكَل جَمِيعُ الْمُحَلَّفِينَ؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَيْسَتْ وَسِيلَةً لِتَحْصِيل غَيْرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْمُحَلَّفُونَ لَمْ تَسْقُطِ الدِّيَةُ عَنْهُمْ، بِخِلاَفِ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الأَْمْوَال، فَإِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَال بَرِئَ وَسَقَطَ الْمَال الَّذِي
__________
(1) حديث سهل بن أبي حثمة. أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 229 ط. السلفية) .(33/174)
أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، لِهَذَا فَإِنَّ مَنْ نَكَل حُبِسَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَالْحَبْسُ عِنْدَ النُّكُول إِنَّمَا يَكُونُ فِي دَعْوَى الْقَتْل الْعَمْدِ، أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَلاَ يُحْبَسُونَ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْخَطَأِ الْمَال فَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ النُّكُول.
وَدَلِيلُهُمْ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الأَْزْمَعِ أَنَّهُ قَال لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَبْذُل أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَال نَعَمْ (1) .
مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْقَسَامَةُ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إِلَى الرِّجَال الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلاَءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُول الْوَارِثِينَ لَهُ، كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إِلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إِلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنَ الْعَصَبَةِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْل عَمْدًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً، وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْل الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ (2) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ
__________
(1) المبسوط للسرخسي. . / 111، وحاشية ابن عابدين 5 / 403.
(2) شرح الخرشي 8 / 56 - 57.(33/175)
عَلَى الْعَصَبَةِ، وَلاَ يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَل مِنْ رَجُلَيْنِ؛ لأَِنَّ النِّسَاءَ لاَ يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنِ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُول كَمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الأَْيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً بِخِلاَفِ الْعَمْدِ، لاِنْفِرَادِ الرِّجَال بِهِ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الأَْيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَال.
وَإِذَا كُسِرَتِ الْيَمِينُ يُكْمَل عَلَى ذِي الأَْكْثَرِ مِنَ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ، كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الاِبْنِ ثَلاَثَةٌ وَثَلاَثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لأَِنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الاِبْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ أَقَل نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتِ الْكُسُورُ جَبَرَ كُل وَاحِدٍ كَسْرَهُ، كَثَلاَثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُل عَلَى كُلٍّ، فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا.
جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلاَةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ فِي قَوْل مَالِكٍ، قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُ(33/175)
النِّسَاءُ فِي قَتْل الْعَمْدِ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَهَل يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: نَعَمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْلِفُ كُل وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْل، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.
قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيل وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الآْخَرُ مِنْ أَنْ يُقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ (2) ، وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُول بِلاَ وَارِثٍ سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، إِلاَّ إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْل عَلَى مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَال الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَل فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ (3) .
__________
(1) المدونة الكبرى 6 / 418، والشرح الصغير 4 / 418.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 282، والأم للشافعي 6 / 101.
(3) مغني المحتاج 4 / 118، وحاشية البجيرمي 4 / 137.(33/176)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الأَْوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَال وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لاَ تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الأَْوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَالأَْيْمَانُ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل إِذَا كَانَ عَمْدًا لاَ يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ، وَلاَ الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول بِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل غَيْرَ عَمْدٍ، فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَحُضُورِ الْغَائِبِ؛ لأَِنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ، فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ - وَهُمْ وَرَثَتُهُ - وَتُوَزَّعُ الأَْيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ، وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ، وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُول إِلاَّ النِّسَاءُ، وَكَذَا إِذَا نَكَل الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 25.(33/176)
عَلَيْهِمْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَال، قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِل فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل وَيُحَلِّفُهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوِ الْفَسَقَةَ، كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ، وَيَكُونُ الاِخْتِيَارُ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ، أَيْ عَوَاقِل كُل مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ قَاتِلاً مُعَيَّنًا مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ (2) .
الْقَوْل الأَْوَّل: يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَسَامَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِل الْمُخَصَّصَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى أَهْل الْقَتِيل عَلَى بَعْضِ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيل بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا: قَتَلَهُ فُلاَنٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لَمْ يُبْطِل هَذَا حَقَّهُ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِل وَاحِدٌ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَلَكِنَّا لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً (3) .
__________
(1) منتهى الإرادات 3 / 335.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 227 - 228.
(3) المبسوط 26 / 114، وحاشية ابن عابدين 6 / 634.(33/177)
الْقَوْل الثَّانِي: رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ، لأَِنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، يَكُونُ إِبْرَاءً لأَِهْل الْمَحَلَّةِ عَنِ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيل الَّذِي لاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِل مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْل بِالْحُجَّةِ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا؛ لأَِنَّ أَهْل الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتِ الْقَسَامَةُ (1) .
وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْل عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيل، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ، لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ الإِْبْرَاءِ وَالاِتِّهَامِ، وَإِذَا اتَّهَمَتِ الْمَحَلَّةُ قَاتِلاً مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَتِ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَوِ ادَّعَى أَهْل تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) المبسوط 26 / 114 - 115، وبدائع الصنائع 10 / 4757، والاختيار 5 / 56.(33/177)
الرَّجُل يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إِنْ وَافَقَهُمُ الأَْوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُل، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الأَْوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْل مِنْهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْل عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُل، تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ (1) .
وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ، فَلاَ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّ تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُزَاحِمُهُمُ الذِّمِّيُّ، لأَِنَّهُ تَابِعٌ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي قَرْيَةٍ لأَِهْل الذِّمَّةِ، فَقَدْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ، فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَحَمَّل عَوَاقِلُهُمُ الدِّيَةَ، وَالذِّمِّيَّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ.
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4758.(33/178)
وَقَدْ اسْتَدَل السَّرَخْسِيُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُل الْمَقْتُول مِنْ قِبَل الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ، إِذْ إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ، قَال السَّرَخْسِيُّ: إِذَا وُجِدَ الْقَتِيل فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى، فِيهِمُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ (خَيْبَرَ) وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَمَا أَصَابَ أَهْل الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِل فَعَلَيْهِمْ وَإِلاَّ فَفِي أَمْوَالِهِمْ (1) ، وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الأَْحْرَارِ الْبَالِغِينَ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل النُّصْرَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْل النُّصْرَةِ، وَقَوْل الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا، فَلاَ قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لاَ تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إِذَا كَانَ الْقَتِيل فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي مِلْكِهَا، وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهَا، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا، وَأَمَّا الأَْهْلِيَّةُ فَلأَِنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 26 / 111.(33/178)
وَأَنَّهَا مِنْ أَهْل الْيَمِينِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لاَ فِي كُل فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ (1) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ: فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ الْغَائِبِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولاً عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقَسَامَةِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى عَوَاقِل الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْقَتْل خَطَأً، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَجِبُ بِهَا إِذَا كَانَ الْقَتْل الْمُدَّعَى بِهِ عَمْدًا
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ صَحَابَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي بَكْرٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4756.
(2) المبسوط للسرخسي 26 / 111.
(3) المدونة الكبرى 6 / 416، وشرح الخرشي 8 / 98، ونهاية المحتاج 7 / 376.(33/179)
وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ (2) .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَسَامَةُ الدَّمِ، فَأَقَرَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الأَْنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ (3) ، فَإِضَافَةُ قَسَامَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الدَّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحْكَمُ بِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: " أَنَّهُ أَخْبَرَهُ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 376، والأم للشافعي 6 / 97، والمبسوط 26 / 111 وما بعدها.
(2) حديث عبد الله بن سهل. تقدم ف 4.
(3) حديث: " أن القسامة كانت في الجاهلية ". أخرجه البيهقي (8 / 122) بهذا اللفظ وهو في صحيح مسلم (3 / 1295) دون قوله " قسامة الدم ".(33/179)
عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِل وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَال: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ فَأَقْبَل حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَل هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ - يُرِيدُ السِّنَّ - فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ فَقَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا
__________
(1) حديث: " أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر ". تقدم تخريجه ف 4.(33/180)
لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا، فَقَال: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُول الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ (1) ، قَال لِي: مَا تَقُول يَا أَبَا قِلاَبَةَ، وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَْجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصٍ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: رَجُلٍ قَتَل بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِل، أَوْ رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ. . . إِلَخْ. الْحَدِيثَ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلاً فِي بَنِي فُلاَنٍ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلاَ عَلِمُوا لَهُ قَاتِلاً، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إِلاَّ هَذَا؟ فَقَال: بَل لَكَ مِائَةٌ
__________
(1) المراد بالخلفاء معاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري 2 / 240.
(2) المبسوط للسرخسي 26 / 109 وحديث " أبي قلابة " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 230) .(33/180)
مِنَ الإِْبِل (1) ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ - وَهُمْ أَهْل الْمَحَلَّةِ - مَعَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَاصَ فِي الْحَدِيثِ، بَل قَصَرَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَفْعِ مِائَةٍ مِنَ الإِْبِل.
وَلأَِنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيل بِهَا بِالْقَتَلَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ مَحَلَّتِهِمْ وَصِيَانَتُهَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْقَتْل، فَكَانَ وُقُوعُ الْقَتْل بِمَحَلَّتِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الصِّيَانَةِ وَحِفْظِهَا (2) .
مُبْطِلاَتُ الْقَسَامَةِ:
20 - تَبْطُل الْقَسَامَةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِالإِْبْرَاءِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً.
أَمَّا الإِْبْرَاءُ الصَّرِيحُ: فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الإِْبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ، أَوْ أَسْقَطْتُ، أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لأَِنَّ رُكْنَ الإِْبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْل الإِْبْرَاءِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ، فَيَصِحُّ.
وَأَمَّا الإِْبْرَاءُ الضِّمْنِيُّ " دَلاَلَةً " فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيل عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ
__________
(1) حديث زياد بن أبي مريم: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " ذكره الكاساني في بدائع الصنائع 10 / 4736 - 4737، ولم نهتد إليه في المراجع الموجودة بين أيدينا، وأخرج البزار (كشف الأستار 2 / 209) حديثًا بهذا المعنى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه. وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 290) .
(2) بدائع الصنائع 10 / 4736 - 3737.(33/181)
قَتَل الْقَتِيل، فَيَبْرَأُ أَهْل الْمَحَلَّةِ مِنَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لأَِنَّ ظُهُورَ الْقَتِيل فِي الْمَحَلَّةِ لَمْ يَدُل عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلٌ، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْيًا لِلْقَتْل عَنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْقَسَامَةِ (1) .
كَمَا تَبْطُل الْقَسَامَةُ بِإِقْرَارِ رَجُلٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ الْقَاتِل، فَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَال: مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَل أَنَا قَتَلْتُهُ، فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، لَمْ تَبْطُل دَعْوَاهُ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ قَبَضَهَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجِبِ الْقَتْل لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الأَْوَّل، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ قَوْلاَنِ.
وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِل غَيْرُ هَذَا، كَأَنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْل فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُول لاَ يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ تَبْطُل دَعْوَى الْقَسَامَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْبَيِّنَةُ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا لَمْ يَقْتُلْهُ لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّهَا نَفْيٌ مُجَرَّدٌ، وَإِنْ قَالاَ: مَا قَتَلَهُ فُلاَنٌ، بَل فُلاَنٌ، سُمِعَتْ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةُ إِثْبَاتٍ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4756، والمبسوط 26 / 115، وبداية المجتهد 2 / 431 الطبعة السادسة.
(2) المغني والشرح الكبير 10 / 30، وكشاف القناع 6 / 72.(33/181)
وَإِذَا بَطَلَتِ الْقَسَامَةُ لأَِحَدِ الأُْمُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا أَخَذَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ.
قَسَم
انْظُرْ: أَيْمَان(33/182)
قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَسْمُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ - لُغَةً: الْفَرْزُ وَالتَّفْرِيقُ، يُقَال: قَسَمْتُ الشَّيْءَ قَسْمًا: فَرَزْتُهُ أَجْزَاءً، وَالْقِسْمُ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ - الاِسْمُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِصَّةِ وَالنَّصِيبِ، وَالْقَسَمُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَالسِّينِ - الْيَمِينُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: قِسْمَةُ الزَّوْجِ: بَيْتُوتَتُهُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ، أَوْ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ: هُوَ تَوْزِيعُ الزَّمَانِ عَلَى زَوْجَاتِهِ إِنْ كُنَّ ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعَدْل فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأُْمُورِ وَالاِسْتِقَامَةُ، وَهُوَ خِلاَفُ الْجَوْرِ، يُقَال: عَدَل فِي أَمْرِهِ عَدْلاً وَعَدَالَةً وَمَعْدِلَةً: اسْتَقَامَ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 2 / 280، وكشاف القناع 5 / 198.(33/182)
وَعَدَل فِي حُكْمِهِ: حَكَمَ بِالْعَدْل (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ (2) .
وَالْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْعَدْل وَلَوَازِمِهِ.
ب - الْعِشْرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:
3 - الْعِشْرَةُ اسْمٌ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْمُخَالَطَةُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الأُْلْفَةِ وَالاِنْضِمَامِ (4) .
وَالْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
ج - الْبَيْتُوتَةُ:
4 - الْبَيْتُوتَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ " بَاتَ " وَهِيَ فِي الأَْعَمِّ الأَْغْلَبِ بِمَعْنَى فِعْل الْفِعْل بِاللَّيْل، يُقَال: بَاتَ يَفْعَل كَذَا أَيْ فَعَلَهُ بِاللَّيْل، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ سَهَرِ اللَّيْل، وَعَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (5) .
وَقَدْ تَأْتِي نَادِرًا بِمَعْنَى نَامَ لَيْلاً.
وَقَدْ تَأْتِي بَاتَ بِمَعْنَى صَارَ، يُقَال: بَاتَ بِمَوْضِعِ كَذَا أَيْ صَارَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي لَيْلٍ أَوْ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 2 / 332.
(3) الصحاح للجوهري.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 254.
(5) سورة الفرقان / 64.(33/183)
نَهَارٍ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الْفُقَهَاءِ: بَاتَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ لَيْلَةً أَيْ صَارَ عِنْدَهَا سَوَاءٌ حَصَل مَعَهُ نَوْمٌ أَمْ لاَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْبَيْتُوتَةُ هِيَ عِمَادُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْغَالِبِ الأَْعَمِّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَأَوْجَبَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُل - إِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ - أَنْ يَعْدِل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِيهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ، وَلَيْسَ مَعَ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ مُعَاشَرَةٌ لَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (4) ، وَلِلاِتِّبَاعِ وَالاِقْتِدَاءِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المغني 7 / 32.
(3) سورة النساء / 19.
(4) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 438) والحاكم (2 / 186) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(33/183)
بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَسْمِهِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَعَدْلِهِ بَيْنَهُنَّ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعَدْل فِي ذَلِكَ، قَال الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ فَيَعْدِل (1) . . . وَأَنَّهُ كَانَ يُطَافُ بِهِ مَحْمُولاً فِي مَرَضِهِ عَلَى نِسَائِهِ حَتَّى حَلَلْنَهُ (2) .
وَقَالُوا: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَبَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ. . تَسْوِيَةً بَيْنَهُنَّ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ لُزُومَ الْمَبِيتِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ إِنْ بَاتَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لَزِمَ وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ، وَيَعْصِي بِتَأْخِيرِهِ.
وَعَقَّبَ عَلَيْهِ الشَّبْرَامِلْسِيُّ - الشَّافِعِيُّ - بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ كَبِيرَةً أَخْذًا مِنَ الْخَبَرِ السَّابِقِ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ هُوَ الْعَدْل
__________
(1) حديث عدله صلى الله عليه وسلم في القسمة. أخرجه أبو داود (2 / 601) ، والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أنه " كان يطوف به محمولاً في مرضه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 317) ، ومسلم (4 / 1893) من حديث عائشة.
(3) فتح القدير 3 / 300، والاختيار 3 / 116، وشرح الزرقاني 4 / 55، ونهاية المحتاج 6 / 372، وحاشية القليوبي 3 / 299 - 300، وكشاف القناع 5 / 198 - 200، والمغني 7 / 28.(33/184)
بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ إِنْ قَسَمَ، وَلَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُنَّ جَمِيعًا إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يُعَطِّلَهُنَّ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ جَوَازِ الإِْعْرَاضِ عَنِ الزَّوْجَاتِ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ نَوْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَوْ حَدَثَ مَا يَمْنَعُ هَذَا الإِْعْرَاضَ، كَأَنْ ظَلَمَهَا ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الرَّاجِحِ بِطَرِيقِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ عَوْدُهَا إِلَى عِصْمَتِهِ (1) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَدْل فِي الْقَسْمِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَدْل بَيْنَ زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ فِي حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ} عَقِيبَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (2) ، نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ الْعَدْل فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعَدْل بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي آخِرِ الآْيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (3) ، أَيْ تَجُورُوا، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ فَكَانَ الْعَدْل وَاجِبًا ضَرُورَةً؛ وَلأَِنَّ الْعَدْل
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 373، ومغني المحتاج 3 / 251، والمهذب 2 / 67.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 3.(33/184)
مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (1) عَلَى الْعُمُومِ وَالإِْطْلاَقِ إِلاَّ مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ؛ وَلأَِنَّ النِّسَاءَ رَعِيَّةُ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ يَحْفَظُهُنَّ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ، وَكُل رَاعٍ مَأْمُورٌ بِالْعَدْل فِي رَعِيَّتِهِ.
وَالْعَدْل الْوَاجِبُ فِي الْقَسْمِ يَكُونُ فِيمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ وَالتَّأْنِيسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا مَا لاَ يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ، وَكَالْمَيْل الْقَلْبِيِّ وَالْمَحَبَّةِ. . فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ لِلْجِمَاعِ أَوْ دَوَاعِيهِ وَالشَّهْوَةِ، وَهُوَ مَا لاَ يَمْلِكُ تَوْجِيهَهُ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيْل الْقَلْبِيِّ وَالْحُبِّ فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ فَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَوْجِيهِهِ، وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (2) يَعْنِي فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَعْدِل ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ (3) يَعْنِي الْمَحَبَّةَ وَمَيْل
__________
(1) سورة النحل / 90.
(2) سورة النساء / 129.
(3) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك. . ". أخرجه أبو داود (2 / 601) والنسائي (7 / 64) من حديث عائشة وأعله النسائي بالإرسال.(33/185)
الْقَلْبِ؛ لأَِنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى يُصَرِّفُهَا كَيْفَ شَاءَ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي جَمِيعِ الاِسْتِمْتَاعَاتِ مِنَ الْوَطْءِ وَالْقُبْلَةِ وَنَحْوِهِمَا لأَِنَّهُ أَكْمَل فِي الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، وَلِيُحْصِنَهُنَّ عَنِ الاِشْتِهَاءِ لِلزِّنَا وَالْمَيْل إِلَى الْفَاحِشَةِ، وَاقْتِدَاءً فِي الْعَدْل بَيْنَهُنَّ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ نِسَائِهِ حَتَّى فِي الْقُبَل (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يُتْرَكُ فِي الْوَطْءِ لِطَبِيعَتِهِ فِي كُل حَالٍ إِلاَّ لِقَصْدِ إِضْرَارٍ لإِِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ - سَوَاءٌ تَضَرَّرَتْ بِالْفِعْل أَمْ لاَ - كَكَفِّهِ عَنْ وَطْئِهَا مَعَ مَيْل طَبْعِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَهَا لِتَتَوَفَّرَ لَذَّتُهُ لِزَوْجَتِهِ الأُْخْرَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْكَفِّ؛ لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ لاَ يَحِل (4) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ تَرَكَ الْوَطْءَ لِعَدَمِ الدَّاعِيَةِ وَالاِنْتِشَارِ عُذْرٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ لَكِنَّ دَاعِيَتَهُ إِلَى الضَّرَّةِ أَقْوَى فَهُوَ مِمَّا يَدْخُل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 332، والمبسوط 5 / 217، وأسنى المطالب 3 / 329، وحاشية الجمل 4 / 280، وشرح الزرقاني 4 / 55، والمغني 7 / 27.
(2) رد المحتار 2 / 398، والمهذب 2 / 68، والمغني 7 / 35.
(3) حديث: " كان يسوي بين نسائه حتى في القبل " أورده ابن قدامة في المغني (7 / 35) ولم نهتد إليه في المراجع التي بين أيدينا.
(4) جواهر الإكليل 1 / 326.(33/185)
تَحْتَ قُدْرَتِهِ (1) .
7 - وَإِذَا قَامَ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُنَّ عَنِ الأُْخْرَى فِي ذَلِكَ، أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي الْعَطَاءِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ فِي أَصْل الْوَاجِبِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ أَقَامَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ مَا يَجِبُ لَهَا، فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِمَا شَاءَ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُل لَهُ امْرَأَتَانِ قَال: لَهُ أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فِي النَّفَقَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْكِسْوَةِ إِذَا كَانَتِ الأُْخْرَى كِفَايَةً، وَيَشْتَرِيَ لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ هَذِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ، وَهَذَا لأَِنَّ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَشُقُّ، فَلَوْ وَجَبَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِهِ إِلاَّ بِحَرَجٍ، فَسَقَطَ وُجُوبُهُ، كَالتَّسْوِيَةِ فِي الْوَطْءِ.
لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُسَوِّيَ الرَّجُل بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَّل بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
وَقَال ابْنُ نَافِعٍ: يَجِبُ أَنْ يَعْدِل الزَّوْجُ بَيْنَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 398.(33/186)
زَوْجَاتِهِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِهِ بَعْدَ إِقَامَتِهِ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا يَجِبُ لَهَا (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ حَال الزَّوْجِ، أَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ حَالِهِمَا فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ، فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ لأَِنَّ إِحْدَاهُمَا قَدْ تَكُونُ غَنِيَّةً وَأُخْرَى فَقِيرَةً (2) .
الزَّوْجُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْقَسْمُ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ لِلزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى كُل زَوْجٍ - فِي الْجُمْلَةِ - بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَفَحْلٍ وَخَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ، وَبَالِغٍ وَمُرَاهِقٍ وَمُمَيِّزٍ يُمْكِنُهُ فِي الْوَطْءِ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ يُؤْمَنُ مِنْ ضَرَرِهِ. . . لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَإِزَالَةِ الْوَحْشَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا (3) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا قَسْمَ بَعْضِ الأَْزْوَاجِ بِالتَّفْصِيل، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - قَسْمُ الصَّبِيِّ لِزَوْجَاتِهِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ الصَّبِيَّ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 10، شرح الزرقاني 4 / 55، نهاية المحتاج 6 / 373، المغني 7 / 32.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 398.
(3) المبسوط 5 / 221، جواهر الإكليل 1 / 326، مغني المحتاج 3 / 252، كشاف القناع 5 / 200.(33/186)
الْمُرَاهِقَ أَوِ الْمُمَيِّزَ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْقَسْمُ؛ لأَِنَّهُ لِحَقِّ الزَّوْجَاتِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَتَوَجَّهُ عَلَى الصَّبِيِّ عِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَعَلَى وَلِيِّهِ إِطَافَتُهُ عَلَى زَوْجَاتِهِ، وَالإِْثْمُ عَلَى الْوَلِيِّ إِنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ عَلَيْهِنَّ أَوْ جَارَ الصَّبِيُّ أَوْ قَصَّرَ وَعَلِمَ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الزَّوْجُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ الطَّوَافُ بِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِنَّ بِوَطْئِهِ، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ نَامَ عِنْدَ بَعْضِ زَوْجَاتِهِ وَطَلَبَتِ الْبَاقِيَاتُ بَيَاتَهُ عِنْدَهُنَّ لَزِمَ وَلِيَّهُ إِجَابَتُهُنَّ لِذَلِكَ (1) .
ب - قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ الْمَرِيضَ يَقْسِمُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ كَالصَّحِيحِ، لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَذَلِكَ يَحْصُل مِنَ الْمَرِيضِ كَمَا يَحْصُل مِنَ الصَّحِيحِ (2) ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَل فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا، أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ (3)
__________
(1) رد المحتار 2 / 399، الشرح الكبير 2 / 340، نهاية المحتاج 6 / 374، كشاف القناع 5 / 198.
(2) رد المحتار 2 / 399، حاشية الزرقاني 4 / 56، المهذب 2 / 67، كشاف القناع 5 / 200.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 317) ، ومسلم (4 / 1893) من حديث عائشة.(33/187)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَقَّ عَلَى الْمَرِيضِ الطَّوَافُ بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ: فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ: لَمْ أَرَ كَيْفِيَّةَ قَسْمِهِ فِي مَرَضِهِ حَيْثُ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّل إِلَى بَيْتِ الأُْخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ ذَهَبَ عِنْدَ الأُْخْرَى بِقَدْرِ مَا أَقَامَ عِنْدَ الأُْولَى مَرِيضًا، وَنُقِل عَنْ صَاحِبِ النَّهْرِ قَوْلُهُ: لاَ يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الاِخْتِيَارُ فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ إِلَيْهِ حَال صِحَّتِهِ فَفِي مَرَضِهِ أَوْلَى، فَإِذَا مَكَثَ عِنْدَ الأُْولَى مُدَّةً أَقَامَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَل مُدَّةَ إِقَامَتِهِ دَوْرًا حَتَّى لاَ يُنَافِيَ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا شَهْرًا هُدِرَ مَا مَضَى (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الزَّوْجُ الطَّوَافَ بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ أَقَامَ عِنْدَ مَنْ شَاءَ الإِْقَامَةَ عِنْدَهَا، أَيْ لِرِفْقِهَا بِهِ فِي تَمْرِيضِهِ، لاَ لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا فَتَمْتَنِعُ الإِْقَامَةُ عِنْدَهَا، ثُمَّ إِذَا صَحَّ ابْتَدَأَ الْقَسْمَ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَنْ بَاتَ عِنْدَ بَعْضِ نِسْوَتِهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَزِمَهُ - وَلَوْ عِنِّينًا وَمَجْبُوبًا وَمَرِيضًا - الْمَبِيتُ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ فَلَمْ
__________
(1) رد المحتار 2 / 399.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 340.(33/187)
يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (1) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَيُطَافُ بِهِ عَلَيْهِنَّ فِي مَرَضِهِ حَتَّى رَضِينَ بِتَمْرِيضِهِ بِبَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (2) ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ وَالْمَرَضَ لاَ يُسْقِطُ الْقَسْمَ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ شَقَّ عَلَى الزَّوْجِ الْمَرِيضِ الْقَسْمُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَاجْتَمَعْنَ فَقَال: إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ فَإِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ تَأْذَنَّ لِي فَأَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَعَلْتُنَّ فَأَذِنَّ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ أَقَامَ عِنْدَ مَنْ تُعَيِّنُهَا الْقُرْعَةُ أَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَمِيعًا إِنْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَعْدِيلاً بَيْنَهُنَّ (4) .
ج - قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَجْنُونِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ الَّذِي أَطْبَقَ جُنُونُهُ لاَ قَسْمَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، لَكِنَّ الْقَسْمَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ لِزَوْجَاتِهِ يُطَالَبُ بِهِ
__________
(1) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان. . ". تقدم تخريجه ف (5) .
(2) حديث: " أنه كان يقسم بين نسائه ويطاف. . ". تقدم تخريجه ف (5) .
(3) مغني المحتاج 3 / 251.
(4) كشاف القناع 5 / 200. وحديث: " إني لا أستطيع أن أدور بينكن. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 603) .(33/188)
- فِي الْجُمْلَةِ - وَلِيُّهُ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي: قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ إِطَافَتُهُ عَلَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهَا لَهُ أَوِ التَّمْكِينَ حَتَّى تُسْتَوْفَى مِنْهُ كَالْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الطَّوَافُ بِالْمَجْنُونِ عَلَى زَوْجَاتِهِ، أُمِنَ مِنْهُ الضَّرَرُ أَمْ لاَ، إِلاَّ إِنْ طُولِبَ بِقَضَاءِ قَسْمٍ وَقَعَ مِنْهُ فَيَلْزَمُهُ الطَّوَافُ بِهِ عَلَيْهِنَّ قَضَاءً لِحَقِّهِنَّ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ إِذَا أُمِنَ ضَرَرُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ لَهُنَّ التَّأْخِيرَ إِلَى إِفَاقَتِهِ لِتَتِمَّ الْمُؤَانَسَةُ، وَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ الطَّوَافُ بِهِ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ يَنْفَعُهُ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ، أَوْ مَال إِلَيْهِ، فَإِنْ ضَرَّهُ الْجِمَاعُ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ مَنْعُهُ مِنْهُ، فَإِنْ تَقَطَّعَ الْجُنُونُ وَانْضَبَطَ كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ، فَأَيَّامُ الْجُنُونِ كَالْغَيْبَةِ فَتُطْرَحُ وَيَقْسِمُ أَيَّامَ إِفَاقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْضَبِطْ جُنُونُهُ وَأَبَاتَهُ الْوَلِيُّ فِي الْجُنُونِ مَعَ وَاحِدَةٍ وَأَفَاقَ فِي نَوْبَةِ الأُْخْرَى قَضَى مَا جَرَى فِي الْجُنُونِ لِنَقْصِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنُونُ الْمَأْمُونُ الَّذِي لَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ يَطُوفُ بِهِ وَلِيُّهُ وُجُوبًا عَلَيْهِنَّ، لِحُصُول الأُْنْسِ بِهِ، فَإِنْ خِيفَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 56.
(2) أسنى المطالب 3 / 230 - 231، نهاية المحتاج 6 / 374.(33/188)
مَأْمُونٍ فَلاَ قَسْمَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل مِنْهُ أَنَسٌ لَهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَعْدِل الْوَلِيُّ فِي الْقَسْمِ ثُمَّ أَفَاقَ الزَّوْجُ مِنْ جُنُونِهِ قَضَى لِلْمَظْلُومَةِ مَا فَاتَهَا اسْتِدْرَاكًا لِظِلاَمَتِهِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ فَلَزِمَهُ إِيفَاؤُهُ حَال الإِْفَاقَةِ كَالْمَال (1) .
الزَّوْجَةُ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ:
12 - يُسْتَحَقُّ الْقَسْمُ لِلزَّوْجَاتِ الْمُطِيقَاتِ لِلْوَطْءِ، مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ أَوْ مُخْتَلِفَاتٍ، حَرَائِرَ أَوْ إِمَاءٍ أَوْ مُخْتَلِفَاتٍ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْوَطْءُ شَرْعًا كَمُحْرِمَةٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَمُظَاهَرٍ مِنْهَا وَمُولًى مِنْهَا، أَوِ امْتَنَعَ عَادَةً كَرَتْقَاءَ، أَوِ امْتَنَعَ طَبْعًا كَمَجْنُونَةٍ مَأْمُونَةٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَرِيضَةٍ وَصَحِيحَةٍ، وَصَغِيرَةٍ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَكَبِيرَةٍ، وَقَسْمُ الزَّوْجِ لِذَوَاتِ الأَْعْذَارِ مِنَ الزَّوْجَاتِ كَمَا يُقْسَمُ لِغَيْرِهِنَّ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْقَسْمِ الصُّحْبَةُ وَالْمُؤَانَسَةُ وَالسَّكَنُ وَالإِْيوَاءُ وَالتَّحَرُّزُ عَنِ التَّخْصِيصِ الْمُوحِشِ، وَحَاجَتُهُنَّ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَالْقَسْمُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِيهَا (2) ؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ بِالْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَيْل فِي الْقَسْمِ جَاءَتْ مُطْلَقَةً، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 200.
(2) تبيين الحقائق 2 / 179، جواهر الإكليل 1 / 326، أسنى المطالب 3 / 230، حاشية الجمل 4 / 280، كشاف القناع 5 / 201.(33/189)
الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ؛ وَلأَِنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (رِقّ ف 85) .
لَكِنَّ الْقَسْمَ فِي بَعْضِ الزَّوْجَاتِ فِيهِ مَزِيدُ تَفْصِيلٍ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الْقَسْمُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقْسِمَ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ زَوْجَاتِهِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً مِنْ كُل وَجْهٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَقْسِمُ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ وَذَلِكَ إِنْ قَصَدَ رَجْعَتَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
ب - الْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لاَ يَقْسِمُ لَهَا الزَّوْجُ؛ لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلسَّكَنِ وَالأُْنْسِ وَالإِْيوَاءِ، وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا لاَ يَحِل لِزَوْجِهَا الْخَلْوَةُ بِهَا، بَل يَحْرُمُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَسْمِ لَهَا، فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ صُورَةً مِنْ هَذَا الْخِلاَفِ فِي قَوْلِهِ: قَال
__________
(1) رد المحتار 2 / 400، شرح الزرقاني 4 / 55، الأم 5 / 190، المغني 7 / 36.
(2) حاشية الجمل 4 / 280، كشاف القناع 5 / 201، الدر المختار 2 / 400.(33/189)
فِي النَّهْرِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ - أَيِ الْقَسْمُ - لِلْمَوْطُوءَةِ بِشَبَهٍ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ الإِْينَاسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ، وَاعْتَرَضَهُ الْحَمَوِيُّ بِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَسْمَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ فِي الْبَيْتُوتَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَزَادَ بَعْضُ الْفُضَلاَءِ أَنَّهُ يُخَافُ مِنَ الْقَسْمِ لَهَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ؛ لأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِلْغَيْرِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَسُّهَا وَتَقْبِيلُهَا، فَلاَ يَجِبُ لَهَا (1) .
الْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ لِمَنْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أَوْ زَوْجَاتٌ غَيْرُهَا، هَل يَقْسِمُ لَهَا قَسْمًا خَاصًّا، أَمْ تَدْخُل فِي دَوْرِ الْقَسْمِ كَغَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ - حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً - تَخْتَصُّ بِسَبْعِ لَيَالٍ بِلاَ قَضَاءٍ لِلْبَاقِيَاتِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَبِثَلاَثِ لَيَالٍ بِلاَ قَضَاءٍ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثٌ (2) ، وَاخْتَصَّتِ الزَّوْجَةُ الْجَدِيدَةُ بِذَلِكَ لِلأُْنْسِ وَلِزَوَال الْحِشْمَةِ، وَلِهَذَا سَوَّى
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 230، نهاية المحتاج 6 / 273، رد المحتار 2 / 400.
(2) حديث: " للبكر سبع وللثيب ثلاث ". أخرجه مسلم (2 / 1083) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن.(33/190)
الشَّرْعُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأَْمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّبْعِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلاَ بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ، وَزِيدَ لِلْبِكْرِ الْجَدِيدَةِ؛ لأَِنَّ حَيَاءَهَا أَكْثَرُ؛ وَلأَِنَّهَا لَمْ تُجَرِّبِ الرِّجَال فَتَحْتَاجُ إِلَى إِمْهَالٍ وَجَبْرٍ وَتَأَنٍّ، أَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنَّهَا اسْتَحْدَثَتِ الصُّحْبَةَ فَأُكْرِمَتْ بِزِيَادَةِ الْوَصْلَةِ وَهِيَ الثَّلاَثُ.
وَاخْتِصَاصُ الزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ - بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا - بِهَذَا الْقَسْمِ هُوَ حَقٌّ لَهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنَ السُّنَّةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخَيِّرَ زَوْجَتَهُ الْجَدِيدَةَ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا بَيْنَ ثَلاَثٍ بِلاَ قَضَاءٍ لِلزَّوْجَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَبَيْنَ سَبْعٍ مَعَ قَضَاءٍ لَهُنَّ اقْتِدَاءً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا حَيْثُ قَال لَهَا: إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ وَفِي لَفْظٍ: إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، وَأُسَبِّعَ لِنِسَائِي، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسَائِي (1) أَيْ بِلاَ قَضَاءٍ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّلاَثِ وَإِلاَّ لَقَال: " وَثَلَّثْتُ لِنِسَائِي " كَمَا قَال: " وَسَبَّعْتُ لِنِسَائِي " (2) .
__________
(1) حديث: " إن شئت سبعت عندك. . ". أخرجه مسلم (2 / 1083) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن.
(2) مواهب الجليل 4 / 12، والشرح الكبير 2 / 340، مغني المحتاج 3 / 256، كشاف القناع 5 / 207.(33/190)
وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ - بِكْرَيْنِ كَانَتَا أَوْ ثِيبَتَيْنِ أَوْ بِكْرًا وَثَيِّبًا - فَزُفَّتَا إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. . فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي إِيفَاءِ حَقِّهِمَا وَتَسْتَضِرُّ الَّتِي يُؤَخِّرُ حَقَّهَا وَتَسْتَوْحِشُ. وَيُقَدِّمُ أَسْبَقَهُمَا دُخُولاً فَيُوفِيهَا حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا سَابِقٌ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الثَّانِيَةِ فَيُوفِيهَا حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَل بِهِ فِي مُدَّةِ الأُْولَى لأَِنَّ حَقَّ الأُْولَى عَارَضَهُ وَرُجِّحَ عَلَيْهِ، فَإِذَا زَال الْمُعَارِضُ وَجَبَ الْعَمَل بِالْمُقْتَضَى.
ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْقَسْمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ لِيَأْتِيَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الدَّوْرِ، فَإِنْ أُدْخِلَتَا عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ؛ لأَِنَّهُمَا اسْتَوَتَا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ وَالْقُرْعَةُ مُرَجِّحَةٌ عِنْدَ التَّسَاوِي (1) .
وَإِنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فِي مُدَّةِ حَقِّ عَقْدِ امْرَأَةٍ زُفَّتْ إِلَيْهِ قَبْلَهَا تَمَّمَ لِلأُْولَى حَقَّ عَقْدِهَا لِسَبْقِهَا، ثُمَّ قَضَى حَقَّ عَقْدِ الثَّانِيَةِ لِزَوَال الْمُعَارِضِ (2) . وَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ جَدِيدَةٌ وَلَهُ زَوْجَتَانِ قَدْ وَفَّاهُمَا حَقَّهُمَا، وَفَّى الْجَدِيدَةَ حَقَّهَا وَاسْتَأْنَفَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَسْمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالْقُرْعَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 257، المغني 7 / 45، كشاف القناع 5 / 207.
(2) كشاف القناع 5 / 208.
(3) مغني المحتاج 3 / 257.(33/191)
16 - وَإِنْ أَرَادَ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتَانِ مَعًا السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لإِِحْدَى الْجَدِيدَتَيْنِ سَافَرَ بِهَا، وَدَخَل حَقُّ الْعَقْدِ فِي قَسْمِ السَّفَرِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ قَسْمٍ يَخْتَصُّ بِهَا، فَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ بَدَأَ بِالأُْخْرَى فَوَفَّاهَا حَقَّ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهَا وَلَمْ يُؤَدِّهِ فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ بِالأُْخْرَى مَعَهُ، فَإِنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةٍ يَنْقَضِي فِيهَا حَقُّ الأُْولَى تَمَّمَهُ فِي الْحَضَرِ وَقَضَى لِلْحَاضِرَةِ حَقَّهَا، فَإِنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِغَيْرِ الْجَدِيدَتَيْنِ وَسَافَرَ بِهَا قَضَى لِلْجَدِيدَتَيْنِ حَقَّهُمَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يُقَدِّمُ السَّابِقَةَ دُخُولاً إِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِحْدَاهُمَا قَبْل الأُْخْرَى، أَوْ بِقُرْعَةٍ إِنْ دَخَلَتَا مَعًا، وَإِنْ سَافَرَ بِجَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ بِقُرْعَةٍ أَوْ رِضًا تَمَّمَ لِلْجَدِيدَةِ حَقَّ الْعَقْدِ ثُمَّ قَسَمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأُْخْرَى عَلَى السَّوَاءِ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ حَقَّ الزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ - بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا - فِي هَذَا الْقِسْمِ بِمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا الرَّجُل عَلَى غَيْرِهَا، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ لَهَا هَذَا الْقَسْمُ مُطْلَقًا. تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِهَا أَمْ لاَ (2) . وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تُقَدَّمُ بِهِ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ الْجَدِيدَتَيْنِ إِنْ زُفَّتَا إِلَى الزَّوْجِ فِي لَيْلَةٍ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 208.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 340.(33/191)
وَاحِدَةٍ: فَقَال اللَّخْمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَقَبِلَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ: إِنَّ الْحَقَّ لِلزَّوْجِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ دُونَ قُرْعَةٍ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: الأَْظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالدُّعَاءِ لِلْبِنَاءِ قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ فَسَابِقَةُ الْعَقْدِ، وَإِنْ عُقِدَتَا مَعًا فَالْقُرْعَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ الْجَدِيدَةِ فِي زِيَادَةِ قَسْمٍ تَخْتَصُّ بِهِ، وَقَالُوا: الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ وَالْقَدِيمَةُ وَالْجَدِيدَةُ سَوَاءٌ فِي الْقَسْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَغَايَتُهُ الْقَسْمُ، وَلإِِطْلاَقِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْجَوْرِ فِي الْقَسْمِ؛ وَلأَِنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ الْوَحْشَةَ فِي الزَّوْجَةِ الْقَدِيمَةِ مُتَحَقِّقٌ حَيْثُ أَدْخَل عَلَيْهَا مَنْ يَغِيظُهَا وَهِيَ فِي الْجَدِيدَةِ مُتَوَهَّمَةٌ؛ وَلأَِنَّ لِلْقَدِيمَةِ زِيَادَةَ حُرْمَةٍ بِالْخِدْمَةِ، وَإِزَالَةُ الْوَحْشَةِ وَالنُّفْرَةِ عِنْدَ الْجَدِيدَةِ تُمْكِنُ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا السَّبْعَ ثُمَّ يُسَبِّعَ لِلْبَاقِيَاتِ وَلَمْ تَنْحَصِرْ فِي تَخْصِيصِهَا بِالزِّيَادَةِ (3) .
بَدْءُ الْقَسْمِ وَمَا يَكُونُ بِهِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَبْدَأُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 12.
(2) سورة النساء / 19.
(3) فتح القدير 3 / 300 - 301.(33/192)
فِيهِ الزَّوْجُ الْقَسْمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الاِبْتِدَاءُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الرَّأْيُ فِي الْبُدَاءَةِ فِي الْقَسْمِ إِلَى الزَّوْجِ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: وَنُدِبَ الاِبْتِدَاءُ فِي الْقَسْمِ بِاللَّيْل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الإِْيوَاءِ لِلزَّوْجَاتِ، وَيُقِيمُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا عِنْدَ أَيَّتِهِنَّ أَحَبَّ وَلاَ يُحْسَبُ، وَيَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ بِاللَّيْل لأَِنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِل عِنْدَ الَّتِي خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لِيُكْمِل لَهَا يَوْمَهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ عَلَى الزَّوْجِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِلاِبْتِدَاءِ إِنْ تَنَازَعْنَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الْقَسْمِ الْبُدَاءَةُ بِإِحْدَاهُنَّ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ؛ لأَِنَّ الْبُدَاءَةَ بِإِحْدَاهُنَّ تَفْضِيلٌ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ وَاجِبَةٌ، وَلأَِنَّهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي الْحَقِّ وَلاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْقُرْعَةِ إِنْ لَمْ يَرْضَيْنَ، فَيَبْدَأُ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، فَإِذَا مَضَتْ نَوْبَتُهَا أَقْرَعَ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ، ثُمَّ بَيْنَ الأُْخْرَيَيْنِ، فَإِذَا تَمَّتِ النَّوْبَةُ رَاعَى التَّرْتِيبَ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ الْقُرْعَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا بَدَأَ
__________
(1) الدر المختار 2 / 402، حاشية الدسوقي 2 / 340، شرح الزرقاني 4 / 57.(33/192)
بِلاَ قُرْعَةٍ فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ، فَإِذَا تَمَّتِ النَّوْبَةُ أَقْرَعَ لِلاِبْتِدَاءِ.
وَقَالُوا: لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَتِّبَ الْقَسْمَ عَلَى لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِكُلٍّ وَلاَ يَتَفَاوَتُ، لَكِنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْل أَوْلَى؛ لأَِنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ لِلَّيْل وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ عَيَّنَهُ (1) .
الأَْصْل فِي الْقَسْمِ:
18 - الأَْصْل فِي الْقَسْمِ وَعِمَادُهُ اللَّيْل، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ قَالُوا: التَّسْوِيَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْقَسْمِ تَكُونُ فِي الْبَيْتُوتَةِ؛ وَلأَِنَّ اللَّيْل لِلسَّكَنِ وَالإِْيوَاءِ، يَأْوِي فِيهِ الرَّجُل إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْكُنُ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ عَادَةً، وَالنَّهَارُ وَقْتُ الْعَمَل لِكَسْبِ الرِّزْقِ وَالاِنْتِشَارِ فِي الأَْرْضِ طَلَبًا لِلْمَعَاشِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْل لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (2) ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي جَعَل لَكُمُ اللَّيْل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (3) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: الأَْصْل فِي الْقَسْمِ لِمَنْ عَمَلُهُ اللَّيْل وَكَانَ النَّهَارُ سَكَنَهُ كَالْحَارِسِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 255، نهاية المحتاج 6 / 375، كشاف القناع 5 / 199، المغني 7 / 33.
(2) سورة النبأ / 10 - 11.
(3) سورة يونس / 67.(33/193)
وَنَحْوِهِ يَكُونُ النَّهَارُ لأَِنَّهُ وَقْتُ سُكُونِهِ، وَأَمَّا اللَّيْل فَإِنَّهُ وَقْتُ عَمَلِهِ، وَالأَْصْل فِي الْقَسْمِ لِمُسَافِرٍ وَقْتُ نُزُولِهِ؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ خَلْوَتِهِ لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَارًا، قَل أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ تَفَاوَتَ حَصَل لِوَاحِدَةٍ نِصْفُ يَوْمٍ وَلأُِخْرَى رُبْعُ يَوْمٍ، فَلَوْ كَانَتْ خَلْوَتُهُ وَقْتَ السَّيْرِ دُونَ وَقْتِ النُّزُول - كَأَنْ كَانَ بِمِحَفَّةٍ وَحَالَةُ النُّزُول يَكُونُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فِي نَحْوِ خَيْمَةٍ - كَانَ هُوَ وَقْتَ الْقَسْمِ، وَالأَْصْل فِي الْقَسْمِ لِمَجْنُونٍ وَقْتُ إِفَاقَتِهِ، أَوْ كَمَا قَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا الْقَسْمُ عَلَى الْمَبِيتِ كَيْفَ كَانَ الْمَبِيتُ.
وَالنَّهَارُ يَدْخُل فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْل، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي (1) ، وَإِنَّمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَارًا (2) ، وَيَتْبَعُ الْيَوْمَ اللَّيْلَةُ الْمَاضِيَةُ أَيِ الَّتِي سَبَقَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ أَنْ يَجْعَل النَّهَارَ فِي الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ مُضَافًا إِلَى اللَّيْل الَّذِي بَعْدَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَفَاوَتُ، وَالْغَرَضُ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 144) .
(2) حديث: " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 235) من حديث أنس بلفظ: " وتوفي من آخر ذلك اليوم "، وأخرجه مسلم (1 / 315) من حديث أنس بلفظ: " فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك ".
(3) فتح القدير 3 / 302، الدر المختار ورد المحتار 2 / 402، حاشية الدسوقي 2 / 339، الأم 5 / 190، المهذب 2 / 67 مغني المحتاج 3 / 253، حاشية الجمل 4 / 283، المغني 7 / 32 - 33، كشاف القناع 5 / 199.(33/193)
مُدَّةُ الْقَسْمِ:
19 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ أَقَل نُوَبِ الْقَسْمِ لِمَنْ عَمَلُهُ نَهَارًا لَيْلَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ بِبَعْضِهَا لِمَا فِي التَّبْعِيضِ مِنْ تَشْوِيشِ الْعَيْشِ وَتَنْغِيصِهِ، إِلاَّ أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَاتُ بِذَلِكَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْقَسْمِ، أَيْ أَكْثَرِ مِقْدَارِ النَّوْبَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْقَسْمِ، عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ يَكُونُ لَيْلَةً وَلَيْلَةً وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَاهُنَّ، فَإِنْ رَضِينَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ جَازَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ لاَ يَعْدُوهُنَّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَسَمَ لَيْلَةً وَلَيْلَةً (2) وَلأَِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ وَاجِبَةٌ، وَإِنَّمَا جُوِّزَتِ الْبُدَاءَةُ بِوَاحِدَةٍ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، فَإِذَا بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ تَعَيَّنَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ حَقًّا لِلأُْخْرَى فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهَا لِلأُْولَى بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَسَمَ لَيْلَتَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِحَقِّ مَنْ لَهَا
__________
(1) الدر المختار 2 / 401، ومواهب الجليل 4 / 14، وحاشية الجمل 4 / 283، ونهاية المحتاج 6 / 377، وكشاف القناع 5 / 198.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ليلة وليلة. . أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 218) من حديث عائشة بلفظ: " وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها ".(33/194)
اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَأْخِيرُ حُقُوقِ بَعْضِهِنَّ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَجَعَل لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلاَثًا حَصَل تَأْخِيرُ الرَّابِعَةِ تِسْعَ لَيَالٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَل لِكُل وَاحِدَةٍ تِسْعًا؛ وَلأَِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَ إِمْكَانِ التَّعْجِيل بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ كَتَأْخِيرِ الدَّيْنِ الْحَال (1) .
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يَزِيدُ فِي الْقَسْمِ عَلَى لَيْلَةٍ إِلاَّ أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَاتُ وَيَرْضَى بِالزِّيَادَةِ، أَوْ يَكُنْ فِي بِلاَدٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَيَقْسِمُ الْجُمُعَةَ أَوِ الشَّهْرَ عَلَى حَسَبِ مَا يُمْكِنُهُ بِحَيْثُ لاَ يَنَالُهُ ضَرَرٌ لِقِلَّةِ الْمُدَّةِ، وَنُقِل عَنِ اللَّخْمِيِّ أَنَّ الرَّجُل إِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ بِبَلَدَيْنِ جَازَ قَسْمُهُ جُمُعَةً وَشَهْرًا وَشَهْرَيْنِ عَلَى قَدْرِ بُعْدِ الْمَوْضِعَيْنِ مِمَّا لاَ يَضُرُّ بِهِ، وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ إِلاَّ لِتَجْرٍ أَوْ ضَيْعَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ الدَّوْرِ إِلَى الزَّوْجِ إِنْ شَاءَ حَدَّدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ وَقَدْ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 14، وجواهر الإكليل 1 / 327، والمغني 7 / 37، وكشاف القناع 5 / 198.
(2) مواهب الجليل 4 / 140.(33/194)
وُجِدَتْ (1) . لَكِنَّ الْكَمَال بْنَ الْهُمَامِ عَقَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَدُورَ سَنَةً سَنَةً مَا يُظَنُّ إِطْلاَقُ ذَلِكَ لَهُ، بَل يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُطْلَقَ لَهُ مِقْدَارُ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ لِلتَّأْنِيسِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمُدَّةُ الْقَرِيبَةُ وَأَظُنُّ أَكْثَرَ مِنْ جُمُعَةٍ مُضَارَّةً إِلاَّ أَنْ تَرْضَيَا بِهِ (2) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ وَالتُّمُرْتَاشِيُّ نَقْلاً عَنِ الْخُلاَصَةِ: يُقِيمُ عِنْدَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَإِنْ شَاءَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ إِلاَّ بِإِذْنِ الأُْخْرَى (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ لَيْلَةً لَيْلَةً. . اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِعَهْدِهِنَّ بِهِ، وَأَدْنَى إِلَى التَّسْوِيَةِ فِي إِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ قَسَمَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا جَازَ؛ لأَِنَّهُ فِي حَدِّ الْقَلِيل، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ حَرُمَ وَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُنَّ، لأَِنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِحُقُوقِهِنَّ.
وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ (4) .
__________
(1) الاختيار 3 / 116 - 117، والهداية مع الفتح 2 / 518. ط. بولاق، ونهاية المحتاج 6 / 378.
(2) فتح القدير 2 / 518. ط. بولاق.
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 401. ط. بولاق.
(4) المهذب 2 / 67، ونهاية المحتاج 6 / 377 - 378، والمغني 7 / 37.(33/195)
الْخُرُوجُ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ وَالدُّخُول عَلَى غَيْرِهَا:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَسْمَهَا دُونَ نَقْصٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الْعَدْل الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الزَّوْجِ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ - لَيْلاً أَوْ نَهَارًا - وَدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهَا كَذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَرَجَ الزَّوْجُ الَّذِي عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْل مِنْ عِنْدِ بَعْضِ نِسَائِهِ فِي زَمَانِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ أَوْ أَوَّل اللَّيْل أَوْ آخِرِهِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالاِنْتِشَارِ فِيهِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الصَّلاَةِ جَازَ، وَإِنْ خَرَجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّيْل وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عَادَ لَمْ يَقْضِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا هَذَا الْوَقْتَ لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي قَضَائِهِ لِقِصَرِهِ، وَإِنْ طَال زَمَنُ خُرُوجِهِ قَضَاهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأَِنَّهُ مَعَ طُول الزَّمَنِ لاَ يُسْمَحُ بِهِ عَادَةً، فَيَكُونُ حَقُّهَا قَدْ فَاتَ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا، وَحَقُّ الآْدَمِيِّ لاَ يَسْقُطُ وَلَوْ بِعُذْرٍ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ. . . فَوَجَبَ الْقَضَاءُ.
وَلَيْسَ لِهَذَا الزَّوْجِ دُخُولٌ فِي نَوْبَةِ زَوْجَةٍ عَلَى غَيْرِهَا لَيْلاً، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَمَرَضِهَا الْمَخُوفِ وَشِدَّةِ(33/195)
الطَّلْقِ وَخَوْفِ النَّهْبِ وَالْحَرْقِ، وَحِينَئِذٍ إِنْ طَال مُكْثُهُ عُرْفًا قَضَى لِصَاحِبَةِ النَّوْبَةِ مِنْ نَوْبَةِ الْمَدْخُول عَلَيْهَا مِثْل مُكْثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطُل مُكْثُهُ فَلاَ يَقْضِي، وَإِذَا تَعَدَّى بِالدُّخُول قَضَى إِنْ طَال مُكْثُهُ وَإِلاَّ فَلاَ قَضَاءَ، وَأَثِمَ.
وَإِنْ دَخَل الزَّوْجُ فِي نَوْبَةِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى غَيْرِهَا نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِحَاجَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ مَا لاَ يُتَسَامَحُ فِي اللَّيْل، فَيَدْخُل لِوَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ كَتَسْلِيمِ نَفَقَةٍ وَتَعَرُّفِ خَبَرٍ وَعِيَادَةٍ. . لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَل يَوْمٌ إِلاَّ وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُل امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا (1) فَإِذَا دَخَل لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَطُل مُكْثُهُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يُجَامِعْ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَطُول مُكْثُهُ، أَيْ يَجُوزُ لَهُ تَطْوِيل الْمُكْثِ لَكِنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ عَدَمِ تَطْوِيل الْمُكْثِ لأَِنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْحَاجَةِ كَابْتِدَاءِ دُخُولٍ لِغَيْرِهَا وَهُوَ حَرَامٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَقْضِي إِذَا دَخَل لِحَاجَةٍ وَإِنْ طَال الزَّمَنُ؛ لأَِنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ.
وَفِي مُقَابِل الصَّحِيحِ يَجِبُ قَضَاءُ الْمُدَّةِ
__________
(1) حديث: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يوم إلا وهو يطوف. . . " أخرجه أبو داود (2 / 206) والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(33/196)
- إِنْ طَالَتْ - دُونَ الْجِمَاعِ، وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْل الأَْوَّل عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالثَّانِي عَلَى مَا إِذَا طَالَتْ فَوْقَ الْحَاجَةِ.
وَالصَّحِيحُ - عِنْدَهُمْ - أَيْضًا أَنَّ لَهُ مَا سِوَى الْوَطْءِ مِنِ اسْتِمْتَاعٍ. . لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَلأَِنَّ النَّهَارَ تَابِعٌ، وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ، أَمَّا الْوَطْءُ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لَيْلاً أَمْ نَهَارًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَطَال الْمَقَامَ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ قَضَاهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ يَحْصُل لَهَا بِهِ السَّكَنُ، وَإِنْ دَخَل عَلَيْهَا فَجَامَعَهَا فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ - لَيْلاً أَوْ نَهَارًا - فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ يُسْتَحَقُّ فِي الْقَسْمِ، وَالزَّمَنُ الْيَسِيرُ لاَ يُقْضَى. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهُ وَهُوَ أَنْ يَدْخُل عَلَى الْمَظْلُومَةِ فِي لَيْلَةِ الْمُجَامَعَةِ فَيُجَامِعَهَا فَيَعْدِل بَيْنَهُمَا. . وَلأَِنَّ الْيَسِيرَ مَعَ الْجِمَاعِ يَحْصُل بِهِ السَّكَنُ فَأَشْبَهَ الْكَثِيرَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَلْزَمُ الزَّوْجَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي اللَّيْل، حَتَّى لَوْ جَاءَ لِلأُْولَى بَعْدَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 376 - 377، ومغني المحتاج 3 / 254 - 255، والمغني 7 / 33 - 34.(33/196)
الْغُرُوبِ وَلِلثَّانِيَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَقَدْ تَرَكَ الْقَسْمَ، وَلاَ يُجَامِعُهَا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهَا، وَلاَ يَدْخُل عَلَيْهَا إِلاَّ لِعِيَادَتِهَا، وَلَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهَا - فَفِي الْجَوْهَرَةِ - لاَ بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تُشْفَى أَوْ تَمُوتَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا (1) .
وَالنَّوْبَةُ لاَ تَمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الأُْخْرَى لِيَنْظُرَ فِي حَاجَتِهَا وَيُمَهِّدَ أُمُورَهَا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُل لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا " (2) ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِرِضَاءِ صَاحِبَةِ النَّوْبَةِ إِذْ قَدْ تَتَضِيقُ لِذَلِكَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَدْخُل الزَّوْجُ فِي يَوْمِ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ عَلَى ضَرَّتِهَا، أَيْ يُمْنَعُ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ غَيْرِ الاِسْتِمْتَاعِ كَمُنَاوَلَةِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ وَلَوْ أَمْكَنَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِيهَا عَلَى الأَْشْبَهِ بِالْمَذْهَبِ. وَلِمَالِكٍ لاَ بُدَّ مِنْ عُسْرِ الاِسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَعَمَّمَ ابْنُ نَاجِي دُخُولَهُ لِحَاجَةٍ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْل مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ فِي تَخْصِيصِ الْجَوَازِ بِالنَّهَارِ، وَلِلزَّوْجِ وَضْعُ ثِيَابِهِ عِنْدَ وَاحِدَةٍ دُونَ الأُْخْرَى لِغَيْرِ مَيْلٍ وَلاَ إِضْرَارٍ، وَلاَ يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ دَخَل عِنْدَهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَجَازَ فِي
__________
(1) الدر المختار 2 / 401.
(2) حديث: " أنهن كن يجتمعن كل ليلة. . " أخرجه مسلم (2 / 1084) من حديث أنس.
(3) فتح القدير 3 / 302.(33/197)
يَوْمِهَا وَطْءُ ضَرَّتِهَا بِإِذْنِهَا، وَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ السَّلاَمُ بِالْبَابِ مِنْ خَارِجِهِ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا، وَتَفَقُّدُ شَأْنِهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ إِلَيْهَا وَلاَ جُلُوسٍ عِنْدَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ بَأْسَ بِأَكْل مَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِالْبَابِ لاَ فِي بَيْتِ الأُْخْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّتِهَا (1) .
ذَهَابُ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَاتِهِ وَدَعْوَتُهُنَّ إِلَيْهِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُنَّ مَسْكَنٌ يَأْتِيهَا الزَّوْجُ فِيهِ اقْتِدَاءً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فِي بُيُوتِهِنَّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ أَصْوَنُ وَأَسْتَرُ حَتَّى لاَ تَخْرُجَ النِّسَاءُ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ لِلزَّوْجِ - إِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ - أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ فِي لَيْلَتِهَا لِيُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ.
لَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلاً يَحْسُنُ عَرْضُهُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهِ دَعَا كُل وَاحِدَةٍ فِي نَوْبَتِهَا؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَأَرَادَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَل مِنْهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ بِرِضَاءِ زَوْجَاتِهِ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 57 - 58 - 59.
(2) حديث قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه في بيوتهن. . أخرجه أبو داود (2 / 602) والحاكم (2 / 186) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الدر المختار 2 / 401.(33/197)
طَلَبُهُ مِنْهُنَّ الإِْتْيَانَ لِلْبَيَاتِ مَعَهُ بِمَحَلِّهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ هَذَا إِذِ السُّنَّةُ دَوَرَانُهُ هُوَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، فَإِنْ رَضِيَ بَعْضُهُنَّ لَمْ يَلْزَمْ بَاقِيَهُنَّ، بَل نَصَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَدُورَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَأْتِينَهُ إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الزَّوْجُ بِمَسْكَنٍ وَأَرَادَ الْقَسْمَ دَارَ عَلَيْهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ تَوْفِيَةً لِحَقِّهِنَّ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِمَسْكَنٍ فَالأَْفْضَل الْمُضِيُّ إِلَيْهِنَّ صَوْنًا لَهُنَّ، وَلَهُ دُعَاؤُهُنَّ بِمَسْكَنِهِ، وَعَلَيْهِنَّ الإِْجَابَةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَمَنِ امْتَنَعَتْ وَقَدْ لاَقَ مَسْكَنُهُ بِهَا فِيمَا يَظْهَرُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ إِلاَّ ذَاتُ خَفَرٍ - قَال الشَّبْرَامِلْسِيُّ: أَيْ شَرَفٍ - لَمْ تَعْتَدِ الْبُرُوزَ فَيَذْهَبُ لَهَا كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلاَّ نَحْوُ مَعْذُورَةٍ بِمَرَضٍ فَيَذْهَبُ أَوْ يُرْسِل لَهَا مَرْكَبًا إِنْ أَطَاقَتْ مَعَ مَا يَقِيهَا مِنْ نَحْوِ مَطَرٍ.
وَالأَْصَحُّ تَحْرِيمُ ذَهَابِهِ إِلَى بَعْضِهِنَّ وَدُعَاءُ غَيْرِهِنَّ إِلَى مَسْكَنِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيحَاشِ، وَلِمَا فِي تَفْضِيل بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ تَرْكِ الْعَدْل، إِلاَّ لِغَرَضٍ كَقُرْبِ مَسْكَنِ مَنْ مَضَى إِلَيْهَا، أَوْ
__________
(1) حديث دورانه صلى الله عليه وسلم على نسائه في بيوتهن. تقدم تخريجه.
(2) جواهر الإكليل 1 / 327، شرح الزرقاني 4 / 59، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 14.(33/198)
خَوْفٍ عَلَيْهَا لِنَحْوِ شَبَابٍ دُونَ غَيْرِهَا فَلاَ يَحْرُمُ. وَالضَّابِطُ أَنْ لاَ يَظْهَرَ مِنْهُ التَّفْضِيل وَالتَّخْصِيصُ، وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ بِمَسْكَنِ وَاحِدَةٍ وَيَدْعُوَ الْبَاقِيَاتِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُنَّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِيهِ حَال دُعَائِهِنَّ، فَإِنْ أَجَبْنَ فَلَهَا الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكَ الزَّوْجِ لأَِنَّ حَقَّ السُّكْنَى فِيهِ لَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اتَّخَذَ الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا غَيْرَ مَسَاكِنِ زَوْجَاتِهِ يَدْعُو إِلَيْهِ كُل وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا وَيُخْلِيهِ مِنْ ضَرَّتِهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ لَهُ نَقْل زَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا، وَلَهُ دُعَاءُ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَالذَّهَابُ إِلَى مَسْكَنِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مَنْ دَعَاهَا عَنْ إِجَابَتِهِ وَكَانَ مَا دَعَاهَا إِلَيْهِ مَسْكَنَ مِثْلِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِنُشُوزِهَا، وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ وَدَعَا الْبَاقِيَاتِ إِلَى بَيْتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِنَّ الإِْجَابَةُ لِمَا بَيْنَهُنَّ مِنْ غَيْرَةٍ وَالاِجْتِمَاعُ يُزِيدُهَا (2) .
الْقُرْعَةُ لِلسَّفَرِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّجُل يُرِيدُ السَّفَرَ بِإِحْدَى زَوْجَاتِهِ هَل لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 374 - 375، مغني المحتاج 3 / 253.
(2) كشاف القناع 5 / 203.(33/198)
رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ أَوِ الْقُرْعَةِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ قُرْعَةٍ أَوْ رِضَا سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لَكِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلاً: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَقَّ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ حَالَةَ السَّفَرِ، فَيُسَافِرُ الزَّوْجُ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ.
وَالأَْوْلَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ فَيُسَافِرَ بِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا، تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ يَثِقُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ وَبِالأُْخْرَى فِي الْحَضَرِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنْزِل لِحِفْظِ الأَْمْتِعَةِ أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ سَفَرِ إِحْدَاهُنَّ كَثْرَةُ سِمَنِهَا مَثَلاً، فَتَعْيِينُ مَنْ يَخَافُ صُحْبَتَهَا فِي السَّفَرِ لِلسَّفَرِ لِخُرُوجِ قُرْعَتِهَا إِلْزَامٌ لِلضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِالنَّافِي لِلْحَرَجِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ اخْتَارَ مَنْ تَصْلُحُ لإِِطَاقَتِهَا السَّفَرَ أَوْ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لاَ لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا، إِلاَّ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَهُنَّ لأَِنَّ الْمُشَاحَّةَ تَعْظُمُ فِي سَفَرِ الْقُرُبَاتِ، وَشَرْطُ الإِْقْرَاعِ صَلاَحُ جَمِيعِهِنَّ لِلسَّفَرِ، وَمَنِ اخْتَارَ سَفَرَهَا أَوْ تَعَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهَا أَوْ يَكُونُ سَفَرُهَا مَعَرَّةً عَلَيْهَا، وَمَنْ أَبَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين (رد المحتار) 2 / 401.(33/199)
سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا (1) .
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِ زَوْجَاتِهِ - وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ - إِلاَّ بِرِضَاءِ سَائِرِهِنَّ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ فِي الأَْسْفَارِ الطَّوِيلَةِ الْمُبِيحَةِ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ، وَكَذَا فِي الأَْسْفَارِ الْقَصِيرَةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالُوا: لاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيل وَالْقَصِيرِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَ زَوْجَاتِهِ بِالْقُرْعَةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْقُرْعَةِ، فَإِنْ فَعَل قَضَى لِلْبَوَاقِي.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ (2) ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لِلسَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 328، شرح الزرقاني 4 / 60.
(2) حديث عائشة: " كان إذا أراد سفرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 218) .(33/199)
فَصَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ تَفْضِيلٌ لِمَنْ سَافَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.
وَقَالُوا: إِذَا سَافَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ سَوَّى بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ فِي السَّفَرِ كَمَا يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْحَضَرِ (2) .
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لإِِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ السَّفَرُ بِهَا، وَلَهُ تَرْكُهَا وَالسَّفَرُ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّ الْقُرْعَةَ لاَ تُوجِبُ وَإِنَّمَا تُعَيِّنُ مَنْ تَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ، وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهَا تَعَيَّنَتْ بِالْقُرْعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ سَقَطَ حَقُّهَا إِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِامْتِنَاعِهَا فَلَهُ إِكْرَاهُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا إِجَابَتُهُ، فَإِنْ رَضِيَ بِامْتِنَاعِهَا اسْتَأْنَفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الْبَوَاقِي لِتَعْيِينِ مَنْ تُسَافِرُ مَعَهُ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ إِنْ وَهَبَتْ حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ جَازَ إِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَصَحَّتْ هِبَتُهَا لَهُ كَمَا لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا فِي
__________
(1) حديث عائشة: " كان إذا خرج أقرع بين نسائه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 310) ومسلم (4 / 1894) .
(2) مغني المحتاج 3 / 257، المغني 7 / 40 - 41.
(3) حاشية القليوبي 3 / 304، مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 42.(33/200)
الْحَضَرِ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِنْ وَهَبَتْهُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِسَائِرِ الزَّوْجَاتِ جَازَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَضِيَتِ الزَّوْجَاتُ كُلُّهُنَّ بِسَفَرِ وَاحِدَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ إِلاَّ أَنْ لاَ يَرْضَى الزَّوْجُ بِهَا فَيُصَارُ إِلَى الْقُرْعَةِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَاتِ إِنْ رَضِينَ بِوَاحِدَةٍ فَلَهُنَّ الرُّجُوعُ قَبْل سَفَرِهَا، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا بَعْدَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَيْ يَصِل إِلَيْهَا (2) .
وَقَالُوا: لَوْ أَقْرَعَ الزَّوْجُ بَيْنَ نِسَائِهِ عَلَى سَفَرٍ فَخَرَجَ سَهْمُ وَاحِدَةٍ فَخَرَجَ بِهَا، ثُمَّ أَرَادَ سَفَرًا آخَرَ قَبْل رُجُوعِهِ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالسَّفَرِ الْوَاحِدِ، مَا لَمْ يَرْجِعْ، فَإِذَا رَجَعَ فَأَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ (3) .
وَقَالُوا: لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِقُرْعَةٍ أَوْ بِرِضَاهُنَّ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِلْحَاضِرَاتِ، سَوَاءٌ طَال سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ؛ لأَِنَّ الَّتِي سَافَرَ بِهَا يَلْحَقُهَا مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ بِإِزَاءِ مَا حَصَل لَهَا مِنَ السَّكَنِ، وَلاَ يَحْصُل لَهَا مِنَ السَّكَنِ مِثْل مَا يَحْصُل لِمَنْ فِي الْحَضَرِ، أَيْ أَنَّ الْمُقِيمَةَ فِي الْحَضَرِ الَّتِي لَمْ تُسَافِرْ مَعَ زَوْجِهَا وَإِنْ
__________
(1) المغني 7 / 42.
(2) مغني المحتاج 3 / 258، 7 / 42.
(3) الأم 5 / 193، المغني 7 / 42.(33/200)
فَاتَهَا حَظُّهَا مِنْ زَوْجِهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَقَدْ تَرَفَّهَتْ بِالدَّعَةِ وَالإِْقَامَةِ فَتَقَابَل الأَْمْرَانِ فَاسْتَوَيَا، وَلَوْ سَافَرَ الزَّوْجُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ زَوْجَاتِهِ دُونَ رِضَاهُنَّ أَوِ الْقُرْعَةِ أَثِمَ، وَقَضَى لِلأُْخْرَيَاتِ مُدَّةَ السَّفَرِ (1) .
وَقَالُوا: إِنْ خَرَجَ بِإِحْدَاهُنَّ بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَقَامَ قَضَى مُدَّةَ الإِْقَامَةِ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَذَلِكَ إِذَا سَاكَنَ الْمَصْحُوبَةَ، أَمَّا إِذَا اعْتَزَلَهَا مُدَّةَ الإِْقَامَةِ فَلاَ يَقْضِي (2) .
وَقَالُوا: مَنْ سَافَرَ لِنُقْلَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ بَعْضَهُنَّ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِقُرْعَةٍ، بَل يَنْقُلَهُنَّ أَوْ يُطَلِّقَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ الاِنْتِقَال بِنِسَائِهِ فَأَمْكَنَهُ اسْتِصْحَابُهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي سَفَرِهِ فَعَل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِفْرَادُ إِحْدَاهُنَّ بِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا السَّفَرَ لاَ يَخْتَصُّ بِوَاحِدَةٍ بَل يَحْتَاجُ إِلَى نَقْل جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ خَصَّ إِحْدَاهُنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ صُحْبَةُ جَمِيعِهِنَّ أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَبَعَثَ بِهِنَّ جَمِيعًا مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهُنَّ جَازَ، وَلاَ يَقْضِي لأَِحَدٍ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قُرْعَةٍ لأَِنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُنَّ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَ بَعْضِهِنَّ بِالسَّفَرِ مَعَهُ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، وأسنى المطالب 3 / 237، والمغني 7 / 41.
(2) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 41.(33/201)
فَأَقَامَتْ مَعَهُ فِيهِ قَضَى لِلْبَاقِيَاتِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الأَْحْكَامُ هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بَعْضَهُنَّ بِقُرْعَةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا، فَإِنْ فَعَل عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِلزَّوْجَاتِ الْبَاقِيَاتِ (2) .
قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَدْل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ جَارَ الزَّوْجُ وَفَوَّتَ عَلَى إِحْدَاهُنَّ قَسْمَهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَقْضِي الزَّوْجُ الْمَبِيتَ الَّذِي كَانَ مُسْتَحَقًّا لإِِحْدَى زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يُوفِهِ لَهَا؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْمَبِيتِ دَفْعُ الضَّرَرِ وَتَحْصِينُ الْمَرْأَةِ وَإِذْهَابُ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ زَمَنِهِ، فَلاَ يُجْعَل لِمَنْ فَاتَتْ لَيْلَتُهَا لَيْلَةً عِوَضًا عَنْهَا لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَظْلِمُ صَاحِبَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا عِوَضًا؛ وَلأَِنَّ الْمَبِيتَ لاَ يَزِيدُ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَ مِنَ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جَانِبِهَا كَنُشُوزِهَا أَوْ إِغْلاَقِهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 42 - 43.
(2) مغني المحتاج 3 / 258.
(3) رد المحتار 2 / 400 - 401، جواهر الإكليل 1 / 327.(33/201)
بَابَهَا دُونَهُ وَمَنْعِهَا إِيَّاهُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي نَوْبَتِهَا (1) .
وَأَسْبَابُ فَوَاتِ الْقَسْمِ مُتَعَدِّدَةٌ: فَقَدْ يُسَافِرُ الزَّوْجُ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ فَيَفُوتُ الْقَسْمُ لِسَائِرِهِنَّ. . وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَضَاءِ لَهُنَّ تَفْصِيلاً.
وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُل أَثْنَاءَ دَوْرَةِ الْقَسْمِ لِزَوْجَاتِهِ وَقَبْل أَنْ يُوفِيَ نَوْبَاتِ الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُنَّ، فَيَقْطَعَ الدَّوْرَةَ لِيَخْتَصَّ الزَّوْجَةَ الْجَدِيدَةَ بِقَسْمِ النِّكَاحِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ نَوْبَةِ مَنْ لَمْ يَأْتِ دَوْرُهَا فَيَجِبُ الْقَضَاءُ لَهَا. . وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِسَفَرِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَالُوا: إِنْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِحَاجَتِهَا أَوْ حَاجَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ قَسْمَ لَهَا؛ لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلأُْنْسِ وَقَدِ امْتَنَعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَسَقَطَ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهِ أَوْ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهَا مَا فَاتَهَا بِحَسَبِ مَا أَقَامَ عِنْدَ ضَرَّتِهَا لأَِنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ وَلِغَرَضِهِ، فَهِيَ كَمَنْ عِنْدَهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَهُوَ الْمَانِعُ نَفْسَهُ بِإِرْسَالِهَا، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ لِغَرَضِهَا أَوْ حَاجَتِهَا لاَ يَقْضِي لَهَا (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّهَا
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 376 - 377، المغني 7 / 33.(33/202)
فَوَّتَتْ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي قَبْضَتِهِ، وَإِذْنُهُ لَهَا بِالسَّفَرِ رَافِعٌ لِلإِْثْمِ خَاصَّةً.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَةِ ثَالِثٍ - غَيْرِهَا وَغَيْرِ الزَّوْجِ - قَال الزَّرْكَشِيُّ: فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَحَاجَةِ نَفْسِهَا، وَهُوَ - كَمَا قَال غَيْرُهُ - ظَاهِرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا بِسُؤَال الزَّوْجِ لَهَا فِيهِ، وَإِلاَّ فَيُلْحَقُ بِخُرُوجِهَا لِحَاجَتِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ لِحَاجَتِهِمَا مَعًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ وَمِثْلُهَا الْقَسْمُ، خِلاَفًا لِمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْعِمَادِ مِنَ السُّقُوطِ (1)
وَقَدْ يَفُوتُ قَسْمُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ بِتَخَلُّفِ الزَّوْجِ عَنِ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا فِي نَوْبَتِهَا أَوْ بِخُرُوجِهِ أَثْنَاءَ نَوْبَتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِلنَّوْبَةِ بِكَامِلِهَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَ الْفَوَاتُ لِبَعْضِ النَّوْبَةِ كَأَنْ خَرَجَ لَيْلاً - فِيمَنْ عِمَادُ قَسْمِهِ اللَّيْل - وَطَال زَمَنُ خُرُوجِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ بَيْتِ الضَّرَّةِ. فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ (2) .
تَنَازُل الزَّوْجَةِ عَنْ قَسْمِهَا:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لإِِحْدَى زَوْجَاتِ الرَّجُل أَنْ تَتَنَازَل عَنْ قَسْمِهَا، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 257، نهاية المحتاج 6 / 379 - 380، كشاف القناع 5 / 205.
(2) نهاية المحتاج 6 / 376، المغني 7 / 33.(33/202)
تَهَبَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ لِزَوْجِهَا أَوْ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا أَوْ لَهُنَّ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِرِضَاهُ لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ جَازَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِنْ أَبَتِ الْمَوْهُوبَةُ قَبُول الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُل وَقْتٍ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا مَنَعَتْهُ الْمُزَاحَمَةُ بِحَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَإِنْ زَالَتِ الْمُزَاحَمَةُ بِهِبَتِهَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا وَإِنْ كَرِهَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً (1) ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ (2) .
وَيُعَلِّقُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذِهِ الْهِبَةُ لَيْسَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الْهِبَاتِ، وَلِهَذَا لاَ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَوْهُوبِ لَهَا أَوْ رِضَاهَا، بَل يَكْفِي رِضَا الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَاهِبَةِ وَبَيْنِهِ، إِذْ لَيْسَ لَنَا هِبَةٌ يُقْبَل فِيهَا غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَعَ تَأَهُّلِهِ لِلْقَبُول إِلاَّ هَذِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا
__________
(1) رد المحتار 2 / 401، فتح القدير 3 / 303، الشرح الكبير 2 / 341، مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 38.
(2) حديث: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة. . أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 312) ، ومسلم (2 / 1085) من حديث عائشة.
(3) نهاية المحتاج 6 / 381، مغني المحتاج 3 / 258.(33/203)
لِجَمِيعِ ضَرَائِرِهَا، وَوَافَقَ الزَّوْجُ، صَارَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ الْوَاهِبَةَ، وَإِنْ وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَلَهُ جَعْلُهَا لِمَنْ شَاءَ: إِنْ أَرَادَ جَعْلَهَا لِلْجَمِيعِ، أَوْ خَصَّ بِهَا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، أَوْ جَعَل لِبَعْضِهِنَّ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ (1) .
وَقِيل - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَجْعَل اللَّيْلَةَ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ، بَل يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ وَلاَ يُخَصِّصُ؛ لأَِنَّ التَّخْصِيصَ يُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالْحِقْدَ، فَتُجْعَل الْوَاهِبَةُ كَالْمَعْدُومَةِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ أَنَّ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَوْ وَهَبَتْ لَيْلَتَهَا لِلزَّوْجِ وَلِبَعْضِ الزَّوْجَاتِ، أَوْ لَهُ وَلِلْجَمِيعِ، فَإِنَّ حَقَّهَا يُقْسَمُ عَلَى الرُّءُوسِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ شَخْصٌ عَيْنًا لِجَمَاعَةٍ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَهَبَتْ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ لَيْلَتَهَا لِوَاحِدَةٍ جَازَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ تَلِي لَيْلَةَ الْمَوْهُوبَةِ وَالَى بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَلِيهَا لَمْ يَجُزِ الْمُوَالاَةُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِرِضَاءِ الْبَاقِيَاتِ، وَيَجْعَلُهَا لَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لِلْوَاهِبَةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْهُوبَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فِي لَيْلَتِهَا فَلَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لِلْوَاهِبَةِ؛ وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ حَقِّ غَيْرِهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، والمغني 7 / 39.
(2) مغني المحتاج 3 / 259.
(3) مغني المحتاج 3 / 259، نهاية المحتاج 6 / 381.(33/203)
وَتَغْيِيرًا لِلَيْلَتِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا وَهَبَتْهَا لِلزَّوْجِ فَآثَرَ بِهَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّفْرِيقِ (1) .
وَلِلزَّوْجَةِ الْوَاهِبَةِ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَتْ فَإِذَا رَجَعَتِ انْصَرَفَ الرُّجُوعُ مِنْ حِينِهِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيمَا مَضَى لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ رَجَعَتْ فِي بَعْضِ اللَّيْل كَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِل إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَتَمَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَقْضِ لَهَا شَيْئًا لأَِنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهَا (2) .
وَنَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الْمَسَائِل السَّابِقَةِ (3) .
الْعِوَضُ لِلتَّنَازُل عَنِ الْقَسْمِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ الْمُتَنَازِلَةِ عَنْ قَسْمِهَا عِوَضًا عَلَى ذَلِكَ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، لاَ مِنَ الزَّوْجِ وَلاَ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَإِنْ أَخَذَتْ لَزِمَهَا رَدُّهُ وَاسْتَحَقَّتِ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 39.
(2) مغني المحتاج 3 / 259، المغني 7 / 39.
(3) فتح القدير 3 / 303.(33/204)
الْعِوَضَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ قَسْمِهَا لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ وَلاَ مَنْفَعَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَقَامَ الزَّوْجِ عِنْدَهَا لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَلَكَتْهَا.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعِوَضُ غَيْرَ الْمَال مِثْل إِرْضَاءِ زَوْجِهَا وَغَيْرِهِ عَنْهَا جَازَ (1) فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَرْضَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَأَخَذَتْ يَوْمَهَا، وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ (2) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ وَغَيْرِهِ وَوَقَعَ فِي كَلاَمِ الْقَاضِي مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ، فَقَالُوا: جَازَ لِلزَّوْجِ إِيثَارُ إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى بِرِضَاهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لاَ، بَل رَضِيَتْ مَجَّانًا، وَجَازَ لِلزَّوْجِ أَوِ الضَّرَّةِ شِرَاءُ يَوْمِهَا مِنْهَا بِعِوَضٍ، وَتَخْتَصُّ الضَّرَّةُ بِمَا اشْتَرَتْ، وَيَخُصُّ الزَّوْجُ مَنْ شَاءَ بِمَا اشْتَرَى، وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ بِقَوْلِهِ: وَتَسْمِيَةُ هَذَا شِرَاءً مُسَامَحَةٌ، بَل هَذَا إِسْقَاطُ حَقٍّ لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 3 / 303، مغني المحتاج 3 / 258، المغني 7 / 39 - 40.
(2) حديث إرضاء عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفية أخرجه ابن ماجه (1 / 634 - 635) من حديث عائشة وقال البوصيري في الزوائد (1 / 343) إسناده ضعيف.
(3) كشاف القناع 5 / 205، 206، الإنصاف 8 / 371، 372.(33/204)
الْمَبِيعَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلاً (1) .
مَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَسْمُ:
26 - يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ بِإِسْقَاطِهَا وَيَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ كَمَا تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ. . وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنَ النُّشُوزِ أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ تَمْنَعَهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا. . قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بِنَحْوِ قُبْلَةٍ وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ حَيْثُ لاَ عُذْرَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ مُسْتَحْكِمٌ - مَثَلاً - وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لاَ يُحْتَمَل عَادَةً لَمْ تُعَدَّ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُل قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا. . وَسُقُوطُ حَقِّ النَّاشِزَةِ فِي الْقَسْمِ لأَِنَّهَا بِخُرُوجِهَا عَلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ.
وَلاَ تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ غَيْرُ الْمَأْمُونَةِ، وَالْمَحْبُوسَةُ؛ لأَِنَّ فِي إِلْزَامِ زَوْجِهَا بِالْقَسْمِ لَهَا إِضْرَارًا بِهِ حَيْثُ يَدْخُل الْحَبْسَ مَعَهَا لِيُوفِيَهَا قَسْمَهَا، وَالزَّوْجَةُ الْمُسَافِرَةُ لِحَاجَتِهَا وَحْدَهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 341.
(2) رد المحتار 2 / 400، جواهر الإكليل 1 / 327، نهاية المحتاج 6 / 373 - 374، المغني 7 / 28 - 40، كشاف القناع 5 / 204.(33/205)
قِسْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِسْمَةُ لُغَةً: النَّصِيبُ، جَعْل الشَّيْءِ أَوِ الأَْشْيَاءِ أَجْزَاءً أَوْ أَبْعَاضًا مُتَمَايِزَةً.
قَال الْفَيُّومِيُّ: قَسَمْتُهُ قَسْمًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: فَرَزْتُهُ أَجْزَاءً فَانْقَسَمَ، وَالْمَوْضِعُ مَقْسِمٌ مِثْل مَسْجِدٍ، وَالْفَاعِل قَاسِمٌ، وَقَسَّامٌ مُبَالَغَةٌ، وَالاِسْمُ الْقِسْمُ (بِالْكَسْرِ) ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِصَّةِ وَالنَّصِيبِ، فَيُقَال: هَذَا قَسْمِي، وَالْجَمْعُ أَقْسَامٌ، مِثْل حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَاقْتَسَمُوا الْمَال بَيْنَهُمْ، وَالاِسْمُ الْقِسْمَةُ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى النَّصِيبِ أَيْضًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ: أَيْ فِي نَصِيبٍ مُعَيَّنٍ (2) ، وَإِنَّمَا كَانَتْ جَمْعًا لِلنَّصِيبِ بَعْدَ تَفَرُّقٍ، لأَِنَّهُ كَانَ قَبْل الْقِسْمَةِ مُوَزَّعًا عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمُشْتَرَكِ، مَا مِنْ جُزْءٍ - مَهْمَا قَل - إِلاَّ وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ بِنِسْبَةِ مَا لَهُ فِي الْمَجْمُوعِ الْكُلِّيِّ،
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) البحر الرائق 8 / 167، وتكملة فتح القدير 8 / 347.(33/205)
ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنْحَصِرًا فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لاَ تَتَخَلَّلُهُ حُقُوقُ أَحَدٍ مِنْ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجُزْئِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ دَفْعُ عِوَضٍ وَأَخْذُ مَا عُوِّضَ عَنْهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ: أَنَّ الْقِسْمَةَ أَعَمُّ، فَقَدْ تَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ
ب - الإِْفْرَازُ:
3 - الإِْفْرَازُ لُغَةً: التَّنْحِيَةُ أَيْ عَزْل شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَتَمْيِيزُهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالإِْفْرَازِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهَا بَيَانُ الْحِصَصِ دُونَ إِفْرَازٍ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الإِْفْرَازِ.
ج - الشَّرِكَةُ:
4 - الشَّرِكَةُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ شَرِكَ، وَهِيَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) شرح الروض 2 / 2.
(3) المصباح المنير وتاج العروس.(33/206)
خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلاَطُهُمَا، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (1) .
وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالشَّرِكَةِ التَّضَادُّ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْقِسْمَةِ:
5 - الْقِسْمَةُ مَشْرُوعَةٌ، وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَفِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيِ: مِنْ مِثْل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (3) ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ مِمَّا قَل مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (4) ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ} (5) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} (6)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 3 / 343، ومغني المحتاج 2 / 211.
(3) سورة الأنفال / 41.
(4) سورة النساء / 6.
(5) سورة المعارج / 24.
(6) سورة النساء / 7.(33/206)
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ وَتَقْرِيرُهُ:
فَمِنْ قَوْلِهِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا قُسِّمَتِ الأَْرْضُ وَحُدَّتْ، فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (1) ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ (2) .
وَمِنْ فِعْلِهِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (3) ، وَفِي حَدِيثِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَاتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا (4) .
وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ: فَلاَ شَكَّ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا كَانَتْ تَقَعُ عَلَى عَهْدِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَيُسَدِّدُ وَلاَ يُنْكِرُ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ - وَمَا زَالُوا -
__________
(1) حديث: " إذا قسمت الأرض وحدت. . . " أخرجه أبو داود (3 / 785) من حديث أبي هريرة، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (5 / 331) : رجال إسناده ثقات.
(2) حديث جابر: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 436) .
(3) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " كان يقسم الغنائم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 53) من حديث أنس.
(4) حديث سهل بن أبي حثمة: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين. . . " أخرجه أبو داود (3 / 410) ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 397) قول صاحب التنقيح: إسناده جيد.(33/207)
مُنْذُ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا يَتَعَامَلُونَ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَفِي غَيْرِ الْمَوَارِيثِ، دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا مُتَوَارَثَةً (1) .
وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْقِسْمَةَ تُوَفِّرُ عَلَى كُل شَرِيكٍ مَصْلَحَتَهُ كَامِلَةً، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِنَّهَا لِتَكْمِيل نَفْعِ الشَّرِيكِ (2)
تَكْيِيفُ الْقِسْمَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِسْمَةِ هَل هِيَ بَيْعٌ أَمْ مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ؟ يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ أَرْبَعَةً:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:
أَنَّهَا بَيْعٌ بِإِطْلاَقٍ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُ خِلاَفُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (3) ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْ قُدَامَى أَصْحَابِهِمْ، وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ (4) ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (5) .
وَقَالُوا: إِنَّ كُل جُزْءٍ مِنَ الْمَال مُشْتَرَكٌ بَيْنَ
__________
(1) البدائع 7 / 17. ورد المحتار 5 / 166، وتكملة فتح القدير 8 / 248، ومغني المحتاج 4 / 418، والمغني لابن قدامة 11 / 448.
(2) بدائع الصنائع 7 / 17، ومغني المحتاج 4 / 418، وقواعد ابن رجب ص 144.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 68، والفواكه الدواني 2 / 327.
(4) مغني المحتاج 4 / 424، ونهاية المحتاج 8 / 275.
(5) منتهى الإرادات 2 / 618، والإنصاف 11 / 347.(33/207)
الشَّرِيكَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْجَمِيعِ فَقَدْ بَاعَ مَا تَرَكَ مِنْ حَقِّهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ (1) ، أَوْ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ يُبَدِّل نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنَ السَّهْمِ الآْخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
أَنَّهَا مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ بِإِطْلاَقٍ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَعَهُمُ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْقِسْمَةُ جُزَافًا (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ لَوَازِمَ الْقِسْمَةِ تُخَالِفُ لَوَازِمَ الْبَيْعِ، وَاخْتِلاَفُ اللَّوَازِمِ يَدُل عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَلْزُومَاتِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ (4) : تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِيمَا تَمَاثَل - أَيْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، مَعَ تَسَاوِي الرَّغَبَاتِ وَالْقِيمَةِ: كَالدُّورِ وَالْفَدَادِينِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي
__________
(1) المهذب للشيرازي 2 / 306.
(2) المغني 11 / 491.
(3) مغني المحتاج 4 / 423، 424، وقواعد ابن رجب 412، ومطالب أولي النهى 6 / 550، والتحفة وحواشيها 2 / 68.
(4) بلغة السالك 2 / 240، والتحفة وحواشيها 2 / 68 - 69.
(2) بلغة السالك 2 / 241.
(3) ومن المتقارب (المتجانس) البُخْت من الإبل مع العراب منها، والجاموس من البقر، والغنم مع المعز، لا البغال مع الحمير. (الخرشي 4 / 402، والتحفة وحواشيها 2 / 69) ، وفي المصباح المنير: العراب من الإبل خلاف البخاتي.
(4) التجريد المفيد 4 / 370، ومغني المحتاج 4 / 421، 422.(33/208)
كَأَرْضٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ - كَمَعْدِنٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ بِئْرِ مَاءٍ - وَرُبَّمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَحْدَهُ تَعْدِل قِيمَةَ الأَْرْضِ كُلَّهَا أَوْ تَزِيدُ (1) .
فَمِنْ وُجْهَةِ نَظَرِ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافِقِيهِمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرَّادَّ إِنَّمَا بَذَل مُقَابِل مَا حَصَل لَهُ مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ (2) ، أَمَّا فِي غَيْرِ قِسْمَةِ الرَّدِّ فَيَتَمَسَّكُ بِتَغَايُرِ اللَّوَازِمِ، كَمَا تَمَسَّكَ أَرْبَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي (3) .
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ - لاَ يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ قِسْمَةَ الرَّدِّ بَيْعٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ كَذَلِكَ أَيْضًا: كُل قِسْمَةٍ أُخْرَى يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى تَعْدِيل الأَْنْصِبَاءِ بِوَاسِطَةِ التَّقْوِيمِ، لِيَصِيرَ مَا يَأْخُذُهُ بِهَا كُل شَرِيكٍ حَقًّا خَالِصًا لَهُ، إِذِ التَّقْوِيمُ تَخْمِينٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ: كَمَا فِي دَارٍ بَعْضُهَا لَبِنٌ، وَبَعْضُهَا حَجَرٌ، وَأَرْضٌ بَعْضُهَا جَيِّدٌ وَبَعْضُهَا رَدِيءٌ، وَبُسْتَانٍ بَعْضُهُ نَخْلٌ وَبَعْضُهُ كَرْمٌ (وَتُسَمَّى قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ) - وَرُبَّمَا قِيل: لَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيل بَيْعًا لَمَا قَبِلَتِ الإِْجْبَارَ كَقِسْمَةِ الرَّدِّ.
__________
(1) المغني 11 / 491، ومطالب أولي النهى 6 / 549، 550، 558، والمهذب 2 / 306.
(2) المهذب 2 / 306، والمغني 11 / 492.
(3) المهذب 2 / 306، والمغني 11 / 491.(33/209)
وَقَدْ قِيل فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ قَبُولِهَا الإِْجْبَارَ فِعْلاً (1) ، وَلَكِنَّهُ خِلاَفُ مَا اعْتَمَدُوهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا - فِي مُعْتَمَدِهِمْ - لِكَوْنِهَا بَيْعًا إِلْحَاقًا لِتَسَاوِي الأَْجْزَاءِ قِيمَةً بِتَسَاوِيهَا حَقِيقَةً، وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الرَّغَبَاتِ تَتَعَلَّقُ بِتَخْلِيصِ الْحَقِّ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَكَمَا يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَال الْمَدْيُونِ جَبْرًا، وَلَمْ تُحَكَّمْ هَذِهِ الْحَاجَةُ فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ؛ لأَِنَّ الإِْجْبَارَ فِيهَا يَكُونُ إِجْبَارًا عَلَى دَفْعِ مَالٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ (2) .
وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُتَسَاوِيَ فِي الْمَقْصُودِ الأَْهَمِّ يُعْتَبَرُ كَالْمُتَسَاوِي مِنْ كُل وَجْهٍ، لإِِمْكَانِ التَّجَاوُزِ عَنِ الْفَرْقِ حِينَئِذٍ، سِيَّمَا وَهُوَ يَعْدِل بِالْقِيمَةِ: فَالَّذِي يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ ذَاكَ يَكُونُ آخِذًا لِعَيْنِ حَقِّهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ (3) .
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:
الْقِسْمَةُ لاَ تَخْلُو مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ (الإِْفْرَازُ) وَفِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ - مَهْمَا قَل - مِنَ الْمَال
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 275.
(3) التحفة وحواشيها 2 / 69، وبلغة السالك 2 / 241.
(4) البدائع 7 / 17.(33/209)
الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ وَنِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَاكَ، فَإِذَا اسْتَقَل أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ فَشَطْرُ مَا اسْتَقَل بِهِ كَانَ لَهُ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ وَتَمَيَّزَ بَعْدَ شُيُوعٍ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ، وَشَطْرُهُ الآْخَرُ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَخَذَهُ مِنْهُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا غُلِّبَ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهَا عَلَى سَبِيل الْمُعَاوَضَةِ هُوَ عَيْنُ الْمَتْرُوكِ حُكْمًا، إِذْ هُوَ مِثْلُهُ يَقِينًا فَضَعُفَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَلاَ كَذَلِكَ قِسْمَةُ الْقِيَمِيِّ، فَلَمْ يَضْعُفْ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إِذِ الْمَأْخُوذُ لَيْسَ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ وَلَوْ حُكْمًا، وَمِنْ ثَمَّ يَكُونُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ أَقْوَى مِنْهُ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ (1) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَكْيِيفِ الْقِسْمَةِ:
7 - تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الآْثَارُ فِي أَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا، فَإِنَّهَا تُعْطَى أَحْكَامَهُ - مَعَ مُلاَحَظَةِ مَا مَرَّ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فِي أَشْبَاهٍ لَهَا - وَإِنْ كَانَتْ مَحْضَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ فَإِنَّهَا لاَ تُعْطَى أَحْكَامَ الْعُقُودِ أَصْلاً (2) . فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - (الْخِيَارَاتُ) : تَدْخُل الْخِيَارَاتُ الْقِسْمَةَ بِنَاءً
__________
(1) نتائج الأفكار 8 / 349، منلا مسكين 2 / 203، وحاشية ابن عابدين " رد المحتار " 5 / 167.
(2) مغني المحتاج 4 / 424، والقواعد لابن رجب ص 412.(33/210)
عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ، وَلاَ تَدْخُلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ، هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) ،
وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ نَفَى فِيهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَخِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَل لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَيِّ الأَْمْرَيْنِ أَرْشَدُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ (3) .
وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ قَائِمٌ فِي كُل قِسْمَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُرَدِّدُوا هَذَا التَّرْدِيدَ، بَل أَطْلَقُوا دُخُول الْخِيَارَاتِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَفَاوُتٍ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ.
فَقِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ - وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لاَ إِجْبَارَ فِيهَا - تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ الثَّلاَثَةُ: خِيَارُ الشَّرْطِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ.
وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ - وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ - لاَ يَدْخُلُهَا سِوَى خِيَارِ الْعَيْبِ.
وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الثِّيَابِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ - وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ أَيْضًا - يَدْخُلُهَا خِيَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 424، وقواعد ابن رجب ص 413.
(2) المدونة 14 / 198، وبلغة السالك 2 / 238.
(3) قواعد ابن رجب ص 413.(33/210)
الْعَيْبِ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ (1) .
ب - الشُّفْعَةُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزَ حُقُوقٍ لَمْ تَثْبُتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا: فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِثُبُوتِهَا، وَصَوَّرُوهَا بِمَا إِذَا تَقَاسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلاَثَةِ شُرَكَاءَ، وَتَرَكَا نَصِيبَ الثَّالِثِ مَعَ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ هَذَا الثَّالِثِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِهَذَا الثَّالِثِ (2) ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فِي الْمُبَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ مُبَادَلَةً مَحْضَةً (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا عَلَى الأَْصْل، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا لِمَانِعٍ خَاصٍّ بِالْقِسْمَةِ، إِذْ تَثْبُتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ عَلَى الآْخَرِ، إِذْ لَوْ ثَبَتَتْ لِهَذَا عَلَى ذَاكَ لَثَبَتَتْ لِذَاكَ عَلَى هَذَا فَيَتَنَافَيَانِ، وَوَصَفَهُ الْمِرْدَاوِيُّ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ (4) .
ج - التَّقَايُل: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا قَبِلَتِ التَّقَايُل، وَإِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ لَمْ تَقْبَلْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ. وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (5) ، وَجَرَى ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْمِثْلِيَّاتِ لاَ تَقْبَل
__________
(1) رد المحتار 5 / 167.
(2) الرشيدي على نهاية المحتاج 8 / 275.
(3) بدائع الصنائع 7 / 28.
(4) الإنصاف 11 / 351.
(5) الخرشي 4 / 424، وبلغة السالك 2 / 238.(33/211)
التَّقَايُل، لِغَلَبَةِ مَعْنَى الإِْفْرَازِ، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ تَقْبَلُهُ، فَإِنْ خَلَطَ الْمُقْتَسِمُونَ مَا اقْتَسَمُوهُ مِنَ الْمِثْلِيِّ كَانَتْ شَرِكَةً جَدِيدَةً، مَعَ أَنَّ الْعَلاَئِيَّ وَصَاحِبَ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ عَلَى تَعْمِيمِ الْقَبُول (1) .
أَقْسَامُ الْقِسْمَةِ:
8 - تَنْقَسِمُ الْقِسْمَةُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّقْوِيمِ وَعَدَمِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمَةُ إِفْرَازٍ -
وَقِسْمَةُ تَعْدِيلٍ -
وَقِسْمَةُ رَدٍّ.
أَوَّلاً: قِسْمَةُ الإِْفْرَازِ:
9 - وَهِيَ تُوجَدُ عِنْدَمَا لاَ تَكُونُ ثَمَّ حَاجَةٌ إِلَى تَقْوِيمِ الْمَقْسُومِ - أَعْنِي مَا يُرَادُ قَسْمُهُ - لِعَدَمِ تَفَاوُتِ الأَْغْرَاضِ، أَوْ لأَِنَّهُ تَفَاوُتٌ مِنَ التَّفَاهَةِ بِحَيْثُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ إِفْرَازٍ (2) ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَتَطَلَّبُ أَكْثَرَ مِنْ إِفْرَازِ كُل نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ: كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ ذَرْعًا أَوْ عَدًّا، وَتُسَمَّى أَيْضًا قِسْمَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ: لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِيمَا تَشَابَهَتْ أَنْصِبَاؤُهُ حَتَّى لاَ تَفَاوُتَ يُذْكَرُ، أَوِ الْقِسْمَةُ بِالأَْجْزَاءِ: لأَِنَّ نِسْبَةَ الْجُزْءِ الَّذِي يَأْخُذُهُ كُل شَرِيكٍ هِيَ بِعَيْنِهِ نِسْبَةُ حَقِّهِ إِلَى الْمَال
__________
(1) رد المحتار 5 / 176.
(2) الباجوري على ابن قاسم 2 / 352.(33/211)
الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ - كَدَنَانِيرِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، وَكَالْقَمْحِ الْهِنْدِيِّ، وَالأَْرُزِّ الْيَابَانِيِّ، وَكَالأَْدْهَانِ الْمُتَمَاثِلَةِ مِنْ شَيْرَجٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عُطُورٍ أَوْ مَا إِلَيْهَا (1) - وَفِيمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ كَذَلِكَ: كَالْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَوِ الْحَرِيرِيَّةِ أَوِ الْقُطْنِيَّةِ، وَكَالْكُتُبِ، وَالأَْقْلاَمِ، وَالسَّاعَاتِ، وَالأَْحْذِيَةِ، وَكَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهَا مِثْل مَا فِي الآْخَرِ مِنَ الأَْبْنِيَةِ تَصْمِيمًا، وَأَدَوَاتِ بِنَاءٍ، وَإِحْكَامِ صَنْعَةٍ، وَعَدَدِ حُجَرٍ مَعَ إِمْكَانِ قِسْمَةِ السَّاحَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ عِنْدَمَا تَتَسَاوَى الأَْنْصِبَاءُ صُورَةً وَقِيمَةً (2) .
ثَانِيًا: قِسْمَةُ التَّعْدِيل:
10 - وَتَكُونُ عِنْدَمَا لاَ تَتَعَادَل الأَْنْصِبَاءُ بِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَتَعَادَل بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً. وَلَكِنَّ قِيمَةَ ثُلُثِهِ - لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ مَزَايَا - تُسَاوِي قِيمَةَ ثُلُثَيْهِ؛ فَيُجْعَل فِي الْقِسْمَةِ الثُّلُثُ الْمَذْكُورُ سَهْمًا بِحَقِّ النِّصْفِ، وَالثُّلُثَانِ سَهْمًا آخَرَ بِحَقِّ النِّصْفِ الآْخَرِ، كَمَا أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ تُجْعَل سَهْمًا بِحَقِّ النِّصْفِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 421.
(2) نهاية المحتاج 8 / 272، ومغني المحتاج 4 / 421، 423، والتجريد المفيد 4 / 370.(33/212)
وَالْكِتَابُ وَالْقَلَمُ سَهْمًا آخَرَ بِحَقِّ النِّصْفِ الآْخَرِ، إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تُسَاوِي قِيمَتَيْهِمَا.
ثَالِثًا: قِسْمَةُ الرَّدِّ:
11 - وَتَكُونُ إِذَا لَمْ تَعْدِل الأَْنْصِبَاءُ، بَل تُرِكَتْ مُتَفَاوِتَةَ الْقِيمَةِ اخْتِيَارًا أَوِ اضْطِرَارًا، وَبِحَيْثُ يَكُونُ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النَّصِيبَ الزَّائِدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى شَرِيكِهِ قِيمَةَ حَقِّهِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ.
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى رَدِّ مَالٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ - وَهِيَ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ أَيْضًا - وَلَكِنْ يُشَارُ إِلَيْهَا بِفَصْلِهَا الْمُمَيَّزِ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيل فَإِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى مَا لاَ رَدَّ فِيهَا، وَهَاكَ مِثَالَيْنِ لِقِسْمَةِ الرَّدِّ: أَحَدُهُمَا يُمَثِّلُهَا فِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَالآْخَرُ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ:
الْمِثَال الأَْوَّل: أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً. وَفِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا بِئْرٌ لِرَيِّهَا لاَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُقْسَمَ الأَْرْضُ نِصْفَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، وَيَكُونَ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الآْخَرَ، وَهَذِهِ قِسْمَةُ رَدٍّ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَوَّمَ الأَْرْضُ وَالْبِئْرُ مَعًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مَثَلاً، لِلْبِئْرِ مِنْهَا ثُلُثُهَا: فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا الْبِئْرَ وَرُبْعَ الأَْرْضِ، وَيَأْخُذُ الآْخَرُ الثَّلاَثَةَ الأَْرْبَاعِ الْبَاقِيَةِ، وَهَذِهِ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ(33/212)
لاَ رَدَّ فِيهَا (1) .
فَإِذَا قُسِمَتْ عَلَى النَّحْوِ الأَْوَّل فَهِيَ قِسْمَةُ رَدٍّ يُؤْثِرَانِهَا اخْتِيَارًا دُونَ أَنْ تُلْجِئَ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ.
وَمِثْل الْبِئْرِ غَيْرُهَا كَشَجَرَةٍ أَوْ بِنَاءٍ لاَ يُقْسَمُ أَوْ مَنْجَمٍ (مَعْدِنٍ) (2) كَذَلِكَ.
الْمِثَال الثَّانِي: لَوْ فَرَضْنَا فِي الْمِثَال السَّابِقِ أَنَّ قِيمَةَ الْبِئْرِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الأَْرْضِ كُلِّهَا، فَحِينَئِذٍ لاَ يَكُونُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرُدَّ آخُذُهَا عَلَى الآْخَرِ قِيمَةَ مَا بَقِيَ لَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ بَعْدَ التَّعْدِيل بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الأَْرْضِ أَلْفًا، وَقِيمَةُ الْبِئْرِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَإِنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَكُونُ مَا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الأَْرْضَ كُلَّهَا وَتَرَكَ الْبِئْرَ، رَدَّ عَلَيْهِ الآْخَرُ مِائَةً، وَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ الأَْرْضِ فَقَطْ رَدَّ عَلَيْهِ الآْخَرُ أَيْضًا قِيمَةَ مَا تَرَكَ لَهُ مِنْهَا (3) .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيُلَخِّصُونَهُ بِأَنَّ الْمَقْسُومَ إِنْ تَسَاوَتِ الأَْنْصِبَاءُ مِنْهُ صُورَةً وَقِيمَةً فَالإِْفْرَازُ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى رَدِّ شَيْءٍ آخَرَ فَالتَّعْدِيل، وَإِلاَّ فَالرَّدُّ (4) ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المهذب 2 / 308، ونهاية المحتاج 8 / 273، 274، والباجوري على ابن قاسم 2 / 253.
(2) المعدن: (بكسر الدال) : منبت الجواهر، من ذهب وحديد وفضة ونحو ذلك: قيل له ذلك، لأن أهله يقيمون فيه صيفًا وشتاء لا يبرحونه، أو لإنبات الله عز وجل ذلك فيه. (محيط المحيط) .
(3) مغني المحتاج 4 / 422، 423، ونهاية المحتاج 8 / 273، 274، والتجريد المفيد 4 / 371، 372.
(4) نهاية المحتاج 8 / 272.(33/213)
بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبْرِزُوهُ إِبْرَازَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ: وَتُعْدَل السِّهَامُ بِالأَْجْزَاءِ إِنْ تَسَاوَتْ، وَبِالْقِيمَةِ إِنِ اخْتَلَفَتْ، وَبِالرَّدِّ إِنِ اقْتَضَتْهُ (1) .
وَلاَ بُدَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ التَّقْوِيمِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ التَّحَرِّي، أَيِ الْخَرْصُ فِي قِسْمَةِ الزَّرْعِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَكَذَا فِيمَا يَقْبَل التَّفَاضُل مِنْ غَيْرِ الْمَزْرُوعَاتِ (2) ، وَذَلِكَ فِي كُل شَيْءٍ تُرَادُ قِسْمَتُهُ بِالْقُرْعَةِ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، بِاسْتِثْنَاءِ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ عَلَى خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِثْنَائِهِمَا:
أ - الْمِثْلِيَّاتُ - وَهِيَ الْمَكِيلاَتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ " الْمُتَّفِقَةُ الصِّفَةِ " (3) ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا، وَالاِسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْل بِقَبُولِهَا الْقُرْعَةَ، فَإِنَّ ابْنَ عَرَفَةَ فِي فَتَاوِيهِ، تَبَعًا لِلْبَاجِيِّ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِيَمِيَّاتِ (4) ، وَعِبَارَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال مَالِكٌ: تُقْسَمُ الأَْشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِالسِّهَامِ (5) .
ب - الْعَقَارُ الْمُتَّفِقُ الْمَبَانِي: بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهِ مِثْل مَا فِي الآْخَرِ عَيْنًا وَمَنْفَعَةً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ بَهْرَامَ أَنْ يُقْسَمَ بِالْمِسَاحَةِ، وَجَرَى
__________
(1) بلغة السالك 2 / 243.
(3) الفواكه الدواني 2 / 327.
(4) الخرشي 4 / 402.
(5)
14 / 226.(33/213)
الْخَرَشِيُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِمَادِهِ (1) ، وَاعْتَمَدُوهُ فِي حَوَاشِي التُّحْفَةِ (2) .
فَأَنْتَ تَرَى قِسْمَةَ الإِْفْرَازِ وَاضِحَةً لاَئِحَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّفِقَةِ الصِّفَةِ (3) ، وَفِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَّفِقِ الْمَبَانِي: الأَْوَّل عَلَى مُعْتَمَدِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى قَوْل بَهْرَامَ وَمُعْتَمِدِيهِ، وَقِسْمَةُ التَّعْدِيل فِيمَا عَدَاهُمَا.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِقِسْمَةِ الْقُرْعَةِ، أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي فَقَدْ تَكُونُ بِتَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ وَقَدْ تَكُونُ بِدُونِهِمَا (4) .
أَمَّا قِسْمَةُ الرَّدِّ، فَالْمَالِكِيَّةُ يُثْبِتُونَهَا عَلَى التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لاِنْطِوَاءِ الْقُرْعَةِ فِيهَا عَلَى الْغَرَرِ الْكَثِيرِ، إِذْ قَدْ يُرِيدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَخْذَ الأَْحَظِّ وَتَحَمُّل الْفَرْقِ أَوْ عَكْسَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْرِجُ لَهُ مَا لاَ يَشْتَهِي، وَقَدْ أَثْبَتَهَا خَلِيلٌ فِي قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ أَيْضًا لَكِنْ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيل، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَمِدُوهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول النَّفْرَاوِيُّ: وَلاَ يُؤَدِّي أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا لِشَرِيكِهِ لِزِيَادَةٍ فِي سَهْمِهِ، مِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَاوِي دِينَارَيْنِ، وَالآْخَرُ يُسَاوِي دِينَارًا،
__________
(1) الخرشي 4 / 402، والتحفة وحواشيها 2 / 68.
(4) حواشي التحفة 2 / 68.(33/214)
وَاقْتَرَعَا عَلَى أَنَّ مَنْ صَارَ لَهُ الَّذِي يُسَاوِي الدِّينَارَيْنِ يَدْفَعُ نِصْفَ دِينَارٍ لِيَحْصُل التَّعَادُل، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُول قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ فِي صِنْفَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ، قَال خَلِيلٌ - بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ - " أَوْ فِيهِ تَرَاجُعٌ، إِلاَّ أَنْ يَقِل " وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَلَوْ قَل مَا بِهِ التَّرَاجُعُ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: " وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْفِعْل الَّذِي دَخَلاَ عَلَيْهِ تَرَاجُعٌ لَمْ يَجُزِ الْقَسْمُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا فَيَجُوزُ؛ لأَِنَّ قِسْمَةَ الْمُرَاضَاةِ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي الْجِنْسَيْنِ " وَحِينَئِذٍ فَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنْ (الْفِصَال) - وَهُوَ قِسْمَةُ الْمَوَاشِي - مِنْ جَعْل نَحْوِ الْبَقَرَةِ قِسْمًا، وَبِنْتِهَا مَعَ بَعْضِ دَرَاهِمَ قِسْمًا آخَرَ، وَيَدْخُلاَنِ عَلَى الْقُرْعَةِ، فَاسِدٌ - وَإِنِ اسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ بِالشَّيْءِ الْقَلِيل، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلاَّمَةُ خَلِيلٌ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ - كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا بِالْمُرَاضَاةِ بِأَنْ يَقُول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الصَّغِيرَةِ وَتَأْخُذُ كَذَا، أَوِ الْكَبِيرَةِ وَتَدْفَعُ كَذَا - مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ - فَيَجُوزُ (1) ، وَمِثْلُهُ فِي التُّحْفَةِ وَحَوَاشِيهَا (2) ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 327.
(2)
2 / 70.(33/214)
وَمَثَّلُوا بِدَارَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِمِائَةٍ وَالأُْخْرَى بِسِتِّينَ أَوْ تِسْعِينَ: لاَ يَجُوزُ بِالْقُرْعَةِ أَنْ يَسْتَقِل كُلٌّ بِدَارٍ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَخَذَ أَفْضَل الدَّارَيْنِ عِشْرِينَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى، أَوْ خَمْسَةً فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَخَّصَ فِي هَذِهِ الأَْخِيرَةِ اللَّخْمِيُّ، أَيْ وَفِي كُل حَالاَتِ الْقِلَّةِ، وَقَدَّرُوهَا بِنِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ نَحْوِهِ (1) ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ جَوَازُ قِسْمَةِ الرَّدِّ بِإِطْلاَقٍ، وَإِنْ كَانَ كَلاَمُهَا فِي الْعَقَارِ.
تَقْسِيمُ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْمُتَقَاسِمِينَ:
12 - الْقِسْمَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ قِسْمَانِ: قِسْمَةُ تَرَاضٍ، وَقِسْمَةُ إِجْبَارٍ، وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الإِْجْمَاعِ. ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَدْ يَرْغَبُونَ جَمِيعًا فِي قِسْمَةِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَوْ يَرْغَبُ بَعْضُهُمْ وَيُوَافِقُ الْبَاقُونَ عَلَى أَصْل الْقِسْمَةِ وَعَلَى كَيْفِيَّةِ تَنْفِيذِهَا، فَلاَ تَكُونُ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَى الْقَضَاءِ، وَتُسَمَّى الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ تَرَاضٍ.
وَقَدْ يَرْغَبُ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَيَأْبَى غَيْرُهُ، فَإِذَا لَجَأَ الرَّاغِبُ إِلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَلَّى قِسْمَةَ الْمَال وَفْقَ الأُْصُول الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا، وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ.
فَقِسْمَةُ التَّرَاضِي: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِاتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ.
__________
(1) الخرشي 4 / 409.(33/215)
وَقِسْمَةُ الإِْجْبَارِ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ، لِعَدَمِ اتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ (1) .
ثُمَّ لَيْسَ حَتْمًا فِي قِسْمَةِ الإِْجْبَارِ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الْقَاضِي بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَنْدُبُهُ لِذَلِكَ، بَل لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يُجِيبَ إِلَيْهَا، وَيُحَدِّدَ لَهُ الْقَاضِي مُدَّةً مَعْقُولَةً لإِِتْمَامِهَا بِصُورَةٍ عَادِلَةٍ.
وَفِي كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ إِشَارَةٌ صَرِيحَةٌ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، إِذْ يَقُولُونَ: لَيْسَتِ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَتَّى لاَ يُفْتَرَضَ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ جَبْرُ الآْبِي عَلَى الْقِسْمَةِ (2) .
13 - وَقَدْ عَلِمْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ قِسْمَةَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ تَقْبَل الإِْجْبَارَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلِيًّا كَانَ كَالْحُبُوبِ أَوِ الأَْدْهَانِ أَوِ الْجَوْزِ أَوِ الْبَيْضِ، (وَيَكْفِي تَقَارُبُ الْمِثْلِيِّ الْعَدَدِيِّ) أَمْ قِيَمِيًّا كَالإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ الدُّورُ أَوِ الْحَوَانِيتُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَالأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ أَوِ الْبَسَاتِينُ كَذَلِكَ، أَمَّا قِسْمَةُ الأَْنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ - كَخَلِيطٍ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الآْنِفِ ذِكْرُهَا - قِسْمَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَسْتَقِل الشَّرِيكُ بِنَوْعٍ أَوْ أَكْثَرَ (وَهِيَ مِنْ قِسْمَةِ الْجَمْعِ) فَهَذِهِ لاَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ، لِمَكَانِ فُحْشِ تَفَاوُتِهَا وَتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِيهَا: فَيَتَعَذَّرُ
__________
(1) تكملة فتح القدير والعناية 8 / 357.
(2) العناية على الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 351.(33/215)
تَعْدِيلُهَا، وَيَنْطَوِي الإِْجْبَارُ عَلَيْهَا عَلَى الْجَوْرِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَرَاضَى الشُّرَكَاءُ عَلَيْهَا فَلاَ مَانِعَ مِنْهَا حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّ مَا عَسَاهُ يَكُونُ قَدْ فَاتَ بِهَا مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمْ فَإِنَّمَا فَاتَ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَالَّذِي يَمْلِكُ الْحَقَّ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، مَا دَامَ حَقًّا خَالِصًا لَهُ (1) ، نَعَمْ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ إِلاَّ جَبْرًا عَلَى هَذِهِ الْمُبَادَلَةِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا كَقَضَاءِ الدَّيْنِ (2) .
لَكِنْ شَرِيطَةُ الإِْجْبَارِ بَعْدَ طَلَبِ الْقِسْمَةِ: انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرَرِ هُنَا: هُوَ فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ. وَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ فِي تَحْدِيدِ مَدَاهُ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّهُ الضَّرَرُ الْعَامُّ فَحَسْبُ، أَيِ الَّذِي لاَ يَخُصُّ شَرِيكًا دُونَ آخَرَ: بِأَنْ بَطَلَتْ بِالنِّسْبَةِ لِكُل شَرِيكٍ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَجْمُ الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ الطَّاحُونِ صَغِيرًا، لاَ يَنْقَسِمُ بِعَدَدِ الشُّرَكَاءِ بُيُوتًا وَحَمَّامَاتٍ وَطَوَاحِينَ، وَكَمَا فِي قِسْمَةِ الْجَوْهَرَةِ، وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَالْحِذَاءِ، وَالْجِدَارِ (3) وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ، فَهَذَا الضَّرَرُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الإِْجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا لِتَكْمِيل الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ هُنَا إِلاَّ تَفْوِيتُهَا،
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 350، 351.
(2) مجمع الأنهر 2 / 488.
(3) الشرح الكبير مع المغني 11 / 495، 496، ومغني المحتاج 2 / 189، والمدونة 14 / 220، والخرشي 4 / 274، والمهذب 2 / 307، 308، والإنصاف 11 / 338.(33/216)