عَمَلِكَ؟ فَقَال: أَلاَ تَرْضَى أَنْ أُقَلِّدَكَ مَا قَلَّدَنِيهِ رَسُول اللَّهِ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ أَوَّل عَاشِرٍ فِي الإِْسْلاَمِ زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ الأَْسَدِيَّ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عُشُورِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمُرُورِ بِأَمْوَال التِّجَارَةِ خَاصَّةً (1) .
شُرُوطُ الْعَاشِرِ:
35 - كَانَتْ مُهِمَّةُ الْعَاشِرِ لاَ تَقْتَصِرُ عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ، وَأَهْل الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تَشْتَمِل فَضْلاً عَنْ ذَلِكَ عَلَى جِبَايَةِ الزَّكَاةِ وَحِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَل، وَمِنْ ذَلِكَ: الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْعُشْرِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى حِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ؛ لأَِنَّ الْجِبَايَةَ بِالْحِمَايَةِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (عَامِلٌ ف 6) .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَاشِرُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ:
36 - عَلَى الْعَاشِرِ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ أَخْذِهِ الْعُشْرَ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ:
__________
(1) الخراج 135.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 309.(30/113)
أ - أَنْ لاَ يَتَعَدَّى عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ، فَلاَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَثِل مَا أَمَرَهُ بِهِ الْحَاكِمُ (1) .
ب - أَنْ لاَ يُكَرِّرَ أَخْذَ الْعُشْرِ. فَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ أَنَّهُ مَدَّ حَبْلاً عَلَى الْفُرَاتِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ فَأَخَذَ مِنْهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَبَاعَ سِلْعَتَهُ فَلَمَّا رَجَعَ مَرَّ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ، فَقَال: كُلَّمَا مَرَرْتُ عَلَيْكَ تَأْخُذُ مِنِّي؟ قَال: نَعَمْ، فَرَحَل الرَّجُل إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَجَدَهُ بِمَكَّةَ يَخْطُبُ النَّاسَ، قَال فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ مَرَرْتُ عَلَى زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ فَأَخَذَ مِنِّي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَبِعْتُ سِلْعَتِي، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنِّي، قَال: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ عَلَيْكَ فِي مَالِكَ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَزَل، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِيَّ، وَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَلَّمْتُكَ فِي زِيَادٍ، فَقَال: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَكَ (2) .
ج - أَنْ يَكْتُبَ الْعَاشِرُ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِهِ الْخَرَاجُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ
__________
(1) الرتاج على كتاب الخراج 2 / 161، 171 ط ديوان الأوقاف - بغداد 1975.
(2) الرتاج 2 / 180.(30/113)
وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ - يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمْ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْحَوْل (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَاشِرَ لاَ يَكْتُبُ بَرَاءَةً بِمَا يَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ كَمَا يَكْتُبُ إِلَى تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ دُخُول الْحَرْبِيِّ دَارَ الإِْسْلاَمِ وَاخْتِلاَفِ الذِّمِّيِّ بِتِجَارَتِهِ عَلَى الْعَاشِرِ (2) .
د - الرِّفْقُ بِأَهْل الْعُشْرِ:
37 - يَنْبَغِي لِلْعَاشِرِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْل الْعُشْرِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ، فَلاَ يُؤَخِّرَهُمْ وَلاَ يَظْلِمَهُمْ وَلاَ يُتْلِفَ بَضَائِعَهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَتِهَا أَوْ تَفْتِيشِهَا، وَيَقْبَل مِنْهُمْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الْقِيمَةِ.
فَإِذَا أَرَادَ الْعَاشِرُ اسْتِيفَاءَ الْعُشْرِ مِنَ الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِيفَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مِنَ الْقِيمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ السِّلْعَةِ الْوَارِدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَتَاعًا أُخِذَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَقْدًا أُخِذَ مِنْهُ، وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ
__________
(1) الرتاج 2 / 182 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 247.
(2) المدونة 1 / 341.(30/114)
الْخَمْرَ يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَتِهَا (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عُشْرُ مَا يَنْقَسِمُ، قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَنْقَسِمُ فَيُؤْخَذُ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَال مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا يُكَال أَوْ يُوزَنُ؛ لأَِنَّ الأَْسْوَاقَ تُحَوَّل وَتَخْتَلِفُ فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَالاً تُحِيلُهُ الأَْسْوَاقُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ الْعَيْنُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْمَتَاعِ، بِدَلِيل فِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الإِْمَامُ عَلَى أَهْل الْعُشُورِ الأَْخْذَ مِنَ الثَّمَنِ (2) .
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ: الْقَبَالَةُ (التَّضْمِينُ)
38 - الْقَبَالَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَبَل (بِفَتْحِ الْبَاءِ) قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: " كُل مَنْ تَقَبَّل بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً، وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ، فَعَمَلُهُ الْقِبَالَةُ (بِالْكَسْرِ) ، وَكِتَابُهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الْقَبَالَةُ (بِالْفَتْحِ) .
(3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف 132، والاختيار 1 / 116، وكشاف القناع 3 / 137 - 138.
(2) المنتقى للباجي 2 / 177، ومغني المحتاج 4 / 247.
(3) أساس البلاغة ص490، والنهاية لابن الأثير 4 / 10.(30/114)
نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ عُشُورِ أَمْوَال التِّجَارَةِ، وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَهِيَ تُسَمَّى بِالتَّضْمِينِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لأَِهْل الْعُشُورِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَال، وَلِذَلِكَ مَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى مَنْعِهَا (1) .
مُسْقِطَاتُ الْعُشْرِ:
39 - يَسْقُطُ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى أَمْوَال التِّجَارَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
أ - الإِْسْلاَمُ:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ الْخَاصَّ بِتِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ كُفَّارًا، فَإِذَا دَخَلُوا فِي الإِْسْلاَمِ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ الْمُوجِبُ لِلأَْخْذِ (2) .
ب - إِسْقَاطُ الإِْمَامِ لَهَا:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُ الْعُشُورِ عَنْ بَعْضِ التُّجَّارِ الَّذِينَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 311.
(2) الفواكة الدواني 1 / 395، والأحكام السلطانية للماوردي ص208، وكشاف القناع 3 / 139.(30/115)
يَجْلِبُونَ بَضَائِعَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ: كَالطَّعَامِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ نَأْخُذُ مِنَ الْحَرْبِيِّ شَيْئًا إِذَا كَانَ مِنْ قَوْمٍ لاَ يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا، عَمَلاً بِمَبْدَأِ الْمُجَازَاةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْل.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطَ الْعُشْرِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ (1) .
ج - انْقِطَاعُ حَقِّ الْوِلاَيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ:
42 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى: أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ وَمَرَّ بِالْعَاشِرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَعَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يُعَشِّرْهُ لِمَا مَضَى؛ لاِنْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلاَيَةِ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّ الْعُشْرَ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْعَاشِرِ بِهِ عِنْدَ الْمُرُورِ (2)
مَصَارِفُ الْعُشْرِ:
43 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى: أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ (3) .
وَتَفْصِيل مَصَارِفِ الْفَيْءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فَيْء) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 39، ومنح الجليل 1 / 760، ومغني المحتاج 4 / 247، المغني 8 / 522.
(2) البدائع 2 / 37.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي 126.(30/115)
الْعَشْرُ الأَْوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَشْرُ الأَْوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: تَبْدَأُ مِنْ بِدَايَةِ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتَنْتَهِي بِخُرُوجِ رَمَضَانَ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، فَإِذَا نَقَصَ فَهِيَ تِسْعٌ، وَعَلَيْهِ فَإِطْلاَقُ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلتَّمَامِ، لأَِصَالَتِهِ؛ لأَِنَّ الْعَشْرَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَهِيَ اسْمٌ لِلَّيَالِي مَعَ الأَْيَّامِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُضَاعَفَةِ الْجَهْدِ فِي الطَّاعَاتِ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، بِالْقِيَامِ فِي لَيَالِيهَا، وَالإِْكْثَارِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَمُدَارَسَتِهِ، بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهِ أَوْ يَقْرَأَ هُوَ عَلَى غَيْرِهِ، وَزِيَادَةِ
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 491، 493، المغني 3 / 211.
(2) سورة الفجر / 2.(30/116)
فِعْل الْمَعْرُوفِ وَعَمَل الْخَيْرِ، وَذَلِكَ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْل، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ (2) .
قَال الْعُلَمَاءُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى عِيَالِهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَى أَرْحَامِهِ وَإِلَى جِيرَانِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلاَ سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْهُ (3) .
3 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ أَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فَيَغْدُوَ كَمَا هُوَ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ (4) ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 269) ، ومسلم (2 / 832) .
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 832) من حديث عائشة.
(3) المجموع للنووي 6 / 376 - 449، المغني لابن قدامة 3 / 179.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 129، الفواكه الدواني 1 / 377، المجموع للنووي 6 / 474، المغني لابن قدامة 3 / 211.(30/116)
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يُحِبُّونَ لِمَنِ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى مِنَ الْمَسْجِدِ، لِئَلاَّ يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ، تَمَّ الشَّهْرُ أَوْ نَقَصَ، وَلِمَا ثَبَتَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (1) ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف، مَسْجِد) .
4 - كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ تُرْفَعْ، وَأَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْهُ، وَأَنَّ أَرْجَاهَا لَيَالِي الأَْوْتَارِ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى (3) . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) حديث: " كان يعتكف العشر الأواخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 271) ومسلم (2 / 831) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " من كان اعتكف معي فليعتكف. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 271) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) حديث: " التمسوها في العشر الأواخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 260) من حديث ابن عباس.(30/117)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ)
__________
(1) حديث عائشة: " تحروا ليلة القدر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 259) ومسلم (2 / 828) .(30/117)
عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ
التَّعْرِيفُ
1 - عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ: اسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي يَبْتَدِئُ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ إِلَى الْعَاشِرِ مِنْهُ (1) . الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ: مُضَاعَفَةُ الْعَمَل فِيهَا:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى: أَنَّ أَيَّامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَلَيَالِيَهَا أَيَّامٌ شَرِيفَةٌ وَمُفَضَّلَةٌ، يُضَاعَفُ الْعَمَل فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ الاِجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَةِ فِيهَا، وَزِيَادَةُ عَمَل الْخَيْرِ وَالْبِرِّ بِشَتَّى أَنْوَاعِهِ فِيهَا، وَلِعِظَمِ شَأْنِهَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا بِقَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2) حَيْثُ يَرَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الآْيَةِ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
وَهِيَ أَفْضَل أَيَّامِ السَّنَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَل الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (عشر) و (حج) ، مغني المحتاج 1 / 471، المجموع للنووي 5 / 146، دليل الفالحين 4 / 56، كشاف القناع 2 / 405.
(2) سورة الفجر / 1 - 2.(30/118)
مِنْ هَذِهِ الأَْيَّامِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِل صِيَامَ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (2) .
اسْتِحْبَابُ الصَّوْمِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ:
3 - قَال الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ فِي الْعَشْرِ الأُْوَل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَا عَدَا الْعَاشِرَ مِنْهُ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ عِيدِ الأَْضْحَى الْمُبَارَكِ، فَلاَ يَجُوزُ الصِّيَامُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ، فَالْمُرَادُ مَا عَدَاهُ مِنْ بَاقِي الْعَشْرِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ. أَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَفَضْلُهُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ إِلاَّ لِلْحَاجِّ، لِمَا ثَبَتَ
__________
(1) حديث: " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 457) ، وأبو داود (2 / 518) من حديث ابن عباس واللفظ لأبي داود.
(2) تفسير القرطبي 20 / 39، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 4 / 56، والمغني لابن قدامة 3 / 175. وحديث أبي هريرة: " ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 122) وقال: حديث حسن غريب.(30/118)
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَال: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ (1)
وَفِي مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَغْفِرُ لِلصَّائِمِ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ، وَقَال آخَرُونَ: يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَيَعْصِمُهُ عَنِ الذُّنُوبِ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
أَمَّا فِيمَا يُغْفَرُ مِنَ الذُّنُوبِ بِصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمُرَادُ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ دُونَ الْكَبَائِرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا اجْتُنِبَ الْكَبَائِرُ (2) .
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا لَفْظٌ عَامٌّ وَفَضْل اللَّهِ وَاسِعٌ لاَ يُحْجَرُ، فَيُرْجَى أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَغَائِرُ ف 4، يَوْمُ عَرَفَةَ)
__________
(1) حديث أبي قتادة: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 819) .
(2) حديث: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 209) من حديث أبي هريرة.
(3) تفسير القرطبي 20 / 39، دليل الفالحين 4 / 56، المجموع للنووي 6 / 381 مغني المحتاج 1 / 446، المغني لابن قدامة 3 / 175.(30/119)
عِشْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِشْرَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالتَّعَاشُرِ، وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ. وَالْعَشِيرُ: الْقَرِيبُ، وَالصَّدِيقُ.
وَعَشِيرُ الْمَرْأَةِ: زَوْجُهَا؛ لأَِنَّهُ يُعَاشِرُهَا وَتُعَاشِرُهُ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْل النَّارِ، فَقِيل: لِمَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. (2)
وَالْعِشْرَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الأُْلْفَةِ وَالاِنْضِمَامِ
(3) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النُّشُوزُ:
2 - أَصْل النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ الاِرْتِفَاعُ، وَمِنْ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) حديث: " إني أريتكن أكثر أهل النار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 405) ، ومسلم (11 / 86 - 87) من حديث ابن عمر.
(3) كشاف القناع 5 / 184، مطالب أولى النهي 5 / 254.(30/119)
مَعَانِيهِ: عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَتَرْكُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: هُوَ خُرُوجُ الزَّوْجَةِ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا (2) .
حُكْمُ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعِشْرَةَ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَنْدُوبَةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ، قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ. . وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا (3) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُسَنُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ، وَاحْتِمَال أَذَاهُ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا - أَيِ الْعِشْرَةُ بِالْمَعْرُوفِ - وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ وَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ إِلاَّ أَنْ يَجْرِيَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُوءِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) جواهر الإكليل 1 / 328، مغني المحتاج 3 / 251، كشاف القناع 5 / 209.
(3) بدائع الصنائع 2 / 334.
(4) كشاف القناع 5 / 185.(30/120)
عَادَتِهِمْ، فَيَشْتَرِطُونَهُ وَيَرْبِطُونَهُ بِيَمِينٍ (1) .
الْحَثُّ عَلَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
4 - حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
(3) قَال أَبُو زَيْدٍ: يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ، وَقَال الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: إِذَا أَطَعْنَ اللَّهَ وَأَطَعْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، وَيَكُفَّ عَنْهَا أَذَاهُ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ سَعَتِهِ (4) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ (5)
مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ:
5 - مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الأَْزْوَاجَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} هُوَ: أَدَاءُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 363.
(2) سورة النساء / 19.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 18 ط الرياض، أحكام القرآن للجصاص 1 / 442 المطبعة البهية 1347 هـ.
(5) حديث: " استوصوا بالنساء خيرًا. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 594) والترمذي (5 / 274) من حديث عمرو بن الأحوص، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".(30/120)
الْحُقُوقِ كَامِلَةً لِلْمَرْأَةِ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْمُصَاحَبَةِ (1) .
وَقَال الْجَصَّاصُ: وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ، وَتَرْكِ أَذَاهَا بِالْكَلاَمِ الْغَلِيظِ، وَالإِْعْرَاضِ عَنْهَا، وَالْمَيْل إِلَى غَيْرِهَا، وَتَرْكِ الْعَبُوسِ وَالْقُطُوبِ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} : التَّمَاثُل هَاهُنَا فِي تَأْدِيَةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ يَمْطُلُهُ بِهِ، وَلاَ يُظْهِرُ الْكَرَاهَةَ، بَل بِبِشْرٍ وَطَلاَقَةٍ، وَلاَ يُتْبِعُهُ أَذًى وَلاَ مِنَّةً، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَهَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ صَاحِبِهِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَاحْتِمَال أَذَاهُ (3) .
تَحَقُّقُ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
6 - سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ أَدَاءُ الْحُقُوقِ كَامِلَةً مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْمُصَاحَبَةِ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 312 ط. مصطفى الحلبي 1954 م، وإعانة الطالبين 3 / 371 ط. مصطفى الحلبي 1938م.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 132.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 18.(30/121)
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
حُقُوقُ الزَّوْجِ:
7 - حَقُّ الزَّوْجِ: عَلَى الزَّوْجَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ، بَل إِنَّ حَقَّهُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (1)
قَال الْجَصَّاصُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ.
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا مُقَدَّمٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوْقَهَا (2) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 228.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 442، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 188 ط. عيسى الحلبي 1957 م، المغني لابن قدامة 7 / 18، كشاف القناع 5 / 185.
(3) حديث: " لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 456) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".(30/121)
وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ:
أ - تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا:
8 - إِذَا اسْتَوْفَى عَقْدُ النِّكَاحِ شُرُوطَهُ وَوَقَعَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَى الزَّوْجِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا؛ لأَِنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ وَهُوَ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا كَمَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْعِوَضَ وَهُوَ الْمَهْرُ (1) .
وَلِلْمَرْأَةِ إِنْ طَلَبَهَا الزَّوْجُ أَنْ تَسْأَل الإِْنْظَارَ مُدَّةً جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ تُصْلِحَ أَمْرَهَا فِيهَا كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ.
قَال الْخَرَشِيُّ: الزَّوْجَةُ تُمْهَل زَمَنًا بِقَدْرِ مَا يَتَجَهَّزُ فِيهِ مِثْلُهَا بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ مِنْ غِنًى وَفَقْرٍ، وَيُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنَ الدُّخُول قَبْل مُضِيِّ ذَلِكَ الزَّمَنِ الْمُقَدَّرِ بِالْعَادَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اسْتُمْهِلَتْ لِتَنْظِيفٍ وَنَحْوِهِ أُمْهِلَتْ مَا يَرَاهُ قَاضٍ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا الإِْمْهَال وَاجِبٌ، وَقِيل مُسْتَحَبٌّ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا لاَ تُمْهَل لِعَمَل جِهَازٍ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَفِي الْغُنْيَةِ إِنِ اسْتَمْهَلَتْ هِيَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 248، حاشية الدسوقي 3 / 297، القليوبي وعميرة 3 / 277، كشاف القناع 5 / 185(30/122)
أَوْ أَهْلُهَا اسْتُحِبَّ لَهُ إِجَابَتُهُمْ (1)
ب - مَوَانِعُ التَّسْلِيمِ
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
1) عَدَمُ اسْتِيفَائِهَا لِلْمَهْرِ الْمُعَجَّل:
9 - لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّل.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَسْلِيمٌ ف 19) وَمُصْطَلَحُ: (مَهْرٌ) .
2) الصِّغَرُ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ التَّسْلِيمِ الصِّغَرُ، فَلاَ تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبَرَ وَيَزُول هَذَا الْمَانِعُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى زَوَال مَانِعِ الصِّغَرِ بِتَحَمُّلِهَا لِلْوَطْءِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ قَال الزَّوْجُ: سَلِّمُوهَا لِي وَلاَ أَطَؤُهَا حَتَّى تَحْتَمِلَهُ، فَإِنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ لَهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً، إِذْ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ تِسْعَ
__________
(1) الخرشي علَى خليل 3 / 259، القليوبي وعميرة 3 / 278، كشاف القناع 5 / 187، المغني لابن قدامة 7 / 19.(30/122)
سِنِينَ دُفِعَتْ إِلَى الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهَا بَعْدَ التِّسْعِ وَلَوْ كَانَتْ مَهْزُولَةَ الْجِسْمِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِعَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (1) لَكِنْ قَال الْقَاضِي: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي عَلَى طَرِيقَةِ التَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ ابْنَةَ تِسْعٍ يُتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَإِذَا سُلِّمَتْ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ إِلَيْهِ وَخَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا الإِْفْضَاءَ مِنْ عِظَمِهِ فَلَهَا مَنْعُهُ مِنْ جِمَاعِهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا كَمَا يَسْتَمْتِعُ مِنَ الْحَائِضِ
(2) 3) الْمَرَضُ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا الْمَرَضَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْمَرَضِ هُنَا الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ، وَحِينَئِذٍ تُمْهَل الْمَرْأَةُ إِلَى زَوَال مَرَضِهَا، وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَرِيضَةِ مَنْ بِهَا هُزَالٌ تَتَضَرَّرُ بِالْوَطْءِ مَعَهُ (3) .
-
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 190) ، ومسلم (2 / 1039) .
(2) حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 5 / 186.
(3) فتح القدير 3 / 249، حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 5 / 186.(30/123)
الطَّاعَةُ:
12 - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ طَاعَةُ زَوْجِهَا، فَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلاً انْطَلَقَ غَازِيًا وَأَوْصَى امْرَأَتَهُ أَنْ لاَ تَنْزِل مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ، وَكَانَ وَالِدُهَا فِي أَسْفَل الْبَيْتِ، فَاشْتَكَى أَبُوهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُهُ وَتَسْتَأْمِرُهُ فَأَرْسَل إِلَيْهَا: اتَّقِي اللَّهَ وَأَطِيعِي زَوْجَكِ، ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهَا تُوُفِّيَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَسْتَأْمِرُهُ، فَأَرْسَل إِلَيْهَا مِثْل ذَلِكَ، وَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَل إِلَيْهَا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكِ بِطَوَاعِيَتِكِ لِزَوْجِكِ. (1)
وَقَال أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ، طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا (2) .
وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ الثَّوَابَ الْجَزِيل عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ، كَمَا رَتَّبَ الإِْثْمَ الْعَظِيمَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الزَّوْجِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دَعَا الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ تَأْتِهِ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ. (3)
ثُمَّ إِنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجِ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيعَهُ
__________
(1) حديث أنس: " أن رجلاً انطلق غازيًا ". أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص 176) .
(2) المغني 7 / 20.
(3) حديث: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1060) .(30/123)
فِيمَا لاَ يَحِل مِثْل أَنْ يَطْلُبَ مِنْهَا الْوَطْءَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحَل الْحَرْثِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (1) .
ج - الاِسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ:
13 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، إِذْ عَقْدُ النِّكَاحِ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ زَوْجَتِهِ حَتَّى إِلَى فَرْجِهَا (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حِل النَّظَرِ وَالْمَسِّ مِنْ رَأْسِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ، فَكَانَ إِحْلاَلُهُ إِحْلاَلاً لِلْمَسِّ وَالنَّظَرِ مِنْ طَرِيقِ الأَْوْلَى (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: سَأَل أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الرَّجُل يَمَسُّ فَرْجَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ تَمَسُّ فَرْجَهُ لِيَتَحَرَّكَ عَلَيْهَا هَل تَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا؟ قَال: لاَ، وَأَرْجُو أَنْ يَعْظُمَ الأَْجْرُ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 169 ط دار الكتب المصرية 1937 م، المغني لابن قدامة 7 / 20، أحكام النساء لابن الجوزي 77، 85 وما بعدها ط مكتبة التراث الإسلامي.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 234، ومغني المحتاج 3 / 123،134، وكشاف القناع 5 / 16.
(3) بدائع الصنائع 2 / 331.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 234.(30/124)
كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الاِسْتِمْتَاعَ بِزَوْجَتِهِ كُل وَقْتٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ إِذَا كَانَ الاِسْتِمْتَاعُ فِي الْقُبُل، وَلَوْ كَانَ الاِسْتِمْتَاعُ فِي الْقُبُل مِنْ جِهَةِ عَجِيزَتِهَا (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . (2)
مَنْعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ كُل مَا يَمْنَعُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ أَوْ كَمَالِهِ:
14 - لَمَّا كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ هُوَ اسْتِمْتَاعُ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ، كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ كُل مَا يَمْنَعُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ أَوْ كَمَالِهِ.
وَمِنْ ثَمَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْل مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الاِسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إِجْبَارَهَا عَلَى إِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ (3) .
وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ كُل مَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ، قَال
__________
(1) الخرشي على خليل 3 / 166، حاشية الدسوقي 2 / 215، إعانة الطالبين 3 / 340، كشاف القناع 5 / 188.
(2) سورة البقرة / 223.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 341، حاشية العدوي مع الخرشي 1 / 208، مغني المحتاج 3 / 188، كشاف القناع 5 / 190.(30/124)
الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ، وَمِنَ الْغَزْل.
وَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ التَّزَيُّنِ بِمَا يَتَأَذَّى بِرِيحِهِ، كَأَنْ يَتَأَذَّى بِرَائِحَةِ الْحِنَّاءِ الْمُخْضَرِّ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ ضَرْبُهَا بِتَرْكِ الزِّينَةِ إِذَا كَانَ يُرِيدُهَا (1) .
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلَهُ جَبْرُهَا عَلَى التَّطْيِيبِ وَالاِسْتِحْدَادِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُجْبِرَ زَوْجَتَهُ عَلَى غَسْل مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَعْضَائِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ لُبْسِ مَا كَانَ نَجِسًا، وَلُبْسِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَلَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى التَّنْظِيفِ بِالاِسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الأَْظَافِرِ وَإِزَالَةِ شَعْرِ الإِْبِطِ وَالأَْوْسَاخِ سَوَاءٌ تَفَاحَشَ أَوْ لَمْ يَتَفَاحَشْ، وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَمِنْ أَكْل مَا يَخَافُ مِنْهُ حُدُوثَ مَرَضٍ (3) .
د - التَّأْدِيبُ عِنْدَ النُّشُوزِ:
15 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ تَأْدِيبُهَا عِنْدَ النُّشُوزِ وَالْخُرُوجِ عَلَى طَاعَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 520 ط. الأميرية 1315هـ.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 341 ط. الأميرية 1310هـ.
(3) مغني المحتاج 3 / 189، كشاف القناع 5 / 190.(30/125)
أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} . (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَأْدِيب ف 8) مُصْطَلَحِ: (نُشُوز) .
هـ - عَدَمُ الإِْذْنِ لِمَنْ يَكْرَهُ الزَّوْجُ دُخُولَهُ:
16 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ لأَِحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (2)
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْتَاتُ عَلَى الزَّوْجِ بِالإِْذْنِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لاَ تَعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ بِهِ، أَمَّا لَوْ عَلِمَتْ رِضَا الزَّوْجِ بِذَلِكَ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهَا، كَمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِدْخَال الضِّيفَانِ مَوْضِعًا مُعَدًّا لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا فَلاَ يَفْتَقِرُ إِدْخَالُهُمْ إِلَى إِذْنٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ. . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ إِذْنِهِ تَفْصِيلاً أَوْ إِجْمَالاً (3) .
__________
(1) سورة النساء / 34، وانظر أحكام القرآن للجصاص 2 / 229، حاشية ابن عابدين 3 / 188، مواهب الجليل 4 / 15، 16، مغني المحتاج 3 / 259، المغني 7 / 46.
(2) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 295) ، ومسلم (2 / 711) واللفظ للبخاري.
(3) فتح الباري 9 / 296 ط مكتبة الرياض، ومطالب أولى النهي 5 / 258 ط. المكتب الإسلامي بدمشق.(30/125)
و - عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ:
17 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ؟ فَقَال: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلاَئِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْج ف 5، 6) .
ز - الْخِدْمَةُ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا، وَالأَْوْلَى لَهَا فِعْل مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا دِيَانَةً لاَ قَضَاءً
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا فِي الأَْعْمَال الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 341، فتح القدير 3 / 304، الفواكه الدواني 2 / 48، المغني 7 / 20.
(2) حديث: " أن امرأَة أتت النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الطبراني كما في الترغيب والترهيب للمنذري (3 / 57 - 58) وأشار المنذري إلى تضعيفه.(30/126)
الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهَا الْخِدْمَةُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا فَقِيرَ الْحَال (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِدْمَة ف 18) .
ح - السَّفَرُ بِالزَّوْجَةِ:
19 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ السَّفَرُ وَالاِنْتِقَال بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ بِنِسَائِهِمْ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِلسَّفَرِ بِالزَّوْجَةِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَأْمُونًا عَلَيْهَا (2)
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:
أ - الْمَهْرُ:
20 - مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمَهْرُ (3) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (4) قَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: وَالنِّحْلَةُ هَاهُنَا
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 192، الخرشي على مختصر خليل 4 / 186، وفتح الباري 9 / 324، 506، تحفة المحتاج 8 / 316، كشاف القناع 5 / 195.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 360، جواهر الإكليل 1 / 307، حاشية الدسوقي 2 / 297، 298، القليوبي وعميرة 4 / 74، مطالب أولى النهي 5 / 258.
(3) تبيين الحقائق 2 / 135، القليوبي وعميرة 3 / 299.
(4) سورة النساء / 4.(30/126)
الْفَرِيضَةُ، وَهُوَ مِثْل مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِبَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} .
(1) كَمَا أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَهْرِ زَوْجَتِهِ شَيْئًا إِلاَّ بِرِضَاهَا وَطِيبِ نَفْسِهَا (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِل لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر) .
ب - النَّفَقَةُ:
21 - مِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةُ (4) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (5) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. . .، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. (6) قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ
__________
(1) أحكام القرآن للكيا الهراس 2 / 105، وانظر سورة النساء / 11.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 71، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 316 ط. عيسى الحلبي 1957 م.
(3) سورة البقرة / 229.
(4) تبيين الحقائق 3 / 50، القليوبي وعميرة 4 / 69، كشاف القناع 5 / 460.
(5) سورة الطلاق / 7.
(6) حديث: " فاتقوا الله في النساء ". أخرجه مسلم (2 / 889 - 890) من حديث جابر بن عبد الله.(30/127)
الرَّجُل عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالأَْبِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة)
ج - إِعْفَافُ الزَّوْجَةِ:
22 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يَقُومَ بِإِعْفَافِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَطَأَهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَطْءِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَطْء) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ بِلاَ إِذْنِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَزْل الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (3) ؛ وَلأَِنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا وَعَلَيْهَا فِي الْعَزْل ضَرَرًا فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِإِذْنِهَا. لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعَزْل بِغَيْرِ رِضَا
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة 2 / 181ط. المؤسسة السعيدية بالرياض.
(2) بدائع الصنائع 2 / 331، وفتح القدير 2 / 518، والفواكه الدواني 2 / 46، والبجيرمي على الخطيب 3 / 395، وكشاف القناع 5 / 192.
(3) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عزل الحرة إلا بإذنها ". أخرجه البيهقي (7 / 231) ، وذكر ابن حجر في التلخيص (3 / 188) تضعيف أحد رواته.(30/127)
الزَّوْجَةِ إِنْ خَافَ الزَّوْجُ مِنَ الْوَلَدِ السُّوءَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَزْل) (وَوَطْء) .
د - الْبَيَاتُ عِنْدَ الزَّوْجَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ بَيَاتِ الزَّوْجِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَاتُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِذَا تَشَاغَل الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ بَل يُؤْمَرُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيَصْحَبَهَا أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ كُل أَرْبَعِ لَيَالٍ وَبَاقِيهَا لَهُ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا فِي الثَّلاَثِ بِتَزَوُّجِ ثَلاَثِ حَرَائِرَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ كُل سَبْعٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 379، 380، حاشية الدسوقي 2 / 266، القليوبي وعميرة 4 / 375، كشاف القناع 5 / 189.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 399.(30/128)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ لَيْلَةً مِنْ كُل أَرْبَعِ لَيَالٍ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ سَوَّارٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ رَجُلاً قَطُّ أَفْضَل مِنْ زَوْجِي، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَبِيتُ لَيْلَهُ قَائِمًا وَيَظَل نَهَارَهُ صَائِمًا، فَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَاسْتَحْيَتِ الْمَرْأَةُ وَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلاَّ أَعْدَيْتَ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ فَقَال: مَا ذَاكَ؟ فَقَال: إِنَّهَا جَاءَتْ تَشْكُوهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ فِي الْعِبَادَةِ مَتَى يَتَفَرَّغُ لَهَا؟ فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى زَوْجِهَا وَقَال لِكَعْبٍ اقْضِ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّكَ فَهِمْتَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْهُ، قَال: فَإِنِّي أَرَى أَنَّهَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا ثَلاَثُ نِسْوَةٍ وَهِيَ رَابِعَتُهُنَّ فَاقْضِ لَهُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فَكَانَتْ كَالإِْجْمَاعِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (1) .
وَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَلْزَمُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ مَا يَزُول مَعَهُ ضَرُّ الْوَحْشَةِ، وَيَحْصُل مِنْهُ الأُْنْسُ الْمَقْصُودُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِلاَ تَوْقِيتٍ
__________
(1) حديث: " إن لجسدك عليك حقا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 299) ، ومسلم (2 / 818) ، واللفظ للبخاري.(30/128)
فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ، وَصَوَّبَ الْمِرْدَاوِيُّ هَذَا الْقَوْل، وَمَحَل الْوُجُوبِ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلاَ يَجِبُ بِدُونِ الطَّلَبِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَاتُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ السُّنَّةِ فِي الْبَيَاتِ لَيْلَةٌ فِي كُل أَرْبَعِ لَيَالٍ، اعْتِبَارًا بِمَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وُجُوبَ الْبَيَاتِ عِنْدَهَا، أَوْ يُحْضِرَ لَهَا مُؤْنِسَةً؛ لأَِنَّ تَرْكَهَا وَحْدَهَا ضَرَرٌ بِهَا لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَحَل يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْخَوْفُ مِنَ اللُّصُوصِ (2)
هـ - إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
24 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِخْدَامُهَا؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ،؛ وَلأَِنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ.
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خِدْمَةٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
و الْقَسْمُ:
25 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْقَسْمُ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 191، الإنصاف 8 / 353.
(2) العدوي على الرسالة 2 / 59، حاشية الجمل 4 / 281، البجيرمي على الخطيب 3 / 395.(30/129)
وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ (1) .
فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ يَقْسِمُ فَيَعْدِل، وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْم) .
الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
أ - الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:
26 - الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ صَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ: (ف 3)
ب - الاِسْتِمْتَاعُ:
27 - مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالآْخَرِ، وَهَذَا الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَكِنَّهُ فِي جَانِبِ الرَّجُل أَقْوَى مِنْهُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ: (ف 13) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 397، حاشية الدسوقي 2 / 339، مغني المحتاج 3 / 251، كشاف القناع 5 / 198، المغني لابن قدامة 7 / 27.
(2) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل. . . " أخرجه أبو داود (2 / 601) ، والترمذي (3 / 437) وأعله الترمذي بالإرسال.(30/129)
ج - الإِْرْثُ:
28 - مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الإِْرْثُ، فَيَرِثُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ عِنْدَ وَفَاتِهَا، كَمَا تَرِثُ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ (1) لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 36، 37، 38)
عَشِيرَة
انْظُرْ: عَاقِلَة
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 332.
(2) سورة النساء / 12.(30/130)
عِصَابَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِصَابَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْعَصْبِ، وَهُوَ الطَّيُّ الشَّدِيدُ، يُقَال: عَصَبَ الشَّيْءَ يَعْصِبُهُ عَصْبًا: طَوَاهُ وَلَوَاهُ، وَقِيل: شَدَّهُ، وَالْعِصَابَةُ مَا عُصِبَ بِهِ يُقَال: عَصَبَ رَأْسَهُ وَعَصَبَهُ: شَدَّهُ (1) ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ، وَالْخَيْل، وَالطَّيْرِ (2) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَخُصَّ اسْتِعْمَالُهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَيَيْنِ: الأَْوَّل -
الْعِمَامَةُ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ (3) قَال الْخَطَّابِيُّ: الْعَصَائِبُ الْعَمَائِمُ سُمِّيَتْ عَصَائِبَ؛ لأَِنَّ الرَّأْسَ يُعْصَبُ بِهَا (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) حديث ثوبان: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب ". أخرجه أبو داود (1 / 101) ، والحاكم (1 / 169) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) سنن أبو داود مع شرح الخطابي 1 / 101، 102.(30/130)
الثَّانِي - مَا يُعْصَبُ بِهِ الْجِرَاحَةُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَبِيرَةُ:
2 - الْجَبِيرَةُ لُغَةً: الْعِيدَانُ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى الْعَظْمِ لِتَجْبُرَهُ عَلَى اسْتِوَاءٍ، يُقَال: جَبَرْتُ الْيَدَ أَيْ وَضَعْتَ عَلَيْهَا الْجَبِيرَةَ (2) .
وَاسْتَعْمَلَهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَسَّرُوا الْجَبِيرَةَ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ، حَيْثُ قَالُوا: الْجَبِيرَةُ مَا يُدَاوِي الْجُرْحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَعْوَادًا أَمْ لَزْقَةً أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الْعِصَابَةُ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْعِصَابَةِ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا:
أ - الْمَسْحُ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ - إِلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ فِي الْوُضُوءِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَال: {
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 185.
(2) المصباح المنير ولسان العرب.
(3) ابن عابدين 1 / 185، ومنح الجليل 1 / 96، وأسنى المطالب 1 / 81، والمغني لابن قدامة 1 / 277.(30/131)
تَوَضَّأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ حَائِلٌ فِي مَحَلٍّ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَسْحِهِ فَجَازَ عَلَيْهِ كَالْخُفَّيْنِ، كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (2) ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِذَا خِيفَ عَلَى نَزْعِهَا ضَرَرٌ، أَوْ شَقَّ نَزْعُهَا (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، بَل قَالُوا تُرْفَعُ وَيُمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي رَفْعِهَا، وَالأَْمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَارِدٌ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، بِخِلاَفِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، لِمَا فِي نَزْعِهِ مِنَ الْحَرَجِ فَيَجُوزُ (4)
. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عِمَامَة) (وَمَسْح)
ب - السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ:
4 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَإِنْ صَحَّ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا لاَ فَوْقَ الْجَبْهَةِ (5) .
__________
(1) حديث المغيرة بن شعبة: " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 230) .
(2) شرح الزرقاني على خليل 1 / 130، والمغني لابن قدامة 1 / 300، 301.
(3) شرح الزرقاني 1 / 130.
(4) ابن عابدين 1 / 181.
(5) ابن عابدين 1 / 336، وجواهر الإكليل 1 / 54.(30/131)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، ر: (سُجُودٌ ف 7) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْعِصَابَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِمَامَة) .
ثَانِيًا - الْعِصَابَةُ بِمَعْنَى مَا يُعْصَبُ بِهِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى مَا يُعْصَبُ بِهِ مِنَ اللُّصُوقِ، وَاللَّزُوقِ وَالْجَبَائِرِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ نِيَابَةً عَنِ الْغَسْل أَوِ التَّيَمُّمِ (1) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْعِصَابَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَبِيرَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) البدائع 1 / 13، والمهذب 1 / 44، والمجموع 2 / 323، والمغني لابن قدامة 1 / 277.(30/132)
عَصَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَصَبَةُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَصْبِ، وَهُوَ: الطَّيُّ الشَّدِيدُ، يُقَال: عَصَبَ بِرَأْسِهِ الْعِمَامَةَ: شَدَّهَا، وَلَفَّهَا عَلَيْهِ. وَفِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لأَِبْنَاءِ الرَّجُل، وَأَقَارِبِهِ لأَِبِيهِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: عَصَبَةُ الرَّجُل: أَوْلِيَاؤُهُ الذُّكُورُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ. سُمُّوا عَصَبَتَهُ؛ لأَِنَّهُمْ عُصِبُوا بِنَسَبِهِ، فَالأَْبُ طَرَفٌ، وَالاِبْنُ طَرَفٌ، وَالأَْخُ جَانِبٌ، وَالْعَمُّ جَانِبٌ، وَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ سُمُّوا عَصَبَةً، وَكُل شَيْءٍ اسْتَدَارَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ عُصِبَ بِهِ (1) ، وَيُطْلَقُ عَلَى الَّذِينَ يَرِثُونَ الرَّجُل عَنْ كَلاَلَةٍ: مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ، وَلاَ وَلَدٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُمْ كُل مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ فَيَرِثُ الْمَال إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ذُو فَرْضٍ، أَوْ مَا فَضَل بَعْدَ الْفُرُوضِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، حاشية ابن عابدين 5 / 492.
(2) لسان العرب، نهاية المحتاج 6 / 23.(30/132)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَصْحَابُ الْفُرُوضِ:
2 - هُمُ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذَوُو الأَْرْحَامِ:
3 - هُمْ كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي سَهْمٍ، وَلاَ عَصَبَةٍ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَصَبَةِ:
تَقْدِيمُ الْعَصَبَةِ فِي غُسْل الْمَيِّتِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَصَبَةِ فِي التَّقَدُّمِ فِي غُسْل الْمَيِّتِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ
. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنَائِز ف 4 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَصَبَةُ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ:
5 - لِلْعَصَبَةِ - وَهُوَ الْعَاصِبُ بِنَفْسِهِ هُنَا - الْوِلاَيَةُ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنَ النِّسَاءِ فَيُزَوِّجُ بِالْعُصُوبَةِ وَيُقَدَّمُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الإِْرْثِ إِنِ اجْتَمَعُوا، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الاِبْنَ لاَ يُزَوِّجُ بِالْبُنُوَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 494 - 505، المحلي مع القليوبي 3 / 137.(30/133)
فِي النَّسَبِ فَلاَ يُعْتَنَى بِدَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ ابْنَ ابْنِ عَمٍّ زَوَّجَهَا بِالْعُصُوبَةِ النَّسَبِيَّةِ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ: فَيُزَوِّجُ الاِبْنُ أُمَّهُ بِالْبُنُوَّةِ عِنْدَهُمْ بَل يُقَدَّمُ عَلَى الأَْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُقَدَّمُ الأَْبُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (وِلاَيَةُ النِّكَاحِ) .
حَقُّ الْعَصَبَةِ فِي الْحَضَانَةِ:
6 - إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ مِنَ النِّسَاءِ، انْتَقَل حَقُّ الْحَضَانَةِ إِلَى عَصَبَةِ الْمَحْضُونِ مِنَ الرِّجَال، عَلَى تَرْتِيبِ الإِْرْثِ، فَيُقَدَّمُ الأَْبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ الأَْخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَصَبَاتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة ف 10 وَمَا بَعْدَهَا) .
لُزُومُ دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَصَبَةِ:
7 - تَلْزَمُ دِيَةُ الْخَطَأِ عَاقِلَةَ الْجَانِي وَمِنْهَا عَصَبَتُهُ مِنَ النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الأَْصْل وَالْفَرْعَ، فَلاَ يَعْقِل الأَْصْل وَلاَ الْفَرْعُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 76) (وَعَاقِلَة) .(30/133)
الْعَصَبَةُ فِي الإِْرْثِ:
8 - الْعَصَبَةُ فِي الإِْرْثِ تَنْقَسِمُ إِلَى:
أ - عَاصِبٍ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ: كُل قَرِيبٍ لِلْمَيِّتِ مِنَ الذُّكُورِ لاَ تَفْصِل بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أُنْثَى كَالاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ.
ب - وَعَاصِبٌ بِغَيْرِهِ، وَهُنَّ الْبَنَاتُ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ، وَبَنَاتُ الاِبْنِ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ أَوْ مَعَ بَنِي عَمِّهِنَّ، وَالأَْخَوَاتُ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ، أَوْ مَعَ الْجَدِّ، سَوَاءٌ انْفَرَدْنَ أَمْ تَعَدَّدْنَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَتَأْخُذُ الْعَصَبَةُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهُ، وَتَحُوزُ جَمِيعَ الْمَال إِنِ انْفَرَدَتْ
. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 45 - 50) .
ج - وَعَاصِبٌ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُنَّ: الأَْخَوَاتُ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ مَعَ الْبِنْتِ أَوْ مَعَ بَنَاتِ الاِبْنِ، سَوَاءٌ انْفَرَدْنَ أَمْ تَعَدَّدْنَ.
وَتَأْخُذُ الْعَصَبَةُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ مِنْهُ وَتَحُوزُ جَمِيعَ الْمَال إِنِ انْفَرَدَتْ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 45 - 50) .(30/134)
عَصَبِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَصَبِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُحَامَاةُ، وَالْمُدَافَعَةُ: يُقَال: تَعَصَّبُوا عَلَيْهِمْ: إِذَا تَجَمَّعُوا عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ، وَفِي الأَْثَرِ: الْعَصَبِيُّ مِنْ يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَمِيَّةُ:
2 - الْحَمِيَّةُ هِيَ: الأَْنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ (2) ، فَفِي الأَْثَرِ: الرَّجُل يُقَاتِل حَمِيَّةً، وَيُقَاتِل شَجَاعَةً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة. والأثر: " العصبي من يعين قومه على الظلم " أورده ابن الأثير في النهاية (3: 245) بهذا اللفظ ولم يعزه إلى أي مصدر. وأخرج أبو داود (5 / 341) من حديث واثلة بن الأسقع أنه قال: قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: " أن تعين قومك على الظلم " وترجم الذهبي
(2) متن اللغة.
(3) حديث: " الرجل يقاتل حمية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 441) ، ومسلم (3 / 1513) من حديث أبي موسى الأشعري، واللفظ للبخاري.(30/134)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَصَبِيَّةِ:
3 - الْعَصَبِيَّةُ: بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ إِلَى نُصْرَةِ الْعَشِيرَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ عَلَى الظُّلْمِ حَرَامٌ، فَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، وَتَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ بِكُل أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا: الْعَصَبِيَّةُ لِلْقَبِيلَةِ أَوْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلأَْرْضِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَل عَلَى عَصَبِيَّةٍ (2) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَصَبِيَّةِ لِلْقَبِيلَةِ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ (3)
وَكَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ لِلْقَبِيلَةِ وَنُصْرَتُهَا ظَالِمَةً كَانَتْ أَوْ مَظْلُومَةً سَائِدَةً فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) حديث: " ليس منا من دعا إلى عصبية. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 342) من حديث جبير بن مطعم، وفي إسناده انقطاع وجهالة، كذا في مختصر السنن للمنذري (8 / 19) .
(3) حديث: " دعوها فإنها منتنة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 652) مسلم (4 / 1999) من حديث جابر بن عبد الله.(30/135)
قَبْل الإِْسْلاَمِ، فَأَبْطَلَهَا الإِْسْلاَمُ، وَحَرَّمَ الْعَصَبِيَّةَ، وَالتَّنَاصُرَ عَلَى الظُّلْمِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ فَقَال: تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ. (1)
وَجَعَل الْمُنَاصَرَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ، قَال تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وَعَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِيتَةَ الْمُتَعَصِّبِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَل تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِل فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ (3) .
كَمَا أَبْطَل الإِْسْلاَمُ التَّفَاخُرَ بِالآْبَاءِ وَمَآثِرِ الأَْجْدَادِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ
__________
(1) حديث: " انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 323) ، ومسلم (4 / 1998) من حديث أنس بن مالك.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) حديث: " من خرج من الطاعة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1476 - 1477) من حديث أبي هريرة.(30/135)
يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَل الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ (1)
وَجَعَل الإِْسْلاَمُ أَسَاسَ التَّفَاضُل التَّقْوَى وَالْعَمَل الصَّالِحَ
وَفِي التَّنْزِيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (2)
بَيَّنَ اللَّهُ فِي الآْيَةِ الْغَايَةَ مِنْ جَعْل النَّاسِ شُعُوبًا وَقَبَائِل، وَهِيَ التَّعَارُفُ وَالتَّعَاوُنُ، لاَ التَّنَاحُرُ وَالْخِصَامُ، فَالْعَصَبِيَّةُ بِأَشْكَالِهَا لِلْقَبِيلَةِ أَوْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلَّوْنِ تَتَنَافَى مَعَ الإِْسْلاَمِ (3)
__________
(1) حديث: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 734) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) سورة الحجرات / 13.
(3) تفسير الخازن في تفسير الآية 13 من سورة الحجرات.(30/136)
عَصْر
انْظُرْ: صَلاَةُ الْعَصْرِ.
عُصْفُور
انْظُرْ: أَطْعِمَة.(30/136)
عِصْمَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِصْمَةُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَالْحِفْظِ، وَعِصْمَةُ اللَّهِ عَبْدَهُ: أَنْ يَمْنَعَهُ وَيَحْفَظَهُ مِمَّا يُوبِقُهُ (1) .
وَتُطْلَقُ الْعِصْمَةُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (2) أَيْ: بِعَقْدِ نِكَاحِهِنَّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ: عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِصْمَةِ:
2 - تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِصْمَةِ بِاخْتِلاَفِ إِطْلاَقِهَا:
أ - الْعِصْمَةُ: بِمَعْنَى حِفْظِ اللَّهِ لِلْمُكَلَّفِ مِنَ الذُّنُوبِ مَعَ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِهَا مِنْهُ.
ب - الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ وَهِيَ: الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لِلإِْنْسَانِ وَمَالِهِ قِيمَةٌ، بِحَيْثُ يَجِبُ
__________
(1) لسان العرب، فتح الباري جـ 1 / في شرح حديث: " عصموا دماءرهم ".
(2) سورة الممتحنة / 10.(30/137)
الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ، أَوِ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ هَتَكَهَا.
ج - وَالْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةِ: وَهِيَ: الَّتِي يَأْثَمُ هَاتِكُهَا (1) .
3 - فَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ لِلأَْنْبِيَاءِ، وَالْمَلاَئِكَةِ، وَهِيَ: مَلَكَةٌ يُودِعُهَا اللَّهُ فِيهِمْ تَعْصِمُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَخِلاَفِ الأَْوْلَى، قَال تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلاَئِكَةِ: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . (2)
وَالأَْنْبِيَاءُ مَحْفُوظُونَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، وَالذُّنُوبِ الْبَاطِنَةِ، كَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُول هُوَ الْمَثَل الأَْعْلَى الَّذِي يَجِبُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ فِي اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ، إِذْ هُوَ الأُْسْوَةُ الْحَسَنَةُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ بِالنَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كُل اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ الاِخْتِيَارِيَّةِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مُوَافِقَةً لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَجَبَ أَنْ لاَ يَدْخُل فِي شَيْءٍ مِنَ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ اللَّهَ جَل شَأْنُهُ: أَمَرَ الأُْمَمَ بِالاِقْتِدَاءِ بِرُسُلِهِمْ فَقَال تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) سورة التحريم / 6.(30/137)
لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ} (1) وَقَال فِي حَقِّ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ} (2) فَإِذَا جَازَ أَنْ يَفْعَل الرُّسُل بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَالأَْمْرِ بِالاِقْتِدَاءِ بِهِمُ الْمُحَرَّمَاتِ أَوِ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ خِلاَفَ الأَْوْلَى: لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لاَ يَأْمُرُ بِمُحَرَّمٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ وَلاَ خِلاَفِ الأَْوْلَى (3) ، قَال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (4) ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ أَنَّ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُبُوَّتِهِمْ وَبَعْدَ الأَْمْرِ بِالاِقْتِدَاءِ بِهِمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي وَهَذَا مَا يُسَمَّى: " عِصْمَةُ الرُّسُل (5) ".
أَمَّا عِصْمَتُهُمْ قَبْل النُّبُوَّةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَمَنَعَهَا قَوْمٌ، وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ، وَالصَّحِيحُ تَنْزِيهُهُمْ مِنْ كُل عَيْبٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبْل اصْطِفَائِهِ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُكَلَّفْ بَعْدُ مُطْلَقًا بِشَرْعٍ مَا، فَالْعِصْمَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ وَارِدَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ بَعْدَ وُرُودِ
__________
(1) سورة الممتحنة / 6.
(2) سورة الأحزاب / 21.
(3) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص120 - 132، التعريفات للجرجاني، الشفاء للقاضي عياض 2 / 746 وما قبله وما بعده.
(4) سورة الأعراف / 28.
(5) المصادر السابقة.(30/138)
الشَّرْعِ وَالتَّكْلِيفِ بِهِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ، فَلاَ مَجَال لِبَحْثِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ عَدَمِهَا؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ خَالِيَةٌ مِنَ التَّكْلِيفِ، لَكِنَّ عُلُوَّ فِطْرَةِ الرَّسُول وَصَفَاءَ نَفْسِهِ وَسُمُوَّ رُوحِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أُنْمُوذَجًا رَفِيعًا بَيْنَ قَوْمِهِ، فِي أَخْلاَقِهِ وَمُعَامَلاَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَفِي بُعْدِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ الَّتِي تَنْفِرُ عَنْهَا الْعُقُول السَّلِيمَةُ، وَالطَّبَائِعُ الْمُسْتَقِيمَةُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل اصْطِفَائِهِ قَدْ كُلِّفَ بِشَرْعِ رَسُولٍ سَابِقٍ، كَلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ كَانَ تَابِعًا قَبْل نُبُوَّتِهِ لإِِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي عِصْمَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَلَكِنَّ سِيرَةَ الأَْنْبِيَاءِ الَّتِي أُثِرَتْ عَنْهُمْ قَبْل نُبُوَّتِهِمْ تَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي: كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَبِيّ) .
4 - وَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: وَهِيَ الَّتِي يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ وَمَالِهِ بِهَا قِيمَةٌ، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ هَتَكَهَا، فَهَذِهِ تَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَنْ نَطَقَ بِهِمَا عُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا قَالُوا
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري، والشفاء للقاضي عياض 2 / 793 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 233، والقليوبي 4 / 220 - 221.(30/138)
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (1) ، وَقَوْلِهِ: كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ (2) فَمَنْ قَتَل مُسْلِمًا مَعْصُومَ الدَّمِ يَضْمَنُ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. ر: مُصْطَلَحَ: (قِصَاصٌ) (وَدِيَاتٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَمَنْ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (3) .
ر: مُصْطَلَحَ: (ضَمَانٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا وَمُصْطَلَحَ: غَصْبٌ) .
وَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ أَيْضًا بِأَمَانٍ يَحْقِنُ دَمَهُ بِعَقْدِ ذِمَّةٍ، أَوْ عَهْدٍ أَوْ مُجَرَّدِ أَمَانٍ، وَلَوْ فِي آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَضَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 250) من حديث عمر، وأخرجه مسلم (1 / 53) من حديث جابر.
(2) حديث: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ". أخرجه مسلم (4 / 1986) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة النساء / 29.
(4) حديث: " ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه ". أخرجه أبو داود (3 / 437) وقال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 392) " سنده لا بأس به ".(30/139)
فَلأَِهْل الْعَهْدِ أَنْ يُؤَمَّنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَعَلَى الإِْمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُل مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِهِمْ، فَلاَ يُظْلَمُونَ فِي عَهْدِهِمْ وَلاَ يُؤْذَوْنَ (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الذِّمَّةِ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) مُصْطَلَحِ: (عَهْد)
5 - وَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ: وَهِيَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ: وَهِيَ الَّتِي يَأْثَمُ مَنْ هَتَكَهَا وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ وَلاَ ضَمَانٌ، كَقَتْل مَنْ مُنِعْنَا مِنْ قَتْلِهِ مِنْ أَطْفَال الْحَرْبِيِّينَ وَنِسَائِهِمْ، وَقَتْل الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ، فَيَأْثَمُ قَاتِلُهُ، وَلَكِنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، بَل عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَالاِسْتِغْفَارُ (2) .
الْعِصْمَةُ فِي النِّكَاحِ:
6 - الْعِصْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الأَْصْل بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحِفْظِ؛ إِلاَّ أَنَّهَا تُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى النِّكَاحِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (3) قَال الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالْعِصْمَةِ هُنَا النِّكَاحُ، وَقَالُوا: وَالْمَعْنَى لاَ تَتَمَسَّكُوا بِزَوْجَاتِكُمُ الْكَافِرَاتِ فَلَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 266، حاشية ابن عابدين 3 / 222 - 223.
(2) ابن عابدين 3 / 224 - 225، المحلى والقليوبي 4 / 218، نهاية المحتاج 8 / 64.
(3) سورة الممتحنة / 10.(30/139)
عِصْمَةٌ وَلاَ عَلاَقَةٌ زَوْجِيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ بِمَكَّةَ فَلاَ تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ؛ لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارَيْنِ قَطَعَ عِصْمَتَهَا مِنْهُ فَلاَ يُمْنَعُ نِكَاحَ خَامِسَةٍ، وَلاَ نِكَاحَ أُخْتِهَا (1) .
انْحِلاَل عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَحَلِّهِ:
7 - تَنْحَل عِصْمَةُ النِّكَاحِ بِفَسْخٍ أَوْ طَلاَقٍ، أَمَّا الْفَسْخُ فَيَكُونُ لأَِسْبَابٍ، كَالرِّدَّةِ، وَالْعَيْبِ وَنَحْوِهِمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 44، وَعَيْب وَفَسْخ) .
وَأَمَّا الطَّلاَقُ فَالأَْصْل أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الرَّجُل هُوَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ إِيقَاعُ الطَّلاَقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) وَلِحَدِيثِ: إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (3) .
لَكِنَّ الزَّوْجَةَ - اسْتِثْنَاءٌ مِنْ هَذَا الأَْصْل - قَدْ تَمْلِكُ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ فِي:
أ - تَفْوِيضِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فِي التَّطْلِيقِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ
__________
(1) تفسير القرطبي 18 / 65، 66، وابن كثير 3 / 351.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " إنما الطلاق لمن أمسك بالساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 358) .(30/140)
الرَّجُل امْرَأَتَهُ فِي تَطْلِيقِ نَفْسِهَا مِنْهُ، فَيَكُونُ لَهَا حَقُّ التَّطْلِيقِ، أَيْ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَإِنْهَاءُ الْعِصْمَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْوِيض ف 9 - 13) .
ب - اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بِيَدِهَا:
9 - نَصَّ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا نَكَحَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا صَحَّ إِذَا ابْتَدَأَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْكَ عَلَى أَنَّ أَمْرِي بِيَدِي أُطَلِّقُ نَفْسِي كُلَّمَا شِئْتُ، فَقَال الزَّوْجُ: قَبِلْتُ. جَازَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، أَمَّا لَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَال: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنَّ أَمْرَكِ بِيَدِكِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلاَ يَكُونُ أَمْرُهَا بِيَدِهَا؛ لأَِنَّ التَّفْوِيضَ وَقَعَ قَبْل الزَّوَاجِ وَلَمْ يُعَلَّقْ عَلَيْهِ تَوَقُّعُ التَّفْوِيضِ قَبْل أَنْ يَمْلِكَ الطَّلاَقَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مَتَى أَحَبَّتْ فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْل الدُّخُول وَثَبَتَ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْل وَأُلْغِيَ الشَّرْطُ فَلاَ يُعْمَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُخِلٌّ (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 485، والفتاوى الهندية 1 / 273.
(2) الشرح الصغير 2 / 386.(30/140)
عَضّ
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَضُّ فِي اللُّغَةِ: الشَّدُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالأَْسْنَانِ، وَالإِْمْسَاكُ بِهِ. تَقُول عَضِضْتُ اللُّقْمَةَ، وَعَضِضْتُ بِهَا، وَعَلَيْهَا عَضًّا: إِذَا أَمْسَكْتَهَا بِالأَْسْنَانِ، كَذَلِكَ عَضَّ الْفَرَسُ عَلَى لِجَامِهِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَْنَامِل مِنَ الْغَيْظِ} . (2)
وَفِي الْحَدِيثِ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا (3) أَيِ الْزَمُوهَا وَاسْتَمْسِكُوا بِهَا
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لَوْ عَضَّ إِنْسَانٌ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ (4) وَحَصَل
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) سورة آل عمران / 119.
(3) حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء. . . " أخرجه الترمذي (5 / 44) من حديث العرباض بن سارية، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) وهذا في غير حالة الدفاع، إذ العض لا يجوز بحال في غير الدفع (نهاية المحتاج وحواشيه 8 / 26) .(30/141)
مِنْهُ جُرْحٌ يَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ جُرْحِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ حُكُومَةَ عَدْلٍ، يُقَدِّرُهَا أَهْل الْخِبْرَةِ، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي لاَ يَكُونُ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ (1)
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا عَضَّ فَسَل الْمَعْضُوضُ يَدَهُ فَقَلَعَ الْمَعْضُوضُ أَسْنَانَ الْعَاضِّ هَل فِيهِ ضَمَانٌ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ عَضَّ رَجُلٌ يَدَ آخَرَ فَلَهُ جَذْبُهَا مِنْ فِيهِ، فَإِنْ جَذَبَهَا فَوَقَعَتْ ثَنَايَا الْعَاضِّ فَلاَ ضَمَانَ فِيهَا (2) ؛ لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَال: كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَل إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآْخَرِ، قَال: فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، قَال: عَطَاءٌ: وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ يَقْضِمُهَا؟ (3) ،
__________
(1) الاختيار 5 / 42، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 167، وروضة الطالبين 9 / 265، والمغني لابن قدامة 8 / 44.
(2) مجمع الضمانات للبغدادي ص168، وجواهر الإكليل 2 / 197، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 26، ومغني المحتاج للشربيني 4 / 197، والمغني لابن قدامة 8 / 333، 334.
(3) حديث: " أفيدع يده في فيك تقضمها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 1113) ومسلم (3 / 1301) من حديث يعلي بن أمية واللفظ للبخاري، وانظر المغني لابن قدامة 8 / 334.(30/141)
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيُّ: فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَنَذَرَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْل؟ لاَ دِيَةَ لَهُ (1) .
وَيَسْتَدِل ابْنُ قُدَامَةَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ عُضْوٌ تَلِفَ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ صَال عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِقَطْعِ عُضْوِهِ (2) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الضَّمَانِ بِمَا إِذَا أَخَذَ الْمَعْضُوضُ فِي التَّخَلُّصِ بِالأَْسْهَل فَالأَْسْهَل، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي دَفْعِ الصَّائِل، حَيْثُ قَالُوا: لَوْ عُضَّتْ يَدُهُ أَوْ غَيْرُهَا خَلَّصَهَا بِالأَْسْهَل مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ أَوْ ضَرْبِ شَدْقَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الأَْسْهَل فَسَلَّهَا فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ فَهَدَرٌ (3) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَلَوْ عَدَل عَنِ الأَْخَفِّ مَعَ إِمْكَانِهِ ضَمِنَ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَإِطْلاَقُ الْكَثِيرِينَ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ سَل يَدَهُ ابْتِدَاءً فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ
__________
(1) حديث: " يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل. . . ". أخرجه النسائي (8 / 29) من حديث عمران بن حصين، وهو في البخاري (فتح الباري 12 / 219) ومسلم (3 / 1300) .
(2) المغني لابن قدامة 8 / 334.
(3) مغني المحتاج 4 / 197، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 26.(30/142)
كَانَتْ مُهْدَرَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ا. هـ. (1)
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي إِمْكَانِ الدَّفْعِ بِأَيْسَرَ مِمَّا دَفَعَ بِهِ صُدِّقَ الْمَعْضُوضُ بِيَمِينِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّمْلِيُّ عَنِ الأَْذْرَعِيِّ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا عَضَّهُ فَسَل الْمَعْضُوضُ يَدَهُ فَقَلَعَ الْمَعْضُوضُ أَسْنَانَ الْعَاضِّ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 197.
(2) نهاية المحتاج 8 / 26.
(3) جواهر الإكليل 2 / 297.(30/142)
عَضْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَضْل فِي اللُّغَةِ مِنْ: عَضَل الرَّجُل حُرْمَتَهُ عَضْلاً - مِنْ بَابَيْ قَتَل وَضَرَبَ - مَنَعَهَا التَّزْوِيجَ، وَعَضْل الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ: حَبْسُهَا، وَعَضَل بِهِمُ الْمَكَانُ: ضَاقَ، وَأَعْضَل الأَْمْرُ: اشْتَدَّ، وَمِنْهُ: دَاءٌ عُضَالٌ أَيْ شَدِيدٌ (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الْعَضْل فِي النِّكَاحِ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّزْوِيجِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَعْنَى الْعَضْل: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ وَرَغِبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ (2) .
وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلُوا الْعَضْل فِي الْخُلْعِ بِمَعْنَى: الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ عَضَل زَوْجَتَهُ، وَضَارَّهَا بِالضَّرْبِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَنَعَهَا حُقُوقَهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَالْعِوَضُ مَرْدُودٌ (3) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) مغني المحتاج 3 / 153، والمغني 6 / 477.
(3) المغني 7 / 54 - 55.(30/143)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ عَضْل الْوَلِيِّ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا مِنْ كُفْئِهَا حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ ظُلْمٌ، وَإِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ فِي مَنْعِهَا حَقَّهَا فِي التَّزْوِيجِ بِمَنْ تَرْضَاهُ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ مُخَاطِبًا الأَْوْلِيَاءَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (1)
كَمَا أَنَّ عَضْل الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، بِمُضَارَّتِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ ظُلْمٌ لَهَا بِمَنْعِهَا حَقَّهَا مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَمِنَ النَّفَقَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأَْزْوَاجَ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . (2)
3 - وَيُبَاحُ عَضْل الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، كَأَنْ تَطْلُبَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَيَمْتَنِعَ عَنْ تَزْوِيجِهَا لِمَصْلَحَتِهَا.
كَمَا يُبَاحُ مِنَ الزَّوْجِ، بِالتَّضْيِيقِ عَلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ إِتْيَانِهَا الْفَاحِشَةَ (3) ، لِلنَّصِّ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 232.
(2) سورة النساء / 19.
(3) ابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، والقرطبي 2 / 158 و5 / 94، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 194، 201، ومغني المحتاج 3 / 153، ونهاية المحتاج 6 / 229، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، 213، والمغني 6 / 477، و7 / 54 - 55.(30/143)
ذَلِكَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1)
مَتَى يُعْتَبَرُ الْعَضْل؟
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَضْل فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَضْل الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِمُضَارَّتِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا قَاصِدًا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَسْتَحِقُّهُ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خُلْع ف 10) .
الثَّانِي: عَضْل الْوَلِيِّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الزَّوَاجِ مِنْ كُفْءٍ، أَوْ خَطَبَهَا كُفْءٌ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنْ تَزْوِيجِهِ دُونَ سَبَبٍ مَقْبُولٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاضِلاً؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا مِنْ كُفْءٍ، وَسَوَاءٌ طَلَبَتِ التَّزْوِيجَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ مَحْضُ حَقِّهَا وَعِوَضٌ يَخْتَصُّ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ،؛ وَلأَِنَّهَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ سَقَطَ كُلُّهُ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الاِمْتِنَاعُ عَنِ التَّزْوِيجِ بِمَهْرِ الْمِثْل لاَ يُعْتَبَرُ عَضْلاً.
__________
(1) سورة النساء / 19.(30/144)
وَلاَ يُعْتَبَرُ الْوَلِيُّ عَاضِلاً إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ.
لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الأَْبَ الْمُجْبِرَ لاَ يُعْتَبَرُ عَاضِلاً بِرَدِّ الْخَاطِبِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ، لِمَا جُبِل الأَْبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَلِجَهْلِهَا بِمَصَالِحِ نَفْسِهَا، إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَصَدَ الإِْضْرَارَ بِهَا.
وَلَوْ دَعَتِ الْمَرْأَةُ لِكُفْءٍ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا مِنْ كُفْءٍ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: كُفْءُ الْوَلِيِّ أَوْلَى إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا؛ لأَِنَّهُ أَكْمَل نَظَرًا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا فَالْمُعْتَبَرُ مَنْ عَيَّنَتْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُ الْوَلِيَّ إِجَابَتُهَا إِلَى كُفْئِهَا إِعْفَافًا لَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَلِيُّ عَنْ تَزْوِيجِهَا مِنَ الَّذِي أَرَادَتْهُ كَانَ عَاضِلاً، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ اسْتَظْهَرَهُ فِي الْبَحْرِ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ (1)
أَثَرُ الْعَضْل.
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَضْل بِسَبَبٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، ومغني المحتاج 3 / 153 - 154، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، والمغني 6 / 477 - 478.(30/144)
مَقْبُولٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى غَيْرِهِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ الْوِلاَيَةُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنَ الْقَاسِمِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَنْتَقِل إِلَى السُّلْطَانِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْوَلِيَّ قَدِ امْتَنَعَ ظُلْمًا مِنْ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَيَقُومُ السُّلْطَانُ مَقَامَهُ لإِِزَالَةِ الظُّلْمِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَامْتَنَعَ عَنْ قَضَائِهِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشُرَيْحٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْعَضْل دُونَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا عَضَل الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ التَّزْوِيجُ مِنْ جِهَةِ الأَْقْرَبِ فَمَلَكَهُ الأَْبْعَدُ كَمَا لَوْ جُنَّ،؛ وَلأَِنَّهُ يَفْسُقُ بِالْعَضْل فَتَنْتَقِل الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، فَإِنْ عَضَل الأَْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَأَمَّا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ فَيُحْمَل عَلَى مَا إِذَا عَضَل الْكُل؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنِ اشْتَجَرُوا. . . ضَمِيرُ جَمْعٍ يَتَنَاوَل الْكُل.
__________
(1) حديث: " فإن اشتجروا فالسلطان ولى من. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 399) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: حديث حسن.(30/145)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَكَرَّرَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ، فَإِنْ كَانَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ لِلْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ وِلاَيَةِ الْفَاسِقِ؛ لأَِنَّهُ يَفْسُقُ بِتَكَرُّرِ الْعَضْل مِنْهُ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْعَاضِل، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَنْتَقِل الْحَقُّ لِلأَْبْعَدِ؛ لأَِنَّ عَضْل الأَْقْرَبِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَيَنْتَقِل الْحَقُّ لِلأَْبْعَدِ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلاَ يَظْهَرُ كَوْنُهُ وَكِيلاً لَهُ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، كَمَا لَوْ كَانَ غَائِبًا (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 251 - 252، والمبسوط 4 / 221، وابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، ومغني المحتاج 3 / 153، ونهاية المحتاج 6 / 229، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، والمغني 6 / 476 - 477.(30/145)
عُضْوٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُضْوُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فِي اللُّغَةِ: كُل عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ.
وَأَصْل الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ. يُقَال: عَضَى الشَّيْءَ: فَرَّقَهُ وَوَزَّعَهُ. وَالْعِضَةُ: الْقِطْعَةُ وَالْفُرْقَةُ (1) . وَفِي التَّنْزِيل: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (2) أَيْ: أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ (3) .
وَيُطْلَقُ الْعُضْوُ عَلَى جُزْءٍ مُتَمَيِّزٍ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالأُْذُنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّرَفُ:
2 - الطَّرَفُ: النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ،
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، ومتن اللغة.
(2) سورة الحجر / 91.
(3) تفسير القرطبي 10 / 59.
(4) حاشية القليوبي 1 / 337.(30/146)
وَطَرَفُ كُل شَيْءٍ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ وَجَانِبُهُ، قَال تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} (1) وَالْجَمْعُ أَطْرَافٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَطْرَافِ الْبَدَنِ (2) .
فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرِ الطَّرَفُ أَخَصُّ مِنَ الْعُضْوِ
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعُضْوِ:
3 - عُضْوُ الآْدَمِيِّ لَهُ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ، كَوُجُوبِ طَهَارَتِهِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ، وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا، وَكَوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَحُكْمِ غُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ إِذَا وُجِدَ مُبَانًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِيمَا يَلِي:
أ - الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ:
4 - مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَسَلِيمَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَلَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ رِجْلِهِ وَجَبَ غَسْل بَاقِيهَا إِلَى الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ، لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنْ مَحَل الْعُضْوِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ،
__________
(1) سورة هود / 114.
(2) متن اللغة، ولسان العرب.(30/146)
فَكُل عُضْوٍ سَقَطَ بَعْضُهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَاقِيهِ غَسْلاً وَمَسْحًا (1) .
أَمَّا إِذَا قُطِعَتَا مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ سَقَطَ الْغَسْل، وَلاَ يَجِبُ غَسْل بَاقِي عَضُدِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَل الْفَرْضِ (2) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: نُدِبَ غَسْل بَاقِي عَضُدِهِ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ (3) .
أَمَّا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ، بِأَنْ سُل عَظْمُ الذِّرَاعِ وَبَقِيَ الْعَظْمَانِ الْمُسَمَّيَانِ بِرَأْسِ الْعَضُدِ، فَيَجِبُ غَسْل رَأْسِ عَظْمِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ غَسْل الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلاَقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا غُسِل الآْخَرُ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَغْسِل أَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ مَوْضِعَ الْقَطْعِ، إِذْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ، بِخِلاَفِ أَقْطَعِ الرِّجْلَيْنِ، قَال الْحَطَّابُ فِي وَجْهِ التَّفْرِقَةِ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْكَعْبَانِ اللَّذَانِ إِلَيْهِمَا حَدُّ الْوُضُوءِ هُمَا اللَّذَانِ فِي
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 1 / 13، والفتاوى الهندية 1 / 5، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 85، 87، ومغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(2) فتح القدير 1 / 13، والهندية 1 / 5، والشرح الكبير للدردير 1 / 85، 87 ومغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(3) مغني المحتاج 1 / 52.
(4) مغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.(30/147)
السَّاقَيْنِ فَيُغْسَلاَنِ، أَمَّا الْمِرْفَقُ فَهُوَ مِنَ الذِّرَاعَيْنِ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ فَلاَ يُغْسَل (1)
ب - الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الزَّائِدِ فِي الْغَسْل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوٌ زَائِدٌ، كَإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ يَدٍ زَائِدَةٍ، فِي مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الأَْصْلِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا نَابِتَةٌ فِيهِ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتِ الزَّائِدَةُ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، كَالإِْصْبَعِ أَوِ الْكَفِّ عَلَى الْعُضْوِ أَوِ الْمَنْكِبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ خُلِقَتْ لَهُ كَفٌّ بِمَنْكِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ غَيْرُهَا يَجِبُ غَسْلُهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ يَدٌ سِوَاهَا فَلاَ يَجِبُ غَسْل الْكَفِّ إِلاَّ إِذَا نَبَتَتْ فِي مَحَل الْفَرْضِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِرْفَقٌ، فَتُغْسَل لِلْمِرْفَقِ؛ لأَِنَّ لَهَا حُكْمَ الْيَدِ الأَْصْلِيَّةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ فَلاَ غَسْل مَا لَمْ تَصِل لِمَحَل الْفَرْضِ (3) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعُضْوَ الزَّائِدَ
__________
(1) الحطاب 1 / 192.
(2) مراقي الفلاح ص 33، وجواهر الإكليل 1 / 14، ومغني المحتاج 1 / 52، 53 والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 87، وجواهر الإكليل 1 / 14.(30/147)
إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، كَالْعَضُدِ أَوِ الْمَنْكِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَصِيرًا أَمْ طَوِيلاً؛ لأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَل عَلَى الْوَجْهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء)
ج - الْعُضْوُ الْمُبَانُ:
6 - الْعُضْوُ الْمُبَانُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِْنْسَانِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ مِنَ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ كُل حَالَةٍ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ يُدْفَنُ بِغَيْرِ غُسْلٍ وَصَلاَةٍ وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا (2) .
ثَانِيًا - الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ الْمَيِّتِ:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ رَأْسُ الْمَيِّتِ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَوْ أَعْضَائِهِ الأُْخْرَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 123.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 260، والدسوقي 1 / 426، والحطاب 2 / 249، والقليوبي 1 / 338، ونهاية المحتاج 1 / 341، ومغني المحتاج 1 / 348، والمغني لابن قدامة 1 / 88، 2 / 540.(30/148)
وَكَانَتْ أَقَل مِنْ نِصْفِهِ فَإِنَّهَا لاَ تُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهَا، قَال الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيلِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْغُسْل وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَلاَ حُكْمَ لِلْيَسِيرِ (1) .
أَمَّا إِذَا وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلاَ رَأْسٍ، فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ غُسْل دُونَ الْجُل، يَعْنِي دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغَسَّل عَلَى الْمُعْتَمَدِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ وُجُوبًا بَعْدَ غُسْلِهِ، كَمَا وَرَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ؛ وَلأَِنَّهُ بَعْضٌ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 576، ومواهب الجليل للحطاب وبهامشه المواق 2 / 249، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 426.
(2) ابن عابدين 1 / 576.
(3) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 / 426.
(4) مغني المحتاج 1 / 348، والقليوبي 1 / 337، والمغني لابن قدامة 2 / 539.(30/148)
جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالأَْكْثَرِ (1) .
ثَالِثًا: الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ مَأْكُول اللَّحْمِ (غَيْرِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ) قَبْل ذَبْحِهِ يُعْتَبَرُ مَيْتَةً لاَ يَحِل أَكْلُهُ (2) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (3) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
(4) أَمَّا مَا أُبِينَ مِنَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَيَحِل أَكْلُهُ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَيْتَةَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ يَحِل أَكْلُهَا (5) . فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَال وَالْكَبِدُ. (6)
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 539، 540.
(2) البدائع 5 / 40 - 44، وحاشية ابن عابدين 5 / 270، والشرح الكبير للدردير 2 / 109، والقليوبي 4 / 241، 242، والمغني لابن قدامة 8 / 556.
(3) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه أبو داود (3 / 277) ، والحاكم (4 / 239) من حديث أبي واقد بلفظ: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة " وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(4) سورة المائدة / 3.
(5) المراجع السابقة.
(6) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 254) من حديث ابن عمر، وصحح إسناده موقوفًا على ابن عمر، وقال: وهو في معنى المسند.(30/149)
أَمَّا الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ مِنَ الْمَيْتَةِ فَهُوَ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة، وَصَيْد) .
الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوِ الآْدَمِيِّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الآْدَمِيِّ عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا أَمْكَنَ التَّمَاثُل، بِأَنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنَ الْمِفْصَل مَثَلاً.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِصَاصٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَمَّا إِذَا جُرِحَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يُمْكِنِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ الأَْرْشُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) (وَأَرْش ف 4) (وَدِيَات ف 34) .(30/149)
عَطَاء
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَطَاءُ - يُمَدُّ وَيُقْصَرُ - مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَطْوِ: وَهُوَ التَّنَاوُل، يُقَال: عَطَوْتُ الشَّيْءَ أَعْطُو: تَنَاوَلْتُهُ، وَفِي الأَْثَرِ: أَرْبَى الرِّبَا عَطْوُ الرَّجُل عِرْضَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ (1) أَيْ: تَنَاوُلُهُ بِالذَّمِّ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى بِهِ، وَالْجَمْعُ عَطَايَا، وَأَعْطِيَةٌ (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِمَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلْمُسْتَحِقِّينَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرِّزْقُ:
2 - الرِّزْقُ: وَهُوَ بِالْكَسْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ رَزَقَ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ لُغَةً: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْجَمْعُ أَرْزَاقٌ.
__________
(1) حديث: " أربى الربا عطو الرجل عرض. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 193) من حديث سعيد بن زيد بلفظ " إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق " وذكره المنذري في الترغيب (3 / 340) وقال: رواه أحمد والبزار ورواة أحمد ثقات.
(2) لسان العرب، متن اللغة، المصباح المنير.
(3) ابن عابدين 5 / 411.(30/150)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَطَاءُ، وَيَشْمَل مَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلْمُسْتَحِقِّينَ، وَغَيْرَهُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدْفَعُ بِلاَ مُقَابِلٍ.
قَال الرَّاغِبُ: يُقَال لِلْعَطَاءِ الْجَارِي: رِزْقٌ، دِينِيًّا كَانَ أَمْ دُنْيَوِيًّا، وَلِلنَّصِيبِ، وَلِمَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ وَيُتَغَذَّى بِهِ. (1)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ فَقَالُوا: الرِّزْقُ: مَا يُفْرَضُ لِلرَّجُل فِي بَيْتِ الْمَال بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ، مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً، وَالْعَطَاءُ: مَا يُفْرَضُ لِلرَّجُل فِي كُل سَنَةٍ لاَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بَل بِصَبْرِهِ وَعَنَائِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: الْعَطَاءُ: مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِل، وَالرِّزْقُ: مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ الْمَال وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَطَاءِ:
أَوَّلاً: الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
يُصْرَفُ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لأَِصْنَافٍ:
1 - عَطَاءُ الْجُنْدِ:
ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الإِْثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:
3 - الأَْوَّل: الْوَصْفُ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الإِْثْبَاتُ فِي
__________
(1) لسان العرب، ابن عابدين 3 / 281.
(2) ابن عابدين 5 / 411.(30/150)
الدِّيوَانِ، وَيُرَاعَى فِيهِ خَمْسَةُ أَوْصَافٍ:
الْوَصْفُ الأَْوَّل: الْبُلُوغُ؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ مِنْ جُمْلَةِ الذَّرَارِيِّ وَالأَْتْبَاعِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ وَيَجْرِي فِي عَطَاءِ الذَّرَارِيِّ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ؛ لأَِنَّ الْمَمْلُوكَ لِسَيِّدِهِ، فَكَانَ دَاخِلاً فِي عَطَائِهِ. . وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمَا أَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ قَال: " مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَال نَصِيبٌ إِلاَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا (1) .
وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ اعْتِبَارَ الْحُرِّيَّةِ، وَجَوَّزَ إِفْرَادَ الْعَبِيدِ بِالْعَطَاءِ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ: الإِْسْلاَمُ، لِيَدْفَعَ عَنِ الْمِلَّةِ بِاعْتِقَادِهِ، وَيُوثَقُ بِنُصْحِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أُثْبِتَ ذِمِّيٌّ لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ ارْتَدَّ مُسْلِمٌ سَقَطَ. . وَهَذَا قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ مَنَعَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْكُفَّارِ فِي الْجِهَادِ.
الْوَصْفُ الرَّابِعُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِتَال، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمِنًا وَلاَ أَعْمَى وَلاَ أَقْطَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ، فَأَمَّا الأَْعْرَجُ فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أُثْبِتَ،
__________
(1) أثر عمر: " ما من المسلمين أحد إلا وله. . . ". أخرجه أحمد (1 / 42) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1 / 281) .(30/151)
وَإِنْ كَانَ رَاجِلاً لَمْ يُثْبَتْ.
الْوَصْفُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِقْدَامٌ عَلَى الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةٌ بِالْقِتَال، فَإِنْ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنِ الإِْقْدَامِ أَوْ قَلَّتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْقِتَال لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ؛ لأَِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الأَْوْصَافُ فِي شَخْصٍ كَانَ إِثْبَاتُهُ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ مَوْقُوفًا عَلَى الطَّلَبِ وَالإِْيجَابِ، الطَّلَبِ مِنْهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ كُل عَمَلٍ، وَالإِْيجَابِ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ.
وَإِذَا أُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ مَشْهُورُ الاِسْمِ نَبِيهُ الْقَدْرِ لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ أَوْ يُنْعَتَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَغْمُورِينَ فِي النَّاسِ حُلِّيَ وَنُعِتَ، لِئَلاَّ تَتَّفِقَ الأَْسْمَاءُ أَوْ يُدْعَى وَقْتَ الْعَطَاءِ، وَضُمَّ إِلَى نَقِيبٍ عَلَيْهِ أَوْ عَرِيفٍ لَهُ لِيَكُونَ مَأْخُوذًا بِدَرَكِهِ (1) .
الثَّانِي: السَّبَبُ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي التَّرْتِيبِ:
4 - إِذَا أُثْبِتَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ اعْتُبِرَ فِي تَرْتِيبِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالآْخَرُ خَاصٌّ.
فَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ تَرْتِيبُ الْقَبَائِل وَالأَْجْنَاسِ حَتَّى تَتَمَيَّزَ كُل قَبِيلَةٍ عَنْ غَيْرِهَا وَكُل جِنْسٍ عَمَّنْ خَالَفَهُ، لِتَكُونَ دَعْوَةُ الدِّيوَانِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ مَعْرُوفٍ بِالنَّسَبِ يَزُول بِهِ التَّنَازُعُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص203، 204، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 240، 241، نهاية المحتاج 6 / 139، المغني 6 / 418.(30/151)
وَالتَّجَاذُبُ، فَإِنْ كَانُوا عَرَبًا تَرَتَّبَتْ قَبَائِلُهُمْ بِالْقُرْبَى مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ دَوَّنَهُمْ، فَيَكُونُ بَنُو هَاشِمٍ قُطْبَ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَقْرَبِ الأَْنْسَابِ إِلَيْهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ الأَْنْصَارُ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ ثُمَّ الْعَجَمُ، وَإِنْ كَانُوا عَجَمًا لاَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى نَسَبٍ فَالَّذِي يَجْمَعُهُمْ عِنْدَ فَقْدِ النَّسَبِ أَمْرَانِ: إِمَّا أَجْنَاسٌ، وَإِمَّا بِلاَدٌ، فَإِذَا تَمَيَّزُوا بِأَحَدِهِمَا وَكَانَ لَهُمْ سَابِقَةٌ فِي الإِْسْلاَمِ تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا فِي الدِّيوَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةٌ تَرَتَّبُوا بِالْقُرْبِ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَبِالسَّبْقِ إِلَى طَاعَتِهِ.
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْخَاصُّ: فَهُوَ تَرْتِيبُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَيُرَتَّبُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ تَكَافَأُوا فَبِالدِّينِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهِ فَبِالسِّنِّ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهِ فَبِالشَّجَاعَةِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهَا فَوَلِيُّ الأَْمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ أَوْ يُرَتِّبَهُمْ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ. (1)
الثَّالِثُ: الْحَال الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ:
5 - تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ لِمَنْ يُثْبَتُ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 204 / 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 241 - 242، المغني 6 / 417، نهاية المحتاج 6 / 139.(30/152)
مُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الْتِمَاسِ مَادَّةٍ تَقْطَعُهُ عَنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ. وَالْكِفَايَةُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: عَدَدُ مَنْ يَعُولُهُمْ مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالزَّوْجَاتِ وَالْخَدَمِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُزَادُ ذُو الْوَلَدِ وَالزَّوْجَاتِ مِنْ أَجْل وَلَدِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَيُزَادُ مَنْ لَهُ خَدَمٌ لِمَصْلَحَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ بِمَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ حَسْبَ مُؤْنَتِهِمْ فِي كِفَايَتِهِ. وَيُرَاعَى حَالُهُ فِي مُرُوءَتِهِ وَعَادَةِ الْبَلَدِ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمُؤْنَةِ.
الثَّانِي: عَدَدُ مَا يَرْتَبِطُهُ مِنَ الْخَيْل وَالظَّهْرِ، فَيُزَادُ ذُو الْفَرَسِ مِنْ أَجْل فَرَسِهِ وَكَذَلِكَ ذُو الظَّهْرِ.
الثَّالِثُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّهُ فِي الْغَلاَءِ وَالرُّخْصِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ الْكِفَايَةُ.
وَبِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي بَيَانِ الْكِفَايَةِ تُقَدَّرُ النَّفَقَةُ، فَيَكُونُ مَا يُقَدَّرُ فِي عَطَائِهِ، ثُمَّ يُعْرَضُ حَالُهُ، فَإِنْ زَادَتْ رَوَاتِبُهُ الْمَاسَّةُ زِيدَ، وَإِنْ نَقَصَتْ نُقِصَ (1) .
6 - وَإِذَا اتَّفَقَ مُثْبَتُونَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ وَتَفَاوَتُوا فِي غَيْرِهَا كَالسَّبْقِ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالْغَنَاءِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِصَال. . فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْضِيل بِسَبَبِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 242، أسنى المطالب 3 / 89، المغني 6 / 417.(30/152)
هَذَا التَّفَاوُتِ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ:
فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَرَى التَّسْوِيَةَ فِي الْعَطَاءِ وَلاَ يَرَى التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُزَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ - أَيْ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ - لِنَسَبٍ عَرِيقٍ أَوْ سَبْقِ الإِْسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْخِصَال الْمَرْضِيَّةِ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَال، بَل يَسْتَوُونَ كَالإِْرْثِ وَالْغَنِيمَةِ؛ لأَِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِسَبَبِ تَرَصُّدِهِمْ لِلْجِهَادِ وَكُلُّهُمْ مُتَرَصِّدُونَ لَهُ.
وَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَهُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ (1) .
وَقَدْ نَاظَرَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حِينَ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فَقَال: أَتُسَوِّي بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ خَوْفَ السَّيْفِ؟ فَقَال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ بَلاَغٍ لِلرَّاكِبِ، فَقَال
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 90، المغني 6 / 417 - 418، الأحكام السلطانية للماوردي 201، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 238.(30/153)
لَهُ عُمَرُ: لاَ أَجْعَل مَنْ قَاتَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ قَاتَل مَعَهُ
وَلَمَّا وَضَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدِّيوَانَ فَضَّل بِالسَّابِقَةِ، فَفَرَضَ لِكُل وَاحِدٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فِي كُل سَنَةٍ (1) ، وَلِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَأَلْحَقَ بِهِمُ الْعَبَّاسَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِكُل مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَْنْصَارِ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ، وَلَمْ يُفَضِّل عَلَى أَهْل بَدْرٍ أَحَدًا إِلاَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِمَنْ هَاجَرَ قَبْل الْفَتْحِ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ، وَلِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَفَرَضَ لِغِلْمَانٍ أَحْدَاثٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ كَفَرَائِضِ مُسْلِمِي الْفَتْحِ.
وَفَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ أُمَّهُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَال لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: لِمَ تُفَضِّل عُمَرَ عَلَيْنَا وَقَدْ هَاجَرَ آبَاؤُنَا وَشَهِدُوا بَدْرًا؟ قَال: أُفَضِّلُهُ لِمَكَانِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِ الَّذِي يَسْتَعْتِبُ بِأُمٍّ مِثْل أُمِّ سَلَمَةَ أَعْتِبُهُ.
__________
(1) أثر عمر: " أنه فرض للبدريين خمسة آلاف. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 323) عن إسماعيل عن قيس قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم.(30/153)
وَفَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأُِسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَقَال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَضْتَ لِي ثَلاَثَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَفَرَضْتَ لأُِسَامَةَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَقَدْ شَهِدْتُ مَا لَمْ يَشْهَدْ أُسَامَةُ، فَقَال عُمَرُ: زِدْتُهُ لأَِنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيكَ.
ثُمَّ فَرَضَ لِلنَّاسِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَجِهَادِهِمْ، وَفَرَضَ لأَِهْل الْيَمَنِ وَقَيْسٍ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ لِكُل رَجُلٍ مِنْ أَلْفَيْنِ إِلَى أَلْفٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ إِلَى ثَلاَثِمِائَةٍ (1) .
الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ:
7 - إِذَا قُدِّرَ رِزْقُ مَنْ أُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ بِالْكِفَايَةِ هَل يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا اتَّسَعَ الْمَال لَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ الْعِجْلِيِّ: وَالْفَيْءُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، فَقَدْ جَعَل لِلْغَنِيِّ حَقًّا فِي الزِّيَادَةِ، وَالْغَنِيُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا فَضَل عَنْ حَاجَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 201 - 202، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 238 - 239.(30/154)
الْكِفَايَةِ لاَ تَجُوزُ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَال؛ لأَِنَّ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال لاَ تُوضَعُ إِلاَّ فِي الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ (1)
وَقْتُ الْعَطَاءِ:
8 - وَيَكُونُ وَقْتُ الْعَطَاءِ لِلْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ مَعْلُومًا يَتَوَقَّعُهُ الْجَيْشُ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْوَقْتِ الَّذِي تُسْتَوْفَى فِيهِ حُقُوقُ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ جُعِل الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُل سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتَيْنِ جُعِل الْعَطَاءُ فِي كُل سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي كُل شَهْرٍ جُعِل الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُل شَهْرٍ، لِيَكُونَ الْمَال مَصْرُوفًا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ عِنْدَ حُصُولِهِ فَلاَ يُحْبَسُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ وَلاَ يُطَالِبُونَ بِهِ إِذَا تَأَخَّرَ.
وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَكَانَ حَاصِلاً فِي بَيْتِ الْمَال كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ.
وَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَال لِعَوَارِضَ أَبْطَلَتْ حُقُوقَهُ أَوْ أَخَّرَتْهَا كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَال وَلَيْسَ لَهُمْ مُطَالَبَةُ وَلِيِّ الأَْمْرِ بِهِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنِهِ (2) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.(30/154)
مَا يَدْخُل فِي الْعَطَاءِ وَمَا لاَ يَدْخُل:
9 - إِذَا نَفَقَتْ دَابَّةُ أَحَدِ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ فِي حَرْبٍ عُوِّضَ عَنْهَا، وَإِنْ نَفَقَتْ فِي غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يُعَوَّضْ.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ سِلاَحَهُ فِيهَا عُوِّضَ عَنْهُ إِنْ لَمْ يَدْخُل فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعَوَّضْ إِنْ دَخَل فِيهِ.
وَإِذَا جُرِّدَ لِسَفَرٍ أُعْطِيَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِنْ لَمْ تَدْخُل فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعْطَ إِنْ دَخَلَتْ فِيهِ (1)
إِرْثُ الْعَطَاءِ:
10 - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَطَاءِ مِنْ دِيوَانِ الْجُنْدِ أَوْ قُتِل كَانَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ عَطَاءٍ مَوْرُوثًا عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ دَيْنٌ لِوَرَثَتِهِ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَفَصَّل الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ الْقَوْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَال: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ - أَيِ الْمُسْتَحِقِّينَ - بَعْدَ جَمْعِ الْمَال وَتَمَامِ الْحَوْل - إِنْ كَانَ الصَّرْفُ مُسَانَهَةً، وَفِي مَعْنَاهُ الشَّهْرُ إِنْ كَانَ مُشَاهَرَةً - فَنَصِيبُهُ لِوَارِثِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لاَزِمٌ لَهُ فَيَنْتَقِل لِوَارِثِهِ كَالدَّيْنِ وَلاَ يَسْقُطُ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ كَالإِْرْثِ، وَمَنْ مَاتَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل وَبَعْدَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.(30/155)
الْجَمْعِ لِلْمَال فَقِسْطُهُ لِوَارِثِهِ كَالأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل وَقَبْل جَمْعِ الْمَال فَلاَ شَيْءَ لِوَارِثِهِ إِذِ الْحَقُّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِجَمْعِ الْمَال، وَلاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ بِالأَْوْلَى إِذَا مَاتَ مُوَرِّثُهُ الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل وَقَبْل الْجَمْعِ.
وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ دُفِعَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ حَتَّى تَنْكِحَ الزَّوْجَةُ وَيَسْتَقِل الأَْوْلاَدُ بِالْكَسْبِ (1)
2 - عَطَاءُ ذَوِي الْحَاجَةِ:
11 - يَفْرِضُ الإِْمَامُ كَذَلِكَ لِلأَْيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل وَكُل مَنْ شَمَلَتْهُمْ آيَةُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى} (2) فَيَفْرِضُ لَهُمْ عَطَاءً وُجُوبًا فِي بَيْتِ الْمَال قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ
3 - عَطَاءُ الْقَائِمِينَ بِالْمَصَالِحِ وَالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ:
12 - كُل مَنْ كَانَ عَمَلُهُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ: قَاضٍ، وَمُفْتٍ، وَعَالِمٍ، وَمُعَلِّمِ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، وَمُؤَذِّنٍ، وَإِمَامٍ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243، أسنى المطالب 3 / 91، المغني 6 / 418.
(2) سورة الحشر / 7.(30/155)
يُفْرَضُ لَهُمُ الْعَطَاءُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لِئَلاَّ يَتَعَطَّل مَنْ ذُكِرَ بِالاِكْتِسَابِ عَنِ الاِشْتِغَال بِهَذِهِ الأَْعْمَال وَالْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ، وَعَنِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فَيُرْزَقُونَ لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ.
وَقَدْرُ الْمُعْطَى إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ ضِيقِ الْمَال وَسَعَتِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْت الْمَال ف 12، 13) .
ثَانِيًا: الْعَطَاءُ الْمُنَجَّزُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:
13 - الْعَطَاءُ الْمُنَجَّزُ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَال، إِذَا كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطَاءُ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الثُّلُثِ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ (3) وَالْحَدِيثُ يَدُل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 281، مغني المحتاج 3 / 93، نهاية المحتاج 6 / 139، المغني 6 / 418.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 521، القليوبي على المحلى 3 / 162، المغني لابن قدامة 6 / 71 وما بعده.
(3) حديث: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 904) من حديث أبي هريرة، وأشار ابن حجر أن له طرقًا كلها ضعيفة لكن قد يقوى بعضها بعضًا. كما في بلوغ المرام (399) .(30/156)
مِنَ الثُّلُثِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْحَال الظَّاهِرُ مِنْهَا الْمَوْتُ، فَكَانَ عَطِيَّةً فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ لاَ تَتَجَاوَزُ الثُّلُثَ كَالْوَصِيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
14 - وَحُكْمُ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقِفُ نُفُوذُهَا عَلَى خُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ لِوَارِثٍ إِلاَّ بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ فَضِيلَتَهَا نَاقِصَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ أَفْضَل الصَّدَقَةِ فَقَال: أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُل الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِل حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ. (2)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُزَاحِمُ بِهَا الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ حَال الْمَوْتِ، لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 521، القليوبي 3 / 162، والمغني 6 / 71 وما بعده.
(2) حديث: " أن تصدق وأنت صحيح شحيح. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 373) ، ومسلم (2 / 716) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.(30/156)
وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ فِي أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لاَزِمَةٌ فِي حَقِّ الْمُعْطِي فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ عَنِ الزِّيَادَةِ مِنَ الثُّلُثِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لاَ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِجَازَتَهَا وَلاَ رَدَّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّبَرُّعَ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ فَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدِ التَّبَرُّعُ وَلاَ الْعَطِيَّةُ، بِخِلاَفِ الْعَطِيَّةِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَتِ الْعَطِيَّةُ مِنْهُ وَالْقَبُول وَالْقَبْضُ مِنَ الْمُعْطَى فَلَزِمَتْ كَالْوَصِيَّةِ إِذَا قُبِلَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الثَّانِي: أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي حَال حَيَاةِ الْمُعْطِي، وَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَالْوَصَايَا لاَ حُكْمَ لِقَبُولِهَا وَلاَ رَدِّهَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْعَطِيَّةَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَال، فَيُعْتَبَرُ شُرُوطُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ شُرُوطُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَطِيَّةَ تَفْتَقِرُ إِلَى شُرُوطِهَا الْمَشْرُوطَةِ لَهَا فِي الصِّحَّةِ: مِنَ الْعِلْمِ، وَكَوْنِهَا لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ وَغَرَرٍ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِخِلاَفِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا قَوْل أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُمْ تَقْدِيمُهُ؛ لأَِنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ(30/157)
بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْرِي وَقْفُهُ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ لاَزِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ، وَكَمَا لَوْ تَسَاوَى الْحَقَّانِ (1) .
الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا مَاتَ قَبْل الْقَبْضِ لِلْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ كَانَتِ الْخِيَرَةُ لِلْوَرَثَةِ إِنْ شَاءُوا قَبَضُوا وَإِنْ شَاءُوا مَنَعُوا، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ بِالْقَبُول بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ (2) .
أَمَّا مَا لَزِمَ الْمَرِيضَ فِي مَرَضِهِ مِنْ حَقٍّ لاَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ وَإِسْقَاطُهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَمَا عَاوَضَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَمَا يُتَغَابَنُ بِهِ زِيَادَةً مِنَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْمَال، وَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِمَهْرِ الْمِثْل يُحْسَبُ مِنْ صُلْبِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ صَرَفَ مَالَهُ فِي حَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ، وَإِنِ اشْتَرَى أَطْعِمَةً لاَ يَأْكُل مِنْهَا مِثْلُهُ جَازَ وَصَحَّ شِرَاؤُهُ؛ لأَِنَّهُ صَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ (3) .
16 - وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هَذِهِ أَحْكَامُهُ فِي الْعَطَاءِ شَرْطَانِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 435 وما بعده، شرح فتح القدير 9 / 389 وما بعده، القليوبي 3 / 162، المغني 6 / 71، 72.
(2) المصادر السابقة، وابن عابدين 5 / 435، القليوبي 3 / 162.
(3) المصادر السابقة، وابن عابدين 5 / 435، المغني 6 / 83 - 94.(30/157)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِل بِمَرَضِهِ الْمَوْتُ، وَلَوْ شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ الَّذِي أَعْطَى فِيهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُ عَطِيَّتِهِ حُكْمُ عَطِيَّةِ الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا، وَهُوَ مَا لاَ تَمْتَدُّ مَعَهُ الْحَيَاةُ عَادَةً فِي الأَْغْلَبِ الأَْعَمِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا كَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ وَنَحْوِهِ فَحُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ مِنْهُ عَادَةً، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي كَوْنِهِ مَخُوفًا لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ بِشَهَادَةِ طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَمَّا الأَْمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالْجُذَامِ وَالسُّل فَإِنْ أَضْنَى صَاحِبَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَل كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَعَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَال، وَبِهِ يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ قَالُوا: لأَِنَّهَا أَمْرَاضٌ مُزْمِنَةٌ لاَ قَاتِلَةٌ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ فَتُحْسَبُ عَطِيَّتُهُ مِنْ صُلْبِ الْمَال (1)
ثَالِثًا: عَطَاءُ الأَْوْلاَدِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلأَْصْل وَإِنْ عَلاَ الْعَدْل فِيمَا يُعْطِيهِ أَوْلاَدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْعَطِيَّةُ هِبَةً أَمْ هَدِيَّةً أَمْ صَدَقَةً أَمْ وَقْفًا أَمْ تَبَرُّعًا آخَرَ (2) لِحَدِيثِ: {
__________
(1) ابن عابدين 5 / 423، المغني 6 / 84.
(2) ابن عابدين 3 / 422، نهاية المحتاج 5 / 415، القليوبي على المحلي 3 / 112.(30/158)
اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 11 وَ 12) .
عُطَاس
انْظُرْ: تَشْمِيت
عَطَب
انْظُرْ: تَلَف
عِطْر
انْظُرْ: تَطَيُّب
عَطِيَّة
انْظُرْ: هِبَة
__________
(1) حديث: " اتقوا الله واعدلوا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 211) ومسلم (3 / 1243) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.(30/158)
عَظْم
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَظْمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ مِنْ قَصَبِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (1) ، وَالْجَمْعُ أَعْظُمُ وَعِظَامٌ، وَعَظَامِهُ بِالْهَاءِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَظْمِ:
طَهَارَةُ الْعَظْمِ أَوْ نَجَاسَتُهُ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَظْمَ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (3) الآْيَةَ، وَمِنَ التَّكْرِيمِ أَنْ لاَ يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ عَظْمَ السَّمَكِ يَبْقَى طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) سورة المؤمنون / 14.
(2) لسان العرب.
(3) سورة الإسراء / 70.(30/159)
أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَال.
(1) كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ عَظْمَ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمَذْبُوحِ شَرْعًا طَاهِرٌ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَظْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْمَذْبُوحِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ أَوْ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَسَوَاءٌ فِي غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ ذُبِحَ أَوْ لَمْ يُذْبَحْ، وَأَنَّهَا لاَ تَطْهُرُ بِحَالٍ، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (2) ؛ وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَرِهَ أَنْ يَدَّهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ؛ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ. وَكَذَا مَا أُبِينَ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْعِظَامِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا؛ لأَِنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَال خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ، وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِظَامَ الْفِيَلَةِ، وَرَخَّصَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَابْنُ جُرَيْجٍ
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1102) وذكره البيهقي (1 / 254) موقوفًا على ابن عمر وقال: هذا إسناد صحيح وهو في معنى المسند.
(2) سورة المائدة / 3.(30/159)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عَاج ف 4، 5، 6)
الاِسْتِنْجَاءُ بِالْعَظْمِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ أَوِ الاِسْتِجْمَارُ بِالْعَظْمِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْعَظْمُ طَاهِرًا كَعَظْمِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُذَكَّى أَوْ نَجِسًا كَعَظْمِ الْمَيْتَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَقَال: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضُ بِهَا - أَوْ نَحْوَهُ - وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ (2) وَلِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سَأَل الْجِنُّ الزَّادَ رَبَّهُمْ فَقَال: لَكُمْ كُل عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُل بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ (3) وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ خَالَفَ النَّهْيَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 138، وجواهر الإكليل 1 / 8، 9، ومغني المحتاج 1 / 78، والمجموع للنووي 1 / 236، والمغني لابن قدامة 1 / 72.
(2) حديث: " ابغني أحجارًا استنفض بها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 255) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " لكم كل عظم ذكر اسم الله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 332) من حديث ابن مسعود.(30/160)
وَاسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ لَمْ يُجْزِئْهُ وَكَانَ عَاصِيًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ وَقَال: إِنَّهُمَا لاَ تُطَهِّرَانِ. (1)
؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِنْجَاءَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ لاَ تَحْصُل بِحَرَامٍ، لَكِنَّهُ يَكْفِيهِ الْحَجَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَنْتَشِرِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَظْمِ زُهُومَةٌ.
وَلَوْ أَحْرَقَ عَظْمًا طَاهِرًا بِالنَّارِ وَخَرَجَ عَنْ حَال الْعَظْمِ فَهَل يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ؟ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ (2) أَيْ: الاِسْتِنْجَاءِ بِهِمَا وَالرِّمَّةُ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَالِي بِنَارٍ أَوِ الْبَالِي بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ؛ لأَِنَّ النَّارَ أَحَالَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ حَال الْعَظْمِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الاِسْتِنْجَاءِ بِهِ. (3)
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بروث. . " أخرجه الدارقطني (1 / 56) من حديث أبي هريرة، وقال: إسناده صحيح.
(2) حديث: " نهى عن الروث والرمة. . . ". أخرجه أحمد (2 / 247) من حديث أبي هريرة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (13 / 100) .
(3) المجموع للنووي 2 / 119، المغني لابن قدامة 1 / 156.(30/160)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الاِسْتِنْجَاءُ بِالْعَظْمِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّهُ يُجَفِّفُ النَّجَاسَةَ وَيُنَقِّي الْمَحَل.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ - وَهُوَ حَدِيثُ الْجِنِّ - أَنَّ الْعَظْمَ لَوْ كَانَ عَظْمَ مَيْتَةٍ لاَ يُكْرَهُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَظْمُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَجِسًا كَعَظْمِ الْمَيْتَةِ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِجْمَارُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَظْمُ طَاهِرًا كَعَظْمِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُذَكَّى فَيَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ (2)
الذَّبْحُ بِالْعَظْمِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح ف 41)
الْقِصَاصُ فِي الْعَظْمِ.
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ إِلاَّ مِنْ مِفْصَلٍ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي غَيْرِ الْمِفْصَل، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قِصَاص) (وَقَوَد) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 266.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19.(30/161)
عِفَاص
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِفَاصُ - وِزَانُ كِتَابٍ - فِي اللُّغَةِ: قَال أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجِلْدُ الَّذِي تَلْبَسُهُ رَأْسُ الْقَارُورَةِ الْعِفَاصُ؛ لأَِنَّهُ كَالْوِعَاءِ لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا بِالصِّمَامِ الَّذِي يَدْخُل فِي فَمِ الْقَارُورَةِ فَيَكُونُ سِدَادًا لَهَا، وَقَال اللَّيْثُ: الْعِفَاصُ صِمَامُ الْقَارُورَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالْقَوْل مَا قَال أَبُو عُبَيْدٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ اللُّقَطَةُ (أَيِ: الْمَال الْمُلْتَقَطُ) سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِلْدٍ أَمْ خِرْقَةٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهِمْيَانُ:
2 - الْهِمْيَانُ - بِكَسْرِ الْهَاءِ -: كِيسٌ تُجْعَل فِيهِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) فتح القدير 5 / 356 نشر دار إحياء التراث، والدسوقي 4 / 118، والمهذب 1 / 436.(30/161)
النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا: رُخِّصَ فِيهِ لِلْحَاجِّ لِوَضْعِ النَّفَقَةِ فِيهِ (2) .
أَمَّا الْعِفَاصُ فَإِنَّهُ يَأْتِي ذِكْرُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ بِاعْتِبَارِهِ وِعَاءً لِلْمَال الْمُلْتَقَطِ.
ب - الْوِكَاءُ:
الْوِكَاءُ - بِكَسْرِ الْوَاوِ - فِي اللُّغَةِ: الْحَبْل يُشَدُّ بِهِ رَأْسُ الْقِرْبَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خَيْطُ اللُّقَطَةِ الْمَشْدُودَةِ بِهِ
(3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِمَّا تُعْرَفُ بِهِ اللُّقَطَةُ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْعِفَاصُ عَلاَمَةٌ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي يُتَعَرَّفُ بِهَا عَلَى اللُّقَطَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَإِلاَّ فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ. (4)
__________
(1) المصباح المنير.
(2) البدائع 2 / 186، والمغني 3 / 304.
(3) المصباح المنير، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 120.
(4) حديث زيد بن خالد الجهني: " اعرف وكاءها وعفاصها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 430) ، ومسلم (3 / 1347) ، واللفظ للبخاري.(30/162)
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفِي مَعْرِفَةُ الْعِفَاصِ وَحْدَهُ لاِسْتِحْقَاقِ اللُّقَطَةِ وَأَخْذِهَا مِنَ الْمُلْتَقِطِ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ مَعْرِفَةُ سَائِرِ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ كَمَعْرِفَةِ الْوِكَاءِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَهَكَذَا. . أَوْ مَعْرِفَةُ أَغْلَبِهَا (1) .
وَلَمْ يُفَصِّل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِيمَا إِذَا عَرَفَ مُدَّعِي مِلْكِيَّةِ اللُّقَطَةِ الْعِفَاصَ فَقَطْ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ بَعْضُ التَّفْصِيل.
قَالُوا: مَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ فَقَطْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ اللُّقَطَةُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَال أَشْهَبُ: لاَ بُدَّ مِنَ الْيَمِينِ.
وَمَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ فَقَطْ وَجَهِل الْوِكَاءَ فَلاَ تُدْفَعُ إِلَيْهِ اللُّقَطَةُ فِي الْحَال، بَل يَنْتَظِرُ لَعَل غَيْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَثْبَتَ مِمَّا أَتَى بِهِ الأَْوَّل فَيَأْخُذَهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَثْبَتَ مِمَّا أَتَى بِهِ الأَْوَّل أَوْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَصْلاً اسْتَحَقَّهَا الأَْوَّل، وَإِنْ غَلَطَ بِأَنْ ذَكَرَ الْعِفَاصَ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الْغَلَطَ فَلاَ تُدْفَعُ لَهُ عَلَى الأَْظْهَرِ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَقَال أَصْبَغُ: يُقْضَى بِاللَّقْطَةِ لِمَنْ عَرَفَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 426، والدسوقي 4 / 118، وأسنى المطالب 2 / 491، والمغني 5 / 707.(30/162)
الْعِفَاصَ فَقَطْ بِيَمِينٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْعَدَدَ وَالْوَزْنَ (1) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِمُدَّعِيهَا عِنْدَ مَعْرِفَةِ عَلاَمَاتِهَا وَأَوْصَافِهَا أَوْ جَوَازِ الدَّفْعِ وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ مَعَ الْبَيِّنَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَة)
__________
(1) البدائع 6 / 202، والدسوقي 4 / 118 - 119، ونهاية المحتاج 5 / 436 وما بعدها، والمغني 5 / 709 - 711.(30/163)
عِفَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِفَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْكَفُّ عَمَّا لاَ يَحِل وَلاَ يَجْمُل، يُقَال: عَفَّ الرَّجُل وَعَفَّتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الْمَحَارِمِ، يَعِفُّ عِفَّةً وَعَفًّا، وَعَفَافًا، فَهُوَ عَفِيفٌ، وَفِي الْمُؤَنَّثَةِ يُزَادُ فِيهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ: إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالأَْطْمَاعِ الدَّنِيَّةِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
الْحَصَانَةُ:
2 - تُطْلَقُ الْحَصَانَةُ عَلَى مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الْعِفَّةُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ} (3) أَيِ: الْعَفِيفَاتِ.
وَالثَّانِي: الزَّوَاجُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (4) عَطْفًا عَلَى
__________
(1) لسان العرب.
(2) المطلع على أبواب المقنع ص321.
(3) سورة النور / 23.
(4) سورة النساء / 24.(30/163)
قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ ذَوَاتِ الأَْزْوَاجِ فَهُنَّ مُحْصَنَاتٌ بِأَزْوَاجِهِنَّ.
وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ (1) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (2) أَيِ الْحَرَائِرَ.
وَالرَّابِعُ: الإِْسْلاَمُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (3) أَيْ إِذَا أَسْلَمْنَ، فَيَكُونُ إِحْصَانُهَا هَاهُنَا إِسْلاَمَهَا، وَهَذَا قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالأَْسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (4) .
فَالْحَصَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعِفَّةِ
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِفَّةِ:
الْعِفَّةُ عَنِ الأَْطْمَاعِ وَسُؤَال النَّاسِ:
3 - يَحْرِصُ الإِْسْلاَمُ عَلَى حِفْظِ كَرَامَةِ الإِْنْسَانِ وَصَوْنِهِ عَنِ الاِبْتِذَال، فَيَحْرُمُ السُّؤَال عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَال مِنْ مَالٍ أَوْ قُدْرَةٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وتفسير ابن كثير، 1 / 474، 3 / 276، وتفسير الماوردي 1 / 376
(2) سورة النساء / 25.
(3) سورة النساء / 25.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 476 ط عيسى الحلبي، وتفسير الماوردي 1 / 379، 380.(30/164)
عَلَى التَّكَسُّبِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الصَّدَقَةِ، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَهَا، لِفَقْرٍ أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنِ الْكَسْبِ، فَيَجُوزُ لَهُ السُّؤَال بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بِشُرُوطٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُؤَال ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا:
4 - وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِفَّةِ عَنْ رَذِيلَةِ الزِّنَا فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} إِلَى أَنْ قَال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ (2)
وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا، وَكُل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَالنَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ وَالاِخْتِلاَءِ بِهَا، وَقَال: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (3) وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعِفَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
__________
(1) سورة المؤمنون 1 - 6.
(2) حديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 58) ، ومسلم (1 / 76) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة النور / 30.(30/164)
فَضْلِهِ} (1) وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَسَائِل الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْعِفَّةِ فَأَمَرَ الْقَادِرِينَ عَلَى مُؤْنَةِ النِّكَاحِ بِالتَّزَوُّجِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ (2) وَأَمَرَ غَيْرَ الْقَادِرِينَ بِالتَّعَفُّفِ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالصَّوْمِ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (3) أَيْ وِقَايَةٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَجِدُ الأُْهْبَةَ وَتَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى الْجِمَاعِ وَيَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا أَنْ يَتَزَوَّجَ؛ لأَِنَّ اجْتِنَابَ الزِّنَا وَاجِبٌ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كَسْرِ الشَّهْوَةِ إِلَى الْجِمَاعِ بِالأَْدْوِيَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهْوَة ف 16) وَمُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .
إِعْفَافُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعْفَافِ الأُْصُول عَلَى الْفُرُوعِ وَالْفُرُوعِ عَلَى أُصُولِهِمْ،
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) حديث: " يا معشر الشباب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ، ومسلم (2 / 1018، 1019) .
(3) حديث: " يا معشر الشباب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ، ومسلم (2 / 1018، 1019) .(30/165)
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْفَاف: ف 5) (وَنِكَاح) وَمُصْطَلَحِ: (نَفَقَة)
نِكَاحُ الْعَفِيفِ بِالزَّانِيَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُل الْعَفِيفِ بِالْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أَوِ الْمَرْأَةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُل الزَّانِي، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ زِنَا الرَّجُل لاَ يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعَفِيفَةِ وَأَنَّ زِنَا الْمَرْأَةِ لاَ يُحَرِّمُهَا عَلَى الرَّجُل الْعَفِيفِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِل لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ نِكَاحُهَا إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَالثَّانِي: أَنْ تَتُوبَ مِنَ الزِّنَا (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 292، المهذب 2 / 44، والمغني 6 / 601.(30/165)
عَفَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَفَل فِي اللُّغَةِ: لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي قُبُل الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْقَرْنُ، وَلاَ يَكُونُ فِي الأَْبْكَارِ وَلاَ يُصِيبُ الْمَرْأَةَ إِلاَّ بَعْدَمَا تَلِدُ.
وَقِيل: هُوَ وَرَمٌ يَكُونُ بَيْنَ مَسْلَكَيِ الْمَرْأَةِ فَيَضِيقُ فَرْجُهَا حَتَّى يَمْتَنِعَ الإِْيلاَجُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّتْقُ:
2 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِلَحْمٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ مَسْدُودًا مُلْتَصِقًا لاَ يَسْلُكُهَا الذَّكَرُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير والمغرب.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 278، حاشية القليوبي 3 / 261، كشاف القناع 5 / 109، المغني لابن قدامة 6 / 650، 651، مطالب أولي النهى 5 / 147، والزاهر للأزهري ص316.
(3) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 261.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 101.(30/166)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفَل وَالرَّتْقِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْعَفَل يَكُونُ بَعْدَ أَنْ تَلِدَ، أَمَّا الرَّتْقُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْعَفَل وَالرَّتْقِ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ
ب - الْقَرَنُ:
3 - الْقَرَنُ هُوَ: انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِعَظْمٍ، وَقِيل: بِلَحْمٍ، وَقِيل: بِغُدَّةٍ غَلِيظَةٍ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفَل وَالْقَرَنِ: أَنَّ الْعَفَل يَكُونُ بِلَحْمٍ، وَأَمَّا الْقَرَنُ فَقَدْ يَكُونُ بِلَحْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْقَرَنُ أَعَمُّ.
وَكُلٌّ مِنْ الْعَفَل وَالْقَرَنِ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْعَفَل مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لِلزَّوْجِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ الأَْصْلِيَّ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 25، حاشية الدسوقي 2 / 248، حاشية القليوبي وعميرة 3 / 261.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 278، كشاف القناع 5 / 109، 110.(30/166)
بِعَيْبٍ فِي الآْخَرِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ زِيَادٍ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِيهِ مِنَ الثَّلاَثَةِ: الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْأَةِ وَالَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ هِيَ الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ، وَهُمَا عِنْدَهُمُ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْهَا، فِي الرَّتْقِ بِلَحْمٍ، وَفِي الْقَرَنِ بِعَظْمٍ، وَقِيل: بِلَحْمٍ يَنْبُتُ فِيهِ وَيَخْرُجُ الْبَوْل مِنْ ثُقْبَةٍ ضَيِّقَةٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 267 ط. الأميرية 1316هـ.
(2) شرح روض الطالب 3 / 176.(30/167)
عَفْو
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْقَاطُ، قَال تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} (1) ، وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} (2) . أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْل لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالإِْعْطَاءُ، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيل: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الإِْسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ
(3) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّفْحُ:
2 - الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الإِْعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَال تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) سورة الأعراف / 95.
(3) اللسان، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 66، والنهاية في غريب الحديث والأثر 3 / 265.
(4) سورة الحجر / 85.(30/167)
قَال الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَال تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1) وَقَدْ يَعْفُو الإِْنْسَانُ وَلاَ يَصْفَحُ (2) .
ب - الْمَغْفِرَةُ:
3 - الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَال: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ (3)
ج - الإِْسْقَاطُ:
4 - الإِْسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ.
وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلاَقِهِ أَعَمُّ مِنَ الإِْسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالاَتِهِ (4)
__________
(1) سورة البقرة / 109.
(2) الذريعة ص 234، والمفردات للراغب.
(3) المصباح المنير، والتعريفات، والفروق في اللغة ص 230.
(4) الاختيار 3 / 121، 4 / 17، دار المعرفة.(30/168)
د - الصُّلْحُ:
5 - الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَل الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْعَفْوُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 29.(30/168)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ (1) وَقَالُوا: إِنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَزِيدَ عَنِ الدِّرْهَمِ، قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْل الْحِمَارِ، جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهُ (2) .
أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا عَلَى رِوَايَاتٍ: قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنْ كَانَتْ كَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ (3) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: حَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي لاَ يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ هُوَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (4) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ - وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ - وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الْكَائِنَةُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْل، قَال الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْعَفْوُ بِالدَّمِ وَمَا مَعَهُ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو عَنْهُ، فَالاِحْتِرَازُ عَنْ يَسِيرِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 80.
(2) البناية شرح الهداية 1 / 733 - 734.
(3) البناية مع الهداية 1 / 739.
(4) بدائع الصنائع 1 / 80.(30/169)
عَسِرٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَمَا يَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِل وَالْبَرَاغِيثِ وَمَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالضَّابِطُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ الْعُرْفُ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ إِلاَّ دَمَ الْحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِهَا كَسَائِرِ فَضَلاَتِهَا، وَلاَ يُعْفَى عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْقُبُل وَالدُّبُرِ؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لاَ يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ (3)
. وَمِمَّا بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ:
__________
(1) القوانين الفقهية ص 39 نشر الدار العربية للكتاب، الشرح الصغير 1 / 74، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 75.
(2) حاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 170، وروضة الطالبين 1 / 280.
(3) كشاف القناع 1 / 190 - 191، والمغني 2 / 78 - 79.(30/169)
أ - الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ:
8 - يَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَيُقَيِّدُ الشَّافِعِيَّةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِقُيُودٍ عَبَّرَ عَنْهَا الْبَيْجُورِيُّ بِقَوْلِهِ: خَرَجَ بِالْيَسِيرِ الْكَثِيرُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَحَلَّهُ، عُفِيَ عَنْهُ وَإِلاَّ فَلاَ، (2) وَمَحَل الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَهُمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ وَلَوْ لِلتَّجَمُّل وَكَانَ مَلْبُوسًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ وَمَا لَوْ فَرَشَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ وَصَلَّى بِهِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ (3) .
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ، هَل يُغْتَفَرُ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوِ اغْتِفَارُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَقْطَعُهَا لأَِجْلِهِ إِذَا ذَكَرَهُ فِيهَا وَلاَ يُعِيدُهَا، وَأَمَّا قَبْل الصَّلاَةِ فَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالأَْوَّل مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ. قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَهُوَ الأَْظْهَرُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، وَالثَّانِي عَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
__________
(1) البناية شرح الهداية 1 / 733، الشرح الصغير 1 / 74، والأشباه والنظائر للسيوطي 78، المغني 2 / 78.
(2) البيجوري على ابن قاسم 1 / 107.
(3) البيجوري 1 / 107.(30/170)
وَالْمُصَنِّفُ لِلْمُدَوَّنَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ نَاقِلاً عَنِ الْمَازِرِيِّ لاِبْنِ حَبِيبٍ كَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي، قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: هُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) ، وَصَرَّحَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَلِيل دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرَهُ نَجِسٌ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَيَّدُوا الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يُؤْكَل كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ أَوْ لاَ كَالْهِرِّ، بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ كَالْكَلْبِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ، وَلاَ يُعْفِي عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (3) . كَمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ وَكَذَا دَمُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (4) .
وَقَال الْحَسَنُ: كَثِيرُ الدَّمِ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لأَِنَّهُ نَجَاسَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَوْل. وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) الحطاب 1 / 146.
(2) القوانين الفقهية ص 38.
(3) نيل المآرب 1 / 14، وتصحيح الفروع 1 / 254.
(4) تصحيح الفروع 1 / 254.
(5) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص81 والشرح الصغير 1 / 71، 72 روضة الطالبين 1 / 21 - 281، والمغني 2 / 78، 80، وكشاف القناع 1 / 192.(30/170)
ب - الْعَفْوُ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ:
9 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّارِعِ النَّجِسِ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ: وَقَضِيَّةُ إِطْلاَقِهِمُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَوِ اخْتَلَطَ بِنَجَاسَةِ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِ - وَهُوَ الْمُتَّجِهُ لاَ سِيَّمَا فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْكِلاَبُ - لأَِنَّ الشَّوَارِعَ مَعْدِنُ النَّجَاسَاتِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ عَفْوٌ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (2) ، وَالاِحْتِيَاطُ فِي الصَّلاَةِ غَسْلُهُ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: الأَْحْوَال أَرْبَعَةٌ: الأُْولَى وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الطِّينِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَلاَ إِشْكَال فِي الْعَفْوِ فِيهِمَا، وَالثَّالِثَةُ: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطِّينِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ تَبَعًا لاِبْنِ أَبِي زَيْدٍ.
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 175، والأشباه والنظائر للسيوطي ص78، وكشاف القناع 1 / 192.
(2) مراقي الفلاح ص85.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 248.(30/171)
وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنُهَا قَائِمَةً وَهِيَ لاَ عَفْوَ فِيهَا اتِّفَاقًا (1)
ج - الْعَفْوُ عَنْ مَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
10 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لاَ يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ (3) وَنَحْوِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4)
د - الْعَفْوُ عَنْ دَمِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالْقَمْل وَنَحْوِهَا مِنْ كُل مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً طَاهِرٌ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْل وَالْبَعُوضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (6) .
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 77.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 78، وروضة الطالبين 1 / 282.
(3) كشاف القناع 1 / 190.
(4) سورة المدثر / 4.
(5) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 248، والقوانين الفقهية، ص38، وكشاف القناع 1 / 191.
(6) روضة الطالبين 1 / 280.(30/171)
وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الزَّكَاةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ مِنَ الأَْنْعَامِ هَل فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ فَقَطْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الأَْوْقَاصِ عَفْوٌ (1) .
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَالْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ.
(2) أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ يَخْتَصُّ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَجْرِي فِي كُل الأَْحْوَال حَتَّى فِي النَّقْدَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 283، وفتح القدير 2 / 197، والمنتقى للباجي 2 / 127، ومواهب الجليل 2 / 257، والمجموع 5 / 390 - 393، وكشاف القناع 2 / 89.
(2) المراجع السابقة.
(3) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 247، والمجموع 5 / 457، وكشاف القناع 2 / 170.(30/172)
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَفْوٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ آخَرُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (أَوْقَاص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) وَفِي: (زَكَاة ف 72)
ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي الصِّيَامِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَل جَوْفَ الصَّائِمِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ، أَوْ مَا تَبَقَّى بَيْنَ الأَْسْنَانِ مِنْ طَعَامٍ، فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ - لَمْ يُفْطِرْ فِي كُل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ (2) .
وَكَذَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَشَقَّ عَلَيْهِ الْبَصْقُ عُفِيَ عَنْ أَثَرِهِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَال فِيمَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، أَنْ يُسَامَحَ بِمَا يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 76 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 248، وعارضة الأحوذي 3 / 102.
(2) حاشية رد المحتار 2 / 395، والدردير بالشرح الصغير 1 / 700، والقليوبي 2 / 56، وقواعد الأحكام 2 / 10.
(3) حاشية رد المحتار 2 / 796، والشرح الصغير 1 / 715، وحاشية القليوبي على منهاج الطالبين / 57، والمغني لابن قدامة 3 / 97.(30/172)
رَابِعًا - الْعَفْوُ فِي الْحَجِّ:
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَيُّب ف 12 وَ 15)
الْعَفْوُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ:
15 - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ بِلاَ عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الاِعْتِيَاضَ
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث ابن عباس، وحسنه النووي في روضة الطالبين (8 / 193) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 188، و189 وحاشية رد المحتار 2 / 543، 545، والقوانين الفقهية ص 91 - 93، وحاشية القليوبي وعميرة المنهاج 2 / 133 - 135، وكشاف القناع 2 / 458.(30/173)
عَنْ تَرْكِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط ف 41 وَ 42) (وَشُفْعَة ف 55 وَمَا بَعْدَهَا)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ عَنِ الْمَدِينِ:
16 - لِلدَّائِنِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَدِينِ وَتَبْرَأُ بِذَلِكَ ذِمَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبْرَاء ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَالِثًا - الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ:
17 - الصَّدَاقُ حَقٌّ خَالِصٌ لِلزَّوْجَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (3)
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ، وَعَفْوُهُ يَكُونُ بِإِكْمَال الصَّدَاقِ عِنْدَ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، وَلأَِوْلِيَاءِ النِّكَاحِ الْعَفْوُ كَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 2715، والبهجة شرح التحفة 2 / 122، 123، ومنح الجليل 3 / 591، والجمل على المنهج 123، والقواعد لابن رجب ص199، وكشاف القناع 4 / 158.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص263 - 265، 317، والخرشي على خليل 7 / 102، 103، والأشباه والنظائر للسيوطي ص171، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 81 - 86، وكشاف القناع 4 / 304.
(3) سورة النساء / 4.
(4) سورة البقرة / 237.(30/173)
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)
الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1) ؛
وَلأَِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (2) قَال الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. (3)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالإِْحْسَانُ هُنَا أَفْضَل، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُل بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَل مِنْهُ ضَرَرٌ فَلاَ يُشْرَعُ.
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث أنس " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 637) وسكت عنه، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (7 / 178) : وإسناده لا بأس به.(30/174)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْل الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْل لأَِخْذِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَل وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، فَالْقَتْل هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لاَ لِلآْدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَل حَدًّا لاَ قَوَدًا (1) .
19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِل مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِل أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلاً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ (2) .
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 241، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 186، والفواكه الدواني 2 / 255، وروضة الطالبين 1 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4646، وحاشية الدسوقي 4 / 240، وبداية المجتهد 2 / 393، 394، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543، والمغني 8 / 336.(30/174)
الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (2) وَالْمَكْتُوبُ لاَ يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَل فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَال الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ (3) فَعُلِمَ بِدَلِيل الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ (4) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 48، وروضة الطالبين 9 / 239.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) حديث: " كتاب الله القصاص ". أخرجه البخاري (8 / 117) ، ومسلم (3 / 1302) من حديث أنس، واللفظ للبخاري.
(4) تفسير القرطبي 2 / 252، 253، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 185، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 66 - 69، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 87 - 91، وبدائع الصنائع 10 / 4633 - 4635، وبداية المجتهد 2 / 394، ومواهب الجليل 6 / 234، وروضة الطالبين 9 / 239 - 241، والقليوبي 4 / 126، والمغني لابن قدامة 8 / 344، 345.(30/175)
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) أَوْجَبَ الاِتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَل اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآْيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (2) وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ فِي الإِْلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَال عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ (3) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيل مَضْمُونَةٌ أَصْلاً بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَل وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لاَ يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) حديث: " من قتل له قتيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 205) ومسلم (2 / 989) .
(3) مغني المحتاج 4 / 48، وكشاف القناع 5 / 542.
(4) أسنى المطالب 4 / 43.(30/175)
الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِل:
20 - إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِل مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لأَِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَقَال مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً (1) .
وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لأَِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْل؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 257، والقوانين الفقهية ص227، والمغني 8 / 339.(30/176)
وَإِذَا قَال وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1)
عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِل؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الآْخَرِ مَالاً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، (2) وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 247، وحاشية الدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 48، و49، وكشاف القناع 5 / 544 و545.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4648، 4649، والفواكه الدواني 2 / 256، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 534، والمغني 8 / 336.(30/176)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الأَْنْسَابِ وَالأَْسْبَابِ وَالرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُل وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لاِنْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَل وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلاَ الأَْخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالإِْخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) حاشية رد المحتار 6 / 568، ومغني المحتاج 4 / 39، 40، والقليوبي 4 / 122، 122.(30/177)
قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.
وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلاً أَوْ يُوجَدْ أَنْزَل، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الاِبْنِ وَالأُْخْتُ مَعَ الأَْخِ، فَلاَ كَلاَمَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلاَ كَلاَمَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الأُْمِّ، وَالأُْخْتِ مِنَ الأُْمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلاَ يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُل فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الإِْخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الأَْعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْل مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الأَْعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْل، وَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ كَلاَمَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ (1) .
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْل أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 256، والشرح الصغير 4 / 361، 362، وبداية المجتهد 2 / 395.(30/177)
وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُول الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْل زُهُوقِ رُوحِهِ، قَال الْقَرَافِيُّ: لأَِنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِل وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُول عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلاَ شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلاَ قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلاَ طَرَفٍ؛ لأَِنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام لمنلا خسرو 2 / 95، وبدائع الصنائع 7 / 248 و249.
(2) الفواكه الدواني 2 / 255، وشرح منجل الجليل 4 / 346، والشرح الصغير 4 / 335 و336.
(3) مغني المحتاج 4 / 50 و51، وشرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127.(30/178)
وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَال ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لاَ يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلأَْوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَال بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ (2) .
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا
23 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الأَْرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ مَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهِ (3) .
__________
(1) شرح منح الجليل لعليش 4 / 346، بداية المجتهد 2 / 395.
(2) كشاف القناع 5 / 546.
(3) بدائع الصنائع 1 / 4651، وشرح منح الجليل للشيخ عليش 4 / 347، وروضة الطالبين 9 / 242، 243، والمهذب 2 / 189، وكشاف القناع 5 / 246.(30/178)
حُكْمُ السِّرَايَةِ:
24 - وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِل وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل؛ لأَِنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَل الْقَتْل، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.
نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لاَ غَيْرُ، لاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَال وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ (2) .
وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الأَْوْلِيَاءِ - لاَ الْمَقْطُوعِ - إِذَا وَقَعَ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4651، 4652.
(2) مواهب الجليل 6 / 255، 256.(30/179)
الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَال وَيَبْطُل الصُّلْحُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لاَ فِي الْخَطَأِ وَلاَ فِي الْعَمْدِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلاَ يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.
(1) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلاَ قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لاَ قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْعَفْوِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَال وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا (3) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب، والتاج والإكليل للمواق على هامش الحطاب 5 / 86.
(2) روضة الطالبين 9 / 243، 244.
(3) كشاف القناع 5 / 546.(30/179)
عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْل مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ: 25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الاِسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلاً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْل كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيل الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ (1)
عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ:
26 - إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4650.(30/180)
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.
أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَال صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُول - وَلَوْ قَبْل إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ - عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4652.(30/180)
الْقَاتِل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِل مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَال (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلاً خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِل ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِل فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيل: إِنْ قُلْنَا: يُلاَقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَل عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِل عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِل وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِل، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِل فَفِيهِ الْخِلاَفُ. وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ (2) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 255، 256.
(2) روضة الطالبين 9 / 245.(30/181)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِل مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.
وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِل مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الإِْبْرَاءُ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِل، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.
وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالاً عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ (1)
عَفْوُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَافِي أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا، فَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 546.(30/181)
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ فَلاَ يَمْلِكَانِهِ (1) ، وَيَنْظُرُ لِلصِّغَارِ وَلِيُّهُمْ فِي الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ (2) .
وَلأَِبِي الْمَعْتُوهِ أَنْ يُقِيدَ مِنْ جَانِيهِ؛ لأَِنَّ لأَِبِيهِ وِلاَيَةً عَلَى نَفْسِهِ فَيَلِيهِمَا كَالإِْنْكَاحِ، وَيُصَالِحُ لأَِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمَّا مَلَكَ الاِسْتِيفَاءَ فَلأََنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَصِحُّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلاَ يَعْفُو؛ لأَِنَّهُ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ، وَلِلْوَصِيِّ الصُّلْحُ فَقَطْ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقِصَاصِ تَابِعَةٌ لِوِلاَيَةِ النَّفْسِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالأَْبِ، وَالصَّبِيُّ كَالْمَعْتُوهِ وَالْقَاضِي كَالأَْبِ فِي الأَْحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ (3) .
وَأَمَّا الْحَجْرُ لِلْفَلَسِ: فَلَوْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنِ الْقِصَاصِ سَقَطَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنْ قِيل: مُوجِبُ الْقَتْل أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَال، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَال بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُفِعَ إِلَى غُرَمَائِهِ (4) .
وَعَفْوُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَعَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنِ الْقِصَاصِ مَعَ نَفْيِ الْمَال إِذَا كَانَ عَلَى
__________
(1) درر الحكام لمنلا خسرو 2 / 94، البدائع 10 / 4646، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 252، وروضة الطالبين 9 / 242، والمغني 8 / 346.
(2) مواهب الجليل 6 / 252.
(3) درر الحكام 2 / 94، والهداية مع نتائج الأفكار 8 / 262، 263.
(4) روضة الطالبين 9 / 241.(30/182)
التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ كَعَفْوِ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْقَاطُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ - إِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ لآِخَرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَيْسَ لأَِبِيهِمَا اسْتِيفَاؤُهُ كَوَصِيٍّ وَحَاكِمٍ، فَإِنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى نَفَقَةٍ فَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ الْعَفْوُ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ وَلِيِّ الصَّغِيرِ نَصًّا؛ لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ فِي حَالَةٍ مُعْتَادَةٍ يُنْتَظَرُ فِيهَا إِفَاقَتُهُ وَرُجُوعُ عَقْلِهِ، بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ (2) .
أَمَّا الْمُفْلِسُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَصِحُّ عَفْوُهُمَا عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ الْمُفْلِسُ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَعْفُو مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الْمَال وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ إِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا، صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ مَجَّانًا.
أَمَّا السَّفِيهُ وَوَارِثُ الْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَفْوِ مِنْ هَؤُلاَءِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 242.
(2) كشاف القناع 5 / 533.(30/182)
مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُفْلِسِ (1)
الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ:
أ - فِي الْعَمْدِ:
28 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الإِْسْقَاطِ وَالْمَحَل قَابِلاً لِسُقُوطٍ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - يَحْصُل بِهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ أَخْذِ الْمَال عَنْ صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلاَ يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْل الْقَاتِل فَلاَ يَقْصِدُ الْقَاتِل قَتْلَهُ، فَيَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (2) الآْيَةَ، قِيل: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُل عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَل الصُّلْحِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 544، والمغني 8 / 346، 347.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 3 / 418، 4 / 368، 369، والمغني 4 / 442.(30/183)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَفَا أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ قَبْل أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدِّيَةِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَمْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الإِْبِل، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ كَالصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ بِعَيْنِهِ، صَحَّ عَلَى الأَْصَحِّ وَثَبَتَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يَقُول: الدِّيَةُ خِلْفَةً فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا (1) .
ب - فِي الْخَطَأِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ هُنَا تَمَكُّنُ الرِّبَا (2)
عَفْوُ الْمُوَكِّل دُونَ عِلْمِ الْوَكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
30 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَكَّل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا فَاقْتَصَّ الْوَكِيل جَاهِلاً عَفْوَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ، وَقَال
__________
(1) شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127، وروضة الطالبين 9 / 240 - 242.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 4 / 369، والمغني 4 / 442.(30/183)
الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ وُجُوبُ دِيَةٍ وَأَنَّهَا عَلَيْهِ لاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي الأَْصَحِّ مُغَلَّظَةً فِي الْمَشْهُورِ وَهِيَ لِوَرَثَةِ الْجَانِي، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَافِي؛ لأَِنَّهُ مُحْسِنٌ بِالْعَفْوِ، وَالثَّانِي يَقُول: نَشَأَ عَنْهُ الْغُرْمُ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ يَقُول: عَفْوُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الأَْمْرِ مِنْ يَدِهِ لَغْوٌ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْبَةِ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَال غَيْبَتِهِ، بَل هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَكَّل وَكِيلاً بِالْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل فَلِكُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَفْوِ - وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ مُتَّهَمًا - مَنْعُهُ إِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ وَلَوْ بِالْقَتْل دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ (3)
ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ:
31 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ إِذَا
__________
(1) شرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 129، وكشاف القناع 4 / 545، 546.
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 94، وحاشية الشرنبلالي على درر الحكام الموسوم غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام 2 / 94.
(3) الفروق 4 / 256، 257.(30/184)
وَصَل إِلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (حَدّ وَتَعْزِير) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَذْفِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ لاَ يَحْتَمِل الْعَفْوَ أَوِ الصُّلْحَ أَوِ الإِْبْرَاءَ بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ أَوِ الإِْبْرَاءُ أَوِ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْل الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ بَدَل الصُّلْحِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ كَمَا قَال أَصْبَغُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُول: لاَ يَجُوزُ عَفْوُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ الإِْمَامَ إِلاَّ ابْنٌ فِي أَبِيهِ وَالَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، وَقَدْ قَال مَالِكٌ: إِذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرًا فَعَفَا إِنْ بَلَغَ الإِْمَامَ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَل عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُثْبِتَ الْقَاذِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجَازَ عَفْوَهُ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَفْوُهُ (2) ،
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4201، 4203.
(2) المنتقى للباجي 7 / 146 - 148، 164، 165، وتهذيب الفروق 4 / 204 - 208، والفواكه الدواني 2 / 295.(30/184)
أَمَّا قَبْل بُلُوغِ الإِْمَامِ فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ الْعَفْوُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِلاَزِمٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْل أَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَال: تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي (2) وَالتَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِبُ لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِمُطَالَبَتِهِ فَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ كَالْقِصَاصِ (3)
ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي التَّعْزِيرِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ فِي التَّعْزِيرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلإِْمَامِ الْعَفْوَ فِي التَّعْزِيرِ الْوَاجِبِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ مَا كَانَ لِجِنَايَةٍ
__________
(1) المنتقى 7 / 148.
(2) حديث: " أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 199) ، وذكر الذهبي في الميزان (2 / 275) تضعيف أحد رواته.
(3) المهذب 2 / 274، وكشاف القناع 6 / 105، والأحكام السلطانية للماوردي ص 237، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 266.(30/185)
عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ (1) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ وَجَبَ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الإِْمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنَ الْمَلاَمَةِ وَالْكَلاَمِ مَصْلَحَةٌ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا إِذَا كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الأَْصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ (2) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ: إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ، لَكِنْ يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَتَسُوغُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحُكْمِ التَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ جَازَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الأَْصْلَحَ فِي الْعَفْوِ أَوِ التَّعْزِيرِ، وَجَازَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ مَنْ سَأَل الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ (3) وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ كَالتَّعْزِيرِ فِي الشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَشْتُومِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 53 - 54.
(2) مواهب الجليل 6 / 320.
(3) حديث: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 299) من حديث أبي موسى.(30/185)
وَالْمَضْرُوبِ، وَحَقُّ السَّلْطَنَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُسْقِطَ بِعَفْوٍ حَقَّ الْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ مِنْ تَعْزِيرِ الشَّاتِمِ وَالضَّارِبِ، فَإِنْ عَفَا الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ كَانَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْل الأَْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ لآِدَمِيٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ عَنْهُ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ.
وَالثَّانِي، وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْفَرَّاءِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير ف 57)
عُقَاب
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الماوردي الأحكام السلطانية 237، والأحكام السلطانية للفراء ص281، 282.(30/186)
عَقَار
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقَارُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ: كُل مَا لَهُ أَصْلٌ وَقَرَارٌ ثَابِتٌ كَالأَْرْضِ وَالدَّارِ وَالضِّيَاعِ وَالنَّخْل، وَقَال بَعْضُهُمْ: رُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، يُقَال: مَا لَهُ دَارٌ وَلاَ عَقَارٌ، أَيْ نَخْلٌ، وَفِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ، أَيْ مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ، وَالْجَمْعُ عَقَارَاتٌ، وَالْعَقَارُ مِنْ كُل شَيْءٍ: خِيَارُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، مِثْل الأَْرْضِ وَالدَّارِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَنْقُول:
2 - الْمَنْقُول: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى آخَرَ، فَيَشْمَل النُّقُودَ وَالْعُرُوضَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) مجلة الأحكام (م 129) .
(3) مجلة الأحكام (م 128) .(30/186)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمَنْقُول هُوَ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مَعَ بَقَاءِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ الأُْولَى، أَيْ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ بِدُونِ أَنْ تَتَغَيَّرَ صُورَتُهُ، كَالْعُرُوضِ التِّجَارِيَّةِ مِنْ أَمْتِعَةٍ وَسِلَعٍ وَأَدَوَاتٍ وَكُتُبٍ وَسَيَّارَاتٍ وَثِيَابٍ وَنَحْوِهَا.
ب - الشَّجَرُ:
3 - جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّجَرُ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ أَوْ مَا سَمَا بِنَفْسِهِ دَقَّ أَوْ جَل قَاوَمَ الشِّتَاءَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: الشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ صُلْبٌ يَقُومُ بِهِ، كَالنَّخْل وَغَيْرِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَهُ سَاقٌ وَلاَ يُقْطَعُ أَصْلُهُ، وَعَرَّفَهُ الأَْبِيُّ فِي الْمُسَاقَاةِ بِمَا كَانَ ذَا أَصْلٍ ثَابِتٍ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَتَبْقَى أُصُولُهُ (1)
ج - الْبِنَاءُ:
4 - الْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى صِفَةٍ يُرَادُ بِهَا الثُّبُوتُ (2)
ثَمَرَةُ قِسْمَةِ الْمَال إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ:
5 - تَظْهَرُ فَائِدَةُ قِسْمَةِ الْمَال إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وحاشية ابن عابدين 4 / 35، و5 / 283، وجواهر الإكليل 2 / 178، والقليوبي 2 / 141.
(2) الكليات 1 / 417.(30/187)
أ - الشُّفْعَةُ: فَإِنَّهَا عَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ الْمَبِيعِ، أَمَّا الْمَنْقُول فَلاَ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا بِيعَ اسْتِقْلاَلاً، وَتَثْبُتُ فِيهِ إِذَا بِيعَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَة ف 24 - 25)
ب - الْوَقْفُ: لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ وَقْفِ الْعَقَارِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُول، فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقْفَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول عَلَى السَّوَاءِ (2) وَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، أَوْ كَانَ مُتَعَارَفًا وَقْفَهُ كَالْكُتُبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ وَرَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ أَثَرٌ عَنِ السَّلَفِ كَوَقْفِ الْخَيْل وَالسِّلاَحِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَقْف)
ج - بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ:
لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ إِلاَّ بِمُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ يُجِيزُ لَهُ ذَلِكَ وَبِإِذْنِ الْقَاضِي، كَإِيفَاءِ دَيْنٍ أَوْ دَفْعِ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، أَوْ وُجُودِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ لأَِنَّ بَقَاءَ عَيْنِ الْعَقَارِ فِيهِ حِفْظُ مَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ أَكْثَرَ مِنْ حِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلَكِنْ لِلْوَصِيِّ
__________
(1) المبسوط 14 / 95، وبدائع الصنائع 6 / 270، ونهاية المحتاج 5 / 193، ومغني المحتاج 2 / 296، والمغني 5 / 463 - 465.
(2) الدسوقي 4 / 76 - 77، ومغني المحتاج 2 / 377.
(3) فتح القدير 5 / 49 ط. بولاق.(30/187)
أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُول إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً فِي بَيْعِهِ (1) .
د - مَال الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
يُبْدَأُ أَوَّلاً بِبَيْعِ الْمَنْقُول لِوَفَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْعَقَارُ إِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْمَنْقُول بِالدَّيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمَدِينِ (2) .
هـ - بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْل قَبْضِهِ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَقَارَاتِ قَبْل قَبْضِهِ أَوْ تَسَلُّمِهِ مِنَ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الْمَنْقُول لِتَعَرُّضِهِ لِلْهَلاَكِ كَثِيرًا، بِعَكْسِ الْعَقَارِ، وَلَمْ يُجِزْ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَقَارِ قَبْل الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ (3)
و حُقُوقُ الْجِوَارِ وَالاِرْتِفَاقِ:
تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول.
ر: (ارْتِفَاق ف 10، جِوَار ف 3) .
ز - الْغَصْبُ:
لاَ يُتَصَوَّرُ غَصْبُ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ، وَيَرَى مُحَمَّدٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِمْكَانَ غَصْبِ الْعَقَارِ، أَمَّا الْمَنْقُول فَيُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ اتِّفَاقًا (4)
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 9 / 625 نشر دار الكتب العلمية.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 492.
(3) تبيين الحقائق 4 / 79 - 80، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 212.
(4) الاختيار لتعليل المختار 3 / 58، والمغني 5 / 241.(30/188)
تَحَوُّل الْعَقَارِ إِلَى مَنْقُولٍ وَبِالْعَكْسِ:
6 - قَدْ يَتَحَوَّل الْعَقَارُ إِلَى مَنْقُولٍ، كَالأَْجْزَاءِ الَّتِي تَنْفَصِل عَنِ الأَْرْضِ أَوْ تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا، كَالْمَعَادِنِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْمَنَاجِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْقَاضِ الْبِنَاءِ الْمَهْدُومِ، وَكُل ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ فَصْلِهِ عَنِ الأَْرْضِ تَزُول عَنْهُ صِفَةُ الْعَقَارِ وَأَحْكَامُهُ، وَيُصْبِحُ فِي عِدَادِ الْمَنْقُولاَتِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.
وَقَدْ يَحْدُثُ الْعَكْسُ وَهُوَ تَحَوُّل الْمَنْقُول إِلَى عَقَارٍ، بِأَنْ صَارَ الْمَنْقُول تَبَعًا لِلْعَقَارِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ مَا يَأْتِي: (تَوَابِعُ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ تَبَعًا بِدُونِ ذِكْرٍ) ، مَثَلاً إِذَا بِيعَتْ دَارٌ دَخَل فِي الْبَيْعِ الأَْقْفَال الْمُسَمَّرَةُ وَالدَّوَالِيبُ - أَيِ الْخِزَنُ الْمُسْتَقِرَّةُ - وَالرُّفُوفُ الْمُسَمَّرَةُ الْمُعَدَّةُ لِوَضْعِ فُرُشٍ، وَالْبُسْتَانُ الَّذِي هُوَ دَاخِل حُدُودِ الدَّارِ، وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، أَوِ الدَّاخِلَةُ الَّتِي لاَ تَنْفُذُ. وَفِي بَيْعِ الْعَرْصَةِ تَدْخُل الأَْشْجَارُ الْمَغْرُوسَةُ عَلَى أَنْ تَسْتَقِرَّ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ لاَ تُفْصَل عَنِ الْمَبِيعِ، فَتَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرٍ وَلاَ تَصْرِيحٍ (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 232.(30/188)
أَحْكَامُ الْعَقَارِ:.
لِلْعَقَارِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَهَمُّهَا:
الصَّلاَةُ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ اللُّبْثَ فِيهَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، فَلأََنْ يَحْرُمَ فِي الصَّلاَةِ أَوْلَى (1)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
فَقَال الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) : الصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ لاَ يَعُودُ إِلَى مَاهِيَّةِ الصَّلاَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا يُمْكِنُهُ إِنْقَاذُهُ فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إِطْفَائِهِ فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَل غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إِيفَاؤُهُ وَصَلَّى، وَيَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ مَعَ الإِْثْمِ، وَيَحْصُل بِهَا الثَّوَابُ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ، وَإِثْمُهُ لِلْمُكْثِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ.
وَيَصِفُ عُلَمَاءُ الأُْصُول مِنَ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الصَّلاَةَ بِأَنَّهَا فِعْلٌ لَهُ جِهَتَانِ: كَوْنُهُ صَلاَةً وَكَوْنُهُ غَصْبًا، لَكِنَّ الْجِهَتَيْنِ غَيْرُ مُتَلاَزِمَتَيْنِ؛
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 116، والمجموع 2 / 169، والمغني 4 / 112، 1 / 588 و2 / 74 وكشاف القناع 1 / 270.(30/189)
لأَِنَّهُمَا وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ انْفِرَادَهُمَا مُمْكِنٌ وَمُتَصَوَّرٌ، فَالْغَصْبُ يَنْفَرِدُ عَنِ الصَّلاَةِ بِأَنْ يَشْغَل الْمَكَانَ بِأَيِّ عَمَلٍ آخَرَ، وَالصَّلاَةُ تَنْفَرِدُ عَنِ الْغَصْبِ بِأَنْ تُؤَدَّى فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَكُونُ اجْتِمَاعُ الإِْيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الْفِعْل جَائِزًا، فَهَذِهِ الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَلاَةٌ، وَحَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَصْبٌ شَامِلٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَلاَ تَنَافِيَ لِعَدَمِ الاِتِّحَادِ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الإِْيجَابِ الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ وَمُتَعَلِّقِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْغَصْبُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ صَحِيحَةٌ وَيُثَابُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ، وَحَرَامٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ كَانَ جُزْءًا مُشَاعًا؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ تَصِحَّ كَصَلاَةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْل وَاجْتِنَابَهُ وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، مُمْتَثِلاً بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ؟ فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 67، والتلويح على التوضيح 1 / 217، ومرآة الأصول 1 / 328، والفروق للقرافي 2 / 85، والإحكام للآمدي 1 / 59، وشرح المحلى على جمع الجوامع 1 / 143.(30/189)
اخْتِيَارِيَّةٌ، وَهُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَيَخْتَلِفُ الأَْمْرُ عَنْ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ؛ لأَِنَّ أَفْعَال الصَّلاَةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَلَكِنْ يَصِحُّ لَدَى الْحَنَابِلَةِ الْوُضُوءُ وَالأَْذَانُ وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمُ وَالْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالزَّوَاجِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْفُسُوخُ كَالطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ؛ لأَِنَّ الْبُقْعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ.
وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُقْعَةٍ أَبْنِيَتُهَا غَصْبٌ، وَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى الأَْبْنِيَةِ لإِِبَاحَةِ الْبُقْعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَتَصِحُّ صَلاَةُ مَنْ طُولِبَ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ أَوْ رَدِّ غَصْبٍ قَبْل دَفْعِهَا إِلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَخْتَصُّ بِالصَّلاَةِ وَلَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ مَزْرُوعَةً بِلاَ ضَرَرٍ وَلاَ غَصْبٍ، أَوْ صَلَّى عَلَى مُصَلاَّهُ بِلاَ غَصْبٍ وَلاَ ضَرَرٍ، جَازَ وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي غَصْبٍ مِنْ بُقْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ غَصْبًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِذَا حُبِسَ فِي مَكَانٍ غُصِبَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) ، والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(30/190)
وَيَرَى أُصُولِيُّو الْحَنَابِلَةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْجِهَتَيْنِ فِي هَذَا الْفِعْل (الصَّلاَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ) مُتَلاَزِمَتَانِ؛ لأَِنَّ الْحَاصِل مِنَ الْمُصَلِّي فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ بِهَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فَتَكُونُ حَرَامًا، وَهَذِهِ الأَْفْعَال بِعَيْنِهَا جُزْءٌ مِنْ حَقِيقَةِ الصَّلاَةِ، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَالصَّلاَةُ الَّتِي جُزْؤُهَا حَرَامٌ لاَ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلاَ يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ (1) .
8 - أَمَّا الصَّلاَةُ فِي الأَْرْضِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهَا: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) فَصَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، (2) كَأَرْضِ الْخَسْفِ، وَكُل بُقْعَةٍ نَزَل فِيهَا عَذَابٌ، كَأَرْضِ بَابِل، وَأَرْضِ الْحِجْرِ (3) ، وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ (4) ، لَكِنْ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ (5) ؛ لأَِنَّهَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا
__________
(1) روضة الناظر 1 / 126 وما بعدها، المعتمد لأبي الحسين البصري 1 / 195.
(2) تفسير القرطبي 10 / 47.
(3) أرض الحجر: ديار ثمود بين المدينة والشام، وهم قوم صالح عليه السلام.
(4) هو مسجد بناه المنافقون، مجاور لمسجد قباء في المدينة المنورة ليكون مركزًا للمؤامرات وفيه نزلت الآيات:] والذين اتخذوا مسجدًا ضرار وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين. . [الآية: 107 من سورة التوبة.
(5) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص197.(30/190)
بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل مَا أَصَابَهُمْ. (1)
زَكَاةُ الْعَقَارِ.
9 - لاَ زَكَاةَ عَلَى الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ مِنْ ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالأَْمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ مِنْ أَرَاضٍ وَدُورِ سُكْنَى وَحَوَانِيتَ، بَل وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَا التِّجَارَةَ؛ لأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَصْلاً، فَلاَ بُدَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَال نَامِيًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ، وَإِنَّمَا كَوْنُ الْمَال مُعَدًّا لِلاِسْتِنْمَاءِ إِمَّا خِلْقِيًّا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ بِالإِْعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ بِالسَّوْمِ أَيِ الرَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) .
10 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَى الْمُسْتَغَلاَّتِ مِنْ عِمَارَاتٍ وَمَصَانِعَ وَمَبَانٍ وَدُورٍ وَأَرَاضٍ بِأَعْيَانِهَا وَلاَ عَلَى غَلاَّتِهَا مَا لَمْ يَحُل عَلَيْهَا الْحَوْل.
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - يَرَوْنَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْمُسْتَغَل مِنْ
__________
(1) تفسير ابن كثير 2 / 556. وحديث: " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 124) ، ومسلم (4 / 2285 - 2286) من حديث ابن عمر واللفظ للبخاري.
(2) فتح القدير 1 / 487 وما بعدها، والدر المختار 2 / 5 - 11، والشرح الكبير 1 / 463، والشرح الصغير 1 / 629، والقوانين الفقهية ص99، والمهذب 1 / 141، ونيل المآرب 1 / 308، وكشاف القناع 2 / 283، 285.(30/191)
كُل شَيْءٍ لأَِجْل الاِسْتِغْلاَل، فَيَشْمَل الْعَقَارَ الْمُعَدَّ لِلْكِرَاءِ وَكُل سِلْعَةٍ تُؤَجَّرُ وَتُعَدُّ لِلإِْجَارَةِ، بِأَنْ يُقَوَّمَ رَأْسُ الْمَال فِي كُل عَامٍ وَيُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ (1) .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تُزَكَّى هَذِهِ الْمُسْتَغَلاَّتُ مِنْ غَلَّتِهَا وَإِيرَادِهَا إِذَا اسْتَفَادَهَا.
وَرَأَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَزْكِيَةَ فَوَائِدِ الْمُسْتَغَلاَّتِ عِنْدَ قَبْضِهَا (2) .
بَيْعُ الْعَقَارِ:
11 - يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُ عَقَارِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْعَقَارِ مِنَ الشَّرِيكِ، وَمِنَ الأَْجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبِلَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَكَةُ الْقِسْمَةَ أَمْ لاَ، إِلاَّ فِي حِصَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بِسَبَبِ الْخَلْطِ فِي الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَلاَ يَجُوزُ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ عَدَمُ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنَ الزَّرْعِ بِدُونِ الأَْرْضِ قَبْل أَوَانِ قَطْعِهِ، إِذْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ بِتَعَرُّضِ زَرْعِهِ لِلْقَطْعِ فِي سَبِيل التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَوَانِ قَطْعِهِ، كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءًا
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم 3 / 143.
(2) المغني 3 / 29، 47، وشرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني 1 / 329.(30/191)
مُعَيَّنًا مِنْ مُشْتَرَكٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ أَوْ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ، بِخِلاَفِ بَيْعِهِ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْمُشْتَرَكِ (1) .
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ الأُْخْرَى عَلَى أَنْوَاعٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ بَيْعِ الْعَقَارَاتِ، مِنْهَا:
أَوَّلاً - بَيْعُ الْوَفَاءِ فِي الْعَقَارِ:
12 - بَيْعُ الْوَفَاءِ: هُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ أَوْ فَسَادِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)
ثَانِيًا - بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْل الْقَبْضِ.
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا وَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِل لِي مِنْهَا وَمَا
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 60، والدر المختار ورد المحتار لابن عابدين 3 / 365 وما بعدها.(30/192)
يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَال: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْل قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا اسْتِدْلاَلاً بِعُمُومَاتِ حِل الْبَيْعِ بِدُونِ تَخْصِيصٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضُ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَالِثًا - بَيْعُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.
" فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَبَيْنَ إِقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمُ الْخَرَاجَ، وَإِذَا بَقِيَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا (3) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الأَْرْضَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ
__________
(1) حديث: " إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه. . . ". أخرجه أحمد (3 / 402) من حديث حكيم بن حزام، وأصله في البخاري (فتح الباري 4 / 349) ومسلم (3 / 1160) من حديث ابن عباس.
(2) تبيين الحقائق 4 / 81 - 82، والدسوقي 3 / 151، والقليوبي 2 / 212، وكشاف القناع 3 / 242.
(3) فتح القدير 4 / 359، والبحر الرائق 5 / 104، ورد المحتار 3 / 352.(30/192)
فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الإِْمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الأَْرْضَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْسَمُ الأَْرْضُ الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِلاَّ أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا فَتُوقَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ قُسِمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَذَلُوهُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَارَ خَرَاجُهُ أُجْرَةً تُؤَدَّى كُل سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لأَِهْل السَّوَادِ الَّذِينَ أُقِرَّتِ الأَْرْضُ فِي أَيْدِيهِمْ بَيْعُهَا أَوْ رَهْنُهَا أَوْ هِبَتُهَا لِكَوْنِهَا صَارَتْ وَقْفًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الإِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَةِ هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى الْغَانِمِينَ فَتُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ وَلاَ خَرَاجَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَنَحْوُهُ، وَيَضْرِبُ الإِْمَامُ بَعْدَ وَقْفِهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا (3) .
بَيْعُ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ عَقَارَ الْقَاصِرِ:
15 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الرَّأْيِ فِي هَذَا
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 383، والخرشي 3 / 128.
(2) مغني المحتاج 4 / 334 - 235، والأحكام السلطانية للماوردي ص137 ط. دار الكتب العلمية.
(3) كشاف القناع 3 / 94 - 95.(30/193)
الْمَوْضُوعِ خُلاَصَتُهَا فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْعَدْل (مَحْمُودِ السِّيرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ مَسْتُورِ الْحَال) أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ الْقَاصِرِ بِمِثْل الْقِيمَةِ فَأَكْثَرَ لِتَوَافُرِ الشَّفَقَةِ الْكَامِلَةِ عِنْدَهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ كَبَيْعِهِ لِتَسْدِيدِ دَيْنٍ لاَ وَفَاءَ لَهُ إِلاَّ بِهَذَا الْمَبِيعِ، وَيَنْفُذُ بَيْعُ الْوَصِيِّ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي، وَلَهُ رَدُّهُ إِذَا كَانَ خَيْرًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ فِي مَال الصَّغِيرِ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلِلأَْبِ بَيْعُ مَال وَلَدِهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، وَلاَ يُتَعَقَّبُ بِحَالٍ، وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهُ بَيَانُ سَبَبِ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَلاَ يَبِيعُ عَقَارَ مَحْجُورِهِ إِلاَّ لِسَبَبٍ يَقْتَضِي بَيْعَهُ - أَيْ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ - وَبِبَيِّنَةٍ بِأَنْ يَشْهَدَ الْعُدُول أَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَهُ لِكَذَا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَاكِمِ كَالْوَصِيِّ مَال الْمَحْجُورِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالنَّفَقَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَكَرُوا أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا لِجَوَازِ بَيْعِ عَقَارِ الْقَاصِرِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ لِلضَّرُورَةِ، مِثْل الْحَاجَةِ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ وَفَاءَ دَيْنٍ لاَ قَضَاءَ لَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 153 وما بعدها، وتكملة فتح القدير مع العناية 8 / 499 وما بعدها، ومجمع الضمانات للبغدادي ص408.(30/193)
وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ مِنْ ظَالِمٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ غَصْبًا أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَيْعِهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ، وَبَيْعَهُ بِزِيَادَةِ الثُّلُثِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل فَأَكْثَرَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ لِلْقَاصِرِ بِالْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا، وَلاَ يَبِيعُ عَقَارَهُ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِحَاجَةٍ كَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ بِأَنْ لَمْ تَفِ غَلَّةُ الْعَقَارِ بِهِمَا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ أَوْ لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي الاِقْتِرَاضِ أَوْ خَافَ خَرَابَهُ.
وَالثَّانِي: لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ، كَأَنْ يَرْغَبَ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ جَارٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَجِدُ مِثْلَهُ بِبَعْضِهِ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ بِكُلِّهِ، أَوْ يَكُونُ ثَقِيل الْخَرَاجِ، أَيِ الْمَغَارِمِ وَالضَّرَائِبِ مَعَ قِلَّةِ رَيْعِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِمَا إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ (الْمَصْلَحَةِ) لَهُمَا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) .
قَبْضُ الْعَقَارِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 299 وما بعدها، والشرح الصغير 3 / 390 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 322.
(2) مغني المحتاج 2 / 174 - 176، والمهذب 1 / 328 - 330.
(3) كشاف القناع 3 / 435 - 439.
(4) سورة الأنعام / 152.(30/194)
الْمَبِيعِ أَوِ الْمَرْهُونِ يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ الْفِعْلِيِّ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ، أَيْ: رَفْعِ الْمَانِعِ مِنَ الْقَبْضِ أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، فَيُخَلَّى بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعِ أَوْ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَرْهُونِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ، أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَوْضُوعِ التَّخْلِيَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيَة ف 4، 5)
ضَمَانُ غَلَّةِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ:
17 - إِذَا رُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ عَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَل تَكُونُ غَلَّتُهُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ الرَّدِّ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِهَا حَقًّا لِلْبَائِعِ، أَمْ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَضْمَنُهَا لِلْبَائِعِ؟ .
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَوِ الْغَلَّةَ الْمُتَّصِلَةَ بِالشَّيْءِ وَقْتَ الرَّدِّ تَكُونُ لِلْبَائِعِ وَيَجِبُ رَدُّهَا، أَمَّا الْمَنَافِعُ الْمُنْفَصِلَةُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ؛ لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ (2) .، أَيْ أَنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 62، المغني 4 / 144 وما بعدها، ونيل الأوطار 5 / 213.
(2) حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان. أخرجه الترمذي (3 / 573) وقال: حديث حسن صحيح.(30/194)
الْغَلَّةَ أَوِ الْمَنَافِعَ فِي مُقَابِل تَحَمُّل الْمُشْتَرِي تَبِعَةَ ضَمَانِ الشَّيْءِ الْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي الْغَلَّةَ الْفَرْعِيَّةَ غَيْرَ الْمُتَوَلِّدَةِ الَّتِي تَحْصُل مِنَ الْمَبِيعِ كَمَنَافِعِ الشَّيْءِ وَأُجْرَةِ كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، دُونَ الأَْصْلِيَّةِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَالِكِ أَصْلِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَلَّةَ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَإِسْكَانِهَا وَرُكُوبِ السَّيَّارَةِ وَإِجَارَتِهَا وَأَلْبَانِ الْمَاشِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ لِلْمَبِيعِ إِلَى يَوْمِ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ غَلَّتَهُ لَهُ، وَالْغُنْمُ فِي نَظِيرِ الْغُرْمِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ غَلَّةُ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ وَالْغَلَّةُ فِي نَظِيرِ الضَّمَانِ (2) .
الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي أَرْضٍ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ.
18 - إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مِنْ آخَرَ أَرْضًا،
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص175 وما بعدها، ط. دار الفكر بدمشق.
(2) الشرح الصغير 3 / 186 وما بعدها، والشرح الكبير 3 / 121.(30/195)
فَغَرَسَ أَوْ بَنَى فِيهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ بَائِعِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف 15) .
الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ:
19 - لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ:
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ أَرْضًا لِلْغِرَاسِ أَوِ الْبِنَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ وَفِي الأَْرْضِ غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ، فَإِنْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ، أُجْبِرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ (أَوِ الْمُكْتَرِي) إِزَالَةُ الْبِنَاءِ أَوْ قَلْعُ الشَّجَرِ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ دَخَل عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ قَلَعَهُ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَلْعَ قَبْل الْوَقْتِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمَالِكُ؛ وَلأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الأَْرْضِ تَصَرُّفًا نَقَصَهَا، وَلَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدُ الإِْجَارَةِ.
فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ أَوِ الإِْزَالَةَ، خُيِّرَ الْمُؤَجِّرُ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:(30/195)
1 - تَرْكُهُ عَلَى ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل.
2 - أَخْذُ الْمُؤَجِّرِ الْغِرَاسَ أَوِ الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَيَمْتَلِكُهُ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَزُول عَنْهُمَا.
3 - إِزَالَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الْبِنَاءَ أَوْ قَلْعُ الْغِرَاسِ مَعَ ضَمَانِهِ أَرْشَ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ مَعَ دَفْعِ الأَْرْشِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا أَوْ مُعَدًّا لِنَفْعٍ عَامٍّ فَلاَ يُهْدَمُ، وَتَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَتُهُ مُدَّةَ بَقَائِهِ أَوْ إِلَى زَوَالِهِ لأَِنَّهُ الْعُرْفُ، إِذْ وَضْعُ هَذِهِ لِلدَّوَامِ، وَلاَ يُعَادُ الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ لَوِ انْهَدَمَ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الأَْرْضِ؛ لِزَوَال حُكْمِ الإِْذْنِ بِزَوَال الْعَقْدِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِيهَا، وَلَوْ بِإِذْنِ الْمُؤَجِّرِ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا هَدْمُ الْبِنَاءِ وَقَلْعُ الْغَرْسِ، وَإِمَّا تَمَلُّكُ مَا اسْتَحْدَثَ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحِقَّ الْقَلْعِ إِنْ أَضَرَّ الْهَدْمُ أَوِ الإِْزَالَةُ بِالْعَقَارِ؛ لأَِنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ فَلِلْمُؤَجِّرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ الْبَانِيَ أَوِ الْغَارِسَ
__________
(1) المهذب 1 / 404، وكشاف القناع 4 / 44 - 46.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 19، والمجلة (م531) ومرشد الحيران (م 658 - 659) .(30/196)
بِهَدْمِ بِنَائِهِ أَوْ قَلْعِ شَجَرِهِ أَوْ يَدْفَعَ لَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا، أَوْ يُرْضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ فِي مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ الْمُدَّةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لأَِجْل بَقَاءِ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ (1) .
رَهْنُ الْعَقَارِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل مَا صَحَّ بَيْعُهُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ صَحَّ رَهْنُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ الاِسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ لِيُتَوَصَّل إِلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُل عَيْنٍ يَصِحُّ بَيْعُهَا.
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ رَهْنَ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْن ف 9)
غَصْبُ الْعَقَارِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْغَصْبِ تَجْرِي فِي الْعَقَارِ إِذْ يُمْكِنُ غَصْبُهُ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْب) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 46.(30/196)
وَقْفُ الْعَقَارِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَحَوَانِيتَ وَبَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَفُوهُ، مِثْل مَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقْفِهِ أَرْضَهُ فِي خَيْبَرَ؛ وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مُتَأَبِّدٌ يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
وَالْبِنَاءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْقُولٌ، وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُول عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، وَبِمَا أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا وَقْفَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ بِلاَ أَرْضٍ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الأَْرْضِ لَهُ صُوَرٌ ثَلاَثٌ.
ر: مُصْطَلَحَ: (وَقْف) .
تَعَلُّقُ حَقِّ الاِرْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ الْمَبِيعِ.
23 - تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول، فَيَكُونُ حَقُّ الاِرْتِفَاقِ مُقَرَّرًا دَائِمًا عَلَى عَقَارٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الأَْرْضِ دُونَ حَقِّ الاِرْتِفَاقِ، وَلاَ يَدْخُل حَقُّ الاِرْتِفَاقِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً، أَوْ بِذِكْرِ مَا يَدُل عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُ الأَْرْضَ بِحُقُوقِهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا، أَوْ كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَوْلَهَا، أَمَّا فِي الإِْجَارَةِ فَتَدْخُل حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَأْجُورِ(30/197)
بِدُونِهَا، وَيُقَاسُ الْوَقْفُ اسْتِحْسَانًا عَلَى الإِْجَارَةِ لاَ عَلَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ هُوَ مُجَرَّدُ الاِنْتِفَاعِ وَهُوَ لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ بِأَنْ يَدْخُل الشِّرْبُ وَالْمَسِيل وَالطَّرِيقُ فِي وَقْفِ الأَْرْضِ دُونَ نَصٍّ عَلَيْهَا (1)
تَعَلُّقُ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ لاَ الْمَنْقُول:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَة ف 24)
عَقِب
انْظُرْ: كِرَاءُ الْعَقِبِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 189 وما بعدها، والبحر الرائق 6 / 148 - 149، والبهجة شرح التحفة 2 / 251 - 252، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص224 نشر دار الكتب العلمية، والأحكام السلطانية للماوردي ص187 نشر دار الكتب العلمية.
(2) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1229) .(30/197)
عَقْد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، قَال فِي الْقَامُوسِ: عَقَدَ الْحَبْل وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ: شَدَّهُ (1) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، يُقَال: عَقَدَ الْحَبْل: إِذَا جَمَعَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الآْخَرِ وَرَبَطَ بَيْنَهُمَا (2) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: قِيل: عَقَدْتُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَّدْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَوْكِيدٌ، وَعَاقَدْتُهُ عَلَى كَذَا، وَعَقَدْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى: عَاهَدْتُهُ، وَمَعْقِدُ الشَّيْءِ مِثْل مَجْلِسٍ: مَوْضِعُ عَقْدِهِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إِحْكَامُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَالْجَمْعُ عُقُودٌ (3) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} (5) أَيْ: أَحْكَامَهُ، وَالْمَعْنَى: لاَ تَعْزِمُوا
__________
(1) القاموس.
(2) لسان العرب.
(3) المصباح المنير.
(4) سورة المائدة / 1.
(5) سورة البقرة / 235.(30/198)
عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أ - الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَهُوَ كُل مَا يَعْقِدُهُ (يَعْزِمُهُ) الشَّخْصُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ، كَمَا يَقُول الْجَصَّاصُ (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل عَقْدًا؛ لأَِنَّ الْحَالِفَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالأَْمَانُ؛ لأَِنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا، وَكَذَا كُل مَا شَرَطَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل فَهُوَ عَقْدٌ، وَكَذَلِكَ النُّذُورُ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ (3) .
وَمِنْ هَذَا الإِْطْلاَقِ الْعَامِّ قَوْل الأَْلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حَيْثُ قَال: الْمُرَادُ بِهَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالأَْحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَمَا يَعْقِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الأَْمَانَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 192.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 294، 295.
(3) المرجع السابق.
(4) تفسير روح المعاني 6 / 48.(30/198)
ب - الْمَعْنَى الْخَاصُّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَتَيْنِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَحَل، قَال الْجُرْجَانِيُّ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (1) .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: ارْتِبَاطُ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول الاِلْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا (2) .
وَمَوْضُوعُ الْبَحْثِ هُنَا الْعَقْدُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - أَصْل الاِلْتِزَامِ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا؛ أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، يُقَال: لَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ: وَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل فَالْتَزَمَ، وَالاِلْتِزَامُ الاِعْتِنَاقُ (3) .
وَالاِلْتِزَامُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا عَلَيْهِ مِنْ قَبْل، وَقَال الْحَطَّابُ: إِنَّهُ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ. . . وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الاِلْتِزَامِ (4) .
__________
(1) التعريفات.
(2) المنثور 2 / 397.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.
(4) فتح العلي المالك 1 / 217، 218.(30/199)
وَالاِلْتِزَامُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.
ب - التَّصَرُّفُ.
3 - التَّصَرُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَلُّبُ فِي الأُْمُورِ، وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ (1) .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَيَشْمَل التَّصَرُّفَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالتَّصَرُّفُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ.
ج - الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ:
4 - الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَال: عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الأَْمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ (2) .
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَقْدِ بِالإِْطْلاَقِ الْعَامِّ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِالإِْطْلاَقِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا الْوَعْدُ فَيَدُل عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا (3) .
وَالْوَعْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) مقاييس اللغة لابن فارس، والمصباح المنير.
(4) فتح العلي المالك 1 / 254، 257.(30/199)
أَرْكَانُ الْعَقْدِ:
5 - أَرْكَانُ الشَّيْءِ: أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَجَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرُّكْنُ هُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عَاقِدٌ وَصِيغَةٌ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) وَمَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلاَثَةَ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْعَقْدِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَل فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ، لاَ مِنَ الأَْرْكَانِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ (4) .
وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) التعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 1 / 161 - 164.
(3) الحطاب والمواق عليه 3 / 419 و4 / 228 والشرح الصغير 2 / 3 ونهاية المحتاج 3 / 12 ومغني المحتاج 2 / 5 - 7، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(4) الاختيار 2 / 4.(30/200)
شُرُوطٌ لاَ بُدَّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَوَافُرِهَا، نَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - صِيغَةُ الْعَقْدِ:
6 - صِيغَةُ الْعَقْدِ: كَلاَمٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ وَيَدُل عَلَى رِضَاهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِـ (الإِْيجَابِ وَالْقَبُول) (1) .
وَتَخْتَلِفُ الصِّيغَةُ فِي الْعَقْدِ حَسْبَ اخْتِلاَفِ الْعُقُودِ.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَصْلُحُ لِلصِّيغَةِ كُل لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا وَالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ، مِثْل قَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، أَوْ: أَعْطَيْتُكَ، أَوْ: مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، وَقَوْل الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوْ: قَبِلْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (2) .
وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ يَكْفِي كُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، مِثْل قَوْل الْمُحِيل: أَحَلْتُكَ وَأَتْبَعْتُكَ، وَقَوْل الْمُحَال عَلَيْهِ: رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، وَنَحْوَهَا (3) .
وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَنْعَقِدُ بِقَوْل الرَّاهِنِ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَعْطَيْتُهَا لَكَ رَهْنًا، وَقَوْل الْمُرْتَهِنِ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 228.
(2) المادة (169) من مجلة الأحكام العدلية، وحاشية الشرقاوي 2 / 16.
(3) المادة (680) من المجلة.
(4) المادة (770) من المجلة.(30/200)
فَالأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَدُل عَلَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول لُغَةً أَوْ عُرْفًا يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الأَْصْل لَفْظٌ خَاصٌّ، وَلاَ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ.
7 - وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الأَْصْل عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظٍ اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ الإِْنْكَاحِ، دُونَ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالإِْحْلاَل وَالإِْبَاحَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالأَْذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ (1) .
وَقَال الْحَجَّاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلاَ يَصِحُّ إِيجَابٌ إِلاَّ بِلَفْظِ أَنْكَحْتُ أَوْ زَوَّجْتُ. . وَلاَ يَصِحُّ قَبُولٌ لِمَنْ يُحْسِنُهَا إِلاَّ بِقَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ أَوْ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ رَضِيتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَبِلْتُ، فَقَطْ، أَوْ: تَزَوَّجْتُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِكُل
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 140.
(2) الإقناع 3 / 167.(30/201)
لَفْظٍ يَدُل عَلَى التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَوَهَبْتُ وَنَحْوِهَا، إِذَا قُرِنَ بِالْمَهْرِ وَدَل اللَّفْظُ عَلَى الزَّوَاجِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (نِكَاح وَصِيغَة) .
الْمُرَادُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
8 - الْمُرَادُ بِالإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلاَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ، وَالْقَبُول: مَا صَدَرَ ثَانِيًا عَنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَالًّا عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل (2) ، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَوَّلِيَّةُ الصُّدُورِ فِي الإِْيجَابِ وَثَانَوِيَّتُهُ فِي الْقَبُول، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ.
وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْيجَابَ: مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ كَالْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالْقَبُول: هُوَ مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَصِيرُ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ صَدَرَ أَوَّلاً، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ الْمُمَلِّكَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُتَمَلِّكُ هُوَ الْقَابِل، وَلاَ اعْتِبَارَ لِمَا صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 268، ومواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والإكليل 3 / 419، و420.
(2) الاختيار لتعليل المختار 2 / 4، وفتح القدير 2 / 244.
(3) جواهر الإكليل 2 / 2، ومنح الجليل 2 / 462، وحاشية القليوبي 2 / 153، ومغني المحتاج 2 / 5، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، والمغني لابن قدامة 3 / 561 ط الرياض.(30/201)
وَسَائِل الإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول كَمَا يَحْصُلاَنِ بِالأَْلْفَاظِ، كَذَلِكَ يَحْصُلاَنِ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعَاطَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ بَعْضِ هَذِهِ الْوَسَائِل فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْعَقْدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول اللَّفْظِيَّيْنِ.
10 - الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِالأَْلْفَاظِ هُوَ الأَْصْل فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول إِذَا كَانَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ كَمَا إِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَقَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَال فِي عُرْفِ أَهْل اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ (1) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمَا، كَمَا قَال الْحَطَّابُ (2) .
وَلاَ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُل عَلَى الاِسْتِقْبَال كَصِيغَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 133، وفتح القدير 5 / 74، 75.
(2) مواهب الجليل 4 / 229، 230.(30/202)
الاِسْتِفْهَامِ وَالْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الاِسْتِقْبَال (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُل عَلَى الْحَال كَصِيغَةِ الأَْمْرِ مَثَلاً، كَقَوْلِهِ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
(2) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْبَيْعُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (3) .
أَمَّا صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الْحَال يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَإِلاَّ فَلاَ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا قَال الْبَائِعُ: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ أَبْذُلُهُ أَوْ أُعْطِيكَهُ، وَقَال الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ مِنْكَ أَوْ آخُذُهُ، وَنَوَيَا الإِْيجَابَ لِلْحَال، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالآْخَرُ بِالْمُسْتَقْبَل مَعَ نِيَّةِ الإِْيجَابِ لِلْحَال - فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَنْعَقِدْ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 3، 4 ومغني المحتاج 2 / 5، 6 والمغني لابن قدامة 3 / 560 - 561 ط. الرياض، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(2) شرح المجلة للأتاسي 2 / 33، والاختيار 2 / 4، ومغني المحتاج 2 / 5، والمغني لابن قدامة 3 / 561
(3) منح الجليل 2 / 462، ومغني المحتاج 2 / 5، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، والمغني لابن قدامة 3 / 561.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 4.(30/202)
وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ حَيْثُ قَال: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَمْ يُقْبَل مِنْهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلاَمُهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صِيغَة ف 7) .
اعْتِبَارُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.
11 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي (2) ، مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - كَمَا يَقُول فِي الدُّرَرِ - أَنَّهُ عِنْدَ حُصُول الْعَقْدِ لاَ يُنْظَرُ لِلأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ، بَل إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْكَلاَمِ الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلاَ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَمَا الأَْلْفَاظُ إِلاَّ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي (3) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُقُودِ، فَطَبَّقُوهَا فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يُطَبِّقُوهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَسْبَ اخْتِلاَفِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ.
__________
(1) الحطاب 4 / 232.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (3) .
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 18، 19.(30/203)
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَبَّقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ، وَلَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأَْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل حَوَالَةٌ، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ. . وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ عَلَيْهِ كَانَ إِبْرَاءً لِلْمَعْنَى، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول عَلَى الصَّحِيحِ. . وَلَوْ رَاجَعَهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِلْمَعْنَى، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا بِكَذَا، فَقَال: أَخَذْتُ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ ذِكْرِ الْبَدَل، وَبِلَفْظِ الإِْعْطَاءِ وَالاِشْتِرَاءِ. وَتَنْعَقِدُ الإِْجَارَةُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنَافِعِ، وَبِلَفْظِ الْعَارِيَّةِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا يَدُل عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْحَال كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَعَكْسِهِ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ كُل الرِّبْحِ كَانَ الْمَال قَرْضًا، وَلَوْ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَال كَانَ إِبْضَاعًا.
ثُمَّ قَال: وَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الأَْصْل مَسَائِل:
مِنْهَا: لاَ تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْبَيْعِ بِلاَ ثَمَنٍ، وَلاَ الْعَارِيَّةُ بِالإِْجَارَةِ بِلاَ أُجْرَةٍ وَلاَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلاَ يَقَعُ الْعِتْقُ بِأَلْفَاظِ الطَّلاَقِ وَإِنْ نَوَى، وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ تُرَاعَى(30/203)
فِيهِمَا الأَْلْفَاظُ لاَ الْمَعْنَى فَقَطْ (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِل الَّتِي طَبَّقَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْقَاعِدَةَ فِيهَا عَقْدُ بَيْعِ الْوَفَاءِ. فَإِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بَيْعَ الْوَفَاءِ بِكَذَا، وَقَبِل الآْخَرُ، لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكَ عَيْنِ الدَّارِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، بَل الْمَقْصُودَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، وَإِبْقَاءُ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ دُونَ الْبَيْعِ اعْتِبَارًا لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي دُونَ الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعِيدَ الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ كَالرَّهْنِ (3) . كَمَا لاَ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص207، 208، والبحر الرائق 6 / 220.
(2) درر الحكام شرح المجلة 1 / 19.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 247.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 209.(30/204)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 7) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، وَقَدْ تَوَسَّعُوا بِالأَْخْذِ بِالْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْعُقُودِ حَتَّى أَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْمُعَاطَاةِ وَقَالُوا: كُل مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَشَدَّدُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاشْتَرَطُوا فِيهِ اللَّفْظَ الدَّال عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ لَفْظَ النِّكَاحِ أَوِ الزَّوَاجِ، وَقَالُوا: يَنْعَقِدُ بِكُل لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالنِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ النِّكَاحَ صَحَّ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِتَرْجِيحِ الْمَعَانِي عَلَى الأَْلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ كَأَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَل ذَكَرُوا فِي الأَْخْذِ بِهِ خِلاَفًا، قَال السُّيُوطِيُّ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ، فَمِنْهَا: إِذَا قَال: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَال: بِعْتُكَ، فَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ.
وَالثَّانِي - وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ - أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَلَمًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى.
__________
(1) الفروق للقرافي مع الهامش 1 / 39، 3 / 143.(30/204)
وَمِنْهَا: إِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَل يَكُونُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى أَوْ هِبَةً بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ؟ الأَْصَحُّ: الأَْوَّل.
وَمِنْهَا: إِذَا قَال: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوِ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَال: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا، وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا عَلَى الأَْظْهَرِ لاِخْتِلاَفِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: إِذَا قَال لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالثَّانِي: لاَ، اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الإِْبْرَاءِ.
وَمِنْهَا: الْخِلاَفُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالإِْجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ، وَالإِْجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ الإِْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَسَائِل (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ضَابِطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَال:
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ تَهَافَتَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص183 - 185.(30/205)
اللَّفْظُ حُكِمَ بِالْفَسَادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَبِعْتُكَ بِلاَ ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوِ الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لاِشْتِهَارِ الصِّيغَةِ فِي بَيْعِ الذِّمَمِ، وَقِيل: يَنْعَقِدُ بَيْعًا. . وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، بَل كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ، كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا، فَالأَْصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا، وَإِنِ اسْتَوَى الأَْمْرَانِ فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لأَِنَّهَا الأَْصْل وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا
(1) وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَجَّحُوا الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ عَلَى الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ مَعَ بَعْضِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ وَالْخِلاَفِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل.
يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الأَْلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا بَل جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِل وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْغَضَبِ أَوِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَال مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) (2) فَكَيْفَ
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 371 - 374.
(2) حديث: " الذي قال من شدة فرحه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2104 - 2105) من حديث أنس بن مالك.(30/205)
يَعْتَبِرُ الأَْلْفَاظَ الَّتِي يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلاَفُهَا؟ (1) .
وَيَقُول فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلاَفَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ (2) .
وَيَقُول: إِنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الأَْلْفَاظِ، فَإِنَّ الأَْلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لأَِجْلِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالأَْفْعَال بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا (3) .
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ دُونَ الأَْلْفَاظِ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ ذَكَرُوا بَعْضَ الْمَسَائِل الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ أَوِ الأَْلْفَاظِ فِيهَا.
قَال ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا وَصَل بِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَل يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، أَوْ يُجْعَل كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ هَل هُوَ اللَّفْظُ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل:
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 107.
(2) إعلام الموقعين 3 / 106.
(3) المرجع السابق 3 / 106، 107.(30/206)
مِنْهَا: لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ فَهَل يَصِحُّ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقَرْضِ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا.
وَمِنْهَا: لَوْ قَال: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، أَوْ لِي، فَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْل، وَكَذَلِكَ قَال فِي الْمُغْنِي، وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّهُ قَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، فَرَاعَى الْحُكْمَ دُونَ اللَّفْظِ.
وَمِنْهَا: لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ حَالًّا فَهَل يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا؟ أَوْ لاَ يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلاَفِهِ (1) .
وَهَكَذَا نَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي عَلَى الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مَعَ أَخْذِهِمْ بِهَا كَأَصْلٍ.
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ.
12 - مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى
__________
(1) القواعد في الفقه لابن رجب ص49، 50.(30/206)
الْمُرَادِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، فَلاَ يَدُل عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا يَقُول الشُّبْرَامِلْسِيُّ يَحْتَمِل الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الاِعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ وَالْعِتْقَ وَالأَْيْمَانَ وَالنُّذُورَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ.
وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ (1) .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِي بَيَانِ اسْتِعْمَال صِيَغِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: قَال أَصْحَابُنَا: كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ بَل يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيل إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّل الإِْشْهَادَ، فَهَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 15، 101 و4 / 46 و5 / 84 وجواهر الإكليل 2 / 231، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 318 وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 84، والمنثور 2 / 310، و3 / 101، 118 ومنتهى الإرادات 3 / 427.(30/207)
لاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَل مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا الاِنْعِقَادُ كَالْخُلْعِ لِحُصُول التَّرَاضِي مَعَ جَرَيَانِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: قَال لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْنِي جَمَلَكَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَال: قَدْ أَخَذْتُهُ (1) .
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلاَفُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عَدِمَتْ قَرَائِنَ الأَْحْوَال، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَافَرَتِ الْقَرَائِنُ (2)
__________
(1) حديث جابر: " بعني جملك. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1222) .
(2) المجموع للنووي 9 / 153 - 154 تحقيق المطيعي، وينظر المنثور 3 / 118، 2 / 306، 307.(30/207)
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي دُخُول الْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: يَخْتَلِفُ الأَْصْحَابُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ، فَقَال الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ: لاَ كِنَايَةٌ إِلاَّ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ لاَ كِنَايَاتٌ فِيهَا (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ بِالأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَال: وَلاَ أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلاً (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) قَال: الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَل وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُسْتَقْبَل كِنَايَةٌ، ثُمَّ قَال: وَالْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْل الْمِلْكِ (4) ، وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَتَلْزَمُ، أَوْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ نَقَل قَوْل الْقُرْطُبِيِّ: الْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْل الْمِلْكِ، وَفِي الْحَطَّابِ أَيْضًا: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي
__________
(1) القواعد لابن رجب ص50 القاعدة 39.
(2) بداية المجتهد 2 / 185 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(3) سورة البقرة / 275.
(4) القرطبي 3 / 357.(30/208)
الْبَيْعِ فَكَلاَمُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (1) .
وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُل فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ، قَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: لَوْ قَال: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِل الْهِبَةَ، وَيَحْتَمِل الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيل اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ (2) .
فَاحْتَمَل تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَل تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ (3) ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَال الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الإِْيجَابَ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا - وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَل لِلْحَال هُوَ الصَّحِيحَ -؛ لأَِنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلاِسْتِقْبَال إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ (4) .
__________
(1) الحطاب 4 / 232.
(2) حديث: " أن عمر قال: " حملت على فرس في سبيل الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 352) ومسلم (3 / 1240) واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 6 / 116.
(4) بدائع الصنائع 5 / 133.(30/208)
ب - الْعَقْدُ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ.
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَال رَسُولٍ إِذَا تَمَّ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِهِمَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْعُقُودِ وَفَصَّلُوا فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ. قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الإِْرْسَال، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ (2) . وَقَال الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الْبَيْعِ: يَصِحُّ بِقَوْلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ كِتَابَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَوْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَكِتَابَةٍ مِنَ الآْخَرِ (3) .
أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ أَمْ غَائِبَيْنِ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ تَكْفِي فِي النِّكَاحِ الإِْشَارَةُ وَلاَ الْكِتَابَةُ إِلاَّ لِضَرُورَةِ خَرَسٍ (4) .
وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفُسِخَ مُطْلَقًا قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ وَإِنْ طَال، كَمَا لَوِ اخْتَل شَرْطٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 10، وحاشية الدسوقي وبهامشه الشرح الكبير للدردير 3 / 3، مغني المحتاج 2 / 5، وحاشية القليوبي 2 / 154، وكشاف القناع 3 / 148.
(2) الهداية مع فتح القدير 5 / 79.
(3) حاشية الدسوقي وبهامشه الشرح الكبير للدردير 3 / 3.
(4) الشرح الصغير 2 / 350.(30/209)
مِنْ شُرُوطِ الْوَلِيِّ أَوِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ اخْتَل رُكْنٌ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ، بَل بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ؛ لأَِنَّهَا كِنَايَةٌ، فَلَوْ قَال لِغَائِبٍ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ قَال: زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلاَنٍ، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَال: قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلاَ كِتَابَةٍ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهَا (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ فَقَالُوا: لاَ يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةِ حَاضِرٍ، فَلَوْ كَتَبَ: تَزَوَّجْتُكِ، فَكَتَبَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَتْ: قَبِلْتُ، أَمَّا كِتَابَةُ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطٍ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ نَقَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ فَقَال: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَوْ تَقُول: إِنَّ فُلاَنًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطِبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 387.
(2) مغني المحتاج 3 / 141.
(3) كشاف القناع 5 / 39.(30/209)
نَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُل بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلاَنٍ، لاَ يَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَبِإِسْمَاعِهِمُ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا يَكُونُونَ قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا انْتَفَيَا، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الْكَامِل: هَذَا الْخِلاَفَ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي، لاَ يُشْتَرَطُ إِعْلاَمُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ (1) .
14 - وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ - عُمُومًا - أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً؛ أَيْ تَبْقَى صُورَتُهَا بَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْوَرَقِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَتُقْرَأُ وَتُفْهَمُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَرْسُومَةٍ بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَا أَيَّ عَقْدٍ.
وَوَجْهُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِتَابَةِ هُوَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا قَال الْفُقَهَاءُ (2) ، بَل رُبَّمَا تَكُونُ هِيَ أَقْوَى مِنَ الأَْلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ حَثَّ
__________
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 265، وانظر أيضًا فتح القدير مع الهداية 2 / 350 ط. مصطفى محمد.
(2) بدائع الصنائع 4 / 55، وابن عابدين 4 / 455، 456، وجواهر الإكليل 1 / 348، ومغني المحتاج 2 / 5.(30/210)
اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} (1) .
ج - الْعَقْدُ بِالإِْشَارَةِ.
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الإِْشَارَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُل شَيْءٍ (2) .
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلاَمِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا (3)
وَقَال الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ بِالْعَقْدِ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ (4) . وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ (5) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الأَْخْرَسِ، فَقَال
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص343، 344.
(3) الفواكه الدواني 2 / 57.
(4) مغني المحتاج 2 / 17، وانظر حاشية القليوبي مع عميرة 2 / 155، والمنثور للزركشي 1 / 164.
(5) المغني لابن قدامة 7 / 239.(30/210)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لاَ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ الإِْشَارَةِ فِي الْعُقُودِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ (1) .
وَهَل عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرْطٌ لِلْعَمَل بِالإِْشَارَةِ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِشَارَة) .
د - الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي (الْمُعَاطَاةِ) .
16 - التَّعَاطِي مَصْدَرُ تَعَاطَى، مِنَ الْعَطْوِ بِمَعْنَى التَّنَاوُل، وَصُورَتُهُ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ الآْخَرُ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلاَ إِشَارَةٍ، وَكَمَا يَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ (2) .
وَعَقْدُ الزَّوَاجِ لاَ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي (3) .
أَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَالأَْصْل فِيهَا أَنْ تَنْعَقِدَ بِالأَْقْوَال؛ لأَِنَّ الأَْفْعَال لَيْسَ لَهَا دَلاَلَةٌ بِأَصْل وَضْعِهَا عَلَى الاِلْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّعَاطِي يَنْطَوِي عَلَى دَلاَلَةٍ تُشْبِهُ الدَّلاَلَةَ
__________
(1) المراجع السابقة، ومجلة الأحكام العدلية المادة (70) .
(2) لسان العرب وحاشية الدسوقي 3 / 3.
(3) ابن عابدين 5 / 365، ومغني المحتاج 3 / 140، وكشاف القناع 5 / 41.(30/211)
اللَّفْظِيَّةَ حَسْبَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ إِذَا وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّضَا، وَهَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالاِسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ جَوَازِ الْعُقُودِ بِالتَّعَاطِي، وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الْعَقْدَ بِالتَّعَاطِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الاِنْعِقَادَ بِهَا فِي كُل مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا (1) .
مُوَافَقَةُ الْقَبُول لِلإِْيجَابِ.
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ مِنْ تَوَافُقِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ بِمَا أَوْجَبَهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِل غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ، أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ مُبْتَدَأٍ مُوَافِقٍ (2) .
قَال فِي الْبَدَائِعِ: إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17 وما بعدها، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 36، وحاشية الدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 3، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.
(2) بدائع الصنائع 5 / 136، 137، ومغني المحتاج 2 / 6، وكشاف القناع 3 / 146.(30/211)
الثَّوْبِ فَقَبِل فِي ثَوْبٍ آخَرَ لاَ يَنْعَقِدُ، وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ فِي الثَّوْبَيْنِ فَقَبِل فِي أَحَدِهِمَا؛ لأَِنَّ الْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ؛ وَلأَِنَّ الْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ.
وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي كُل الثَّوْبِ فَقَبِل الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ لاَ يَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ. وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِل فِيهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لاَ يَنْعَقِدُ، أَوْ أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِل بِجِنْسٍ آخَرَ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ فِي الْقَدْرِ، فَلَوْ خَالَفَ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ (2) وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِهِ فِي النَّقْدِ وَصِفَتِهِ وَالْحُلُول وَالأَْجَل، فَلَوْ قَال: بِعْتُكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَال: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ صَحِيحَةٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ مُكَسَّرَةٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِلإِْيجَابِ لاَ قَبُولٌ لَهُ (3) .
وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ (4) .
وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ. لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ تَوَافُقَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 136، 137.
(2) كشاف القناع 3 / 146، 147.
(3) كشاف القناع 3 / 146، 147.
(4) مغني المحتاج 2 / 6، 7.(30/212)
قَال: بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَال: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفَيْنِ جَازَ؛ لأَِنَّ الْقَابِل بِالأَْكْثَرِ قَابِلٌ بِالأَْقَل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ قَبِل الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ تَمَّ الْعَقْدُ بِأَلْفَيْنِ، وَإِلاَّ صَحَّ بِأَلْفٍ فَقَطْ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَابِل وِلاَيَةُ إِدْخَال الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِلاَ رِضَاهُ كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ (1) .
اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ:
18 - يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُول مُتَّصِلاً بِالإِْيجَابِ، وَيَحْصُل هَذَا الاِتِّصَال بِاتِّحَادِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، بِأَنْ يَقَعَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول مَعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ الإِْيجَابُ، وَإِذَا كَانَ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ غَائِبًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِالإِْيجَابِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ بَاقِيًا عَلَى إِيجَابِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِل بِهِ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، وَلاَ يَرْجِعَ عَنِ الإِْيجَابِ قَبْل اتِّصَال الْقَبُول بِهِ، وَلاَ يَصْدُرُ عَنْهُ أَوْ مِمَّنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ وَلاَ يَنْفَضَّ مَجْلِسُ الْعَقْدِ قَبْل تَمَامِ الْعَقْدِ وَلاَ يَعْنِي هَذَا
__________
(1) فتح: القدير 5 / 77، ورد المحتار 4 / 19.(30/212)
بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فَوْرَ صُدُورِ الإِْيجَابِ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُول، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - رُجُوعُ الْمُوجِبِ عَنِ الإِْيجَابِ.
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الإِْيجَابَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِيجَابِهِ قَبْل قَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، أَمْ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمِثْلِهِمَا، قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلِلْمُوجِبِ أَيًّا كَانَ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل قَبُول الآْخَرِ (1) ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَبْل قَبُول الآْخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ (2) ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لِلْمُخَاطَبِ وِلاَيَةَ الْقَبُول، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْل الْوَكِيل؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيل حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ، فَالْبَائِعُ مَثَلاً مَالِكٌ لِلسِّلْعَةِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَمَلَّكُهَا بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 8.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 138.
(3) فتح القدير 5 / 78.(30/213)
وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الْمُوجِبُ قَبْل الْقَبُول ثُمَّ قَبِل الْمُخَاطَبُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لِبُطْلاَنِ الإِْيجَابِ بِالرُّجُوعِ وَعَدَمِ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فِي شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ: وَأَنْ يُصِرَّ الْبَادِي عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الإِْيجَابِ إِلَى الْقَبُول (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِصَاحِبِهِ قَبْل أَنْ يُجِيبَهُ الآْخَرُ لَمْ يُفِدْهُ رُجُوعُهُ إِذَا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ بَعْدُ بِالْقَبُول (2) ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ رُجُوعَ الْمُوجِبِ عَنِ الإِْيجَابِ لاَ يُبْطِل الإِْيجَابَ، بَل يَبْقَى إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّرَفُ الآْخَرُ فَيَتَّصِل بِهِ الْقَبُول، وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، أَوْ يَرُدُّهُ فَلاَ يَنْعَقِدُ، وَيَرَى الدُّسُوقِيُّ أَنَّ قَوْل ابْنِ رُشْدٍ هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الصِّيغَةُ مُلْزِمَةً كَصِيغَةِ الْمَاضِي (3) .
وَهَل لِلْقَابِل أَنْ يَرْجِعَ عَنْ قَبُولِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ
ب - صُدُورُ مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ مِنْ قِبَل الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.
20 - يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الاِتِّصَال بَيْنَ الإِْيجَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 6، والوجيز للغزالي 1 / 139، والشرح الكبير مع المغني 4 / 4.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 4.(30/213)
وَالْقَبُول أَنْ لاَ يَصْدُرَ مِنَ الْمُوجِبِ أَوِ الطَّرَفِ الآْخَرِ أَوْ كِلَيْهِمَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ عَنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ فِي مَوْضُوعِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَتَخَلَّلَهُ فَصْلٌ يُعَدُّ قَرِينَةً عَلَى الاِنْصِرَافِ عَنِ الْعَقْدِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: الإِْيجَابُ يَبْطُل بِمَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: لَوْ حَصَل فَاصِلٌ يَقْتَضِي الإِْعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ حَتَّى لاَ يَكُونَ كَلاَمُهُ جَوَابًا لِلْكَلاَمِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ، وَمَثَّل لِلإِْعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَمْسَكَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ الَّتِي نَادَى عَلَيْهَا وَبَاعَ بَعْدَهَا أُخْرَى لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ (2) .
وَشَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَيُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَتَخَلَّل الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظٌ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ يَسِيرًا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ: أَنْ لاَ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِعْرَاضٌ عَنِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَا بِالرَّدِّ (4) .
وَأَسَاسُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُعْتَبَرُ إِقْبَالاً عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 20.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.
(3) نهاية المحتاج 3 / 269، 270.
(4) كشاف القناع 3 / 147، 148.(30/214)
الْعَقْدِ أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهُ هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ (1) .
ج - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَفَاةَ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَقَبْل الْقَبُول يُبْطِل الإِْيجَابَ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِقَبُول مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوجِبِ، وَلاَ بِقَبُول وَرَثَةِ الْمُخَاطَبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَدَلِيل عَدَمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ أَنَّ الْقَبُول بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ لاَ يَجِدُ مَا يَلْتَقِي مَعَهُ مِنَ الإِْيجَابِ لِبُطْلاَنِهِ بِالْوَفَاةِ؛ وَلأَِنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ انْفَضَّ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْعِقَادِ، وَهُوَ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِهِمْ أَنَّ الإِْيجَابَ لاَ يَبْطُل عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ الْمُخَاطَبِ، وَأَنَّ حَقَّ الْقَبُول يُورَثُ بَعْدَ وَفَاةِ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِذَا أَوْجَبَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُول وَالرَّدُّ (3) ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية رد المحتار 4 / 20، والفتاوى الهندية 3 / 7، ومغني المحتاج 2 / 6، والمغني لابن قدامة 4 / 9، 10.
(3) الفروق 3 / 277.(30/214)
الْمَجْلِسَ لاَ يَنْفَضُّ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَهُمْ قَبْل قَبُول أَوْ رَدِّ الْمُخَاطَبِ (1) ، أَمَّا بَقَاءُ الإِْيجَابِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ أَوْ بُطْلاَنِهِ بِوَفَاتِهِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ.
هَذَا، وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْجُنُونَ وَالإِْغْمَاءَ بِالْوَفَاةِ فِي بُطْلاَنِ الإِْيجَابِ بِهِمَا (2) .
د - اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
22 - يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَيَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ بِاخْتِلاَفِ حَالَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَطَبِيعَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّةِ التَّعَاقُدِ، فَمَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي حَال غِيَابِهِمَا، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِالأَْلْفَاظِ وَالْعِبَارَةِ يَخْتَلِفُ عَنْهُمَا بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
1 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ.
23 - تَدُل نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 240، 241.
(2) مغني المحتاج 2 / 6.(30/215)
ثَلاَثَةِ عَنَاصِرَ: أَحَدُهَا: الْمَكَانُ، وَثَانِيهَا: الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ، وَثَالِثُهَا: حَالَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الاِجْتِمَاعِ وَالاِنْصِرَافِ عَلَى الْعَقْدِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، بِأَنْ كَانَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لاَ يَنْعَقِدُ، حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَامَ الآْخَرُ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبُول أَوِ اشْتَغَل بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلاَفَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَبِل، لاَ يَنْعَقِدُ (1) .
وَوَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ: هُوَ الاِجْتِمَاعُ الْوَاقِعُ لِلْعَقْدِ (2) وَالدَّلِيل عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ جَامِعًا لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول هُوَ: الضَّرُورَةُ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ، وَإِلاَّ فَالإِْيجَابُ يَزُول بِزَوَال الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَلاَ يَلْحَقُهُ الْقَبُول حَقِيقَةً، قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ، فَوُجِدَ الثَّانِي، وَالأَْوَّل مُنْعَدِمٌ فَلاَ يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى انْسِدَادِ بَابِ التَّعَاقُدِ، فَاعْتُبِرَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ (3)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 137.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (181) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 137.(30/215)
قَال الْبَابَرْتِيُّ: وَلأَِنَّ فِي إِبْطَال الإِْيجَابِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْمُشْتَرِي، وَفِي إِبْقَائِهِ فِي مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْبَائِعِ، وَفِي التَّوَقُّفِ بِالْمَجْلِسِ يُسْرًا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، فَجُعِلَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ (1) .
هَذِهِ هِيَ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ تَخْتَلِفُ عَنْهَا كَثِيرًا عِبَارَاتُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُول كَمَا سَيَأْتِي.
يَقُول الْحَطَّابُ: وَالَّذِي تَحَصَّل عِنْدِي مِنْ كَلاَمِ أَهْل الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِذَا أَجَابَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِمَا يَقْتَضِي الإِْمْضَاءَ وَالْقَبُول مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ لَزِمَهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ حَصَل فَاصِلٌ يَقْتَضِي الإِْعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ، حَتَّى لاَ يَكُونَ كَلاَمُهُ جَوَابًا لِلْكَلاَمِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدْ (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ: إِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ
__________
(1) العناية بهامش الهداية 5 / 78.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.(30/216)
كَحَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْقَبْضِ فِيهِ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ (1) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْعَنَاصِرِ الثَّلاَثَةِ، لَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُول
التَّرَاخِي أَوِ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول.
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول، فَمَا دَامَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَدَرَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَصْدُرِ الْقَبُول إِلاَّ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ تَمَّ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَضُرُّ التَّرَاخِي بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول إِذَا صَدَرَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ فِي تَرْكِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّ الْقَابِل يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّل، وَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى الْفَوْرِ لاَ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّل (2) .
وَقَال الْحَطَّابُ: وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَحْصُل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَصْلٌ بِكَلاَمِ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، فَإِنْ أَجَابَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 4 / 4، وكشاف القناع 3 / 147، 148.
(2) بدائع الصنائع 5 / 137.
(3) مواهب الجليل 4 / 241.(30/216)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ (1) .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَطُول الْفَصْل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِسُكُوتٍ وَلَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لأَِنَّ طُول الْفَصْل يُخْرِجُ الثَّانِيَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الأَْوَّل كَمَا عَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (3) ، وَقَالُوا: يَضُرُّ تَخَلُّل كَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ - وَلَوْ يَسِيرًا - بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَالْمُرَادُ بِالأَْجْنَبِيِّ مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَلاَ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلاَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهِ (4) .
عِلْمُ الْمُوجِبِ بِالْقَبُول:
25 - صَرَّحَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كَلاَمَ الآْخَرِ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَعْنِي اشْتِرَاطَ عِلْمِ الْمُوجِبِ بِقَبُول الْقَابِل فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: سَمَاعُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَلاَمَهُمَا شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالإِْجْمَاعِ (5) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 147، 148.
(2) المراجع السابقة، والعناية على الهداية 5 / 78.
(3) مغني المحتاج 2 / 5، 6 وحاشية القليوبي 2 / 154.
(4) المرجعان السابقان.
(5) الفتاوى الهندية 3 / 3.(30/217)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ سَمَاعَ مَنْ يَقْرَبُ مِنَ الْعَاقِدِ لاَ سَمَاعَ نَفْسِ الْعَاقِدِ، قَال الأَْنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَأَنْ يَتَلَفَّظَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ بِقُرْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ صَاحِبُهُ (1) .
وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَوْجَبَ لِغَائِبٍ؛ لأَِنَّ الإِْيجَابَ لِلْغَائِبِ لَفْظًا كَالإِْيجَابِ لَهُ كِتَابَةً، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ.
2 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ:
26 - لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَصِحُّ انْعِقَادُهُ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِالْعِبَارَةِ كَذَلِكَ يَصِحُّ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ بِالْكِتَابَةِ أَوْ إِرْسَال رَسُولٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَتَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَثَلاً: بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَوَصَل الْكِتَابُ لَهُ فَقَبِل انْعَقَدَ الْعَقْدُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ حَالَةَ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ قَبُول مَنْ وُجِّهَ لَهُ الْكِتَابُ، أَوْ أُرْسِل إِلَيْهِ الرَّسُول.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الإِْرْسَال، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ (2)
__________
(1) شرح المنهج بهامش الجمل 3 / 13.
(2) فتح القدير 5 / 81.(30/217)
وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ بَاعَ مِنْ غَائِبٍ، كَبِعْتُ دَارِيَ مِنْ فُلاَنٍ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَال: قَبِلْت انْعَقَدَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ، فَكَاتَبَهُ الْبَائِعُ أَوْ رَاسَلَهُ: إِنِّي بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَبِل الْبَيْعَ صَحَّ الْعَقْدُ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ الْقَبُول كَمَا قُلْنَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ هُوَ هَذَا الْمَجْلِسُ، فَإِذَا وَصَل الإِْيجَابُ إِلَى الْمُخَاطَبِ، فَكَأَنَّ الْمُوجِبَ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ، فَإِذَا قَبِلَهُ الْمُخَاطَبُ فِي مَجْلِسِهِ دُونَ إِعْرَاضٍ انْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا انْفَضَّ الْمَجْلِسُ أَوْ صَدَرَ مِمَّنْ وُجِّهَ لَهُ الإِْيجَابُ مَا يَدُل عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْقَبُول عُرْفًا لاَ يَنْعَقِدُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّرَاخِي هُوَ مَا بَيْنَ وُصُول الإِْيجَابِ وَصُدُورِ الْقَبُول فِي هَذَا الْمَجْلِسِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي حَالَةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ عِلْمُ الْمُوجِبِ بِقَبُول الْقَابِل، فَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الْعَقْدَ يَحْصُل بِمُجَرَّدِ قَبُول الْقَابِل فِي الْمَجْلِسِ (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 369.
(2) كشاف القناع 3 / 148.
(3) فتح القدير 5 / 81 وما بعدها، وبدائع الصنائع 5 / 138، ونهاية المحتاج 3 / 396، وكشاف القناع 3 / 148.(30/218)
عُقُودٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
27 - طَبِيعَةُ بَعْضِ الْعُقُودِ تَقْتَضِي أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، بَل إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْعُقُودِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:
أ - عَقْدُ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَصْدُرُ الإِْيجَابُ فِيهَا حَال حَيَاةِ الْمُوصِي، لَكِنْ لاَ يُعْتَبَرُ الْقَبُول مِنَ الْمُوصَى لَهُ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِذَا قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ أَوْ بَعْدَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَصِيَّةُ. ر: (وَصِيَّة)
ب - عَقْدُ الْوِصَايَةِ: (الإِْيصَاءُ) فَهِيَ إِقَامَةُ شَخْصٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ، بَل يَمْتَدُّ زَمَنُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْوِصَايَةُ خِلاَفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي.
ج - عَقْدُ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ إِقَامَةَ الشَّخْصِ الْغَيْرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّيْسِيرِ، فَإِذَا قَبِلَهَا الْوَكِيل فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الإِْيجَابِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ، وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ(30/218)
الْوَكِيل بِسَبَبِ غِيَابِهِ؛ لأَِنَّ لَهُ الرَّدَّ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، حَيْثُ إِنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ. ر: (وَكَالَة)
ثَانِيًا - الْعَاقِدَانِ.
28 - الْمُرَادُ بِالْعَاقِدَيْنِ: كُل مَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ، إِمَّا أَصَالَةً كَأَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ، أَوْ وَكَالَةً كَأَنْ يَعْقِدَ نِيَابَةً عَنِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ وِصَايَةً كَمَنْ يَتَصَرَّفُ خِلاَفَةً عَنِ الْغَيْرِ فِي شُئُونِ صِغَارِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِإِذْنٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ.
وَحَيْثُ إِنَّ الْعَقْدَ لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِ عَاقِدٍ فَقَدْ جَعَلَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا يُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدَيْنِ مَا يَأْتِي:
الأَْوَّل - الأَْهْلِيَّةُ:
29 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ: الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلاَ يَصِحُّ مِنْ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَمَجْنُونٍ وَمُبَرْسَمٍ.
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَتَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا، كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلاَ تَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْغَيْرِ وَالطَّلاَقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ(30/219)
وَنَحْوِهَا، وَلَوْ أَجَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ. أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ، وَلاَ تَصِحُّ بِدُونِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْعَاقِدِ الرُّشْدُ ر: (أَهْلِيَّة ف 18) .
الثَّانِي - الْوِلاَيَةُ.
30 - الْوِلاَيَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْقُرْبِ، وَالْوِلاَيَةُ: النُّصْرَةُ (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ لاَ (2) .
وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَظْهَرُ آثَارُهُ شَرْعًا لاَ بُدَّ فِي الْعَاقِدِ - بِجَانِبِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ - أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ لِيَعْقِدَ الْعَقْدَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَة) .
الثَّالِثُ - الرِّضَا وَالاِخْتِيَارُ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا أَسَاسُ الْعُقُودِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.(30/219)
لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (2) .
وَالرِّضَا: سُرُورُ الْقَلْبِ وَطِيبُ النَّفْسِ. وَهُوَ ضِدُّ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَعَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْل دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إِكْرَاهٌ (3)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ امْتِلاَءُ الاِخْتِيَارِ، أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، أَوْ إِيثَارِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ (4) .
ر: (رِضًا ف 2)
أَمَّا الاِخْتِيَارُ: فَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِل بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ (5)
ر: (اخْتِيَار ف 1) .
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَل الْفَسْخَ وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ التَّرَاضِي، وَقَدْ تَنْعَقِدُ
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: " إنما البيع عن تراض ". أخرجه ابن ماجه (2 / 737 ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح (مصباح الزجاجة 2 / 10) .
(3) الموسوعة الفقهية 22 / 228.
(4) التلويح على التوضيح 2 / 195، وكشف الأسرار 4 / 1503.
(5) الموسوعة الفقهية 2 / 315، 22 / 229.(30/220)
الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ، يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ:. . . لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي (1) .
فَأَصْل الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الرِّضَا، لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، فَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إِلَى أَصْل الاِخْتِيَارِ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً، أَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَنَحْوُهَا حَتَّى مَعَ الإِْكْرَاهِ (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ.
ر: (رِضًا ف 13)
عُيُوبُ الرِّضَا.
32 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي عُيُوبِ الرِّضَا: الإِْكْرَاهَ وَالْجَهْل، وَالْغَلَطَ، وَالتَّدْلِيسَ، وَالْغَبْنَ، وَالتَّغْرِيرَ، وَالْهَزْل، وَالْخِلاَبَةَ، وَنَحْوَهَا، فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ عَلَى
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 293، 294.
(2) تيسير التحرير 2 / 3006، الموسوعة الفقهية 22 / 233.(30/220)
خِلاَفٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، أَوْ غَيْرَ لاَزِمٍ يَكُونُ لِكِلاَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ فِي حَالاَتٍ أُخْرَى.
وَتَعْرِيفُ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهَا وَأَثَرُهَا عَلَى الرِّضَا وَخِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.
ثَالِثًا - مَحَل الْعَقْدِ.
33 - الْمُرَادُ بِمَحَل الْعَقْدِ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ، وَيَخْتَلِفُ الْمَحَل بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَل عَيْنًا مَالِيَّةً، كَالْمَبِيعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَالْمَرْهُونِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلاً مِنَ الأَْعْمَال، كَعَمَل الأَْجِيرِ فِي الإِْجَارَةِ، وَعَمَل الزَّارِعِ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَعَمَل الْوَكِيل فِي الْوَكَالَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، كَمَنْفَعَةِ الْمَأْجُورِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَمَنْفَعَةِ الْمُسْتَعَارِ فِي عَقْدِ الإِْعَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الْعَقْدِ شُرُوطًا تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي كُل عَقْدٍ وَذَكَرُوا بَعْضَ الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الْعُقُودِ عَامَّةً أَوْ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْعُقُودِ، مِنْهَا:(30/221)
أ - وُجُودُ الْمَحَل:
34 - يَخْتَلِفُ اشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ: فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَل، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) ؛ وَلأَِنَّ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يُوجَدْ غَرَرًا وَجَهَالَةً فَيُمْنَعُ، لِحَدِيثِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) وَعَلَى ذَلِكَ صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحُبْلَةِ.
وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ قَبْل ظُهُورِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ؟ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَقْدَ السَّلَمِ (4) ، وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ (5)
كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ عَقْدَ
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي من حديث حكيم بن حزام وحسنه. (جامع الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي 4 / 430) .
(2) حديث " نهى عن بيع الغرر " أخرجه مسلم (3 / 1153) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " أرأيت إذا منع الله الثمرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 398) ومسلم (3 / 1190) من حديث أنس بن مالك، واللفظ للبخاري.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 203، وكشاف القناع 3 / 266.
(5) البحر الرائق 6 / 196، ومنح الجليل 3 / 2، وأسنى المطالب 2 / 122، والمغني 4 / 304.(30/221)
الاِسْتِصْنَاعِ لِلدَّلِيل نَفْسِهِ ر: (اسْتِصْنَاع ف 7) .
أَمَّا بَيْعُ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ قَبْل ظُهُورِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ وَلاَ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُومِ، أَمَّا بَعْدَ الظُّهُورِ وَقَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَال اتِّفَاقًا لِعَدَمِ الْغَرَرِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُتَلاَحِقَةِ الظُّهُورِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَار ف 11 - 13) .
وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً، وَاعْتَبَرَهَا كَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَيَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ حِينَ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ بِنَقْل مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالأُْجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ (2) .
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ الإِْجَارَةِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي حَال الْعَقْدِ لَكِنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا لَحَظَ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 38، وحاشية الدسوقي 3 / 176، ونهاية المحتاج 4 / 141، وكشاف القناع 3 / 281
(2) نهاية المحتاج 5 / 264، 265، المغني لابن قدامة 5 / 442، 443.(30/222)
الْمَنَافِعِ مَا يُسْتَوْفَى فِي الْغَالِبِ أَوْ يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ وَعَدَمُ اسْتِيفَائِهِ سَوَاءً (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ الإِْجَارَةِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ؛ لِوُرُودِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي جَوَازِ الإِْجَارَةِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الإِْجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ لِلْحَال مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَحْتَمِل الْبَيْعَ، فَلاَ تَجُوزُ إِضَافَةُ الْبَيْعِ إِلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: جَوَازُ الإِْجَارَةِ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ؛ لأَِنَّ مَحَل الْعَقْدِ إِذَا أَمْكَنَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ فِي حَال وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ - كَالأَْعْيَانِ - فَالأَْصْل فِيهِ عَدَمُ جَوَازِ الْعَقْدِ حَال عَدَمِهِ لِلْغَرَرِ، مَعَ ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ حَالٌ وَاحِدَةٌ، وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلاَمَةُ - كَالْمَنَافِعِ - فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلاَ قِمَارًا فَيَجُوزُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بَيْعِ الأَْعْيَانِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ (3) .
35 - وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 218.
(2) بدائع الصنائع 4 / 173، 174.
(3) إعلام الموقعين 2 / 22، 26 باختصار شديد.(30/222)
جَوَازِ النَّوْعِ الأَْوَّل مِنَ الْعُقُودِ فِي حَال عَدَمِ وُجُودِ مَحَلِّهَا، وَأَجَازُوا النَّوْعَ الثَّانِيَ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمَحَل وَعَدَمِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ مَثَلاً يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَوْهُوبُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، بَل دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فِعْلاً، فَالْغَرَرُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَا يَرِثُهُ مِنْ فُلاَنٍ - وَهُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ هُوَ؟ أَسُدُسٌ أَوْ رُبُعٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ (1) .
وَفِي الرَّهْنِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَرْهُونُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ حِينَ الْعَقْدِ، كَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، فَشَيْءٌ يُوثَقُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، كَمَا يَقُولُونَ (2)
وَهَذَا بِخِلاَفِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ (3) .
ب - قَابِلِيَّةُ الْمَحَل لِحُكْمِ الْعَقْدِ:
36 - يُشْتَرَطُ فِي مَحَل الْعَقْدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِحُكْمِ الْعَقْدِ.
وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ: الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْعَقْدِ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا حَسْبَ اخْتِلاَفِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 212.
(2) بلغة السالك مع الشرح الصغير 2 / 109.
(3) جواهر الإكليل 2 / 212.(30/223)
الْعُقُودِ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً أَثَرُ الْعَقْدِ هُوَ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مَالاً بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ: وَهُوَ مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل وَالْمَنْعُ (1) لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ مَثَلاً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، أَيْ: مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مَالاً عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمَا لَيْسَا مُتَقَوِّمَيْنِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَرُمَ بَيْعُهُمَا (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ (3)
وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ - أَيِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا - مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً مُبَاحَةً، فَلاَ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 108) .
وَكَمَا لاَ يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ يَجُوزُ إِعَارَتُهَا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَارِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 100.
(2) ابن عابدين 4 / 100، وبدائع الصنائع 5 / 149، وحاشية الدسوقي 3 / 10، ومغني المحتاج 2 / 11، وشرح منتهى الإرادات 2 / 142.
(3) حديث جابر: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424) .(30/223)
إِمْكَانُ الاِنْتِفَاعِ بِمَحَل الْعَقْدِ (الْمُعَارِ أَوِ الْمُسْتَعَارِ) انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى، وَالدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ، مَثَلاً فَلاَ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْفُرُوجِ لِلاِسْتِمْتَاعِ، وَلاَ آلاَتِ الْمَلاَهِي لِلَّهْوِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ الإِْعَارَةُ لِلْغِنَاءِ أَوِ الزَّمْرِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَالإِْعَارَةُ لاَ تُبِيحُ مَا لاَ يُبِيحُهُ الشَّرْعُ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَارِيَّةً) .
وَفِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل (الْمُوَكَّل بِهِ) أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِلاِنْتِقَال لِلْغَيْرِ وَالتَّفْوِيضِ فِيهِ، وَلاَ يَكُونَ خَاصًّا بِشَخْصِ الْمُوَكِّل، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة) .
ج - مَعْلُومِيَّةُ الْمَحَل لِلْعَاقِدَيْنِ:
37 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا وَمَعْرُوفًا لِلْعَاقِدَيْنِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْغَرَرِ.
وَيَحْصُل الْعِلْمُ بِمَحَل الْعَقْدِ بِكُل مَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ رُؤْيَتِهِ أَوْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بِوَصْفِهِ وَصْفًا يَكْشِفُ عَنْهُ تَمَامًا، أَوْ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 372، وابن عابدين 4 / 4، 5، والخرشي على خليل 6 / 141، ومغني المحتاج 2 / 265، والمغني مع الشرح الكبير 355 - 360.(30/224)
مِنَ الْقَطِيعِ مَثَلاً وَلاَ إِجَارَةُ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِي مَحَل الْعَقْدِ: (الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) تُسَبِّبُ الْغَرَرَ وَتُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ - وَهِيَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ - وَبَيْنَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ - وَهِيَ: الَّتِي لاَ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ - فَمَنَعُوا الأُْولَى وَأَجَازُوا الثَّانِيَةَ (1) .
وَجَعَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعُرْفَ حَكَمًا فِي تَعْيِينِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الإِْجَارَةُ مِنْ مَنْفَعَةٍ، وَتَمْيِيزِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ عَنِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 32) (وَالإِْجَارَةُ ف 34) .
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل: (الْمُسْلَمِ فِيهِ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا أَوْ ذَرْعًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ (3) ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 6، وبدائع الصنائع 5 / 179، والدسوقي 3 / 15، والقليوبي 2 / 61، وشرح منتهى الإرادات 2 / 246.
(2) تبيين الحقائق 5 / 113، ومجلة الأحكام العدلية المادة (527) والشرح الصغير 4 / 39، والمغني 5 / 511.
(3) بدائع الصنائع 5 / 207، وابن عابدين 4 / 206، والفواكه الدواني 2 / 144، وكشاف القناع 3 / 292 وما بعدها.(30/224)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَلَم) .
هَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.
38 - أَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ كَوْنِ الْمَحَل مَجْهُولاً، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1 - عَقْدُ الْهِبَةِ.
39 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوْهُوبِ - وَهُوَ مَحَل عَقْدِ الْهِبَةِ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُعَيَّنًا، قَال الْحَصْكَفِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْمَوْهُوبِ: أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا، غَيْرَ مُشَاعٍ، مُمَيَّزًا، غَيْرَ مَشْغُولٍ، فَلاَ تَصِحُّ هِبَةُ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَصُوفٍ عَلَى غَنَمٍ، وَنَخْلٍ فِي أَرْضٍ، وَتَمْرٍ فِي نَخْلٍ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَجُوزُ هِبَتُهُ، وَكُل مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ تَجُوزُ هِبَتُهُ، كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ، وَضَالٍّ وَآبِقٍ (3) .
__________
(1) حديث: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 429) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس واللفظ لمسلم.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 508، 511.
(3) مغني المحتاج 2 / 399.(30/225)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فِيهَا، فَأَجَازُوا هِبَةَ الْمَجْهُول وَالْمُشَاعِ، جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: أَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ الْمُعْطَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَل النَّقْل فِي الْجُمْلَةِ، فَيَشْمَل الأَْشْيَاءَ الْمَجْهُولَةَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة)
2 - عَقْدُ الْوَصِيَّةِ.
40 - تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُوصِي بِجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ الْبَيَانُ إِلَى الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، وَالْوَصِيَّةُ لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْوَصِيَّةَ بِالْحَمْل إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي، وَالْغَرَرُ وَالْخَطَرُ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمْ (3)
كَمَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُول، كَالْحَمْل الْمَوْجُودِ فِي الْبَطْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ أُمِّهِ أَوْ مَعَهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَصِيَّة) .
41 - هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ الْفَرْقَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 216.
(2) رد المحتار 5 / 429.
(3) المغني 5 / 583، 584.
(4) مغني المحتاج 3 / 44.(30/225)
بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالاَتُ وَمَا لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَقَال: وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُول، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ - وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَل - وَهُوَ مَالِكٌ - بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الأَْمْوَال مَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. . . وَثَانِيهِمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ.
فَفِي الْقِسْمِ الأَْوَّل: إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَال الْمَبْذُول فِي مُقَابَلَتِهِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - أَيِ: الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ - فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُل طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُول فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ فَإِذَا وَهَبَ(30/226)
لَهُ عَبْدَهُ الآْبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُل لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ (1) .
ثُمَّ قَال: وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَال فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) ، يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيل دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، وَشُورَةِ (أَثَاثِ) بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ (3)
د - الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ.
42 - يُشْتَرَطُ فِي مَحَل الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَالْحَيَوَانُ الضَّال الشَّارِدُ وَنَحْوُهُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِعَقْدِ الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ نَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّارُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ غَيْرِ غَاصِبِهَا، أَوِ الأَْرْضُ أَوْ أَيْ شَيْءٍ آخَرُ تَحْتَ يَدِ الْعَدُوِّ.
__________
(1) الفروق 1 / 150، 151 مع تصرف يسير.
(2) سورة النساء / 24.
(3) الفروق 1 / 150 - 151.(30/226)
قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لاَ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْعِ الآْبِقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي (1) .
وَقَال فِي شُرُوطِ الْمُسْتَأْجَرِ: مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الاِسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدُونِهِ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الآْبِقِ، وَلاَ إِجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ (2) .
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مِنْ حُكْمِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَالْجَائِزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الآْبِقِ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ: الثَّالِثُ: إِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الضَّال وَالآْبِقِ وَالْمَغْصُوبِ، وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ حَالاً (4) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 147.
(2) بدائع الصنائع 4 / 187.
(3) المنثور للزركشي 2 / 400 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج 2 / 12.
(5) الحطاب وبهامشه المواق 4 / 268، وكشاف القناع 3 / 162.(30/227)
أَمَّا فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هِبَةَ الآْبِقِ وَالْحَيَوَانِ الشَّارِدِ، مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَقْدُورَيِ التَّسْلِيمِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ إِحْسَانٌ صِرْفٍ، فَإِذَا وَجَدَهُ وَتَسَلَّمَهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَتَضَرَّرُ كَمَا قَال الْقَرَافِيُّ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ (1) وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ: لاَ غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَمَا لاَ يَقْدِرُ (2) .
تَقْسِيمَاتُ الْعُقُودِ.
43 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبَيَّنُوا خَوَاصَّهَا وَأَحْكَامَهَا الْفِقْهِيَّةَ بِحَيْثُ تَشْمَل مَجْمُوعَةً مِنَ الْعُقُودِ، وَتُمَيِّزُهَا عَنْ مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ:
أَوَّلاً - الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ:
44 - الْعَقْدُ إِذَا وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ يُسَمَّى عَقْدًا مَالِيًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْل مِلْكِيَّتِهَا بِعِوَضٍ، كَالْبَيْعِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالْمُقَايَضَةِ وَنَحْوِهَا أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِالأَْعْيَانِ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِعَمَلٍ فِيهَا، كَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) الفروق 1 / 150، 151، ومغني المحتاج 2 / 44.
(2) إعلام الموقعين 2 / 28.(30/227)
أَمَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مُقَابِلٍ كَالْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، أَوِ الْكَفِّ عَنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَعَقْدِ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الْحَرْبِ؛ فَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ مَالِيَّةً مِنْ جَانِبٍ، وَغَيْرَ مَالِيَّةٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ كَعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ، كَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْجُمْهُورُ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ عِنْدَهُمْ أَوْ فِي حُكْمِ الأَْمْوَال خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً عِنْدَهُمْ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْعَقْدُ إِمَّا مَالِيٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ حَقِيقَةً كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، أَوْ حُكْمًا كَالإِْجَارَةِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ تُنَزَّل مَنْزِل الأَْمْوَال، وَمِثْلُهُ الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ.
أَوْ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، إِذِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ كَفُّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الإِْغْرَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الْحَرْبِ، وَكَعَقْدِ الْقَضَاءِ.
أَوْ مَالِيٌّ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَالْجِزْيَةِ. وَغَيْرُ الْمَالِيِّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَشَدُّ لُزُومًا مِنَ الْمَالِيِّ فِيهِمَا، إِذْ يَجُوزُ فِي الْمَالِيِّ فَسْخُهُ بِعَيْبٍ فِي الْعِوَضِ كَالثَّمَنِ
__________
(1) مرشد الحيران المواد 263 - 266.(30/228)
وَالْمُثَمَّنِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَغَيْرُ الْمَالِيِّ لاَ يُفْسَخُ أَصْلاً إِلاَّ لِحُدُوثِ مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ.
وَيَنْقَسِمُ الْمَالِيُّ إِلَى مَحْضٍ وَغَيْرِهِ، فَيَقُولُونَ: مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ وَغَيْرُ مَحْضَةٍ، فَالْمَحْضَةُ: يَكُونُ الْمَال فِيهَا مَقْصُودًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ (كَالْبَيْعِ) . وَالْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ: لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ (نَحْوُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ) . (1)
وَقَال: يَنْقَسِمُ الْعَقْدُ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَإِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الأَْصَحِّ كَالإِْجَارَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ لِيُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنَافِعُ (2)
ثَانِيًا - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ.
45 - الْعَقْدُ اللاَّزِمُ هُوَ: مَا لاَ يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ دُونَ رِضَا الآْخَرِ، وَمُقَابِلُهُ: الْعَقْدُ الْجَائِزُ أَوْ غَيْرُ اللاَّزِمِ: وَهُوَ مَا يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ (3) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ إِلَى أَنْوَاعٍ:
قَال السُّيُوطِيّ: الْعُقُودُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى أَقْسَامٍ:
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 402، 403.
(2) المنثور للزركشي 2 / 403، 404.
(3) المنثور للزركشي 2 / 400.(30/228)
الأَْوَّل: لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالتَّشْرِيكِ، وَصُلْحِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْهِبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ.
الثَّانِي: جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ، وَالْجَعَالَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوَصَايَا، وَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ غَيْرِ الإِْمَامَةِ.
وَالثَّالِثِ: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَزِمٌ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا كَالإِْجَارَةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُول: إِنَّهُمَا كَالْجَعَالَةِ، وَالنِّكَاحُ لاَزِمٌ مِنَ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، وَمِنَ الزَّوْجِ عَلَى الأَْصَحِّ، كَالْبَيْعِ، وَقِيل: جَائِزٌ مِنْهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلاَقِ.
الرَّابِعِ: مَا هُوَ جَائِزٌ وَيَئُول إِلَى اللُّزُومِ، وَهُوَ الْهِبَةُ وَالرَّهْنُ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْل الْمَوْتِ.
الْخَامِسُ: مَا هُوَ لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزٌ مِنَ الآْخَرِ، كَالرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَعَقْدِ الأَْمَانِ، وَالإِْمَامَةِ الْعُظْمَى (1) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص275، 276، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص336.(30/229)
ثُلاَثِيَّةٌ: لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، جَائِزٌ مِنْهُمَا، لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِهِمَا (1) ، وَقَال: مِنْ حُكْمِ اللاَّزِمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَالْجَائِزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الآْبِقِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ اللاَّزِمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مُؤَبَّدٌ، وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ، وَالْجَائِزُ بِخِلاَفِهِ، كَمَا قَال الزَّرْكَشِيّ (2) .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ لَكِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْوَفَاةِ؛ لأَِنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ وَفَاةِ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، فَتُفْسَخُ الإِْجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْوَفَاةِ (3) .
ر: (إِجَارَة ف 72) .
ثَالِثًا - تَقْسِيمُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ:
46 - قَسَّمَ ابْنُ قُدَامَةَ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ أَوْ عَدَمَ قَبُولِهِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، وَبَيَّنَ حُكْمَ هَذِهِ الأَْقْسَامِ كَالتَّالِي:
__________
(1) المنثور للزركشي 398، 400.
(2) المنثور للزركشي 2 / 401.
(3) بدائع الصنائع 4 / 222.(30/229)
أ - عَقْدٌ لاَزِمٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الْعِوَضُ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ، كَالْبَيْعِ فِيمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالإِْجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُول: اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ، فَهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، فَأَمَّا الإِْجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ دَخَلَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّ دُخُولَهُ يُفْضِي إِلَى فَوْتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلاَهُمَا لاَ يَجُوزُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَبَيْعِ مَال الرِّبَا بِجِنْسِهِ، فَلاَ يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ.
ب - عَقْدٌ لاَزِمٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْرِفَةِ الْحَظِّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ جَائِزًا لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ، وَالْعِوَضُ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ؛ وَلأَِنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ضَرَرًا.
ج - عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الآْخَرِ، كَالرَّهْنِ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَهِنَ(30/230)
يَسْتَغْنِي بِالْجَوَازِ فِي حَقِّهِ عَنْ ثُبُوتِ خِيَارٍ آخَرَ، وَالرَّاهِنُ يَسْتَغْنِي بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِلَى أَنْ يَقْبِضَ، وَكَذَلِكَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيل.
د - عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَهَذِهِ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ اسْتِغْنَاءً بِجَوَازِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فَسْخِهَا بِأَصْل وَضْعِهَا.
هـ - عَقْدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَلاَ يَدْخُلُهُمَا خِيَارٌ، وَقِيل: هُمَا لاَزِمَانِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِمَا وَجْهَانِ.
و عَقْدٌ لاَزِمٌ يَسْتَقِل بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْحَوَالَةِ، وَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلاَ خِيَارَ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ مَنْ لاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لاَ خِيَارَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الآْخَرِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ (1) .
رَابِعًا - الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ، وَالَّتِي لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا:
47 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ - بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا أَوْ عَدَمِهِ - إِلَى نَوْعَيْنِ:
48 - الأَْوَّل: عُقُودٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَقْدُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 594، 595.(30/230)
وَالإِْجَارَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَنَحْوُهَا، فَالْبَيْعُ مَثَلاً يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ: مِنَ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَحَصَل التَّقَابُضُ بَيْنَهُمَا أَمْ لاَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِل فِي الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لَكِنْ لاَ يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَاقِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (1) .
وَالإِْجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا بِالْعَقْدِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى الاِسْتِيفَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الأُْجْرَةَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالاِسْتِيفَاءِ، أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ أَوْ بِالتَّعْجِيل، أَوْ بِشَرْطِ التَّعْجِيل، كَمَا لاَ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالاِسْتِيفَاءِ أَوْ يَوْمًا فَيَوْمًا (3) .
وَالنِّكَاحُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِ الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 347، والأشباه والنظائر للسيوطي ص282، والقواعد لابن رجب ص74 - 76.
(2) بداية المجتهد 2 / 218، ونهاية المحتاج 5 / 164، والمغني لابن قدامة 5 / 443.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص348.(30/231)
وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ لاَ تَحْتَاجُ فِي انْعِقَادِهَا إِلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
49 - الثَّانِي: عُقُودٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ.
وَهَذِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ:
أ - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِنَقْل الْمِلْكِيَّةِ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ.
أَمَّا الْهِبَةُ - وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ - فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لاَ تَنْتَقِل الْمِلْكِيَّةُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، بَل يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ، بَل تَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ بِالْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَاهِبِ إِقْبَاضُهُ (2) .
وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ: فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِنَقْل مِلْكِيَّتِهِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ الْقَبْضُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص273، ومغني المحتاج 2 / 400، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 319، والقواعد لابن رجب ص71.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 101.
(3) بدائع الصنائع 7 / 1396، مغني المحتاج 2 / 120، وكشاف القناع 3 / 275.(30/231)
الْقَرْضَ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ فَإِنَّ ضَمَانَهَا عَلَى الْمُقْرِضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِيَّةِ لَدَيْهِ (2) .
وَفِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ مِنَ الأَْمْوَال الْمُعَارَةِ لاَ تَنْتَقِل بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، بَل يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْمُعَارِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ، فَلاَ تَنْتَقِل فِيهَا الْمَنَافِعُ أَصْلاً؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَلُّكُ مَنْفَعَةِ الْمُعَارِ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَصِ الْمُعَارُ. ر: (عَارِيَّةً) .
ب - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِصِحَّتِهَا، كَالصَّرْفِ، وَبَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، وَالسَّلَمِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ.
أَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ - وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ - فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضِ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْل التَّفَرُّقِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 3 / 226.
(2) المراجع السابقة.
(3) بدائع الصنائع 6 / 214.(30/232)
بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ. (1)
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا فَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا التَّقَابُضُ (2) ، لِمَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّسِيئَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ. (3)
وَأَمَّا عَقْدُ السَّلَمِ - وَهُوَ: بَيْعُ الآْجِل بِالْعَاجِل - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل الاِفْتِرَاقِ (4) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (5) ،
__________
(1) حديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 380) ومسلم (3 / 1208) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) بدائع الصنائع 5 / 215، والقوانين الفقهية ص275، وروضة الطالبين 3 / 379، وكشاف القناع 3 / 217.
(3) حديث: " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 378) ومسلم (3 / 1210) من حديث عمر بن الخطاب.
(4) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 202، ومغني المحتاج 2 / 102، وكشاف القناع 3 / 391.
(5) حديث: " من أسلف في تمر. . . ". تقدم ف 37.(30/232)
وَالتَّسْلِيفُ هُوَ الإِْعْطَاءُ؛ وَلأَِنَّ الاِفْتِرَاقَ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال فِي السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَالُوا بِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ؛ لأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ - وَهِيَ: إِعْطَاءُ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ - فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِلَى الْعَامِل، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ (3) .
ر: (مُضَارَبَةٌ) .
وَفِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ - وَهُوَ: عَقْدٌ عَلَى دَفْعِ الشَّجَرِ وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَلَى
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 514.
(2) بدائع الصنائع 6 / 84، 85، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 517، والمغني 5 / 25، ومغني المحتاج 2 / 310.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 25.(30/233)
مَالِكِ الأَْشْجَارِ تَسْلِيمَهَا إِلَى الْعَامِل لِيَتَعَهَّدَهَا، فَيُقْسَمُ مَا يَحْصُل مِنَ الثَّمَرِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُول التَّسْلِيمِ (1) .
ر: (مُسَاقَاة) .
وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ مَنْ قَال بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمَ الأَْرْضِ إِلَى الْعَامِل، حَتَّى لَوِ اشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَل عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ أَوْ شَرَطَ عَمَلَهُمَا مَعًا لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ أَصْلاً (2) .
وَلِتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُزَارَعَة) .
ج - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِهَا الْقَبْضُ: كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: بِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لاَ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول قَبْل الْقَبْضِ، فَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ مَا دَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَقْبِضْ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا بِعَدَمِ لُزُومِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 186، والمادة (1445) من مجلة الأحكام العدلية، وروضة الطالبين 5 / 155.
(2) بدائع الصنائع 6 / 187.
(3) بدائع الصنائع 6 / 123 - 127، مغني المحتاج 2 / 401، وكشاف القناع 4 / 253.(30/233)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة) .
وَأَمَّا الرَّهْنُ: فَقَدِ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِهِ الْقَبْضَ، فَيَبْطُل عَقْدُ الرَّهْنِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ عَنِ الرَّهْنِ بِالْقَوْل أَوْ بِتَصَرُّفٍ يُزِيل الْمِلْكَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَهْن ف 21) .
خَامِسًا: عُقُودُ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودُ التَّبَرُّعِ:
50 - قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْعِوَضِ وَعَدَمُ الْعِوَضِ فِيهِ إِلَى نَوْعَيْنِ: عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ.
فَمِنَ النَّوْعِ الأَْوَّل: عَقْدُ الْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ مِنَ الْمُقَايَضَةِ وَالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَعَقْدُ الإِْجَارَةِ وَالاِسْتِصْنَاعِ، وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: عَقْدُ الْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّقْسِيمِ مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ اعْتُبِرَ الْعِوَضُ فِي عَقْدٍ مِنَ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 101، وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 308، ومغني المحتاج 2 / 128، والمغني 4 / 366.(30/234)
الطَّرَفَيْنِ - أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا - فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعِوَضِ الأُْجْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، إِلاَّ فِي الصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تُبْطِلُهُ؛ لأَِنَّ لَهُ مَرَدًّا مَعْلُومًا، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْل، وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُول، كَالْعِوَضِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَهُنَاكَ عُقُودٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ الطَّارِئِ بِالْعِوَضِ، كَالشَّرِكَةِ مَثَلاً فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِقَدْرِ النِّسْبَتَيْنِ فِي الْمَال الْمُخْتَلِطِ، مِنْ كَوْنِهِ مُنَاصَفَةً أَوْ مُثَالَثَةً فِي الأَْصَحِّ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ بَعْدُ، وَعُقُودٌ أُخْرَى لاَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ، كَالْقِرَاضِ، وَالْقَرْضِ، وَهَل تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْحَاضِرِ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ؟ تَخْتَلِفُ الْعُقُودُ حَسْبَ طَبِيعَتِهَا، فَفِي بَعْضِ الْعُقُودِ تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْبَعْضِ كَالْبَيْعِ، وَفِي بَعْضِهَا لاَ تَكْفِي كَمَا فِي الْقِرَاضِ (1) .
وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ:؛ فَلأَِنَّهُ لاَ عِوَضَ فِيهَا يُغْتَفَرُ فِيهَا الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالتَّوْسِعَةِ (2) .
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا فِي الاِبْتِدَاءِ لَكِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الاِنْتِهَاءِ كَعَقْدِ الْقَرْضِ، فَإِنَّ الْمُقْرِضَ مُتَبَرِّعٌ عِنْدَ الإِْقْرَاضِ لَكِنَّهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 403، 404، والقواعد لابن رجب ص 74.
(2) الفروق للقرافي 1 / 151.(30/234)
عَلَى الْمُقْتَرِضِ بِمِثْل مَا أَخَذَ يَئُول إِلَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ فِي الاِبْتِدَاءِ، حِينَمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ، لَكِنَّهُ إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ وَرَجَعَ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْل مَا دَفَعَهُ تَصِيرُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ عُقُودِ التَّبَرُّعِ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَهَّدُهُ الْعَاقِدَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَاجِبٌ، إِذَا تَمَّتْ صَحِيحَةً بِشُرُوطِهَا، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ؛ لأَِنَّ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا ضَرَرًا لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ، لِضَيَاعِ مَا بَذَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ، بِخِلاَفِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ، وَنَحْوِهَا، فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ فِيهَا بِمَا تَعَهَّدَ الْمُتَبَرِّعُ؛ لأَِنَّهُ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي مُخْتَلَفِ الْعُقُودِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ الْوَفَاءِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، قَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) .
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) سورة المائدة / 2.(30/235)
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا، فَالْعَارِيَّةُ الْمُؤَجَّلَةُ لاَزِمَةٌ عِنْدَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ الأَْجَل (1) ، كَمَا تَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الْهِبَةُ بِالْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَاهِبُ مِنْ تَسْلِيمِهَا يُجْبَرُ (2) عَلَيْهِ.
سَادِسًا: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِل وَالْفَاسِدُ.
51 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ إِقْرَارِ الشَّرْعِ لَهُ وَتَرْتِيبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ.
فَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ: هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ مَعًا، بِحَيْثُ يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا لأَِرْكَانِهِ وَأَوْصَافِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَبَيْعِ الْعَاقِل الْبَالِغِ الْمَال الْمُتَقَوِّمَ الْمَوْجُودَ الْقَابِل لِلتَّسْلِيمِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ مُعْتَبَرَيْنِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ نَقْل مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَنَقْل مِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالإِْجَارَةِ لِلاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مَوْجُودَةٍ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا مِنْ نَقْل الاِنْتِفَاعِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالأُْجْرَةِ إِلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 439 - 442.
(2) جواهر الإكليل 2 / 212.(30/235)
الْمُؤَجِّرِ (1) ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا.
وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ مَا لاَ يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ. أَوْ هُوَ: مَا لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً وَوَصْفًا، أَوْ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لَكِنْ لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا وَصْفًا، مِثَال الأَْوَّل: عَقْدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، أَوِ الْعَقْدُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَكُل مَا لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً، وَمِثَال الثَّانِي: الْعَقْدُ فِي حَالَةِ الإِْكْرَاهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى مَحَلٍّ مَجْهُولٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْدَ غَيْرَ الصَّحِيحِ إِلَى: عَقْدٍ بَاطِلٍ وَعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بُطْلاَن، فَسَاد)
سَابِعًا - الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ:
52 - قَسَّمَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ آثَارِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م109، 110، والمنثور للزركشي 2 / 409.
(2) بدائع الصنائع 5 / 305، حاشية ابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد 2 / 163، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 310، وروضة الناظرين ص31.(30/236)
الْحَال (1) ، أَوْ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَوِلاَيَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوِلاَيَةُ أَصْلِيَّةً كَمَنْ يَعْقِدُ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، أَمْ نِيَابِيَّةً كَعَقْدِ الْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ لِمَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِمَا أَوْ عَقْدِ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ.
وَحُكْمُ الْعَقْدِ النَّافِذِ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي ظُهُورِ آثَارِهِ إِلَى إِجَازَةِ الْغَيْرِ.
ب - الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ: وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْوِلاَيَةِ، كَمَنْ يَبِيعُ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ هُوَ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ (2) .
وَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ - عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ - هُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَيُفِيدُ الْحُكْمَ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ أَيْ: تَتَوَقَّفُ آثَارُهُ وَإِفَادَتُهُ الْحُكْمَ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا شَرْعًا كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ وَنَحْوِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَصِحَّتِهِ:
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) : إِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عَقْدٌ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 1 / 95، 304.
(2) مجمع الأنهر 2 / 47، ودرر الحكام 1 / 94، وحاشية ابن عابدين 4 / 100.(30/236)
صَحِيحٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ لَهُ الإِْجَازَةُ وَالتَّصَرُّفُ نَفَذَ وَإِلاَّ بَطَل (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ)
ثَامِنًا - الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ وَالْعُقُودُ الْمُطْلَقَةُ:
53 - قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ التَّأْقِيتَ وَعَدَمِ قَبُولِهِ ذَلِكَ إِلَى نَوْعَيْنِ: الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتَةِ.
قَال السُّيُوطِيُّ: كُل عَقْدٍ كَانَتِ الْمُدَّةُ رُكْنًا فِيهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُؤَقَّتًا، كَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهُدْنَةِ، وَكُل عَقْدٍ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّأْقِيتُ حَيْثُ لاَ يُنَافِيهِ، كَالْقِرَاضِ يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ، وَيُمْنَعُ مِنَ الشِّرَاءِ بَعْدَهَا فَقَطْ، وَمِمَّا لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ: الْجِزْيَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَقْفِ، وَمِمَّا يَقْبَلُهُ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ: الإِْجَارَةُ وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْهُدْنَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَمِمَّا يَقْبَل التَّأْقِيتَ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ: الْوَكَالَةُ، وَالْوِصَايَةُ.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وحاشية ابن عابدين 4 / 100، ومجمع الأنهر 2 / 47، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 163، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 10، 11، ومغني المحتاج 2 / 15، والأشباه والنظائر للسيوطي ص185 - 186، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 274.(30/237)
وَقَال أَيْضًا: وَالْحَاصِل أَنَّ مَا لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ - وَمَتَى أُقِّتَ بَطَل - الْبَيْعُ بِأَنْوَاعِهِ وَالنِّكَاحُ، وَالْوَقْفُ (1) .
وَذَكَرَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ (2) .
كَمَا قَالُوا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ: إِنَّهَا تَقْبَل التَّوْقِيتَ (3) ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِيهَا الْوَقْتُ وَقَعَ عَلَى أَوَّل ثَمَرٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا (5) .
وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ عَقْدُ الرَّهْنِ (6) .
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْهِبَةِ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْحَال، وَتَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ لاَ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ (7)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص282، 283.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص336، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 4.
(3) الخرشي 4 / 289، ومغني المحتاج 2 / 223، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 210.
(4) ابن عابدين 5 / 249، والشرح الصغير للدردير 2 / 225، ومغني المحتاج 2 / 327.
(5) كشاف القناع 3 / 538.
(6) الاختيار 2 / 236، والخرشي 4 / 173، ومغني المحتاج 2 / 132، وكشاف القناع 3 / 350.
(7) بدائع الصنائع 6 / 118، والدسوقي 4 / 97، ومغني المحتاج 2 / 398، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 256.(30/237)
وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ، هَل تَقْبَل التَّأْقِيتَ أَوْ لاَ؟ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْقِيتُهَا، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ مَعَ بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (1) .
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَجَل ف 48 - 59)
الشُّرُوطُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعُقُودِ:
54 - الْمُرَادُ بِالشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْعُقُودِ: مَا يُذْكَرُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ، فَيُقَيِّدُ أَثَرَ الْعَقْدِ أَوْ يُعَلِّقُهُ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى أَصْل الْعَقْدِ فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ إِلَى نَوْعَيْنِ: شَرْطٍ صَحِيحٍ، وَشَرْطٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.
وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: الشَّرْطُ الصَّحِيحُ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ، وَالشَّرْطُ الْبَاطِل.
وَضَابِطُ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْقَائِمِ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُلاَئِمُهُ - وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - أَوْ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 266، وحاشية الدسوقي 3 / 331، ومغني المحتاج 2 / 207، والمهذب 1 / 341.
(2) حاشية الحموي على الأشباه لابن نجيم 2 / 225، والمنثور للزركشي 1 / 370.(30/238)
بِجَوَازِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ التَّعَامُل، كَمَا أَضَافَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: أَوْ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدِ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفَالَةِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل مَثَلاً (1) . فَهَذَا النَّوْعُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ يُمْكِنُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ، وَلاَ يَضُرُّ فِي انْعِقَادِهِ وَلاَ فِي صِحَّتِهِ.
أَمَّا الشَّرْطُ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدُ فَهُوَ: مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ، أَوِ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُبْطِل الْعَقْدَ، كَبَيْعِ حَيَوَانٍ عَلَى أَنَّهُ حَامِلٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ (2) ، وَكَالْعَقْدِ الْمُتَضَمِّنِ عَلَى الرِّبَا؛ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ (3) .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: مَا يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ نَفْسُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ: أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 265، والمجموع للنووي 9 / 364، وكشاف القناع 3 / 189.
(2) بدائع الصنائع 5 / 186، والدسوقي 3 / 58.
(3) بدائع الصنائع 5 / 168 - 171، وحاشية الدسوقي 3 / 309، 310، والمهذب للشيرازي 1 / 275، وكشاف القناع 5 / 97.(30/238)
نَصِيبَهُ، أَوْ يَهَبَهُ لِفُلاَنٍ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَيَلْغُو الشَّرْطُ فَقَطْ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط ف 19 - 27)
آثَارُ الْعَقْدِ:
55 - آثَارُ الْعَقْدِ هِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ وَمَا يَهْدُفُ إِلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ لِلْعَاقِدَيْنِ مِنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الآْثَارُ حَسْبَ اخْتِلاَفِ الْعُقُودِ.
فَفِي عُقُودِ الْمِلْكِيَّةِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الأَْعْيَانِ - كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ - أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْل الْمِلْكِيَّةِ مِنْ عَاقِدٍ إِلَى آخَرَ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ - كَمَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُل مِلْكِيَّةَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةَ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ - أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي بِقَبُول الْمُوصَى لَهُ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْوَفَاةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْل الْمَنْفَعَةِ أَوْ إِبَاحَةَ الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدَيِ الإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 170.(30/239)
وَفِي عُقُودِ التَّوْثِيقِ كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ أَثَّرَ الْعَقْدُ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ بِاشْتِرَاكِ ذِمَّةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، أَوْ حَبْسَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدَّى الدَّيْنُ. وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ: بِنَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ.
وَفِي عُقُودِ الْعَمَل: حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالْعَمَل فِيهِ، كَمَا فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَعُقُودِ الشَّرِكَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدَيِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي عَقْدِ الإِْيدَاعِ: حِفْظُ الْوَدِيعَةِ بِيَدِ الْوَدِيعِ.
وَفِي عَقْدِ النِّكَاحِ: حِل اسْتِمْتَاعِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ.
وَهَكَذَا فِي كُل عَقْدٍ يُعْقَدُ لِغَرَضٍ مِنَ الأَْغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ
انْتِهَاءُ الْعَقْدِ وَأَسْبَابُهُ:
56 - انْتِهَاءُ الْعَقْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا أَوْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا (1) وَالأَْوَّل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا، فَإِذَا كَانَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَسْخًا، وَإِذَا كَانَ بِرِضَا كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى إِقَالَةً
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 298.(30/239)
وَالثَّانِي، أَيِ الاِنْتِهَاءُ الضَّرُورِيُّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ، كَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا، وَيُسَمَّى الاِنْتِهَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ انْفِسَاخًا.
وَلِكُل هَذِهِ الصُّوَرِ أَسْبَابٌ وَأَحْكَامٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - الأَْسْبَابُ الاِخْتِيَارِيَّةُ لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ:
أ - الْفَسْخُ:
57 - الْفَسْخُ حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ وَرَفْعُ حُكْمِهِ بِالإِْرَادَةِ (1) ، وَيَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا اتِّفَاقًا، وَكَذَا عَقْدُ الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا بِالْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ عَدَمِ الضَّرَرِ، وَكَذَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ فِيهَا خِيَارٌ لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَتُفْسَخُ بِإِرَادَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ) .
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 195، 280.(30/240)
ب - الإِْقَالَةُ.
58 - الإِْقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ (1) ، وَمَحَل الإِْقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ وَاتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الإِْقَالَةَ تَصِحُّ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ) وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَهِيَ عُقُودٌ لاَزِمَةٌ.
وَلاَ تَصِحُّ الإِْقَالَةُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالْجَعَالَةِ أَوِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ كَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ (2) .
وَلِشُرُوطِ الإِْقَالَةِ وَأَثَرِهَا فِي إِنْهَاءِ الْعُقُودِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِقَالَة ف 7، 12) .
ج - انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوِ الْعَمَل الْمُعَيَّنِ:
59 - تَنْتَهِي بَعْضُ الْعُقُودِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا الْمُقَرَّرَةِ لَهَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الَّذِي عُقِدَ الْعَقْدُ لأَِجْلِهِ.
فَعَقْدُ الإِْجَارَةِ الْمُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 110، والخرشي على مختصر خليل وبهامشه العدوي 5 / 169، والأم للشافعي 3 / 67، والمغني لابن قدامة 4 / 135.
(2) المبسوط 29 / 55، والعناية على الهداية 6 / 492، والمدونة 5 / 83، ومختصر المزني على الأم 2 / 28، ومغني المحتاج 2 / 433، وكشاف القناع 3 / 225.(30/240)
الْمُدَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى أَوِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمُدَّةِ، كَأَنْ يَكُونَ فِي الأَْرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُحْصَدْ، أَوْ كَانَتْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى السَّاحِل (1) . ر: (إِجَارَة ف 60)
كَمَا تَنْقَضِي الإِْجَارَةُ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي إِجَارَةِ الأَْشْخَاصِ، كَالْحَمَّال وَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ إِذَا أَنْهَوْا الْعَمَل.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ لإِِجْرَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الْمُفَوَّضِ لِلْوَكِيل. ر: (وَكَالَة) .
ثَانِيًا - أَسْبَابُ الْعَقْدِ الضَّرُورِيَّةُ:
أ - هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
60 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَبَبٌ لاِنْتِهَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ دَوَامِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلسُّكْنَى انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ (2) . وَكَذَلِكَ إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ أَوِ الْمُودَعَةُ فِي عَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالإِْيدَاعِ، أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 414، والمهذب للشيرازي 1 / 410، والمغني لابن قدامة 6 / 67.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 461، وابن عابدين 5 / 52، والحطاب 4 / 432، والوجيز للغزالي 1 / 136، وحاشية القليوبي 3 / 84، والمغني لابن قدامة 5 / 473، والشرح الصغير للدردير 4 / 49.(30/241)
تَلِفَ رَأْسُ الْمَال فِي عَقْدَيِ الشَّرِكَةِ (شَرِكَةِ الأَْمْوَال أَوِ الْمُضَارَبَةِ) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُل عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ.
وَهَذَا السَّبَبُ يُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَدُومُ آثَارُهَا بِدَوَامِ الْمَحَل، أَمَّا مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَوْرًا - كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً - فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (الْمَبِيعِ) بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ.
أَمَّا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ فِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِانْفِسَاخِهِ (1) ، مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ فِي هَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ: إِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلاً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ، فَيَنْفَسِخُ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْمَبِيعِ، بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَل نَفْسَهُ، وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي لاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 46، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 287.(30/241)
بِالإِْتْلاَفِ صَارَ قَابِضًا (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ - وَهُوَ الْمَال الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ - يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَعَقَارًا أَوْ مِنَ الأَْمْوَال الْقِيمِيَّةِ فَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِل الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ (3) وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (4)
ب - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:
61 - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ فِي الْجُمْلَةِ، مَا عَدَا عَقْدَ الإِْجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ أَمْوَالاً مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، وَتَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا أَبْقَيْنَا عَقْدَ الإِْجَارَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَرَثَتُهُ يَنْتَفِعَانِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُنْتَقِلَةِ مِلْكِيَّتُهَا بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238.
(2) حاشية القليوبي 2 / 210، 211.
(3) الشرح الصغير 3 / 195، 196.
(4) المغني لابن قدامة 3 / 569.(30/242)
الْوَرَثَةِ، وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَأْجِرِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي انْتِهَاءِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهَا بَاقِيَةً؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ يُقَدَّرُ وُجُودُهَا حِينَ الْعَقْدِ، فَانْتَقَلَتْ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَقْدِ (2) .
أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ - كَالْوَكَالَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا - فَتَنْفَسِخُ فِي الْجُمْلَةِ وَتَنْتَهِي بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهَا عُقُودٌ تَنْفَسِخُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاتِهِمَا وَتَسْتَمِرُّ بِإِرَادَتِهِمَا، فَإِذَا تُوُفِّيَ الْعَاقِدُ فَقَدْ بَطَلَتْ إِرَادَتُهُ وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ (3) .
ج - غَصْبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
62 - غَصْبُ مَحَل بَعْضِ الْعُقُودِ يُوجِبُ انْفِسَاخَهَا، فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ
__________
(1) الاختيار 2 / 61، وبدائع الصنائع 4 / 222.
(2) بلغة السالك 4 / 50، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72، والمغني 5 / 467.
(3) جواهر الإكليل 2 / 146، ونهاية المحتاج 5 / 130، والمغني لابن قدامة 5 / 225.(30/242)
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الأَْجْرُ كُلُّهُ فِيمَا إِذَا غُصِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ غُصِبَتْ فِي بَعْضِهَا سَقَطَ بِحِسَابِهَا، وَذَلِكَ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْغَصْبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِبَعْضِهِمْ (2) .
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَصْبَ بِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَحَكَمُوا بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 318، والمغني لابن قدامة 5 / 453، 455.
(2) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8.
(3) الشرح الصغير للدردير 4 / 49.(30/243)
د - أَسْبَابٌ أُخْرَى يُفْسَخُ بِهَا الْعَقْدُ أَوْ يَنْتَهِي.
63 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَسْبَابِ فَسْخِ الْعَقْدِ أَوِ انْتِهَائِهِ الاِسْتِحْقَاقَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا اسْتُحِقَّ لِلْغَيْرِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ وَيَنْتَهِي حُكْمُهُ (1) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِالاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ، بَل يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ وَإِلاَّ يَنْفَسِخُ وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ (2) . كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف 9 وَمَا بَعْدَهَا)
عَقْدُ الذِّمَّةِ
انْظُرْ: أَهْل الذِّمَّةِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 325، وأسنى المطالب 2 / 350، والقواعد لابن رجب 313، والمغني لابن قدامة 4 / 598.
(2) ابن عابدين 4 / 191.(30/243)
عَقْدٌ مَوْقُوفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالتَّوْثِيقُ، فَقَدْ جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: عَقَدَ الْحَبْل وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ يَعْقِدُهُ عَقْدًا؛ أَيْ شَدَّهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الرَّبْطُ بَيْنَ كَلاَمَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْشَأُ عَنْهُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ (2) .
أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَمِنَ الْوَقْفِ، وَهُوَ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَقِيل لِلْمَوْقُوفِ: (وَقْفٌ) مِنْ بَابِ إِطْلاَقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُول، وَالْمَوْقُوفُ: كُل مَا حُبِسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (3) .
أَمَّا الْوَقْفُ فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُخْتَلِفَةٍ لاَ تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ (4) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) فتح القدير 5 / 74، والخرشي على مختصر خليل 5 / 5، والمجموع 9 / 162، والمغني والشرح الكبير 4 / 4 و3 / 4.
(3) المصباح المنير.
(4) المبسوط للسرخسي 12 / 27، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج لجلال الدين المحلي 1 / 378، ومغني المحتاج 2 / 376.(30/244)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ فِي الْبَيْعِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ، وَلاَ يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ النَّافِذُ.
2 - الْبَيْعُ النَّافِذُ هُوَ: الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَال، فَهُوَ ضِدُّ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ (2) .
ب - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لاَ وَصْفًا، وَالْمُرَادُ بِالأَْصْل الصِّيغَةُ وَالْعَاقِدَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَبِالْوَصْفِ مَا عَدَا ذَلِكَ (3) .
ج - الْبَيْعُ الْبَاطِل.
4 - الْبَيْعُ الْبَاطِل هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ (4) . وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِل كِلاَهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بِخِلاَفِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ
حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 2 / 39.
(2) مجمع الأنهر 2 / 47، وابن عابدين 4 / 100.
(3) فتح القدير 6 / 43.
(4) ابن عابدين 4 / 100.(30/244)
الْقَدِيمِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ صَحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الإِْجَازَةُ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} . (4)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَاتِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ ابْتِغَاءَ الْفَضْل، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَكِيل فِي الاِبْتِدَاءِ، أَوْ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَتِ الإِْجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ فِي الاِنْتِهَاءِ، وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِإِطْلاَقِهَا إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 102 - 103، والدسوقي 3 / 10 - 11 ط دار الفكر ومغني المحتاج 2 / 15، والإنصاف 4 / 283.
(2) سورة البقرة الآية / 275.
(3) سورة النساء الآية / 29.
(4) سورة الجمعة الآية / 10.
(5) بدائع الصنائع 5 / 148 - 149.(30/245)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. (1)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَنْ يَبِيعَ مَا يَشْتَرِيهِ، فَيَكُونُ بَيْعًا فُضُولِيًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْطِل الْعَقْدَ، بَل أَقَرَّهُ فَدَل عَلَى أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ صَحِيحٌ يُنْتِجُ آثَارَهُ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الإِْجَازَةِ (2) .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَاسُوا التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلاَ حُكْمَ لَهُ فِي الْحَال، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْخِيَارُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلاَ حُكْمَ
__________
(1) حديث عروة البارقي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح منه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632. ط السلفية) من حديث عروة
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 103، الطبعة الأولى، وفتح القدير 5 / 309 وما بعدها.(30/245)
لَهُ فِي الْحَال حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَمَال الرِّضَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (1) .
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ بَاطِلٌ وَلاَ يَصِحُّ بِالإِْجَازَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلاَنِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ وَفَاءَ نَذْرٍ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى الْبُطْلاَنِ بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ أَحَدُ طَرْفَيِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَقِفِ الْبَيْعُ عَلَى الإِْجَازَةِ كَالْقَبُول؛ وَلأَِنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (4) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 44، والمجموع 9 / 262، والإنصاف 4 / 283.
(2) المجموع 9 / 261، والإنصاف 4 / 283.
(3) حديث: " لا طلاق إلا فيما تملك. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 640 ط. عزت عبيد الدعاس) من حديث عبد الله بن عمرو قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عبد الله بن عمرو (التلخيص الحبير 3 / 211 ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المجموع للنووي 9 / 263.(30/246)
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَسْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
أ - بَيْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاؤُهُ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ لاَ اعْتِدَادَ بِهَا شَرْعًا، فَلاَ تَصِحُّ بِهَا عِبَادَةٌ، وَلاَ تَجِبُ بِهَا عُقُوبَةٌ، وَلاَ يَنْعَقِدُ مَعَهَا بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ، وَيَسْتَمِرُّ هَكَذَا حَتَّى يَبْلُغَ السَّابِعَةَ وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ (1) .
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ الْفَرِيقُ الأَْوَّل، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ يَنْعَقِدُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَإِلاَّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاءَهُ لاَ يَنْعَقِدُ أَيٌّ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْعَاقِدِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِعًا، أَمْ مُشْتَرِيًا هُوَ الرُّشْدُ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني 1 / 131، والمستصفى للغزالي 1 / 54، وشرح الخرشي 6 / 131، التوضيح على التنقيح 2 / 158، وكشف الأسرار 4 / 1368.
(2) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد بن أحمد الشربيني 2 / 7، والمغني 4 / 272.(30/246)
ب: تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ الَّتِي يَعْقِدُهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةٌ وَتَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (2) إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةَ بَاطِلَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (3) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ وَمُتْلِفٌ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ مَالُهُ (4) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ أَصْلاً، فَهُوَ كَالرَّشِيدِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 171، وكشف الأسرار 4 / 1493، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 181، ومواهب الجليل 5 / 62، وشرح الخرشي 5 / 295، والمغني لابن قدامة 4 / 475.
(2) نهاية المحتاج 4 / 354 مطبعة الحلبي، المغني لابن قدامة 4 / 475.
(3) سورة النساء الآية / 5.
(4) نهاية المحتاج 4 / 354، والمغني لابن قدامة 4 / 475.
(5) بدائع الصنائع 7 / 171، وكشف الأسرار 4 / 1493.(30/247)
ج - تَصَرُّفُ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودُهُ:
8 - ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ: مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْغَفْلَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْر ف 15)
د - تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ.
9 - الْفُضُولِيُّ هُوَ: مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْفُضُولِيُّ لِلْمَالِكِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّ عُقُودَهُ فِي حَالَتَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُنْعَقِدَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الشَّأْنِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ وَنَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ؛ لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ (2) .
__________
(1) تنوير الأبصار للتمرتاشي، وشرح الدر المختار للحصفكي 2 / 237.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 45.(30/247)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفُضُولِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وَقَوْلِهِ: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وَبِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ. وَبِأَنَّ الْفُضُولِيَّ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، فَإِعْمَال عَقْدِهِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَالِكِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيُّ ضَرَرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ، فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً فَلاَ تَلْحَقُهُ إِجَازَةُ صَاحِبِ الشَّأْنِ (4) .
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي مَال الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ إِمَّا لِلْجَهْل بِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ وَمَشَقَّةِ انْتِظَارِهِ (5) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 242، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبيير 3 / 12.
(2) سورة المائدة الآية / 1.
(3) سورة البقرة الآية: / 275.
(4) مغني المحتاج 2 / 15، والمجموع 9 / 259.
(5) الإنصاف للمرداوي 4 / 283، والقواعد لابن رجب ص417، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 3 / 18.(30/248)
وَقَدِ اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) أَيْ: مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ وَذَلِكَ لِلْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّزَاعِ (2) ؛ وَلأَِنَّ الْوِلاَيَةَ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ
صُوَرُ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ:
مِنْ صُوَرِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَا يَأْتِي:
الصُّورَةُ الأُْولَى: بَيْعُ الْغَاصِبِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْغَاصِبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ بَيْعِ الْغَاصِبِ وَنُفُوذِهِ بِالإِْجَازَةِ (3) .
وَوُجْهَةُ نَظَرِهِمْ أَنَّ بَيْعَ الْغَاصِبِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدًا فُضُولِيًّا تَوَفَّرَتْ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ لِلصِّحَّةِ، فَيَلْزَمُ الْقَوْل
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه أبو داود (3 / 769) والترمذي (3 / 525) وحسنه الترمذي.
(2) مغني المحتاج 2 / 15، والمجموع 9 / 262، وكشاف القناع 2 / 11 - 12، والقواعد ص 417، ومطالب أولي النهى 3 / 18، والمغني 4 / 206.
(3) فتاوى الغزي ص192، وانظر الهداية 3 / 51، والمبسوط 11 / 61، وما بعدها، وبدائع الصنائع 7 / 145، وروضة الطالبين 3 / 354، والخرشي 6 / 146، والإنصاف 3 / 204.(30/248)
بِصِحَّتِهِ وَنُفُوذِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ السَّرَخْسِيُّ فَيَقُول: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَال وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، وَأَنَّ الإِْجَازَةَ فِي الاِنْتِهَاءِ كَالإِْذْنِ فِي الاِبْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزُ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا (1) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ: إِنَّ الْغَاصِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ إِذَا بَاعَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ؛ لأَِنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ بَيْعُ فُضُولِيٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَمْ لاَ، وَظَاهِرُهُ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ غَاصِبٌ أَمْ لاَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ الْغَاصِبِ (3) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَصَرُّفُ الْوَكِيل إِذَا تَجَاوَزَ حُدُودَ الْوَكَالَةِ.
أَوَّلاً - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الشِّرَاءِ:
أ - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي جِنْسِ الْمُوَكَّل بِشِرَائِهِ.
11 - إِذَا وَكَّل إِنْسَانٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ
__________
(1) المبسوط 11 / 61 - 62.
(2) شرح الخرشي 6 / 146.
(3) روضة الطالبين 3 / 353، والإنصاف 6 / 203.(30/249)
الْقُطْنِ فَعَلَى الْوَكِيل أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ وَلاَ يُخَالِفَهُ، فَإِنِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ صُوفٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيل وَإِنْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّل وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل (1)
ب - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ شِرَاءِ الْوَكِيل؛ لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فُضُولِيًّا، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُوَكِّل نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيل (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ وَلأَِنَّ الْوَكِيل مَأْذُونٌ بِالشِّرَاءِ عُرْفًا.
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 29، وشرح الخرشي 6 / 73، ونهاية المحتاج 5 / 47، والمغني 5 / 107، 108.
(2) المدونة الكبرى 9 / 51.(30/249)
الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَيَكُونُ الْوَكِيل مُخَالِفًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة) .
ج - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
13 - إِذَا كَانَ الْقَيْدُ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَمُخَالَفَةُ الْوَكِيل إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً إِلَى خَيْرٍ: كَأَنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُكَّانٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل إِلَى شَرٍّ: بِأَنِ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّل فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا عَادَةً فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارَفٌ عَلَى وُقُوعِهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيل الْمُشْتَرَى، وَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً عَمَّا سَمَّاهُ لَهُ الْمُوَكِّل،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 29.(30/250)
وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِذَا قَبِل فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ لَزِمَتِ الزِّيَادَةُ الْوَكِيل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ (2) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ.
الأُْولَى: أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي أَصْلِهِ إِلَى إِذْنٍ صَحِيحٍ، فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَيَلْتَزِمُ الْوَكِيل بِالزَّائِدِ عَنِ الْمُسَمَّى.
وَالثَّانِيَةُ: يَبْطُل لِمُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الإِْذْنِ (3) .
د - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ
14 - إِنْ كَانَ الْقَيْدُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: كَأَنْ يُوَكِّل شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ سَيَّارَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ نَسِيئَةً فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُوَكِّل فِي الشِّرَاءِ صُورِيَّةٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَعْنَى لاَ فِي الصُّورَةِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل إِلاَّ أَنْ يَرْضَى
__________
(1) المدونة الكبرى المجلد الرابع 9 / 245، وشرح الخرشي 6 / 73.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 355.
(3) المغني 5 / 125، والقواعد لابن رجب ص420.
(4) بدائع الصنائع 6 / 29، وشرح الخرشي 6 / 75.(30/250)
بِهِ، وَيَقَعُ لِلْوَكِيل عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ (1) .
ثَانِيًا - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ.
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ حِينَ يَكُونُ مُقَيَّدًا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَتْ إِلَى خَيْرٍ، فَإِنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ وَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي هَذَا حَاصِلٌ دَلاَلَةً (2) .
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيل خِلاَفًا لِمَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل، كَأَنْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُول فَبَاعَ نَسِيئَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الْوَكِيل هُنَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيل، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي صِحَّتِهِ وَبُطْلاَنِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي بَيْعٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَل الْمُوَكِّل تُبْطِل بَيْعَ الْوَكِيل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة)
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ بِمَال الْغَيْرِ.
16 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ انْعِقَادَ وَصِيَّةِ الْفُضُولِيِّ
__________
(1) المهذب 1 / 353، ومغني المحتاج 2 / 229، والمغني 5 / 111.
(2) بدائع الصنائع 6 / 27، والمدونة الكبرى المجلد الرابع 10 / 51، وشرح الخرشي 6 / 74، والمغني والشرح الكبير 5 / 249.(30/251)
بِمَال الْغَيْرِ مَوْقُوفَةً عَلَى الإِْجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة)
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: هِبَةُ مَال الْغَيْرِ.
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقِ الأَْوَّل: يَرَى فِي هِبَةِ مَال الْغَيْرِ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ لِمَال الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ صَادِرٌ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لإِِصْدَارِهِ مُضَافٌ إِلَى الْمَحَل، فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ مِنَ انْعِقَادِ الْهِبَةِ مَوْقُوفَةً عَلَى الإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي انْعِقَادِهَا مِنَ الْفُضُولِيِّ نَافِذَةً لاَ مَوْقُوفَةً (2) .
أَمَّا الْفَرِيقِ الثَّانِي: فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلاَنِ هِبَةِ مَال الْغَيْرِ، وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلاَنِ هِبَةِ مَال الْغَيْرِ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هِبَةُ الْفُضُولِيِّ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 164.
(2) بدائع الصنائع 6 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 91، الطبعة الثانية، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 79 ومغني المحتاج 2 / 15.(30/251)
لِمَال الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ تَنْعَقِدُ بَاطِلَةً، فَكَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هِبَة)
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْفُ مَال الْغَيْرِ.
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ (2) إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا وَقَفَ مَال الْغَيْرِ تَوَقَّفَ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل، وَقَدِ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ لِمَال الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَهُ مَوْقُوفٌ فَوَقْفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْوِلاَيَةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَقِفُ مَال الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي النَّفَاذِ لاَ فِي الاِنْعِقَادِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ وَقْفَ مَال الْغَيْرِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى بُطْلاَنِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ مَال الْغَيْرِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَقْف) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 91، ومغني المحتاج 2 / 15.
(2) أحكام الأوقاف للخصاف ص 129، وحاشية الدسوقي 4 / 71، ومغني المحتاج 2 / 15.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 71، ومغني المحتاج 2 / 15.(30/252)
التَّصَرُّفَاتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ
: وَتَشْمَل مَا يَأْتِي.
أَوَّلاً: بَيْعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ.
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ بَيْعَهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمَدِينِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّفَاذِ لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وَقْفَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ أَصْلاً مُقَرَّرٌ لِمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ أَجَازُوا تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ نَفَذَتْ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوهَا فَتَبْطُل.
؛ وَلأَِنَّ تَصَرُّفَ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكُل تَصَرُّفٍ يَصْدُرُ مِنْهُمَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا غَيْرَ نَافِذٍ (2)
__________
(1) حاشية الشلبي على الزيلعي 5 / 190، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 80، الشرح الكبير للدردير 3 / 265، الأم 3 / 186، الطبعة الأولى 1321هـ.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 328.(30/252)
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ بَيْعَ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَقَعُ بَاطِلاً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدِ اعْتَبَرُوا كُل تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ يَصْدُرُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَاطِلاً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ يَقْتَضِي انْعِدَامَ أَثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا الاِنْعِدَامُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِهِ مُحَافَظَةً عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا
ثَانِيًا - تَبَرُّعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبَرُّعَاتِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَجْرُ بِالدَّيْنِ صَارَ الْمَحْجُورُ كَمَرِيضٍ عَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ، فَكُل تَصَرُّفٍ أَدَّى إِلَى إِبْطَال حَقِّ الْغُرَمَاءِ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ (2) .
ثَالِثًا - تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ:
21 - الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 439 الطبعة الثالثة سنة 1367هـ، والميزان للشعراني 2 / 74، ومغني المحتاج 2 / 147 - 149.
(2) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5 / 99 المطبعة الأميرية ببولاق 1326هـ.(30/253)
وَارِثٍ، وَالْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
أ - الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي نَفَذَتْ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ نَفَذَتْ فِي حَقِّ مَنْ أَجَازَهَا، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) حديث: " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". أخرجه الدارقطني (4 / 152 ط. دار المحاسن) والبيهقي (6 / 263 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس وفيه عطاء الخرساني، وقال البيهقي: عطاء الخرساني لم يدرك ابن عباس ولم يره، أي أن الحديث منقطع.(30/253)
الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ؛ وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تُلْحِقُ الضَّرَرَ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَتُثِيرُ الْحَفِيظَةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (1) .
ب - الْوَصِيَّةُ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ تَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ نَفَذَتْ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمَا (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَسْقَطُوا هَذَا الْحَقَّ بِالإِْجَازَةِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَلاَ يَبْطُل.
__________
(1) الآية 12 من سورة النساء، وشرح البناية في الهداية 10 / 413، وحاشية الدسوقي 4 / 427، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 364، ونهاية المحتاج 6 / 48، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 419.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 420، والبناية في شرح الهداية 10 / 440، وحاشية الدسوقي 4 / 389، والمغني لابن قدامة 6 / 13.(30/254)
وَلاَ يُعْتَدُّ بِإِجَازَتِهِمْ حَال حَيَاةِ الْمُوصَى؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْل ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَرُدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى سَعْدًا عَنِ التَّصَدُّقِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (2) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَرَدَّ الْوَارِثُ الْخَاصُّ الْمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ الزِّيَادَةَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَارِثُ عَامًّا فَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ رَدٍّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ مُجِيزَ (4)
رَابِعًا - بَيْعُ الرَّاهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) شرح الخرشي على مختصر خليل 8 / 206، ونهاية المحتاج 6 / 53، والمغني 6 / 13.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدًا عن التصدق بما زاد عن الثلث ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 164. ط. السلفية) ومسلم (3 / 1250 ط. عيسى الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(3) الشرح الكبير 4 / 437، والمغني 6 / 146.
(4) نهاية المحتاج 6 / 53 - 54.(30/254)
حَقُّ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الرَّاهِنِ وَفَاءُ الدَّيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الأَْجَل فَهَل لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ الْمَرْهُونَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ حِينَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الْمَرْهُونِ يُعْتَبَرُ كَالْمُوصِي حِينَ يُوصِي بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ بَاطِلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ ضَرَرًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حَقَّهُ، إِذْ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَالضَّرَرُ مَمْنُوعٌ وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 110 - 111، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 86، وشرح الزرقاني على خليل 5 / 19.
(2) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري 1 / 233 الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه أحمد (4 / 310 / 2867 ط. دار المعارف) من حديث ابن عباس. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(4) نهاية المحتاج 3 / 388 والمهذب / 310 - 312 والمغني 4 / 446.(30/255)
خَامِسًا - بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَجِّرِ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ يَقَعُ صَحِيحًا نَافِذًا مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَالْبَيْعُ قَدْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ؛ وَلأَِنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعٌ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَحْصُل فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي سَيَتَسَلَّمُهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَتَسَلَّمَهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَيْ لاَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ، وَحُجَّتُهُمْ قِيَاسُ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَحَل يَمْنَعُ نَفَاذَ الْعَقْدِ
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر سيدي خليل 5 / 408، وتحفة المحتاج 6 / 199 لابن حجر طبعة بولاق، والإفصاح عن شرح معاني الصحاح ص225 لأبي المظفر يحيى بن محمد الحنبلي - الطبعة الأولى سنة 1347 بالمطبعة العلمية بحلب.(30/255)
وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (1) .
سَادِسًا - بَيْعُ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الشَّرِيكِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الآْخَرِينَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلاَ يَبِعْ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بَاطِلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجُزْءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا،
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 145.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 146، وشرح الخرشي على مختصر خليل 6 / 45، ونهاية المحتاج 5 / 9 والمغني 5 / 150.
(3) حديث: " من كان له شريك في حائط فلا يبع نصيبه من ذلك. . . ". أخرجه أحمد (3 / 357 ط. الميمنية) والترمذي (3 / 594 ط. محمد الحلبي) . والحاكم (2 / 56 ط. دار المعارف العثمانية) من حديث جابر، وقال الذهبي: إسناده صحيح.(30/256)
وَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا أَمْ هِبَةً (1) .
كَيْفِيَّةُ الإِْجَازَةِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
27 - الإِْجَازَةُ: الإِْنْفَاذُ وَالإِْمْضَاءُ، وَتَرِدُ الإِْجَازَةُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ دُونَ النَّافِذِ وَالْبَاطِل، وَتَقَعُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصِيلاً أَمْ وَكِيلاً أَوْ وَلِيًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ قَيِّمًا، وَكَذَا كُل مَنْ يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ عَلَى إِذْنِهِ كَالشَّرِيكِ وَالْوَارِثِ وَالدَّائِنِينَ.
وَالأَْصْل فِي الإِْجَازَةِ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْل الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِنَحْوِ قَوْل الْمُجِيزِ: أَجَزْتُ أَوْ أَنَفَذْتُ أَوْ أَمْضَيْتُ أَوْ رَضِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ بِالْفِعْل: فِيمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الَّذِي لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ فَأَجَّرَهُ أَوْ أَعَارَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا فَكُل ذَلِكَ إِجَازَةٌ فِعْلِيَّةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَازَةٌ) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 150.(30/256)
عَقْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقْرُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - لُغَةً الْجَرْحُ، يُقَال: عَقَرَ الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ بِالسَّيْفِ عَقْرًا: قَطَعَ قَوَائِمَهُ، وَأَصْل الْعَقْرِ ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، وَالْعَقْرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوَائِمِ، ثُمَّ جُعِل النَّحْرُ عَقْرًا؛ لأَِنَّ نَاحِرَ الإِْبِل يَعْقِرُهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا، وَالْعَقِيرَةُ: مَا عُقِرَ مِنْ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْوَارِدَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْجَرْحِ وَهُوَ الإِْصَابَةُ الْقَاتِلَةُ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْعَقْرُ: جَرْحُ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ وَحْشِيًّا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ إِلاَّ بِعُسْرٍ (2) .
وَفِي الْبَدَائِعِ: الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) بدائع الصنائع 5 / 43، والشرح الصغير 1 / 315 ط. الحلبي.
(3) بدائع الصنائع 5 / 43.(30/257)
وَالثَّانِي: بِمَعْنَى ضَرْبِ قَوَائِمِ الْحَيَوَانَاتِ (1) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي عَقْرِ الدَّوَابِّ الْمَغْنُومَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ:
2 - النَّحْرُ: مَوْضِعُ الْقِلاَدَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعْنِ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، يُقَال: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا.
فَالْعَقْرُ أَعَمُّ مِنَ النَّحْرِ.
ب - الْجَرْحُ:
3 - الْجَرْحُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَى التَّأْثِيرِ فِي الشَّيْءِ بِالسِّلاَحِ وَيُطْلَقُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى مَعْنَى الْعَقْرِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْرِ.
ج - التَّذْكِيَةُ:
4 - التَّذْكِيَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا، فَالتَّذْكِيَةُ أَخَصُّ؛ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ الأَْكْل.
أَثَرُ الْعَقْرِ فِي حِل أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ:
لِلْعَقْرِ أَثَرٌ فِي حِل أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ، وَذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الآْتِيَةِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 230.(30/257)
أ - الأَْوَّل: الصَّيْدُ
5 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ بِعَقْرِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّائِدِ وَلِلتَّسْمِيَةِ وَلآِلَةِ الصَّيْدِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . (1)
وَقَدْ رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَال: أَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِل لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَال:. . . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل. (2)
فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَمَنْ أَمْسَكَ
__________
(1) سورة المائدة الآية / 4.
(2) حديث: " أما ما ذاكرت من أنك بأرض صيد، فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 612 ط السلفية) من حديث أبي ثعلبة مطولاً.(30/258)
صَيْدًا بِحِبَالَةٍ وَصَارَ تَحْتَ يَدِهِ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَلاَ يُؤْكَل (1)
ب - الثَّانِي: مَا نَدَّ - نَفَرَ وَشَرَدَ - مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ:
6 - مَا نَدَّ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَإِنَّهَا تَحِل بِالْعَقْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ؛ لأَِنَّهَا كَالصَّيْدِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي حِل لَحْمِ الْحَيَوَانِ هُوَ الذَّبْحُ أَوِ النَّحْرُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الْعَقْرُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ أَهْلِيٌّ أَوْ نَدَّ - نَفَرَ وَشَرَدَ - أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ جِسْمِهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ،
وَبِهِ قَال مَسْرُوقٌ وَالأَْسْوَدُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ، لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَّدَ بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، والشرح الصغير 1 / 315 ط. الحلبي، والدسوقي 2 / 103 ونهاية المحتاج 8 / 105، 108، والمغني 8 / 539، 559، 573.(30/258)
فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ - أَيْ: نُفُورٌ - كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا، وَفِي لَفْظٍ: فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ:؛ وَلأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الذَّكَاةِ بِحَال الْحَيَوَانِ وَقْتَ ذَبْحِهِ لاَ بِأَصْلِهِ، بِدَلِيل الْوَحْشِيِّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَكَذَلِكَ الأَْهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ فَإِذَا تَرَدَّى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ فَهُوَ مَعْجُوزٌ عَنْ تَذْكِيَتِهِ فَأَشْبَهَ الْوَحْشِيَّ (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا، قَال مُحَمَّدٌ: وَالْبَعِيرُ الَّذِي نَدَّ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ نَدَّ الْبَعِيرِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
قَال مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنْ نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا إِذْ هِيَ لاَ تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَ
__________
(1) حديث: " إن لهذه البهائم. . ". أخرجه أحمد (فتح الباري 5 / 131 ط السلفية) ومسلم (3 / 1558 ط. الحلبي) من حديث رافع بن خديج، واللفظ الثاني أخرجه البخاري (6 / 188) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 43، والزيلعي 5 / 292 - 293، ونهاية المحتاج 105 - 108، والمغني 8 / 566 - 567(30/259)
الذَّبْحُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْعَقْرُ، وَهَذَا؛ لأَِنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ عَنِ الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخَلَفِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا نَدَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَتَوَحَّشَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل بِالْعَقْرِ عَمَلاً بِالأَْصْل وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ هُوَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ إِنْ نَدَّ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ وَإِنْ نَدَّ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ؛ لأَِنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ شَبَهُهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ أَيْضًا، إِنْ تَرَدَّى حَيَوَانٌ فِي كُوَّةٍ وَأَصْبَحَ مَعْجُوزًا عَنْ ذَبْحِهِ فَإِنَّهُ يَحِل بِالْعَقْرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ بَقَرًا أَوْ غَيْرَهُ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال (2) .
وَأَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ الصِّيَال بِالنَّدِّ، قَالُوا: إِذَا صَال الْبَعِيرُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَل أَكْلُهُ إِذَا كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَجُعِل الصِّيَال مِنْهُ كَنَدِّهِ؛ لأَِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ أَخْذِهِ فَيَعْجِزُ عَنْ نَحْرِهِ فَيُقَامُ الْجَرْحُ فِيهِ مَقَامَ النَّحْرِ (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صِيَال) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، والزيلعي 5 / 292، وفتح القدير 8 / 416، نشر دار إحياء التراث.
(2) الدسوقي 2 / 103.
(3) بدائع الصنائع 5 / 44، والزيلعي 5 / 293.(30/259)
عَقْرُ حَيَوَانَاتِ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نَقْلِهَا:
7 - الْمُرَادُ بِعَقْرِ الْحَيَوَانَاتِ هُنَا: ضَرْبُ قَوَائِمِهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى لاَ يُنْتَفَعَ بِهَا، فَإِذَا انْتَهَتِ الْحَرْبُ وَأَرَادَ الإِْمَامُ الْعَوْدَ إِلَى دِيَارِ الإِْسْلاَمِ وَكَانَ مَعَهُ مَا غَنِمَهُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالٍ وَحَيَوَانَاتٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَقْل الْحَيَوَانَاتِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَل بِهَا.
فَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَقْرُهَا إِلاَّ لِلأَْكْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا عَقْرُ دَوَابِّهِمْ فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ لِمُغَايَظَتِهِمْ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَجُوزُ سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ. لاَ تَقْتُل صَبِيًّا وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ هَرِمًا وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلاَ دَابَّةً عَجْمَاءَ وَلاَ شَاةً إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ. . . إِلَخْ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا (1) ،؛ وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " نهى عن قتل شيء من الدواب صبرًا ". أخرجه مسلم (3 / 1550 ط. عيسى الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(30/260)
الْحَيَوَانُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْقِتَال كَالْخَيْل فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ سِيَاقَتِهِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الْقِتَال كَالْخَيْل جَازَ عَقْرُهُ وَإِتْلاَفُهُ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ إِيصَالُهُ إِلَى الْكُفَّارِ بِالْبَيْعِ فَتَرْكُهُ لَهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلأَْكْل فَلِلْمُسْلِمِينَ ذَبْحُهُ وَالأَْكْل مِنْهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ؛ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ إِفْسَادٍ وَإِتْلاَفٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ (1) وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ عَقْرُ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا تُذْبَحُ ثُمَّ تُحْرَقُ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِتَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهَا عَنِ الْكُفَّارِ.
وَقَال الْمِصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَجُوزُ عَقْرُهَا أَوْ ذَبْحُهَا.
وَقَال الْمَدَنِيُّونَ يُكْرَهُ عَقْرُهَا وَإِنَّمَا يُجْهَزُ عَلَيْهَا وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهَا تُحْرَقُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُنْتَفَعَ بِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " نهى عن ذبح الحيوان. . . ". معنى الحديث أخرجه الحاكم (2 / 182 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(2) مغني المحتاج 4 / 227، وأسنى المطالب 4 / 196، والمهذب 2 / 242، وروضة الطالبين 10 / 258 والمغني 8 / 451، 452، 453.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 230، وفتح القدير 5 / 221 نشر دار إحياء التراث والدسوقي 2 / 181، والمدونة 2 / 40.(30/260)
أَثَرُ عَقْرِ الْكَلْبِ فِي الضَّمَانِ:
8 - مَنْ أَطْلَقَ كَلْبًا عَقُورًا فَعَقَرَ إِنْسَانًا أَوْ دَابَّةً لَيْلاً أَوْ نَهَارًا أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَعَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ إِغْرَاءَ الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ إِرْسَال الْبَهِيمَةِ فَالْمُصَابُ عَلَى فَوْرِ الإِْرْسَال مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِل كَذَا هُنَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكَلْبَ يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ، وَالإِْغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ.
وَقَال مُحَمَّدٌ، إِنْ كَانَ سَائِقًا لَهُ أَوْ قَائِدًا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ وَلاَ قَائِدًا لاَ يَضْمَنُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ؛ لأَِنَّ الْعَقْرَ فِعْل الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ فَالأَْصْل هُوَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ، إِلاَّ أَنَّهُ بِالسَّوْقِ أَوِ الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إِيَّاهُ إِلَى الإِْتْلاَفِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقَ الدَّابَّةِ وَقَوْدَهَا (1) .
وَلَوْ دَخَل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ فَإِنْ كَانَ دَخَل بِلاَ إِذْنٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُول مُتَسَبِّبٌ بِعُدْوَانِهِ إِلَى عَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ دَخَل بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 273، ونهاية المحتاج 8 / 40، والمغني 8 / 338.(30/261)
إِتْلاَفِهِ وَهَذَا مَا يَقُولُهُ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُول وَأَعْلَمَهُ بِحَال الْكَلْبِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِحَالِهِ ضَمِنَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَخَل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ لاَ يَضْمَنُ سَوَاءٌ دَخَل دَارَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ فِعْل الْكَلْبِ جُبَارٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إِلَى الْعَقْرِ إِذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ الإِْمْسَاكُ فِي الْبَيْتِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَبَطَ الْكَلْبَ بِبَابِ الدَّارِ أَوْ فِي مِلْكِهِ فَلاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ مِنْهُ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ آخَرُ، قَالُوا: مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا عَقُورًا بِقَصْدِ قَتْل شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَتَل شَخْصًا آخَرَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ ضَرَرَ أَحَدٍ فَقَتَل إِنْسَانًا، فَإِنْ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ الْكَلْبَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ كَحِرَاسَةِ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ إِنْ أَنْذَرَ صَاحِبَهُ قَبْل الْقَتْل وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة المائدة: الآية / 4.
(2) بدائع الصنائع 7 / 273، ونهاية المحتاج 8 / 40، وأسنى المطالب 4 / 173.(30/261)
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لاَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ لَهُ إِنْذَارٌ أَمْ لاَ، وَهَذَا حَيْثُ عُرِفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْل الْعَجْمَاءِ (1) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 243 - 244، والمدونة 6 / 446، وجواهر الإكليل 2 / 257.(30/262)
عُقْر
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُقْرِ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - لُغَةً: الْمَهْرُ، وَهُوَ لِلْمُغْتَصَبَةِ مِنَ الإِْمَاءِ كَمَهْرِ الْمِثْل لِلْحُرَّةِ، وَالْعُقْرُ - بِالضَّمِّ - مَا تُعْطَاهُ الْمَرْأَةُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّ وَاطِئَ الْبِكْرِ يَعْقِرُهَا إِذَا افْتَضَّهَا، فَسُمِّيَ مَا تُعْطَاهُ لِلْعَقْرِ عُقْرًا، ثُمَّ صَارَ عَامًّا لَهَا وَلِلثَّيِّبِ، وَجَمْعُهُ: أَعْقَارٌ.
وَقَال ابْنُ الْمُظَفَّرِ: عُقْرُ الْمَرْأَةِ دِيَةُ فَرْجِهَا إِذَا غُصِبَتْ فَرْجَهَا.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مَهْرُ الْمَرْأَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْجَوْهَرَةِ أَنَّ الْعُقْرَ: فِي الْحَرَائِرِ مَهْرُ الْمِثْل، وَفِي الإِْمَاءِ عُشْرُ الْقِيمَةِ لَوْ بِكْرًا، وَنِصْفُ الْعُشْرِ لَوْ ثَيِّبًا (2) .
وَفِي الْعِنَايَةِ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: الْعُقْرُ: مَهْرُ الْمَرْأَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَهْرُ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) ابن عابدين 5 / 61، و2 / 287، و382، والبدائع 2 / 335.(30/262)
الْمِثْل، وَبِهِ فَسَّرَ الإِْمَامُ الْعَتَّابِيُّ الْعُقْرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْعُقْرُ: الْمَهْرُ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْجْرُ:
2 - الأَْجْرُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَجَرَهُ يَأْجُرُهُ: إِذَا أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
وَيُسْتَعْمَل الأَْجْرُ بِمَعْنَى الإِْجَارَةِ وَبِمَعْنَى الأُْجْرَةِ (2) .
وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ أَجْرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} .
(3) وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الأَْجْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْعَمَل، وَبِمَعْنَى بَدَل الْمَنْفَعَةِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الأَْجْرِ وَالْعُقْرِ: أَنَّ الأَْجْرَ أَعَمُّ، فَهُوَ يُسْتَعْمَل فِي الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ، أَمَّا الْعُقْرُ فَلاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 459 نشر دار إحياء التراث، والمغني 6 / 728.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، وكشاف القناع 3 / 546.
(3) سورة الأحزاب / 50.
(4) البدائع 4 / 176، والحطاب 5 / 389.(30/263)
الصَّحِيحِ، دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل، أَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلاَ يَجِبُ الْمَهْرُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُول، وَاخْتَلَفُوا هَل هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْل أَوِ الأَْقَل مِنْهُمَا؟
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَمَهْر)
وَكَمَا يَجِبُ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالدُّخُول يَجِبُ فِي الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شُبْهَة) .
عَقْعَق
انْظُرْ: أَطْعِمَة(30/263)
عَقْل
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَقْل فِي اللُّغَةِ: الْحَجْرُ وَالنَّهْيُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُمْقِ، وَالْجَمْعُ: عُقُولٌ، وَعَقَل الشَّيْءَ يَعْقِلُهُ عَقْلاً: إِذَا فَهِمَهُ، وَيُقَال لِلْقُوَّةِ الْمُتَهَيِّئَةِ لِقَبُول الْعِلْمِ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الدِّيَةُ، يُقَال: عَقَل الْقَتِيل يَعْقِلُهُ عَقْلاً: إِذَا وَدَاهُ، وَعَقَل عَنْهُ: أَدَّى جِنَايَتَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَاهَا عَنْهُ (1) .
وَفِي الشَّرْعِ الْعَقْل: الْقُوَّةُ الْمُتَهَيِّئَةُ لِقَبُول الْعِلْمِ، وَقِيل: غَرِيزَةٌ يَتَهَيَّأُ بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى فَهْمِ الْخِطَابِ، وَقِيل: نُورٌ فِي الْقَلْبِ يَعْرِفُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالْحَقَّ وَالْبَاطِل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّبُّ:
2 - اللُّبُّ هُوَ: الْعَقْل الْخَالِصُ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، التعريفات للجرجاني، وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) الفواكه الدواني 1 / 133، ومغني المحتاج 1 / 33.(30/264)
الشَّوَائِبِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ خَالِصَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْ مَعَانِيهِ؛ لأَِنَّ لُبَّ كُل شَيْءٍ: خَالِصُهُ وَخِيَارُهُ، وَشَيْءٌ لُبَابٌ: أَيْ خَالِصٌ.
وَقِيل: اللُّبُّ هُوَ مَا زَكَا مِنَ الْعَقْل، فَكُل لُبٍّ عَقْلٌ، وَلَيْسَ كُل عَقْلٍ لُبًّا، وَلِهَذَا عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الأَْحْكَامَ الَّتِي لاَ تُدْرِكُهَا إِلاَّ الْعُقُول الزَّكِيَّةُ بِأُولِي الأَْلْبَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَْلْبَابِ} (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَقْل فِي أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا يُخَصُّ بِالتَّكْلِيفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْل هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ فِي الإِْنْسَانِ، فَلاَ تَجِبُ عِبَادَةٌ مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَنْ لاَ عَقْل لَهُ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بَالِغًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل. (2)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِل لاَ تُعْتَبَرُ
__________
(1) سورة البقرة / 269، وينظر لسان العرب والتعريفات للجرجاني وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 560 ط. عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 59 دار الكتاب العربي) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.(30/264)
تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلاَ إِيجَارُهُ وَلاَ وَكَالَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَرَفًا فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالضَّمَانِ وَالإِْبْرَاءِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَلاَ اعْتِبَارَ لأَِقْوَالِهِ، وَلاَ تُؤْخَذُ عَلَيْهِ وَلاَ لَهُ، فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلاَمٌ وَلاَ رِدَّةٌ، وَلاَ طَلاَقٌ وَلاَ ظِهَارٌ، وَلاَ يُعْتَمَدُ إِقْرَارُهُ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَال أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلاَ شَهَادَتُهُ أَوْ خَبَرُهُ.
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَاقِدَ الْعَقْل مِنَ النَّاسِ تُسْلَبُ مِنْهُ الْوِلاَيَاتُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ ثَابِتَةً: لَهُ بِالشَّرْعِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، أَوْ بِالتَّفْوِيضِ كَوِلاَيَةِ الإِْيصَاءِ وَالْقَضَاءِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَل أَمْرَ نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.
4 - إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ بَعْضَ أَفْعَال فَاقِدِ الْعَقْل - كَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَال غَيْبُوبَتِهِ وَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ - مُعْتَبَرَةٌ وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَتَائِجُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَذَلِكَ كَإِحْبَالِهِ، وَإِتْلاَفِهِ مَال غَيْرِهِ، وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ، وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَالْتِقَاطِهِ، وَاحْتِطَابِهِ، وَاصْطِيَادِهِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام مادة 941، 943، 944، 945، 957، 960 والبدائع 7 / 246، القوانين الفقهية ص113، 127، 143، 204، 229، 247، 273، 302، 311، 316، 322، 339، 356، 364، مغني المحتاج 2 / 165، 198، 218، 238، 264، 314، 323، 332، 376، 7 / 122 و4 / 10، 84، 94، 137، 427، والمغني لابن قدامة 7 / 664، 113، 116، 339 و1 / 400 و8 / 215، 124، وكشاف القناع 6 / 50.(30/265)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْلِيف ف 4، أَهْلِيَّة ف 9، جُنُون ف 9، عَتَه ف 5، تَمْيِيز ف 9، حَجْر ف 9، وِلاَيَة، شَهَادَة ف 17، قَضَاءٌ، عَقْد ف 29.)
وَمِنْهَا نَقْضُ الْوُضُوءِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَوَال الْعَقْل بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ السُّكْرِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَْدْوِيَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْل. يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَوْم، وُضُوء، وَجُنُون) .
وَمِنْهَا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْل فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي إِزَالَةِ الْعَقْل بِجِنَايَةٍ لِعَدَمِ الضَّبْطِ؛ وَلأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَل الْجِنَايَةِ، لِلاِخْتِلاَفِ فِي مَحَلِّهِ (2) .
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، قَوَد) .
وَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَهَابِ الْعَقْل بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 97، والفواكه الدواني 1 / 133، ومغني المحتاج 1 / 32، والمغني لابن قدامة 1 / 172.
(2) جواهر الإكليل 2 / 276، والفواكه الدواني 1 / 19، ومغني المحتاج 1 / 33، 4 / 30، والمغني لابن قدامة 8 / 38، وكشاف القناع 5 / 50.(30/265)
لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي الْعَقْل الدِّيَةُ. (1)
وَلأَِنَّهُ أَشْرَفُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا، فَبِهِ يَتَمَيَّزُ الإِْنْسَانُ عَنِ الْبَهِيمَةِ، وَيَعْرِفُ بِهِ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْمَصَالِحِ وَيَتَّقِي بِهِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُل بِهِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ انْتُظِرَ، فَإِنْ عَادَ فَلاَ ضَمَانَ كَمَا فِي سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ (2) .
5 - وَأَمَّا الإِْطْلاَقُ الثَّانِي لِلْعَقْل وَهُوَ الدِّيَةُ، أَيِ: الْمَال الَّذِي يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا.
فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 56)
.
عُقْلَة
انْظُرْ: سُلاَمَى
__________
(1) حديث: " وفي العقل الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 ط المكتبة التجارية) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 ط شركة الطباعة الفنية) وتكلم على أسانيد ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 267، ومغني المحتاج 4 / 68، والمغني لابن قدامة 8 / 37، وكشاف القناع 6 / 50.(30/266)
عُقْم
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُقُمُ بِالْفَتْحِ، وَبِالضَّمِّ: الْيُبْسُ الْمَانِعُ مِنْ قَبُول الأَْثَرِ،
وَالْعَقِيمُ: الَّذِي لاَ يُولَدُ لَهُ، يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، يُقَال: عَقِمَتِ الْمَرْأَةُ - إِذَا لَمْ تَحْبَل - فَهِيَ عَقِيمٌ (1) ، قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَوْجَةِ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (2)
وَفِي الأَْثَرِ: سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ (3) وَكَذَلِكَ يُقَال: رَجُلٌ عَقِيمٌ وَعِقَامٌ: لاَ يُولَدُ لَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْعُقْمِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني، والمصباح المنير.
(2) سورة الذاريات / 29.
(3) حديث: " سوداء ولود خير من حسناء عقيم ". أخرجه الطبراني في الكبير (19 / 416، 1004، ط الدار العربية للطباعة) من حديث معاوية بن صبرة، وقال الهيثمي (مجمع الزوائد 4 / 258 ط. دار السعادة) وفيه علي بن الربيع وهو ضعيف.(30/266)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُقْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعُقْرِ، الْعُقْمُ، وَهُوَ: اسْتِعْقَامُ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَنْ لاَ تَحْمِل. يُقَال: عَقَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَاقِرٌ (1) ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيل حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} (2) أَيْ: عَقِيمًا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْجَرْحِ.
فَالْعُقْرُ أَعَمُّ مِنَ الْعُقْمِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُقْمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ النِّكَاحِ أَنْ يَنْكِحَ وَلُودًا بِكْرًا، وَيُعْرَفُ عَنْهَا ذَلِكَ بِأَقَارِبِهَا؛ لأَِنَّ النَّسْل مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي الزَّوَاجِ، وَالنَّسْل مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} . (3)
وَقَال جَل شَأْنُهُ: {وَاللَّهُ جَعَل لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَل لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (4) وَحَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوَلَدِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجُوا
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، ومختار الصحاح.
(2) سورة مريم / 5.
(3) سورة النساء / 1.
(4) سورة النحل / 72.(30/267)
الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ، وَنَهَى عَنْ زَوَاجِ الْعَقِيمِ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: لاَ تَزَوَّجَنَّ عَاقِرًا (2) وَنَهَى عَنْ كُل مَا مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيل النَّسْل فِي الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَنَهَى عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنَّ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ.
(3) وَرَغِبَ عَنِ الْعَزْل، رَوَى أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ذُكِرَ الْعَزْل عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: فَلِمَ يَفْعَل أَحَدُكُمْ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ إِلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا (4) وَوَجْهُ النَّهْيِ
__________
(1) حديث: " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". أخرجه أحمد (3 / 158 ط. الميمنية) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 9 / 338 ط. الرسالة) من حديث أنس، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 252، 258 ط دار السعادة) وحسن إسناده.
(2) الأثر: " لا تزوجن عاقرًا ". أخرجه الحاكم (3 / 290 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عياض بن غنم. قال ابن حجر: إسناده ضعيف كذا في التلخيص الحبير (3 / 116 ط. شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن ". أخرجه أحمد (5 / 213 ط الميمنية) وابن ماجه (1 / 619 ط. عيسى الحلبي) من حديث خزيمة بن ثابت، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 290 ط. مصطفى الحلبي) قوال: رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد، أحدها جيد.
(4) حديث: " فلم يفعل أحدكم " فإنه ليست من نفس مخلوقة إلا الله خالقها ". أخرجه أبو داود (2 / 623 ط. عزت عيد الدعاس) والترمذي (3 / 435) من حديث أبي سعيد الخدري وقال: حديث حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم بنحوه.(30/267)
عَمَّا ذُكِرَ تَعْطِيل النَّسْل، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي تَشْرِيعِ النِّكَاحِ
نِكَاحُ الْعَقِيمِ:
4 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعُقْمَ لَيْسَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا وَجَدَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الآْخَرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَسَنَ قَال: إِذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ عَقِيمًا يُخَيَّرُ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ تَبْيِينَ أَمْرِهِ وَقَال: عَسَى امْرَأَتُهُ تُرِيدُ الْوَلَدَ، وَهَذَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْفَسْخُ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ وَلَوْ ثَبَتَ بِهِ لَثَبَتَ بِالآْيِسَةِ؛ وَلأَِنَّ الْعُقْمَ لاَ يُعْلَمُ، فَإِنَّ رِجَالاً لاَ يُولَدُ لأَِحَدِهِمْ وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ يُولَدُ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ فِيهِ الْعُقْمُ أَنْ يُعْلِمَ الآْخَرَ قَبْل الْعَقْدِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (عَيْب، فَسْخ) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ كُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الآْخَرِ، وَلاَ يُحَصِّل مَقْصُودَ النِّكَاحِ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 453، والمغني 6 / 653، ومطالب أولي النهى 5 / 146 - 149.(30/268)
مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ يُوجِبُ الْفَسْخَ (1) .
إِبْطَال قُوَّةِ الْحَبَل وَالإِْحْبَال بِالْجِنَايَةِ:
5 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَجِبُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ الْحَبَل مِنَ الْمَرْأَةِ وَالإِْحْبَال مِنَ الرَّجُل بِجِنَايَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لاِنْقِطَاعِ النَّسْل فَيَكْمُل فِيهِ الدِّيَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (دِيَات ف 62)
قَطْعُ النَّسْل بِدَوَاءٍ:
6 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَنَاوُل دَوَاءٍ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَنَاوُل مَا يَقْطَعُ الْحَبَل (2) .
__________
(1) زاد المعاد 5 / 182.
(2) شرح روض الطالب 3 / 107، حاشية الجمل 4 / 117، نهاية المحتاج 6 / 182 والقليوبي 2 / 206.(30/268)
عُقُوبَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْعِقَابِ، وَالْعِقَابُ بِالْكَسْرِ وَالْمُعَاقَبَةُ: أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُل بِمَا فَعَل مِنَ السُّوءِ. يُقَال عَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا: أَخَذَهُ بِهِ (1) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) ، وَالْعُقُوبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الأَْلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، كَمَا عَرَّفَهَا الطَّحَاوِيُّ (3) . وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ وَنَحْوِهِمَا، سُمِّيَ بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، مِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا تَبِعَهُ (4) .
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَبَيْنَ الْعِقَابِ: بِأَنَّ مَا يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا يُقَال لَهُ الْعُقُوبَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي الآْخِرَةِ يُقَال لَهُ الْعِقَابُ (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومتن اللغة.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر المختار2 / 388.
(4) ابن عابدين 3 / 140.
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 388.(30/269)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَزَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْجَزَاءِ: الْغَنَاءُ وَالْكِفَايَةُ، قَال تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (1) أَيْ: لاَ تُغْنِي. وَالْجَزَاءُ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . (3)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْجَزَاءُ أَعَمُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ، حَيْثُ يُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعُقُوبَةُ خَاصَّةٌ بِالأَْخْذِ بِالسُّوءِ.
ب - الْعَذَابُ:
3 - أَصْل الْعَذَابِ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: الضَّرْبُ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي كُل عُقُوبَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَاسْتُعِيرَ فِي الأُْمُورِ الشَّاقَّةِ، فَقِيل: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ.
وَفِي الْفُرُوقِ لأَِبِي هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ: هُوَ أَنَّ الْعِقَابَ يُنْبِئُ عَنِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْفَاعِل يَسْتَحِقُّهُ عَقِيبَ فِعْلِهِ، أَمَّا الْعَذَابُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا وَغَيْرَ مُسْتَحَقٍّ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 48.
(2) سورة الكهف / 88.
(3) سورة الشورى / 40.
(4) الفروق في اللغة ص199.(30/269)
أَقْسَامُ الْعُقُوبَةِ:
4 - تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
فَتَنْقَسِمُ أَوَّلاً: بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ رَئِيسِيَّةٍ، هِيَ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (قِصَاص، وَتَعْزِير ف 5) .
وَتَنْقَسِمُ ثَانِيًا: بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَى:
أ - عُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الشُّرْبِ.
ب - وَعُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ.
ج - وَعُقُوبَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحَقَّيْنِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ.
ر: مُصْطَلَحَ (حَقّ ف 13، 15) .
وَتَنْقَسِمُ ثَالِثًا، بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ إِلَى:
أ - عُقُوبَةٍ كَامِلَةٍ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ.
ب - وَعُقُوبَةٍ قَاصِرَةٍ، كَحِرْمَانِ الْقَاتِل إِرْثَ الْمَقْتُول.
ج - وَعُقُوبَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ غَالِبَةٌ فِيهَا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْل.
د - عُقُوبَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ(30/270)
فِيهَا غَالِبَةٌ كَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل نَوْعٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ أُخْرَى بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:
أ - الْغُرَّةُ:
5 - الْغُرَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ: أَوَّلُهُ. وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الشَّرْعِ: ضَمَانٌ يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُرَّة) .
ب - الأَْرْشُ:
6 - الأَْرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى: الْمَال الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ، فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الدِّيَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْش ف 1) .
ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ:
7 - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ عُقُوبَةٌ لِجَرِيمَةِ الْقَتْل بِصُورَةٍ تَبَعِيَّةٍ فَإِذَا ثَبَتَتِ الْجَرِيمَةُ بِأَدِلَّتِهَا الْخَاصَّةِ، وَحُكِمَ عَلَى الْقَاتِل بِعُقُوبَةِ الْقَتْل، يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَوَصِيَّتِهِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْقَاتِل
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 179 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 1 / 303، وحاشية الجمل 5 / 101، والمغني لابن قدامة 7 / 804.(30/270)
شَيْءٌ مِنَ الْمِيرَاثِ (1) . وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ (2) . وَهَل يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُطْلَقًا؟
لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْث ف 17 وَوَصِيَّة) .
أَقْسَامُ عُقُوبَةِ الْحَدِّ:
8 - الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ مُحَدَّدَةٌ لاَ تَقْبَل التَّعْدِيل وَالتَّغْيِيرَ، وَلِكُل جَرِيمَةٍ حَدِّيَّةٍ عُقُوبَةٌ مَعْلُومَةٌ، لَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ حَسْبُ اخْتِلاَفِ مُوجِبِهَا مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ، وَهَذِهِ الْجَرَائِمُ هِيَ: الزِّنَا وَالْقَذْفُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةُ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ: (الْحِرَابَةُ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ وَالْبَغْيُ مَعَ اخْتِلاَفٍ فِيهِمَا.
__________
(1) حديث: " ليس للقاتل شيء من الميراث ". أخرجه الدارقطني (4 / 237 ط. دار المحاسن) والبيهقي (6 / 220 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه السيوطي. ونقل المناوي عن الزركشي قول ابن عبد البر في كتاب الفرائض أن إسناده صحيح بالاتفاق وله شواهد كثيرة (انظر فيض القدير 5 / 380 ط. المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " لا وصية لقاتل ". أخرجه الدارقطني (4 / 236 - 237 ط. دار المحاسن) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده مبشر بن عبيد، قال الدارقطني: مبشر بن عبيد متروك الحديث، يضع الحديث. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 214 ط. القدسي) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه بقية وهو مدلس.(30/271)
وَتَفْصِيل عُقُوبَاتِ هَذِهِ الْحُدُودِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ:
9 - التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ. شُرِعَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلأَْفْرَادِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا رَدْعُ الْجَانِي وَزَجْرُهُ وَإِصْلاَحُهُ وَتَأْدِيبُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (1) .
وَقَدْ شُرِعَ التَّعْزِيرُ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لاَ يَكُونُ فِيهَا حُدُودٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ (2) .
وَعَدَمُ التَّقْدِيرِ فِي الْعُقُوبَاتِ التَّعْزِيرِيَّةِ لاَ يَعْنِي جَوَازَ وَمَشْرُوعِيَّةَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ فِي التَّعْزِيرِ، فَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ لاَ يَجُوزُ إِيقَاعُهَا كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ، مِثْل الضَّرْبِ الْمُتْلِفِ، وَصَفْعِ الْوَجْهِ، وَالْحَرْقِ، وَالْكَيِّ، وَحَلْقِ اللِّحْيَةِ وَأَمْثَالِهَا (3) .
وَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ تَعْزِيرِيَّةٌ مَشْرُوعَةٌ يَخْتَارُ مِنْهَا الْقَاضِي مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِحَالَةِ الْمُجْرِمِ تَحْقِيقًا لأَِغْرَاضِ التَّعْزِيرِ مِنَ الإِْصْلاَحِ وَالتَّأْدِيبِ، كَعُقُوبَةِ الْجَلْدِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْهَجْرِ وَالتَّعْزِيرِ بِالْمَال وَنَحْوِهَا.
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 211، وتبصرة الحكام 1 / 366، والأحكام السلطانية للماوردي ص224.
(2) معين الحكام ص189، وتبصرة الحكام 2 / 316، وكشاف القناع 4 / 75.
(3) تبيين الحقائق 3 / 211، وكشاف القناع 4 / 74.(30/271)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّعْزِيرِ، وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَمُوجِبَاتُهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 11 وَمَا بَعْدَهَا)
تَعَدُّدُ الْعُقُوبَاتِ:
10 - أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ اجْتِمَاعَ الْعُقُوبَاتِ وَتَعَدُّدَهَا فِي جَرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ بِصِفَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْحَدِّ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبَ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي حَدِّ الزِّنَى، وَلَكِنْ يُجِيزُونَ تَغْرِيبَهُ تَعْزِيرًا بَعْدَ الْجَلْدِ حَدًّا (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَارِحَ عَمْدًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُؤَدَّبُ تَعْزِيرًا، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ اجْتِمَاعَ التَّعْزِيرِ مَعَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْل الَّذِي عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ تَجِبُ فِيهِ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، وَيُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً تَعْزِيرًا (2)
تَدَاخُل الْعُقُوبَاتِ.
11 - الْمُرَادُ بِتَدَاخُل الْعُقُوبَاتِ هُوَ دُخُول عُقُوبَةٍ فِي أُخْرَى بِلاَ زِيَادَةِ حَجْمٍ وَمِقْدَارٍ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا اتَّفَقَتْ فِي
__________
(1) معين الحكام ص182، وبداية المجتهد 2 / 264.
(2) تبصرة الحكام 2 / 266، والحطاب 6 / 247، ونهاية المحتاج 7 / 172، 173، والمغني لابن قدامة 10 / 266، 267.(30/272)
الْجِنْسِ وَالْمُوجِبِ فَإِنَّهَا تَتَدَاخَل، فَمَنْ زَنَى مِرَارًا، أَوْ سَرَقَ مِرَارًا مَثَلاً أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلزِّنَى الْمُتَكَرِّرِ، وَآخَرُ لِلسَّرِقَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَدَاخُل عُقُوبَاتِ الْقِصَاصِ مَعَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُل ف 18)
عُقُوق
انْظُرْ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.
__________
(1) المراجع السابقة.(30/272)
عَقِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقِيقُ فِي اللُّغَةِ: الْوَادِي الَّذِي شَقَّهُ السَّيْل قَدِيمًا.
قَال أَبُو مَنْصُورٍ: وَيُقَال لِكُل مَا شَقَّهُ مَاءُ السَّيْل فِي الأَْرْضِ فَأَنْهَرَهُ وَوَسَّعَهُ عَقِيقٌ، وَالْجَمْعُ أَعِقَّةٌ وَعَقَائِقُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْعَقِيقُ وَادٍ بِالْحِجَازِ غَلَبَتِ الصِّفَةُ عَلَيْهِ غَلَبَةَ الاِسْمِ وَلَزِمَتْهُ الأَْلِفُ وَاللاَّمُ.
وَفِي بِلاَدِ الْعَرَبِ عِدَّةُ مَوَاضِعَ تُسَمَّى الْعَقِيقُ، مِنْهَا عَقِيقُ أَرْضِ الْيَمَامَةِ، وَمِنْهَا عَقِيقٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْهَا عَقِيقٌ آخَرُ يَدْفُقُ مَاؤُهُ فِي غَوْرَيْ تِهَامَةَ، وَمِنْهَا عَقِيقُ الْقَنَانِ.
وَالْعَقِيقُ أَيْضًا: خَرَزٌ أَحْمَرُ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ، الْوَاحِدَةُ عَقِيقَةٌ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: حَجَرٌ يُعْمَل مِنْهُ الْفُصُوصُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.(30/273)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَجَرُ:
2 - الْحَجَرُ: الصَّخْرَةُ، وَالْجَمْعُ فِي الْقِلَّةِ أَحْجَارٌ، وَفِي الْكَثْرَةِ حِجَارٌ وَحِجَارَةٌ (1) .
فَالْحَجَرُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقِيقِ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ.
ب - الْمَعْدِنُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْمَعْدِنِ: مَكَانُ كُل شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَبْدَؤُهُ نَحْوُ مَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالأَْشْيَاءِ.
وَالْمَعَادِنُ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا جَوَاهِرُ الأَْرْضِ (2)
وَالْمَعْدِنُ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ أَعَمُّ مِنَ الْعَقِيقِ.
ج - الْيَاقُوتُ:
4 - الْيَاقُوتُ مِنَ الْجَوَاهِرِ، أَجْوَدُهُ الأَْحْمَرُ الرُّمَّانِيُّ (3) .
وَكُلٌّ مِنَ الْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ مِنَ الأَْحْجَارِ الَّتِي تُسْتَعْمَل لِلزِّينَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِالْعَقِيقِ بِمَعْنَيَيْهِ أَحْكَامٌ:
أَوَّلاً: الْعَقِيقُ بِمَعْنَى الْوَادِي:
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ إِحْرَامِ أَهْل
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.(30/273)
الْعِرَاقِ وَمَنْ فِي نَاحِيَتِهِمْ مِنَ الْعَقِيقِ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ، وَالْعَقِيقُ وَادٍ وَرَاءَ ذَاتِ عِرْقٍ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: وَالاِعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا فِي الْعَقِيقِ مِنَ الاِحْتِيَاطِ، قِيل: وَفِيهِ سَلاَمَةٌ مِنَ الْتِبَاسٍ وَقَعَ فِي ذَاتِ عِرْقٍ؛ لأَِنَّ ذَاتَ عِرْقٍ قَرْيَةٌ خَرِبَتْ وَحُوِّل بِنَاؤُهَا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَالاِحْتِيَاطُ الإِْحْرَامُ قَبْل مَوْضِعِ بِنَائِهَا الآْنَ (1) .
وَاسْتَأْنَسُوا مَعَ الاِحْتِيَاطِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وَقَّتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِيقَاتُ أَهْل الْعِرَاقِ: ذَاتُ عِرْقٍ (3)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِحْرَام 48)
ثَانِيًا: الْعَقِيقُ بِمَعْنَى نَوْعٍ مِنَ الْحَجَرِ:
أ - التَّيَمُّمُ بِالْعَقِيقِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالْعَقِيقِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالْعَقِيقِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالْعَقِيقِ لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ (4) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 7 / 194، 197، 198.
(2) حديث ابن عباس: " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق ". أخرجه الترمذي (3 / 185) ، وفي إسناده انقطاع، كذا في نصب الراية للزيلعي (3 / 14) .
(3) حاشية الدسوقي 2 / 23، وكشاف القناع 2 / 4000.
(4) فتح القدير 1 / 88، ومراقي الفلاح بحاشية الطحاوي (64) .(30/274)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم ف 26)
ب - زَكَاةُ الْعَقِيقِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَقِيقِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْعَقِيقِ كَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي حَجَرٍ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَقِيقِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2) ؛ وَلأَِنَّهُ مَعْدِنٌ فَتَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالأَْثْمَانِ؛ وَلأَِنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُهُ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: صِفَةُ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ هُوَ كُل مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ كَالْحَدِيدِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْعَقِيقِ (3)
__________
(1) حديث: " لا زكاة في حجر ". أخرجه ابن عدي في الكامل (5 / 1681) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكر جهالة أحد رواته.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 14، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 461، ومغني المحتاج 1 / 394، والمجموع 6 / 6، وكشاف القناع 2 / 222 - 223، والمغني لابن قدامة 3 / 24.(30/274)
ج - الرِّبَا فِي الْعَقِيقِ:
8 - لاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي الْعَقِيقِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَوَافُرِ الْعِلَل الرِّبَوِيَّةِ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِيهِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلاَ مَوْزُونٍ إِلاَّ إِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ بَيْعَهُ بِالْكَيْل أَوْ بِالْوَزْنِ (1) .
د - السَّلَمُ فِي الْعَقِيقِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْعَقِيقِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْعَقِيقِ؛ لِتَفَاوُتِ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْعَقِيقِ، وَاسْتَثْنَوْا حَالَةَ مَا إِذَا كَانَ بِالْوَزْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي صُنُوفِ الْفُصُوصِ وَالْحِجَارَةِ مُطْلَقًا (2)
هـ - التَّزَيُّنُ بِالْعَقِيقِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ لِلرَّجُل.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 181، وحاشية الدسوقي 3 / 47، وروضة الطالبين 3 / 377، وكشاف القناع 3 / 151 - 263.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 205، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 537، وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى 2 / 252، وكشاف القناع 3 / 291.(30/275)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِ أَكْثَرِ الأَْصْحَابِ أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 229، ومواهب الجليل 1 / 127، ومغني المحتاج 1 / 30، وكشاف القناع 2 / 239.(30/275)
عَقِيقَة
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْعَقِيقَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: الْخَرَزَةِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الأَْحْجَارِ الْكَرِيمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ، وَعَلَى: شَعْرِ كُل مَوْلُودٍ مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ يَنْبُتُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَعَلَى الذَّبِيحَةِ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ حَلْقِ شَعْرِهِ.
وَيُقَال: عَقَّ فُلاَنٌ يَعُقُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْضًا: حَلَقَ عَقِيقَةَ مَوْلُودِهِ، وَعَقَّ فُلاَنٌ عَنْ مَوْلُودِهِ يَعُقُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْضًا: ذَبَحَ عَنْهُ (1) .
وَالْعَقِيقَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُذَكَّى عَنِ الْمَوْلُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ وَشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَكَرِهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ تَسْمِيَتَهَا عَقِيقَةً وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهَا: نَسِيكَةً أَوْ ذَبِيحَةً (2)
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 164، 165، ونهاية المحتاج بحاشيتي الرشيدي والشبراملسي 8 / 137، ومطالب أولي النهى 2 / 492.(30/276)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأُْضْحِيَّةُ:
2 - الأُْضْحِيَّةُ: مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَكُلٌّ مِنَ الْعَقِيقَةِ وَالأُْضْحِيَّةِ يُذْبَحُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرًا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعَمِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْعَقِيقَةَ تُذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشُّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِالْمَوْلُودِ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ بِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْعَامِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِوِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْعَامِ.
وَأَمَّا الأُْضْحِيَّةُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشُّكْرِ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعْمَةِ الْحَيَاةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَهِيَ وَقْتُهَا.
ب - الْهَدْيُ:
3 - الْهَدْيُ مَا يُذَكَّى مِنَ الأَْنْعَامِ فِي الْحَرَمِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِلتَّمَتُّعِ وَنَحْوِهِ وَتَجْتَمِعُ الْعَقِيقَةُ وَالْهَدْيُ فِي أَنَّهُمَا قُرْبَةٌ، غَيْرَ أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِوَقْتِ وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ، وَفِي أَيِّ مَكَانٍ، أَمَّا الْهَدْيُ فَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَفِي الْحَرَمِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (1) .
__________
(1) نهاية المحتاج بحاشيتي الرشيدي والشبراملسي 8 / 137 والمجموع للنووي 8 / 435، مطالب أولي النهى 2 / 488.(30/276)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُبَاحُ الْعَقِيقَةُ فِي سَابِعِ الْوِلاَدَةِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ وَالْحَلْقِ وَالتَّصَدُّقِ، وَقِيل: يَعُقُّ تَطَوُّعًا بِنِيَّةِ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ (2) . وَالْمَنْدُوبُ عِنْدَهُمْ أَقَل مِنَ الْمَسْنُونِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ (3) ، مِنْهَا: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْغُلاَمُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ (4) وَفِي رِوَايَةٍ: كُل غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى. (5)
وَمَعْنَى " مُرْتَهَنٌ " " وَرَهِينٌ " قِيل: لاَ يَنْمُو نُمُوَّ مِثْلِهِ حَتَّى يُعَقَّ عَنْهُ
.
__________
(1) البدائع 5 / 59 وابن عدي 5 / 213.
(2) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 126.
(3) نهاية المحتاج: بحاشيتي الرشيدي والشبراملسي 8 / 137، والمجموع للنووي 8 / 435.
(4) حديث: " الغلام مرتهن بعقيقته. . . ". أحرجه الترمذي (4 / 101) من حديث سمرة. وقال: حديث حسن صحيح.
(5) حديث: " كل غلام رهينة بعقيقته. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 260) والحاكم (4 / 237) من حديث سمرة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.(30/277)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعَقِيقَةِ:
5 - شُرِعَتِ الْعَقِيقَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارٍ لِلْبِشْرِ وَالنِّعْمَةِ وَنَشْرِ النَّسَبِ.
الْعَقِيقَةُ عَنِ الْمَيِّتِ:
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَاتَ الْمَوْلُودُ قَبْل السَّابِعِ اسْتُحِبَّتِ الْعَقِيقَةُ عَنْهُ كَمَا تُسْتَحَبُّ عَنِ الْحَيِّ.
وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ: لاَ تُسْتَحَبُّ الْعَقِيقَةُ عَنْهُ (1) .
الْعَقِيقَةُ عَنِ الأُْنْثَى:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الأُْنْثَى تُشْرَعُ الْعَقِيقَةُ عَنْهَا كَمَا تُشْرَعُ عَنِ الذَّكَرِ لِحَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي الْعَقِيقَةِ: عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ (2)
مَنْ تُطْلَبُ مِنْهُ الْعَقِيقَةُ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقِيقَةَ تُطْلَبُ مِنَ الأَْصْل الَّذِي تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْمَوْلُودِ بِتَقْدِيرِ فَقْرِهِ، فَيُؤَدِّيهَا مِنْ مَال نَفْسِهِ لاَ مِنْ مَال الْمَوْلُودِ،
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 448.
(2) حديث أم كرز " عن الغلام شاتان. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 97) وقال: حديث حسن صحيح.(30/277)
وَلاَ يَفْعَلُهَا مَنْ لاَ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ إِلاَّ بِإِذْنِ مَنْ تَلْزَمُهُ.
وَلاَ يَقْدَحُ فِي الْحُكْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ (1) ، مَعَ أَنَّ الَّذِي تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمَا هُوَ وَالِدُهُمَا؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ نَفَقَتَهُمَا كَانَتْ عَلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ عَلَى وَالِدَيْهِمَا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَقَّ عَنْهُمَا بِإِذْنِ أَبِيهِمَا.
وَمَنْ بَلَغَ مِنَ الأَْوْلاَدِ وَلَمْ يَعُقَّ عَنْهُ أَحَدٌ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَعُقَّ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُطَالَبِ بِالْعَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلَةً عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قَبْل مُضِيِّ أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَهِيَ سِتُّونَ يَوْمًا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُسَنَّ لَهُ (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالْعَقِيقَةِ هُوَ الأَْبُ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَعُقُّ غَيْرُ أَبٍ إِلاَّ إِنْ
__________
(1) حديث: " عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 261 - 262) من حديث ابن عباس. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9 / 589) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 138، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 166.
(3) نفس المرجعين.
(4) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 126.(30/278)
تَعَذَّرَ بِمَوْتٍ أَوِ امْتِنَاعٍ، فَإِنْ فَعَلَهَا غَيْرُ الأَْبِ لَمْ تُكْرَهْ وَلَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ عَقِيقَةً، وَإِنَّمَا عَقَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ؛ لأَِنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا تُسَنُّ فِي حَقِّ الأَْبِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَيَقْتَرِضُ إِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ.
قَال أَحْمَدُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا مَا يَعُقُّ فَاسْتَقْرَضَ أَرْجُو أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَحْيَا سُنَّةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقْتُ الْعَقِيقَةِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ يَبْدَأُ مِنْ تَمَامِ انْفِصَال الْمَوْلُودِ، فَلاَ تَصِحُّ عَقِيقَةٌ قَبْلَهُ، بَل تَكُونُ ذَبِيحَةً عَادِيَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَقِيقَةِ يَكُونُ فِي سَابِعِ الْوِلاَدَةِ وَلاَ يَكُونُ قَبْلَهُ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ كَوْنِ الذَّبْحِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي وَقْتِ الإِْجْزَاءِ كَمَا سَبَقَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَوْمَ الْوِلاَدَةِ يُحْسَبُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَلاَ تُحْسَبُ اللَّيْلَةُ إِنْ وُلِدَ لَيْلاً، بَل يُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهَا (3) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 489.
(2) الطحطاوي على الدر 4 / 168، وحاشية الدسوقي 2 / 126.
(3) المجموع 8 / 431.(30/278)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُحْسَبُ يَوْمُ الْوِلاَدَةِ فِي حَقِّ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَأَمَّا مَنْ وُلِدَ مَعَ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنَّ الْيَوْمَ يُحْسَبُ فِي حَقِّهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ وَقْتَ الْعَقِيقَةِ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْيَوْمِ السَّابِعِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ وَقْتَ الإِْجْزَاءِ فِي حَقِّ الأَْبِ وَنَحْوِهِ يَنْتَهِي بِبُلُوغِ الْمَوْلُودِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ فَاتَ ذَبْحُ الْعَقِيقَةِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ يُسَنُّ ذَبْحُهَا فِي الرَّابِعَ عَشَرَ، فَإِنْ فَاتَ ذَبْحُهَا فِيهِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ وِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ فَيُسَنُّ ذَبْحُهَا فِيهِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (4) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْعَقِيقَةَ لاَ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تُؤَخَّرَ عَنْ سِنِّ الْبُلُوغِ فَإِنْ أُخِّرَتْ حَتَّى يَبْلُغَ سَقَطَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَوْلُودِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْعَقِيقَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَحْسَنَ الْقَفَّال الشَّاشِيُّ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَنَقَلُوا عَنْ نَصِّهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ: أَنَّهُ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ وَاسْتَغْرَبُوهُ (5)
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 126.
(2) المرجع السابق.
(3) نهاية المحتاج 8 / 138، وتحفة المحتاج 8 / 166.
(4) المحلى 7 / 528، وحاشية الدسوقي 2 / 126، والمغني 11 / 121.
(5) المجموع 8 / 431، وروضة الطالبين 3 / 229.(30/279)
مَا يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنْهَا:
10 - يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ الْجِنْسُ الَّذِي يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ، وَهُوَ الأَْنْعَامُ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، وَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) وَمُقَابِل الأَْرْجَحِ أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْغَنَمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُجْزِئُ فِيهَا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَأَقَلُّهُ شَاةٌ كَامِلَةٌ، أَوِ السُّبُعُ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ مِنْ بَقَرَةٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ إِلاَّ بَدَنَةٌ كَامِلَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ كَامِلَةٌ (2) .
11 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُقَّ عَنِ الذَّكَرِ بِشَاتَيْنِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ وَعَنِ الأُْنْثَى بِشَاةٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ. (4)
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 447، تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 167، البدائع 5 / 72 وحاشية ابن عابدين 5 / 213، ومطالب أولي النهى 2 / 489، وحاشيتا الرهوني وكنون على الزرقاني 3 / 67، 68، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 126.
(2) الشرح الكبير أيضًا والمطالب أيضًا.
(3) نهاية المحتاج 8 / 138، ومطالب أولي النهى 2 / 489.
(4) حديث عائشة: " أمرهم عن الغلام شاتان. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 97) وقال: حديث حسن صحيح.(30/279)
وَيَجُوزُ الْعَقُّ عَنِ الذَّكَرِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَبْشًا كَبْشًا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (2) إِلَى أَنَّهُ يَعُقُّ عَنِ الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ شَاةً شَاةً وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ.
وَقَال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ لاَ عَقِيقَةَ عَنِ الْجَارِيَةِ (3) .
12 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَقِيقَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ مَا يُشْتَرَطُ فِي أَيِّ ذَبِيحَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ لَكَ وَإِلَيْكَ هَذِهِ عَقِيقَةُ فُلاَنٍ (4) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقَال: قُولُوا بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ لَكَ وَإِلَيْكَ هَذِهِ عَقِيقَةُ فُلاَنٍ. (5)
طَبْخُ الْعَقِيقَةِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عق. . . " سبق تخريجه ف7.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 213، الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 126.
(3) المجموع للنووي 8 / 447.
(4) المرجع السابق.
(5) حديث: " قولوا بسم الله والله أكبر. . . ". أخرجه البيهقي (9 / 304) وحسن إسناده النووي في المجموع (8 / 428) .(30/280)
طَبْخُ الْعَقِيقَةِ كُلِّهَا حَتَّى مَا يُتَصَدَّقَ بِهِ مِنْهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: السُّنَّةُ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ عَنِ الْغُلاَمِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، تُطْبَخُ جُدُولاً وَلاَ يَكْسِرُ عَظْمًا، وَيَأْكُل وَيُطْعِمُ وَيَتَصَدَّقُ وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ فِي الْعَقِيقَةِ تَفْرِيقُهَا نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً (2) .
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْعَقِيقَةِ أُمُورًا مِنْهَا تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ، وَحَلْقُ رَأْسِهِ، وَمَا يُقَال فِي أُذُنَيْهِ، وَتَحْنِيكُهُ، وَخِتَانُهُ، وَالتَّهْنِئَةُ بِمَوْلِدِهِ. . . وَتُنْظَرُ كُلُّهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا
عِلاَج
انْظُرْ: تَطْبِيب
__________
(1) حديث: " السنة شاتان مكافئتان. . . ". قال النووي في المجموع (8 / 428) غريب، وقد رواه البيهقي (9 / 302) من قول عطاء: تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم. وقال أيضًا: يقطع آرابًا ويطبخ بماء وملح ويهدى في الجيران.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 213.(30/280)
عَلاَنِيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَلاَنِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الإِْعْلاَنِ وَهُوَ إِظْهَارُ الشَّيْءِ، يُقَال: عَلَنَ الأَْمْرُ عُلُونًا مِنْ بَابِ قَعَدَ أَيْ: ظَهَرَ وَانْتَشَرَ وَعَلِنَ الأَْمْرُ عَلَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ لُغَةٌ فِيهِ، وَالاِسْمُ مِنْهُمَا الْعَلاَنِيَةُ وَهِيَ ضِدُّ السِّرِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَال ذَلِكَ فِي الْمَعَانِي دُونَ الأَْعْيَانِ، وَأَعْلَنْتُ الأَْمْرَ أَيْ أَظْهَرْتُهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (1) أَيْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهْرُ:
2 - الْجَهْرُ فِي الأَْصْل رَفْعُ الصَّوْتِ، يُقَال: جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِهَا.
وَالْجَهْرُ أَخَصُّ مِنَ الْعَلاَنِيَةِ (2) .
ب - السِّرُّ:
3 - السِّرُّ هُوَ الْحَدِيثُ الْمَكْتُومُ فِي النَّفْسِ، قَال
__________
(1) سورة نوح / 9.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني.(30/281)
تَعَالَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (1) .
وَالسِّرُّ ضِدُّ الْعَلاَنِيَةِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الْعَلاَنِيَةِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْهَا:
فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ:
قَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الطَّاعَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
4 - الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا شُرِعَتْ فِيهِ الْعَلاَنِيَةُ كَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَالتَّلْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، وَالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ مِنَ الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَدُعَاءِ الْقُنُوتِ، وَتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال، وَقَوْل سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الصَّلاَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ وَالْمُبَلِّغِ، وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعَرَفَةَ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَإِقَامَةِ الْجُمَعِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَالأَْعْيَادِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ أُمُورَ دِينِهِمْ، وَبَقِيَّةِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ الأُْخْرَى، فَهَذَا مِنْ شَأْنِهِ الْعَلاَنِيَةُ، فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ عَلَى نَفْسِهِ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهَا إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ
__________
(1) سورة طه / 7.
(2) المفردات في غريب القرآن.(30/281)
إِخْلاَصِهِ فَيَأْتِي بِهَذِهِ الأَْعْمَال مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَتْ، فَيَحْصُل عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْل وَعَلَى أَجْرِ الْمُجَاهَرَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى الْغَيْرِ.
وَمِمَّا يَجِبُ عَلاَنِيَتُهُ جَرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالأُْمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالأَْوْقَافِ وَالأَْيْتَامِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَلاَ يَحِل السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَل هُوَ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (1) .
5 - الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلاَنِهِ. كَإِسْرَارِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ غَيْرِ الْجَهْرِيَّةِ أَوِ الْجَهْرِيَّةِ لِغَيْرِ الإِْمَامِ.
6 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يُخْفَى تَارَةً وَيُظْهَرُ تَارَةً أُخْرَى كَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً كَالزَّكَاةِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يُرِيدُ إِظْهَارَ السُّنَّةِ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ كَانَتِ الْعَلاَنِيَةُ أَفْضَل لَهُ مِنَ السِّرِّيَّةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِبْعَادِ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ مَصْلَحَةِ الاِقْتِدَاءِ فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الأَْغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَفَعَ الأَْغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي
__________
(1) الآداب الشرعية 1 / 266.(30/282)
نَفْعِ الْفُقَرَاءِ؛ وَلأَِنَّ الْفَرَائِضَ لاَ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ نَافِلَةً كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِل وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عَرَفَ مِنْ عَادَتِهِ الرِّيَاءَ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُقْتَدَى بِهِ، أَوْ خَافَ مِنَ احْتِقَارِ النَّاسِ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، كَانَ إِخْفَاؤُهَا أَفْضَل مِنْ عَلاَنِيَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (1) الآْيَةَ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِل عَرْشِهِ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (2) . الْحَدِيثَ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ.
(3) وَلِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَعَل اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُل عَلاَنِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَل صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 271.
(2) حديث: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 293 ط. السلفية) ومسلم (2 / 715 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " صدقة السر تطفئ غضب الرب. . . ". أخرجه الحاكم (3 / 568 ط. دائرة المعارف العثمانية) والطبراني في الصغير (2 / 205 ط. المكتب الإسلامي) من حديث عبد الله بن جعفر، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4 / 535 نشر المكتبة الإسلامية) .(30/282)
عَلاَنِيَتَهَا أَفْضَل مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل فِي الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا (1) .
عَلاَنِيَةُ الْحَجْرِ لِلإِْفْلاَسِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعْلِنَ حَجْرَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ وَيُشْهِدَ عَلَى حَجْرِهِ وَيُشْهِرَهُ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ لِيُحْذَرَ مِنْ مُعَامَلَتِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ فَيَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْبَلَدِ: إِنَّ الْحَاكِمَ حَجَرَ عَلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الإِْشْهَادَ عَلَى الْحَجْرِ وَاجِبٌ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِظْهَار ف 10)
.
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 332، وحاشية ابن عابدين 1 / 261، والفواكه الدواني 1 / 201، 205 - 207، ومغني المحتاج 1 / 161، 481، 165، 167، 3 / 121، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 128، والمغني لابن قدامة 3 / 82، 2 / 141، 151 و1 / 423، 490 - 491، 495 - 496، وكشاف القناع 2 / 163.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 487، مغني المحتاج 2 / 148، كشاف القناع 3 / 423، جواهر الإكليل 2 / 90.(30/283)
عَلَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَلَقَةُ فِي اللُّغَةِ مُفْرَدُ عَلَقٍ، وَالْعَلَقُ: الدَّمُ، وَقِيل: هُوَ الدَّمُ الْجَامِدُ الْغَلِيظُ لِتَعَلُّقِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ (1) ، وَقِيل الْجَامِدُ قَبْل أَنْ يَيْبَسَ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ عَلَقَةٌ.
وَفِي التَّنْزِيل: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} . (2)
قَال الْفَيُّومِيُّ: الْعَلَقَةُ: الْمَنِيُّ يَنْتَقِل بَعْدَ طَوْرِهِ فَيَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا، ثُمَّ يَنْتَقِل طَوْرًا آخَرَ فَيَصِيرُ لَحْمًا وَهُوَ الْمُضْغَةُ (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْعَلَقَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النُّطْفَةُ:
2 - النُّطْفَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ، وَقِيل: الْمَاءُ الصَّافِي قَل أَوْ كَثُرَ.
__________
(1) المغرب للمطرزي.
(2) سورة المؤمنون آية: 14.
(3) المصباح المنير.
(4) القرطبي 12 / 6، ونهاية المحتاج 1 / 228.(30/283)
قَال الْفَيُّومِيُّ: النُّطْفَةُ مَاءُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَجَمْعُهَا نُطَفٌ وَنِطَافٌ (1) ، وَفِي التَّنْزِيل: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} . (2)
وَالنُّطْفَةُ اصْطِلاَحًا: مَاءُ الرَّجُل وَهُوَ الْمَنِيُّ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَلَقَةَ تُخْلَقُ مِنَ النُّطْفَةِ.
ب - الْمُضْغَةُ:
3 - الْمُضْغَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ.
وَمِنْهُ قِيل: فِي الإِْنْسَانِ مُضْغَتَانِ إِذَا صَلُحَتَا صَلُحَ الْبَدَنُ، الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَالْجَمْعُ مُضَغٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا دَمًا ثُمَّ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ. (4)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْمُضْغَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (5) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) سورة القيامة آية: 37.
(3) تفسير القرطبي 12 / 6 ط. دار الكتاب المصرية 1964 وطلبة الطلبة 21.
(4) حديث: " إن أحدكم يجمع في بطن أمه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 477) ومسلم (4 / 2036) من حديث ابن مسعود، واللفظ للبخاري.
(5) تفسير القرطبي 12 / 6.(30/284)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ هِيَ أَنَّ الْعَلَقَةَ تُخْلَقُ مِنْهَا الْمُضْغَةُ.
ج - الْجَنِينُ:
4 - الْجَنِينُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ جَنَنَ الَّتِي تَدُل عَلَى الاِسْتِتَارِ، يُقَال جَنَّ الشَّيْءَ يَجِنُّهُ جَنًّا: سَتَرَهُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْجِنُّ لاِسْتِتَارِهِمْ وَاخْتِفَائِهِمْ عَنِ الأَْبْصَارِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْجَنِينُ لاِسْتِتَارِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَاصْطِلاَحًا: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَجَمْعُهُ أَجِنَّةٌ وَأَجْنُنٌ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَلَقَةِ وَالْجَنِينِ أَنَّ الْعَلَقَةَ أَحَدُ أَطْوَارِ الْجَنِينِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَلَقَةِ:
إِسْقَاطُ الْعَلَقَةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِسْقَاطِ الْعَلَقَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى حُرْمَةِ إِسْقَاطِ الْعَلَقَةِ، قَال الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ الْمُتَكَوِّنِ فِي الرَّحِمِ وَلَوْ قَبْل الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ
__________
(1) لسان العرب، والمغرب، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 6 / 139.(30/284)
الإِْحْيَاءِ فِي مَبْحَثِ الْعَزْل مَا يَدُل عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الأَْوْجَهُ؛ لأَِنَّهَا بَعْدَ الاِسْتِقْرَارِ آيِلَةٌ إِلَى التَّخَلُّقِ مُتَهَيَّأَةٌ لِنَفْخِ الرُّوحِ، وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَجُوزُ إِلْقَاءُ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ شُرْبُ دَوَاءٍ لإِِلْقَاءِ الْعَلَقَةِ لاِنْعِقَادِهَا، وَأَجَازُوا شُرْبَ الدَّوَاءِ لإِِلْقَاءِ النُّطْفَةِ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بَعْدُ، وَقَدْ لاَ تَنْعَقِدُ وَلَدًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِبَاحَةِ إِسْقَاطِ الْعَلَقَةِ حَيْثُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِبَاحَةِ إِسْقَاطِ الْحَمْل مَا لَمْ يَتَخَلَّقْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَنْ يَتِمَّ التَّخَلُّقُ إِلاَّ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِطْلاَقُهُمْ يُفِيدُ عَدَمَ تَوَقُّفِ جَوَازِ إِسْقَاطِهَا قَبْل الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى إِذْنِ الزَّوْجِ، وَكَانَ الْفَقِيهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْحَنَفِيُّ يَقُول: إِنَّهُ يُكْرَهُ، فَإِنَّ الْمَاءَ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ مَآلُهُ الْحَيَاةُ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ كَمَا فِي بَيْضَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ، قَال ابْنُ وَهْبَانَ: فَإِبَاحَةُ الإِْسْقَاطِ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ أَوْ أَنَّهَا لاَ تَأْثَمُ إِثْمَ الْقَتْل (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 266، 267، وتحفة المحتاج 7 / 186 ومطالب أولي النهى 1 / 267.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 380.(30/285)
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْغُرَّةِ بِإِلْقَاءِ الْعَلَقَةِ؛ لأَِنَّ الْعَلَقَةَ لَمْ تَتَصَوَّرْ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ بِإِلْقَاءِ الْعَلَقَةِ (1) .
. مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى سُقُوطِ الْعَلَقَةِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْعَلَقَةَ لاَ تُعْتَبَرُ حَمْلاً، فَلاَ تُعْتَبَرُ الْمَرْأَةُ بِسُقُوطِهَا نُفَسَاءَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا طَلاَقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى الْوِلاَدَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَلَقَةَ تُعْتَبَرُ حَمْلاً فَتُعْتَبَرُ الْمَرْأَةُ بِسُقُوطِهَا نُفَسَاءَ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْوِلاَدَةِ وَتَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 378، وحاشية الدسوقي 4 / 268 وأسنى المطالب 4 / 91 والمغني لابن قدامة 7 / 802.
(2) بدائع الصنائع 3 / 196، وحاشية ابن عابدين 1 / 201، والشرح الصغير 2 / 672، وحاشية الدسوقي 2 / 474، ونهاية المحتاج 1 / 338، وحاشية الشرواني 8 / 106، وحاشية عميرة على المحلي 1 / 109، وكشاف القناع 1 / 219، والإنصاف 7 / 492، 9 / 81.(30/285)
عِلَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِلَّةُ لُغَةً تُطْلَقُ عَلَى الْمَرَضِ، وَتُطْلَقُ عَلَى السَّبَبِ.
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: فَقَدْ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِقَوْلِهِ: هِيَ مَا أَضَافَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ إِلَيْهِ وَنَاطَهُ بِهِ، وَنَصَبَهُ عَلاَمَةً عَلَيْهِ (1) ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) جُعِلَتِ السَّرِقَةُ فِيهِ مَنَاطًا لِقَطْعِ الْيَدِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل لاَ يَرِثُ (3) جَعَل فِيهِ قَتْل الْمُوَرَّثِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَهُوَ حِرْمَانُ الْقَاتِل إِرْثَ الْمَقْتُول.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِكْمَةُ:
2 - الْحِكْمَةُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَفْضَل
__________
(1) المستصفى 2 / 230 ط. المطبعة الأميرية ببولاق بمصر سنة 1324هـ.
(2) سورة المائدة / 38.
(3) حديث: " القاتل لا يرث ". أخرجه الترمذي (4 / 425) والبيهقي (6 / 220) من حديث أبي هريرة وذكر البيهقي تضعيف أحد رواته ثم قال: " إلا أن شواهد تقويه ".(30/286)
الأَْشْيَاءِ بِأَفْضَل الْعُلُومِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ هِيَ: الْمَصْلَحَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ مِنْ تَشْرِيعِ الْحُكْمِ تَحْقِيقَهَا أَوْ تَكْمِيلَهَا، أَوِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ بِتَشْرِيعِ الْحُكْمِ دَفْعَهَا أَوْ تَقْلِيلَهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ: أَنَّ حِكْمَةَ الْحُكْمِ: هِيَ الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِهِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، أَمَّا عِلَّةُ الْحُكْمِ فَهِيَ الأَْمْرُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الَّذِي بَنَى الشَّارِعُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَرَبَطَهُ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا؛ لأَِنَّ مِنْ شَأْنِ بِنَائِهِ عَلَيْهِ وَرَبْطِهِ بِهِ أَنْ يُحَقِّقَ حِكْمَةَ تَشْرِيعِ الْحُكْمِ (2) .
ب - السَّبَبُ:
3 - السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْل، وَهُوَ مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاِسْتِعْلاَءِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُل شَيْءٍ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ (4) ، كَالزَّوَال مَثَلاً فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَهُ سَبَبًا لِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَعِنْدَ أَهْل الشَّرْعِ يَشْتَرِكُ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ فِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية العطار 2 / 318 - 319.
(3) المصباح المنير ونهاية المحتاج 1 / 108.
(4) نهاية المحتاج 1 / 108، والكليات 3 / 21.(30/286)
تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبِ، وَالْمَعْلُول عَلَيْهِمَا، وَيَفْتَرِقَانِ فِي وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ السَّبَبَ مَا يَحْصُل الشَّيْءُ عِنْدَهُ لاَ بِهِ، وَالْعِلَّةُ مَا يَحْصُل بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْلُول يَتَأَثَّرُ عَنْ عِلَّتِهِ بِلاَ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلاَ شَرْطَ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّبَبِ: الْعِلَّةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَيَقُولُونَ: النِّكَاحُ سَبَبُ الْحِل، وَالطَّلاَقُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ شَرْعًا (1) .
ج - الشَّرْطُ:
4 - الشَّرْطُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلاَمَةُ: جَاءَ فِي التَّنْزِيل: {فَهَل يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (2) أَيْ: عَلاَمَاتُهَا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ أَنَّ الشَّرْطَ مُنَاسَبَتُهُ فِي غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ، وَالْعِلَّةُ مُنَاسَبَتُهَا فِي نَفْسِهَا كَالنِّصَابِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 108، والكليات 3 / حرف السين.
(2) سورة محمد / 18.
(3) أسنى المطالب 1 / 170، والفروق للقرافي 1 / 109 - 110.(30/287)
د - الْمَانِعُ:
5 - الْمَانِعُ لُغَةً: الْحَائِل.
وَاصْطِلاَحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِلَّةِ:
6 - الْعِلَّةُ مِنْ أَهَمِّ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مِنْ مَصَادِرِ الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْعَقْل عِلَّةً لِحُكْمِ الأَْصْل امْتَنَعَ الْقِيَاسُ؛ لاِنْعِدَامِ أَهَمِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
شُرُوطُ الْعِلَّةِ:
7 - لِلْعِلَّةِ شُرُوطٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا ظَاهِرًا أَيْ: وَاضِحًا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ وَالتَّحَقُّقُ مِنْ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِهِ، وَذَلِكَ كَالصِّغَرِ فِي ثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالرُّشْدِ فِي ثُبُوتِهَا لِلرَّشِيدِ، وَالإِْسْكَارِ فِي حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ أَمْرًا خَفِيًّا أَقَامَ الشَّارِعُ مَقَامَهُ أَمْرًا ظَاهِرًا يَقْتَرِنُ بِهِ وَيَدُل عَلَيْهِ. كَالرِّضَا الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 170.
(2) الإبهاج في شرح المنهاج 2 / 29، وما بعدها، والتحصيل من المحصول 2 / 244 وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2 / 250، المستصفى 2 / 264(30/287)
لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَشْرِيعِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ مَقَامَهُ أَمْرًا ظَاهِرًا يَقْتَرِنُ بِهِ وَيَدُل عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ: الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ لِلْحُكْمِ فِي الْقِصَاصِ وُقُوعُ الْقَتْل عَمْدًا وَعُدْوَانًا، فَإِذَا كَانَ الْقَتْل أَمْرًا ظَاهِرًا فَالتَّعَمُّدُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ مَقَامَهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَيَدُل عَلَيْهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَال الآْلَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَل عَادَةً فِي الْقَتْل (1) .
ب - أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا مُنْضَبِطًا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوْصُوفِهِ، فَقَتْل الْوَارِثِ مُوَرَّثَهُ - الْمُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمَانِ مِنْ إِرْثِ الْمَقْتُول - أَمْرٌ مَحْدُودٌ، لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْقَاتِل أَوِ الْمَقْتُول، وَالشِّدَّةُ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى السُّكْرِ فِي حُرْمَةِ الْخَمْرِ وَصْفٌ مَحْدُودٌ؛ لأَِنَّهَا فِي نَبِيذِ الْعِنَبِ مِثْلُهَا فِي نَبِيذِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ فَيُقِيمُ الشَّارِعُ أَيْضًا مَقَامَهُ أَمْرًا مُنْضَبِطًا يَقْتَرِنُ بِهِ وَيَدُل عَلَيْهِ، كَإِبَاحَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ لإِِبَاحَةِ الْفِطْرِ الْمَشَقَّةُ وَهِيَ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، فَقَدْ يُعَدُّ مَشَقَّةً عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ عِنْدَ آخَرِينَ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ مَقَامَهَا مَا هُوَ مَظِنَّةٌ لِلْمَشَقَّةِ فِي الأُْمُورِ الْمُنْضَبِطَةِ: وَهُوَ السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ.
__________
(1) المستصفى 2 / 335 وما بعدها.(30/288)
ج - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُتَعَدِّيًا غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى الأَْصْل، فَإِذَا كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الأَْصْل لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ؛ لاِنْعِدَامِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، كَإِبَاحَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَإِنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِمَا الْمُشْتَغِل بِالأَْعْمَال الشَّاقَّةِ؛ لأَِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ السَّفَرُ وَهُوَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ فِي مُسَافِرٍ، أَوِ الْمَرَضُ وَهُوَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ فِي مَرِيضٍ.
د - أَلاَّ يَكُونَ مِنَ الأَْوْصَافِ الَّتِي أَلْغَى الشَّارِعُ اعْتِبَارَهَا، كَأَنْ يُضِيفَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ إِلَى وَصْفٍ وَيَنُوطَهُ بِهِ ثُمَّ تَقْتَرِنُ بِهِ أَوْصَافٌ عُلِمَ بِعَادَةِ الشَّرْعِ وَمَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ فِي أَحْكَامِهِ أَنَّهُ لاَ مَدْخَل لَهَا فِي التَّأْثِيرِ كَكَوْنِ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِوِقَاعِ أَهْلِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ الْعِتْقَ أَعْرَابِيًّا، فَإِنَّا نُلْحِقُهُ كُل مُكَلَّفٍ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، وَنَحْذِفُ عَنْ دَرَجَةِ الاِعْتِبَارِ وَصْفَ كَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا وَاقَعَ مَنْكُوحَتَهُ فِي رَمَضَانَ مُعَيَّنٍ وَفِي يَوْمٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّا نَعْلَمُ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ وَمَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ وِقَاعُ مُكَلَّفٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ.
وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْعِلَّةِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ
. مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَّةُ:
8 - تَثْبُتُ الْعِلَّةُ بِالأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ(30/288)
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، أَوْ نَوْعٍ مِنَ الاِسْتِدْلاَل الْمُسْتَنْبَطِ.
فَالَّتِي تَثْبُتُ بِالأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّقْلِيَّةِ إِنَّمَا تُسْتَفَادُ مِنْ صَرِيحِ النُّطْقِ، أَوِ الإِْيمَاءِ، أَوْ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الأَْسْبَابِ، فَالْمُسْتَفَادُ مِنَ الصَّرِيحِ: أَنْ يَرِدَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْلِيل مِثْل قَوْله تَعَالَى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) قَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل} (2) الآْيَةَ.
وَالْمُسْتَفَادُ مِنَ الإِْيمَاءِ عَلَى الْعِلَّةِ: كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا سُئِل عَنِ الْهِرَّةِ: إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ (3) فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْتِ بِأَدَوَاتِ التَّعْلِيل عَلَى قَوْل بَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ الَّذِينَ لاَ يَعُدُّونَ (إِنْ) مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيل (4) ، إِلاَّ أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى التَّعْلِيل؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّوَافُ عِلَّةً لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ مُفِيدًا.
وَالْمُسْتَفَادُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الأَْسْبَابِ: أَنْ يُرَتِّبَ الأَْحْكَامَ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ - أَوْ بِإِلْغَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ - وَالتَّسْبِيبِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) سورة المائدة / 32.
(3) حديث: " إنها من الطوافين عليكم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 303) والترمذي (1 / 154) من حديث أبي قتادة واللفظ لأحمد، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح) .
(4) البحر المحيط للزركشي 5 / 192.(30/289)
فَهِيَ لَهُ (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
9 - وَتَثْبُتُ الْعِلَّةُ كَذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مُؤَثِّرٌ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: إِذَا قُدِّمَ الأَْخُ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَلَى الأَْخِ لِلأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ امْتِزَاجِ الأُْخُوَّةِ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ بِالاِتِّفَاقِ.
وَكَذَلِكَ يُقَال: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ وَإِنْ قُطِعَ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَةِ فَيُضْمَنُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْغَصْبِ اتِّفَاقًا.
إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالاِسْتِنْبَاطِ، وَطُرُقِ الاِسْتِدْلاَل:
10 - إِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْعِلَّةُ بِنَصٍّ - أَوْ إِجْمَاعٍ - بَحَثَ الْمُجْتَهِدُ فِي الأَْصْل الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ عَنْ وَصْفٍ يُدْرِكُ الْعَقْل مُنَاسَبَتَهُ، أَيْ: صَلاَحِيَتَهُ لِرَبْطِ الْحُكْمِ بِهِ، وَبِنَائِهِ عَلَيْهِ، لِتَتَحَقَّقَ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، فَإِذَا وَجَدَ فِي الْفِعْل الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَصْفًا مُنَاسِبًا
__________
(1) حديث: " من أحيا أرضًا ميتة فهي له ". أخرجه الترمذي (3 / 655) من حديث جابر بن عبد الله وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) سورة المائدة / 38. وانظر المستصفى 2 / 288 وما بعدها، والبحر المحيط 5 / 32 وما بعدها 184 وما بعدها.(30/289)
مُتَمَيِّزًا كَانَ هُوَ الْعِلَّةُ، وَإِذَا أَدْرَكَ وَصْفًا مُنَاسِبًا تَشُوبُهُ أَوْصَافٌ لاَ تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْحُكْمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَنْقِيحِهِ أَيْ: تَخْلِيصِهَا مِمَّا يَشُوبُهَا مِنْ أَوْصَافٍ لاَ دَخْل لَهَا فِي الْعِلِّيَّةِ، وَيُسَمَّى تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ، كَالأَْعْرَابِيِّ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِجِمَاعِ زَوْجَتِهِ.
وَإِذَا وَجَدَ فِي الْفِعْل عِدَّةَ أَوْصَافٍ مُنَاسِبَةٍ كَانَ سَبِيلُهُ إِلَى تَعْيِينِ أَحَدِهَا التَّقْسِيمَ، وَالسَّبْرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول: هَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّلٌ وَلاَ عِلَّةَ لَهُ إِلاَّ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَطَل أَحَدُهُمَا فَيَتَعَيَّنُ الآْخَرُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المصادر السابقة.(30/290)
عِلْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِلْمُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالشُّعُورِ وَالإِْتْقَانِ وَالْيَقِينِ، يُقَال: عَلِمْتُ الشَّيْءَ أَعْلَمُهُ عِلْمًا عَرَفْتُهُ، وَيُقَال: مَا عَلِمْتُ بِخَبَرِ قُدُومِهِ أَيْ: مَا شَعَرْتُ، وَيُقَال: عَلِمَ الأَْمْرَ وَتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ حُصُول صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْل.
وَاخْتَارَ الْعَضُدُ الإِْيجِيُّ بِأَنَّهُ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِمَحَلِّهَا تَمْيِيزًا بَيْنَ الْمَعَانِي لاَ يَحْتَمِل النَّقِيضَ.
وَقَال صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَفْظِ الْعِلْمِ هُوَ الإِْدْرَاكُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَلَّقٌ وَهُوَ الْمَعْلُومُ، وَلَهُ تَابِعٌ فِي الْحُصُول يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ الْمَلَكَةُ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْعِلْمِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا؛ إِمَّا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أَوِ اصْطِلاَحِيَّةً أَوْ مَجَازًا مَشْهُورًا (2) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) شرح المواقف للجرجاني 1 / 62 وما بعدها ط. مطبعة السعادة 1325هـ، والكليات 3 / 204 وما بعدها، المستصفى 1 / 25.(30/290)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهْل:
2 - الْجَهْل لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ وَالْخَطَأِ، يُقَال: جَهِل عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الإِْضَاعَةِ، يُقَال: جَهِل الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهُولٌ، وَتَجَاهَل: أَظْهَرَ الْجَهْل (1) .
وَالْجَهْل اصْطِلاَحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.
فَالْجَهْل ضِدُّ الْعِلْمِ.
ب - الْمَعْرِفَةُ:
3 - الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ مَصْدَرِ عَرَفَ، يُقَال: عَرَفْتُهُ عِرْفَةً بِالْكَسْرِ وَعِرْفَانًا: عَلِمْتُهُ بِحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ (2) ،.
وَاصْطِلاَحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.
قَال صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ بِخِلاَفِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ دُونَ الْعَارِفِ (3) .
أَقْسَامُ الْعِلْمِ:
4 - يَنْقَسِمُ الْعِلْمُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلاَمِ إِلَى قَدِيمٍ وَحَادِثٍ.
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير.
(3) التعريفات للجرجاني، والكليات 4 / 219 - 296.(30/291)
فَالْقَدِيمُ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الأَْزَلِيَّةِ، وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَنْكَشِفُ الْمَعْلُومَاتُ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا. (1)
وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ: هُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَرُورِيٌّ، وَاكْتِسَابِيٌّ.
فَالضَّرُورِيُّ مَا يَحْصُل فِي الْعَالَمِ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَكَسْبٍ مِنْ جِهَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيِّ بِأَنَّهُ: مَا لاَ يَكُونُ تَحْصِيلُهُ مَقْدُورًا لِلْمَخْلُوقِ، وَيُقَابِلُهُ الْعِلْمُ الاِكْتِسَابِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَقْدُورُ تَحْصِيلُهُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ تَبَعًا لِفَائِدَةِ الْعِلْمِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَمِنْهُ مَا تَعَلُّمُهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَالْفَرْضُ مِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
6 - فَمِنِ الْعُلُومِ الَّتِي تَعَلُّمُهَا فَرْضُ عَيْنٍ تَعَلُّمُ مَا يَحْتَاجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَالْعَقِيدَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْعَلاَّمِيِّ: مِنْ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ تَعَلُّمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلاَصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ، وَفَرْضٌ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ عِلْمَ الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْوُضُوءِ
__________
(1) شرح العقائد النسفية للتفتازاني 83 ط. دار الطباعة العامرة.
(2) شرح المواقف للجرجاني 1 / 93 وما بعدها، والكليات 3 / 213.(30/291)
وَالْغُسْل وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَعِلْمِ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ نِصَابٌ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ، وَكَذَا أَهْل الْحِرَفِ وَكُل مَنِ اشْتَغَل بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ فِيهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مَا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا لاَ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا أَصْل وَاجِبِ الإِْسْلاَمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّصْدِيقُ بِكُل مَا جَاءَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتِقَادُهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا سَلِيمًا مِنْ كُل شَكٍّ، وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ حَصَل لَهُ هَذَا تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُطَالِبْ أَحَدًا بِشَيْءٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ تَشَكَّكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُول الْعَقَائِدِ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِهِ وَلَمْ يَزُل شَكُّهُ إِلاَّ بِتَعَلُّمِ دَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَبَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ لإِِزَالَةِ الشَّكِّ وَتَحْصِيل ذَلِكَ الأَْصْل.
وَلاَ يَلْزَمُ الإِْنْسَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَشِبْهِهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 29 وما بعدها(30/292)
الشَّيْءِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَشِبْهِهِمَا - مِمَّا لاَ يَجِبُ أَصْلُهُ - فَيَحْرُمُ الإِْقْدَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ شَرْطِهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: عِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ مَعْرِفَةُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ كَالْحَسَدِ، وَالْعُجْبِ، وَشِبْهِهِمَا، فَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَطِبِّهَا وَعِلاَجِهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَقَال غَيْرُهُ: إِنْ رُزِقَ الْمُكَلَّفُ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ دَوَائِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ نَظَرَ: إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ تَطْهِيرِ قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ بِلاَ تَعَلُّمٍ لَزِمَهُ التَّطْهِيرُ، كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الزِّنَا وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ التَّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّرْكِ إِلاَّ بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ تَعَيَّنَ حِينَئِذٍ (1) .
7 - وَأَمَّا الْعُلُومُ الَّتِي هِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَهِيَ الْعُلُومُ الَّتِي لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالأَْحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا وَالأُْصُول، وَالْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالإِْجْمَاعِ، وَالْخِلاَفِ.
وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَيْضًا: الْعُلُومُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصَّنَائِعِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ قِيَامِ
__________
(1) المجموع 1 / 24 وما بعدها، وإحياء علوم الدين 1 / 21، 3 / 47 ط مصطفى الحلبي 1939، والآداب الشرعية 2 / 36.(30/292)
مَصَالِحِ الدُّنْيَا كَالْخِيَاطَةِ وَالْفِلاَحَةِ وَنَحْوِهِمَا (1) .
8 - وَالْعُلُومُ الْمَنْدُوبَةُ هِيَ التَّوَسُّعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلاَتِهَا، وَالاِطِّلاَعُ عَلَى غَوَامِضِهَا (2)
9 - وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُحَرَّمَةُ فَمِنْهَا: الشَّعْوَذَةُ، وَهِيَ: خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ تَرَى الشَّيْءَ بِغَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَفْتَى ابْنُ حَجَرٍ فِي أَهْل الْحِلَقِ فِي الطُّرُقَاتِ الَّذِينَ لَهُمْ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ كَقَطْعِ رَأْسِ إِنْسَانٍ وَإِعَادَتِهِ وَجَعْل نَحْوِ دَرَاهِمَ مِنَ التُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى السَّحَرَةِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلاَ لأَِحَدٍ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ (3) .
وَمِنَ الْعُلُومِ الْمُحَرَّمَةِ: الْكِهَانَةُ وَالسِّحْرُ وَالرَّمْل وَبَعْضُ أَنْوَاعِ التَّنْجِيمِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَأَمَّا عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ فَيَرَى ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَفْظٌ يُونَانِيٌّ وَتَعْرِيبُهُ الْحِكَمُ الْمُمَوَّهَةُ أَيْ: مُزَيَّنَةُ الظَّاهِرِ فَاسِدَةُ الْبَاطِنِ، كَالْقَوْل بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَذَكَرَ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلْمًا بِرَأْسِهَا بَل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 29، 30، والمجموع 1 / 26، 27.
(2) المراجع السابقة.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 30 وما بعدها.(30/293)
هِيَ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ.
أَحَدُهَا: الْهَنْدَسَةُ وَالْحِسَابُ وَهُمَا مُبَاحَانِ.
وَالثَّانِي: الْمَنْطِقُ وَهُوَ بَحْثٌ مِنْ وَجْهِ الدَّلِيل وَشُرُوطِهِ وَوَجْهِ الْحَدِّ وَشُرُوطِهِ وَهُمَا دَاخِلاَنِ فِي عِلْمِ الْكَلاَمِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْطِقُ الإِْسْلاَمِيِّينَ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ قَوَاعِدُ إِسْلاَمِيَّةٌ فَلاَ وَجْهَ لِلْقَوْل بِحُرْمَتِهِ، بَل سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ مِعْيَارَ الْعُلُومِ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الإِْسْلاَمِ.
وَالثَّالِثُ: الإِْلَهِيَّاتُ، وَهُوَ بَحْثٌ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، انْفَرَدُوا فِيهِ بِمَذَاهِبَ بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا بِدْعَةٌ.
الرَّابِعُ: الطَّبِيعِيَّاتُ، وَبَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ صِفَاتِ الأَْجْسَامِ وَخَوَاصِّهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِحَالَتِهَا وَتَغَيُّرِهَا (1) .
وَأَمَّا عِلْمُ الْمُوسِيقَى: فَهُوَ عِلْمٌ رِيَاضِيٌّ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَال النَّغَمِ وَالإِْيقَاعَاتِ، وَكَيْفِيَّةُ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ، وَإِيجَادِ الآْلاَتِ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِهِ أَقْوَالٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِمَاع - غِنَاء - مَعَازِف)
10 - وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَكْرُوهَةُ فَهِيَ أَشْعَارُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 21 و3 / 47.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 وما بعدها، والمجموع للنووي 1 / 27.(30/293)
الْمُوَلَّدِينَ مِنَ الْغَزَل وَالْبَطَالَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ صِنَاعَةً لَهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَأَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا (1) فَالْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ لاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ إِظْهَارَ النِّكَاتِ وَاللِّطَافَاتِ، وَالتَّشَابِيهِ الْفَائِقَةِ، وَالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْقُدُودِ، أَمَّا الزَّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمِّنَةُ وَصْفَ الرَّيَاحِينِ وَالأَْزْهَارِ وَالْمِيَاهِ فَلاَ وَجْهَ لِمَنْعِهِ (2) .
11 - وَالْعُلُومُ الْمُبَاحَةُ كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ، وَلاَ شَيْءَ مِمَّا يُكْرَهُ، وَلاَ مَا يُنَشِّطُ إِلَى الشَّرِّ، وَلاَ مَا يُثَبِّطُ عَنِ الْخَيْرِ، وَلاَ مَا يَحُثُّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ (3)
عُلُوٌّ
انْظُرْ: تَعَلِّي
__________
(1) حديث: " لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 548) من حديث ابن عمر.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 32، 33، المجموع 1 / 27.
(3) المراجع السابقة.(30/294)
عُلُوقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُلُوقُ لُغَةً: مِنْ عَلِقَ بِالشَّيْءِ عَلَقًا وَعَلَقَةً: نَشِبَ فِيهِ، وَهُوَ عَالِقٌ بِهِ أَيْ: نَشِبَ فِيهِ، وَعَلِقَتِ الْمَرْأَةُ بِالْوَلَدِ، وَكُل أُنْثَى تَعْلَقُ: حَبِلَتْ، وَالْمَصْدَرُ الْعُلُوقُ وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عُلُوقٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَطْءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْوَطْءِ لُغَةً: النِّكَاحُ وَالْجِمَاعُ (2) ، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ (3) .
ب - الإِْنْزَال:
3 - مِنْ مَعَانِي الإِْنْزَال لُغَةً: إِنْزَال الرَّجُل مَاءَهُ، إِذَا أَمْنَى بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى خُرُوجِ مَاءِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات، والمغرب.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) ابن عابدين 2 / 135.(30/294)
الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ بِجِمَاعٍ أَوِ احْتِلاَمٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعُلُوقِ وَبَيْنَ الْوَطْءِ وَالإِْنْزَال أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ وَكَذَا الإِْنْزَال فِي الْفَرْجِ يَكُونَانِ سَبَبًا لِلْعُلُوقِ، إِذِ الْعُلُوقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْمَنِيِّ.
أَثَرُ الْعُلُوقِ:
4 - الْعُلُوقُ فِي الْفِرَاشِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ فَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ وَوَطِئَهَا وَلَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِي وَطْئِهَا بِشُبْهَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَرَّرَةِ لِلْحَمْل الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ وُجِدَ مِنْ وَطْءٍ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ، وَالْعُلُوقُ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَسَب)
. أَثَرُ الْعُلُوقِ فِي الرَّجْعَةِ:
5 - الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا يَثْبُتُ نَسَبُ مَا تَلِدُهُ
__________
(1) القاموس المحيط، وحاشية ابن عابدين 2 / 100، وحاشية الشرواني 3 / 410.
(2) بدائع الصنائع 2 / 331 - 332 و3 / 211 - 212 وفتح القدير 4 / 169 - 170، والدسوقي 2 / 459، والشرح الصغير 1 / 500 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 3 / 313، والمهذب 2 / 122، وشرح منتهى الإرادات 3 / 211 - 214 وكشاف القناع 5 / 405 - 409.(30/295)
وَلَوْ لأَِكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَوْ لِعِشْرِينَ سَنَةً فَأَكْثَرَ لاِحْتِمَال امْتِدَادِ طُهْرِهَا وَعُلُوقِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَيَصِيرُ بِالْوَطْءِ الَّذِي عَلِقَتْ مِنْهُ مُرَاجِعًا، وَتَكُونُ الْوِلاَدَةُ دَلِيل الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لَهَا حُكْمُ الزَّوْجَةِ فَحَمْلُهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ يُحْمَل عَلَى الْحَلاَل؛ لاِنْتِفَاءِ الزِّنَى مِنَ الْمُسْلِمِ ظَاهِرًا (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْعَة ف 13)
أَثَرُ الْعُلُوقِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالإِْرْثِ:
6 - لِلْعُلُوقِ أَثَرٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَالإِْرْثِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْل وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْرْثِ فَتُوقَفُ التَّرِكَةُ لِوَضْعِ الْحَمْل.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْث ف 109، وَوَصِيَّة) .
__________
(1) الزيلعي 3 / 39 - 40 وابن عابدين 2 / 623.(30/295)
عَمًى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَمَى فِي اللُّغَةِ: ذَهَابُ الْبَصَرِ كُلِّهِ، يُقَال: عَمِيَ يَعْمَى عَمًى فَهُوَ أَعْمَى: إِذَا فَقَدَ بَصَرَهُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَالأُْنْثَى عَمْيَاءُ، وَلاَ يَقَعُ هَذَا النَّعْتُ عَلَى الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى يَقَعُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَيُطْلَقُ عَلَى فَقْدِ الْبَصِيرَةِ، يُقَال: عَمِيَ فُلاَنٌ عَنْ رُشْدِهِ، وَعَمِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ (1) ، قَال تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَوَرُ:
2 - الْعَوَرُ: نَقْصُ بَصَرِ الْعَيْنِ، يُقَال عَوِرَتِ الْعَيْنُ عَوَرًا نَقَصَتْ أَوْ غَارَتْ فَالرَّجُل أَعْوَرُ وَالأُْنْثَى عَوْرَاءُ (3) .
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، ومختار الصحيح.
(2) سورة الحج / 46.
(3) المصباح المنير.(30/296)
فَالْعَمَى: فَقْدُ الْبَصَرِ، وَالْعَوَرُ: نَقْصُ الْبَصَرِ.
ب - الْعَمَشُ:
3 - الْعَمَشُ هُوَ سَيَلاَنُ الدَّمْعِ مَعَ ضَعْفِ الْبَصَرِ، يُقَال عَمِشَتِ الْعَيْنُ عَمَشًا مِنْ بَابِ تَعِبَ سَال دَمْعُهَا فِي أَكْثَرِ الأَْوْقَاتِ مَعَ ضَعْفِ الْبَصَرِ، فَالرَّجُل أَعْمَشُ وَالأُْنْثَى عَمْشَاءُ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَمَى:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَمَى لاَ يُزِيل الأَْهْلِيَّةَ فَالْمُصَابُ بِهَذِهِ الآْفَةِ كَالْبَصِيرِ فِي الأَْحْكَامِ إِلاَّ فِي بَعْضِ أُمُورٍ اقْتَضَتْهَا الضَّرُورَةُ فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَمْ مَالِيَّةً، إِلاَّ مَا أُسْقِطَ لِعُذْرٍ أَوْ لِضَرُورَةٍ (2) .
تَخَلُّفُ الأَْعْمَى عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى الأَْعْمَى إِذَا كَانَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ أَوْ يَجِدُ مَنْ يَقُودُهُ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ وَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا يَقُودُهُ مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْل (3)
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 68.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 547، وجواهر الإكليل 1 / 100، وأسنى المطالب 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 495.(30/296)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 15)
. أَذَانُ الأَْعْمَى:
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ أَذَانُ الأَْعْمَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَصِيرٌ يُعْلِمُهُ دُخُول الْوَقْتِ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَغْلَطُ فِي الْوَقْتِ، أَوْ يُفَوِّتُ عَلَى النَّاسِ فَضِيلَةَ أَوَّل الْوَقْتِ بِاشْتِغَالِهِ بِالسُّؤَال عَنْهُ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ أَذَانُهُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الأُْمُورِ الدِّينِيَّةِ فَيَكُونُ مَقْبُولاً فَيَحْصُل بِهِ الإِْعْلاَمُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (أَذَان) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَذَانُ الأَْعْمَى جَائِزٌ وَكَانَ مَالِكٌ لاَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الأَْعْمَى مُؤَذِّنًا، وَلاَ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِ أَذَانِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ (2) .
إِمَامَةُ الأَْعْمَى:
7 - قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ تُكْرَهُ إِمَامَةُ الأَْعْمَى فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ الْقَوْمِ فَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهُ كَالْبَصِيرِ فِي
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261، وأسنى المطالب 1 / 129، وكشاف القناع 1 / 235.
(2) مواهب الجليل مع التاج والإكليل 1 / 451.(30/297)
إِمَامَةِ الصَّلاَةِ، لِتَعَارُضِ فَضِيلَتِهِمَا؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَنْظُرُ مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ وَالْبَصِيرُ يَرَى الْخُبْثَ لِتَجَنُّبِهِ عَنِ النَّجَاسَاتِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 24)
شَهَادَةُ الأَْعْمَى:
8 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْعْمَى عَلَى الْمَرْئِيَّاتِ، وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ فِيمَا يُدْرَكُ بِالذَّوْقِ، وَاللَّمْسِ، وَالشَّمِّ؛ لأَِنَّ الإِْدْرَاكَ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ يَسْتَوِي فِيهَا الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ بِالْمَسْمُوعَاتِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة ف 19)
عَقْدُ الأَْعْمَى:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الأَْعْمَى بِالصِّفَةِ لِمَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ، وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِالصِّفَةِ لِمَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كُل عَقْدٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ لاَ يَصِحُّ مِنَ الأَْعْمَى، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالاِرْتِهَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 167، وجواهر الإكليل 2 / 233، والمغني 6 / 453.
(2) ابن عابدين 4 / 68، وحاشية الدسوقي 3 / 24 وكشاف القناع 3 / 165.(30/297)
يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ كَالسَّلَمِ فَيَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الأَْعْمَى بِهِ إِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال فِي الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ السَّلَمَ يَعْتَمِدُ بِالْوَصْفِ لاَ الرُّؤْيَةِ؛ وَلأَِنَّهُ يَعْرِفُ صِفَتَهُ بِالسَّمَاعِ، وَيَتَخَيَّل مَا يُمَيِّزُهُ (1) .
وَيُوَكِّل غَيْرَهُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ مُبَاشَرَتُهُ فِي الْعُقُودِ (2) .
لِعَانُ الأَْعْمَى:
10 - يَصِحُّ لِعَانُ الأَْعْمَى بِزِنًا تَيَقَّنَهُ: بِلَمْسٍ، أَوْ سَمَاعٍ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُل لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقٍ: مِنْ جَسٍّ، أَوْ حِسٍّ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " لِعَان ".
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 422، 6 / 218.
(2) المصادر السابقة، وأسنى المطالب 2 / 18.(30/298)
عِمَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِمَارَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يَعْمُرُ بِهِ الْمَكَانُ، يُقَال: عَمَّرَ اللَّهُ بِكَ مَنْزِلَكَ: وَأَعْمَرَهُ جَعَلَهُ آهِلاً عَامِرًا بِكَ، وَعَمَّرْتُ الْخَرَابَ أَعْمُرُهُ عِمَارَةً أَحْيَيْتُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْبِنَاءِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقِيَامُ بِمَا يُصْلِحُ الْعَقَارَ، أَوِ الْبِنَاءَ مِنْ إِحْيَاءِ الأَْرْضِ، وَتَرْمِيمِ الْبِنَاءِ، وَتَجْصِيصِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُصْلِحُهُ عُرْفًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبِنَاءُ:
2 - الْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ يُرَادُ بِهِ الثُّبُوتُ (3) .
فَالْبِنَاءُ أَخَصُّ مِنَ الْعِمَارَةِ.
ب - التَّرْمِيمُ:
3 - التَّرْمِيمُ: إِصْلاَحُ الْبِنَاءِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة.
(2) القليوبي 3 / 108.
(3) الكليات 1 / 417.
(4) أساس البلاغة.(30/298)
وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِمَارَةِ.
ج - الإِْحْيَاءُ:
4 - الإِْحْيَاءُ: عِمَارَةُ الأَْرْضِ الْخَرِبَةِ بِبِنَاءٍ، أَوْ غَرْسٍ، أَوْ سَقْيٍ (1) وَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلاَفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُقَال: إِحْيَاءُ السُّنَّةِ وَإِحْيَاءُ اللَّيْل وَنَحْوِهِمَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِمَارَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِمَارَةِ:
5 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الْعِمَارَةِ بِاخْتِلاَفِ الْمَعْمُورِ، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ شَرَطَهَا الْوَاقِفُ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ عِمَارَةُ عَقَارِ مُوَلِّيهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ لَهُ، وَعَلَى النَّاظِرِ فِي الْمُشْتَرَكِ بِطَلَبِ شَرِيكِهِ، سَوَاءٌ الْمَوْقُوفُ وَالْمَمْلُوكُ لِنَحْوِ مَسْجِدٍ، وَعَلَى وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِمَارَةُ أَمْلاَكِهِ، وَعَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ فِي مَال غَائِبٍ، أَوْ مَيِّتٍ لاَ وَارِثَ لَهُ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، أَمَّا الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِمَارَةُ أَمْلاَكِهِ مِمَّا لاَ رُوحَ لَهُ كَقَنَاةٍ وَدَارٍ، وَأَرْضٍ لَهُ خَرَابٍ؛ لأَِنَّ تَنْمِيَةَ الْمَال غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لَكِنَّهُ يُنْدَبُ عِمَارَتُهَا، وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا حَذَرًا مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال بِغَيْرِ الْفِعْل (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 277، وحاشية القليوبي 3 / 87.
(2) حاشية القليوبي 4 / 95.(30/299)
عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ:
6 - عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ مَأْمُورٌ بِهَا بِالْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِنْ قَامَ بِهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهَا جَمِيعًا أَثِمُوا جَمِيعًا، قَال تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ} (1) قَال ابْنُ كَثِيرٍ (2) فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِمَارَتُهَا لِهَؤُلاَءِ الْجَامِعِينَ لِلْكَمَالاَتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَمِنْ عِمَارَتِهَا: بِنَاؤُهَا، وَتَزْيِينُهَا بِالْفُرُشِ، وَتَنْوِيرُهَا بِالسُّرُجِ، وَإِدَامَةُ الْعِبَادَةِ وَدَرْسِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَصِيَانَتُهَا عَمَّا لَمْ تُبْنَ لَهُ كَحَدِيثِ الدُّنْيَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: قَال تَعَالَى: إِنَّ بُيُوتِي فِي أَرْضِي الْمَسَاجِدُ، وَإِنَّ زُوَّارِي عُمَّارُهَا، فَطُوبَى لِعَبْدٍ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي فَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِد) .
__________
(1) سورة التوبة / 18.
(2) تفسير ابن كثير في قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله) وروح المعاني، والقليوبي 3 / 108.
(3) حديث: " قال الله: إن بيوتي في أرضي المساجد ". قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (2 / 354 - بحاشية الكشاف) لم أجده هكذا، وفي الطبراني عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم زائره "، وهذا أورده الهيثمي في المجمع (2 / 31) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح.(30/299)
عِمَامَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِمَامَةُ لُغَةً: اللِّبَاسُ الَّذِي يُلاَثُ (يُلَفُّ) عَلَى الرَّأْسِ تَكْوِيرًا، وَتَعَمَّمَ الرَّجُل: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْجَمْعُ عَمَائِمُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَذَبَةُ:
2 - الْعَذَبَةُ: طَرَفُ الشَّيْءِ كَعَذَبَةِ الصَّوْتِ وَاللِّسَانِ أَيْ: طَرَفُهُمَا، وَالطَّرَفُ الأَْعْلَى لِلْعِمَامَةِ يُسَمَّى عَذَبَةً وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلاِصْطِلاَحِ الْعُرْفِيِّ (3) .
ب - الذُّؤَابَةُ:
3 - الذُّؤَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى الضَّفِيرَةِ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً كَمَا تُطْلَقُ عَلَى طَرَفِ الْعِمَامَةِ،
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط والمخصص لابن سيده 4 / 81.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) إرشاد الساري 8 / 428.(30/300)
وَالْجَمْعُ ذَوَائِبُ وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
فَالْعَذَبَةُ وَالذُّؤَابَةُ جُزْءٌ مِنَ الْعِمَامَةِ.
وَلاَ يُفَرِّقُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْعَذَبَةِ وَالذُّؤَابَةِ (1) .
ج - الْعِصَابَةُ:
4 - لِلْعِصَابَةِ فِي الاِسْتِعْمَال الْعَرَبِيِّ عِدَّةُ مَعَانٍ مُتَشَابِهَةٍ: الْعِصَابَةُ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ، فَهِيَ مُرَادِفَةٌ لَهَا.
قَال الْجَاحِظُ: وَالْعِصَابَةُ وَالْعِمَامَةُ سَوَاءٌ (2) .
فَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلْعِمَامَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ (3) ، وَفُسِّرَتِ الْعَصَائِبُ هُنَا بِالْعَمَائِمِ.
وَتُطْلَقُ الْعِصَابَةُ عَلَى مَا يُشَدُّ بِهِ الرَّأْسُ وَغَيْرُهُ، فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الْعِمَامَةِ.
د - الْمِعْجَرُ:
5 - الْمِعْجَرُ: ثَوْبٌ أَصْغَرُ مِنَ الرِّدَاءِ وَأَكْبَرُ مِنَ
__________
(1) المصباح المنير وكشاف القناع 1 / 57 - 119.
(2) البيان والتبيين 3 / 99 تحقيق عبد السلام هارون (نشر لجنة التأليف والترجمة مصر ط 11 - 1368 - 1949) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابهم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 101) من حديث ثوبان، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 89) : منقطع.(30/300)
الْمِقْنَعَةِ تَعْتَجِرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فَتَلُفَّهُ عَلَى اسْتِدَارَةِ رَأْسِهَا ثُمَّ تَجَلْبَبُ فَوْقَهُ بِجِلْبَابِهَا، وَالْجَمْعُ الْمَعَاجِرُ.
وَيَكُونُ الاِعْتِجَارُ بِالْمِعْجَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ وَبِالْعِمَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال، وَهُوَ لَيُّ الثَّوْبِ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ إِدَارَةٍ تَحْتَ الْحَنَكِ، وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ لَفُّ الْعِمَامَةَ دُونَ التَّلَحِّي.
وَالاِعْتِجَارُ بِالْعِمَامَةِ أَنْ يَلُفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ وَيَرُدَّ طَرَفَهَا عَلَى وَجْهِهِ وَلاَ يَعْمَل مِنْهَا شَيْئًا تَحْتَ ذَقَنِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِعْجَرِ وَالْعِمَامَةِ أَنَّ الْمِعْجَرَ وَالْعِمَامَةَ كِلَيْهِمَا يُلَفُّ بِهِ الرَّأْسُ غَيْرَ أَنَّ الْمِعْجَرَ لِلْمَرْأَةِ وَالْعِمَامَةَ لِلرَّجُل.
هـ - الْقِنَاعُ:
6 - يُطْلَقُ الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعُ وَالْمِقْنَعَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْقُمَاشِ يَضَعُهُ الْجِنْسَانِ عَلَى الرَّأْسِ (2) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْخِمَارِ الَّذِي تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا (3) .
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْقِنَاعَ بِمَا يُفِيدُ خُصُوصِيَّتَهُ بِالْمَرْأَةِ فَقَالاَ: " الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعَةُ: مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ يُغَطِّي رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا ".
__________
(1) فتح الباري 7 / 369، ولسان العرب.
(2) المعجم المفصل: 303.
(3) المرجع نفسه: 305.(30/301)
وَوَصَفَ الْبَعْضُ الرَّجُل بِالتَّقَنُّعِ فَقَال: رَجُلٌ مُقَنَّعٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَمِغْفَرٌ (1) فَالْقِنَاعُ يُسْتَعْمَل لِلنِّسَاءِ، وَالْعِمَامَةُ لِلرِّجَال.
و الْقَلَنْسُوَةُ:
7 - الْقَلَنْسُوَةُ لُغَةً مِنْ مَلاَبِسِ الرُّءُوسِ وَتُجْمَعُ عَلَى قَلاَنِسَ، وَالتَّقْلِيسُ لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا - مَا يُلْبَسُ عَلَى الرَّأْسِ وَيُتَعَمَّمُ فَوْقَهُ أَوْ هِيَ الطَّاقِيَّةُ (3) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْعِمَامَةَ تُلَفُّ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ غَالِبًا.
أَشْكَال الْعِمَامَةِ:
8 - لِلْعِمَامَةِ عِدَّةُ أَشْكَالٍ مِنْهَا:
أَنْ يَلُفَّ الشَّخْصُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَسْدُلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ، وَتُسَمَّى بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ " الْقِعَاطَةَ ".
أَنْ تُلَفَّ عَلَى الرَّأْسِ دُونَ التَّلَحِّي بِهَا، وَتُسَمَّى الاِعْتِجَارُ.
أَنْ يُرْخَى طَرَفَاهَا مِنْ نَاحِيَتَيِ الرَّأْسِ وَتُسَمَّى " الزَّوْقَلَةُ ".
أَنْ تُلاَثَ عَلَى الرَّأْسِ وَلاَ تُسْدَل عَلَى الظَّهْرِ وَلاَ تُرَدَّ تَحْتَ الْحَنَكِ وَتُسَمَّى " الْقَفْدَاءُ (4) "
__________
(1) لسان العرب مادة (قنع) .
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.
(3) الدر المختار 1 / 181، الدسوقي 1 / 163.
(4) المخصص لابن سيدة 4 / 84 ونقل هذه المعاني صلاح حسين العبيدي في كتابه الملابس العربية الإسلامية في العصر العباسي ص113 - 114.(30/301)
صِفَةُ عَمَائِمِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
9 - رَوَى الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْبَارًا تَتَعَلَّقُ بِعِمَامَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّتْ عَلَى لَوْنِهَا وَشَكْلِهَا وَنَوْعِهَا.
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. (1)
وَالْعِمَامَةُ بِهَذَا اللَّوْنِ اسْتَعْمَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ الْخَطَابَةِ، فَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. (2)
وَعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَال: رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِزَعْفَرَانٍ رِدَاءً وَعِمَامَةً. (3)
وَكَانَتْ لِعِمَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَبَةٌ وَكَانَ يُسْدِلُهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ
__________
(1) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة ". أخرجه مسلم (2 / 990) .
(2) حديث جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس. . . ". أخرجه مسلم (2 / 990) .
(3) الحاوي للفتاوي 2 / 104. وحديث عبد الله بن جعفر " رأيت على النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين. . . ". أخرجه الحاكم (3 / 568) وأبو يعلى (12 / 160) وذكر ابن حجر في فتح الباري (10 / 305) تضعيف أحد رواته.(30/302)
أَبِيهِ قَال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا (1) . بَيْنَ كَتِفَيْهِ. (2)
تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالإِْضَافَةِ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى لَوْنِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِْخْبَارَ بِإِرْخَائِهِ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
وَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِذَلِكَ فَقَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَمَّ سَدَل عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. (3)
وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَمَّمَ بِعِمَامَةٍ قَطَرِيَّةٍ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَطَرِيَّةٌ، فَأَدْخَل يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ (4) وَفُسِّرَتِ الْعِمَامَةُ الْقَطَرِيَّةُ
__________
(1) علق النووي على هذه التثنية فقال: هكذا هو في جمع نسخ بلادنا وغيرها " طرفيه " بالتثنية وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف: " طرفها " بالإفراد، وأن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية. شرح مسلم على هامش القسطلاني 6 / 66 - 67. وجاء عند أبي داود بالإفراد: السنن 26 كتاب اللباس 24 باب في العمائم.
(2) حديث عمرو بن حريث: " كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 990) .
(3) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 225 - 226) وقال: حديث حسن غريب.
(4) حديث أنس: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وعليه عمامة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 102 - 103) والحاكم (1 / 169) وأشار الذهبي إلى عدم صحته.(30/302)
بِتَفْسِيرَيْنِ:
الأَْوَّل: قِيل هِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ وَلَهَا أَعْلاَمٌ وَفِيهَا بَعْضُ الْخُشُونَةِ.
الثَّانِي: قِيل هِيَ حُلَلٌ جِيَادٌ تُحْمَل مِنْ قَرْيَةٍ فِي الْبَحْرَيْنِ يُقَال لَهَا قَطَرٌ (1) .
وَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَقَدْ لاَحَظَ السُّيُوطِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حَدِيثٌ فِي مِقْدَارِ عِمَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَنْتَجَ مِنْ حَدِيثٍ نَسَبَهُ إِلَى الْبَيْهَقِيِّ يَصِفُ تَعَمُّمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهَا عِدَّةُ أَذْرُعٍ، ثُمَّ قَال " وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ نَحْوَ الْعَشَرَةِ أَذْرُعٍ أَوْ فَوْقَهَا بِيَسِيرٍ (2) ".
وَمِنَ الأَْوْصَافِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا: سَدْل الْعِمَامَةِ.
وَصَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِمَامَتَهُ فَقَال: عَمَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي. (3)
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُسْدِل عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَمِمَّنْ فَعَل ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ سَالِمُ بْنُ
__________
(1) قال الأزهري في أعراض البحرين قرية يقال لها قطر. وأحسب الثياب القطرية نسبت إليها فكسروا القاف للنسبة وحفظوا. (النهاية لابن الأثير 4 / 80) .
(2) الحاوي للفتاوي 1 / 72 - 73.
(3) حديث عبد الرحمن بن عوف: " عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 341) وذكر المنذري في مختصر السنن (6 / 45) أن فيه رجلاً مجهولاً.(30/303)
عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ (1) .
وَثَبَتَ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ جَعَل فِي عِمَامَتِهِ عَلاَمَةً لِيُعْرَفَ بِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ الْعِمَامَةَ نَفْسَهَا سِمَةً فَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ يَوْمَ بَدْرٍ مُعَلَّمًا بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ حَمْرَاءَ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ مُعَلَّمًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ (2)
. صِفَةُ عَمَائِمِ أَهْل الذِّمَّةِ:
10 - لَبِسَ أَهْل الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ الْمُلَوَّنَةَ تَمْيِيزًا لَهُمْ فَكَانَتْ عَمَائِمُ الْمَسِيحِيِّينَ زَرْقَاءَ وَعَمَائِمُ الْيَهُودِ صَفْرَاءَ وَيُذْكَرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ (3) .
بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ لَمْ تُطَبَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَمَّمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَائِمِ الْمُلَوَّنَةِ، وَمِنْ صِفَاتِ عَمَائِمِ أَهْل الذِّمَّةِ خُلُوُّهَا مِنَ الْعَذَبَةِ، عَدَمُ إِدَارَتِهَا تَحْتَ الْحَنَكِ عِنْدَ التَّعَمُّمِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: ". . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلاَ لَهَا ذُؤَابَةٌ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ أَهْل الذِّمَّةِ " (4)
__________
(1) انظر سنن الترمذي 25 كتاب اللباس 12 باب في سدل العمامة بين الكتفين.
(2) البيان والتبيين للجاحظ 3 / 101.
(3) الملابس العربية الإسلامية للعبيدي 117 تعليق 122 وقد نقل هذه المعلومات عن (ماير) الملابس المملوكية: 115 - 116.
(4) المغني: 1 / 301.(30/303)
الصَّلاَةُ بِالْعِمَامَةِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الرَّأْسِ فِي الصَّلاَةِ لِلرَّجُل بِعِمَامَةٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْعِمَامَةِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَوَاجِبٌ سَتْرُ رَأْسِهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَلاَةِ الرَّجُل مَكْشُوفَ الرَّأْسِ إِذَا كَانَ تَكَاسُلاً لِتَرْكِ الْوَقَارِ، لاَ لِلتَّذَلُّل وَالتَّضَرُّعِ
(1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَأْس ف 5)
السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ (2) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ (3) وَعَنِ الْحَسَنِ قَال: كَانَ
__________
(1) انظر مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه (197) ط. الثانية ببولاق مصر 1318هـ.
(2) حديث أنس: " كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 492) ومسلم (1 / 433) واللفظ له.
(3) حديث: " أنه سجد على كور عمامته. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1 / 400) وأورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 384) وذكر تضعيف أبي حاتم لأحد رواته.(30/304)
أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُل عَلَى عِمَامَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَمُبَاشَرَتِهَا بِالْمُصَلَّى، وَعَدَمِ جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَيَدِهِ وَكَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَيَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الأَْرْضِ (2) الْحَدِيثَ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَْرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمَا أَشْكَانَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَرْضٌ، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ إِنْ كَانَ لَفَّتَيْنِ مِنْ شَالٍ رَقِيقٍ كَشَاشٍ وَلاَ يُعِيدُ الصَّلاَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ لَفَّتَيْنِ وَاسْتَقَرَّتْ
__________
(1) حديث الحسن: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 492) تعليقًا ووصله البيهقي (2 / 106) .
(2) حديث: " إذا سجدت فمكن جبهتك. . . ". أخرجه ابن حبان (5 / 206) من حديث ابن عمر وحسن إسناده البيهقي في دلائل النبوة (6 / 294) .
(3) حديث خباب: " أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 433) ورواية " فما أشكانا " أخرجها ابن المنذر في الأوسط (2 / 358) .(30/304)
عَلَيْهِ الْجَبْهَةُ فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتِ الْعِمَامَةُ مَشْدُودَةً عَلَى الرَّأْسِ وَسَجَدَ عَلَى كَوْرِهَا وَلَمْ تَمَسَّ جَبْهَتُهُ الأَْرْضَ فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ يُعِيدُهَا أَبَدًا وُجُوبًا (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُود ف 7) ، وَمُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 101) .
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي نَزْعِهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إِنْ خِيفَ ضَرَرٌ بِسَبَبِ نَزْعِهَا مِنَ الرَّأْسِ وَلَمْ يُمْكِنْ حَلُّهَا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ مُبَاشَرَةً مَسَحَهُ وَكَمَّل عَلَى عِمَامَتِهِ وُجُوبًا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ سَوَاءٌ عَسِرَ عَلَيْهِ تَنْحِيَتُهَا أَمْ لاَ، وَلاَ يَكْفِي الاِقْتِصَارُ عَلَى الْعِمَامَةِ بَل يَمْسَحُ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالأَْفْضَل أَنْ لاَ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَل مِنَ النَّاصِيَةِ (4) ، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ. (5)
__________
(1) انظر جواهر الإكليل 1 / 54.
(2) ابن عابدين 1 / 181، فتح القدير 1 / 109.
(3) جواهر الإكليل 1 / 29.
(4) مغني المحتاج 1 / 60، والقليوبي 1 / 54.
(5) حديث المغيرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 308) ومسلم (1 / 231) واللفظ لمسلم.(30/305)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَبِهِ قَال عُمَرُ وَأَنَسُ وَأَبُو أُمَامَةَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَكْحُولٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: مِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْح، وَوُضُوء) .
الْعِمَامَةُ لِلْمَيِّتِ:
14 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ اشْتِمَال الْكَفَنِ عَلَى قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ، وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَفَّنَ ابْنَهُ وَاقِدًا فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَثَلاَثِ لَفَائِفَ وَأَدَارَ الْعِمَامَةَ إِلَى تَحْتِ حَنَكِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَالرَّجُل أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعَمَّمَ. قَال: إِنَّ مِنْ شَأْنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 181، والمغني لابن قدامة 1 / 300.(30/305)
الْمَيِّتِ عِنْدَنَا أَنْ يُعَمَّمَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَكُونَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُفِّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ (3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لُبْسُ الْعِمَامَةِ فِي الإِْحْرَامِ:
15 - الْعِمَامَةُ مِنَ اللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ فِي الإِْحْرَامِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ بَيَّنَ فِيهِ مَا يُمْنَعُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسُ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ.
(4)
__________
(1) عمدة القارئ 8 / 50 والمدونة 1 / 187 و188.
(2) شرح مسلم للنووي على هامش القسطلاني 4 / 266 المغني جـ2 / 464.
(3) حديث عائشة: " كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 135)
(4) حديث ابن عمر أن رجلاً قال: " يا رسول الله ". أخرجه البخاري (3 / 401) ومسلم (2 / 834) واللفظ للبخاري.(30/306)
قَال النَّوَوِيُّ: نَبَّهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُل سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى الْعِصَابَةِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا لِشَجَّةٍ أَوْ صُدَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا شَدَّهَا، وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ (1)
التَّعْزِيرُ بِخَلْعِ الْعِمَامَةِ:
16 - التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ فِيمَا لاَ حَدَّ وَلاَ كَفَّارَةَ، يَجْتَهِدُ الْقَاضِي فِي تَقْدِيرِهَا.
وَمِمَّا يُعَزَّرُ بِهِ خَلْعُ الْعِمَامَةِ، قَال ابْنُ شَاسٍ كَانُوا يُعَاقِبُونَ الرَّجُل عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي الْمَحَافِل، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَل إِزَارُهُ (2) .
__________
(1) شرح مسلم للنووي على هامش القسطلاني 5 / 182.
(2) المواق، التاج الإكليل على هامش شرح مختصر خليل 6 / 319، وهذا الكلام نفسه نسب إلى بكر الطرشوشي في تبصرة الحكام لابن فرحون على هامش فتح العل لعليش 2 / 295 - 296.(30/306)
عَمْد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَمْدُ فِي اللُّغَةِ: قَصْدُ الشَّيْءِ وَالاِسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّيَّةِ يُقَال: تَعَمَّدَ وَتَعَمَّدَ لَهُ وَعَمَدَ إِلَيْهِ وَلَهُ، أَيْ قَصَدَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَصْدُ:
2 - يُقَال: قَصَدْتُ الشَّيْءَ وَلَهُ وَإِلَيْهِ قَصْدًا: إِذَا طَلَبْتَهُ بِعَيْنِهِ، وَقَصَدَ الأَْمْرَ: تَوَجَّهَ إِلَيْهِ عَامِدًا، وَالْمَقْصِدُ: مَوْضُوعُ الْقَصْدِ، وَقَصَدَ فِي الأَْمْرِ: تَوَسَّطَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ فِيهِ، وَقَصَدَ الطَّرِيقَ: أَيِ: اسْتَقَامَ (2) .
وَالْقَصْدُ أَعَمُّ مِنَ الْعَمْدِ.
ب - الْعَزْمُ:
3 - الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) المصادر السابقة.(30/307)
الأَْمْرِ، يُقَال: عَزَمَ فُلاَنٌ عَزْمًا أَيْ: جَدَّ وَصَبَرَ، وَعَزَمَ الأَْمْرَ أَيْ: عَقَدَ نِيَّتَهُ وَضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ (1) .
ج - الْخَطَأُ:
4 - الْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الصَّوَابِ وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، يُقَال لِمَنْ يُذْنِبُ عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ، وَلِمَنْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَصَارَ إِلَى غَيْرِهِ، قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْخَطَأُ الْعُدُول عَنِ الْجِهَةِ (2) .
وَالْخَطَأُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الإِْنْسَانِ بِلاَ قَصْدٍ إِلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ (3) -
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَمْدِ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَمْدِ فِي أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا:
أ - فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ عَمْدًا أَوِ انْتَقَل إِلَى مَا بَعْدَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلاَتِهِ أَوْ
__________
(1) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، والتعريفات للجرجاني.
(2) المراجع السابقة.
(3) التلويح 2 / 195.(30/307)
أَكَل أَوْ شَرِبَ عَمْدًا (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 107 وَمَا بَعْدَهَا)
ب - فِي الصَّوْمِ:
6 - لَوْ أَكَل الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ بَاشَرَ أَهْلَهُ عَامِدًا أَفْطَرَ بِالإِْجْمَاعِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 37 وَمَا بَعْدَهَا)
ج - فِي الْجِنَايَاتِ:
7 - الْقَتْل الْعَمْدُ مُحَرَّمٌ بِالإِْجْمَاعِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَالنَّارِ كَمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا. .} .
(2) وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُول تَوْبَةِ قَاتِل الْعَمْدِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ إِلَى قَبُول تَوْبَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 412 - 417، والقوانين الفقهية ص74، 77، وجواهر الإكليل 1 / 63 - 65، والمجموع للنووي 4 / 77 - 92، والمغني لابن قدامة 1 / 461، 2 / 4.
(2) سورة النساء / 93، وانظر حاشية ابن عابدين 5 / 340، والفواكه الدواني 2 / 246، وروضة الطالبين 9 / 122 والمغني لابن قدامة 7 / 636.(30/308)
ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ؛ وَلأَِنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْل الْعَمْدِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَإِذَا قُبِلَتِ التَّوْبَةُ مِنْهُ فَقَبُول التَّوْبَةِ مِنَ الْقَتْل أَوْلَى.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِقَاتِل الْعَمْدِ تَوْبَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3)
د - فِي الرِّدَّةِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَعَل الإِْنْسَانُ مَا يَكْفُرُ بِهِ عَمْدًا أَوْ قَال قَوْلاً يُخْرِجُهُ عَنِ الْمِلَّةِ عَمْدًا فَقَدِ ارْتَدَّ وَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 10 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة الفرقان 68 - 70.
(2) سورة النساء / 116.
(3) سورة النساء / 93، وانظر تفسير القرطبي 5 / 329، وتفسير الفخر الرازي 10 / 239.
(4) الفواكه الدواني 2 / 274 ومغني المحتاج 4 / 136، وروضة الطالبين 10 / 64 والمغني لابن قدامة 8 / 147.(30/308)
هـ - فِي الطَّلاَقِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُهُ، فَإِنْ مَرَّ لَفْظُ الطَّلاَقِ بِلِسَانِ نَائِمٍ أَوْ تَلَفَّظَ بِهِ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسَبَبٍ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهِ أَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الطَّلاَقِ أَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلاَقِ حَاكِيًا كَلاَمَ غَيْرِهِ أَوْ كَرَّرَ الْفَقِيهُ لَفْظَ الطَّلاَقِ فِي الدَّرْسِ فَلاَ يَقَعِ الطَّلاَقُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل كُلِّهَا (1) .
و الْكَذِبُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (2) . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُدْعَى الرَّجُل إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُول عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُل. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 417، والفواكه الدواني 2 / 57، ومغني المحتاج 3 / 287، والمغني لابن قدامة 7 / 113 - 121.
(2) حديث: " من كذب علي معتمدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 160) ومسلم (1 / 10) من حديث المغيرة بن شعبة.
(3) حديث: " إن من أعظم الفرى أن يدعى إلى غير أبيه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 540) من حديث واثلة بن الأسقع.(30/309)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ مَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَال الذَّهَبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ يَنْقُل عَنِ الْمِلَّةِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ كُفْرٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا الْكَلاَمُ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (1) .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل رِوَايَةُ مُتَعَمِّدِ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَزَجْرًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخِلاَفِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ لَيْسَتْ عَامَّةً بَل تَكُونُ قَاصِرَةً (2)
ز - حَلِفُ الْيَمِينِ كَذِبًا عَمْدًا:
11 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَلِفَ الْيَمِينِ كَذِبًا عَمْدًا حَرَامٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 79، والكبائر للذهبي ص61، والفواكه الدواني 1 / 91، ومغني المحتاج 4 / 136، 427.
(2) تدريب الراوي للسيوطي ص220، والمنثور في القواعد 1 / 430.(30/309)
الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (3) وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَبَائِرُ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْل النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ.
(4) وَالْيَمِينُ الَّتِي يُتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبُ سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لأَِنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ فِي الإِْثْمِ فِي الدُّنْيَا وَتَغْمِسُهُ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْكَذِبُ حَرَامٌ فَإِذَا كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ كَانَ أَشَدَّ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَبْطَل بِهِ حَقًّا أَوِ اقْتَطَعَ بِهِ مَال مَعْصُومٍ كَانَ أَشَدَّ (5)
__________
(1) سورة آل عمران / 77.
(2) سورة المجادلة / 14.
(3) حديث: " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 558) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) حديث: " الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 555) .
(5) الكبائر للذهبي ص91، والزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 151 - 152، والفواكه الدواني 2 / 7، ومغني المحتاج 4 / 325، والمغني لابن قدامة 8 / 682.(30/310)
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان ف 108 - 114)
ح - الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ عَمْدًا:
12 - تَعَمُّدُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ تَجْرِي عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَقَدْ يَكُونُ الْحِنْثُ وَاجِبًا وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ أَوْ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَإِذَا حَلَفَ مَثَلاً عَلَى أَنْ لاَ يُصَلِّيَ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْحِنْثُ مَنْدُوبًا وَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ كَسُنَّةِ الضُّحَى أَوْ عَلَى فِعْل مَكْرُوهٍ كَأَنْ يَلْتَفِتَ بِوَجْهِهِ فِي الصَّلاَةِ فَيُنْدَبُ الْحِنْثُ وَقَدْ يَكُونُ الْحِنْثُ مُبَاحًا وَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ مُبَاحٍ أَوْ فِعْلِهِ كَدُخُول دَارٍ وَأَكْل طَعَامٍ مُعَيَّنٍ وَلُبْسِ ثَوْبٍ فَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الأَْفْضَل فِي هَذَا تَرْكُ الْحِنْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ يَكُونُ الْحِنْثُ حَرَامًا وَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ عَلَى فِعْل وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ حَرَامٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِذَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) وَقَدْ
__________
(1) سورة النحل / 91.(30/310)
يَكُونُ تَعَمُّدُ الْحِنْثِ مَكْرُوهًا وَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ عَلَى فِعْل مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكِ مَكْرُوهٍ لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حِنْث ف 6)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 17 - 18، والقوانين الفقهية ص163، ومغني المحتاج 4 / 325 - 326، والمغني 8 / 682.(30/311)
عُمْرَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُمْرَى لُغَةً: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ: مَا تَجْعَلُهُ لِلرَّجُل طُول عُمُرِكَ أَوْ عُمُرِهِ، وَقَال ثَعْلَبٌ: الْعُمْرَى: أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُل إِلَى أَخِيهِ دَارًا فَيَقُول: هَذِهِ لَكَ عُمُرَكَ أَوْ عُمُرِي أَيُّنَا مَاتَ دُفِعَتِ الدَّارُ إِلَى أَهْلِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا جَعْل الْمَالِكِ شَيْئًا يَمْلِكُهُ لِشَخْصٍ آخَرَ عُمُرَ أَحَدِهِمَا (2) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا جَعْل الْمَالِكِ شَيْئًا يَمْلِكُهُ لِشَخْصٍ آخَرَ عُمُرَ هَذَا الشَّخْصِ (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْعَارَةُ:
2 - الإِْعَارَةُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِلاَ
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والمغرب في ترتيب المعرب، والمفردات في غريب القرآن.
(2) التعريفات، بدائع الصنائع 6 / 116، والمغني 5 / 686، وكشاف القناع 4 / 307.
(3) الشرح الصغير 4 / 160، والقوانين الفقهية ص245، وجواهر الإكليل 2 / 157، وروضة الطالبين 5 / 370، والإقناع 2 / 34.(30/311)
عِوَضٍ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعُمْرَى مُقَيَّدَةٌ بِالْعُمُرِ
ب - الْعَرِيَّةُ:
3 - أَنْ يَهَبَ لَهُ ثَمَرَ نَخْلَةٍ أَوْ ثَمَرَ شَجَرَةٍ دُونَ أَصْلِهَا
(2) فَالْعَرِيَّةُ تَنْفَرِدُ بِأَنَّهَا بِثَمَرٍ، وَأَمَّا الْعُمْرَى فَهِيَ بِثَمَرٍ وَبِغَيْرِهِ مُدَّةَ الْعُمُرِ.
ج - الْمِنْحَةُ:
4 - الْمِنْحَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً يَحْلُبُهَا فِي أَيَّامِ اللَّبَنِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى رَبِّهَا
(3) فَالْمِنْحَةُ خَاصَّةٌ بِلَبَنِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ نَاقَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعُمْرَى.
د - الرُّقْبَى:
5 - الرُّقْبَى فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، يُقَال أَرْقَبْتُ زَيْدًا الدَّارَ إِرْقَابًا، وَالاِسْمُ الرُّقْبَى؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ لِتَبْقَى لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هِيَ أَنْ يَقُول الشَّخْصُ أَرْقَبْتُكَ الدَّارَ مَثَلاً أَوْ هِيَ لَكَ رُقْبَى مُدَّةَ حَيَاتِكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ.
__________
(1) التعريفات وحاشية ابن عابدين 4 / 502، وشرح الزرقاني 7 / 102، والشرح الصغير 3 / 570.
(2) القوانين الفقهية ص245، والمغني 5 / 687.
(3) القوانين الفقهية ص245، والمغني 5 / 687.(30/312)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلآْخَرِ إِنْ مِتَّ قَبْلِي فَدَارُكَ لِي وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَدَارِي لَكَ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جَوَازِ الْعُمْرَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعُمْرَى جَائِزٌ لأَِهْلِهَا. (3)
وَالْعُمْرَى نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ سَائِرُ الْهِبَاتِ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَالْقَبْضِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ (4) .
7 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْعُمْرَى تَمْلِيكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا تَمْلِيكُ عَيْنٍ فِي الْحَال، وَتُنْقَل إِلَى الْمُعْمَرِ (5) لِمَا
__________
(1) المصباح المنير، والهداية 3 / 222، والتعريفات ص111، والقوانين الفقهية ص245، ونهاية المحتاج 5 / 410، والمغني 6 / 686.
(2) حديث: " من أعمر عمري. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1246 - 1247) من حديث جابر.
(3) حديث: " العمري جائزة لأهلها ". أخرجه الترمذي (3 / 623) من حديث سمرة. وأخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 238) ومسلم (3 / 1248) بلفظ " العمري جائزة " ولمسلم " العمري ميراث لأهلها ".
(4) الاختيار 3 / 53 والبدائع 6 / 116، والقوانين الفقهية ص245، والشرح الصغير 4 / 160، والإقناع 2 / 34، ومغني المحتاج 3 / 309، والمغني 5 / 687، ونيل الأوطار 6 / 118.
(5) تبيين الحقائق 5 / 93، والبدائع 6 / 116، وبداية المجتهد 2 / 361 ط. مكتبة الكليات الأزهرية، ونهاية المحتاج 5 / 407، وروضة الطالبين 5 / 370، والمغني لابن قدامة 5 / 687 - 688.(30/312)
رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلاَ تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ (1) وَفِي لَفْظٍ: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَاللَّيْثُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعْمَرِ فِيهَا إِلاَّ الْمَنْفَعَةُ فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ، لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَال: سَمِعْتُ مَكْحُولاً يَسْأَل الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعُمْرَى مَا يَقُول النَّاسُ فِيهَا؟ فَقَال الْقَاسِمُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَعْطَوْا.
وَقَال إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَرَبُ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَالْمِنْحَةِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا وَمَنَافِعُهَا لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ،؛ وَلأَِنَّ التَّمْلِيكَ لاَ يَتَأَقَّتُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ إِلَى مُدَّةٍ فَإِذَا كَانَ لاَ يَتَأَقَّتُ حُمِل قَوْلُهُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ؛ لأَِنَّهُ يَصْلُحُ تَوْقِيتُهُ (3) .
__________
(1) حديث: " أمسكوا عليكم أموالكم ". أخرجه مسلم (3 / 1246 - 1247) .
(2) حديث: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمري ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 238) ومسلم (3 / 1246) من حديث جابر، واللفظ للبخاري.
(3) مواهب الجليل 6 / 61، وجواهر الإكليل 2 / 34، وبداية المجتهد 2 / 361، والمغني 5 / 687.(30/313)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: لِلْعُمْرَى ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِذَا قَال الرَّجُل: أَعَمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ فَإِذَا مِتُّ فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ أَوْ لِعَقِبِكَ فَيَصِحُّ وَهِيَ الْهِبَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِذَا مَاتَ فَالدَّارُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِبَيْتِ الْمَال، وَلاَ تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ بِحَالٍ.
الثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمُرَكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَاهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَهُ حُكْمُ الْهِبَةِ، وَفِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَقُول جَعَلْتُهَا لَكَ عُمُرَكَ فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مِتُّ، فَالأَْصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ هِبَةُ إِلْغَاءٍ لِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ لِفَسَادِ الشَّرْطِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى قَال الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَهِيَ أَمْثِلَةُ الْعُمْرَى، وَتَكُونُ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِنْ كَانُوا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَلِبَيْتِ الْمَال كَسَائِرِ الأَْمْوَال الْمُتَخَلِّفَةِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين للنووي 5 / 370، ونهاية المحتاج 5 / 407.
(2) كشاف القناع 4 / 307.(30/313)
عُمْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُمْرَةُ: بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ لُغَةً: الزِّيَارَةُ، وَقَدِ اعْتَمَرَ إِذَا أَدَّى الْعُمْرَةَ، وَأَعْمَرَهُ: أَعَانَهُ عَلَى أَدَائِهَا (1) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِإِحْرَامٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَجُّ:
2 - الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، أَوِ الْقَصْدُ إِلَى مُعَظَّمٍ (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الدَّرْدِيرُ بِأَنَّهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَثِيقَةٌ، فَالْحَجُّ
__________
(1) لسان العرب، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير، والقاموس المحيط للفيروزآبادي.
(2) الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي 2 / 2.
(3) المصادر اللغوية السابقة.
(4) الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير 2 / 2.(30/314)
يَتَضَمَّنُ أَعْمَال الْعُمْرَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِأَشْيَاءَ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتِ بِمِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْوَاجِبِ (1) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ (2) ؛ لأَِنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ مُعْظَمُهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ فَأَجْزَأَ عَنْهُمُ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى سُنِّيَّةِ الْعُمْرَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَال: لاَ، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا هُوَ أَفْضَل (3) ، وَبِحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 306، وبدائع الصنائع 2 / 226، والدسوقي 2 / 2.
(2) المنهاج للنووي وشرحه للمحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 92 (ط. محمد علي صبيح وأولاده) . والمغني لابن قدامة 3 / 223، 224) ط. دار المنار الثالثة) والفروع لابن مفلح 3 / 203 (تصوير عالم الكتب) ، وكشاف القناع 2 / 376.
(3) حديث جابر: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 261) والبيهقي (4 / 349) وصوّب البيهقي وقفه.(30/314)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ.
(1) وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) ، أَيِ: افْعَلُوهُمَا تَامَّيْنِ، فَيَكُونُ النَّصُّ أَمْرًا بِهِمَا فَيَدُل عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ هَل عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَال: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَال فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ (3)
فَضِيلَةُ الْعُمْرَةِ:
4 - وَرَدَ فِي فَضْل الْعُمْرَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ
__________
(1) حديث طلحة بن عبيد الله: " الحج جهاد، والعمرة تطوع ". أخرجه ابن ماجه (2 / 995) وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 227) .
(2) سورة البقرة / 196.
(3) حديث عائشة: " هل على النساء جهاد ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1968) وقال ابن حجر في التلخيص (2 / 91) " أصله في صحيح البخاري " وهو في صحيح البخاري (فتح الباري 3 / 381) .(30/315)
الْجَنَّةُ (1) . وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ (2)
وُجُوهُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ:
5 - تَتَأَدَّى الْعُمْرَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ، وَهِيَ:
أ) إِفْرَادُ الْعُمْرَةِ: وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَيْ: يَنْوِيَهَا وَيُلَبِّيَ - دُونَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِحَجٍّ - فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ، أَوْ يَأْتِيَ بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهَذِهِ كُلُّهَا إِفْرَادٌ لِلْعُمْرَةِ.
ب) التَّمَتُّعُ: وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهَا وَيَتَحَلَّل، ثُمَّ يَحُجَّ، فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيُ التَّمَتُّعِ بِالشُّرُوطِ الْمُقَرَّرَةِ لِلتَّمَتُّعِ.
(ر: تَمَتُّع ف 7 وَحَجّ ف 37) .
ج) الْقِرَانُ: وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا فِي إِحْرَامٍ وَاحِدٍ، فَيَأْتِي بِأَفْعَالِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَتَدْخُل أَفْعَال الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
__________
(1) حديث أبي هريرة: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 597) ومسلم (2 / 983) .
(2) حديث: " الحجاج والعمار وفد الله. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 966) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 127) .(30/315)
وَيُجْزِئُهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، وَيَظَل مُحْرِمًا حَتَّى يَتَحَلَّل بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ فِي الْحَجِّ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ، وَلاَ يَتَحَلَّل بَعْدَ أَفْعَال الْعُمْرَةِ، بَل يَظَل مُحْرِمًا أَيْضًا حَتَّى يَتَحَلَّل تَحَلُّل الْحَجِّ (ر: قِرَان، وَحَجّ ف 37 ب) .
وَكَيْفَمَا أَدَّى الْعُمْرَةَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُجْزِئُ عَنْهُ، وَيَتَأَدَّى فَرْضُهَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِفَرْضِيَّتِهَا كَمَا تَتَأَدَّى سُنِّيَّتُهَا عَلَى الْقَوْل بِسُنِّيَّتِهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْمُتَمَتِّعِ وَعُمْرَةُ الْقَارِنِ، وَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل عَنِ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي إِجْزَاءِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ خِلاَفًا، كَذَلِكَ قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ، وَلاَ نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلاَفَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لاَ تُجْزِئُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْعُمْرَةَ مِنْ أَدْنَى الْحِل لاَ تُجْزِئُ عَنِ الْعُمْرَةِ الْوَاجِبَةِ، وَقَال: إِنَّمَا هِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ،
__________
(1) المغني 3 / 225، والمجموع للنووي 7 / 137 - 138 (ط. مطبعة العاصمة) .(30/316)
وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ لاَ تُجْزِئُ بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَلَوْ كَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي قِرَانِهَا أَجْزَأَتْهَا لِمَا أَعْمَرَهَا بَعْدَهَا.
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْل الصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: إِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا، فَقَال عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ (1) وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا يَعْتَقِدُ أَدَاءَ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِمَا، فَصَوَّبَهُ عُمَرُ، وَقَال: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَال لَهَا لَمَّا جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: يُجْزِئُ عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ (2) ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّنْعِيمِ قَصْدًا لِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهَا، لاَ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَجْزَأَتْهَا عُمْرَةُ الْقِرَانِ فَقَدْ أَجْزَأَتْهَا الْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل، وَهُوَ أَحَدُ مَا قَصَدْنَا الدَّلاَلَةَ عَلَيْهِ،؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً فَتُجْزِئُهُ كَعُمْرَةِ الْمُتَمَتِّعِ؛ وَلأَِنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ أَحَدُ
__________
(1) حديث الصُّبَي بن معبد: " إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين ". أخرجه أبو داود (2 / 394) وصحح إسناده النووي في المجموع (7 / 157) .
(2) حديث عائشة: يجزئ عنك طوافك. . . ". أخرجه مسلم (2 / 880) .(30/316)
نُسُكَيِ الْقِرَانِ فَأَجْزَأَتْ كَالْحَجِّ، وَالْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ يُجْزِئُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ، فَالْعُمْرَةُ مِنْ أَدْنَى الْحِل فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ - لِلْعُمْرَةِ - أَوْلَى (1)
صِفَةُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ:
6 - مَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَإِنَّهُ يَسْتَعِدُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى بَلَغَ الْمِيقَاتَ أَوِ اقْتَرَبَ مِنْهُ إِنْ كَانَ آفَاقِيًّا، أَوْ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ أَيْ: مِنْ حَيْثُ يَشْرَعُ فِي التَّوَجُّهِ لِلْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ مِيقَاتِيًّا، أَيْ يَسْكُنُ أَوْ يَنْزِل فِي الْمَوَاقِيتِ أَوْ مَا يُحَاذِيهَا، أَوْ فِي الْمِنْطَقَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَرَمِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ حَرَمِيًّا أَوْ مُقِيمًا أَوْ نَازِلاً فِي مَكَّةَ أَوْ فِي مِنْطَقَةِ الْحَرَمِ حَوْل مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى أَقْرَبِ مَنَاطِقِ الْحِل إِلَيْهِ، فَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مَتَى جَاوَزَ الْحَرَمَ إِلَى الْحِل وَلَوْ بِخُطْوَةٍ.
7 - وَالاِسْتِعْدَادُ لِلإِْحْرَامِ أَنْ يَفْعَل مَا يُسَنُّ لَهُ، وَهُوَ: الاِغْتِسَال وَالتَّنَظُّفُ وَتَطْيِيبُ الْبَدَنِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الإِْحْرَامِ، وَتُجْزِئُ عَنْهُمَا صَلاَةُ الْمَكْتُوبَةِ، ثُمَّ يَنْوِي بَعْدَهُمَا الْعُمْرَةَ، بِنَحْوِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثُمَّ يُلَبِّي قَائِلاً: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 225.(30/317)
الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ " وَبِهَذَا يُصْبِحُ مُحْرِمًا أَيْ: دَاخِلاً فِي الْعُمْرَةِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ، وَيَسْتَمِرُّ يُلَبِّي حَتَّى يَدْخُل مَكَّةَ وَيَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ.
8 - فَإِذَا دَخَل الْمُعْتَمِرُ مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالاِحْتِرَامِ، وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ طَوَافَ رُكْنِ الْعُمْرَةِ، فَيَنْوِيهِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَيُقَبِّلُهُ إِنْ لَمْ يَخْشَ الزِّحَامَ أَوْ إِيذَاءَ أَحَدٍ وَيُكَبِّرُ وَإِلاَّ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ أَوِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ.
9 - وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا، وَالاِضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَل وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبْطِهِ الْيُمْنَى، وَيَرُدَّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى وَيُبْقِي كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً، كَمَا يُسَنُّ لِلرَّجُل الرَّمَل فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى، وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي، وَلْيُكْثِرِ الْمُعْتَمِرُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ.
10 - ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ تَيَسَّرَ وَيُكَبِّرُ أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ وَيُكَبِّرُ، وَيَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا، وَيَقْرَأُ الآْيَةَ: {إِنَّ(30/317)
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . (1)
وَيَبْدَأُ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الصَّفَا، فَيَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ الْمُعَظَّمَةَ، فَيَقِفُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا وَيُهَلِّل وَيُكَبِّرُ وَيَدْعُو ثُمَّ يَنْزِل مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَرْوَةِ وَيُسْرِعُ الرَّجُل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ، ثُمَّ يَمْشِي الْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَرْوَةَ، فَيَقِفَ عَلَيْهَا يَذْكُرُ وَيَدْعُو بِمِثْل مَا فَعَل عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ يَنْزِل فَيَفْعَل كَمَا فِي الشَّوْطِ الأَْوَّل حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَنْتَهِي عَلَى الْمَرْوَةِ، وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي سَعْيِهِ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ الْمُعْتَمِرُ مِنْ سَعْيِهِ حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَصَّرَهُ وَتَحَلَّل بِذَلِكَ مِنْ إِحْرَامِهِ تَحَلُّلاً كَامِلاً، وَيَمْكُثُ بِمَكَّةَ حَلاَلاً مَا بَدَا لَهُ.
11 - ثُمَّ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ - وَلَوْ كَانَ مَكِّيًّا - وُجُوبًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَسُنَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَدَاعُ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَجِبُ عِنْدَهُمْ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ؛ لأَِنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، شُرِعَ لِيَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ (2)
__________
(1) سورة البقرة / 158.
(2) بدائع الصنائع 2 / 134 - 135، والدسوقي 2 / 21 - 40، ومغني المحتاج 1 / 513، وكشاف القناع 2 / 519.(30/318)
أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ ثَلاَثَةٌ هِيَ: الإِْحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، وَقَال بِرُكْنِيَّتِهَا الشَّافِعِيَّةُ، وَزَادُوا رُكْنًا رَابِعًا هُوَ: الْحَلْقُ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ لِلْعُمْرَةِ، وَرُكْنُهَا وَاحِدٌ هُوَ: الطَّوَافُ (3) .
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الإِْحْرَامُ:
13 - الإِْحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ نِيَّةُ الْعُمْرَةِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: نِيَّةُ الْعُمْرَةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ.
وَمُرَادُهُمْ بِالذِّكْرِ: التَّلْبِيَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ: مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ أَوْ تَقْلِيدِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته للدسوقي 2 / 21 وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 483، 497، وكشاف القناع 2 / 521.
(2) مغني المحتاج 1 / 513.
(3) المسلك المتقسط ص307.
(4) الشرح الكبير والدسوقي 2 / 21 - 26 وشرح المنهاج للمحلي بهامش القليوبي وعميرة 2 / 96، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 394، والكافي لابن قدامة 1 / 530. ط. المكتب الإسلامي.(30/318)
الْبُدْنِ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْحْرَامِ مُقَارَنَتُهُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالتَّلْبِيَةُ شَرْطٌ عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِدُونِ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عِنْدَهُمْ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الأَْصْل، وَالسُّنَّةُ قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الإِْحْرَامِ مُطْلَقًا (2) .
وَصِيغَةُ التَّلْبِيَةِ هِيَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ.
وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ:
14 - يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَتَجَنُّبُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ
مِيقَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ:
الْمِيقَاتُ قِسْمَانِ: مِيقَاتٌ زَمَانِيٌّ، وَمِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ:
الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ
__________
(1) رد المختار لابن عابدين 2 / 213.
(2) المسلك المتقسط ص62، ورد المحتار 2 / 213 - 214، ومواهب الجليل 3 / 9، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 460، والمهذب والمجموع 3 / 388، والكافي 1 / 541.(30/319)
الزَّمَانِيَّ هُوَ جَمِيعُ الْعَامِ لِغَيْرِ الْمُشْتَغِل بِالْحَجِّ، فَيَصِحُّ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا الإِْنْسَانُ وَيَفْعَلَهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَهِيَ أَفْضَل فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، لِمَا سَيَأْتِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ تُكْرَهُ تَحْرِيمًا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " حَلَّتِ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ أَيَّامُ شُغْلٍ بِالْحَجِّ، وَالْعُمْرَةُ فِيهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَل فِيهِ فَتُكْرَهُ.
الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ:
مِيقَاتُ الآْفَاقِيِّ:
16 - وَالآْفَاقِيُّ: هُوَ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَمَوَاقِيتُ الآْفَاقِيِّ هِيَ: ذُو الْحُلَيْفَةِ لأَِهْل الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَرَّ بِهَا، وَالْجُحْفَةُ لأَِهْل الشَّامِ وَمَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا كَأَهْل مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَيُحْرِمُونَ الآْنَ مِنْ رَابِغٍ قَبْل الْجُحْفَةِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 304، والبدائع 2 / 227، ومواهب الجليل 3 / 22 - 26، وشرح الزرقاني 2 / 250، والمجموع 7 / 133 - 136، ونهاية المحتاج 2 / 389 والكافي 1 / 528، ومطالب أولي النهى 2 / 301 - 302 و445.
(2) حديث عائشة: " حلت العمرة. . . ". أخرجه البيهقي (نصب الراية 3 / 146 - 147) .(30/319)
بِقَلِيلٍ، وَقَرْنُ الْمَنَازِل " وَيُسَمَّى الآْنَ السَّيْل " لأَِهْل نَجْدٍ، وَيَلَمْلَمُ لأَِهْل الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ وَالْهِنْدِ، وَذَاتُ عِرْقٍ لأَِهْل الْعِرَاقِ وَسَائِرِ أَهْل الْمَشْرِقِ.
ب) الْمِيقَاتِيُّ:
17 - وَالْمِيقَاتِيُّ: هُوَ مَنْ كَانَ فِي مَنَاطِقِ الْمَوَاقِيتِ أَوْ مَا يُحَاذِيهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ.
وَهَؤُلاَءِ مِيقَاتُهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنْشَئُوا الْعُمْرَةَ وَأَحْرَمُوا بِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: مِيقَاتُهُمُ الْحِل كُلُّهُ، وَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يُحْرِمُ مِنْ دَارِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ لاَ غَيْرُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: مِيقَاتُهُمُ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا لاَ يُجَاوِزُونَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
ج) الْحَرَمِيُّ:
18 - وَالْحَرَمِيُّ وَهُوَ الْمُقِيمُ بِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ وَالْمَكِّيُّ وَمَنْ كَانَ نَازِلاً بِمَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ، هَؤُلاَءِ مِيقَاتُهُمْ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ الْحِل، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْعُمْرَةِ عَنِ الْحَرَمِ إِلَى الْحِل وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَجَاوَزُونَ بِهَا الْحَرَمَ إِلَى الْحِل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 39 - 52 - 53) .
وَالدَّلِيل عَلَى تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ، فَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(30/320)
وَقَّتَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَِهْل الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل، وَلأَِهْل الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ (1) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا انْتَهَى الآْفَاقِيُّ إِلَى الْمِيقَاتِ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ أَوِ الْقِرَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَتُهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَأَمَّا مِيقَاتُ الْحَرَمِيِّ وَالْمَكِّيِّ لِلْعُمْرَةِ فَقَدْ خُصَّ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ حَجِّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ؟ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ (3)
اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ:
19 - مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ هِيَ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ لِلْحَجِّ، مِنْهَا:
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 384) ومسلم (2 / 838 - 839) .
(2) المجموع 7 / 206.
(3) حديث عائشة في قصة حجها. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 606) ومسلم (2 / 881) واللفظ للبخاري.(30/320)
أ) يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل: لُبْسُ الْمَخِيطِ وَكُل مَا نُسِجَ مُحِيطًا بِالْجِسْمِ أَوْ بِبَعْضِ الأَْعْضَاءِ كَالْجَوَارِبِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَضْعُ غِطَاءٍ عَلَى الرَّأْسِ وَتَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، وَلُبْسُ حِذَاءٍ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ.
ب) يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ سَتْرُ الْوَجْهِ بِسِتْرٍ يُلاَمِسُ الْبَشَرَةَ، وَلُبْسُ قُفَّازَيْنِ، وَتَلْبَسُ سِوَى ذَلِكَ لِبَاسَهَا الْعَادِيَّ.
ج) يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ الطِّيبُ وَأَيْ شَيْءٍ فِيهِ طِيبٌ، وَإِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ فِي الْجِسْمِ، وَاسْتِعْمَال الدُّهْنِ الْمُلَيِّنِ لِلشَّعْرِ أَوِ الْجِسْمِ - وَلَوْ غَيْرَ مُطَيِّبٍ - وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ، وَالصَّيْدُ وَالْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ الْمُهَيِّئَةُ لَهُ، وَالرَّفَثُ " أَيْ: الْمُحَادَثَةُ بِشَأْنِهِ " وَلْيَجْتَنِبِ الْمُحْرِمُونَ الْفُسُوقَ أَيْ: مُخَالَفَةَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَا الْجِدَال بِالْبَاطِل.
وَيَجِبُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ الْجَزَاءُ، وَفِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً فَسَادُ الْعُمْرَةِ وَالْكَفَّارَةُ وَالْقَضَاءُ، عَدَا مَا حَرُمَ مِنَ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَال فَفِيهَا الإِْثْمُ وَالْجَزَاءُ الأُْخْرَوِيُّ فَقَطْ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِحْرَام: ف 145 - 185)
مَكْرُوهَاتُ الإِْحْرَامِ:
20 - يُكْرَهُ فِي إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ مَا يُكْرَهُ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ، مِثْل تَمْشِيطِ الرَّأْسِ أَوْ حَكِّهِ بِقُوَّةٍ،(30/321)
وَكَذَا حَكُّ الْجَسَدِ حَكًّا شَدِيدًا، وَالتَّزَيُّنُ
(ر: إِحْرَام ف 95 - 98)
سُنَنُ الإِْحْرَامِ:
21 - يُسَنُّ فِي الإِْحْرَامِ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ هِيَ:
الاِغْتِسَال، وَتَطْيِيبُ الْبَدَنِ لاَ الثَّوْبِ، وَصَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، يَفْعَل هَذِهِ الثَّلاَثَةَ قَبْل الإِْحْرَامِ. ثُمَّ التَّلْبِيَةُ عَقِبَ النِّيَّةِ، وَالتَّلْبِيَةُ فَرْضٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ (ر: إِحْرَام ف 108 - 116)
وَيُسَنُّ لِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ مُنْذُ نِيَّةِ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى بَدْءِ الطَّوَافِ بِاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ الْمُعْتَمِرُ الآْفَاقِيُّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، لاَ إِلَى رُؤْيَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَالْمُعْتَمِرُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَوْ مِنَ التَّنْعِيمِ يُلَبِّي إِلَى دُخُول بُيُوتِ مَكَّةَ (1)
الرُّكْنُ الثَّانِي: الطَّوَافُ:
22 - الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَفَرْضُهُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْرْبَعَةُ فَرْضٌ، وَالثَّلاَثَةُ الْبَاقِيَةُ وَاجِبَةٌ.
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الطَّوَافِ: سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ سَائِرُ شُرُوطِ الطَّوَافِ الْعَامَّةِ،
__________
(1) انظر نقد البدائع لهذا التمييز 2 / 227.(30/321)
وَهِيَ: أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ، وَوُقُوعُ الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَشْمَل الْحِجْرَ (أَيِ الْحَطِيمَ) وَالتَّيَامُنَ، وَالطَّهَارَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ شُمُول الطَّوَافِ لِلْحِجْرِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَاجِبَاتٍ فِي الطَّوَافِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مُوَالاَةَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ.
وَيَجِبُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ: الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كِلاَ هَذَيْنِ سُنَّةٌ.
وَيُسَنُّ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ: الرَّمَل فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى، ثُمَّ يَمْشِي فِي الْبَاقِي، وَالاِضْطِبَاعُ فِيهِ كُلِّهِ، وَهَذَانِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَهَذَا طَوَافٌ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَيُسَنُّ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ قَبْل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِقَلِيلٍ، وَاسْتِقْبَال الْحَجَرِ، وَاسْتِلاَمُهُ وَتَقْبِيلُهُ إِنْ تَيَسَّرَ وَإِلاَّ اسْتَقْبَلَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدَيْهِ، وَاسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالدُّعَاءُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَوَاف ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) المسلك المتقسط ص98 و103 - 105 و108 - 112 والشرح الكبير وحاشيته 2 / 30 - 34 ومغني المحتاج 1 / 485 - 492، والمغني 2 / 370 - 385.(30/322)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: السَّعْيُ:
23 - السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحْكَامُ السَّعْيِ فِي الْعُمْرَةِ هِيَ أَحْكَامُ السَّعْيِ فِي الْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَأَنْ يَسْبِقَهُ الطَّوَافُ، وَأَنْ يَبْدَأَ السَّعْيَ بِالصَّفَا فَالْمَرْوَةِ، فَلَوْ عَكَسَ لَغَا الشَّوْطُ وَاحْتُسِبَ مِنْ عِنْدِ الصَّفَا.
وَرُكْنُ السَّعْيِ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَاقِي وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ.
وَيَجِبُ الْمَشْيُ فِي السَّعْيِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتُسَنُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ السَّعْيِ وَالطَّوَافِ، وَنِيَّةُ السَّعْيِ، وَالسَّعْيُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ، كَمَا تُسَنُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَعْي ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص118 - 122 والشرح الكبير 2 / 34 - 36 ومغني المحتاج 1 / 493 - 495، والمغني 2 / 385 - 390.(30/322)
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ:
24 - شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِفَرْضِيَّتِهَا هِيَ شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهَا وَسُنِّيَّتِهَا.
فَيُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ: الْعَقْل وَالإِْسْلاَمُ، وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَالاِسْتِطَاعَةُ، وَالاِسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ لِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ، لَكِنْ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا سُقُوطُ الْفَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ أَوْ وُجُوبِهَا، فَلَوِ اعْتَمَرَ مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ صَحَّتْ عُمْرَتُهُ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ.
وَتَتَلَخَّصُ الاِسْتِطَاعَةُ فِي مِلْكِ الزَّادِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ.
وَتَخْتَصُّ النِّسَاءُ بِشَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا: مُصَاحَبَةُ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ، وَعَدَمُ الْعِدَّةِ.
وَيُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُفْقَةُ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ عِوَضًا عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ فِي سَفَرِ الْفَرْضِ.
أَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَهُمَا شَرْطَانِ(30/323)
لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَإِجْزَائِهَا عَنِ الْفَرْضِ، فَلَوِ اعْتَمَرَ الصَّبِيُّ أَوِ الْعَبْدُ صَحَّتْ عُمْرَتُهُمَا، وَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا عَنْهُمَا عِنْدَ الْبُلُوغِ أَوِ الْعِتْقِ.
وَأَمَّا الْعَقْل وَالإِْسْلاَمُ: فَهُمَا شَرْطَانِ لِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَصِحَّتِهَا، فَلاَ تَجِبُ الْعُمْرَةُ عَلَى كَافِرٍ، وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُمَا، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ وَيُؤَدِّيَ الْمَنَاسِكَ عَنْهُ، وَيُجَنِّبَهُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ وَهَكَذَا، لَكِنْ لاَ يُصَلِّي عَنْهُ رَكْعَتَيِ الإِْحْرَامِ أَوِ الطَّوَافِ، بَل تَسْقُطَانِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُصَلِّيهِمَا عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ
(1) (ر: إِحْرَام ف 135 وَحَجّ ف 104 - 106)
وَاجِبَاتُ الْعُمْرَةِ:
25 - يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال غَيْرُهُمْ: هُوَ رُكْنٌ.
الثَّانِي: الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ رُكْنٌ.
وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ هُوَ حَلْقُ شَعْرِ جَمِيعِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُبُعُ الرَّأْسِ عَلَى الأَْقَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَثَلاَثُ شَعَرَاتٍ عَلَى الأَْقَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْحَلْقُ لِلرِّجَال أَفْضَل فِي الْعُمْرَةِ إِلاَّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص1008 ومغني المحتاج 1 / 461 - 469، والمجموع 7 / 17، والمغني 3 / 218(30/323)
لِلْمُتَمَتِّعِ، فَالتَّقْصِيرُ لَهُ أَفْضَل، لِكَيْ يُبْقِيَ شَعْرًا يَأْخُذُهُ فِي الْحَجِّ.
وَالسُّنَّةُ لِلنِّسَاءِ التَّقْصِيرُ فَقَطْ، وَيُكْرَهُ الْحَلْقُ فِي حَقِّهِنَّ؛ لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ (1)
سُنَنُ الْعُمْرَةِ:
26 - يُسَنُّ فِي الْعُمْرَةِ مَا يُسَنُّ فِي الأَْفْعَال الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ: فِي الإِْحْرَامِ وَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْحَلْقِ
مَمْنُوعَاتُ الْعُمْرَةِ:
27 - يُمْنَعُ فِي الْعُمْرَةِ مُخَالَفَةُ أَحْكَامِهَا بِحَسْبِ الْحُكْمِ الَّذِي تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ لَهُ.
فَمُحَرَّمَاتُ الْعُمْرَةِ: هِيَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَيَحْرُمُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الطَّوَافِ، أَوِ السَّعْيِ أَوِ الْحَلْقِ، عَلَى الْقَوْل بِرُكْنِيَّتِهِمَا، وَلاَ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُتِمَّ مَا تَرَكَهُ.
وَمَكْرُوهَاتُ الْعُمْرَةِ: تَرْكُ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى
__________
(1) فتح القدير 2 / 178 - 179 و352 - 353 والمسلك المتقسط ص151 - 154 و307 و308 وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 - 479، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 46، والإيضاح في مناسك الحج للنووي ص379 - 786، ومغني المحتاج 1 / 502 - 513، والمغني 3 / 435 - 442، والفروع 3 / 513، 516، 527، 528.(30/324)
وَاحِدٌ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ الإِْثْمُ عِنْدَ الْجَمْعِ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَيُكْرَهُ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ، وَلاَ تُسَمَّى كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَلاَ يَلْزَمُ جَزَاءٌ بِتَرْكِهَا.
الْمُبَاحُ فِي الْعُمْرَةِ:
28 - يُبَاحُ فِي الْعُمْرَةِ كُل مَا لاَ يُخِل بِأَحْكَامِهَا، وَخُصُوصًا أَحْكَامُ الإِْحْرَامِ الَّتِي سَبَقَتِ.
الْعُمْرَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ:
29 - تُنْدَبُ الْعُمْرَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلاَّ نَاضِحَانِ (2) ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَال: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِل حَجَّةً وَفِي رِوَايَةٍ: تَقْضِي حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي (3)
الْمَكَانُ الأَْفْضَل لإِِحْرَامِ الْمَكِّيِّ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الْحِل أَفْضَل
__________
(1) الدر المختار 2 / 207.
(2) الناضح: البعير يستقي عليه.
(3) حديث ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 603) ومسلم (2 / 917) واللفظ لمسلم، والرواية الأخرى لمسلم (2 / 918) .(30/324)
لِلإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْحْرَامَ مِنَ التَّنْعِيمِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ (1) فَهُوَ أَفْضَل تَقْدِيمًا لِدَلاَلَةِ الْقَوْل عَلَى دَلاَلَةِ الْفِعْل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ يَلِي الإِْحْرَامَ مِنَ التَّنْعِيمِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ: الإِْحْرَامُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَل، ثُمَّ مِنَ التَّنْعِيمِ ثُمَّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ (2) وَأَمَرَ عَائِشَةَ بِالاِعْتِمَارِ مِنَ التَّنْعِيمِ وَبَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ هَمَّ بِالدُّخُول إِلَيْهَا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ مَا فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ مَا هَمَّ بِهِ.
وَقَال أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ: التَّنْعِيمُ وَالْجِعْرَانَةُ مُتَسَاوِيَانِ، لاَ أَفْضَلِيَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ وُرُودُ الأَْثَرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه ف18.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 600) ومسلم (2 / 916) من حديث أنس.
(3) المسلك المتقسط ص308، وحاشية الدسوقي 2 / 22، والمنهاج للنووي وشروحه 2 / 95، والمغني 3 / 259. وكشاف القناع 2 / 516، والإنصاف 4 / 54، والفروع 3 / 379.(30/325)
الإِْكْثَارُ مِنَ الْعُمْرَةِ:
31 - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ (1) ، وَتَدُل لَهُمُ الأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْل الْعُمْرَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَل تَكْرَارَ الْعُمْرَةِ تَحُثُّ عَلَيْهِ.
وَفَصَّل ابْنُ قُدَامَةَ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الإِْكْثَارُ فَقَال: قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً، وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ، وَقَال عِكْرِمَةُ: يَعْتَمِرُ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ شَعْرِهِ، وَقَال عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَال أَحْمَدُ: إِذَا اعْتَمَرَ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ قَدَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَحْبَبْتُ لَهُ ذَلِكَ (3) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْعُمْرَةِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص308، وشرح الرسالة 1 / 428 والإيضاح ص421، والمغني 3 / 226.
(2) المغني 3 / 226.
(3) حاشية الهيثمي على الإيضاح ص421، والمجموع 7 / 136.(30/325)
فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَتُنْدَبُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَرَّةِ لَكِنْ فِي عَامٍ آخَرَ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ فِي الْعَامِ السَّنَةُ الْهِجْرِيَّةُ، فَلَوِ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ فِي الْمُحَرَّمِ لاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمَحَل كَرَاهَةِ التَّكْرَارِ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ دُخُول مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعٍ عَلَيْهِ فِيهِ إِحْرَامٌ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ؛ لأَِنَّ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ.
وَقَدِ اسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُكَرِّرْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْل مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ جَوَازِ التَّكْرَارِ، بَل قَال ابْنُ حَبِيبٍ: لاَ بَأْسَ بِهَا فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ لَوْ أَحْرَمَ بِثَانِيَةٍ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ إِجْمَاعًا، قَالَهُ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ (1) .
وَيَشْمَل اسْتِحْبَابُ الْعُمْرَةِ وَاسْتِحْبَابُ تَكْرَارِهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِيهَا، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِزَعْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، بَل
__________
(1) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 428.(30/326)
إِنَّ عُمُرَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَرْبَعٌ - كَانَتْ كُلُّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلاَّ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِل فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ (1) .
وَدَرْءًا لِمَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ تَعَارُضٍ بَيْنَ هَذَا وَمَا سَبَقَ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ رَمَضَانَ أَفْضَل بِتَنْصِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ لاِقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلاً، وَأَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ، وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا؛ لِئَلاَّ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهَا كَالْقِيَامِ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ، وَمَحَبَّتِهِ لأََنْ يَسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لاَ يَغْلِبَهُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً.
وَمَا قَالَهُ الْكَمَال يَتَّفِقُ وَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، مِنْ أَنَّ دَلاَلَةَ الْقَوْل مُقَدَّمَةٌ عَلَى
__________
(1) حديث أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 600) ومسلم (2 / 916) واللفظ لمسلم.(30/326)
دَلاَلَةِ الْفِعْل (1) .
لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الاِعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ، وَالْمُقِيمِ بِهَا، وَلأَِهْل الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، فَيُكْرَهُ لِهَؤُلاَءِ الاِعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ، فَيُصْبِحُونَ مُتَمَتِّعِينَ، وَيَلْزَمُهُمْ دَمُ جَزَاءٍ إِنْ فَعَلُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهُمُ التَّمَتُّعَ، وَيُسْقِطُونَ عَنْهُمْ دَمَ التَّمَتُّعِ أَيْضًا (2) .
(ر: تَمَتُّع ف 11 12)
. الإِْخْلاَل بِأَحْكَامِ الْعُمْرَةِ:
أَوَّلاً: تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ:
32 - يُعْتَبَرُ الْمَنْعُ مِنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ إِحْصَارًا يُبِيحُ التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَيَتَفَاوَتُ اعْتِبَارُهُ إِحْصَارًا بِاخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ، وَفِيمَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلإِْحْصَارِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ.
(انْظُرْ: إِحْصَار ف 12 - 25)
ثَانِيًا: تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ قَاهِرٍ:
33 - مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ كَالطَّوَافِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 305 والقليوبي 2 / 92.
(2) المسلك المتقسط ص124 - 125 و182 وما بعدها.(30/327)
أَوِ السَّعْيِ - عِنْدَ الْقَائِل بِرُكْنِيَّتِهِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَعَل حَرَامًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِمَا تَرَكَهُ، وَيَظَل مُحْرِمًا يَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ كُلِّهَا حَتَّى يَرْجِعَ وَيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ، وَلاَ تَفُوتُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ أَبَدًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لأَِرْكَانِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ
. ثَالِثًا: فَسَادُ الْعُمْرَةِ:
34 - لاَ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلاَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهَا، إِلاَّ بِالْجِمَاعِ قَبْل التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِهَا، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَ رُكْنَ الْعُمْرَةِ - وَهُوَ الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّهُ تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ الْمُفْسِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ؛ لأَِنَّهُ بِأَدَاءِ الرُّكْنِ أَمِنَ الْفَسَادَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْسِدَ إِنْ حَصَل قَبْل تَمَامِ سَعْيِهَا وَلَوْ بِشَوْطٍ فَسَدَتْ، أَمَّا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَمَامِ السَّعْيِ قَبْل الْحَلْقِ فَلاَ تَفْسُدُ؛ لأَِنَّهُ بِالسَّعْيِ تَتِمُّ أَرْكَانُهَا، وَالْحَلْقُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَال عِنْدَهُمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا حَصَل الْمُفْسِدُ قَبْل التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ فَسَدَتْ، وَالتَّحَلُّل يَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.(30/327)
وَيَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ مَا يَجِبُ فِي إِفْسَادِ الْحَجِّ مِنَ الاِسْتِمْرَارِ فِيهَا، وَالْقَضَاءِ، وَالْفِدَاءِ.
35 - وَاخْتَلَفُوا فِي فِدَاءِ إِفْسَادِ الْعُمْرَةِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ شَاةٌ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ أَقَل رُتْبَةً مِنَ الْحَجِّ، فَخَفَّتْ جِنَايَتُهَا، فَوَجَبَتْ شَاةٌ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ.
أَمَّا فِدَاءُ الْجِمَاعِ الَّذِي لاَ يُفْسِدُ الْعُمْرَةَ فَشَاةٌ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَدَنَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
(ر: إِحْرَام ف 174 - 175)
رَابِعًا: تَرْكُ وَاجِبٍ فِي الْعُمْرَةِ:
36 - مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْعُمْرَةِ، كَالسَّعْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَكَالْحَلْقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهَذَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَهُمْ
خَامِسًا: تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعُمْرَةِ:
37 - تَارِكُ السُّنَّةِ يُحْرِمُ نَفْسَهُ الثَّوَابَ وَالْفَضْل الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِمَنْ أَتَى بِالسُّنَّةِ، وَصَرَّحَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 241، وحاشية العدوي 1 / 486، والمجموع 7 / 381 - 382 وشرح المحلى 2 / 136، والمغني 3 / 486 وغيرها.(30/328)
الْحَنَفِيَّةُ فِي تَارِكِ السُّنَّةِ بِكَوْنِهِ مُسِيئًا، وَلاَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَلاَ فِدَاءٌ.
أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ:
38 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ؛ لأَِنَّ جَوَازَهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَالنِّيَابَةُ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالأَْمْرِ، فَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَاعْتَمَرَ جَازَ؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا أُمِرَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْعُمْرَةِ وَإِنْ وَقَعَتْ صَحَّتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا أَوْ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا بِنَفْسِهِ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ عُمْرَةٌ وَاجِبَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ بِأَنْ تَمَكَّنَ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ مِنْ فِعْلِهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ. وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى الْعُمْرَةُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ أَدَّاهَا عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلاَ إِذْنٍ.
وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ عُمْرَةِ التَّطَوُّعِ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا بِنَفْسِهِ، كَمَا فِي النِّيَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ.(30/328)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْعُمْرَةُ عَنِ الْحَيِّ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَلَمْ تَجُزْ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَتَجُوزُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 213، 214، منح الجليل 1 / 449، مغني المحتاج 1 / 468 وما بعدها، والمجموع 7 / 120، المغني لابن قدامة 3 / 234.(30/329)
عُمَرِيَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُمَرِيَّةُ - وَيُعَبِّرُ عَنْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ " لَهَا صُورَتَانِ لِمَسْأَلَةٍ فِي الْفَرَائِضِ، أَوْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ اشْتُهِرَتَا بِهَذَا الاِسْمِ نِسْبَةً إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ أَوَّل مَنْ قَضَى فِيهِمَا، وَتُسَمَّيَانِ أَيْضًا: بِالْغَرَّاوَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْكَوْكَبِ " الأَْغَرِّ " لِشُهْرَتِهِمَا وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ نَظِيرَ لَهُمَا (1) .
وَصُورَتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ أَوِ الْمَسْأَلَةِ:
1) زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ.
2) أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُمَرِيَّةِ:
2 - نَصِيبُ الأُْمِّ فِي الْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا السُّدُسُ أَوِ الثُّلُثُ، فَتَأْخُذُ السُّدُسَ فِي حَالَتَيْنِ:
1) إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ.
2) إِذَا كَانَ مَعَهَا عَدَدٌ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 19، إعلام الموقعين 1 / 357.(30/329)
وَتَأْخُذُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَكَرٍ وَتَفَرَّدَ الأَْبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ} (1) .
فَإِنْ كَانَ مَعَ الأَْبَوَيْنِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّ فَرْضَ الأُْمِّ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْعُمَرِيَّةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي فَرْضِهَا، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَرْضَهَا ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، فَفِي حَالَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَتَأْخُذُ الأُْمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ، وَيَأْخُذُ الأَْبُ الْبَاقِيَ وَهُوَ اثْنَانِ، وَفِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، فَتَأْخُذُ الزَّوْجَةُ الرُّبُعَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَتَأْخُذُ الأُْمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ، وَلِلأَْبِ مَا بَقِيَ هُوَ اثْنَانِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَاهَا الثُّلُثَ كَامِلاً إِذَا انْفَرَدَ الأَْبَوَانِ بِالْمِيرَاثِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَتَفَرُّدَهُمَا بِمِيرَاثِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) سورة النساء / 11.(30/330)
تَفَرُّدُهُمَا شَرْطًا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فَائِدَةٌ، وَكَانَ تَطْوِيلاً يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} ، فَلَمَّا قَال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عُلِمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الأُْمِّ الثُّلُثَ مَوْقُوفٌ عَلَى الأَْمْرَيْنِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ذَكَرَ أَحْوَال الأُْمِّ كُلَّهَا: نَصًّا وَإِيمَاءً فَذَكَرَ أَنَّ لَهَا السُّدُسَ مَعَ الإِْخْوَةِ أَوِ الْوَلَدِ، وَأَنَّ لَهَا الثُّلُثَ كَامِلاً مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَتَفَرُّدِ الأَْبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ بَقِيَتْ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ عَدَمُ الْوَلَدِ وَعَدَمُ تَفَرُّدِ الأَْبَوَيْنِ بِالْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ، فَإِمَّا أَنْ تُعْطَى فِي هَذَا الْحَال الثُّلُثَ كَامِلاً، وَهُوَ خِلاَفُ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (1) وَإِمَّا أَنْ تُعْطَى السُّدُسَ وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضَهَا إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ الْوَلَدِ وَمَعَ عَدَدٍ مِنَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الأَْمْرَانِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ: هُوَ الْمَال الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الأَْبَوَانِ وَلاَ يُشَارِكُهُمَا مُشَارِكٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَال كُلِّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجٌ وَلاَ زَوْجَةٌ، فَإِذَا تَقَاسَمَاهُ أَثْلاَثًا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَتَقَاسَمَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ كَذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ أَنَّ الأُْمَّ مَعَ الأَْبِ كَالْبِنْتِ مَعَ الاِبْنِ، وَالأُْخْتِ مَعَ الأَْخِ؛ لأَِنَّهُمَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَأَعْطَى اللَّهُ الأَْبَ ضِعْفَ مَا أَعْطَى الأُْمَّ
__________
(1) سورة النساء / 11.(30/330)
تَفْضِيلاً بِجَانِبِ الذُّكُورَةِ.
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الأُْمَّ تَأْخُذُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُلُثَ أَصْل التَّرِكَةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: جَعَل لَهَا أَوَّلاً: سُدُسَ التَّرِكَةِ مَعَ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لَهَا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ الثُّلُثَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا ثُلُثُ أَصْل التَّرِكَةِ أَيْضًا، وَقَدْ تَنَاظَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْعُمَرِيَّتَيْنِ فَقَال لَهُ: أَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، فَقَال زَيْدٌ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِعْطَاؤُهَا الثُّلُثَ كُلَّهُ مَعَ الزَّوْجَيْنِ (1) .
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الأَْصَمُّ: إِنَّ لِلأُْمِّ مَعَ الزَّوْجِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِ، وَمَعَ الزَّوْجَةِ ثُلُثَ أَصْل التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَعَل لَهَا مَعَ الزَّوْجِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَال لَزَادَ نَصِيبُهَا عَلَى نَصِيبِ الأَْبِ؛ لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ لاِجْتِمَاعِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ، فَيَأْخُذُ الزَّوْجُ ثَلاَثَةً، وَلِلأُْمِّ اثْنَانِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَيَبْقَى لِلأَْبِ وَاحِدٌ، وَفِي هَذَا تَفْضِيل الأُْنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَإِذَا جَعَل لَهَا ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا وَاحِدٌ، وَلِلأَْبِ اثْنَانِ، وَلَوْ جَعَل لَهَا مَعَ الزَّوْجَةِ ثُلُثَ الأَْصْل لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ التَّفْضِيل؛ لأَِنَّ الْمَسْأَلَةَ
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 1 / 357 وما بعده، ونهاية المحتاج 6 / 19.(30/331)
مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لاِجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ، فَإِذَا أَخَذَتِ الأُْمُّ أَرْبَعَةً - وَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ - بَقِيَ لِلأَْبِ خَمْسَةٌ فَلاَ تَفْضِيل لَهَا عَلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 151) .
وَالأُْمُّ تَأْخُذُ سُدُسَ التَّرِكَةِ فِي حَالَةِ الزَّوْجِ وَالأَْبَوَيْنِ، وَتَأْخُذُ الرُّبُعَ فِي حَالَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعَبِّرِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالسُّدُسِ، وَالرُّبُعِ تَأَدُّبًا مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ (2) .
عَمْشَاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
__________
(1) السراجية ص133.
(2) المصادر السابقة.(30/331)
عَمَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَمَل فِي اللُّغَةِ: الْمِهْنَةُ وَالْفِعْل، وَالْجَمْعُ: أَعْمَالٌ.
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الْعَمَل يَعُمُّ أَفْعَال الْجَوَارِحِ وَالْقُلُوبِ.
وَقَال آخَرُونَ: هُوَ إِحْدَاثُ أَمْرٍ قَوْلاً كَانَ أَوْ فِعْلاً بِالْجَارِحَةِ أَوِ الْقَلْبِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَمَل:
2 - تَعْتَرِي الْعَمَل الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَمَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ: فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا طَلَبَهُ عَلَى سَبِيل التَّرْجِيحِ فِي غَيْرِ إِلْزَامٍ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا طَلَبَ تَرْكَهُ عَلَى سَبِيل التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا خَيَّرَ الشَّارِعُ بَيْنَ عَمَلِهِ وَتَرْكِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ.
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، والكليات مادة (عمل) .
(2) الفواكه الدواني 1 / 34، 36.(30/332)
وَتَخْتَلِفُ الأَْعْمَال الَّتِي يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلَّقِهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ، فَيُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (ثَوَاب ف 13، عِقَاب، تَكْلِيف ف 4) وَغَيْرِهَا.(30/332)
عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ عِبَارَةَ (عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ) فِيمَا أَجْمَعَ عَلَى عَمَلِهِ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ فِي الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى الَّتِي وَرَدَتِ الآْثَارُ عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ الْقُرُونِ، وَتَوَارَثُوهُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ
حُجِّيَّةُ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُجِّيَّةِ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَى عَمَلٍ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِذَا اجْتَمَعَ أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلاَفِ غَيْرِهِمْ، وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَرْجِيحَ رِوَايَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَقَال بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلاَ يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُمْ، وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحِيحُ الرَّاجِحُ الَّذِي تَدُل عَلَيْهِ(30/333)
عِبَارَاتُهُمْ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَجُزْ لأَِحَدٍ أَنْ يَقُول بِخِلاَفِهِ
(1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ: فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1 / 243 وكشف الأسرار 3 / 231 وإرشاد الفحول / 82 والمستصفى 1 / 187 وحاشية العطار 2 / 212 وإعلام الموقعين 2 / 380.(30/333)
عَمٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَمُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ: أَخُو الأَْبِ، وَجَمْعُ الْعَمِّ أَعْمَامٌ وَعُمُومَةٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمِّ مِنْ أَحْكَامٍ:
تَتَعَلَّقُ بِالْعَمِّ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
فِي الإِْرْثِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ مِنَ الْعَصَبَاتِ فِي الْمِيرَاثِ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْجُبُهُ اسْتَغْرَقَ الْمَال كُلَّهُ وَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَخَذَ الْبَاقِيَ بَعْدَ أَخْذِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُ عَمٌّ آخَرُ يُسَاوِيهِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْقَرَابَةِ كَأَنْ يَكُونَا لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ يَكُونَا لأَِبٍ اقْتَسَمَا التَّرِكَةَ بِالتَّسَاوِي، وَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ عَمٌّ شَقِيقٌ مَعَ عَمٍّ غَيْرِ شَقِيقٍ أَيْ لأَِبٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني، والمعجم الوسيط.(30/334)
فَقَطْ فَإِنَّ الْعَمَّ الشَّقِيقَ يَنْفَرِدُ بِالْمَال كُلِّهِ وَيَحْجُبُ الْعَمَّ لأَِبٍ
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ لأَِبَوَيْنِ يُحْجَبُ بِالأَْبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ وَالاِبْنِ وَابْنِهِ وَإِنْ سَفَل وَأَخٍ لأَِبَوَيْنِ وَأَخٍ لأَِبٍ وَابْنِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ وَابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ وَإِنْ سَفَل، وَأَنَّ الْعَمَّ لأَِبٍ يُحْجَبُ بِهَؤُلاَءِ وَبِالْعَمِّ لأَِبَوَيْنِ، وَأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لأَِبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ وَالْعَمُّ لأَِبٍ، وَأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ وَابْنُ الْعَمِّ لأَِبَوَيْنِ.
أَمَّا عَمُّ الأَْبِ وَعَمُّ الْجَدِّ وَبَنُوهُمَا فَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِابْنِ عَمِّ الْمَيِّتِ وَإِنْ نَزَل كَمَا أَنَّ عَمَّ الأَْبِ لأَِبَوَيْنِ يَحْجُبُ عَمَّ الأَْبِ لأَِبٍ، وَابْنَ عَمِّ الأَْبِ لأَِبَوَيْنِ يَحْجُبُ ابْنَ عَمِّ الأَْبِ لأَِبٍ.
وَعَمُّ الْجَدِّ مَحْجُوبٌ بِأَبْنَاءِ عَمِّ الأَْبِ وَإِنْ سَفَلُوا وَهَكَذَا أَبَدًا لاَ يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ مِنْهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) .
وَأَمَّا الْعَمُّ لأُِمٍّ وَهُوَ أَخُو أَبِ الْمَيِّتِ لأُِمِّهِ فَهُوَ
__________
(1) حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 11) ومسلم (3 / 1233) من حديث ابن عباس.(30/334)
مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ اخْتُلِفَ فِي تَوْرِيثِهِمْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 74 وَمَا بَعْدَهَا)
فِي الْجِنَازَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعَمِّ لِوِلاَيَةِ أُمُورِ الْمَيِّتِ مِنَ الْغُسْل وَإِدْخَال الْقَبْرِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ الإِْخْوَةِ وَأَبْنَاءِ الإِْخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَنَّ الْعَمَّ الشَّقِيقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ لأَِبٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ يَأْتِي بَعْدَ الْجَدِّ (2) .
فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْعَمِّ بِالنِّسْبَةِ لأَِوْلِيَاءِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَمَّ لأُِمٍّ فَقَطْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْعَمِّ فِي النِّكَاحِ يَأْتِي بَعْدَ كُلٍّ مِنَ ابْنِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ سَفَل ثُمَّ الأَْبِ ثُمَّ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ ثُمَّ الأَْخِ الشَّقِيقِ ثُمَّ الأَْخِ لأَِبٍ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ الْعَمُّ لأَِبٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 494، والقوانين الفقهية ص383، ومغني المحتاج 2 / 12 - 19، والقليوبي وعميرة 3 / 141 - 145، والمغني لابن قدامة 6 / 178.
(2) الفواكه الدواني 1 / 335، مغني المحتاج 1 / 347.(30/335)
ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لأَِبٍ ثُمَّ عَمٌّ لأَِبٍ كَذَلِكَ ثُمَّ ابْنُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ كَذَلِكَ ثُمَّ ابْنُهُ كَذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ يَأْتِي بَعْدَ ابْنِ الْمَرْأَةِ وَابْنِهِ وَإِنْ سَفَل ثُمَّ الأَْبِ ثُمَّ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ الأَْخِ لأَِبٍ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ ثُمَّ الْجَدِّ ثُمَّ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ الْعَمِّ لأَِبٍ ثُمَّ ابْنِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنِ الْعَمِّ لأَِبٍ وَإِنْ سَفَل (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْعَمِّ فِي الأَْوْلِيَاءِ يَأْتِي بَعْدَ الأَْبِ ثُمَّ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ ثُمَّ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ الأَْخِ لأَِبٍ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ وَإِنْ سَفَل ثُمَّ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ عَمِّ الأَْبِ ثُمَّ ابْنِ الْعَمِّ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ ابْنِ الْعَمِّ لأَِبٍ وَإِنْ سَفَل (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِنِكَاحِ الْمَرْأَةِ أَبُوهَا ثُمَّ أَبُوهُ أَيْ: جَدُّهَا وَإِنْ عَلاَ ثُمَّ ابْنُهَا ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل ثُمَّ أَخُوهَا لأَِبِيهَا وَأُمِّهَا وَأَخُوهَا لأَِبِيهَا ثُمَّ أَوْلاَدُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ عَمُّهَا لأَِبَوَيْنِ وَعَمُّهَا لأَِبٍ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ عَمُّ أَبِيهَا لأَِبَوَيْنِ وَلأَِبٍ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا ثُمَّ عَمُّ جَدِّهَا لأَِبَوَيْنِ وَعَمُّ جَدِّهَا لأَِبٍ ثُمَّ بَنُوهُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 311.
(2) جواهر الإكليل 1 / 279، والقوانين الفقهية ص204.
(3) مغني المحتاج 3 / 151.(30/335)
وَإِنْ نَزَلُوا وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَلِي النِّكَاحَ بَنُو أَبٍ أَعْلَى مِنْ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ مِنْهُ وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُمْ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْبَارِ الْعَمِّ لِمُوَلِّيَتِهِ - بِنْتِ أَخِيهِ - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْعَمَّ لَيْسَ لَهُ حَقُّ إِجْبَارِ مُوَلِّيَتِهِ فَلاَ يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، وَلاَ يُزَوِّجُ كَذَلِكَ كَبِيرَةً مَجْنُونَةً سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ إِلَى أَنَّ لِلْعَمِّ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الْعَصَبَةِ بِأَنْفُسِهِمْ إِجْبَارَ الصَّغِيرَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، كَمَا أَنَّهُ لَهُ إِجْبَارُ الْكَبِيرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا إِذَا كَانَتْ مَجْنُونَةً أَوْ مَعْتُوهَةً، وَلِلصَّغِيرَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ بُلُوغِهَا، وَلِلْمَجْنُونَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ إِفَاقَتِهَا مِنَ الْجُنُونِ.
وَمِثْل الصَّغِيرَةِ عِنْدَهُمُ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ وَكَذَا الْكَبِيرُ الْمَجْنُونُ فَلِلْعَمِّ إِجْبَارُهُمَا، وَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ (2) .
__________
(1) المغني 6 / 456.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 304 - 311، ومغني المحتاج 3 / 150، وجواهر الإكليل 1 / 278، والمغني لابن قدامة 6 / 489.(30/336)
كَمَا أَنَّ لِلْعَمِّ كَغَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ الْعَصَبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الاِعْتِرَاضَ عَلَى نِكَاحِ مُوَلِّيَتِهِ إِذَا تَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَ كُفُؤٍ لَهَا بِغَيْرِ رِضًا مِنْهُ (1) .
فِي الْحَضَانَةِ:
5 - يَأْتِي تَرْتِيبُ الْعَمِّ فِي الْحَضَانَةِ كَتَرْتِيبِهِ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْدَ الْعَمَّاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَكَتَرْتِيبِهِ فِي الإِْرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِتَرْتِيبِ الرِّجَال، وَيَأْتِي تَرْتِيبُهُ بَعْدَ الأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ وَإِنْ سَفَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْعَمَّ لأُِمٍّ فَقَطْ يَشْتَرِكُ فِي الْحَضَانَةِ عِنْدَهُمْ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْعَمِّ لأَِبٍ فَقَطْ لِزِيَادَةِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ فِيهِ (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة ف 9 - 13، نَفَقَة) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 297.
(2) ابن عابدين 2 / 638، وجواهر الإكليل 1 / 409، ومغني المحتاج 3 / 453، والمغني لابن قدامة 7 / 622.(30/336)
عَمَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَمَّةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ أُخْتُ الأَْبِ (1) ، وَالْجَمْعُ عَمَّاتٌ، وَلَفْظُ الْعَمَّةِ يَشْمَل أَخَوَاتِ " الأَْجْدَادِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْعَمَّاتُ أَخَوَاتُ الأَْبِ مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلاَثِ وَأَخَوَاتُ الأَْجْدَادِ مِنْ قِبَل الأَْبِ وَمِنْ قِبَل الأُْمِّ قَرِيبًا كَانَ الْجَدُّ أَوْ بَعِيدًا وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ (2) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} (3) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَّةِ:
حُكْمُ نِكَاحِ الْعَمَّةِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ مِنَ النَّسَبِ وَمِنَ الرَّضَاعِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَحَارِمِ الْمُحَرَّمِ نِكَاحُهُنَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
__________
(1) المفردات للأصفهاني، والمعجم الوسيط.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 568 ط. الرياض.
(3) سورة النساء / 23.(30/337)
وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ. .} (1) .
وَلِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُحَرَّمَات، نِكَاح)
مِيرَاثُ الْعَمَّةِ:
3 - الْعَمَّةُ فِي النَّسَبِ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ قَبِيل ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِتَوْرِيثِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ.
وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 74) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) حديث: " لا تنكح المرأة على عمتها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 160) ومسلم (2 / 1029) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " يحرم من الرضاعة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 253) ومسلم (2 / 1072) من حديث ابن عباس. وحاشية ابن عابدين 2 / 284، وفتح القدير 2 / 363، 358، والقوانين الفقهية ص137 ط. دار القلم بيروت لبنان، والقليوبي 3 / 241، والمغني لابن قدامة 6 / 567 - 568 ط. الرياض.(30/337)
حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْعَمَّةِ:
4 - يَكُونُ لِلْعَمَّةِ حَقُّ الْحَضَانَةِ إِذَا عُدِمَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ وَمِنْهُمُ الْعَمَّةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة ف 9 وَمَا بَعْدَهَا)
نَفَقَةُ الْعَمَّةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْعَمَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْعَمَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِكُل فَقِيرٍ يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْغَنِيُّ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ لاَ بِرَحِمٍ كَخَالٍ مِمَّنْ سِوَى عَمُودَيْ نَسَبِهِ سَوَاءٌ وَرِثَهُ الآْخَرُ كَأَخٍ لِلْغَنِيِّ أَوْ لاَ كَعَمَّةٍ فَإِنَّ الْعَمَّةَ لاَ تَرِثُ ابْنَ أَخِيهَا بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ وَهُوَ يَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ، وَخَالَفَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ فَقَال:
__________
(1) حاشية العدوي 2 / 123، وروضة الطالبين 9 / 83.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 681 وما بعدها، وفتح القدير 3 / 350.(30/338)
لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلاَ تَعْصِيبٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 254، وكشاف القناع 5 / 481، والمغني 7 / 586.(30/338)
عُمُومٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُمُومُ: مَصْدَرٌ مِنْ عَمَّ يَعُمُّ عُمُومًا فَهُوَ عَامٌّ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الشُّمُول وَالتَّنَاوُل، يُقَال: عَمَّ الْمَطَرُ الْبِلاَدَ: شَمَلَهَا، وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَبِ: عَمَّهُمْ بِالْعَطِيَّةِ أَيْ شَمَلَهُمْ، وَيُقَال: خَصْبٌ عَامٌ إِذَا شَمَل الْبُلْدَانَ وَالأَْعْيَانَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ: إِحَاطَةُ الأَْفْرَادِ دُفْعَةً. وَقَال الْمَازِرِيُّ: الْعُمُومُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الأُْصُول هُوَ الْقَوْل الْمُشْتَمِل عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَامُّ:
2 - الْعَامُّ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ (3) .
__________
(1) متن اللغة، والمصباح المنير، وكشف الأسرار على المنار 1 / 110، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 398.
(2) دستور العلماء، والبحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 3 / 6.
(3) شرح البدخشي 2 / 75، وإرشاد الفحول ص105، وجمع الجوامع 1 / 398.(31/5)
وَعَرَّفَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ الْعَامَّ بِأَنَّهُ: لَفْظٌ يَتَنَاوَل أَفْرَادًا مُتَّفِقَةَ الْحُدُودِ عَلَى سَبِيل الشُّمُول. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْعَامِّ: أَنَّ الْعَامَّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَنَاوِل، وَالْعُمُومُ تَنَاوُل اللَّفْظِ لِمَا صَلَحَ لَهُ. فَالْعُمُومُ مَصْدَرٌ. وَالْعَامُّ اسْمُ فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ " لأَِنَّ الْمَصْدَرَ الْفِعْل، وَالْفِعْل غَيْرُ الْفَاعِل (1) .
ب - الْخُصُوصُ
3 - الْخُصُوصُ: كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلاً لِبَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ لاَ لِجَمِيعِهِ (2) . وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخُصُوصُ ضِدُّ الْعُمُومِ.
ج - الْمُشْتَرَكُ:
4 - الْمُشْتَرَكُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الاِشْتِرَاكِ. وَعَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِأَنَّهُ: كُل لَفْظٍ يَتَنَاوَل أَفْرَادًا مُخْتَلِفَةَ الْحُدُودِ عَلَى سَبِيل الْبَدَل، مِثْل كَلِمَةِ قُرْءٍ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ يَصْدُقُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَلَى سَبِيل الْبَدَل، وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلنَّاظِرِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ وَعَيْنِ الْمَاءِ، وَلِلنَّقْدِ
__________
(1) كشف الأسرار على المنار 1 / 110 مع نور الأنوار على المنار، والبحر المحيط 3 / 7.
(2) البحر المحيط 3 / 240.(31/5)
مِنَ الْمَال، تُطْلَقُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى سَبِيل الْبَدَل (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْعَامَّ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِذَا وَرَدَ فِي النَّصِّ لَفْظٌ عَامٌّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَا يَتَنَاوَلُهُ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلاَفِهِ.
وَاخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْعُمُومِ، وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 37، 38.(31/6)
عُمُومُ الْبَلْوَى
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُمُومِ فِي اللُّغَةِ: الشُّمُول وَالتَّنَاوُل، يُقَال: عَمَّ الْمَطَرُ الْبِلاَدَ، شَمَلَهَا، فَهُوَ عَامٌّ (1)
وَالْبَلْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الاِخْتِبَارِ وَالاِمْتِحَانِ، يُقَال: بَلَوْتُ الرَّجُل بَلْوًا وَبَلاَءً وَابْتَلَيْتُهُ: اخْتَبَرْتُهُ، وَيُقَال: بَلَى فُلاَنٌ وَابْتَلَى إِذَا امْتَحَنَ (2) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِعُمُومِ الْبَلْوَى: الْحَالَةُ أَوِ الْحَادِثَةُ الَّتِي تَشْمَل كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَيَتَعَذَّرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا (3) ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ (4) وَبَعْضُهُمْ بِالضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ، أَوْ حَاجَةِ النَّاسِ (5) .
وَفَسَّرَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومتن اللغة.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) ابن عابدين 1 / 206، والقليوبي مع شرح المنهاج 1 / 183، 184.
(4) الاختيار لتعليل المختار 1 / 34.
(5) ابن عابدين 4 / 246، وبغية المسترشدين ص133، والفتاوى الهندية 3 / 209.(31/6)
فِي عُمُومِ الأَْحْوَال (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعُمُومِ الْبَلْوَى:
بَنَى الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً وَأُصُولِيَّةً فِي مُخْتَلَفِ الأَْبْوَابِ وَالْمَسَائِل مِنْهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ:
2 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَإِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (3)
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتُهُ (4) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَسْبَابَ التَّخْفِيفِ مِنَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالإِْكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْل وَالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى وَنَحْوِهَا، وَبَيَّنُوا أَثَرَهَا فِي مُخْتَلَفِ الأَْحْكَامِ وَالْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ.
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 16.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) حديث: " بُعثت بالحنيفية السمحة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 93) تعليقًا، وأحمد (5 / 266) من حديث أبي أمامة، واللفظ لأحمد، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (1 / 94) .
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص86، 87، ولابن نجيم ص76، 77.(31/7)
وَمِنَ الرُّخَصِ الَّتِي شُرِعَتْ بِسَبَبِ الْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ جَوَازِ الصَّلاَةِ مَعَ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِل وَالْبَرَاغِيثِ، وَطِينِ الشَّارِعِ وَذَرْقِ الطُّيُورِ إِذَا عَمَّ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَطَافِ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَأَثَرِ نَجَاسَةٍ عَسُرَ زَوَالُهُ، وَالْعَفْوُ عَنْ غُبَارِ السِّرْقِينِ وَقَلِيل الدُّخَانِ النَّجَسِ وَأَمْثَالِهَا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ بَوْل الشَّخْصِ أَوْ بَوْل غَيْرِهِ الَّذِي انْتَضَحَ عَلَى ثِيَابِهِ كَرُءُوسِ إِبَرٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْعِلَّةُ الضَّرُورَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِمَّا عَلَى أَرْجُل الذُّبَابِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى النَّجَاسَةِ ثُمَّ يَقَعُ عَلَى الثِّيَابِ (2) ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ عَلَى ثِيَابِ الْقَصَّابِ، فَإِنَّ فِي التَّحَرُّزِ عَنْهُ حَرَجًا ظَاهِرًا (3) .
3 - وَمِنَ الأَْحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى طَهَارَةُ الْخُفِّ وَالنَّعْل بِالدَّلْكِ عَلَى الأَْرْضِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ، كَمَا
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص76، 77، والأشباه والنظائر للسيوطي ص86، 87،، حاشية ابن عابدين 1 / 214، 215، الاختيار لتعليل المختار 1 / 36، وجواهر الإكليل على مختصر خليل 1 / 11، 12، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 1 / 83، وروضة الطالبين 1 / 18.
(2) ابن عابدين 1 / 214.
(3) ابن عابدين 1 / 206، وجواهر الإكليل 1 / 12.(31/7)
ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (1) ، قَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَيَطْهُرُ خُفٌّ وَنَحْوُهُ، كَنَعْلٍ تَنَجَّسَ بِذِي جُرْمٍ بِدَلْكٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنْ كَانَ رَطْبًا عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ. وَهُوَ الأَْصَحُّ الْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى (2) .
وَلِعُمُومِ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل فِيهِمَا. (3)
4 - وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الأَْحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ: جَوَازُ أَكْل الْمَيْتَةِ وَمَال الْغَيْرِ مَعَ ضَمَانِ الضَّرَرِ إِذَا اُضْطُرَّ. وَأَكْل الْوَلِيِّ مِنْ مَال الْيَتِيمِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ إِذَا احْتَاجَ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الرَّدِّ بِالْخِيَارَاتِ فِي الْبَيْعِ (4) .
وَكَذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ (غَيْرِ اللاَّزِمَةِ) لأَِنَّ لُزُومَهَا يَشُقُّ، كَمَا ذَكَرَ مِنْهَا إِبَاحَةَ النَّظَرِ لِلْخُطْبَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالإِْشْهَادِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَالَجَةِ وَنَحْوِهَا (5) .
وَلِتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ وَأَمْثَالِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَيْسِير ف 48 وَمَا بَعْدَهَا،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 206، وجواهر الإكليل 1 / 12.
(2) ابن عابدين 1 / 206.
(3) حديث: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 427) من حديث أبي سعيد الخدري، وصحح إسناده النووي في المجموع (2 / 179) .
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص87.
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي ص87، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص79.(31/8)
وَحَاجَة ف 24 وَمَا بَعْدَهَا) .
5 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ جَوَازِ عَقْدِ الاِسْتِصْنَاعِ - وَهُوَ عَقْدُ مُقَاوَلَةٍ مَعَ أَهْل الصَّنْعَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَل شَيْئًا (1) - مَعَ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَعْدُومِ؛ إِلاَّ أَنَّهُ أُجِيزَ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهِ وَفِي مَنْعِهِ مَشَقَّةٌ وَإِحْرَاجٌ (2) .
وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي بَنَاهَا الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عُمُومِ الْبَلْوَى جَوَازُ إِجَارَةِ الْقَنَاةِ وَالنَّهْرِ مَعَ الْمَاءِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: جَازَ إِجَارَةُ الْقَنَاةِ وَالنَّهْرِ أَيْ مَجْرَى الْمَاءِ مَعَ الْمَاءِ تَبَعًا، بِهِ يُفْتَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى (3) .
لَكِنَّ الْمَشَقَّةَ وَالْحَرَجَ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْبَلْوَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لاَ اعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ، كَمَا فِي بَوْل الآْدَمِيِّ، فَإِنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ (4) .
ثَانِيًا: الْمَسَائِل الأُْصُولِيَّةُ:
ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ أَثَرَ عُمُومِ الْبَلْوَى فِي مَسَائِل مِنْهَا:
أ - خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى:
6 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ
__________
(1) المجلة م 124.
(2) ابن عابدين 4 / 246، وبغية المسترشدين ص133.
(3) ابن عابدين 5 / 39.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 84.(31/8)
فِيمَا تَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى، هَل يُوجِبُ الْعَمَل أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ عَامَّةُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يُقْبَل خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْكْثَرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعَمَل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، مِثْل رُجُوعِهِمْ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي وُجُوبِ الْغُسْل بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي هَذَا الْبَابِ ظَنِّيُّ الصِّدْقِ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، كَمَا إِذَا لَمْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ يُقْبَل فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنَ الْخَبَرِ. فَإِذَا قُبِل فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. مَا هُوَ دُونَ الْخَبَرِ - أَيِ الْقِيَاسِ - فَلأََنْ يُقْبَل فِيهِ الْخَبَرُ أَوْلَى (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لاَ يُثْبِتُ الْوُجُوبَ دُونَ اشْتِهَارٍ أَوْ تَلَقِّي الأُْمَّةِ بِالْقَبُول. لأَِنَّ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَكْثُرُ السُّؤَال عَنْهُ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَتَقْضِي الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا، لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَلاَ يُعْمَل بِالآْحَادِ
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3 / 16، 17، وفواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 3 / 129 - 131، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2 / 130، 135.(31/9)
فِيهِ (1) ، قَال فِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ: إِنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي اسْتِفَاضَةَ نَقْل مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَمَسِّ الذَّكَرِ لَوْ كَانَ مِمَّا تُنْتَقَضُ بِهِ الطَّهَارَةُ لأََشَاعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُخَاطَبَةِ الآْحَادِ، بَل يُلْقِيهِ إِلَى عَدَدٍ يَحْصُل بِهِ التَّوَاتُرُ أَوِ الشُّهْرَةُ مُبَالَغَةً فِي إِشَاعَتِهِ؛ لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ كَثِيرٍ مِنَ الأُْمَّةِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ. وَلِهَذَا تَوَاتَرَ نَقْل الْقُرْآنِ وَاشْتُهِرَتْ أَخْبَارُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يُشْتَهَرْ عَلِمْنَا أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ مَنْسُوخٌ (2) ، وَمِنْ أَحَادِيثِ الآْحَادِ الَّتِي لَمْ يَأْخُذْ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ لِمُخَالَفَةِ عُمُومِ الْبَلْوَى حَدِيثُ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ (3) فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَمَل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ خِلاَفَ ذَلِكَ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ، وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ شَأْنَهُمْ أَجَل مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا السُّنَّةَ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ (4) .
__________
(1) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2 / 128 - 130، وجمع الجوامع 2 / 135، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 3 / 17.
(2) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3 / 17.
(3) حديث: " الجهر بالتسمية. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 14) من حديث ابن عباس بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ " بسم الله الرحمن الرحيم ".
(4) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2 / 129، وانظر كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3 / 16، 17، 18.(31/9)
ب - قَوْل الصَّحَابَةِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ مُلْحَقٌ بِالسُّنَّةِ لِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ، لاَ فِي حَقِّ صَحَابِيٍّ آخَرَ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ وَقَوْل مُجْتَهِدٍ آخَرَ سَوَاءٌ فَلاَ يُلْحَقُ بِالسُّنَّةِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا لَمْ تَعُمَّ بَلْوَاهُ. وَأَمَّا فِيمَا عَمَّتِ الْبَلْوَى بِهِ وَوَرَدَ قَوْل الصَّحَابِيِّ مُخَالِفًا لِعَمَل الْمُبْتَلِينَ فَلاَ يَجِبُ الأَْخْذُ بِهِ بِالاِتِّفَاقِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) فواتح الرحموت مع مسلم الثبوت 2 / 186.(31/10)
عُمُومُ الْمُقْتَضَى
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُمُومِ: الشُّمُول وَالتَّنَاوُل، يُقَال: عَمَّ الْمَطَرُ الْبِلاَدَ إِذَا شَمَلَهَا فَهُوَ عَامٌّ (1) .
وَالْمُقْتَضَى: مَا اسْتَدْعَاهُ صِدْقُ الْكَلاَمِ أَوْ صِحَّتُهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، أَيْ: الأَْمْرُ غَيْرُ الْمَذْكُورِ، اُعْتُبِرَ لأَِجْل صِدْقِ الْكَلاَمِ أَوْ صِحَّتِهِ. وَلَوْلاَهُ لاَخْتَل أَحَدُهُمَا (2) .
أَوْ هُوَ: أَمْرٌ اقْتَضَاهُ النَّصُّ لِصِحَّةِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَيُقَال: الْمُقْتَضَى جَعْل غَيْرِ الْمَذْكُورِ مَذْكُورًا تَصْحِيحًا لِلْمَذْكُورِ، فَلاَ يُعْمَل النَّصُّ إِلاَّ بِشَرْطِ تَقَدُّمِهِ عَلَى النَّصِّ (3) .
2 - وَالْمُرَادُ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ تَقْدِيرَاتٌ لِتَصْحِيحِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ومتن اللغة.
(2) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت مع المستصفى 1 / 294.
(3) كشف الأسرار على المنار مع نور الأنوار 1 / 259.(31/10)
الْكَلاَمِ وَصِدْقِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمُرُ الْكُل، فَيَكُونُ مُتَنَاوِلاً لِجَمِيعِ مَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ (1) .
قَال الْبُنَانِيُّ: لاَ عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عَلَى اسْمِ الْمَفْعُول، أَيِ اللاَّزِمِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْكَلاَمُ تَصْحِيحًا لَهُ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ لاَ يَجِبُ إِثْبَاتُ جَمِيعِهَا. لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُرْفَعُ بِإِثْبَاتِ فَرْدٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
عُمُومُ الْمَجَازِ:
3 - الْمَقْصُودُ بِعُمُومِ الْمَجَازِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: إِرَادَةُ مَعْنًى مَجَازِيٍّ شَامِلٍ لِلْحَقِيقِيِّ وَغَيْرِهِ وَمُتَنَاوِلٍ لَهُ بِمَا أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْهُ (3) .
وَعُمُومُ الْمَجَازِ مُتَعَلِّقٌ بِشُمُول اللَّفْظِ، أَمَّا عُمُومُ الْمُقْتَضَى فَمُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى وَالْحُكْمِ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي كَوْنِ الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ أَوْ لاَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَضَى لاَ عُمُومَ
__________
(1) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1 / 294.
(2) حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع 1 / 402.
(3) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1 / 216.(31/11)
لَهُ؛ لأَِنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْلْفَاظِ، وَالْمُقْتَضَى مَعْنًى وَلَيْسَ لَفْظًا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَضَى يَجْرِي فِيهِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ؛ لأَِنَّ الْمُقْتَضَى عِنْدَهُمْ كَالْمَحْذُوفِ الَّذِي يُقَدَّرُ.
5 - وَقَدْ بَنَى الأُْصُولِيُّونَ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ أَحْكَامًا وَفُرُوعًا، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) لَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ؛ لأَِنَّ عَيْنَهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ حَقِيقَةً، فَلَوْ أُرِيدَ عَيْنَهُمَا لَصَارَ كَذِبًا، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ عَنْهُ (2) فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ زِيَادَةِ تَقْدِيرِ (حُكْمٍ) لِيَصِيرَ مُفِيدًا، وَصَارَ الْمَرْفُوعُ حُكْمَهُمَا، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَثْبُتُ رَفْعُ الْحُكْمِ عَامًّا فِي الآْخِرَةِ، وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعِقَابِ، وَفِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ شَرْعًا، عَمَلاً بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا الأَْصْل قَالُوا: لاَ يَقَعُ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ، وَلاَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالأَْكْل
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(2) كشف الأسرار على المنار للنسفي 1 / 265.(31/11)
مُكْرَهًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّمَا يَرْتَفِعُ بِهِ حُكْمُ الآْخِرَةِ لاَ غَيْرُ؛ لأَِنَّ الْمُقْتَضَى لاَ عُمُومَ لَهُ، وَحُكْمُ الآْخِرَةِ وَهُوَ الإِْثْمُ مُرَادٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَصِيرُ مُفِيدًا، فَتَزُول الضَّرُورَةُ، فَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى حُكْمٍ آخَرَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
عَمْيَاءُ
اُنْظُرْ: عَمًى
عَنَانٌ
اُنْظُرْ: شَرِكَة
عِنَبٌ
.
اُنْظُرْ: أَشْرِبَة، زَكَاةٌ
__________
(1) كشف الأسرار على المنار 1 / 264، 265.(31/12)
عَنَتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَنَتِ فِي اللُّغَةِ: الْخَطَأُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْهَلاَكُ. وَالإِْثْمُ وَالزِّنَا، يُقَال: أَعْنَتَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْعَنَتِ أَيِ الْمَشَقَّةِ، وَيُقَال: فُلاَنٌ يَتَعَنَّتُ فُلاَنًا وَيُعَنِّتُهُ أَيْ يُشَدِّدُ عَلَيْهِ وَيُلْزِمُهُ مَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ (1) يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأََعْنَتَكُمْ} (2) أَيْ لَوْ شَاءَ لَشَدَّدَ عَلَيْكُمْ وَتَعَبَّدَكُمْ بِمَا يَصْعُبُ عَلَيْكُمْ أَدَاؤُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي أَوْصَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (3) أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ. وَيَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُكُمْ (4) ، فَأَصْل الْعَنَتِ: الشِّدَّةُ وَالْمَشَقَّةُ، ثُمَّ اُسْتُعْمِل فِي الْهَلاَكِ وَالْفَسَادِ وَالزِّنَا (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومتن اللغة.
(2) سورة البقرة / 220، وتفسير القرطبي 3 / 66.
(3) سورة التوبة / 128.
(4) تفسير القرطبي 8 / 301.
(5) لسان العرب، والمصباح المنير.(31/12)
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: الزِّنَا وَالْفُجُورُ، وَبِهَذَا فَسَّرُوا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (1) ، أَيْ نِكَاحُ الأَْمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ (الزِّنَا) وَلَمْ يَجِدْ طَوْلاً لِنِكَاحِ الْحُرَّةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الأَْمَةِ الْمُسْلِمَةِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلاً، أَيْ قُدْرَةً عَلَى أَنْ يَنْكِحَ حُرَّةً، وَخَافَ الْعَنَتَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفًا فِيهِ (3) .
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (4)
وَمَعَ ذَلِكَ فَالصَّبْرُ عَنْ نِكَاحِ الأَْمَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5)
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) تفسير القرطبي 5 / 136، والقليوبي على شرح المنهاج 4 / 337، والحطاب 3 / 472، 473.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 597.
(4) سورة النساء / 25.
(5) سورة النساء / 25.(31/13)
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) : إِنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّكَاحِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ شُرُوطٌ. وَإِنَّ الْجَوَازَ إِذَا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي التَّحْرِيمِ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الزَّوَاجِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لأُِمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ (1) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرِّ لِلأَْمَةِ مَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ حُرَّةٍ، أَوْ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ حُرَّةً مِنَ الصَّدَاقِ - وَقِيل: الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ مَعًا - وَخَوْفُ الْعَنَتِ، أَيْ: الْوُقُوعُ فِي الزِّنَا إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ نِكَاحُ الأَْمَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْلِمَةً أَمْ كِتَابِيَّةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَلاَ خَوْفَ الْعَنَتِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأُحِل لَكُمْ مَا
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 136، 137، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 247، والمغني 6 / 597.
(2) الزرقاني 3 / 220، والحطاب وبهامشه المواق 3 / 472، 473، وروضة الطالبين 7 / 139 - 131، ومطالب أولي النهى 5 / 113.
(3) سورة النساء / 3.(31/13)
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) فَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، وَقَالُوا: إِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} (2) لاَ يَدُل عَلَى الْمَنْعِ إِلاَّ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ، وَهُمَا لَيْسَا بِحُجَّةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْحُجِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، لاَ عَلَى التَّحْرِيمِ (3) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ نِكَاحِ الأَْمَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخَافُ عَنَتًا وَهُوَ وَاجِدٌ لِلطَّوْل، قَال: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ (4) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الأَْمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِوَلَدِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إِلاَّ مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ، كَمَا قَال الْمَرْغِينَانِيُّ (5) ، وَلأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (6) .
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) سورة النساء / 25.
(3) فتح القدير 3 / 376.
(4) الحطاب 3 / 472.
(5) فتح القدير 2 / 371.
(6) المغني لابن قدامة 6 / 610.(31/14)
عَنْفَقَةٌ
اُنْظُرْ: لِحْيَة
عُنَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُنَّةُ فِي اللُّغَةِ: عَجْزٌ يُصِيبُ الرَّجُل فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، يُقَال: عَنَّ عَنِ امْرَأَتِهِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُنِعَ عَنْهَا بِالسِّحْرِ.
وَالْعُنَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الاِعْتِرَاضِ، كَأَنَّ الْعِنِّينَ اعْتَرَضَهُ مَا يَحْبِسُهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَسُمِّيَ عِنِّينًا لأَِنَّهُ يَعِنُّ ذَكَرُهُ لِقُبُل الْمَرْأَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَلاَ يَقْصِدُهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْعُنَّةُ هِيَ الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُل لِعَدَمِ انْتِشَارِ الآْلَةِ (2) ، وَسُمِّيَ الْعِنِّينُ بِذَلِكَ لِلِينِ ذَكَرِهِ وَانْعِطَافِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَانِ الدَّابَّةِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده، والمعجم الوسيط مادة عنن.
(2) أسنى المطالب شرح روض الطالب 3 / 176.
(3) القليوبي 3 / 261، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 309، 314، ومغني المحتاج 3 / 202، والمغني والشرح الكبير 7 / 606.(31/14)
وَيَشْمَل الْعِنِّينُ مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَعَنَّ عَنْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى، بَل لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَوَطِئَ ثَلاَثًا مِنْهُنَّ ثُمَّ عَنَّ عَنِ الرَّابِعَةِ كَانَ عِنِّينًا بِالنِّسْبَةِ لَهَا، وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْحَالَةُ لاِنْحِبَاسِ الشَّهْوَةِ عَنِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِسَبَبِ نَفْرَةٍ أَوْ حَيَاءٍ، وَيَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهَا لِمَيْلٍ أَوْ أُنْسٍ، أَمَّا الْعَجْزُ خِلْقَةً وَجِبِلَّةً فَلاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النِّسْوَةِ (1) ، وَيَشْمَل مَنْ عَجَزَ عَنِ الْبِكْرِ وَقَدَرَ عَلَى الثَّيِّبِ، وَيَشْمَل مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُبُل وَقَدَرَ عَلَى الدُّبُرِ، وَيَشْمَل الْخَصِيَّ مَقْطُوعَ الأُْنْثَيَيْنِ إِذَا وُجِدَتِ الْعُنَّةُ عِنْدَهُ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ بِالْخِصَاءِ، أَوْ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِهِ وَوَجَدَتْهُ مَعَ الْخِصَاءِ عِنِّينًا، وَيَشْمَل مَقْطُوعَ الذَّكَرِ إِذَا بَقِيَ قَدْرُ رَأْسِ الذَّكَرِ فَأَكْثَرُ وَعَجَزَ عَنِ الْجِمَاعِ بِهِ (2) .
وَالْعِنِّينُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُسَمَّى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُعْتَرِضُ، وَالْمُعْتَرِضُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْعِنِّينِ كَمَا سَبَقَ، أَمَّا لَفْظُ الْعِنِّينِ فَيُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ كَانَ ذَكَرُهُ صَغِيرًا جِدًّا كَالزِّرِّ لاَ يُمْكِنُ الْجِمَاعُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 297، والإنصاف 8 / 190، المغني 7 / 606.
(2) روضة الطالبين 7 / 195، 196، ومطالب أولي النهى 5 / 145.(31/15)
بِهِ (1) ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَنِ الْمُعْتَرِضِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَبُّ:
2 - الْجَبُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْصِل ذَكَرُهُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: قَطْعُ الذَّكَرِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ الْوَطْءُ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ: أَنَّ عَدَمَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْجَبِّ يَكُونُ لِقَطْعِ الذَّكَرِ، وَالْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعُنَّةِ لِعَدَمِ الاِنْتِشَارِ (3) .
ب - الْخِصَاءُ:
3 - الْخِصَاءُ: فَقْدُ الْخُصْيَتَيْنِ خِلْقَةً أَوْ بِقَطْعٍ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ: أَنَّ الْعُنَّةَ تَكُونُ بِعَدَمِ انْتِشَارِ الآْلَةِ، أَمَّا الْخِصَاءُ فَلاَ يَمْنَعُ مِنَ انْتِشَارِ الآْلَةِ.
__________
(1) الخرشي 3 / 240، والشرح الصغير 1 / 445.
(2) النهاية لابن الأثير، وتهذيب الأسماء واللغات، والمغرب، وفتح القدير 4 / 128، والقليوبي 3 / 261، وكشاف القناع 5 / 105.
(3) نهاية المحتاج 6 / 303.
(4) المغرب، والقليوبي 2 / 197، وأسنى المطالب 3 / 176.(31/15)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُنَّةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْعُنَّةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
ثُبُوتُ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ:
4 - الْعُنَّةُ عَيْبٌ يَجْعَل لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ فِي طَلَبِ الْفُرْقَةِ عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ إِمْهَال الزَّوْجِ سَنَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالْمَجْدُ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ فِي الْحَال (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّل الْعِنِّينَ سَنَةً (3) وَلأَِنَّ مَقْصُودَ الزَّوْجَةِ أَنْ تَسْتَعِفَّ بِالزَّوَاجِ وَتَحْصُل بِهِ صِفَةُ الإِْحْصَانِ لِنَفْسِهَا، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ أَصْلاً يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ رَفْعِ الْعَقْدِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِالْعُيُوبِ لِفَوَاتِ مَالِيَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَفَوَاتُ مَقْصُودِ النِّكَاحِ أَوْلَى (4) ، وَلأَِنَّ الْعُنَّةَ كَقَطْعِ الذَّكَرِ فِي الرَّجُل، وَانْسِدَادِ الْفَرَجِ فِي الْمَرْأَةِ (5) .
__________
(1) فتح القدير4 / 298، ومغني المحتاج 3 / 203، والمغني 7 / 603.
(2) الإنصاف 8 / 187.
(3) المبسوط 5 / 100، 101.
(4) حاشية عميرة 3 / 261.
(5) المغني 7 / 603.(31/16)
ثُبُوتُ الْعُنَّةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْعُنَّةُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُنَّةَ تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِعَدَمِ الْوُصُول إِلَيْهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْوُصُول إِلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ حَقِّ الْفُرْقَةِ، وَالأَْصْل السَّلاَمَةُ فِي الْجِبِلَّةِ، فَإِنْ حَلَفَ بَطَل حَقُّهَا وَإِنْ نَكَل يُؤَجَّل سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ أُجِّل سَنَةً لِظُهُورِ كَذِبِهِ، وَإِنْ قُلْنَ: هِيَ ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الزَّوْجُ. فَإِنْ حَلَفَ لاَ حَقَّ لَهَا. وَإِنْ نَكَل يُؤَجَّل سَنَةً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا عُنَّةً فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا يُؤَجَّل سَنَةً وَإِنْ أَنْكَرَهَا فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَصُدِّقَ فِي نَفْيِهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إِلَى الْبِكْرِ، وَيُدَيَّنَّ فِي الثَّيِّبِ، وَقِيل: لاَ يُدَيَّنَّ فِيهَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِإِقْرَارِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 130، 131.
(2) البهجة شرح التحفة 1 / 313، 316.(31/16)
الزَّوْجِ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْحُقُوقِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُقَامُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَكَذَا تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِيَمِينِهَا الْمَرْدُودَةِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ الْعُنَّةَ وَنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ فِي الأَْصَحِّ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهَا الْحَلِفُ لأَِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْمُمَارَسَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَيْهَا وَيَقْضِي بِنُكُولِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَثْبُتُ الْعُنَّةُ بِالإِْقْرَارِ بِهَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِقْرَارٌ وَلاَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَجْزَ زَوْجِهَا لِعُنَّةٍ فَأَنْكَرَ، وَالْمَرْأَةُ عَذَارٌ فَالْقَوْل قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ هَذَا أَمْرٌ لاَ يُعْلَمُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالأَْصْل السَّلاَمَةُ.
وَقَال الْقَاضِي: هَل يُسْتَحْلَفُ أَوْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ أَوْ أَنْكَرَ وَطَلَبَتْ يَمِينَهُ فَنَكَل ثَبَتَ عَجْزُهُ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ الْعُنَّةِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا عِنِّينٌ لاَ يَصِل إِلَيْهَا وَثَبَتَتْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 205.
(2) المغني مع الشرح الكبير 7 / 604، ومطالب أولي النهى 5 / 142.(31/17)
عُنَّتُهُ أُجِّل سَنَةً، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُؤَجَّل سَنَةً إِلاَّ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ. فَإِنْ سَكَتَتْ لَمْ تُضْرَبِ الْمُدَّةُ، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهَا لِدَهْشَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهْلٍ، فَلاَ بَأْسَ بِتَنْبِيهِهَا (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال فِي النِّهَايَةِ: أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَاعِدَةِ الْبَابِ (2) ، وَبِأَنَّ التَّأْجِيل لإِِبْلاَءِ الْعُذْرِ، وَتَأْجِيل السَّنَةِ عُذْرٌ كَافٍ (3) ، وَبِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ يَكُونُ لِعُنَّةٍ وَقَدْ يَكُونُ لِمَرَضٍ، فَضُرِبَتِ السَّنَةُ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عُنَّةٌ لاَ مَرَضٌ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِل إِلَيْهَا عُلِمَ أَنَّهُ لآِفَةٍ أَصْلِيَّةٍ (4) ، فَقَدْ تَكُونُ عِلَّةُ الْعَجْزِ هِيَ الرُّطُوبَةُ فَيَسْتَطِيعُ فِي فَصْل الْحَرِّ، وَالْعَكْسُ، أَيْ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ بُرُودَةٍ أَزَالَهُ حَرُّ الصَّيْفِ، أَوْ مِنْ رُطُوبَةٍ أَزَالَهُ يُبْسُ الْخَرِيفِ، أَوْ مِنْ حَرَارَةٍ أَزَالَهُ بَرْدُ الشِّتَاءِ، أَوْ مِنْ يُبْسٍ أَزَالَتْهُ رُطُوبَةُ الرَّبِيعِ، عَلَى مَا عُلِمَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 130، 131، والبهجة 4 / 168، والروضة 7 / 198، ومغني المحتاج 3 / 206، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 604.
(2) مغني المحتاج 3 / 206.
(3) المبسوط 5 / 100، 101، والعقود الدرية 1 / 30.
(4) الاختيار 3 / 159.(31/17)
عَادَةً (1) ، أَوْ رُبَّمَا أَثَّرَ الدَّوَاءُ فِي فَصْلٍ دُونَ فَصْلٍ (2) ، وَيُعَالِجُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَعِلَّةُ تَبَيُّنِ الْعَجْزِ الْخُلُقِيِّ أَوِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ هِيَ عِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَيُعْمَل بِهَا حَتَّى فِي حَالَةِ التَّخَلُّفِ أَحْيَانًا، كَحَالَةِ مَنْ أَتَى زَوْجَةً دُونَ أُخْرَى (3) .
الَّذِي يَحْكُمُ بِالتَّأْجِيل:
7 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالتَّأْجِيل (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْكُمُ بِالتَّأْجِيل قَاضِي مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ أَجَّلَتْهُ الْمَرْأَةُ، أَوْ أَجَّلَهُ غَيْرُ الْقَاضِي لاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّأْجِيل (5) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْجِيل مِنَ الأَْمِيرِ الَّذِي يُوَلِّي الْقَاضِيَ وَمِنْ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ قَاضٍ (6) .
__________
(1) الاختيار 3 / 159.
(2) المبسوط 5 / 102، والخرشي 3 / 240.
(3) شرح البهجة 4 / 168.
(4) حاشية القليوبي 3 / 264، ونهاية المحتاج 6 / 314، وكشاف القناع 5 / 106.
(5) المبسوط 5 / 102، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 30، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندسة 1 / 410.
(6) المدونة الكبرى 2 / 265 - 266.(31/18)
حُكْمُ التَّأْجِيل لِمَنْ بِهِ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَجْزَهُ عَنِ الْوَطْءِ لِعَارِضٍ مِنْ صِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ يَرْجُو زَوَالَهُ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ يَزُول، وَالْعُنَّةُ خِلْقَةٌ وَجِبِلَّةٌ لاَ تَزُول، وَإِنْ كَانَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ ضُرِبَتْ لَهُ الْمُدَّةُ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِجَبٍّ أَوْ شَلَلٍ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ مَيْئُوسٌ مِنْهُ وَلاَ مَعْنَى لاِنْتِظَارِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ مَا يُمْكِنُ الْوَطْءُ بِهِ فَالأَْوْلَى ضَرْبُ الْمُدَّةِ لَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِنِّينِ خِلْقَةً (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: لَوِ اُعْتُبِرَ عُلِمَ فَلاَ يُؤَجَّل سَنَةً؛ لأَِنَّ التَّأْجِيل لَيْسَ إِلاَّ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ عِنِّينٌ عَلَى مَا قَالُوا. وَإِلاَّ فَلاَ فَائِدَةَ فِيهِ إِنْ أُجِّل مَعَ ذَلِكَ، لَكِنَّ التَّأْجِيل لاَ بُدَّ مِنْهُ لأَِنَّهُ حُكْمُهُ، إِذِ التَّفْرِيقُ سَبَبُ إِبْلاَءِ الْعُذْرِ وَهُوَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّنَةِ (2) .
وَقَال الشَّبْرَامُلْسِيُّ: إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ ضَرْبِ السَّنَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ نَاطَ الْحُكْمَ بِهَا (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 7 / 606.
(2) فتح القدير 4 / 302، والاختيار 3 / 159.
(3) نهاية المحتاج 6 / 308.(31/18)
الْمُرَادُ بِالسَّنَةِ:
9 - تَعَارَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَتِ الأَْشْهُرُ فَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْهِلاَلِيَّةُ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّنَةِ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ السَّنَةِ انْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِخِلاَفِهِ (1) ، وَقَال صَاحِبُ الإِْنْصَافِ: الْمُرَادُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا هِلاَلِيَّةً. قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُوَ هَذَا، وَلَكِنْ تَعْلِيلُهُمْ بِالْفُصُول يُوهِمُ خِلاَفَ ذَلِكَ (2) .
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: السَّنَةُ قَدْ فُسِّرَتْ بِالشَّمْسِيَّةِ أَخْذًا بِالاِحْتِيَاطِ، فَرُبَّمَا تَزُول الْعِلَّةُ فِي الأَْيَّامِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا التَّفْسِيرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ وَتُعْتَبَرُ بِالأَْيَّامِ (3) ، وَتَزِيدُ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا (4) .
وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّنَةِ هُنَا هِيَ الشَّمْسِيَّةُ الرُّومِيَّةُ، وَأَنَّهَا هِيَ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُول الأَْرْبَعَةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ الطِّبَاعُ بِاخْتِلاَفِهَا، بِخِلاَفِ الْهِلاَلِيَّةِ، قَال صَاحِبُ الإِْنْصَافِ: الْخَطْبُ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَالْمُدَّةُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 302، والاختيار 3 / 159، ومنتهى الإرادات 2 / 186.
(2) الإنصاف 8 / 188.
(3) المبسوط 5 / 101، والفتاوى الخانية 1 / 410.
(4) الاختيار 3 / 159.(31/19)
مُتَقَارِبَةٌ، فَإِنَّ زِيَادَةَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ عَلَى السَّنَةِ الْهِلاَلِيَّةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَرُبُعَ يَوْمٍ أَوْ خُمُسَ يَوْمٍ (1) .
بَدْءُ أَجَل الْعِنِّينِ:
10 - يُعْتَبَرُ بَدْءُ السَّنَةِ مِنْ وَقْتِ ضَرْبِ الْقَاضِي الأَْجَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَضَرْبُ السَّنَةِ ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدِ ابْتَدَأَهَا هُوَ مِنْ وَقْتِ ضَرْبِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى مَا فَعَلَهُ (2) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتَرَافَعَا وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ يَوْمِ التَّرَاضِي بِهَا (3) ، فَإِنْ كَانَ بَدْءُ السَّنَةِ بَدْءَ شَهْرٍ اُحْتُسِبَتِ السَّنَةُ بِالأَْشْهُرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَدْءَ شَهْرٍ اُحْتُسِبَ مَا بَعْدَهُ بِالأَْشْهُرِ، وَأَكْمَل هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا (4) .
نَقْصُ السَّنَةِ:
11 - قَدْ تُوجَدُ مَوَانِعُ مِنَ الْجِمَاعِ فِي السَّنَةِ غَيْرَ مَانِعِ الْعُنَّةِ، وَتَسْتَغْرِقُ هَذِهِ الْمَوَانِعُ أَوْقَاتًا فِي السَّنَةِ، فَهَل يُضَافُ إِلَى السَّنَةِ أَوْقَاتٌ تُقَابِلُهَا أَمْ لاَ؟
__________
(1) الإنصاف 8 / 188.
(2) المبسوط 5 / 101، شرح البهجة 4 / 168، ونهاية المحتاج 6 / 314، والمغني 7 / 605.
(3) الخرشي 3 / 240.
(4) نهاية المحتاج 6 / 315.(31/19)
فَمِنْ هَذِهِ الْمَوَانِعِ الْحَيْضُ وَالصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُعْطَى الزَّوْجُ بَدَلاً عَنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالصَّوْمِ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدَّرُوا الأَْجَل بِسَنَةٍ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ السَّنَةَ لاَ تَخْلُو مِنْ هَذِهِ عَادَةً.
أَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي يُمْنَعُ الْجِمَاعَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهَا فَلاَ يُحْتَسَبُ؛ لأَِنَّ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الْبَابَرْتِيُّ: وَعَلَيْهِ فَتْوَى الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال: إِذَا كَانَ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الشَّهْرِ لاَ تُحْسَبُ مُدَّةُ الْمَرَضِ عَلَى الزَّوْجِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهَا، وَيُعْطَى بَدَلاً مِنْهَا مِنَ الْعَامِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ أَقَل مِنْ نِصْفِ الشَّهْرِ يُحْسَبُ عَلَى الزَّوْجِ قِيَاسًا عَلَى أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ غَشَيَانُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ عَفْوٌ لاَ يُعْطَى بَدَلاً مِنْهُ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ الْمَرَضُ الأَْقَل مِنَ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمًا.
__________
(1) المبسوط 5 / 102، 103، فتح القدير 4 / 303، والفتاوى الخانية 1 / 410.(31/20)
وَقَال مُحَمَّدٌ: أَقَل مِنْ شَهْرٍ لاَ يُعْطَى بَدَلُهُ، أَمَّا الشَّهْرُ فَيُعْطَى بَدَلُهُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، يُعْطَى الزَّوْجُ مُدَّةً بَدَلاً مِنْ مُدَّةِ حَجِّهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ تَمَامِ حَجِّهَا. وَلِذَلِكَ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُحْرِمَةً عِنْدَ رَفْعِ أَمْرِهَا لِلْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْرِبُ لِلزَّوْجِ أَجَلاً حَتَّى تَفْرُغَ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلاَ يَكُونُ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ جِمَاعِهِ لَهَا (2) ، وَإِنْ حَجَّ الزَّوْجُ اُحْتُسِبَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ حَجِّهِ لأَِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَهُ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ (3)
وَإِذَا رَفَعَتِ الزَّوْجَةُ خُصُومَتَهَا وَالزَّوْجُ مُظَاهِرٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ ضُرِبَ لَهُ الأَْجَل لِيَبْدَأَ فِي الْحَال، وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ أُمْهِل لَهُ بَدْءُ الأَْجَل شَهْرَيْنِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ مَمْنُوعٌ مِنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ، أَمَّا إِذَا ظَاهَرَ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَثْنَاءَ الأَْجَل، وَكَفَّرَ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ لاَ يُجَامِعُ فِيهِمَا بِمَنْعِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْطَى بَدَلاً
__________
(1) الفتاوى الخانية 1 / 410.
(2) المبسوط 5 / 102، 103، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 411.
(3) فتح القدير 4 / 303، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 411.(31/20)
مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَلاَّ يُظَاهِرَ مِنْهَا.
وَمِثْل الْحَجِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْغِيَابُ وَالْهُرُوبُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَرِضَ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالأَْجَل جَمِيعَ السَّنَةِ أَوْ بَعْضَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ يَقْدِرُ فِي مَرَضِهِ هَذَا عَلَى عِلاَجٍ أَوْ لاَ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى السَّنَةِ، بَل يُطَلِّقُ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ اعْتَزَلَتْ زَوْجَةُ الْعِنِّينِ زَوْجَهَا أَوْ مَرِضَتْ أَوْ حُبِسَتْ فِي الْمُدَّةِ جَمِيعِهَا لَمْ تُحْسَبِ الْمُدَّةُ وَتُسْتَأْنَفُ سَنَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ سَافَرَتْ حُسِبَتْ عَلَى الأَْصَحِّ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ الأَْذْرَعِيُّ فِي حَبْسِهِ وَمَرَضِهِ وَسَفَرِهِ كُرْهًا عَدَمَ حُسْبَانِهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَإِذَا عَرَضَ مَا يَمْنَعُ الاِحْتِسَابَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ وَزَال فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّنَةَ أَوْ يَنْتَظِرَ مِثْل ذَلِكَ الْفَصْل فِي السَّنَةِ الأُْخْرَى (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أُجِّل سَنَةً لِعُنَّتِهِ فَلاَ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَا اعْتَزَلَتْهُ الْمَرْأَةُ لَهُ بِالنُّشُوزِ أَوْ غَيْرِهِ لأَِنَّ الْمَانِعَ
__________
(1) الاختيار 3 / 160.
(2) الشرح الصغير 1 / 426.
(3) روضة الطالبين 7 / 199، ونهاية المحتاج 6 / 310.(31/21)
مِنْهَا، وَلَوْ عَزَل الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَنْهَا أَوْ سَافَرَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا حُسِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَّةِ (1) .
الاِخْتِلاَفُ فِي الْوَطْءِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا:
12 - إِذَا أُجِّل الزَّوْجُ الَّذِي ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَطْءِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أُجِّل وَمَضَتِ السَّنَةُ فَاخْتَلَفَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ النِّسَاءُ إِلَيْهَا فَإِنْ قُلْنَ: بِكْرٌ خُيِّرَتْ لِلْحَال بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالْفُرْقَةِ. وَإِنْ قُلْنَ: ثَيِّبٌ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَل خُيِّرَتْ وَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ. وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الأَْصْل فَاخْتُلِفَ قَبْل التَّأْجِيل أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْل لَهُ. فَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ وَلَوْ نَكَل أُجِّل وَخُيِّرَتْ بَعْدَهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أُجِّل الْمُعْتَرِضُ وَادَّعَى الْوَطْءَ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي الأَْجَل، أَوْ بَعْدَ الأَْجَل: أَنَّهُ وَطِئَ فِي الأَْجَل، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ نَكَل حَلَفَتْ وَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهَا، فَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ بَقِيَتْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 106، 107.
(2) فتح القدير 4 / 131.(31/21)
زَوْجَةً (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلزَّوْجِ فَإِنْ قَال: وَطِئْتُ حَلَفَ بَعْدَ طَلَبِهَا أَنَّهُ وَطِئَ كَمَا ذُكِرَ. وَإِنَّمَا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْوَطْءِ لِعُسْرِ بَيِّنَتِهِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَالأَْصْل السَّلاَمَةُ وَدَوَامُ النِّكَاحِ، هَذَا فِي الثَّيِّبِ أَمَّا الْبِكْرُ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا فَالْقَوْل قَوْلُهَا لِلظَّاهِرِ. فَإِنْ نَكَل حَلَفَتْ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ هُوَ بِذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُجِّل الْعِنِّينُ سَنَةً وَادَّعَى الْوَطْءَ فِي الْمُدَّةِ فَالْقَوْل قَوْلُهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَشَهِدَتْ ثِقَةٌ بِبَقَاءِ بَكَارَتِهَا عَمَلاً بِالظَّاهِرِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَادَّعَى وَطْأَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ عُنَّتِهِ وَأَنْكَرَتْهُ فَالْقَوْل قَوْلُهَا لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْوَطْءِ (3) .
التَّفْرِيقُ بِالْعُنَّةِ:
13 - قَال كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُجَامِعِ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ، وَاخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 282.
(2) مغني المحتاج 3 / 206 - 207.
(3) كشاف القناع 5 / 108.(31/22)
عَدَمَ اسْتِمْرَارِ الزَّوَاجِ، أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ أَنْ يُطَلِّقَهَا. فَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُول: فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا، وَلاَ يَكْفِي فِي الْفُرْقَةِ اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ عَدَمَ الاِسْتِمْرَارِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ فِيهِ مَعْصُومٌ، فَلاَ يَزُول إِلاَّ بِإِزَالَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لَكِنْ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنِ الأَْوَّل بِالْعُنَّةِ. وَلاَ يُمْكِنُ الْقَاضِي النِّيَابَةَ فِيهِ. فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ، لأَِنَّهُ نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَلاَ تَبِينُ بِدُونِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلأَِنَّ الْفَسْخَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ أَوْ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا ثَبَتَ اعْتِرَاضُ الزَّوْجِ بَعْدَ الأَْجَل فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلاَقِ، فَيَأْمُرُهُ
__________
(1) المبسوط 5 / 102، والفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 411.(31/22)
الْحَاكِمُ بِالطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقِيل: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَقِيل: يَأْمُرُ الْحَاكِمُ الزَّوْجَةَ بِإِيقَاعِ الطَّلاَقِ، فَتَقُول لِلزَّوْجِ: طَلَّقْتُ نَفْسِي مِنْكَ، فَيَكُونُ بَائِنًا، ثُمَّ يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لِيَرْفَعَ خِلاَفَ مَنْ لاَ يَرَى أَمْرَ الْقَاضِي لَهَا حُكْمًا، وَلِلزَّوْجَةِ الرِّضَا بِالْبَقَاءِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ، وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَطْلُبَ الطَّلاَقَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلْعِنِّينِ وَرُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي فَإِنْ قَال الزَّوْجُ: وَطِئْتُ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَل حَلَفَتْ، فَإِنْ حَلَفَتْ أَوْ أَقَرَّ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ كَمَا يَسْتَقِل بِالْفَسْخِ مَنْ وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا، وَإِنَّمَا تُفْسَخُ بَعْدَ قَوْل الْقَاضِي لَهَا: ثَبَتَتِ الْعُنَّةُ أَوْ ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ فَاخْتَارِي، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَقِيل: لاَ تَسْتَقِل بِالْفَسْخِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي لَهَا بِالْفَسْخِ أَوْ إِلَى فَسْخِهِ؛ لأَِنَّهُ مَحَل نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَيَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِذْنٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 282، 283.
(2) مغني المحتاج 3 / 207.(31/23)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا انْقَضَى الأَْجَل الْمُحَدَّدُ لِلْعِنِّينِ وَلَمْ يَطَأْ فِيهِ فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لأَِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا فَتَفْسَخَ هِيَ، وَلاَ يَفْسَخُ حَتَّى تَخْتَارَ الْفَسْخَ وَتَطْلُبَهُ؛ لأَِنَّهُ لَحِقَهَا، فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ (1) .
الْفُرْقَةُ بِالْعُنَّةِ فَسْخٌ أَمْ طَلاَقٌ:
14 - الْفُرْقَةُ بِالْعُنَّةِ طَلاَقٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحَقَّ الَّذِي عَلَى الزَّوْجِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا - وَهُوَ الإِْمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ - تَعَيَّنَ الآْخَرُ وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ هَذَا التَّسْرِيحِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيهِ، وَالتَّسْرِيحُ طَلاَقٌ، وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَالطَّلاَقُ بَائِنٌ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل بِالطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، إِذِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ ظُلْمِ الزَّوْجَةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا لَرَاجَعَهَا قَهْرًا عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ الظُّلْمُ؛ وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَكُونُ رَجْعِيًّا إِلاَّ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 7 / 605.(31/23)
إِذَا كَانَ فِي عِدَّةٍ وَاجِبَةٍ بَعْدَ حَقِيقَةِ الدُّخُول وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا (1) ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ التَّامَّ النَّافِذَ اللاَّزِمَ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ تَطْلِيقٌ؛ لأَِنَّهَا لَوْ شَاءَتْ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ أَقَامَتْ وَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَلَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَتْ تَطْلِيقَةً. وَهُمَا كَانَا يَتَوَارَثَانِ قَبْل أَنْ تَخْتَارَ فِرَاقَهُ (3) ، فَيَأْمُرُ الْحَاكِمُ الزَّوْجَ أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ طَلَّقَ الْحَاكِمُ طَلْقَةً بَائِنَةً، أَوْ يَأْمُرُ الزَّوْجَةَ بِإِيقَاعِ الطَّلاَقِ فَتُوقِعُهُ ثُمَّ يَحْكُمُ بِذَلِكَ، وَفَائِدَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا أَوْقَعَتْهُ الْمَرْأَةُ صَيْرُورَتُهُ بَائِنًا، وَقَال الْعَدَوِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ بَل هُوَ بَائِنٌ لِكَوْنِهِ قَبْل الْبِنَاءِ، بَل الْحُكْمُ لِرَفْعِ خِلاَفِ مَنْ لاَ يَرَى أَمْرَ الْقَاضِي لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالْعُنَّةِ تُعْتَبَرُ فَسْخًا لاَ طَلاَقًا (5) .
__________
(1) المبسوط 5 / 102، والاختيار 3 / 159، ومختصر الطحاوي ص183.
(2) العناية بهامش فتح القدير 4 / 300.
(3) المدونة 2 / 265.
(4) الخرشي3 / 241.
(5) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 261، والمغني 7 / 185 طبعة القاهرة.(31/24)
الإِْنْجَابُ قَبْل سَنَتَيْنِ:
15 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ الزَّوْجِ الْعِنِّينِ وَزَوْجَتِهِ وَهُوَ يَقُول: إِنَّهُ جَامَعَهَا، ثُمَّ أَنْجَبَتِ الزَّوْجَةُ قَبْل أَنْ يَكْتَمِل مُرُورُ سَنَتَيْنِ عَلَى التَّفْرِقَةِ، فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ، وَيَعْنِي هَذَا أَنَّهُ جَامَعَهَا وَأَنَّ التَّفْرِقَةَ الَّتِي حَكَمَ بِهَا بَاطِلَةٌ (1) .
الشَّهَادَةُ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجَةِ قَبْل التَّفْرِقَةِ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجَةِ قَبْل التَّفْرِيقِ بِأَنَّهُ جَامَعَهَا، بَطَل تَفْرِيقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، لَكِنْ إِذَا كَانَ إِقْرَارُهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ أَنَّهُ كَانَ جَامَعَهَا قَبْل التَّفْرِيقِ فَإِنَّ إِقْرَارَهَا لاَ يُقْبَل؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي ذَلِكَ (2) .
اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الاِسْتِمْرَارَ فِي النِّكَاحِ:
17 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَارَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِحَالِهِ صَرَاحَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ، وَمِثْلُهُ الاِخْتِيَارُ بِالدَّلاَلَةِ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوَانُ الْقَاضِي أَوْ قَامَ الْقَاضِي قَبْل أَنْ
__________
(1) المبسوط 5 / 104.
(2) المرجع السابق، والبابرتي بهامش فتح القدير 4 / 300.(31/24)
تَخْتَارَ فِي كُل هَذِهِ الأَْحْوَال؛ لأَِنَّ اخْتِيَارَهَا مُؤَقَّتٌ بِالْمَجْلِسِ، كَتَخْيِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهَا بِالإِْقَامَةِ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةً لِتَتَرَوَّى وَتَنْظُرَ فِي أَمْرِهَا أَوْ رَضِيَتْ رِضًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا فَلَهَا ذَلِكَ وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ أَجَلٍ ثَانٍ، وَلَهَا الْفِرَاقُ بَعْدَ الرِّضَا بِإِقَامَتِهَا مَعَ الزَّوْجِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ أَبَدًا ثُمَّ أَرَادَتِ الْفِرَاقَ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَةُ الْمُقَامَ مَعَ الزَّوْجِ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَنَةِ التَّأْجِيل وَتَخْيِيرِ الْحَاكِمِ لَهَا تَسْتَمِرُّ زَوْجَةً لَهُ، وَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْخِيَارِ؛ لأَِنَّهَا تَرَكَتْ حَقَّهَا فِي فُرْقَتِهِ، أَمَّا إِذَا رَضِيَتْ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَبْل ضَرْبِهَا، فَإِنَّ حَقَّهَا لاَ يَبْطُل وَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا قَبْل ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، كَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْل الْبَيْعِ (3) .
__________
(1) المبسوط 5 / 104.
(2) الشرح الصغير 1 / 424.
(3) الأم 5 / 40.(31/25)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَالَتْ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ: رَضِيتُ بِهِ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفَسْخِ لإِِسْقَاطِهَا حَقَّهَا مِنْهُ (1) .
وَقْتُ الاِخْتِيَارِ بَعْدَ الْمُدَّةِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ عَلَى التَّرَاخِي، أَيْ إِنَّ الرَّفْعَ إِلَى الْقَاضِي لاَ يَجِبُ وُجُوبًا فَوْرِيًّا، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَرْأَةِ بِتَرْكِ الْمُرَافَعَةِ زَمَانًا (2) ، فَسُكُوتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ دَلِيلاً عَلَى رِضَاهَا بِعُنَّتِهِ؛ لأَِنَّهَا قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ لاَ تَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلاَ تَمْلِكُ الاِمْتِنَاعَ مِنَ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِهَا (3) ، وَحَقُّهَا عَلَى التَّرَاخِي (4) ، حَتَّى إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ بَعْدَ الدُّخُول، فَسَكَتَتْ عَنِ الْمُطَالَبَةِ ثُمَّ طَالَبَتْ بَعْدَهُ فَلَهَا ذَلِكَ (5) ، كَمَا لاَ يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الأَْجَل، فَإِنَّ ذَلِكَ اخْتِبَارٌ مِنْهَا لَهُ لاَ رِضًا مِنْهَا بِهِ، وَالإِْنْسَانُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ فِي كُل وَقْتٍ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (6) ، حَتَّى وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فِي
__________
(1) كشاف القناع 5 / 107.
(2) المبسوط 5 / 102.
(3) لمغني 7 / 608.
(4) منتهى الإرادات 2 / 189.
(5) كشاف القناع 5 / 107.
(6) المبسوط 5 / 102.(31/25)
الْمُضَاجَعَةِ فِي تِلْكَ الأَْيَّامِ (1) ، وَالْخِيَارُ لاَ يَثْبُتُ لِلزَّوْجَةِ إِلاَّ بَعْدَ رَفْعِ الأَْمْرِ لِلْحَاكِمِ وَثُبُوتِ عَجْزِ الزَّوْجِ، فَلاَ يَضُرُّ سُكُوتُهَا قَبْلَهُ (2) ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوَاجِ مُدَّةً بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ الرِّضَا فَلَهَا ذَلِكَ، وَلاَ تَحْتَاجُ لِضَرْبِ أَجَلٍ بَعْدُ (3) ، وَيُوجَدُ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالْفَوْرِ (4) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْخِيَارَ فِي عَيْبِ التَّعَنُّنِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى الْفَوْرِ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الْقَفَّال: إِنَّ الْخِيَارَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ وَكَانَ مُمْتَدًّا لَمْ يَدْرِ الزَّوْجَانِ هَل تَسْتَمِرُّ الزَّوْجِيَّةُ؟ فَلاَ تَدُومُ صُحْبَةٌ وَلاَ تَقُومُ مُعَاشَرَةٌ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ فِي مَعْنَى غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ (5) ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ الْمُبَادِرَةُ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ بِالْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعُنَّةِ بَعْدَ الْمُدَّةِ (6) .
__________
(1) الفتاوى الخانية 1 / 411.
(2) المغني 7 / 608.
(3) الخرشي 3 / 241، والفتاوى الخانية 1 / 411.
(4) الإنصاف 8 / 204.
(5) القليوبي 3 / 263.
(6) مغني المحتاج 3 / 204، ونهاية المحتاج 6 / 312.(31/26)
أَثَرُ الْعِلْمِ بِالْعُنَّةِ قَبْل الْعَقْدِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْهُ وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عِنِّينٌ لاَ يَصِل إِلَى النِّسَاءِ لاَ يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ وَلاَ حَقُّ الْخِيَارِ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَهِيَ صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ قَبْل أَنْ تَتَزَوَّجَ الْعِنِّينَ، ثُمَّ رَضِيَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْخِيَارِ لأَِنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا قَبْل ثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ (2) .
أَثَرُ الْجُنُونِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ:
20 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ، فَيَحْضُرُ خَصْمٌ عَنِ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل الزَّوْجَةِ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا. وَتُضْرَبُ مُدَّةٌ لِلزَّوْجِ، وَهَذَا لأَِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ مِلْكِ الْفَسْخِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِل بِالْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ، وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِل، وَكَانَ
__________
(1) الفتاوى الخانية 1 / 410، والمبسوط 5 / 104، والشرح الصغير1 / 422، وكشاف القناع 5 / 107.
(2) مغني المحتاج 3 / 203، 217.(31/26)
الْقَوْل قَوْل الزَّوْجَةِ؛ لأَِنَّ قَوْل الْمَجْنُونِ لاَ حُكْمَ لَهُ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَالزَّوْجُ الْمَجْنُونُ لاَ تُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الْعُنَّةِ عَلَى الْمَجْنُونِ لاَ تُسْمَعُ أَصْلاً، إِذِ الْحُكْمُ بِالْعُنَّةِ وَضَرْبُ الْمُدَّةِ، يَعْتَمِدُ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْعُنَّةِ، أَوْ يَمِينِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ رَفْضِ الزَّوْجِ الإِْقْرَارَ وَالْيَمِينَ، وَهُوَ مَجْنُونٌ لاَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ وَلاَ رَفْضُهُ الْيَمِينَ، فَلاَ يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْعُنَّةِ (2) ، وَحُدُوثُ الْجُنُونِ لِلزَّوْجِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ كَحُدُوثِهِ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْخِيَارِ، فِيهِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ (3) .
أَثَرُ الصِّبَا عَلَى الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْبُلُوغِ مَانِعٌ مِنَ الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِلاَّ فِي صُورَةِ الْغُلاَمِ الَّذِي هُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، إِذَا لَمْ
__________
(1) الجامع الكبير للشيباني ص 93، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 412، والإنصاف 8 / 192، وكشاف القناع 5 / 108، ومطالب أولي النهى 5 / 145.
(2) الروضة 7 / 200، وكشاف القناع 5 / 108.
(3) المراجع السابقة.
(4) الجامع الكبير للشيباني ص 93، والروضة 7 / 200، والبجيرمي 3 / 358، وكشاف القناع 5 / 106.(31/27)
يَصِل إِلَى امْرَأَتِهِ، وَلَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى يُجَامِعُهَا، كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُخَاصِمَهُ وَيُؤَجَّل سَنَةً (1) .
أَثَرُ الرَّتَقِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ - الرَّتَقُ هُوَ انْسِدَادُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِاللَّحْمِ - وَالزَّوْجُ عِنِّينًا. لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْجِمَاعِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ فِيهَا (2) . إِذْ لاَ حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَجِدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ مِثْل مَا بِهِ مِنَ الْعَيْبِ أَمْ لاَ، فَالرَّتْقَاءُ لَهَا حَقُّ الْخِيَارِ، وَقِيل: لاَ خِيَارَ عِنْدَ تَمَاثُل الْعَيْبَيْنِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَجْعَلُونَ لِلرَّتْقَاءِ أَيْضًا حَقَّ الْخِيَارِ (4) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِذَا وَجَدَ بِالآْخَرِ عَيْبًا مِثْل عَيْبِهِ أَوْ
__________
(1) هامش الفتاوى الهندية 1 / 411.
(2) فتح القدير 4 / 300.
(3) الاختيار 3 / 116.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 277، ومغني المحتاج 3 / 203.(31/27)
غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَجِدَ الْمَجْبُوبُ الْمَرْأَةَ رَتْقَاءَ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا خِيَارٌ لاِمْتِنَاعِ الاِسْتِمْتَاعِ بِعَيْبِ نَفْسِهِ (1) .
سَبْقُ الْوَطْءِ عَلَى الْعُنَّةِ:
23 - إِذَا جَامَعَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ عَنَّ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا حَقُّ التَّأْجِيل أَوِ الْخِيَارُ فِي هَذَا الزَّوَاجِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا (2) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ وَمِنْهُمْ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ (3) .
وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ بِالْعُنَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّ الزَّوْجَةَ حَصَلَتْ بِالْوَطْءِ عَلَى حَقِّهَا مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْمَهْرُ، أَيْ تَقْرِيرُهُ، وَالْحَصَانَةُ وَقَدْ عُرِفَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَطْءِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ التَّلَذُّذُ وَهُوَ شَهْوَةٌ لاَ يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا مَعَ احْتِمَال زَوَال الْعُنَّةِ، وَوُجُودِ الدَّاعِيَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ لِلنِّكَاحِ (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 111.
(2) الأم 5 / 40، والمدونة 2 / 265، والاختيار 1 / 160، والمغني 7 / 610.
(3) المغني 7 / 610.
(4) القليوبي 3 / 262، 263. مغني المحتاج 3 / 203، 204.(31/28)
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ: لَوْ وَطِئَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْ وَطْئِهَا، ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ (1) .
الْجِمَاعُ الَّذِي يَمْنَعُ التَّأْجِيل:
24 - أَقَل مَا يَمْنَعُ التَّأْجِيل هُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ، مِنَ الإِْحْصَانِ وَمِنَ الإِْحْلاَل لِلزَّوْجِ الأَْوَّل (2) ، وَتُعْتَبَرُ حَشَفَتُهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةً، وَإِنْ جَاوَزَتْ الْعَادَةَ فِي الْكِبَرِ أَوِ الصِّغَرِ، وَتُقَدَّرُ بِأَمْثَالِهِ إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً، وَيُعْتَبَرُ دُخُولُهَا وَلَوْ مَرَّةً وَبِإِعَانَةٍ بِنَحْوِ إِصْبَعٍ فِي دُخُولِهَا (3) ،
كَمَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حَائِضًا أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ صَائِمَةً، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ نَفْسُهُ مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا، فَالْحُرْمَةُ شَيْءٌ وَمَنْعُ التَّأْجِيل شَيْءٌ آخَرُ (4) .
أَمَّا جِمَاعُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَهُوَ لاَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالتَّأْجِيل؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ الْجِمَاعِ الْمَعْرُوفِ (5) ، وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ
__________
(1) المغني 7 / 610.
(2) المغني 7 / 611 - 612.
(3) القليوبي 3 / 263.
(4) الأم 5 / 40.
(5) المرجع السابق.(31/28)
الْوَطْءِ مِنْ إِحْصَانٍ أَوْ إِحْلاَلٍ لِلزَّوْجِ الأَْوَّل (1) ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ تَنْتَفِي بِهِ الْعُنَّةُ لأَِنَّهُ أَصْعَبُ. فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِ أَقْدَرُ (2)
كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاً بِاشْتِرَاطِ إِدْخَال جَمِيعِ الذَّكَرِ (3) .
مَهْرُ زَوْجَةِ الْعِنِّينِ:
25 - زَوْجَةُ الْعِنِّينِ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْل، وَالْخَلْوَةُ مِنْ الْعِنِّينِ كَالْخَلْوَةِ مِنْ أَيِّ زَوْجٍ تُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْمَهْرَ (5)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهَا أَيْضًا الصَّدَاقَ كَامِلاً بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ؛ لأَِنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا، وَطَال مُقَامُهُ مَعَهَا، وَتَلَذَّذَ بِهَا وَأَخْلَقَ شَوْرَتَهَا.
وَقَال أَبُو عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ جَعَل مَالِكٌ الْحُجَّةَ فِي التَّكْمِيل التَّلَذُّذَ وَإِخْلاَقَ الشَّوْرَةِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَتَى انْخَرَمَ أَحَدُهُمَا لاَ
__________
(1) المغني 7 / 611، 612.
(2) المرجع السابق.
(3) الإنصاف 8 / 189.
(4) مختصر الطحاوي ص183، وفتح القدير 4 / 130.
(5) الإنصاف 8 / 212.(31/29)
تَكْمِيل، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، أَمَّا إِذَا طَلَّقَ قَبْل انْتِهَاءِ السَّنَةِ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَتُعَوَّضُ الْمُتَلَذَّذُ بِهَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ بِالاِجْتِهَادِ، وَيُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قَبْل تَمَامِ السَّنَةِ فِيمَا إِذَا رَضِيَ بِالْفِرَاقِ قَبْل تَمَامِ السَّنَةِ. وَفِيمَا إِذَا قُطِعَ ذَكَرُهُ أَثْنَاءَهَا، وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ الْحَاجِبِ لاِسْتِحْقَاقِ امْرَأَةِ الْمُعْتَرِضِ الصَّدَاقَ بَعْدَ السَّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ إِذَا طَلَّقَا بِاخْتِيَارِهِمَا، وَالْجَامِعُ حُصُول الاِنْتِفَاعِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْمَجْبُوبَ إِنَّمَا دَخَل عَلَى التَّلَذُّذِ وَقَدْ حَصَل، بِخِلاَفِ الْمُعْتَرِضِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا دَخَل عَلَى الْوَطْءِ التَّامِّ وَلَمْ يَحْصُل، وَبِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْمَجْبُوبِ وَمَنْ مَعَهُ خَرَجَتْ بِالإِْجْمَاعِ، أَيْ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَمَاعِيَّةٌ، فَمَا عَدَاهَا بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِالْعِنِّينِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ صَغِيرُ الذَّكَرِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ إِنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا زَوْجُهَا إِذَا قَالَتْ: لَمْ يُصِبْنِي لَيْسَ لَهَا إِلاَّ نِصْفُ الْمَهْرِ لأَِنَّهَا مُفَارَقَةٌ قَبْل
__________
(1) الخرشي 3 / 241.(31/29)
أَنْ تُصَابَ (1) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْعِنِّينِ:
26 - تَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ الْعِنِّينِ الْعِدَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، كَمَا تَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ احْتِيَاطًا (3) ، وَلاَ يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مَا دَامَ لَمْ يُصِبْهَا (4) .
__________
(1) الأم 5 / 41.
(2) مختصر الطحاوي ص 183، وفتح القدير 4 / 130، والمغني 7 / 80 ط دار الفكر.
(3) المدونة 2 / 265.
(4) الأم 5 / 41.(31/30)
عُنُوسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُنُوسُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ عَنَسَتِ الْمَرْأَةُ تَعْنُسُ عُنُوسًا إِذَا طَال مُكْثُهَا فِي بَيْتِ أَهْلِهَا بَعْدَ إِدْرَاكِهَا وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ عِدَادِ الأَْبْكَارِ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ مَرَّةً فَلاَ يُقَال عَنَسَتْ.
وَالاِسْمُ: الْعِنَاسُ، وَالتَّعْنِيسُ: مَصْدَرُ عَنَسَتِ الْجَارِيَةُ إِذَا صَارَتْ عَانِسًا وَلَمْ تَتَزَوَّجْ، وَالْجَمْعُ: عُنَّسٌ وَعَوَانِسُ.
وَيُقَال: عَنَسَ الرَّجُل إِذَا أَسَنَّ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ فَهُوَ عَانِسٌ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل لِلنِّسَاءِ فَيُقَال: عَنَّسَهَا أَهْلُهَا أَيْ أَمْسَكُوهَا عَنِ التَّزْوِيجِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، وجواهر الإكليل 1 / 278.(31/30)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَضْل:
2 - الْعَضْل: مَنْعُ الرَّجُل حَرِيمَتَهُ مِنَ التَّزْوِيجِ (1) .
وَالْعَضْل قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْعُنُوسِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُنُوسِ مِنْ أَحْكَامٍ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْعَانِسِ هَل تُعَامَل كَالأَْبْكَارِ فِي الإِْجْبَارِ، وَفِي الاِكْتِفَاءِ بِسُكُوتِهَا أَمْ كَالثَّيِّبِ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَانِسَ تُعَامَل كَالْبِكْرِ فِي دَوَامِ الْجَبْرِ عَلَيْهَا وَإِنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِطُول التَّعْنِيسِ لِبَقَائِهَا عَلَى حَيَائِهَا؛ لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال بِالْوَطْءِ فِي مَحَل الْبَكَارَةِ فَهِيَ عَلَى حَيَائِهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهَا تُعَامَل مُعَامَلَةَ الثَّيِّبِ إِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِالتَّعْنِيسِ لِزَوَال الْعُذْرَةِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا الصَّرِيحِ (2) .
4 - وَفِي السِّنِّ الَّتِي تُعْتَبَرُ الْمَرْأَةُ فِيهَا عَانِسًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ هِيَ: ثَلاَثُونَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) جواهر الإكليل 1 / 278، والقوانين الفقهية ص203، ومغني المحتاج 3 / 150، وروضة الطالبين 7 / 54، والمغني لابن قدامة 6 / 495، وتحفة المحتاج 7 / 246.(31/31)
سَنَةً، أَوْ ثَلاَثٌ وَثَلاَثُونَ، أَوْ خَمْسٌ وَثَلاَثُونَ. أَوْ أَرْبَعُونَ. أَوْ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ. أَوْ مِنْهَا إِلَى السِّتِّينَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: سِنُّ الْعُنُوسَةِ يَعُودُ إِلَى الْعُرْفِ، فَالْعَانِسُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ هِيَ الْبِنْتُ الْمُقِيمَةُ عِنْدَ أَهْلِهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا سِنَّ الزَّوَاجِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَرَفَتْ فِيهَا مَصَالِحَ نَفْسِهَا وَبُرُوزَ وَجْهِهَا وَلَمْ تَتَزَوَّجْ (1) .
نَفَقَةُ الْعَانِسِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبِنْتَ الْفَقِيرَةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى أَبِيهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَإِنْ وَصَلَتْ حَدَّ التَّعْنِيسِ أَوْ جَاوَزَتْهَا (2) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 278.
(2) فتح القدير 3 / 343، والفواكه الدواني 2 / 106، والمحلي على المنهاج 4 / 84، وكشاف القناع 5 / 481.(31/31)
عَنْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَنْوَةُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - فِي اللُّغَةِ: الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، يُقَال: أَخَذْتُ الشَّيْءَ عَنْوَةً: أَيْ قَهْرًا وَغَلَبَةً، وَفُتِحَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةُ عَنْوَةً وَتِلْكَ صُلْحًا أَيْ: قَهْرًا وَغَلَبَةً. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: قَوْلُهُمْ: أَخَذْتُهُ عَنْوَةً يَكُونُ غَلَبَةً، وَيَكُونُ عَنْ تَسْلِيمٍ وَطَاعَةٍ مِمَّنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " عَنْوَةٍ " عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَحْكَامِ الأَْرَاضِي الَّتِي تَئُول إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، فَيَقْسِمُونَهَا إِلَى أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَرْضِ فُتِحَتْ صُلْحًا؛ لاِخْتِلاَفِ بَعْضِ أَحْكَامِهِمَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْرَاضِيَ الَّتِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَال مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ " وَاخْتَلَفُوا بِمَ تَنْتَقِل الْمِلْكِيَّةُ
__________
(1) لسان العرب.(31/32)
إِلَى الْمُسْلِمِينَ؟
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ إِلاَّ بِالضَّمِّ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ حِيَازَتِهَا فِعْلاً، وَجَعْلِهَا جُزْءًا مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ؛ لأَِنَّهَا مَالٌ زَال عَنْهُ مِلْكُ أَهْل الْحَرْبِ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمُبَاحِ، تَسْبِقُ إِلَيْهِ الْيَدُ فَيَتِمُّ تَمَلُّكُهُ بِإِحْرَازِهِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلاَ تُقْسَمُ عَلَى الْجَيْشِ كَبَقِيَّةِ الْغَنَائِمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتِمُّ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ بِالاِسْتِيلاَءِ، بَل بِالْقِسْمَةِ مَعَ الرِّضَا بِهَا.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ يَكُونُ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ (1) وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا، وَوَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمُ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمُ الْخَرَاجَ، فَتَكُونُ أَرْضَ خَرَاجٍ وَأَهْلُهَا أَهْل ذِمَّةٍ. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَسَّمَهَا بَيْنَ الْجَيْشِ
__________
(1) حديث: قسمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأرض خيبر. أخرجه أبو داود (3 / 410 - 413) وقال ابن حجر في فتح الباري (7 / 478) : أخرجه أبو داود من طريق بشير بن يسار واختلف في وصله وإرساله.(31/32)
إِنْ شَاءَ أَوْ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا بِجِزْيَةٍ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجٍ عَلَى أَرَضِيهِمْ، وَالأَْوَّل أَوْلَى عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ، وَتَرْكُهَا بِيَدِ أَهْلِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِتَكُونَ عِدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: تُصْبِحُ هَذِهِ الأَْرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ بِلاَ حَاجَةٍ إِلَى وَقْفِ الإِْمَامِ، وَلاَ تَكُونُ مِلْكًا لأَِحَدٍ، وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخُمُسُ مِنَ الأَْرَاضِي لِمَنْ ذَكَرَتْهُمْ آيَةُ الْغَنَائِمِ، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ لِلْغَانِمَيْنِ. فَإِنْ طَابَتْ بِتَرْكِهَا نُفُوسُ الْغَانِمِينَ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَفَهَا وَلِيُّ الأَْمْرِ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: غَنِيمَة)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 228 - 229، والخرشي 3 / 128، ونهاية المحتاج 8 / 77.(31/33)
عَهْد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَال: عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الأَْمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ وَالْيَمِينُ، وَكُل مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ، وَالْعَهْدُ: الْعِلْمُ، يُقَال: هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِكَذَا أَيْ قَرِيبُ الْعِلْمِ بِهِ، وَعَهْدِي بِكَ مُسَاعِدًا لِلضُّعَفَاءِ: أَنِّي أَعْلَمُ ذَلِكَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقْدُ:
2 - الْعَقْدُ هُوَ كَمَا قَال الْجُرْجَانِيُّ: رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول شَرْعًا، وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْعَقْدَ إِلْزَامٌ بِاسْتِيثَاقٍ بِخِلاَفِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِاسْتِيثَاقٍ وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَلِذَا يُقَال: عَاهَدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.(31/33)
وَلاَ يُقَال: عَاقَدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ، إِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَال: اسْتَوْثَقَ مِنْ رَبِّهِ (1) .
ب - الْوَعْدُ:
3 - الْوَعْدُ كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل.
قَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ أَنَّ الْعَهْدَ مَا كَانَ مِنَ الْوَعْدِ مَقْرُونًا بِشَرْطٍ نَحْوَ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَعَلْتُ كَذَا (2) .
ج - الْبَيْعَةُ:
4 - الْبَيْعَةُ صِفَةٌ عَلَى إِيجَابِ الْمُبَايَعَةِ وَالطَّاعَةِ، أَيِ التَّوْلِيَةِ وَعَقْدِهَا، وَالْبَيْعَةُ صِفَةٌ أَيْضًا عَلَى إِيجَابِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعَةُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل أَخَصُّ مِنَ الْعَهْدِ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - أَوْجَبَ الإِْسْلاَمُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَالْتَزَمَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جَمِيعِ عُهُودِهِ، تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (4) وَنَفَى الدِّينَ عَمَّنْ لاَ عَهْدَ لَهُ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني والفروق في اللغة 1 / 254.
(2) الفروق في اللغة وفتح العلي المالك 1 / 254.
(3) المصباح المنير.
(4) سورة النحل / 91.(31/34)
: لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ (1) وَمِنْ صُوَرِ الْتِزَامِهِ الْعَهْدَ: وَفَاؤُهُ بِالْوَثِيقَةِ الَّتِي عَقَدَهَا لِلْيَهُودِ عِنْدَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَغَيْرُهُمَا،
وَمِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. مَا يَعْهَدُ بِهِ الْحَاكِمُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَهِدَ عُمَرُ إِلَى أَهْل الشُّورَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) وَنَقْضُ الْعَهْدِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا. وَلاَ يَصِحُّ مِنْ مُؤْمِنٍ أَبَدًا لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ وَلِحَدِيثِ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. (3)
تَحْرِيمُ ظُلْمِ الْمُعَاهَدِ:
6 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كَمَا أَمَرَ بِإِتْمَامِ مُدَّةِ الْعَهْدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (4) وَوَصَفَ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ عَهْدَهُمْ بِالْخُسْرَانِ
__________
(1) حديث: لا دين لمن لا عهد له. . . ". أخرجه أحمد (3 / 135) من حديث أنس بن مالك.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص10.
(3) حديث: " أربع من كن فيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 89) من حديث عبد الله بن عمرو.
(4) سورة التوبة / 4.(31/34)
فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) وَنَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ظُلْمِ الْمُعَاهَدِ بِقَوْلِهِ: مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2) كَمَا نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ الْعَهْدَ إِلَى الْمُعَاهَدِينَ جَهْرًا - لاَ سِرًّا - حَتَّى لاَ يَغْدِرَ بِهِمْ. فَقَال: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً وَلاَ يَحِلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. (3)
وَنَقْضُ الْعَهْدِ يُعَدُّ مِنَ الْغَدْرِ، وَقَدْ شَهَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَادِرِ فِي قَوْلِهِ: لِكُل غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 27.
(2) حديث: " من ظلم معاهدًا. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 437) وقال السخاوي في المقاصد (ص392) : سنده لا بأس به.
(3) حديث: " من كان بينه وبين قوم عهد. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 190) والترمذي (4 / 143) من حديث عمرو بن عبسة، وقال الترمذي: حسن صحيح.(31/35)
يُعْرَفُ بِهِ. (1)
وَلِلْمُعَاهَدِ أَحْكَامٌ أُخْرَى، مِنْهَا أَخْذُ الْجِزْيَةِ. وَمِقْدَارُهَا، وَمِقْدَارُ دِيَتِهِ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِزْيَة ف 21، 22، وَمُعَاهِد)
الْيَمِينُ بِعَهْدِ اللَّهِ وَآثَارُهُ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِعَهْدِ اللَّهِ يَمِينٌ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلِفِ بِهِ جَمِيعُ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى كُل يَمِينٍ، مِنْ وُجُوبِ الْبِرِّ بِهَا، أَوِ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْحِنْثِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي اعْتِبَارِهَا يَمِينًا أَنْ يَنْوِيَ الْحَالِفُ بِهَا الْيَمِينَ، لاَ اسْتِحْقَاقَ اللَّهِ لِلْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ (2) .
__________
(1) حديث: " لكل غادر لواء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 283) ومسلم (3 / 1360 من حديث ابن عمر.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 54، والشرح الكبير للدردير 2 / 227. ونهاية المحتاج 8 / 169، ومطالب أولي النهى 6 / 374.(31/35)
عُهْدَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْعَهْدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَالأَْمَانِ وَالْمَوْثِقِ وَالذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَثِيقَةِ وَالْمَرْجِعِ لِلإِْصْلاَحِ، يُقَال: فِي الأَْمْرِ عُهْدَةٌ أَيْ مَرْجِعٌ لِلإِْصْلاَحِ، وَتُسَمَّى وَثِيقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عُهْدَةً؛ لأَِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الاِلْتِبَاسِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ بِأَنَّهَا: ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الأَْبِيُّ الأَْزْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: ضَمَانُ ثَمَنِ حِصَّةِ مَنْ حَضَرَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ إِنْ ظَهَرَ فِيهَا عَيْبٌ أَوِ اُسْتُحِقَّتْ (3) .
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ بِالْبَائِعِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهِيَ قِسْمَانِ: عُهْدَةُ سَنَةٍ. وَعُهْدَةُ ثَلاَثٍ (4) . وَقَال
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 5 / 145، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 246.
(3) جواهر الإكليل 2 / 162.
(4) الشرح الصغير 3 / 191.(31/36)
الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْمُرَادُ بِالْعُهْدَةِ هُنَا (أَيْ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ) رُجُوعُ مَنِ انْتَقَل الْمِلْكُ إِلَيْهِ مِنْ شَفِيعٍ أَوْ مُشْتَرٍ عَلَى مَنِ انْتَقَل عَنْهُ الْمِلْكُ مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ بِالثَّمَنِ أَوِ الأَْرْشِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ أَوْ عَيْبِهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَسَائِل الْعُهْدَةِ فِي الشُّفْعَةِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ.
أَوَّلاً - الْعُهْدَةُ فِي الشُّفْعَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ إِذَا ثَبَتَتْ لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَحَضَرَ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهَا تُعْطَى لِمَنْ حَضَرَ إِذَا طَلَبَهَا، لَكِنَّهَا لاَ تَتَجَزَّأُ، فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا جَمِيعَهَا، أَوْ يَتْرُكَهَا جَمِيعَهَا؛ لأَِنَّ فِي تَجْزِئَتِهَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَهُوَ ضَرَرٌ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِذَا أَخَذَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ الآْخَرُ وَطَلَبَ حِصَّتَهُ مِنَ الشُّفْعَةِ يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ، وَلَوْ كَانُوا ثَلاَثَةً فَحَضَرَ الثَّالِثُ أَيْضًا يُقْضَى لَهُ بِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُل وَاحِدٍ، وَهَكَذَا تَحْقِيقًا
__________
(1) كشاف القناع 4 / 163.(31/36)
لِلتَّسْوِيَةِ (1) .
وَهَل يَقْضِي الْقَاضِي بِكَتْبِ الْعُهْدَةِ - أَيْ ضَمَانِ الثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ - عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى الشَّفِيعِ الأَْوَّل إِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَخَذَ مِنْهُ حِصَّتَهُ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي لاَ عَلَى الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَأَخَذَ الشُّفْعَةَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، لأَِنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْحَاضِرُ الْجَمِيعَ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي كَتْبِ عُهْدَتِهِ إِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الشَّفِيعِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الأَْخْذِ، فَهُوَ كَمُشْتَرٍ مِنَ الْمُشْتَرِي (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بِيعَتِ الدَّارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ، وَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 141، 142، وشرح الزرقاني 6 / 187، 189، والزيلعي 5 / 246، وجواهر الإكليل 2 / 162، 163، وروضة الطالبين 5 / 103، 112، وكشاف القناع 4 / 148.
(2) جواهر الإكليل 2 / 162، 163، والمواق بهامش الحطاب 5 / 329، وروضة الطالبين 5 / 112.(31/37)
انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، أَمَّا إِذَا أُخِذَتِ الدَّارُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ الأَْوَّل صَحِيحٌ، وَيَدْفَعُ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ؛ وَلأَِنَّ الشَّيْءَ انْتَقَل مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ الشِّقْصَ مِنْ جِهَتِهِ، فَهُوَ كَبَائِعِهِ، وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ وَحْدَهُ بِالْبَيْعِ. وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِنَ الْبَائِعِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ، لِحُصُول الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ مِنْ جِهَتِهِ (2) .
ثَانِيًا - الْعُهْدَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ:
3 - إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا قَدِيمًا يُنْقِصُ الثَّمَنَ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ فَلَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي إِذَا اشْتَرَى رَقِيقًا خَاصَّةً - ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - الرَّدَّ فِي عُهْدَةِ الثَّلاَثِ أَيْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِكُل عَيْبٍ
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق للزيلعي 5 / 246، والدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 145.
(2) كشاف القناع 4 / 163.
(3) مجلة الأحكام م (337) .(31/37)
حَادِثٍ، وَهُوَ: مَا يَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَالْقَدِيمُ وَهُوَ: مَا كَانَ فِيهِ وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ (1) . كَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَعَمًى وَجُنُونٍ، إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى عَيْبٌ مُعَيَّنٌ (2) ، كَمَا أَنَّ لَهُ الرَّدَّ فِي عُهْدَةِ السَّنَةِ بِثَلاَثَةِ أَدْوَاءٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ: الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجُنُونُ، دُونَ سَائِرِ الْعُيُوبِ (3) .
قَال الدَّرْدِيرُ: وَمَحَل الْعَمَل بِالْعُهْدَتَيْنِ إِنْ شُرِطَا عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ اُعْتِيدَا بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ حَمَل السُّلْطَانُ عَلَيْهِمَا النَّاسَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْمَل بِهِمَا وَلَوْ لَمْ تَجْرِ بِهِمَا عَادَةٌ، وَلاَ وَقَعَ بِهِمَا شَرْطٌ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَيْب) .
__________
(1) مجلة الأحكام م (339،344) وشرح الدردير مع حاشية الدسوقي 3 / 126 - 127.
(2) الشرح الصغير 3 / 191، 192.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 191، 192، وجواهر الإكليل 2 / 50.
(4) الشرح الصغير 3 / 193.(31/38)
عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ
اُنْظُرْ: أَهْلِيَّةٌ
عَوَامِل
اُنْظُرْ: زَكَاةٌ
عَوَر
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَوَرِ فِي اللُّغَةِ: ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، يُقَال عَوِرَ الرَّجُل: ذَهَبَ بَصَرُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَهُوَ أَعْوَرُ وَهِيَ عَوْرَاءُ وَالْجَمْعُ عُورٌ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) البناية 9 / 140، والشرح الصغير 2 / 143، وأوجز المسالك 9 / 228.(31/38)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَشَا:
2 - الْعَشَا - مَقْصُورٌ - سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ يَكُونُ فِي النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ (1) ، يُقَال: عَشِيَ عَشًى: ضَعُفَ بَصَرُهُ فَهُوَ أَعْشَى وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ (2) . وَقِيل: الْعَشَا يَكُونُ سُوءُ الْبَصَرِ مِنْ غَيْرِ عَمًى، وَيَكُونُ الَّذِي لاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْل وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْعَشَا: أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَالْعَشَا سُوءُ الْبَصَرِ.
ب - الْعَمَشُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْعَمَشِ ضَعْفُ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ مَعَ سَيَلاَنِ دَمْعِهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهَا، يُقَال: عَمِشَ فُلاَنٌ عَمَشًا: ضَعُفَ بَصَرُهُ مَعَ سَيَلاَنِ دَمْعِ عَيْنِهِ فِي أَكْثَرِ الأَْوْقَاتِ فَهُوَ أَعْمَشُ وَهِيَ عَمْشَاءُ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْعَمْشِ أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْعَمَشُ ضَعْفُ الرُّؤْيَةِ مَعَ سَيَلاَنِ الدَّمْعِ.
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) المعجم الوسيط.(31/39)
ج - الْحَوَل:
4 - الْحَوَل - بِفَتْحَتَيْنِ - أَنْ يَظْهَرَ الْبَيَاضُ فِي الْعَيْنِ فِي مُؤَخَّرِهَا، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ قِبَل الْمَاقِّ وَطَرَفِ الْعَيْنِ مِنْ قِبَل الأَْنْفِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْحَوَل: أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَالْحَوَل عَيْبٌ فِي الْعَيْنِ لاَ يُذْهِبُ حِسَّهَا.
د - الْعَمَى:
5 - الْعَمَى ذَهَابُ الْبَصَرِ كُلِّهِ فَالرَّجُل أَعْمَى وَالْمَرْأَةُ عَمْيَاءُ وَالْجَمْعُ عُمْيٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَى وَالْعَوَرِ أَنَّ الْعَمَى لاَ يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا، فِي حِينِ أَنَّ الْعَوَرَ هُوَ ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوَرِ:
أ - التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لاَ يُضَحَّى
__________
(1) لسان العرب.
(2) القاموس المحيط والمصباح المنير.(31/39)
بِالْعَرْجَاءِ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا، وَلاَ بِالْعَوْرَاءِ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَلاَ بِالْمَرِيضَةِ بَيِّنٌ مَرَضُهَا، وَلاَ بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لاَ تُنْقِي (1) وَلأَِنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِعَوْرَاءَ لاَ تُبْصِرُ بِإِحْدَى عَيْنَيْهَا مَعَ قِيَامِ صُورَةِ الْعَيْنِ، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْعَيْنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى إِجْزَاءِ الْعَوْرَاءِ الَّتِي عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ لَمْ تَذْهَبْ؛ لأَِنَّ عَوَرَهَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ. وَلاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ لَحْمَهَا (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْعَوْرَاءَ لاَ تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ صُورَةُ الْعَيْنِ قَائِمَةً، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ إِطْلاَقِ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهَا بَيَاضٌ لاَ يَمْنَعُهَا النَّظَرَ أَجْزَأَتْ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يضحى بالعرجاء بين ضلعها. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 86) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) البناية شرح الهداية 9 / 140، وتبيين الحقائق 6 / 25، والشرح الصغير 2 / 143، والمجموع 8 / 400، وكشاف القناع 3 / 5، والمغني 8 / 624.
(3) البناية شرح الهداية 9 / 141، والمجموع 8 / 400، وروضة الطالبين 3 / 195، وكشاف القناع 3 / 5.
(4) تبيين الحقائق 6 / 5، حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 205، وحاشية أبي السعود بشرح الكنز 3 / 380، والشرح الصغير 2 / 143، والمجموع 8 / 400، وروضة الطالبين 3 / 195.(31/40)
ب - فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْعَوَرِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَوَرَ لاَ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ فَسْخِ النِّكَاحِ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَا لَمْ يَشْتَرِطِ السَّلاَمَةَ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ مِنَ الْعَوَرِ وَنَحْوِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَرْطُ السَّلاَمَةِ بِوَصْفِ الْوَلِيِّ، أَوْ وَصْفِ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَسَكَتَ بِأَنَّهَا صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ، فَبَانَ خِلاَفُ ذَلِكَ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ مِنَ الْعَوَرِ وَنَحْوِهِ كَالْعَمَى وَالشَّلَل وَالزَّمَانَةِ فَوُجِدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ سَلاَمَةَ الزَّوْجِ فَبَانَ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَإِنْ شُرِطَتِ السَّلاَمَةُ فِي الزَّوْجَةِ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ قَوْلاَنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الطَّلاَقِ، قَال النَّوَوِيُّ: الأَْظْهَرُ ثُبُوتُهُ (3) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 280، والفواكه الدواني 2 / 67، الفروع 5 / 234 - 235 ومطالب أولي النهى 5 / 149 - 150.
(2) المبسوط للسرخسي 5 / 97.
(3) روضة الطالبين 7 / 185.(31/40)
ج - إِعْتَاقُ الأَْعْوَرِ فِي الْكَفَّارَاتِ:
8 - يُجْزِئُ إِعْتَاقُ الأَْعْوَرِ فِي الْكَفَّارَاتِ دُونَ الأَْعْمَى؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيل الأَْحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ الْمَنَافِعَ وَالْعَوَرُ لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَضُرُّ بِالْعَمَل فَأَشْبَهَ قَطْعَ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ (1) .
وَنَقَل أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاً بِعَدَمِ إِجْزَاءِ الأَْعْوَرِ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَوَرَ نَقْصٌ يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ وَالإِْجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ فَأَشْبَهَ الْعَمَى (2) .
د - جِنَايَةُ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الأَْعْوَرِ:
9 - لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، بَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِالاِجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ ضَوْءُهَا حُكُومَةٌ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، بِهَذَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ) . (3)
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 579، والشرح الصغير 2 / 648، وروضة الطالبين 7 / 285، والمغني 7 / 361.
(2) المغني 7 / 361.
(3) البزازية بهامش الفتاوى الهندية 6 / 391، والشرح الصغير 4 / 352، وروضة الطالبين 9 / 197، وحاشية الجمل 5 / 66، وتفسير القرطبي 6 / 194(31/41)
أَنَّهُ قَال: فِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ الَّتِي لاَ يُبْصِرُ بِهَا مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ، وَقَال مُجَاهِدٌ: فِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا (1) .
وَإِذَا قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ الأَْعْوَرِ الْمُبْصِرَةَ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ مَال الْجَانِي (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَل نِصْفِ الضَّوْءِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الأَْعْوَرِ السَّلِيمَةَ يَجِبُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ أَنَّ الْخَطَأَ
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 194.
(2) الشرح الصغير 4 / 356، والمغني 7 / 718، 719.
(3) المغني 7 / 718، 719.
(4) الفتاوى الأنقروية 1 / 174، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 391، وروضة الطالبين 9 / 272.(31/41)
وَالْعَمْدَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (1) .
هـ - جِنَايَةُ الأَْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِذَا فَقَأَ أَعْوَرٌ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثِلَتَهُ السَّالِمَةَ يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْل مَسْرُوقٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (3) فَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصُ مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنِ وَالأَْعْوَرِ كَهَيْئَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ (4) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ الْقَائِمَةُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (5) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُخَيِّرُونَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً، بِمَعْنَى أَنَّ
__________
(1) البزازية بهامش الهندية 6 / 391.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث: " في العينين الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58) من حديث عمرو بن حزم، وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 18) : صححه جماعة من الأئمة.
(4) الفتاوى الهندية 6 / 9 وتفسير القرطبي 6 / 194 والمغني 7 / 717.
(5) روضة الطالبين 9 / 197.(31/42)
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْجَانِي السَّالِمَةَ فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى أَوْ يَتْرُكَ الْقِصَاصَ وَيَأْخُذَ مِنَ الْجَانِي دِيَةَ مَا تَرَكَهُ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ الصَّحِيحِ فَلاَ قَوَدَ وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ (2) .
وَإِنْ فَقَأَ الأَْعْوَرُ مِنَ السَّالِمِ غَيْرَ الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ السَّلِيمَةِ بِأَنْ فَقَأَ مِنَ السَّالِمِ مُمَاثِلَةَ الْعَوْرَاءِ فَتَلْزَمُ الْجَانِيَ نِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ لِعَدَمِ الْمَحَل الْمُمَاثِل، بِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بَيْضَاءَ فَأَذْهَبَ الْعَيْنَ الْيُمْنَى مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَالْمَفْقُوءَةُ يُمْنَاهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ عَيْنَهُ النَّاقِصَةَ إِذَا كَانَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ بِأَنْ يُبْصِرَ شَيْئًا قَلِيلاً وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ عَيْنِهِ (3) .
وَإِنْ فَقَأَ الأَْعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا بِالْقَوَدِ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْقَأَ الْمُمَاثِلَةَ مِنَ الْجَانِي فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى لِبَقَاءِ سَالِمَتِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ يَأْخُذُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 357، وتفسير القرطبي 6 / 194.
(2) المغني 7 / 717، وتفسير القرطبي 6 / 194.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 9 - 10، والشرح الصغير 4 / 357.(31/42)
الْجَانِي بَدَل مَا لَيْسَ لَهَا مُمَاثِلُهُ، وَلَمْ يُخَيَّرْ سَالِمُ الْعَيْنَيْنِ فِي الْمُمَاثِلَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ الْقِصَاصُ أَوْ أَخْذُ الدِّيَةِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ عَلَيْهِ أَخْذُ دِيَةٍ وَنِصْفٍ، وَهُوَ خِلاَفُ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (1) .
وَيَرَى الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ فَلَهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْقِصَاصُ فَلَمْ تَتَضَاعَفِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأَْشَل يَدَ صَحِيحٍ أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ (2) .
و جِنَايَةُ الأَْعْوَرِ عَلَى الأَْعْوَرِ:
11 - لَوْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ الْعَيْنَ السَّلِيمَةَ لِمِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُل وَجْهٍ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْل الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 357.
(2) المغني 7 / 718.
(3) المغني 7 / 718.(31/43)
عَوْرَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَوْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَلَل فِي الثَّغْرِ وَفِي الْحَرْبِ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ مُنَكَّرًا، فَيَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} (1) فَهُنَا وَرَدَ الْوَصْفُ مُفْرَدًا وَالْمَوْصُوفُ جَمْعًا (2) .
وَتُطْلَقُ عَلَى السَّاعَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا الْعَوْرَةُ عَادَةً لِلُّجُوءِ فِيهَا إِلَى الرَّاحَةِ وَالاِنْكِشَافِ، وَهِيَ سَاعَةٌ قَبْل الْفَجْرِ، وَسَاعَةٌ عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَسَاعَةٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الآْخِرِ، وَفِي التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 13.
(2) لسان العرب.(31/43)
عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) وَكُل شَيْءٍ يَسْتُرُهُ الإِْنْسَانُ أَنَفَةً وَحَيَاءً فَهُوَ عَوْرَةٌ (2) .
وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَحْرُمُ كَشْفُهُ مِنَ الْجِسْمِ سَوَاءٌ مِنَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، أَوْ هِيَ مَا يَجِبُ سِتْرُهُ وَعَدَمُ إِظْهَارِهِ مِنَ الْجِسْمِ، وَحَدُّهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْجِنْسِ وَبِاخْتِلاَفِ الْعُمْرِ، كَمَا يَخْتَلِفُ مِنَ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَغَيْرِ الْمَحْرَمِ (3) عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي يَأْتِي، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: هِيَ مَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّتْرُ:
2 - السِّتْرُ لُغَةً: مَا يُسْتَرُ بِهِ، وَالسُّتْرَةُ بِالضَّمِّ مِثْلُهُ، وَيُقَال لِمَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلاَمَةً لِمُصَلاَّهُ مِنْ عَصًا وَغَيْرِهَا سُتْرَةٌ؛ لأَِنَّهُ يَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَحْجُبُهُ (5) ،
__________
(1) سورة النور / 58، وينظر تفسير القرطبي 12 / 305.
(2) المصباح المنير.
(3) الشرح الصغير 1 / 283، المطبوع بدار المعارف بمصر.
(4) مغني المحتاج 1 / 185.
(5) المصباح المنير، مادة (ستر) .(31/44)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَالسِّتْرِ أَنَّ السِّتْرَ مَطْلُوبٌ لِتَغْطِيَةِ الْعَوْرَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوْرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْعَوْرَةِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ جِسْمَ الْمَرْأَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَال وَإِلَى الأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ (1) لَكِنْ جَوَازُ كَشْفِ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِأَمْنِ الْفِتْنَةِ.
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْل بِجَوَازِ إِظْهَارِ قَدَمَيْهَا؛ لأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ وَاسْتَثْنَى مَا ظَهَرَ مِنْهَا. وَالْقَدَمَانِ ظَاهِرَتَانِ (2) ، وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ ظَهْرَ الْكَفِّ عَوْرَةٌ؛ لأَِنَّ الْكَفَّ عُرْفًا وَاسْتِعْمَالاً لاَ يَشْمَل ظَهْرَهُ (3) .
__________
(1) تكملة فتح القدير مع الهداية 8 / 97، وتبيين الحقائق 1 / 96، 97، والشرح الصغير 1 / 289، ومغني المحتاج 3 / 125، والمجموع 3 / 173 ط الإمام بمصر.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2956، طبع مطبعة الإمام.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 405 الطبعة الثانية.(31/44)
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْل بِجَوَازِ إِظْهَارِ ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا لأَِنَّهُمَا يَبْدُوَانِ مِنْهَا عَادَةً (1) .
وَجَازَ كَشْفُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمَا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) أَيْ مَوَاضِعَهَا، فَالْكُحْل زِينَةُ الْوَجْهِ، وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ (3) ، بِدَلِيل مَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، دَخَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَال: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (4)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ (5) فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ، وَزَادَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهَ. وَقَال
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 96.
(2) سورة النور / 31.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2956.
(4) حديث: " أن " أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 358) من حديث عائشة، وقال: هذا حديث مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
(5) تفسير القرطبي 12 / 228 - 232، الطبعة الثالثة.(31/45)
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَعَطَاءٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَابُ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْل وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ وَالْقُرْطُ وَالْفَتْخُ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِل لَهَا أَنْ تُظْهِرَ إِلاَّ وَجْهَهَا، وَإِلاَّ مَا دُونَ هَذَا، وَقَبَضَ عَلَى ذِرَاعِ نَفْسِهِ، فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْل قَبْضَةٍ أُخْرَى (1)
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَشَرْطُ السَّاتِرِ مَنْعُ إِدْرَاكِ لَوْنِ الْبَشَرَةِ لاَ حَجْمِهَا، فَلاَ يَكْفِي ثَوْبٌ رَقِيقٌ وَلاَ مُهَلْهَلٌ لاَ يَمْنَعُ إِدْرَاكَ اللَّوْنِ (2) .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَنْهَا حَتَّى ظُفْرَهَا (3) ، وَرُوِيَ عَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مَنْ يُبِينُ زَوْجَتَهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُل مَعَهَا لأَِنَّهُ مَعَ الأَْكْل يَرَى كَفَّهَا، وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ نَظَرُ
__________
(1) حديث: " إذا عركت المرأة. . . ". أخرجه الطبري في تفسيره (18 / 119 ط مصطفى الحلبي) من حديث ابن جريج مرسلاً.
(2) مغني المحتاج 1 / 185.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 110.(31/45)
الأَْجْنَبِيِّ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (1) . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْحُرْمَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُْولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآْخِرَةُ (2) وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْفَضْل بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَدِيفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ تَسْتَفْتِيهِ، فَأَخَذَ الْفَضْل يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ هِيَ إِلَيْهِ، فَصَرَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجْهَ الْفَضْل عَنْهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْعَجُوزُ الَّتِي لاَ يُشْتَهَى مِثْلُهَا لاَ بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا} (5) وَفِي مَعْنَى الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءُ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى،
__________
(1) المغني 7 / 102.
(2) حديث: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 101) وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: " إن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 378) ، ومسلم (2 / 973) من حديث ابن عباس.
(4) المغني 7 / 102.
( x665 ;) سورة النور / 60.(31/46)
وَمَنْ ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ مِنَ الرِّجَال لِكِبَرٍ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْخَصِيُّ وَالشَّيْخُ وَالْمُخَنَّثُ الَّذِي لاَ شَهْوَةَ لَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي النَّظَرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ} . (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الأَْجْنَبِيِّ، إِذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ حَتَّى إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: ظُهُورُ الْمَرْأَةِ بِالزِّينَةِ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَالَّذِي لاَ يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ لاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (4) ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْرِفُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَارَبَ الْحُلُمَ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاءُ زِينَتِهَا لَهُ (5) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا سَوَاءٌ أَذِنَتْ هِيَ أَوْ وَلِيُّهَا بِهِ أَمْ لَمْ يَأْذَنَا بِهِ (6) ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني 7 / 102، 104.
(2) سورة النور / 31.
(3) مغني المحتاج 3 / 128.
(4) سورة النور / 31.
(5) بدائع الصنائع 6 / 2958، 2959، ومغني المحتاج 3 / 128.
(6) الهداية مع تكملة فتح القدير والعناية 8 / 99، ومغني المحتاج 3 / 128.(31/46)
قَال لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (1)
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا النَّظَرُ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ عَوْرَةٍ مِنَ الرَّجُل إِنْ أَرَادَتْ الاِقْتِرَانَ بِهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 26، 29)
أَمَّا صَوْتُ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ بِعَوْرَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَجُوزُ الاِسْتِمَاعُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (3) ، وَقَالُوا: وَنُدِبَ تَشْوِيهُهُ إِذَا قُرِعَ بَابُهَا فَلاَ تُجِيبُ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ.
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ الْكَافِرَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْكَافِرَةَ كَالرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمَةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى بَدَنِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ يَدَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ
__________
(1) حديث: " انظر إليها، فإنه أحرى. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 388) وقال: حديث حسن.
(2) مغني المحتاج 3 / 128.
(3) مغني المحتاج 3 / 129.(31/47)
أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1) أَيِ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ فَلَوْ جَازَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ لَمَا بَقِيَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الأَْمْرُ بِمَنْعِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ دُخُول الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَرَى الْكَافِرَةُ مِنَ الْمُسْلِمَةِ مَا يَبْدُو مِنْهَا عِنْدَ الْمِهْنَةِ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَرَى مِنْهَا مَا تَرَاهُ الْمُسْلِمَةُ مِنْهَا وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ كَالرِّجَال (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ وَلاَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي النَّظَرِ، وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لاَ تَنْظُرُ الْكَافِرَةُ إِلَى الْفَرْجِ مِنَ الْمُسْلِمَةِ وَلاَ تَكُونُ قَابِلَةً لَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لاَ تَكْشِفُ قِنَاعَهَا عِنْدَ الذِّمِّيَّةِ وَلاَ تَدْخُل مَعَهَا الْحَمَّامَ (3) .
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ هِيَ كَعَوْرَةِ الرَّجُل إِلَى
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) مغني المحتاج 3 / 131 وما بعدها.
(3) المغني 7 / 105، 106.(31/47)
الرَّجُل، أَيْ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلِذَا يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا عَدَا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَلَكِنْ يَحْرُمُ ذَلِكَ مَعَ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ (1) .
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ:
6 - الْمُرَادُ بِمَحْرَمِ الْمَرْأَةِ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ لِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ (مُصَاهَرَةٍ) أَوْ رَضَاعٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلٍ مَحْرَمٍ لَهَا هِيَ غَيْرُ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا كَشْفُ صَدْرِهَا وَثَدْيَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى مَحَارِمِهَا كَأَبِيهَا رُؤْيَةُ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَتَلَذُّذٍ (2) .
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ حُكْمَ الرَّجُل مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ هُوَ كَحُكْمِ الرَّجُل مَعَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ (3) .
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961، تبيين الحقائق 6 / 18، الشرح الصغير 1 / 288، مواهب الجليل 1 / 498، 499، طبع مطبعة النجاح - ليبيا، مغني المحتاج 3 / 13، المغني 7 / 105.
(2) أقرب مسالك مع الشرح الصغير 1 / 106.
(3) المغني 7 / 98.(31/48)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إِلَى رُكْبَتِهَا، وَكَذَا ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا (1) ، أَيْ يَحِل لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا هَذِهِ الأَْعْضَاءَ مِنْهَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَخُلُوِّ نَظَرِهِ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (2) وَالْمُرَادُ بِالزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا لاَ الزِّينَةُ نَفْسُهَا لأَِنَّ النَّظَرَ إِلَى أَصْل الزِّينَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقًا، فَالرَّأْسُ مَوْضِعُ التَّاجِ، وَالْوَجْهُ مَوْضِعُ الْكُحْل، وَالْعُنُقُ وَالصَّدْرُ مَوْضِعَا الْقِلاَدَةِ وَالأُْذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ، وَالْعَضُدُ مَوْضِعُ الدُّمْلُوجِ، وَالسَّاعِدُ مَوْضِعُ السِّوَارِ، وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ، وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَال، وَالْقَدَمُ مَوْضِعُ الْخِضَابِ، بِخِلاَفِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلزِّينَةِ (3) ؛ وَلأَِنَّ الاِخْتِلاَطَ بَيْنَ الْمَحَارِمِ أَمْرٌ شَائِعٌ وَلاَ يُمْكِنُ مَعَهُ صِيَانَةُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ عَنِ الإِْظْهَارِ وَالْكَشْفِ.
وَكُل مَا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهُنَّ دُونَ حَائِلٍ جَازَ لَمْسُهُ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْوَةِ بِإِحْدَاهُنَّ
__________
(1) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 103، 104، تبيين الحقائق 6 / 19.
(2) سورة النور / 31.
(3) تبيين الحقائق 6 / 19.(31/48)
مُنْفَرِدَيْنِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ (1) ، فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (2) .
وَلَمْ يَجُزْ لِلرَّجُل النَّظَرُ إِلَى ظَهْرِ أَوْ بَطْنِ أَوْ فَخِذِ مَنْ هِيَ مَحْرَمٌ لَهُ فَضْلاً عَنْ حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، كَمَا لَمْ يَحِل لَمْسُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (3) ؛ وَلأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَل الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا، وَهُوَ - أَيِ الظِّهَارُ - تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الأُْمِّ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّظَرُ إِلَى ظَهْرِ الأُْمِّ وَبَطْنِهَا أَوْ لَمْسُهَا حَرَامًا لَمْ يَكُنِ الظِّهَارُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا.
وَكُل مَا يَحِل لِلرَّجُل مِنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ يَحِل مِثْلُهُ لَهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا، وَكُل مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا (4) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى مَا عَدَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَقِيل: يَحِل لَهُ النَّظَرُ فَقَطْ إِلَى
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6 / 367.
(2) حديث: " كان يقبل فاطمة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 700) من حديث عائشة وحسنه.
(3) سورة النور / 30.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2952، 2954.(31/49)
مَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَادَةً فِي الْعَمَل دَاخِل الْبَيْتِ، أَيْ إِلَى الرَّأْسِ وَالْعُنُقِ وَالْيَدِ إِلَى الْمِرْفَقِ وَالرِّجْل إِلَى الرُّكْبَةِ.
وَهُمْ يُقَرِّرُونَ هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِنَظَرِهَا إِلَى مَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَافِرُ مَحْرَمٌ لِقَرِيبَتِهِ الْمُسْلِمَةِ؛ لأَِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَدَخَل عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ فَطَوَتْ فِرَاشَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلاَّ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْتَجِبْ مِنْهُ وَلاَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
عَوْرَةُ الأَْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْرَةِ الأَْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ عَوْرَتَهَا هِيَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَوْرَتُهَا مِثْل عَوْرَةِ الْحُرَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَحَارِمِهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَوْرَتَهَا كَعَوْرَةِ الْحُرَّةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ النَّظَرُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 129.
(2) المغني 7 / 105، 106.(31/49)
إِلَيْهِ مِنَ الْحُرَّةِ (1) .
عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل:
8 - عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ - سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا لَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ - هِيَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ (3) وَالسُّرَّةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبْدَى سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ عِنْدَهُمْ (4) ، بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ. (5)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2904، 2955، والخرشي 2 / 131، 132، ومغني المحتاج 3 / 129، والمغني لابن قدامة 7 / 101.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2960.
(3) حديث: " ما تحت السرة عورة ". ورد بلفظ " ما تحت السرة إلى الركبة عورة ". أخرجه الدارقطني (1 / 23) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه كذلك أحمد (2 / 187) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه.
(4) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 105، وتبيين الحقائق 6 / 18.
(5) حديث: " الركبة من العورة ". أخرجه الدارقطني (1 / 231) من حديث علي بن أبي طالب، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.(31/50)
وَمَا جَازَ نَظَرُهُ مِنَ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل جَازَ لَمْسُهُ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ يَرَوْنَ أَنَّ الرُّكْبَةَ وَالسُّرَّةَ لَيْسَتَا مِنَ الْعَوْرَةِ فِي الرَّجُل، وَإِنَّمَا الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا فَقَطْ (2) .
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَل السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ. (3)
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا الْفَرْجَانِ (4) اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسِرَ يَوْمَ خَيْبَرَ الإِْزَارُ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى أَنِّي لأََنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (5)
وَجَوَازُ نَظَرِ الرَّجُل مِنَ الرَّجُل إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ عَوْرَةٍ مِنْهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ وُجُودِ الشَّهْوَةِ وَإِلاَّ حَرُمَ (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961.
(2) مغني المحتاج 3 / 129.
(3) حديث: " ما فوق الركبتين من العورة ". أخرجه الدارقطني (1 / 231) وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 279) .
(4) المغني 1 / 413، 414.
(5) حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسر يوم خيبر الإزار عن فخذه. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1044) .
(6) مغني المحتاج 3 / 130.(31/50)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل: لاَ يَحْرُمُ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ، وَقِيل: يُكْرَهُ عِنْدَ مَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ (1) ، بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ فَخِذَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَلَمَّا دَخَل عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَتَرَهُ وَقَال: أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ (2)
عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْرَةِ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لَهَا النَّظَرَ إِلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ إِنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ (3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ لَهَا النَّظَرَ إِلَى مَا يَرَاهُ الرَّجُل مِنْ مَحْرَمِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالأَْطْرَافُ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (4) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُجِيزُونَ لَهَا النَّظَرَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 388.
(2) حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف فخذه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1866) من حديث عائشة.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2957.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 215، المطبوع بدار الكتب العربية.(31/51)
إِلَى مَا هُوَ عَوْرَةٌ وَإِلَى مَا هُوَ غَيْرُ عَوْرَةٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ (1) ، بِدَلِيل عُمُومِ آيَةِ: {وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (2) وَبِدَلِيل مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ، فَأَقْبَل ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجِبَا مِنْهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لاَ يُبْصِرُنَا وَلاَ يَعْرِفُنَا؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ. (3)
وَالْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجِيزُ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ (4) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ. (5)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 132.
(2) سورة النور / 31.
(3) حديث أم سلمة: " كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده ميمونة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 361 - 362) ، وقال ابن حجر في فتح الباري (1 / 550) : حديث مختلف في صحته.
(4) المغني 7 / 106.
(5) حديث عائشة: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 336) ، ومسلم (2 / 609) .(31/51)
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ:
10 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ جِدًّا، وَحَدَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا الصِّغَرَ بِأَرْبَعِ سَنَوَاتٍ فَمَا دُونَهَا، ثُمَّ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ يُعْتَبَرُ فِي عَوْرَتِهِ مَا غَلُظَ مِنَ الْكَبِيرِ، وَتَكُونُ عَوْرَتُهُ بَعْدَ الْعَشْرِ كَعَوْرَةِ الْبَالِغِينَ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَنْبَغِي اعْتِبَارُ السَّبْعِ، لأَِمْرِهِمَا بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَا هَذِهِ السِّنَّ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الصَّغِيرَ ابْنَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ فَأَقَل لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَلِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ حَيًّا وَأَنْ تُغَسِّلَهُ مَيِّتًا، وَلَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ مَنْ هُوَ بَيْنَ التَّاسِعَةِ وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا غُسْلُهُ، وَالْبَالِغُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَا فَوْقَ عَوْرَتُهُ كَعَوْرَةِ الرَّجُل.
أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَهِيَ إِلَى سِنِّ السَّنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ فَلاَ عَوْرَةَ لَهَا إِذَا كَانَتْ رَضِيعَةً، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّضِيعَةِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَلاَ عَوْرَةَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسِّ فَعَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ لِلرَّجُل أَنْ يُغَسِّلَهَا، أَمَّا الْمُشْتَهَاةُ فَعَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ وَالتَّغْسِيل.
وَعَوْرَةُ الصَّغِيرِ فِي الصَّلاَةِ السَّوْأَتَانِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 407، 408.(31/52)
وَالْعَانَةُ وَالأَْلْيَتَانِ، فَيُنْدَبُ لَهُ سَتْرُهَا، أَمَّا عَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ فَهِيَ بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ سَتْرُهُ عَلَى الْحُرَّةِ فَمَنْدُوبٌ لَهَا فَقَطْ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِل النَّظَرِ إِلَى صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، إِلاَّ الْفَرْجُ فَلاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَفَرْجُ الصَّغِيرِ كَفَرْجِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَطَّانِ الأُْمَّ زَمَنَ الرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَ الأُْمِّ كَالأُْمِّ
وَالأَْصَحُّ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ فِي نَظَرِهِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ كَالرَّجُل الْبَالِغِ الأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَبْرُزَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (2) ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ مَعَهَا كَالْبَالِغِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَاهِقِ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يَحْكِي مَا يَرَاهُ فَكَالْعَدِمِ. أَوْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ كَالْمَحْرَمِ، أَوْ بِشَهْوَةٍ فَكَالْبَالِغِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَوْرَةَ الصَّغِيرِ فِي الصَّلاَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ كَعَوْرَةِ الْمُكَلَّفِ فِي
__________
(1) الخرشي 2 / 131، 132، وحاشية العدوي 1 / 185، و336.
(2) سورة النور / 31.(31/52)
الصَّلاَةِ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي هُوَ أَقَل مِنْ سَبْعِ سِنِينَ لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَسُّهُ، وَمَنْ زَادَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا قَبْل تِسْعِ سِنِينَ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَعَوْرَتُهُ الْقُبُل وَالدُّبُرُ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَعَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ. وَأَمَّا خَارِجُهَا فَعَوْرَتُهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلأَْجَانِبِ مِنَ الرِّجَال جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلاَّ الْوَجْهَ وَالرَّقَبَةَ وَالرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ (2) .
عَوْرَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلآْخَرِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَيُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِ الزَّوْجَةِ عَوْرَةً بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجِ وَكَذَلِكَ أَيُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا، وَعَلَيْهِ يَحِل لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ جِسْمِ الآْخَرِ وَمَسُّهُ حَتَّى الْفَرْجُ؛ لأَِنَّ وَطْأَهَا مُبَاحٌ، فَيَكُونُ نَظَرُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الآْخَرِ مُبَاحًا بِشَهْوَةٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 130.
(2) كشاف القناع 1 / 266، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 462.(31/53)
وَبِدُونِ شَهْوَةٍ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى (1) ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) وَمَا وَرَدَ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. (3)
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: يُكْرَهُ نَظَرُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى فَرْجِ الآْخَرِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ أَشَدُّ كَرَاهَةً (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مِنَ الأَْدَبِ أَنْ يَغُضَّ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرَ عَنْ فَرْجِ صَاحِبِهِ (5) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلاَ يَتَجَرَّدْ تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ (6)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2955، تبيين الحقائق 6 / 18، والدسوقي 2 / 215.
(2) سورة المؤمنون / 5، 6.
(3) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 110) وقال: حديث حسن.
(4) مغني المحتاج 3 / 134، والمغني 7 / 100، 101.
(5) تبيين الحقائق 6 / 19.
(6) حديث: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 619) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 337) .(31/53)
عَوْرَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
12 - الْخُنْثَى الْمُشْكِل الرَّقِيقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالأَْمَةِ، وَالْحُرُّ كَالْحُرَّةِ، أَيْ فِيمَا هُوَ عَوْرَةٌ مِنْهَا وَفِيمَا هُوَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ تَكْشِفَ الْخُنْثَى لِلاِسْتِنْجَاءِ وَلاَ لِلْغُسْل عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلاً؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ رَجُلٍ احْتَمَل أَنَّهَا أُنْثَى، وَإِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ أُنْثَى احْتَمَل أَنَّهَا ذَكَرٌ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِل يُعَامَل بِأَشَدِّ الاِحْتِمَالَيْنِ، فَيُجْعَل مَعَ النِّسَاءِ رَجُلاً وَمَعَ الرِّجَال امْرَأَةً، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ وَلاَ أَجْنَبِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لاِمْرَأَةٍ فَهُوَ مَعَهَا كَعَبْدِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخُنْثَى الْمُشْكِل كَالرَّجُل، لأَِنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُل مُحْتَمَلٌ فَلاَ نُوجِبُ عَلَيْهِ حُكْمًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ، وَالْعَوْرَةُ الْفَرْجَانِ اللَّذَانِ فِي قُبُلِهِ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا فَرْجٌ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ تَغْطِيَتُهُ يَقِينًا إِلاَّ بِتَغْطِيَتِهِمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ سِتْرُ مَا قَرُبَ مِنَ الْفَرْجَيْنِ ضَرُورَةَ سَتْرِهِمَا. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 404.
(2) مغني المحتاج 3 / 132.
(3) المغني 1 / 433، 434.(31/54)
الْعَوْرَةُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - يَجِبُ سِتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلاَةِ لِكِلاَ الْجِنْسَيْنِ فِي حَال تَوَفُّرِ السَّاتِرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ فِي الآْيَةِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ (3) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ، (4) أَيِ الْبَالِغَةِ، وَالثَّوْبُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَصِفُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْعَوْرَةِ لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ لاِنْكِشَافِ الْعَوْرَةِ. (5)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 12.)
مَا تَسْتُرُهُ الْمَرْأَةُ فِي الإِْحْرَامِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ مُحْرِمَةً لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا (6) إِذْ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 95، والشرح الصغير 1 / 283، والمجموع 3 / 152، والمغني 1 / 413.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) الدر المنثور 3 / 440 ط. دار الفكر.
(4) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود (1 / 421) ، والترمذي (1 / 215) من حديث عائشة، وحسنه الترمذي.
(5) تبيين الحقائق 1 / 95.
(6) بدائع الصنائع 3 / 1228، وتبيين الحقائق 2 / 38، وفتح القدير 2 / 142، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 54، 55، والمهذب 1 / 208، ومغني المحتاج 1 / 519، والمغني 3 / 301.(31/54)
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: إِحْرَامُ الرَّجُل فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا. وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (إِحْرَام 67 - 68) .
لَمْسُ الأَْجْنَبِيِّ أَوِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ الرَّجُل شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ. (1) وَلأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ. (2)
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ لَمْسِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ. وَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجُوزِ وَمَسِّ يَدِهَا لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. (3)
عَوْرَةُ الْمَيِّتِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَيِّتِ
__________
(1) حديث عائشة: " ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1489) .
(2) الشرح الصغير 1 / 290، ومغني المحتاج 3 / 132، والمغني 1 / 338.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2959، وتبيين الحقائق 6 / 18، وتكملة فتح القدير 8 / 98.(31/55)
يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا كَحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الْحَيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ. (1)
أَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتِ لِتَغْسِيلِهِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا.)
النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
17 - يُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَهَا النَّظَرُ. (2)
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَجُوزُ النَّظَرُ لِلشَّهَادَةِ تَحَمُّلاً وَأَدَاءً، هَذَا كُلُّهُ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ فَإِنْ خَافَهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلاَّ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَنْظُرُ وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ، كَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى وَالْوِلاَدَةِ، وَإِلَى الثَّدْيِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ. (3)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِلشَّاهِدِ النَّظَرُ إِلَى
__________
(1) حديث: " لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 303) ، وقال هذا الحديث فيه نكارة.
(2) الفواكه الدواني 2 / 410، ومغني المحتاج 3 / 133، 134، المغني 7 / 101.
(3) مغني المحتاج 3 / 133، 134.(31/55)
وَجْهِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى عَيْنِهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا. وَإِنْ عَامَل امْرَأَةً فِي بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ فَلَهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا لِيَعْلَمَهَا بِعَيْنِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّابَّةِ دُونَ الْعَجُوزِ، وَلَعَلَّهُ كَرِهَهُ لِمَنْ يَخَافُ الْفِتْنَةَ أَوْ يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُعَامَلَةِ، فَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ فَلاَ بَأْسَ. (1)
وَيُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى امْرَأَةٍ. وَلِلشَّاهِدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ الاِشْتِهَاءَ، لِلْحَاجَةِ إِلَى إِحْيَاءِ الْحُقُوقِ عَنْ طَرِيقِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
أَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَقِيل يُبَاحُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الاِشْتِهَاءِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لاِنْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ. إِذْ يُوجَدُ مَنْ يُؤَدِّيهَا دُونَ الاِشْتِهَاءِ بِخِلاَفِ حَالَةِ الأَْدَاءِ وَفِي حَالَةِ الزِّنَى تَنْهَضُ الْحَاجَةُ لِلنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ ثُمَّ أَدَائِهَا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَى بِدُونِ النَّظَرِ إِلَى هَذِهِ الْعَوْرَةِ. وَالْحُرْمَةُ تَسْقُطُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (2)
__________
(1) المغني 7 / 101.
(2) تبيين الحقائق 6 / 17، بدائع الصنائع 6 / 2956.(31/56)
كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، لأَِيٍّ مِنْ جِنْسِهِمَا أَوْ مِنَ الْجِنْسِ الآْخَرِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ أَوْ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ أَوْ نَحْوِهَا، وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرِيضَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ. وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَلْمِسَ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ أَوْ لَمْسِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ وَلاَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ جَازَ لِلطَّبِيبِ الذِّمِّيِّ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَلْمِسَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ قَدْ سَرَقَ فَقَال: انْظُرُوا إِلَى مُؤْتَزَرِهِ، فَنَظَرُوا وَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ نَظَرُ الطَّبِيبِ إِلَى مَحَل الْمَرَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ إِذَا كَانَ فِي الْوَجْهِ أَوِ الْيَدَيْنِ، قِيل وَلَوْ بِفَرْجِهَا لِلدَّوَاءِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ نَظَرُ الْفَرْجِ، قَال التَّتَّائِيُّ: وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ، إِذِ الْقَابِلَةُ أُنْثَى
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961، 2962، ومغني المحتاج 3 / 133 - 134، والمغني 7 / 101.(31/56)
وَهِيَ يَجُوزُ لَهَا نَظَرُ فَرْجِ الأُْنْثَى إِذَا رَضِيَتْ. (1)
كَشْفُ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الاِغْتِسَال:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الاِغْتِسَال فِي حَال الاِنْفِرَادِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِل وَحْدَهُ. . . . (2)
أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِتَار ف 8 وَمَا بَعْدَهَا)
السَّلاَمُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ:
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ وَلَوْ كَانَ الاِنْكِشَافُ لِضَرُورَةٍ، (3) وَأَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 410.
(2) حديث: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 358) ومسلم (1 / 267) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 617، والخرشي 3 / 110، والفواكه الدواني 2 / 422 وحاشية الجمل 5 / 189، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 305 ط دار القلم. والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 378، والمغني 1 / 166، 167.(31/57)
مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَلاَم ف 17)
الإِْنْكَارُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ
21 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ رَأَى شَخْصٌ غَيْرَهُ مَكْشُوفَ الرُّكْبَةِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَلاَ يُنَازِعُهُ إِنْ لَجَّ، وَفِي الْفَخِذِ يُعَنِّفُهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلاَ يَضْرِبْهُ إِنْ لَجَّ، وَفِي السَّوْأَةِ يُؤَدِّبُهُ إِنْ لَجَّ. (2)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَلْزَمُهُ الإِْنْكَارُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ (3) .
__________
(1) حديث: " أن رجلاً مرّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول. . . ". . أخرجه أبو داود (1 / 234) ، وأعله البخاري بالوقف كما في نصب الراية (1 / 152) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 409.
(3) مجموع فتاوى ابن تيميه 21 / 337، 338.(31/57)
عِوَض
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِوَضُ مَصْدَرُ عَاضَهُ عِوَضًا وَعِيَاضًا وَمَعْوَضَةً وَهُوَ الْبَدَل، تَقُول: عِضْتُ فُلاَنًا وَأَعَضْتُهُ وَعَوَّضْتُهُ: إِذَا أَعْطَيْتَهُ بَدَل مَا ذَهَبَ مِنْهُ، وَتَعَوَّضَ مِنْهُ وَاعْتَاضَ: أَخَذَ الْعِوَضَ وَاعْتَاضَهُ مِنْهُ وَاسْتَعَاضَهُ وَتَعَوَّضَهُ: سَأَلَهُ الْعِوَضَ، وَالْجَمْعُ أَعْوَاضٌ (1) .
وَالْعِوَضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقُ الْبَدَل، وَهُوَ مَا يُبْذَل فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ (2) . وَمِنْ إِطْلاَقَاتِ الْعِوَضِ ثَوَابُ الآْخِرَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الثَّمَنُ:
2 - الثَّمَنُ: مَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الشَّيْءَ، وَثَمَنُ كُل شَيْءٍ قِيمَتُهُ، وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ وَأَثْمُنٌ. (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المطلع على أبواب المقنع 216.
(3) الفروق للقرافي 3 / 2.
(4) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير.(31/58)
وَقَال صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا هُوَ عِوَضٌ مِنَ الْمَبِيعِ، (1) فَالثَّمَنُ أَخَصُّ مِنَ الْعِوَضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
3 - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعِوَضِ يَدُورُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَمُحَرَّمٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.
فَيَجِبُ أَدَاءُ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلاً فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ. (ر: بَيْع ف 61)
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنَ النَّقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ. (2)
وَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَجَّرِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا. كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَفْعُ الأُْجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَتَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسَلُّمِهِ لِلْعَيْنِ. (ر: إِجَارَة 45 - 48)
وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَدَاءُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى
__________
(1) المغرب.
(2) بداية المجتهد 2 / 170.(31/58)
لِزَوْجَتِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا الضَّمَانُ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. (ر: ضَمَان ف 6)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ جَنَى عَلَى شَخْصٍ الدِّيَةُ إِذَا تَحَقَّقَ شُرُوطُ وُجُوبِهَا. (ر: دِيَات ف 12) .
وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا وَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا حَصَل فِيهَا تَفَاضُلٌ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا. أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (ر: رَبَاب ف 14) .
وَقَدِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الأَْعْوَاضَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ. (ر: إِجَارَة ف 10، وَبَيْع ف 18) .
أَنْوَاعُ الْعِوَضِ:
يَنْقَسِمُ الْعِوَضُ إِلَى عِدَّةِ أَنْوَاعٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
4 - فَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَى
__________
(1) سورة النساء / 4.(31/59)
مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَمَا لاَ يَصِحُّ، فَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا هُوَ: مَا كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا لاَ يَصِحُّ هُوَ: مَا اخْتَلَّتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ بَعْضُهَا.
فَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ، (1) وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ وَالْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، (2) وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. (4) قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.
وَمِمَّا لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ الأَْشْجَارُ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالْمُصْحَفُ لِلنَّظَرِ فِيهِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، (5) وَكَذَا الشَّجَرُ لأَِخْذِ ثَمَرَتِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 2 / 11.
(3) حديث: " نهى عن ثمن الكلب ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426) ومسلم (3 / 1198) من حديث أبي مسعود البدري.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424) ومسلم (3 / 1207) من حديث جابر بن عبد الله.
(5) الفتاوى الهندية 4 / 411، وبدائع الصنائع 4 / 175.(31/59)
وَالشَّاةُ لأَِخْذِ لَبَنِهَا كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ. (1)
وَمِمَّا لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ جَعْل الْبُضْعِ مَهْرًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى. (ر: شِغَار ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)
5 - وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِهَا إِلَى عِوَضٍ مَالِيٍّ وَعِوَضٍ غَيْرِ مَالِيٍّ.
وَقَدْ مَثَّل الْفُقَهَاءُ لِلْعِوَضِ غَيْرِ الْمَالِيِّ بِعِدَّةِ أَمْثِلَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى مَسْأَلَةِ اسْتِبْدَال مَال التِّجَارَةِ بِغَيْرِ مَال التِّجَارَةِ فِي الزَّكَاةِ: شَمَل مَا لَوِ اسْتَبْدَلَهُ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلاً بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً أَوْ صَالَحَ بِهِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوِ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ. (2)
وَأَمَّا الْعِوَضُ الْمَالِيُّ فَهُوَ: الْعِوَضُ الْقَائِمُ بِالْمَال، وَالْمَال كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. (3)
6 - وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 20.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 21.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 3.(31/60)
إِلَى عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ وَحَقٍّ وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
شُرُوطُ الْعِوَضِ:
7 - وَضَعَ الشَّارِعُ لِلْعِوَضِ شُرُوطًا مُعَيَّنَةً حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُهُ عِوَضًا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ وَالتَّبَادُل.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ هُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالْمَبِيعِ وَشُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالثَّمَنِ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُ الْبَيْعِ. (ر: بَيْع ف 28 وَمَا بَعْدَهَا - 50)
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَْعْوَاضُ تَجْرِي فِيهَا عِلَّةُ الرِّبَا فَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. (ر: رِبًا ف 26)
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى شُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالأُْجْرَةِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا. (ر: إِجَارَة ف 27 وَمَا بَعْدَهَا)
وَلَيْسَ كُل شَيْءٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ شُرُوطٌ فِي الصَّدَاقِ لِيَصِحَّ كَوْنُهُ صَدَاقًا، قَال النَّوَوِيُّ: وَمَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ(31/60)
صَدَاقًا، (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. (2)
وَالدِّيَاتُ مُحَدَّدَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ شَرْعًا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَدَدِ وَالْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ.
(ر: دِيَات ف 29)
أَسْبَابُ ثُبُوتِ الْعِوَضِ:
أ - عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ:
8 - إِذَا تَمَّتْ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَدَلاَنِ اللَّذَانِ تَمَّ الاِتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ وَلِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَال. (3)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَحُكْمُهُ - أَيِ الْبَيْعِ - ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، (4) وَكَذَا إِذَا وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا وَهُوَ ثُبُوتُ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 276.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 329.
(3) بدائع الصنائع 5 / 233 ط. دار الكتاب العربي 1982م.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 6.(31/61)
الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الأُْجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْمُؤَجِّرِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ: لأَِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ. وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ. (1)
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الأُْجْرَةَ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَتَحْدُثُ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيل جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَل. (2)
وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إِذَا قَبَضَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُل التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ. وَيَمْلِكُ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْضًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَفِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم ف 29 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - عَقْدُ النِّكَاحِ:
9 - عَقْدُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلزَّوْجَةِ، وَحِل الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لِلزَّوْجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَنِ الآْخَرِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 201.
(2) مغني المحتاج 2 / 334.(31/61)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ لأَِنَّهُ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إِحْدَاثِ الْمِلْكِ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ (1) . وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ: لاَ يَحِل اسْتِبَاحَةُ الْفَرْجِ إِلاَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلاَ يَكُونُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِصَدَاقٍ، (2) قَال تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (3) وَقَال الْبُهُوتِيُّ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَنْفَعَةُ الاِسْتِمْتَاعِ لاَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالصَّدَاقُ هُوَ الْعِوَضُ فِي النِّكَاحِ. (4)
ج - الْجِنَايَاتُ.
10 - الْجِنَايَةُ هِيَ كُل فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا (5) .
وَالْجِنَايَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ، فَفِي الْقَتْل الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْقَاتِل إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، وَفِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 287
(2) المقدمات الممهدات 2 / 17، 30 ط. السعادة 1325 هـ.
(3) سورة النساء / 4.
(4) كشاف القناع 5 / 6، 128.
(5) التعريفات للجرجاني.(31/62)
مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي. وَفِي الْقَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَمِثْلُهُ الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
(ر: دِيَات: ف 8، 12)
كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَالاِعْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِإِبَانَةِ الأَْطْرَافِ أَوْ إِتْلاَفِ الْمَعَانِي أَوِ الشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات: ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)
وَالدِّيَةُ مَا هِيَ إِلاَّ عِوَضٌ لِمَا تَسَبَّبَ بِهِ الْجَانِي. (1)
د - الإِْتْلاَفَاتُ:
11 - مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ الإِْتْلاَفَاتُ. حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِوَضُ مَا أَتْلَفَهُ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِكَوْنِ الإِْتْلاَفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.
فَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاَثَةٌ:
أَحَدُهَا: التَّفْوِيتُ مُبَاشَرَةً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ وَقَتْل الْحَيَوَانِ وَأَكْل الطَّعَامِ وَنَحْوِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 301، والفواكه الدواني 2 / 257 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 7 / 299، وكشاف القناع 6 / 5.(31/62)
ذَلِكَ،
وَثَانِيهَا: التَّسَبُّبُ لِلإِْتْلاَفِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ وَوَضْعِ السُّمُومِ فِي الأَْطْعِمَةِ وَوُقُودِ النَّارِ بِقُرْبِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلإِْتْلاَفِ. (1)
وَقَال السُّيُوطِيُّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ. . . الثَّالِثُ: الإِْتْلاَفُ نَفْسًا أَوْ مَالاً. (2)
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاَثَةٌ: عَقْدٌ وَيَدٌ وَإِتْلاَفٌ، وَالْمُرَادُ بِالإِْتْلاَفِ أَنْ يُبَاشِرَ الإِْتْلاَفَ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالْقَتْل وَالإِْحْرَاقِ، أَوْ يَنْصِبَ سَبَبًا عُدْوَانًا فَيَحْصُل بِهِ الإِْتْلاَفُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، فَيَتَعَدَّى إِلَى إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ مُحْتَبَسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الاِنْطِلاَقُ فَيُزِيل احْتِبَاسَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلاَقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ (3)
وَالضَّمَانُ كَمَا فِي الْمَجَلَّةِ: هُوَ إِعْطَاءُ مِثْل الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ. (4)
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 27.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي 362.
(3) القواعد لابن رجب ص204.
(4) المادة 416 من مجلة الأحكام العدلية.(31/63)
هـ - تَفْوِيتُ الْبُضْعِ:
12 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ إِنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ عِوَضًا لِمَا فَوَّتَهُ. فَفِي مَتْنِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْل فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. (1)
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَضَمِنَ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ بِالتَّفْوِيتِ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَوْ ثَيِّبًا. وَفِي وَطْءِ الأَْمَةِ مَا نَقَصَهَا. (2)
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلاَ تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ بِالْوَطْءِ فَيَضْمَنُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل. (3)
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْل لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَلاَ مَمْلُوكَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ. (4)
- عَقْدُ الْجِزْيَةِ:
13 - الْجِزْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ سَوَاءٌ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَفَتْحِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 350.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 454.
(3) مغني المحتاج 2 / 286، و3 / 233.
(4) كشاف القناع 5 / 161.(31/63)
الْبِلاَدِ عَنْوَةً (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ هَل هِيَ عُقُوبَةٌ أَمْ عِوَضٌ أَمْ صِلَةٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلاً عَنْهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 19) .
ز - تَلَفُ الزَّكَاةِ وَالأُْضْحِيَّةِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُزَكِّي إِذَا تَلِفَ مَال الزَّكَاةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ أَيْ إِخْرَاجُ بَدَلِهَا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ كَالدَّيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِتَلَفِ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّي.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 244، واللباب في شرح الكتاب 4 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 266.(31/64)
أَنَّ تَلَفَ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لاَ يُسْقِطُهَا بَل تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَقَالُوا بِسُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 5)
كَمَا أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ إِذَا تَلِفَتْ أُضْحِيَّتُهُ الْمُعَيَّنَةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى. وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِالضَّمَانِ بِمَا إِذَا تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف 6)
ح - ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الضَّمَانُ بِالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَفِيمَا لاَ مِثْل لَهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 16 - 164 وَحَرَم ف 13)
وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً هِيَ: إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِين أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الثَّلاَثِ يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَان ف 138) .(31/64)
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُظَاهِرِ، وَهِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الآْتِي: الإِْعْتَاقُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الإِْطْعَامُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ظِهَار ف 28)
ط - التَّفْرِيطُ وَالتَّعَدِّي:
16 - مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ التَّعَدِّي، وَهُوَ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالتَّفْرِيطُ وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّضْيِيعُ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الضَّمَانَ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ كَإِهْمَال حِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَوْ إِيدَاعِهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ، وَمِثْلُهَا الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهُمَا مِنَ الأَْمَانَاتِ.
وَالتَّفْرِيطُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الأَْصْل فِي الْوَكِيل أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلاَ تَعَدٍّ، فَإِذَا ثَبَتَ تَفْرِيطُهُ أَوْ تَعَدِّيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَإِذَا فَرَّطَ الأَْجِيرُ فِيمَا وُكِّل إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ فَتَلِفَ مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِثْلُهُ الْوَصِيُّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ.
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ مَال غَيْرِهِ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ، وَعَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي(31/65)
إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَفٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
وَالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطُ أَيْضًا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَال دُونَ الْعَامِل لأَِنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَدِيعِ.
(ر: ضَمَان ف 53)
مَا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ:
17 - هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا. نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
(أ) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَلاَهِي الْمُحَرَّمَةِ.
(ر: إِجَارَة ف 108)
(ب) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
(ر: إِجَارَة ف 109)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ لِلْجِهَادِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ(31/65)
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْجِهَادِ تَعُودُ إِلَيْهِ فَالْمَنْفَعَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ.
وَلَوْ خَلَّصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلاَكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ لاَ تَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
وَلَوْ كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَادِيَةٍ فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَى الآْخَرِ تَعَهُّدُهُ، زَادَ الإِْمَامُ: وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، وَإِذَا وَجَبَ بَذْل الْمَاءِ الْفَاضِل عَنْهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الأَْصَحِّ. وَإِذَا تَحَمَّل شَهَادَةً وَطُلِبَ أَدَاؤُهَا مِنْهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِلنَّهْيِ (1) .
(ج) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ ف 26)
تَقْدِيرُ الْعِوَضِ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا يَلِي:
أ - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا:
18 - اشْتَرَطَ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 28 وما بعدها.(31/66)
وَمَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَذَلِكَ كَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ.
فَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ مَعْلُومًا.
قَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَشُرِطَ لِصِحَّتِهِ - أَيْ الْبَيْعِ - مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ. (1)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مَعْلُومَيْنِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَجَهْل أَحَدِهِمَا كَجَهْلِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَلِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ. . الْخَامِسُ: الْعِلْمُ بِهِ. . وَمَتَى كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا كَفَتْ مُعَايَنَتُهُ. (3)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ حَال الْعَقْدِ. (4)
وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالأُْجْرَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(ر: إِجَارَة ف 31 - 40)
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَدَلٌ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 21.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 15.
(3) مغني المحتاج 2 / 10، 16، 18.
(4) كشاف القناع 3 / 163، 173.(31/66)
عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا: كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
(ر: سَلَم ف 15 - 22) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ هَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا أَمْ لاَ؟
فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا (1) ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول. (ر: خُلْع ف 26)
ب - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَتَقْدِيرِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 265.(31/67)
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، (1) وَيُسَمَّى النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ.
بَل ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لاَ تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالطَّلاَقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَل عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِلاَ تَسْمِيَةٍ. (2)
وَخَالَفَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيض ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُقَدَّرًا، وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْع ف 26)
الأَْعْوَاضُ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ:
20 - قَامَ الشَّارِعُ بِتَقْدِيرِ بَعْضِ الأَْعْوَاضِ، وَلَمْ يَتْرُكْ تَقْدِيرَهَا لأَِحَدٍ وَذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ، وَتَقْدِيرُ الشَّارِعِ لِلْعِوَضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَحْدِيدِهِ، أَوْ بِوَضْعِ ضَابِطٍ
__________
(1) سورة البقرة / 236.
(2) بدائع الصنائع 2 / 274.
(3) تبيين الحقائق 2 / 136، حاشية الدسوقي 2 / 303، 313، مغني المحتاج 3 / 229، كشاف القناع 5 / 156.(31/67)
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِ الْعِوَضِ.
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ الدِّيَةُ، فَقَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الْخَطَأِ مَثَلاً مِائَةً مِنَ الإِْبِل أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ. وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ، وَالْقَتْل الْعَمْدُ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، لَكِنْ مَعَ التَّغْلِيظِ فِي الْحَالَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
وَأَيْضًا قَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الأَْطْرَافِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي وَالشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الشَّارِعِ فَدِيَةُ الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهِيَ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَنْ كُل يَوْمٍ حَصَل فِيهِ إِفْطَارٌ.
(ر: صَوْم ف 90)
وَفِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ الْفِدْيَةُ، وَهِيَ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِين أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
(ر: إِحْرَام ف 148)
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ بِوَضْعِ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَقْدِيرِهَا(31/68)
الْعِوَضُ فِي الإِْتْلاَفَاتِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: رَدُّ مِثْل الْهَالِكِ (الْمُتْلَفِ) إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَاءٌ مِثْل إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْل طَعَامٍ. (1)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلاَفِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ، فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْل إِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الإِْتْلاَفِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالاِعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ بِالْمِثْل، فَعِنْدَ الإِْمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَل بِالْمِثْل الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمِثْل صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْل مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ. (2)
(ر: ضَمَان ف 6، 18، 91)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الصَّدَاقُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ: وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْل، وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْمَهْرُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ (3) .
(ر: تَفْوِيض ف 8)
__________
(1) حديث: " إناء مثل إناء وطعام مثل طعام ". . أخرجه أبو داود (3 / 828) من حديث عائشة، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 125) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 168، والقوانين الفقهية 358 - 360 ط دار العلم للملايين 1979م.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 350، حاشية الدسوقي 3 / 454، مغني المحتاج 2 / 286، 3 / 233، كشاف القناع 5 / 161.(31/68)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَزَاءُ قَتْل الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ بَيَّنَهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِين أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ} . (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 161 وَمَا بَعْدَهَا)
تَجْزِئَةُ الْعِوَضِ:
21 - يَثْبُتُ الْعِوَضُ كَامِلاً حَسَبَ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَاقِدَانِ - كَمَا فِي الْعُقُودِ - أَوْ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ - كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالإِْتْلاَفَاتِ.
لَكِنْ هُنَاكَ حَالاَتٌ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا الْعِوَضُ كَامِلاً، مِنْهَا:
(أ) حَالَةُ مَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ التَّالِفِ مِنَ الثَّمَنِ (2) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْل
__________
(1) سورة المائدة / 95.
(2) بدائع الصنائع 5 / 240، وحاشية ابن عابدين 4 / 46.(31/69)
أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ. وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 14)
(ب) حَالَةُ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ إِذَا عَمِل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ مَا عَمِل. فَلِرَبِّ الْعَمَل أَنْ يُسْقِطَ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا عَمِل لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ مَجَّانًا.
(ر: إِجَارَة ف 106)
(ج) حَالَةُ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3)
(د) فِي الْخُلْعِ إِذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلاَثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الأَْلْفِ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا طَلَبَتِ الثَّلاَثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُل وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ الأَْلْفِ، وَهَذَا لأَِنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الأَْعْوَاضَ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ. (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 124.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 714.
(3) سورة البقرة / 237.
(4) فتح القدير 3 / 209 ط. الأميرية 1316هـ.(31/69)
تَسْلِيمُ الْعِوَضِ:
22 - إِذَا ثَبَتَ الْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ نَتِيجَةَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ تَصَرُّفٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.
وَيَخْتَلِفُ وَقْتُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفِ الْوَاقِعِ فِيهِ.
فَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ اشْتَرَطَ الشَّارِعُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ حَالاً وَفِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا أَعْوَاضٌ حَالَّةٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي بَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
(1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا)
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّتِهِ تَسْلِيمَ رَأْسِ
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب ". . أخرجه مسلم (3 / 1211) .(31/70)
الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَل الْعَقْدُ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ.
(ر: سَلَم ف 16)
وَفِي الشُّفْعَةِ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ حَالاً وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ مُؤَجَّلاً أَخَذَهُ الشَّفِيعُ إِلَى أَجَلِهِ.
(ر: أَجَل ف 41)
وَفِي الإِْقَالَةِ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ حَالاً فَأَجَّلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الإِْقَالَةِ. فَإِنَّ التَّأْجِيل يَبْطُل وَتَصِحُّ الإِْقَالَةُ.
ر: (أَجَل ف 39)
وَفِي دِيَةِ الْقَتْل الْعَمْدِ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل حَالَّةً غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 43) .
23 - وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُؤَجَّلاً بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
وَمِنْ هَذِهِ الأَْعْوَاضِ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْقَتْل الْخَطَأِ، حَيْثُ تَكُونُ الدِّيَةُ(31/70)
فِيهِمَا مُؤَجَّلَةً لِمُدَّةِ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ.
(ر: أَجَل ف 44 - 45)
وَمِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَال، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْحَال.
(ر: أَجَل ف 46) .
وَمِنْهَا الْعِوَضُ الْمُكَاتَبُ بِهِ حَيْثُ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الْكِتَابَةِ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ وَبِمَالٍ حَالٍّ.
(ر: أَجَل ف 47)
24 - وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَجَازَ الشَّارِعُ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيل الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. (1)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث عائشة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 433) .(31/71)
الرَّأْيِ الْمَرْجُوحِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْعَاقِدَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ.
(وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَجَل ف 33 وَمَا بَعْدَهَا)
مَوَانِعُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ:
25 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ - فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ - حَبْسَ الْعِوَضِ لاِسْتِيفَاءِ بَدَلِهِ، فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ الْمُعَجَّل.
(ر: اسْتِيفَاء ف 20)
وَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مُعَجَّلَةً فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الأُْجْرَةَ.
(ر: إِجَارَة ف 56)
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّل؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَل فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَل تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا (1) .
__________
(1) الاختيار 3 / 108، الخرشي على خليل 3 / 257، مغني المحتاج 3 / 222.(31/71)
وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا الصِّغَرُ، فَلاَ تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبُرَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ. (1)
وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْجِمَاعِ، وَتُمْهَل الْمَرْأَةُ إِلَى حِينِ زَوَال مَرَضِهَا. (2)
مُسْقِطَاتُ الْعِوَضِ:
هُنَاكَ أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْعِوَضِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَلاَكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ.
فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي.
(ر: تَلَف ف 9)
وَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِحَيْثُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 5 / 186.
(2) فتح القدير 3 / 249، حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 5 / 186.(31/72)
تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا كُلِّيَّةً كَالدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا، وَالسَّفِينَةُ إِذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا انْفَسَخَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ وَسَقَطَتِ الأُْجْرَةُ. (1)
ب - الإِْبْرَاءُ:
27 - الإِْبْرَاءُ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.
فَالإِْبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ عَنِ الذِّمَّةِ، وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ لِلإِْبْرَاءِ هُوَ النَّدْبُ.
(ر: إِبْرَاء ف 12)
ج - الْعَفْوُ:
28 - الْعَفْوُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي، كَانَ الْعَفْوُ مُسْقِطًا لَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا، وَتَبْقَى حِصَّةُ الآْخَرِينَ فِي مَال الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
وَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 196، الإنصاف 6 / 61.(31/72)
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ.
(ر: دِيَات ف 83)
د - الإِْسْلاَمُ:
29 - قَدْ يَكُونُ الإِْسْلاَمُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ. فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، فَلاَ يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الزَّمَانِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ. (1)
وَهُنَاكَ مُسْقِطَاتٌ أُخْرَى لِلْجِزْيَةِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي (مُصْطَلَحِ جِزْيَة ف 69 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " ليس على المسلم جزية ". . أخرجه أبو داود (3 / 438) ، وأشار أبو حاتم الرازي إلى إعلاله بالإرسال كما في علل الحديث (1 / 314) .(31/73)
عَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَوْل مَصْدَرُ عَال يَعُول، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الاِرْتِفَاعُ وَالزِّيَادَةُ يُقَال: عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِذَا ارْتَفَعَ حِسَابُهَا، وَزَادَتْ سِهَامُهَا، فَنَقَصَتِ الأَْنْصِبَاءُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْمُخْرَجِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، كَسُدُسِهِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْكُسُورِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ إِذَا ضَاقَ الْمُخْرَجُ عَنْ فَرْضٍ، أَوْ هُوَ زِيَادَةُ سِهَامِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِزِيَادَةِ كُسُورِهَا عَنِ الْوَاحِدِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّدُّ:
2 - مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ الرُّجُوعُ، يُقَال: رَدَّ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ وَرَدَدْتُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَارْتَدَّ إِلَيْهِ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) شرح السراجية ص194.
(3) المصباح المنير.(31/73)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَا فَضَل مِنْ فُرُوضِ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَى ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّدُّ ضِدُّ الْعَوْل، إِذْ بِالْعَوْل تُنْتَقَصُ سِهَامُ ذَوِي الْفُرُوضِ وَيَزْدَادُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَبِالرَّدِّ تَزْدَادُ السِّهَامُ وَيُنْتَقَصُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الْعَوْل تَفْضُل السِّهَامُ عَلَى الْمُخْرَجِ. وَفِي الرَّدِّ يَفْضُل الْمُخْرَجُ عَلَى السِّهَامِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْعَوْل مَشْرُوعٌ وَيُؤْخَذُ بِهِ إِذَا ضَاقَ الْمُخْرَجُ عَنِ الْوَفَاءِ بِسِهَامِ جَمِيعِ أَهْل الْفُرُوضِ. فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، فَالْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، فَرْضًا، وَقَدْ زَادَتِ الْفُرُوضُ عَمَّا تَنْقَسِمُ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ، لأَِنَّنَا لَوْ أَعْطَيْنَا الزَّوْجَ النِّصْفَ فَالْبَاقِي لاَ يَسَعُ النِّصْفَ وَالثُّلُثَ، وَهَكَذَا فِي حَالَةِ إِعْطَاءِ الآْخَرِينَ فُرُوضَهُمْ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعَوْل، أَيْ زِيَادَةِ أَصْل السِّهَامِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَيْ
__________
(1) حاشية الفناري على شرح السراجية ص238.
(2) شرح السراجية ص238.(31/74)
الْمُخْرَجِ، قَال فِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ: إِنَّ الْمُخْرَجَ إِذَا ضَاقَ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْفُرُوضِ الْمُجْتَمِعَةِ فِيهِ تُرْفَعُ التَّرِكَةُ إِلَى عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ ثُمَّ تُقْسَمُ حَتَّى يَدْخُل النُّقْصَانُ فِي فَرَائِضِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ (1) لأَِنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ قَدْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ وَهُوَ النَّصُّ، فَيَتَسَاوَوْنَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إِذَا اتَّسَعَ الْمَحَل وَيَنْقُصُ مِنْ حَقِّهِ إِذَا ضَاقَ الْمَحَل، كَالْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَالٍ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا مَثَلاً، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الضَّرْبُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ فِي ذَلِكَ الْمَال، لاِسْتِحَالَةِ وَفَائِهِ بِهَا. (2)
وَأَوَّل مَنْ حَكَمَ بِالْعَوْل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي عَهْدِهِ صُورَةٌ ضَاقَ مَخْرَجُهَا عَنْ فُرُوضِهَا، فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيهَا فَأَشَارَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَوْل، وَقَال: أَعِيلُوا الْفَرَائِضَ، فَتَابَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ (3) . وَفِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خِلاَفَهُ فِي الْعَوْل فَقَال: لَوْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَخَّرُوا
__________
(1) شرح السراجية ص194.
(2) شرح السراجية ص196.
(3) شرح السراجية ص195.(31/74)
مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ، فَقِيل لَهُ: مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَّرَهُ؟ فَقَال: قَدَّمَ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالأُْمَّ وَالْجَدَّةَ، وَأَخَّرَ اللَّهُ الْبَنَاتِ، وَبَنَاتِ الاِبْنِ، وَالأَْخَوَاتِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمَخَارِجِ سَبْعَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لاَ تَعُول أَصْلاً وَهِيَ الاِثْنَانِ وَالثَّلاَثَةُ وَالأَْرْبَعَةُ وَالثَّمَانِيَةُ؛ لأَِنَّ الْفُرُوضَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الْمَخَارِجِ إِمَّا أَنْ يَفِيَ الْمَال بِهَا أَوْ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا، وَثَلاَثَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَخَارِجِ قَدْ تَعُول، وَهِيَ سِتَّةٌ، وَاثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 56 - 62) .
__________
(1) شرح السراجية ص197 - 199، و200.(31/75)
عَوْم
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَوْمُ فِي اللُّغَةِ السِّبَاحَةُ، يُقَال رَجُلٌ عَوَّامٌ: مَاهِرٌ فِي السِّبَاحَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوْمِ.
2 - الْعَوْمُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهَا كَرُكُوبِ الْخَيْل وَالرِّمَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الْجِسْمَ، وَيُنَمِّي الْمَهَارَاتِ الْمَشْرُوعَةَ، وَيَدْفَعُ الْكَسَل وَالْخُمُول عَنِ الْمُسْلِمِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ (2)
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " علموا أبناءكم السباحة والرمي ". . أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6 / 401) ثم قال عن أحد رواته: إنه منكر الحديث.(31/75)
وَيَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ فِي الْعَوْمِ بِلاَ جُعْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي (سِبَاق ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
ضَمَانُ الْعَوَّامِ لِمَنْ غَرِقَ بِيَدِهِ.
3 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سُلِّمَ صَبِيٌّ إِلَى عَوَّامٍ لِيُعَلِّمَهُ الْعَوْمَ فَغَرِقَ الصَّبِيُّ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ؛ لأَِنَّ غَرَقَهُ بِإِهْمَال السَّبَّاحِ، وَهِيَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 259، ونهاية المحتاج 6 / 165، والمحلي مع القليوبي 4 / 265، والمغني لابن قدامة 8 / 652 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج 7 / 352، والمحلي مع القليوبي 4 / 147.(31/76)
عِيَادَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِيَادَةُ لُغَةً: الزِّيَارَةُ مُطْلَقًا، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي زِيَارَةِ الْمَرِيضِ، حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ تَصِل إِلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضِ الأَْفْرَادِ دُونَ بَعْضٍ،
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، وَقِيل: فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الأَْعْيَانِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ إِذَا قَامَ بِهَا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.(31/76)
الْغَيْرُ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ لأَِنَّهَا مِنَ الأُْمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِلاَّ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا.
وَتُكْرَهُ عِيَادَةُ ذِي بِدْعَةٍ دِينِيَّةٍ، وَتَحْرُمُ عَلَى الْعَالِمِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ ذِي الْبِدْعَةِ الدِّينِيَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِيَادَتِهِ لَهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَإِغْرَاءِ الْعَامَّةِ بِاتِّبَاعِهِ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِ.
وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الْفَاسِقِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ، وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ. (1)
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ حَدِيثُ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ (2) وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَبِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. (3)
__________
(1) حاشية رد المحتار 5 / 248، وشرح البخاري للعيني 8 / 9، والفواكه الدواني 2 / 427، والمدخل لابن الحاج 1 / 130 وما بعدها، ودليل الفالحين 6 / 33، وفتح الباري 10 / 202، والمغني 2 / 449، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 209.
(2) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 112) ومسلم (4 / 1704) من حديث أبي هريرة. واللفظ للبخاري.
(3) حديث البراء: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع الجنائز. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 112) .(31/77)
كَمَا تَجُوزُ عِيَادَةُ الْكَافِرِ خَاصَّةً إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ غُلاَمًا لِيَهُودٍ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَال: أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ، (1) وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ. (2)
وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّ أَهْل الذِّمَّةِ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِ قَوْلاَنِ. (3)
فَضْل عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
3 - وَرَدَ فِي فَضْل عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَال: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ
__________
(1) حديث أنسِ: " أن غلامًا ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 119) .
(2) حديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد يهوديًا. . . ". . أخرجه العقيلي في الضعفاء (2 / 243) من حديث أبي هريرة، وذكر أن في إسناده راويًا مجهولاً.
(3) المراجع السابقة.(31/77)
لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ (1) وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَل فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ، (2) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غَدْوَةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ (3)
آدَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
4 - مِنْ آدَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: أَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَأْنَسَ بِهِ، وَأَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِسْمِهِ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، وَيُنَفِّسَ لَهُ فِي الأَْجَل بِأَنْ يَقُول مَا يُسَرُّ بِهِ، وَيُوصِيهِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَرَضِهِ، وَيَذْكُرَ لَهُ فَضْلَهُ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ. وَيَسْأَل مِنْهُ الدُّعَاءَ فَدُعَاؤُهُ مُجَابٌ كَمَا وَرَدَ (4) .
__________
(1) حديث: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم. . . ". . أخرجه مسلم (4 / 1990) .
(2) حديث: " إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم. . . ". . أخرجه مسلم (4 / 1989) من حديث ثوبان.
(3) دليل الفالحين 3 / 367. . وحديث: " ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة. . . ". . أخرجه الترمذي (3 / 292) وحسنه.
(4) دليل الفالحين 6 / 33 - 34.(31/78)
وَمِنَ الآْدَابِ: أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ مَا يَسْتَرْوِحُ بِهِ كَرَيْحَانٍ أَوْ فَاكِهَةٍ. وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لِذَلِكَ، وَأَنْ يُرَغِّبَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَأَذَّ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ مَوْتٍ عَلَى الأَْوْجَهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّل حَال الْمَرِيضِ وَكَلِمَاتِهِ، فَإِنْ رَأَى الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَزَالَهُ عَنْهُ بِذِكْرِ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ لَهُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ الْمَرِيضَ جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَال سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ عُوفِيَ مِنْ وَجَعِهِ (1)
وَقْتُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
5 - تُسَنُّ الْعِيَادَةُ فِي كُل وَقْتٍ قَابِلٍ لَهَا بِأَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَى الْمَرِيضِ الدُّخُول عَلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ يَمْضِي مِنَ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، وَلأَِيِّ مَرَضٍ كَانَ. وَكَرَاهَتُهَا فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ لاَ
__________
(1) عن مختصر كتاب الإفادة لابن حجر الهيتمي. . وحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عاد المريض جلس عند رأسه. . . ". . أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 189. وأعله ابن حجر بالاضطراب في سنده، كما في الفتوحات الربانية لابن علان (4 / 62) .(31/78)
أَصْل لَهُ. وَتَكُونُ عَقِبَ الْعِلْمِ بِالْمَرَضِ وَإِنْ لَمْ تَطُل مُدَّةُ الاِنْقِطَاعِ. (1)
مَنْ تُشْرَعُ لَهُ زِيَارَةُ الْمَرِيضِ؟
6 - تُشْرَعُ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ الْمَرِيضَ وَمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْقَرِيبُ وَالأَْجْنَبِيُّ، إِلاَّ أَنَّهَا لِلْقَرِيبِ وَمَنْ يَعْرِفُهُ آكَدُ وَأَفْضَل لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، فَالْجَارُ هُوَ الْقَرِيبُ مِنْ مَحَلِّهِ بِحَيْثُ تَقْضِي الْعَادَةُ بِوُدِّهِ وَتَفَقُّدِهِ وَلَوْ مَرَّةً.
وَأَمَّا الْعَدُوُّ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الْعِيَادَةَ وَعَلِمَ أَوْ ظَنَّ كَرَاهَةَ الْمَرِيضِ لِدُخُول مَحَلِّهِ وَأَنَّهُ يَحْصُل لَهُ بِرُؤْيَتِهِ ضَرَرٌ لاَ يُحْتَمَل عَادَةً حَرُمَتِ الْعِيَادَةُ أَوْ كُرِهَتْ. (2)
الدُّعَاءُ لِلْمَرِيضِ:
7 - كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ
__________
(1) فتح الباري 10 / 113، ودليل الفالحين 3 / 372.
(2) فتح الباري 10 / 113.(31/79)
اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ. قَال: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَال إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ. (1)
وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَنْ يَعُودُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُول سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عُوفِيَ. (2)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ قَال أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (3)
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ تَأْنِيسٌ لَهُ، وَتَعَرُّفٌ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ، لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَبْدُو لَهُ
__________
(1) حديث سعد: " تشكيت بمكة فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 120) .
(2) حديث ابن عباس: " ما من عبد مسلم يعود مريضًا لم يحضر. . . ". . أخرجه الترمذي (4 / 410) وأعله ابن حجر بالاضطراب في سنده، كما في الفتوحات لابن علان (4 / 62) .
(3) حديث عائشة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضًا أو أتى به. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 131) .(31/79)
مِنْهُ، وَرُبَّمَا رَقَاهُ بِيَدِهِ وَمَسَحَ عَلَى أَلَمِهِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَلِيل. (1)
إِطْعَامُ الْمَرِيضِ مَا يَشْتَهِي:
8 - إِذَا اشْتَهَى الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ عَلَى الْعَائِدِ أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلاً فَقَال لَهُ مَا تَشْتَهِي؟ فَقَال: أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ إِلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ، (2) وَهَذَا إِذَا كَانَ لاَ يَضُرُّهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لَهُ فَلْيُسَوِّفْهُ عَنْهُ بِرِفْقٍ وَلاَ يُؤَسِّيهِ.
وَلَيْسَ لِلْعَائِدِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى تَنَاوُل شَيْءٍ، (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ (4)
__________
(1) الطب النبوي لابن القيم ص75.
(2) حديث ابن عباس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً. . . ". . أخرجه ابن ماجه (1 / 1138) وضعف إسناده ابن حجر، كما في الفتوحات لابن علان (4 / 89) .
(3) الطب النبوي ص70.
(4) حديث: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام. . . ". . أخرجه الترمذي (4 / 384) من حديث عقبة بن عامر، وحسنه. وانظر الطب النبوي ص70.(31/80)
عِيَافَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْعِيَافَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا: الْكَرَاهِيَةُ لِلطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ، يُقَال: عَافَ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ يَعَافُهُ عَيْفًا وَعِيَافَةً: كَرِهَهُ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَالْعَائِفُ لِلشَّيْءِ: الْكَارِهُ الْمُتَقَذِّرُ لَهُ.
وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى زَجْرِ الطَّيْرِ لِلتَّشَاؤُمِ أَوِ التَّفَاؤُل بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا. (1) وَمِنْهَا الْعَائِفُ الَّذِي يَعِيفُ الطَّيْرَ فَيَزْجُرُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى زَجْرِ الطَّيْرِ وَالتَّفَاؤُل أَوِ التَّشَاؤُمِ بِأَسْمَائِهَا وَبِأَصْوَاتِهَا وَمَمَرَّاتِهَا كَانَتْ عَادَةً لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبْطَل الإِْسْلاَمُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَرْجَعَ الأَْمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ الْمُطْلَقَةِ، وَسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ فِي
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، فتح الباري 10 / 212 - 216. .(31/80)
الْكَوْنِ.
جَاءَ فِي الأَْثَرِ: الْعِيَافَةُ، وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ. (1) (ر: تَطَيُّر ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَمَّا الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ تَنَاوُلِهِ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَقَال بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُول اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُل، فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُول اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَال خَالِدٌ: فَاجْتَزَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ. (2)
فَقَدْ أُكِل الضَّبُّ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَتَبَيَّنَ حِلُّهُ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَهُ لِعَدَمِ إِلْفِهِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة ف 54) .
__________
(1) حديث: " العيافة والطيرة والطرق ". . أخرجه أبو داود (4 / 299) وفي إسناده اضطراب كما في التهذيب لابن حجر (3 / 68) .
(2) حديث: " لم يكن بأرض قومي ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 663) من حديث خالد بن الوليد.
(3) نهاية المحتاج / 144(31/81)
عِيَال
انْظُرْ: أُسْرَة.
عَيْب
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَيْبُ لُغَةً: الْوَصْمَةُ وَالنَّقِيصَةُ، وَالْجَمْعُ أَعْيَابٌ وَعُيُوبٌ، وَرَجُلٌ عَيَّابٌ وَعَيَّابَةٌ وَعَيْبٌ: كَثِيرُ الْعَيْبِ، يُقَال: عَيَّبَ الشَّيْءَ فَعَابَ: إِذَا صَارَ ذَا عَيْبٍ فَهُوَ مَعِيبٌ، أَوْ هُوَ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ. (1)
وَاصْطِلاَحًا يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْعَيْبِ
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، وأحكام القرآن للقرطبي 11 / 34.(31/81)
بِاخْتِلاَفِ أَقْسَامِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: حُدُودُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَالْعَيْبُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ الَّذِي يَثْبُتُ بِسَبَبِهِ الْخِيَارُ: هُوَ مَا نَقَصَتْ بِهِ الْمِلْكِيَّةُ أَوِ الرَّغْبَةُ أَوِ الْغَبْنُ، وَالْعَيْبُ فِي الْكَفَّارَةِ: مَا أَضَرَّ بِالْعَمَل ضَرَرًا بَيِّنًا، وَالْعَيْبُ فِي الأُْضْحِيَّةِ: هُوَ مَا نَقَصَ بِهِ اللَّحْمُ، وَالْعَيْبُ فِي النِّكَاحِ: مَا يُنَفِّرُ عَنِ الْوَطْءِ وَيَكْسِرُ ثَوْرَةَ التَّوَاقِ، وَالْعَيْبُ فِي الإِْجَارَةِ: مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ تَأْثِيرًا يَظْهَرُ بِهِ تَفَاوُتُ الأُْجْرَةِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغِشُّ:
2 - الْغِشُّ نَقِيضُ النُّصْحِ، يُقَال: غَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا إِذَا تَرَكَ نُصْحَهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَالْغِشُّ يَكُونُ عَيْبًا قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ (2) .
ب - الْكَذِبُ:
3 - الْكَذِبُ: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا. (3) وَالْكَذِبُ أَخَصُّ مِنَ الْعَيْبِ.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 4 / 53.
(2) لسان العرب، بلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 81.
(3) لسان العرب، المصباح المنير، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 56.(31/82)
ج - الْغَبْنُ:
4 - الْغَبْنُ الْوَكْسُ وَالْخَدِيعَةُ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، قَال الرَّاغِبُ: الْغَبْنُ أَنْ تَبْخَسَ صَاحِبَكَ فِي مُعَامَلَةٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الإِْخْفَاءِ (1) .
وَالْغَبْنُ إِذَا كَانَ فَاحِشًا يَكُونُ عَيْبًا يُؤَثِّرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
د - الْعَاهَةُ:
5 - الْعَاهَةُ: هِيَ مَا يُصِيبُ الإِْنْسَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ مِنَ الْبَلاَيَا وَالآْفَاتِ (2) . وَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالْعَاهَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا
. الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْبِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ. حَصَرَهَا النَّوَوِيُّ فِي سِتَّةِ أَقْسَامٍ. وَالْقَلْيُوبِيُّ فِي ثَمَانِيَةٍ
الْعَيْبُ فِي الْمَبِيعِ:
6 - ضَابِطُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ
__________
(1) لسان العرب، تهذيب الأسماء واللغات 4 / 58 والمفردات للراغب. .
(2) لسان العرب، وسبل السلام 3 / 46.(31/82)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ لأَِنَّ التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ كُل مَا يُنْقِصُ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ نَقْصًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ إِذَا غَلَبَ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، سَوَاءٌ قَارَنَ الْعَقْدَ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ قَبْل الْقَبْضِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ وُجُودُ نَقْصٍ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، الْعَادَةُ السَّلاَمَةُ مِنْهُ (3)
الْعُيُوبُ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ نَذْكُرُ مِنْهَا:
أَوَّلاً - الْعُيُوبُ الظَّاهِرَةُ:
أ - عُيُوبُ الدَّوَابِّ:
7 - عُيُوبُ الدَّوَابِّ هِيَ الَّتِي تُزَهِّدُ فِيهَا، وَتُنْقِصُ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَهِيَ كَالْعَوَرِ وَالْحَرَدِ وَالرَّمَصِ وَالدَّبَرِ وَالْفَحَجِ وَالْمَشَشِ وَالدَّخَسِ وَالْعَضِّ وَالْجَفْل (4) وَالْجِمَاحِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 71، والمغني لابن قدامة 4 / 168.
(2) حاشية القليوبي 2 / 198، 199.
(3) الشرح الصغير 3 / 152.
(4) الحرد: الغضب، والرمص: جمود الوسخ في موق العين، والدبر: قرحة الدابة والبعير، والفحج: تباعد ما بين أوساط ساقي الحيوان، والمشش: ورم يأخذ في مقدم عظم باطن الساق، والدخس: داء يأخذ في حافر الدابة، والجفل: شرود الدابة (لسان العرب) .(31/83)
وَمَقْطُوعَةِ الأُْذُنِ لِلأُْضْحِيَّةِ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِ الأُْضْحِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ.
ب - عُيُوبُ الأَْرْضِ:
8 - مِنْ عُيُوبِ الأَْرْضِ وَمَا اتَّصَل بِهَا كَالْبِئْرِ: مَا يَضُرُّ بِالزَّرْعِ كَغَوْرِ مَاءِ الْبِئْرِ أَوْ زُعَاقِ مَائِهَا وَفِقْدَانِ الْمَسِيل وَتَعَذُّرِ الإِْنْبَاتِ فِيهَا، وَالْخَرَاجِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ الْمُجَاوِرَةُ لَيْسَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَمِلْحِ مَاءِ الْبِئْرِ. (1)
ج - عُيُوبُ الدُّورِ:
9 - مِنْ عُيُوبِ الدُّورِ، تَصَدُّعُ الْجُدْرَانِ أَوِ انْكِسَارُ الأَْخْشَابِ أَوْ سُوءُ جَارِهَا أَوْ شُؤْمُهَا أَوْ جِنُّهَا، أَوْ أَنَّهُ لاَ مِرْحَاضَ لَهَا أَوْ عَدَمُ الطَّرِيقِ أَوِ الْمَسِيل أَوْ مُجَاوَرَةُ مَوْضِعِ صَنْعَةٍ تَضُرُّ بِالْبِنَاءِ أَوِ السَّاكِنِ.
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ عُيُوبَ الدَّارِ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعُيُوبُ مُعْظَمَ الثَّمَنِ فَيَرُدُّ بِهِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَنْقُصَ مِنَ الثَّمَنِ، فَهَذَا لاَ يُرَدُّ بِهِ وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، كَسُقُوطِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 72، 73، وفتاوى قاضي خان على الهندية 2 / 194، حاشية الدسوقي 3 / 104، والمنتقى للباجي 4 / 188، ومغني المحتاج 2 / 51، وروضة الطالبين 3 / 460.(31/83)
شُرَافَةٍ أَوْ كَسْرِ عَتَبَةٍ أَوْ رَفٍّ أَوْ خَلْعِ بَلاَطَةِ أَرْضٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ يَنْقُصَ مُعْظَمُهُ، فَهَذَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ وَلاَ تُرَدُّ بِهِ الدَّارُ - وَعِنْدَ بَعْضِ الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّهُ تُرَدُّ بِهِ - وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الدَّارَ تُخَالِفُ سَائِرَ الْمَبِيعَاتِ، بِدَلِيل أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ مِنْهَا الْيَسِيرَ لَزِمَ الْبَاقِي بِالثَّمَنِ.
وَلَوِ اسْتَحَقَّ مِنَ الْعَبْدِ الْيَسِيرَ لَمْ يَلْزَمِ الْبَاقِي.
وَوَجْهُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الدَّارِ وَغَيْرِهَا: أَنَّ هَذَا مَبِيعٌ وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَيَثْبُتُ فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مَا لَمْ يَفُتْ. (1)
د - عُيُوبُ الْكُتُبِ:
10 - مِنْ عُيُوبِ الْكُتُبِ تَلَفُ الْوَرَقِ وَاخْتِلاَفُهُ وَكَثْرَةُ الْخَطَأِ فِيهِ. (2)
عُيُوبُ الثِّيَابِ:
11 - مِنْ عُيُوبِ الثِّيَابِ: الْخَرْقُ وَاخْتِلاَفُ النُّسَخِ، وَتَنَجُّسُ مَا يُفْسِدُهُ الْغُسْل أَوْ يَنْقُصُ
__________
(1) المنتقى للباجي 4 / 189، 190 ط بيروت، ومواهب الجليل 4 / 434، وحاشية الدسوقي 3 / 102، 103.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 73، 74، وروضة الطالبين 3 / 463.(31/84)
مِنْ ثَمَنِهِ، وَثَوْبُ الأَْجْرَبِ وَوُجُودُ الدُّهْنِ بِالثَّوْبِ وَنَحْوُهَا.
ثَانِيًا - الْعُيُوبُ الْخَفِيَّةُ فِي الْمَبِيعِ:
12 - مِنَ الْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ مَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَبِيعِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا التَّفْصِيل التَّالِي:
إِذَا اشْتَرَى إِنْسَانٌ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالرَّانَجِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَاللَّوْزِ وَالْبَيْضِ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِفَاسِدِهِ قِيمَةٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ، أَوْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَاسِدًا وَالْبَعْضُ صَحِيحًا.
13 - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَاسِدِهِ مَكْسُورًا قِيمَةٌ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، لأَِنَّ هَذَا تَبَيَّنَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، لِكَوْنِهِ وَقَعَ عَلَى مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ إِلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ. إِذْ لاَ قِيمَةَ لَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِلَى أَنَّ مَا لاَ يُمْكِنُ الاِطِّلاَعُ عَلَى عَيْبِهِ إِلاَّ بِتَغَيُّرٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 284، وروضة الطالبين 3 / 484، والمغني لابن قدامة 4 / 185، 186، والخرشي 5 / 130، 131.(31/84)
فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ كَسُوسِ الْخَشَبِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ الْمُرِّ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ عَيْبًا، وَلاَ قِيمَةَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الرَّدَّ فَيَعْمَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَضٌ وَمَالِيَّةٌ، وَالْعَادَةُ فِي الرَّدِّ كَالشَّرْطِ (1) .
14 - وَإِنْ كَانَ لِفَاسِدِهِ قِيمَةٌ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ مَا دَامَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لأَِنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ، فَلَوْ رُدَّ لَرُدَّ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ، فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ قَبْل التَّغَيُّرِ كَالْبَيْضِ، فَكَسَرَهُ وَوَجَدَهُ فَاسِدًا مُنْتِنًا لاَ يُؤْكَل فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي كَسْرِهِ، دَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لاَ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ كَالْبَيْضِ الْمَمْرُوقِ إِنْ دَلَّسَ الْبَائِعُ -
__________
(1) الخرشي 5 / 131.
(2) بدائع الصنائع 5 / 184، وروضة الطالبين 3 / 484، 485، والمغني لابن قدامة 4 / 186.(31/85)
كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي أَمْ لاَ - أَوْ لَمْ يُدَلِّسِ الْبَائِعُ وَلَمْ يَكْسِرْهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَسَرَهُ رَدَّهُ وَمَا نَقَصَهُ، مَا لَمْ يَفُتْ بِنَحْوِ قَلْيٍ فَلاَ رَدَّ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، فَيُقَوَّمُ سَالِمًا يَوْمَ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ غَيْرُ مَعِيبٍ وَصَحِيحٌ مَعِيبٌ، فَإِذَا قِيل: قِيمَتُهُ صَحِيحًا غَيْرَ مَعِيبٍ عَشْرَةٌ، وَصَحِيحًا مَعِيبًا ثَمَانِيَةٌ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ الْخُمُسُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْكَسْرِ وَإِلاَّ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا إِذَا كَسَرَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ لَمْ يَرُدَّهُ، إِذْ لاَ يَدْرِي أَفَسَدَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُبْتَاعِ، قَالَهُ مَالِكٌ، قَال ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُهَا وَلَوْ بَيْضَ النَّعَامِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُرَدُّ بَيْضُ النَّعَامِ لِكَثَافَةِ قِشْرِهِ، فَلاَ يُعْرَفُ فَسَادُهُ وَصِحَّتُهُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ الرَّدُّ قَهْرًا كَالْمُصَرَّاةِ إِنْ كَانَ لاَ يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ إِلاَّ بِكَسْرِهِ، وَلاَ يَغْرَمُ أَرْشَ الْكَسْرِ عَلَى الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ.
__________
(1) الخرشي 5 / 131، حاشية الدسوقي 3 / 113، 114.(31/85)
صَحِيحًا فَاسِدَ اللُّبِّ، وَمَكْسُورًا فَاسِدَ اللُّبِّ، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ بِأَقَل مِنْ ذَلِكَ الْكَسْرِ فَلاَ رَدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ وَقِيل: يَطَّرِدُ الْقَوْلاَنِ، وَعَلَى هَذَا فَكَسْرُ الْجَوْزِ وَنَحْوِهِ وَثَقْبُ الرَّانَجِ مِنْ صُوَرِ الْحَال الأَْوَّل، وَكَسْرُ الرَّانَجِ وَتَرْضِيضُ بَيْضِ النَّعَامِ مِنْ صُوَرِ الْحَال الثَّانِي. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِمَعِيبِهِ قِيمَةٌ مَكْسُورًا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ اسْتِعْلاَمُ الْمَبِيعِ بِدُونِ الْكَسْرِ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَرَدِّ أَرْشِ الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ عَيْبِهِ وَهُوَ قِسْطُ مَا بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعِيبِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يَمْنَعِ الرَّدَّ، فَلَزِمَ رَدُّ أَرْشِهِ؛ كَلَبَنِ الْمُصَرَّاةِ إِذَا حَلَبَهَا، وَالْبِكْرِ إِذَا وَطِئَهَا.
وَقَال الْقَاضِي: لاَ أَرْشَ عَلَيْهِ لِكَسْرِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَصَل بِطَرِيقِ اسْتِعْلاَمِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ تُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ كَسْرًا يُمْكِنُ اسْتِعْلاَمُ الْمَبِيعِ بِدُونِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْحُكْمُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 485.(31/86)
فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْل الْخِرَقِيِّ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي أَيْضًا، فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَأَرْشِ الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ وَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ. وَإِنْ كَسَرَهُ كَسْرًا لاَ يَبْقَى لَهُ قِيمَةٌ فَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ لاَ غَيْرُ هَذَا إِذَا كَانَ كُل الْمَبِيعِ فَاسِدًا. (1)
15 - أَمَّا إِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ فَاسِدًا دُونَ الْبَعْضِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلاً، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا بَطَل فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ يَفْسُدُ فِي الْبَاقِي.
وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ قَلِيلاً فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُل، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَلاَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّ قَلِيل الْفَسَادِ فِيهِ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ فَصَّل تَفْصِيلاً آخَرَ فَقَال: إِذَا وُجِدَ الْبَيْعُ كُلُّهُ فَاسِدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 186.(31/86)
كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ. فَالْبَيْعُ لاَ يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَانَ الْقِشْرُ مَالاً، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ نَاقِصًا وَقَبِل قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَل؛ لأَِنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ.
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيل أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُل، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ قَلِيلاً قَدْرَ مَا لاَ يَخْلُو مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِهِ فَلاَ يَرُدُّ وَلاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِ قِيمَةٌ - كَالْبَيْضِ الْمَمْرُوقِ - فَإِنْ دَلَّسَ بَائِعُهُ رَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي أَمْ لاَ، أَوْ لَمْ يُدَلِّسْ وَلَمْ يَكْسِرْهُ.
فَإِنْ كَسَرَهُ فَلَهُ رَدُّهُ وَمَا نَقَصَهُ، مَا لَمْ يَفُتْ بِنَحْوِ قَلْيٍ، وَإِلاَّ فَلاَ رَدَّ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ سَالِمًا وَمَعِيبًا. فَيَقُومُ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ غَيْرُ مَعِيبٍ وَصَحِيحٌ مَعِيبٌ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 284.
(2) الدسوقي 3 / 113، 114.(31/87)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْفَاسِدُ مِنْ بَيْضٍ وَجَوْزٍ وَلَوْزٍ وَنَحْوِهِ فِي بَعْضِهِ دُونَ كُلِّهِ رَجَعَ بِقِسْطِ الْفَاسِدِ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ النِّصْفَ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الرُّبُعَ رَجَعَ بِرُبُعِهِ (1) .
أَثَرُ الْعَيْبِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
16 - إِذَا وُجِدَ الْعَيْبُ بِشُرُوطِهِ ثَبَتَ حَقُّ الرَّدِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْعُرْفِ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ غُلاَمًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَال الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ (4) وَفِي رِوَايَةٍ - الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (5) وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 224.
(2) تبيين الحقائق 4 / 231، 232، الدسوقي 3 / 108، مغني المحتاج 2 / 63، والمغني لابن قدامة 4 / 159.
(3) سورة النساء / 29.
(4) حديث: " الغلة بالضمان ". . أخرجه الحاكم (2 / 15) من حديث عائشة، وصححه ووافقه الذهبي.
(5) حديث: " الخراج بالضمان ". . أخرجه أبو داود (3 / 780) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 22) .(31/87)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَدْخَل يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ، فَقَال: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي (1)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ السِّلْعَةِ الْمُبَاعَةِ لِلْعَيْبِ وَكَانَ الْعَيْبُ مُنْقِصًا لِلْقِيمَةِ أَوْ مُفَوِّتًا غَرَضًا صَحِيحًا شَرْعًا.
وَقَدْ قَاسَ الْفُقَهَاءُ الْعَيْبَ عَلَى الْمُصَرَّاةِ، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ (2)
وَهَذَا يَدُل عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ وَالرَّدِّ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَل الثَّمَنَ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ سَلِيمًا وَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَلأَِنَّ السَّلاَمَةَ فِي الْمَبِيعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً؛ لأَِنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي الاِنْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلاَ يَتَكَامَل الاِنْتِفَاعُ إِلاَّ بِسَلاَمَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلِّم لَهُ جَمِيعَ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ السَّلاَمَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً، فَهِيَ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا، فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ. (3)
__________
(1) حديث: " من غش فليس مني ". . أخرجه مسلم (1 / 99) .
(2) حديث: " من اشترى شاة محفلة فردها ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 361) .
(3) المراجع السابقة. ونيل الأوطار 5 / 241.(31/88)
إِعْلاَمُ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا بِالْمَبِيعِ يَكْرَهُهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يُبَيِّنَهُ بَيَانًا مُفَصَّلاً، وَأَنْ يَصِفَهُ وَصْفًا شَافِيًا زِيَادَةً عَلَى الْبَيَانِ، إِنْ كَانَ شَأْنُهُ الْخَفَاءَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُغْتَفَرُ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْبَيَانِ وَيَكُونُ آثِمًا عَاصِيًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ (1) وَلِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا (2) وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ وَالْغِشُّ حَرَامٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (3)
__________
(1) حديث: " لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا. . . ". . أخرجه ابن ماجه (2 / 755) والحاكم (2 / 10) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " البيعان بالخيار. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 328) ومسلم (3 / 1164) .
(3) حديث: " من غشنا فليس منا ". . أخرجه مسلم (1 / 99) .(31/88)
18 - وَلاَ يَقْتَصِرُ الإِْعْلاَمُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ، بَل يَمْتَدُّ إِلَى كُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ إِذَا انْفَرَدَ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ.
وَوَقْتُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالأَْجْنَبِيِّ قَبْل الْبَيْعِ، لِيَكُونَ الْمُشْتَرِي عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْجْنَبِيُّ حَاضِرًا أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَ الْعَقْدِ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. (1)
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ مَعَ كِتْمَانِ الْعَيْبِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ مَعَ الإِْثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّصْرِيَةِ (2) وَصَحَّحَ الْبَيْعَ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 31، حاشية الدسوقي 3 / 119، والمغني لابن قدامة 4 / 159، نيل الأوطار للشوكاني 5 / 239، ومغني المحتاج 2 / 63.
(2) حديث: " نهى عن التصرية ". . أخرجه مسلم (3 / 1155) من حديث أبي هريرة.
(3) تبيين الحقائق 2 / 31، حاشية الدسوقي 2 / 119، 120، وحاشية عميرة على المحلي 2 / 197، والمغني لابن قدامة 4 / 159. .(31/89)
شُرُوطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْبِ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:
19 - وَذَلِكَ بِمَعْنَى: أَنَّهُ حَدَثَ عِنْدَ الْبَائِعِ سَوَاءٌ حَدَثَ قَبْل الْعَقْدِ أَوْ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْل الْقَبْضِ وَتَسَلُّمِ الْمَبِيعِ، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِزَالَتِهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَتِهِ فَلاَ رَدَّ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُل عَيْبٍ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةٍ لاَحِقَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَضَمَانُهُ مِنَ الْبَائِعِ لاَ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَهُمْ بِالْعُهْدَةِ. وَقَدْ عَرَّفَهَا الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ الْمَبِيعِ بِضَمَانِ بَائِعِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَيْدٍ عَلَى شَرِيطَةِ قِدَمِ الْعَيْبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَبِنْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِلاَّ بَعْدَ إِبْرَامِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الأَْصْل أَنْ يَضْمَنَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ إِلاَّ فِي الْعُهْدَةِ وَالْجَوَائِحِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 72، ترتيب الأشباه ص 263، الفتاوى الهندية 3 / 66، الدسوقي 3 / 129، المهذب 1 / 425، والمغني لابن قدامة 6 / 30، 31.
(2) بداية المجتهد 2 / 177، 184، والدسوقي 3 / 142، والحطاب 4 / 473.(31/89)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَة)
- عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:
20 - وَصُورَةُ الْبَرَاءَةِ أَنْ يَقُول: بِعْتُ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُل عَيْبٍ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُل عَيْبٍ جَائِزٌ. وَيَبْرَأُ مِنْ كُل عَيْبٍ، وَلاَ يُرَدُّ بِحَالٍ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُشْتَرِي قِبَل الْبَائِعِ. فَإِذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ، وَمِنْ بَابِ الْغَبْنِ وَالْغِشِّ إِذَا عَلِمَهُ وَذَلِكَ لأَِثَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ، فَقَال الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ بِالْبَرَاءَةِ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ،(31/90)
فَصَحَّ الْعَبْدُ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ الْبَائِعُ مِنْ كُل عَيْبٍ فِي الْحَيَوَانِ لاَ يَعْلَمُهُ دُونَ مَا لاَ يَعْلَمُهُ، وَلاَ يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ بِحَالٍ (1) .
رِضَا الْبَائِعِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَلاَ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِإِرَادَةِ الْمُشْتَرِي الْمُنْفَرِدَةِ (2) وَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلرَّدِّ بِالْعَيْبِ رِضَا الْبَائِعِ أَوْ حُكْمُ حَاكِمٍ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي حُصُول
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، 172، والقوانين الفقهية ص270، وبداية المجتهد 2 / 160، وروضة الطالبين 3 / 470، 471، وشرح الروض 2 / 63، والمغني لابن قدامة 4 / 197.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 91، والمهذب للشيرازي 1 / 284، والمغني لابن قدامة 4 / 273.(31/90)
الرَّدِّ بِقَوْل الْمُشْتَرِي دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ أَوْ تَرَاضٍ.
تَمَسُّكُ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مَعَ الأَْرْشِ:
22 - إِذَا تَمَسَّكَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَالْمُطَالَبَةِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. دُونَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ أَوْ تَصَرُّفٌ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيُعْطِي لِلْمُشْتَرِي الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالأَْرْشِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
أَوَّلاً - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَيَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ؛ لأَِنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، وَالأَْوْصَافُ لاَ تُقَابَل بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلأَِنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَال الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَل مِنَ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ، وَلأَِنَّ التَّمَسُّكَ بِالْمَعِيبِ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا بِهِ وَيُمْتَنَعُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ أَوِ الرَّدِّ (1) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 403، بدائع الصنائع 5 / 288، روضة الطالبين 3 / 478. . وحديث: " جعل مشتري المصراة بالخيار ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 361) ومسلم (3 / 1155) من حديث أبي هريرة.(31/91)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ لِشَيْءٍ مِنْهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْكُل وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُل وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ لاَ تَمَامَ لَهَا قَبْل الْقَبْضِ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا بَاطِلٌ.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْكُل بِكُل الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُل وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ قَدْرَ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْكُل إِلاَّ عِنْدَ التَّرَاضِي، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. (1)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِمُشْتَرِي شَيْئَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ رَدُّ الْبَعْضِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مَا زَال مِلْكَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْقِيصِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ جَازَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي زَال عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ عَرَفَ الْعَيْبَ بَعْدَ بَيْعِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، فَفِي رَدِّ الْبَاقِي طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 287.(31/91)
بِالْمَنْعِ كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي مِلْكِهِ. (1)
ثَانِيًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا وَجَدَ عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ عِنْدَهُ. فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا أَوْ حَيَوَانًا
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الْحَيَوَانِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَمَالِكٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَيَقُول: إِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْعَيْبِ وَهُوَ الأَْرْشُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَجَبَ الرَّدُّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يَتَمَسَّكُ بِإِسْقَاطِ الْعَيْبِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
وَإِمَّا الْعُرُوضِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الأُْصُول، وَقِيل: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الأُْصُول فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ رِزْقٍ، وَكَانَ يَقُول: إِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الأُْصُول وَالْعُرُوضِ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل فِي الأُْصُول أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْعُرُوضِ. (2)
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُمْسِكَ الْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 486.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 121 - 123، بداية المجتهد 2 / 155، والشرح الصغير 3 / 182، 183.(31/92)
وَيُعْطِيَهُ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْعَيْبِ فَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلاَّ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَال: لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الْمَعِيبُ الأَْكْثَرَ وَالسَّالِمُ الأَْقَل بَاقِيًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَفُتْ فَالْجَمِيعُ يَرُدُّهُ، وَيَأْخُذُ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل السَّالِمِ وَرَدُّ الأَْكْثَرِ الْمَعِيبِ، وَلَوْ فَاتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَكَانَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا، قَل أَوْ كَثُرَ، وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ إِلَى جَمِيعِ الْمَبِيعِ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ إِنْ وَقَعَتْ ثَمَنًا، أَوْ بِنِسْبَةِ قِيمَةِ الْمَعِيبِ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ.
وَقَال أَشْهَبُ: يَرْجِعُ شَرِيكًا فِي الثَّمَنِ الْمُقَوَّمِ بِمَا يُقَابِل الْمَعِيبَ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَرْجِعُ شَرِيكًا فِي الثَّمَنِ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ، وَشَبَّهَ فِي رَدِّ الْجَمِيعِ أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْجَمِيعِ، أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْبَعْضِ السَّالِمِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْكْثَرَ كَأَحَدِ مُزْدَوِجَيْنِ مِنْ خُفَّيْنِ وَنَعْلَيْنِ وَسِوَارَيْنِ وَقُرْطَيْنِ وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ - مِنْ كُل مَا لاَ يُسْتَغْنَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ - فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَعِيبُ أُمًّا وَوَلَدَهَا، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مِنْهُمَا وَالتَّمَسُّكُ بِالسَّلِيمِ وَلَوْ(31/92)
تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا، مَا لَمْ تَرْضَ الأُْمُّ بِذَلِكَ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل إِنِ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُقَوَّمًا مُتَعَدِّدًا مُعَيَّنًا فِي صَفْقَةٍ وَالْبَاقِي لَمْ يَفُتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ فَاتَ فَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا يَخُصُّ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الثَّمَنِ.
وَإِذَا مَنَعَ التَّمَسُّكَ بِالأَْقَل إِذَا اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ تَعَيَّنَ الْفَسْخُ بِرَدِّ الأَْقَل وَالرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْبَعْضِ الْبَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ؛ لأَِنَّهُ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل انْحَل مِنْ أَصْلِهِ حَيْثُ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ أَوْ تَعَيَّبَ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الأَْكْثَرِ كَاسْتِحْقَاقِ الْكُل، وَإِذَا تَعَيَّبَ الأَْكْثَرُ وَرَدَّهُ كَانَ كَرَدِّ الْكُل، فَكَانَ تَمَسُّكُ الْمُشْتَرِي بِالأَْقَل السَّالِمِ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ الآْنَ، بِخِلاَفِ رَدِّ غَيْرِ الأَْكْثَرِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَأَجَازَ ابْنُ حَبِيبٍ رَدَّ الأَْكْثَرِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ بِالتَّقْدِيرِ قَائِلاً: هَذِهِ جَهَالَةٌ طَارِئَةٌ (1) وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْنْوَاعِ قِيمَةً، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْنْوَاعِ قِيمَةً فَلاَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 121، الشرح الصغير 3 / 182، 183، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 155.(31/93)
خِلاَفَ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ بِعَيْنِهِ فَقَطْ وَكُل مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَوَّمِ الْمُعَيَّنِ الْمُتَعَدِّدِ.
وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ وَالْمُقَوَّمُ الْمُتَّحِدُ وَالْمَوْصُوفُ فَحُكْمُهُ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ، فَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَشْرَةَ أَثْوَابٍ مَوْصُوفَةً أَوْ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ أَوْ أَوْسُقَ مِنْ قَمْحٍ فَاسْتَحَقَّ أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلاَ يَنْقُضُ الْبَيْعَ، بَل يَرْجِعُ بِمِثْل الْمَوْصُوفِ أَوِ الْمِثْلِيِّ، وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، وَبِالسَّالِمِ وَالْمَعِيبِ فِي الْعَيْبِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا كَدَارٍ وَغَيْرِهِ فَاسْتَحَقَّ الْبَعْضَ قَل أَوْ كَثُرَ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّمَسُّكِ وَالرَّدِّ. (1)
وَجَازَ رَدُّ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ غَيْرَ الشَّرِكَةِ نَصِيبَهُ مِنْ بَيْعٍ مُتَّحِدٍ أَوْ مُتَعَدِّدٍ، اشْتَرَيَاهُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَاطَّلَعَا فِيهِ عَلَى عَيْبٍ وَلَوْ أَبَى الْبَائِعُ فَقَال: لاَ أَقْبَل إِلاَّ جَمِيعَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ.
وَأَمَّا الشَّرِيكَانِ فِي التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَيَا مَعِيبًا فِي صَفْقَةٍ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ فَلِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ وَقَبُول الْجَمِيعِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ.
وَجَازَ لِمُشْتَرٍ مِنْ بَائِعَيْنِ غَيْرِ شَرِيكَيْنِ رَدُّ نَصِيبِهِ دُونَ الرَّدِّ عَلَى الآْخَرِ. (2)
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 184.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 122، 123.(31/93)
ثَالِثًا: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَرَادَ إِمْسَاكَ الْمَعِيبِ وَأَخْذَ أَرْشِ النَّقْصِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ، رَضِيَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ الأَْرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَكَانَ لَهُ الأَْرْشُ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ. وَلأَِنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ فَبَانَتْ تِسْعَةً، وَلأَِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَرَاضَيَا عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُعَوَّضِ، فَكُل جُزْءٍ مِنَ الْعِوَضِ يُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنَ الْمُعَوَّضِ، وَمَعَ الْعَيْبِ فَاتَ جُزْءٌ مِنْهُ فَيَرْجِعُ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الأَْرْشُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الرِّبَا، كَشِرَاءِ حُلِيٍّ بِفِضَّةٍ بِزِنَتِهِ. (1)
وَإِنِ اشْتَرَى رَجُلٌ مَعِيبَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، أَوِ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ نَحْوَهُ فِي وِعَاءَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّهُمَا مَعًا أَوْ إِمْسَاكُهُمَا وَالْمُطَالَبَةُ بِالأَْرْشِ؛ لأَِنَّ فِي رَدِّ أَحَدِهِمَا تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ لاَ يُفَرِّقَهَا - أَشْبَهَ رَدَّ بَعْضِ الْمَعِيبِ الْوَاحِدِ - فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَعِيبَيْنِ وَبَقِيَ الآْخَرُ فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَاقِي بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ لِتَعَذُّرِ رَدِّ التَّالِفِ، وَالْقَوْل
__________
(1) المغني 4 / 162، 163، وكشاف القناع 3 / 218، 225.(31/94)
قَوْل الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ التَّالِفِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ مِنْ زِيَادَةِ قِيمَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَعِيبًا وَالآْخَرُ سَلِيمًا، وَأَبَى الْمُشْتَرِي أَخْذَ الأَْرْشِ عَنِ الْعَيْبِ فَلَهُ رَدُّهُ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِلْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي رَدَّ السَّلِيمِ لِعَدَمِ عَيْبِهِ إِلاَّ أَنْ يَنْقُصَهُ تَفَرُّقٌ كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ وَزَوْجَيْ خُفٍّ، أَوْ يَحْرُمُ تَفْرِيقٌ كَجَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا وَنَحْوِهِ كَأَخِيهَا، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، بَل لَهُ رَدُّهُمَا مَعًا أَوِ الأَْرْشُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْبَائِعِ أَوْ لِتَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ. (1)
وَأَمَّا طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ وَمَوَانِعُ الرَّدِّ بِهِ فَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(خِيَارُ الْعَيْبِ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الصَّرْفِ:
23 - الصَّرْفُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِمُعَيَّنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ.
وَالْعَيْبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَالْعِوَضَانِ إِمَّا أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 162، 163، كشاف القناع 3 / 218، 225.(31/94)
يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَفِي كُلٍّ: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ الْعَيْبُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ، وَمِثْلُهَا فِي الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.
أَوَّلاً - الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ:
24 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مُعَيَّنًا وَالْعَيْبُ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ، كَأَنْ يَقُول بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ، وَيُشِيرُ إِلَى الْعِوَضَيْنِ. فَهَذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ بِمُعَيَّنٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ هَذَا الْقِسْمِ بِشُرُوطِهِ وَهُوَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ.
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ مَعِيبًا، مِثْل كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ أَوْ خَشِنَةً تَنْفَطِرُ عِنْدَ الضَّرْبِ، أَوْ كَانَتْ سِكَّتُهَا تُخَالِفُ سِكَّةَ السُّلْطَانِ، أَوْ وُجِدَتِ الدَّرَاهِمُ زُيُوفًا، فَهَل يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلاَ شَيْءَ لِوَاجِدِ الْعَيْبِ إِذَا رَضِيَ بِهِ، أَمْ لَهُ الْبَدَل؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ الْجَمِيعَ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، وَلَيْسَ لَهُ(31/95)
الْبَدَل، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا يُعَيَّنُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ كَانَتِ الْفِضَّةُ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ فِيهَا رَصَاصٌ أَوْ صُفْرٌ - وَهُوَ الَّذِي أَفْسَدَهَا - فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا؛ لأَِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُسَمَّى إِنَاءَ فِضَّةٍ فِي النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِلْعَيْبِ.
وَإِنْ كَانَ رَدِيئَةً مِنْ غَيْرِ غِشٍّ فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لأَِنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ.
وَفِي تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ: وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَخُشُونَةِ الْفِضَّةِ وَرَدَاءَةِ الْمَعْدِنِ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَإِنْ ظَهَرَ الْعَيْبُ وَالْمَبِيعُ بَاقٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ، سَوَاءٌ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ مُعَيَّنٌ، اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الأَْصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يَأْخُذُ أَرْشَ الْمَعِيبِ؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ لاَ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ (1)
__________
(1) المبسوط 14 / 68، والفتاوى الهندية 3 / 238، وتكملة المجموع 10 / 121، والمغني لابن قدامة 4 / 166 - 167.(31/95)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَغْشُوشَ الْمُعَيَّنَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ كَهَذَا الدِّينَارِ بِهَذِهِ الْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ، فِيهِ طَرِيقَانِ (1) :
الأَْوَّل أَنَّ الْمَذْهَبَ كُلَّهُ عَلَى إِجَازَةِ الْبَدَل. وَالثَّانِي أَنَّهُ كَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ. فَيَكُونُ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهُمَا النَّقْضُ، (2) وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَكُونُ مُتَّفِقًا مَعَ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل. وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَازُ الْبَدَل وَهُوَ لاِبْنِ وَهْبٍ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) ، عَلَى أَسَاسِ أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُصْطَرِفَيْنِ لَمْ يَفْتَرِقَا وَفِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ شَيْءٌ وَلَمْ يَزَل الْمُعَيَّنُ مَقْبُوضًا لِوَقْتِ الْبَدَل، فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَفْتَرِقَانِ وَذِمَّةُ أَحَدِهِمَا مَشْغُولَةٌ لِصَاحِبِهِ، فَفِي الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ.
ثَانِيًا - أَخْذُ الأَْرْشِ عَنِ الْمَعِيبِ:
أ - إِذَا كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِرُجُوعِهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ حَدَثَ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 45، والشرح الصغير4 / 72.
(2) شرح الخرشي 5 / 45، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 72 - 73.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 167.(31/96)
فِيهِ عَيْبٌ آخَرُ، مَا لَمْ يَقُل الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ أَخْذُ الأَْرْشِ قَبْل التَّفَرُّقِ، أَوْ كَانَ الأَْرْشُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ.
فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ، فَوَجَدَ فِيهِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ حَدَثَ فِيهِ عَيْبٌ آخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُول: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِضَّةً لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَلَهُ أَخْذُ الأَْرْشِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَتَخَلُّفُ قَبْضِ بَعْضِ الْعِوَضِ عَنْ بَعْضٍ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَضُرُّ، فَجَازَ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُصُول التَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ لأَِحَدِ الْعِوَضَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلاَ الأَْرْشَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ كَأَنَّهُ أَخَذَ أَرْشَ عَيْبِ الْفِضَّةِ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَيَجُوزُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 168.(31/96)
جَوَازِ أَخْذِ الأَْرْشِ (1) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ أَخْذُ الأَْرْشِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأَْرْشِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَهُ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الْقَوْل بِأَخْذِ الأَْرْشِ، فَإِمَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ.
ب - إِذَا كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ:
26 - وَذَلِكَ كَدَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ فَهَل يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأَْرْشِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ أَخْذِ الأَْرْشِ عَنِ الْمَعِيبِ فِي مُتَّحِدَيْ الْجِنْسِ؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ يُؤَدِّي إِلَى حُصُول الزِّيَادَةِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدَةِ، فَيَتَحَقَّقُ رِبَا الْفَضْل. وَهُوَ لاَ يَجُوزُ (2) .
__________
(1) تكملة المجموع 10 / 121، والمغني 4 / 168.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 238، تكملة المجموع 10 / 126 - 127، المغني لابن قدامة 4 / 168.(31/97)
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَخْرِيجِ وَجْهٍ بِجَوَازِ أَخْذِ الأَْرْشِ فِي الْمَجْلِسِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ طَرَأَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَخْذُ الْبَدَل فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الْقَوْل بِالأَْرْشِ.
ثَالِثًا - الصَّرْفُ مُعَيَّنٌ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ وَالْمَعِيبُ الْبَعْضُ:
27 - لَقَدْ سَبَقَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الإِْمْسَاكُ أَوِ الرَّدُّ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَخْذِ الأَْرْشِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ أَوْ مُخْتَلِفَيْهِ.
وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِ الْعِوَضِ فَلَهُ إِمَّا رَدُّ الْكُل أَوْ إِمْسَاكُ الْكُل،
وَهُنَا نَتَنَاوَل الْحُكْمَ فِي إِمْسَاكِ الْجَيِّدِ وَرَدِّ الْمَعِيبِ
فَإِذَا وُجِدَ الْبَعْضُ مَعِيبًا، فَهَل لَهُ إِمْسَاكُ الْجَيِّدِ وَرَدُّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ؟ أَوْ يَرُدُّ الْجَمِيعَ؟ أَوْ يُمْسِكُ الْجَمِيعَ وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ أَوْ يَأْخُذَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 168.(31/97)
كُلَّهُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ حُلِيُّ ذَهَبٍ فِيهِ جَوْهَرٌ مُفَضَّضٌ، فَوَجَدَ بِالْجَوْهَرِ عَيْبًا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ دُونَ الْحُلِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْكُل كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنَ الْبَعْضِ مِنَ الضَّرَرِ.
وَمَنْعُ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ الْبَعْضِ هُنَا، لَيْسَ عَلَى أَسَاسِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِنَّمَا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَالْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لاَ يُمْكِنُ فَصْلُهُ (1) .
وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الدَّنَانِيرُ مُخْتَلِفَةَ الأَْجْنَاسِ وَالْقِيَمِ، فَفِي الْمُنْتَقَى: وَإِنْ كَانَتِ الدَّنَانِيرُ مُخْتَلِفَةَ الأَْجْنَاسِ وَالْقِيَمِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنِ اشْتَرَى حُلِيًّا مَصُوغًا: أَسْوِرَةً وَخَلاَخِل وَغَيْرَ ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ فَوَجَدَ بِهَا دِرْهَمًا زَائِفًا، أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الصَّرْفُ كُلُّهُ (2) .
ثُمَّ قَال: وَلَوْ وَجَدَ فِي جَمِيعِ الْحُلِيِّ مِسْمَارَ نُحَاسٍ فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي سِوَارَيْنِ مِنَ الْحُلِيِّ انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي السِّوَارَيْنِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ السِّوَارَيْنِ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ. فَإِذَا انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي أَحَدِهِمَا
__________
(1) المبسوط 14 / 67.
(2) المنتقى للباجي 4 / 275.(31/98)
انْتَقَضَ فِيهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ بَاعَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ، وَلأَِنَّ النَّقْضَ لَمَّا طَرَأَ مِنْ جِهَتِهِمَا وَالْعِوَضُ الَّذِي يُقَارِبُ مُسَاوٍ لَمْ يَدْخُلْهُ التَّقْسِيطُ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بَعْضَ الْعِوَضِ مَعِيبًا فَلَهُ إِمَّا إِمْسَاكُ الْكُل أَوْ رَدُّ الْكُل، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ، فَإِذَا صَرَفَ الرَّجُل مِنَ الرَّجُل دِينَارًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، فَوَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا، فَإِنْ كَانَ زَافَ مِنْ قِبَل السِّكَّةِ أَوْ قُبْحِ الْفِضَّةِ فَلاَ بَأْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَهُ، وَلَهُ رَدُّهُ، فَإِنْ رَدَّهُ رَدَّ الْبَيْعَ كُلَّهُ؛ لأَِنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ رَدَّهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَذَلِكَ لَهُ شَرَطَهُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ.
وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ الصَّرْفَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ إِذَا عَقَدَ عَلَى هَذَا عُقْدَةَ الْبَيْعِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ وَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إِمْسَاكُ الْكُل أَوْ فَسْخُ الْكُل (1) .
__________
(1) الأم 3 / 43، الشرح الكبير لابن قدامة بذيل المغني 4 / 31.(31/98)
وَيَقُول السُّبْكِيّ: وَهَذَا الْكَلاَمُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّفْرِيقُ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَبُو حَامِدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ، وَأَكْثَرُ الأَْصْحَابِ أَطْبَقُوا عَلَى تَخْرِيجِهِ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الدَّرَاهِمِ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي: وَهَل لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الصَّرْفَ يُنْقَضُ فِي الْمَعِيبِ بِقَدْرِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيُمْسِكُ الْجَيِّدَ، وَقِيل بِالنَّقْضِ بَعْدَ الطُّول، فَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، فَوَجَدَ بِالدَّرَاهِمِ زَيْفًا فَأَصْغَرُ دِينَارٍ، مَا لَمْ يَكُنِ الزَّيْفُ يَزِيدُ عَنْ أَصْغَرِ دِينَارٍ فَأَكْبَرُ دِينَارٍ، وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَ الزَّيْفُ يُنْقِصُ مِنَ الصَّرْفِ مَا يُقَابِلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. لأَِنَّ كُل دِينَارٍ كَأَنَّهُ مُفْرَدٌ بِنَفْسِهِ، إِذْ لاَ تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ مُصَاحِبِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْجَمِيعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ مُقَابِل الْمَجْمُوعِ، وَلَكِنْ يَسْتَوِي فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ
__________
(1) تكملة المجموع 10 / 121.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 167.(31/99)
يُسَمُّوا عِنْدَ الْعَقْدِ لِكُل دِينَارٍ عَدَدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ لَمْ يُسَمُّوا لِكُل دِينَارٍ عَدَدًا، بَل جَعَلُوا كُل الدَّرَاهِمِ فِي مُقَابَلَةِ كُل الدَّنَانِيرِ.
وَإِنْ تَسَاوَتِ الدَّنَانِيرُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَوَاحِدٌ مِنْهَا يُنْتَقَضُ، مَا لَمْ يَزِدْ مُوجِبُ النَّقْضِ فَآخَرُ وَهَكَذَا (1) .
وَالْقَوْل بِجَوَازِ رَدِّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُفْرَدًا، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا؛ وَلأَِنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحَلَّيْنِ فَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ فَيَصِحُّ فِي الآْخَرِ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِشَيْءٍ لآِدَمِيٍّ وَبَهِيمَةٍ (2) .
رَابِعًا إِذَا تَلِفَ الْعِوَضُ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ:
إِذَا تَلِفَ الْعِوَضُ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، وَالصَّرْفُ مُعَيَّنٌ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْعَيْبَ إِلاَّ بَعْدَ تَلَفِ الْعِوَضِ الْمَعِيبِ، فَهَل يَصِحُّ الْعَقْدُ أَوْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 38، والشرح الصغير 4 / 73 - 74.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة بذيل المغني 4 / 38.(31/99)
يُفْسَخُ وَيَرُدُّ مِثْل التَّالِفِ؟ وَلَوْ أَمْسَكَ هَل لَهُ أَخْذُ الأَْرْشِ؟ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الإِْمْضَاءُ أَوِ الْفَسْخُ
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الصَّرْفِ إِذَا تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ فُسِخَ الْعَقْدُ وَرَدَّ الْمَوْجُودَ، وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ. سَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا إِذَا صَارَفَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقًا بِوَرِقٍ. وَلاَ يَأْخُذُ الأَْرْشَ؛ لأَِنَّهُ يَحْصُل مَعَهُ فِي الْبَيْعِ تَفَاضُلٌ، وَلاَ يُمْكِنُ الرَّدُّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَالِفٌ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، يُمْكِنُ أَنْ يُقَال: إِنَّهُ يُقِرُّ الْعَقْدَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ اسْتِدْرَاكِ ظِلاَمَتِهِ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ وَرَدِّ الْمَوْجُودِ، وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ عِوَضَهَا (1) .
وَفِي الْمُغْنِي إِنْ تَلِفَ الْعِوَضُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، فُسِخَ
__________
(1) تكملة المجموع شرح المهذب 10 / 125.(31/100)
الْعَقْدُ وَرَدَّ الْمَوْجُودَ، وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ. فَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ عِوَضَهَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَلَوِ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَتَقَابَضَا وَالدَّرَاهِمُ زُيُوفٌ فَأَنْفَقَهَا الْمُشْتَرِي وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مِثْل مَا قَبَضَ وَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ.
وَذَكَرَ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُمَا قِيَاسٌ، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانٌ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا الأَْمْثِلَةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهِيَ لاَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَهُمْ، وَالْكَلاَمُ فِي الْمُعَيَّنِ، لَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا صَرِيحًا فِي هَذَا، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَخْتَلِفُ؛ لأَِنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَبِالتَّلَفِ تَسَاوَيَا فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ أَوِ الاِسْتِبْدَال إِنْ قِيل بِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ طَرِيقٌ آخَرُ يُمْكِنُ الْقَوْل بِهِ غَيْرَ هَذَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 169.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 238، الجامع الكبير لمحمد بن الحسن ص228.(31/100)
ب - حُكْمُ أَخْذِ الأَْرْشِ فِي الْمَعِيبِ التَّالِفِ بَعْدَ الْقَبْضِ:
29 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، فَفِيهِ مَذْهَبَانِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْرْشِ أَوْ نُقْصَانُ الْعَيْبِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ لأَِنَّ أَخْذَ الأَْرْشِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْمَعِيبِ التَّالِفِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ مَعِيبًا بِعُشْرِ قِيمَتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي مَال الرِّبَا تُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَاسْتِرْجَاعُ بَعْضِ الثَّمَنِ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ ابْتِدَاءً، فَلاَ يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا.
وَالْقَوْل بِأَخْذِ الأَْرْشِ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ خِلاَفَ الأَْوْلَى (2) .
30 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسَيْنِ، كَدَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238، تكملة المجموع 10 / 127، المغني لابن قدامة 4 / 169.
(2) تكملة المجموع 10 / 126، المغني لابن قدامة 4 / 169.(31/101)
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ أَخْذُ الأَْرْشِ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرٌ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ، بَل يَتِمُّ الْقَبْضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَلأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَلاَ مَانِعَ مِنْ أَخْذِ الأَْرْشِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الرَّدِّ لِتَلَفِ الْعِوَضِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، قَال السُّبْكِيُّ: هَذَا قَوْل الشُّيُوخِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ، فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُول الأَْرْشِ فِيهِ (2) .
خَامِسًا - الْعَيْبُ عَنْ غَيْرِ الْجِنْسِ:
31 - الصَّرْفُ هُنَا مُعَيَّنٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَدَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ كَدَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَأَنْ يَجِدَ الدَّنَانِيرَ نُحَاسًا أَوْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا أَوْ سُتُّوقًا، وَسَوَاءٌ وَجَدَ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهَل يَبْطُل الصَّرْفُ مُطْلَقًا؟ أَوْ يَجُوزُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 138، تكملة المجموع 10 / 125، المغني لابن قدامة 4 / 169
(2) تكملة المجموع 10 / 127.(31/101)
لَهُ الإِْبْدَال فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ؟ أَوْ يَجُوزُ لَهُ الرِّضَا بِهِ؟ وَهَل لَهُ الرَّدُّ وَالإِْبْدَال لَوْ كَانَ عَلِمَ بِهَذَا الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ الْقَبْضِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الصَّرْفَ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمُ الأَْصْحَابِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْشُوشُ عِنْدَهُمْ نَقْصَ عَدَدٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ خَالِصَيْنِ أَوْ مَغْشُوشَيْنِ.
فَالْمَغْشُوشُ الْمُعَيَّنُ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا نَقْضُ الصَّرْفِ وَعَدَمُ إِجَازَةِ الْبَدَل؛ لأَِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالْعَقْدُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى. لأَِنَّ انْعِقَادَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ، فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا، قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَلأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الْبَغْلَةَ فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ الْقَزَّ فَوَجَدَهُ كَتَّانًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 14 / 68، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 71، الأم للشافعي 3 / 43، تكملة المجموع 10 / 119، المغني لابن قدامة 4 / 165.(31/102)
وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَالرَّدِّ وَأَخْذِ الْبَدَل. وَيَصِحُّ أَيْضًا إِذَا رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ مَجَّانًا، سَوَاءٌ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِإِبْدَالِهِ، قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الإِْفْصَاحِ فَقَدْ قَال: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: الْبَيْعُ صَحِيحٌ يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى عَيْنِهِ. وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَرْضَ فَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى عَيْنِهِ. وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ أَوِ الرَّدِّ وَأَخْذِ الْبَدَل (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُفَرِّقُ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بَيْنَ مَا إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ.
فَإِذَا كَانَ قَبْل التَّفَرُّقِ كَانَ لَهُ الْبَدَل أَوِ الْفَسْخُ، وَبَعْدَهُ لاَ يَجُوزُ وَيَبْطُل الصَّرْفُ وَلَوْ بَدَّل بَعْدَ الْمَجْلِسِ، قَال بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَتِمُّ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَْبْدَانِ أَوِ التَّخْيِيرِ، فَإِذَا رَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ وَقَبَضَ الْجِيَادَ جَازَ، وَجُعِل كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. أَمَّا بَعْدَ
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 71، تكملة المجموع 10 / 119، المغني لابن قدامة 4 / 165.(31/102)
التَّفْرِيقِ فَلاَ يَجُوزُ وَالصَّرْفُ بَاطِلٌ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ وَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ وَلاَ إِبْدَالٌ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ عِلْمِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَأْخُذَ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ وَلاَ إِبْدَالُهُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَقَدْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِعَيْبِهَا وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا، أَوْ لاَ يَعْلَمَانِ بِعَيْبِهَا لاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا وَلأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَعَيَّنَ، فَهُوَ مُطْلَقُ بَيْعٍ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ الرَّدُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِالْعَيْبِ (2) .
حُكْمُ الْعَيْبِ فِي الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ وَأَخْذِ الْبَدَل وَالأَْرْشِ فِيهِ:
32 - الْعَيْبُ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
وَالْحُكْمُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ لأَِخْذِ الْبَدَل يَخْتَلِفُ فِيمَا إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 237، المغني لابن قدامة 4 / 265.(31/103)
بَعْدَهُ وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْل التَّفَرُّقِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَل سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ إِتْمَامِ الصَّرْفِ بِدَفْعِ الْبَدَل.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ وَاجِدُ الْعَيْبِ بِهِ صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لاَ يُخْرِجُهُ عَنِ الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهُ عَنِ الْجِنْسِ فَلَيْسَ لَهُ الرِّضَا بِهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِهِ.
وَفِي حَالَةِ مَا إِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ الْجِنْسِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ أَرْشِ الْعَيْبِ إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مُتَّحِدَ الْجِنْسِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ جَازَ أَخْذُ الأَْرْشِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لاَ عَيْبَ فِيهِ. فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْمَعْقُودَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3156، 3157، حاشية الدسوقي 3 / 36، المهذب 1 / 276، تكملة المجموع 10 / 107، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 170 - 171.(31/103)
عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ - وَقَدْ قَبَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. وَبِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ لاَ عَيْبَ فِيهِ، فَإِذَا قَبَضَ مَعِيبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ مِمَّا يَتَأَوَّلُهُ الْعَقْدُ، كَمَا إِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ، وَبِأَنَّ شَرْطَ الْمُمَاثَلَةِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الأَْرْشِ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ غَيْرِ الْجَائِزَةِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ لأَِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرٌ فِي قَبْضِ بَعْضِ الْعِوَضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الذِّمَّةِ فَهَل لَهُ أَخْذُ الْبَدَل كَمَا كَانَ قَبْل التَّفَرُّقِ؟ أَوْ يَبْطُل الصَّرْفُ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ؟
34 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ.
وَإِنِ اسْتَبْدَلَهَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ جَازَ أَيْضًا، لأَِنَّ اسْتِبْدَالَهَا قَبْل الاِفْتِرَاقِ جَائِزٌ(31/104)
إِجْمَاعًا
وَالْقَوْل بِجَوَازِ أَخْذِ الْبَدَل هُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْخَلاَّل وَالْخِرَقِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الزُّيُوفِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ كَالسَّتُّوقِ، إِلاَّ أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلاً لاَ وَصْفًا فَكَانَتِ الزِّيَافَةُ فِيهَا عَيْبًا، وَالْعَيْبُ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا.
وَبِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الرَّدِّ. وَلاَ يَسْتَنِدُ الاِنْتِقَاضُ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً وَاحِدَةً. إِلاَّ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لأَِنَّ لِلرَّدِّ شَبَهًا بِالْعَقْدِ، حَيْثُ لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ إِلاَّ بِالرَّدِّ، كَمَا لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205 ط بيروت.(31/104)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَا جَازَ إِبْدَالُهُ قَبْل التَّفَرُّقِ جَازَ إِبْدَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ كَالسَّلَمِ، وَكَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ إِبْدَال مَعِيبِهِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْل التَّفَرُّقِ؛ وَلأَِنَّ قَبْضَ الثَّانِي يَدُل عَلَى الأَْوَّل قَال بِهَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لأَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ بَطَل الصَّرْفُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ.
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لَكِنْ أَصْلاً لاَ وَصْفًا. وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنِ الْوَصْفِ، فَكَانَ حَقُّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل لاَ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنِ الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الأَْصْل دُونَ الْوَصْفِ لإِِبْرَائِهِ عَنِ الْوَصْفِ، فَإِذَا قَبَضَهُ.
__________
(1) المهذب 2 / 279، المغني لابن قدامة 4 / / 170.(31/105)
فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُل الْمُسْتَحَقُّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الاِفْتِرَاقَ حَصَل لاَ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (أَوْ يُقَال تَفَرَّقَ لاَ عَنْ قَبْضِ بَدَل الصَّرْفِ) قَال بِهَذَا الْوَجْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرٌ (1)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْل بِالْبَدَل فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَرِقَا وَذِمَّةُ أَحَدِهِمَا مَشْغُولَةٌ لِصَاحِبِهِ، فَفِي الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ، قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ (2) .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِل مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِل مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ. لأَِنَّهُ لَوْ أَبْدَل بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَبَطَل الْقَبْضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ قَبْل التَّفَرُّقِ بَطَل الصَّرْفُ، فَكَانَ فِي إِثْبَاتِ الْبَدَل إِبْطَال الْعَقْدِ، فَمُنِعَ مِنَ الْبَدَل لِيَصِحَّ الْعَقْدُ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّرْفُ الْمُعَيَّنُ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الصِّحَّةِ بِالْقَبْضِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْعَيْبِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَل مَعِيبُ مَا كَانَ مَعِيبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 72، 73.(31/105)
مَعِيبُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَّ الإِْبْدَال بَعْدَ التَّفَرُّقِ صَارَ الْقَبْضُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ، قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ:
35 - سَبَقَ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا ظَهَرَ مَعِيبًا فِي الْمَجْلِسِ كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ. سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مِنَ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
أَمَّا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنَ الْجِنْسِ وَقَدْ مَرَّتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، كَأَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ نُحَاسًا أَوِ الْفِضَّةُ رَصَاصًا.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْل بِبُطْلاَنِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا وُجِدَ الْعِوَضُ كُلُّهُ مَعِيبًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) . وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ قَوْل ابْنِ
__________
(1) المهذب 1 / 279.
(2) المهذب 1 / 279، والمغني 4 / 170.
(3) بدائع الصنائع 5 / 205.(31/106)
الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (1) : إِذَا طَالَبَ بِالْبَدَل، أَوْ تَتْمِيمِ النَّاقِصِ وَأَخَذَ الْبَدَل بِالْفِعْل، نُقِضَ الصَّرْفُ.
وَإِذَا رَضِيَ بِهِ مَجَّانًا صَحَّ. وَقِيل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْبَدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ لَمْ يُبْطِلْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، وَدَلِيل الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنَّ السَّتُّوقَ - وَكَذَا الرَّصَاصُ - لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ. لأَِنَّهَا لاَ تَرُوجُ فِي مُعَامَلاَتِ النَّاسِ، فَلَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلاً وَوَصْفًا، فَكَانَ الاِفْتِرَاقُ عَنِ الْمَجْلِسِ لاَ عَنْ قَبْضٍ حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِهِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالاً قَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ.
كَمَا أَنَّهُمَا إِنِ افْتَرَقَا قَبْل رَدِّهِ فَالصَّرْفُ فِيهِ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الَّذِي قَبَضَهُ غَيْرُ الْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعُقْدَةُ وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهُ.
كَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَعْضِهِ بَطَل الصَّرْفُ فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 37.(31/106)
هَذَا الْبَعْضِ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (1) .
الاِسْتِحْقَاقُ فِي الصَّرْفِ:
36 - تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَسْأَلَةِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الصَّرْفِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيهَا تَفْصِيلٌ يَحْسُنُ مَعَهُ إِفْرَادُ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الإِْجَازَةُ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ وَالْمُسْتَحَقُّ قَائِمٌ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ فَوُجُودُ الإِْجَازَةِ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُمْ لاَ تَتَعَيَّنُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَطَل الصَّرْفُ فِي الْمُسْتَحَقِّ.
فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمُسْتَحَقُّ الْبَعْضُ، صَحَّ الصَّرْفُ فِي الْبَاقِي وَلاَ خِيَارَ.
__________
(1) المراجع السابقة.(31/107)
أَمَّا إِذَا كَانَ مَعِيبًا - كَالإِْنَاءِ الْمَصُوغِ أَوْ قَلْبُ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ - فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي إِمْسَاكَ الْبَاقِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلَهُ الرِّدَّةُ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الإِْنَاءِ أَوِ الْقَلْبِ عَيْبٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى غَيْرِ الْمَصُوغِ - وَهُوَ يَشْمَل الْمَسْكُوكَ وَغَيْرَهُ عَدَا الصَّوْغَ - فَإِنْ كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْمَجْلِسَ أَوْ بَعْدَ طُولٍ فَإِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ يُنْقَضُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا حَال الْعَقْدِ أَمْ لاَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَقْدِ صَحَّ عَقْدُ الصَّرْفِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَيَّنًا أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى الْبَدَل مَنْ أَرَادَ نَقْضَ الصَّرْفِ، وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ فِيهِ بِمَا إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْبَدَل، وَلاَ جَبْرَ فِيهِ، وَقِيل: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ.
أَمَّا الْمَصُوغُ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ نَقْضَ الصَّرْفِ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِحَضْرَةِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ طُولٍ، مُعَيَّنًا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الصَّوْغَ يُرَادُ لِعَيْنِهِ وَغَيْرُهُ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ. هَذَا إِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ أَمَّا إِذَا أَجَازَهُ فَلَهُ إِجَازَتُهُ، وَيَأْخُذُ مُقَابِلَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 236، بدائع الصنائع 5 / 206.(31/107)
وَلَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُنْقَضُ فِيهَا فِي الْمَصُوغِ مُطْلَقًا، وَفِي غَيْرِهِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ أَوِ الطُّول (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرُوا أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ هَل تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لاَ؟ أَنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَانَ الثَّمَنُ مُسْتَحَقًّا فَعَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ تُبْطِل الْعَقْدَ لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ (2) .
الْعَيْبُ فِي السَّلَمِ:
37 - إِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ بِأَنْ وَجَدَ فِي الثَّمَنِ زُيُوفًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ رَدَّهُ وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَجِّل لَهُ الْبَدَل، وَإِلاَّ فَسَدَ مَا يُقَابِلُهُ.
وَيُغْتَفَرُ التَّأْخِيرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ بِالشَّرْطِ، وَأَمَّا التَّأْخِيرُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا فَلاَ يَجُوزُ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: فَفِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى: إِنْ أَسْلَمْتَ فِي حِنْطَةٍ. فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا أَصَابَ رَأْسُ الْمَال نُحَاسًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ زُيُوفًا بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَجَاءَ لِيُبَدِّل فَيُبَدَّل وَلاَ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 38 - 39 والشرح الصغير 4 / 75، 76.
(2) القواعد لابن رجب ص383، شرح منتهى الإرادات 2 / 206.(31/108)
يُنْتَقَضُ السَّلَفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمْتَ دَرَاهِمَ فِي عُرُوضٍ أَوْ طَعَامٍ. فَأَتَى الْبَائِعُ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ أَيَّامٍ فَقَال: أَصَبْتُهَا زُيُوفًا، فَقُلْتَ: دَعْهَا فَأَنَا أُبْدِلُهَا لَكَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ (1) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل لِلْحَنَابِلَةِ بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، لأَِنَّ الْقَبْضَ الأَْوَّل كَانَ صَحِيحًا. وَلأَِنَّ لِلرَّدِّ شَبَهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ إِلاَّ بِالرَّدِّ. كَمَا لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ وَجَدَ فِي الثَّمَنِ زُيُوفًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَرَدَّهُ بَطَل السَّلَمُ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. لَكِنْ أَصْلاً لاَ وَصْفًا، وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنِ الْوَصْفِ. فَكَانَ حَقُّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل لاَ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنِ الْوَصْفِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 197، المدونة الكبرى 9 / 30.(31/108)
الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الأَْصْل دُونَ الْوَصْفِ لإِِبْرَائِهِ إِيَّاهُ عَنِ الْوَصْفِ فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ، فَيَبْطُل الْمُسْتَحَقُّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الاِفْتِرَاقَ حَصَل لاَ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (1) .
الْعَيْبُ فِي الإِْجَارَةِ:
38 - لَوْ اطَّلَعَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَيْبٍ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَكَانَ هَذَا الْعَيْبُ يُخِل بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَلَهُ الْفَسْخُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَدِيثًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ.
فَكُل مَا يَحُول بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ تَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَصْبِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا كَجُمُوحِ الدَّابَّةِ وَحُدُوثِ خَوْفٍ عَامٍّ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ أَوْ كَانَ الْجَارُ سُوءًا تُفْسَخُ بِهِ الإِْجَارَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف 74)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205 ط بيروت، فتح العزيز 9 / 245، المغني لابن قدامة 4 / 337.
(2) رد المحتار 4 / 63، المغني لابن قدامة 5 / 435، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 193.(31/109)
الْعَيْبُ فِي الْقِسْمَةِ:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) : إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَيْبًا فِي نَصِيبِهِ فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ.
وَفِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الإِْجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، بِأَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ رَجَعَ بِقِسْطِهِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فِي مَبْدَأِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ، أَوْ قِسْمَةِ إِجْبَارٍ أَوْ قِسْمَةِ اخْتِيَارٍ، ثُمَّ فَرَّقُوا فِي الرَّدِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلِّهِ.
وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكًا فِي نَصِيبِهِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ هُوَ فِيمَا اسْتَحَقَّ مِنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 225، الخرشي 4 / 414، نهاية المحتاج 8 / 276، المغني لابن قدامة 11 / 509.(31/109)
الْعَيْبُ فِي بَدَل الصُّلْحِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِبَدَل الصُّلْحِ عَيْبًا ثَبَتَ الرَّدُّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلاَ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لأَِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ، لاَ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَل الصُّلْحِ عَيْبًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِمَانِعٍ كَالْهَلاَكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِي هَذَا الْبَدَل فِي يَدِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ (أَيْ فَيَرْجِعُ إِلَى دَعْوَاهُ الأُْولَى) ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَّفَهُ فَنَكَل، وَإِنْ حَلَفَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ الْمُصَالِحُ فِيمَا صَالَحَ بِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ تُرْسٍ أَوْ ثَوْبٍ عَيْبًا ظَهَرَ فِيهِ بَعْدَ الصُّلْحِ، أَوِ اسْتَحَقَّ الصُّلْحَ بِهِ، أَوْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ ثَبَتَ حَقُّ الرَّدِّ، وَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ عَقْدِ الصُّلْحِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الصُّلْحَ قَدْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 5335، الفتاوى الهندية 4 / 261.
(2) جواهر الإكليل 2 / 105.(31/110)
يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ عَنْ إِقْرَارٍ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ الْمُدَّعَاةِ، فَيَكُونُ بَيْعًا بِلَفْظِ الصُّلْحِ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. وَمِنْهَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.
وَقَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ، فَيُصَالِحُ الأَْجْنَبِيَّ عَنِ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلأَْجْنَبِيِّ وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ صَالَحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضٍ فَبَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا. أَوْ بَانَ الْعَبْدُ حُرًّا، رَجَعَ الْمُدَّعِي فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ تَالِفًا. وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَبِمِثْلِهِ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ هُنَا بَيْعٌ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ. فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَظَهَرَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالدَّعْوَى قَبْل الصُّلْحِ لِتَبَيُّنِ بُطْلاَنِ الصُّلْحِ (2) .
الْعَيْبُ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّبَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِمَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي قِيمَتِهِ أَوْ يُفَوِّتُ جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ يُفَوِّتُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 177.
(2) كشاف القناع 3 / 400.(31/110)
صِفَةً مَرْغُوبًا فِيهَا أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبًا فِيهِ ضَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا غَصَبَ الرَّجُل ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَأَبْلاَهُ، فَنَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ، فَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَنَقَصَهُ لَبِسَهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةً ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ عَشْرَةً رَدَّهُ وَرَدَّ خَمْسَةً؛ لأَِنَّ مَا تَلِفَ قَبْل غَلاَءِ الثَّوْبِ ثَبَتَتْ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ خَمْسَةً، فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِغَلاَءِ الثَّوْبِ وَلاَ رُخْصِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَخُصَتِ الثِّيَابُ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةً لَمْ يَلْزَمِ الْغَاصِبَ إِلاَّ خَمْسَةٌ مَعَ رَدِّ الثَّوْبِ.
وَلَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ كُلُّهُ وَقِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، ثُمَّ غَلَتِ الثِّيَابُ فَصَارَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عِشْرِينَ، لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ عَشْرَةً؛ لأَِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ عَشْرَةً فَلاَ تَزْدَادُ بِغَلاَءِ الثِّيَابِ وَلاَ تَنْقُصُ بِرُخْصِهَا (1) .
الْعَيْبُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ:
42 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى جَوَازِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 155، وحاشية الدسوقي 3 / 152، ومغني المحتاج 2 / 287، والمهذب 1 / 369، والمغني لابن قدامة 5 / 260.(31/111)
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجِ لِلْعُيُوبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ (1) وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل ذَلِكَ وَفِي تَعْيِينِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 93 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الأُْضْحِيَّةِ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ مِنْ جَمِيعِ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الأَْفْضَل مِنْهَا.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُصَابَ بِعَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ لاَ يَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ، وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعٌ لاَ تَجُوزُ فِي الأَْضَاحِيِّ، الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا. وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلَعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تَنْقَى (2) ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 123، والخرشي 3 / 73، ومغني المحتاج 3 / 202، والمهذب 2 / 48، والمغني والشرح الكبير 7 / 582، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 176 ط الحلبي.
(2) حديث:: " " أربع لا تجوز في الأضاحي. . . " ". أخرجه أبو داود 3 / 235، والترمذي 4 / 86، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي:: حديث حسن صحيح.(31/111)
الأَْرْبَعَ لاَ تُجْزِي فِي الأُْضْحِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ أَخَفَّ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ لاَ يُؤَثِّرُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ فَهِيَ أَحْرَى أَنْ تُمْنَعَ كَالْعَمَى وَكَسْرِ السَّاقِ مَثَلاً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ مُسَاوِيًا لَهَا فِي نَقْصِ اللَّحْمِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّة ف 24 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الْهَدْيِ:
44 - الْهَدْيُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا غَيْرَ وَاجِبٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ أَوْ عَطَبٍ أَوْ ضَل لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ (2) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا ثُمَّ ضَلَّتْ، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَذْرٍ فَلْيُبْدِل وَفِي رِوَايَةٍ قَال: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً تَطَوُّعًا فَعَطِبَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَعَلَيْهِ الْبَدَل (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 75، حاشية الدسوقي 2 / 125، بداية المجتهد لابن رشد 1 / 430، القوانين الفقهية ص 127، وروضة الطالبين 3 / 216، المغني لابن قدامة 3 / 553.
(2) فتح القدير 3 / 83، والدسوقي 2 / 882، وروضة الطالبين 3 / 211، وكشاف القناع 3 / 15.
(3) حديث:: " " من أهدى تطوعًا. . . " ". أخرجه البيهقي 5 / 244 بروايتيه، وصوب وقفه على ابن عمر.(31/112)
وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَتَعَيَّبَ أَوْ عَطِبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هَدْي) .
الْعَيْبُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْخُوذِ فِي الزَّكَاةِ:
45 - الْحَيَوَانُ الْمُصَابُ بِعَيْبٍ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْهَرَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُيُوبِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِهِ فِي الزَّكَاةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حَيَوَانَاتِ النِّصَابِ إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً فَإِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ مِنَ الْمَعِيبِ، وَيُرَاعَى الْوَسَطُ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَال شِرَاءَ صَحِيحَةٍ لإِِخْرَاجِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1) وَقَوْلِهِ
__________
(1) حديث:: " " إياك وكرائم أموالهم " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 357) ، ومسلم (11 / 50) .(31/112)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ مِنْ غَاضِرَةِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: وَلاَ يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلاَ الدَّرَنَةَ، وَلاَ الْمَرِيضَةَ، وَلاَ الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ (1) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَخْذَ الصَّحِيحَةِ عَنِ الْمِرَاضِ إِخْلاَلٌ بِالْمُوَاسَاةِ، وَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُوَاسَاةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ صَحِيحَةٌ، فَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ: وَلاَ يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْحَيَوَانِ مَعِيبَةً كَتَيْسٍ وَهَرِمَةٍ وَلاَ ذَاتِ عَوَارٍ - بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْعَيْبُ - وَإِنَّمَا يَأْخُذُ فِي الزَّكَاةِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ النَّسْل، فَمَا كَانَ مِنَ الأَْنْعَامِ مَرِيضًا أَوْ جَرِبًا أَوْ أَعْوَرَ فَلَيْسَ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَخْذُهُ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّهَا أَغْبَطُ وَأَفْضَل مِمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ مِنَ الصَّحِيحِ فَإِنَّ لَهُ أَخْذَهَا، وَيُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا تُيُوسًا أَوْ هَرِمَةً أَوْ ذَاتَ عَوَارٍ فَإِنَّ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يَأْتِيَهُ
__________
(1) حديث:: " " ولا يعطي الهرمة. . . " " أخرجه أبو داود (3 / 240) .
(2) فتح القدير 2 / 247، الأم 2 / 5، المغني لابن قدامة 2 / 600.(31/113)
بِمَا يُجْزِئُ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الأَْخْذِ مِنَ الأَْنْعَامِ الْمَعِيبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (1) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا حَيَوَانٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ السَّلاَمَةُ كَالضَّحَايَا (2) .
وَنُقِل عَنْ الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَوْلُهُ: يُحْسَبُ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ كُل ذَاتِ عَوَارٍ، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهَا، وَالْعَمْيَاءُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهَا وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ (3) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ حَيَوَانَاتُ النِّصَابِ كُلُّهَا مَرِيضَةً مَعِيبَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنِ الصَّحِيحَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا وَبَعْضُهَا صَحِيحًا لاَ يُقْبَل إِلاَّ الصَّحِيحُ عَنْهَا فِي الزَّكَاةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 267.
(2) المنتقى للباجي 2 / 130، 134، حاشية الدسوقي 2 / 435.
(3) المدونة الكبرى 1 / 312.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 600.(31/113)
عِيد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِيدُ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ وَالْمُعَاوَدَةُ لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ يَوْمَانِ: يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَيَوْمُ الأَْضْحَى وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدٌ غَيْرَهُمَا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِيدِ. تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - صَلاَةُ الْعِيدِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صَلاَةِ الْعِيدِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَال: هَل عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَال: " لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ " (3) وَذَلِكَ مَعَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المجموع 5 / 2، والجمل على شرح المنهج 2 / 92.
(3) حديث الأعرابي الذي ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس. . . " "،. أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 106) ومسلم (1 / 41) من حديث طلحة بن عبيد الله.(31/114)
لَهَا وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ تَرْكِهَا وَلَوْ مَرَّةً؛ وَلأَِنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لاَسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ، كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلاَةَ الْخُسُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) وَلِمُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)
. ب - التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ:
3 - التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ يَكُونُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَفِي الطَّرِيقِ إِلَيْهَا وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الْغُدُوِّ إِلَيْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ عِنْدَ الْغُدُوِّ إِلَى الصَّلاَةِ فِي الْمَنَازِل وَالأَْسْوَاقِ وَالطُّرُقِ إِلَى أَنْ تَبْدَأَ الصَّلاَةُ.
__________
(1) سورة الكوثر / 2.
(2) بدائع الصنائع 1 / 274، جواهر الإكليل 1 / 101، المجموع 5 / 3، والمغني لابن قدامة 2 / 304.(31/114)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 13) .
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي أَثْنَاءِ صَلاَةِ الْعِيدِ (التَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ) فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَفِي بَيَانِ عَدَدِ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ وَمَوْضِعِهَا فِي الصَّلاَةِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 11، 12) .
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلاَةِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي صِفَةِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ وَوَقْتِهِ وَمَحَل أَدَائِهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ف 13)
ج - الأُْضْحِيَّةُ فِي الْعِيدِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ فِي عِيدِ الأَْضْحَى، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِهَا.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَوَقْتِهَا اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:(31/115)
(أُضْحِيَّة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)
د - مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فِي الْعِيدَيْنِ:
5 - يُسْتَحَبُّ إِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذِكْرٍ وَصَلاَةٍ وَتِلاَوَةٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْبِيحٍ وَاسْتِغْفَارٍ، لِحَدِيثِ مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَلَيْلَةَ الأَْضْحَى مُحْتَسِبًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ الْغُسْل لِلْعِيدِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَاكِهُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى (2) وَلأَِنَّهُ يَوْمٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ فَاسْتُحِبَّ الْغُسْل فِيهِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ وَيَتَنَظَّفَ وَيَحْلِقَ شَعْرَهُ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي
__________
(1) حديث:: " " من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى. . . " ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 198) وقال:: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمر بن هارون البلخي، والغالب عليه الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، ولكن ضعفه جماعة كثيرة، والله أعلم.
(2) حديثا ابن عباس والفاكه بن سعد:: " " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم. - كان يغتسل يوم الفطر والأضحى " ". أخرجهما ابن ماجهة (1 / 415) وضعف إسناديهما ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 80) .(31/115)
الْعِيدَيْنِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ (1) . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبَانِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ لِجُمُعَتِهِ أَوْ لِعِيدِهِ (2) وَقَال مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْل الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُل عِيدٍ، وَالإِْمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ، لأَِنَّهُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَأَفْضَل أَلْوَانِ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَوَى ثَوْبَانِ فِي الْحُسْنِ وَالنَّفَاسَةِ فَالأَْبْيَضُ أَفْضَل، فَإِنْ كَانَ الأَْحْسَنُ غَيْرَ أَبْيَضَ فَهُوَ أَفْضَل مِنَ الأَْبْيَضِ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَغْسِلَهُ لِلْعِيدِ.
وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الثِّيَابِ وَالتَّنْظِيفِ وَالتَّطَيُّبِ وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، الْخَارِجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَوْمُ الزِّينَةِ فَاسْتَوَوْا فِيهِ، وَهَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ النِّسَاءِ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ إِذَا خَرَجْنَ فَإِنَّهُنَّ لاَ يَتَزَيَّنَّ،
__________
(1) حديث ابن عباس:: " " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس في العيدين بردي حيبرة " ". أخرجه ابن مردويه، كما في الدر المنثور للسيوطي (3 / 79) .
(2) حديث عائشة:: " " ما على أحدكم أن يكون له ثوبان. . . " ". أخرجه ابن السكن في صحيحه، كما في التلخيص الحبير لابن حجر (2 / 70) .(31/116)
بَل يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَلاَ يَلْبَسْنَ الْحَسَنَ مِنَ الثِّيَابِ وَلاَ يَتَطَيَّبْنَ لِخَوْفِ الاِفْتِتَانِ بِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ وَغَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَةِ يَجْرِي ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَلاَ يُخَالِطْنَ الرِّجَال بَل يَكُنَّ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ تَزْيِينُ الصِّبْيَانِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا بِالْمُصَبَّغِ وَبِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْعِيدِ، قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى إِبَاحَةِ تَزْيِينِهِمْ بِالْمُصَبَّغِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لأَِنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَلَيْسَ عَلَى الصِّبْيَانِ تَعَبُّدٌ فَلاَ يُمْنَعُونَ لُبْسَ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ فَفِي تَحْلِيَتِهِمْ بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِهِمُ الْحَرِيرَ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: جَوَازُهُ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمُهُ، وَالثَّالِثُ: جَوَازُهُ قَبْل سَبْعِ سِنِينَ وَمَنْعُهُ بَعْدَهَا (2) .
وَتُسْتَحَبُّ الْعِمَامَةُ فِي الْعِيدِ.
هـ - التَّهْنِئَةُ بِيَوْمِ الْعِيدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَهْنِئَة ف 10)
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 2 / 194، والمجموع 5 / 8، والمغني 2 / 194 - 37037.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 169، والمجموع 5 / 309.(31/116)
و - التَّزَاوُرُ فِي الْعِيدَيْنِ:
7 - التَّزَاوُرُ مَشْرُوعٌ فِي الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَارَةِ فِي الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ. فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّل وَجْهَهُ، وَدَخَل أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَال مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَقْبَل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعْهُمَا زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُل قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا (1) قَال فِي الْفَتْحِ: قَوْلُهُ: " وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ " دَخَل عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ " وَكَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ (2) .
وَنَقَل فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْحِكْمَةِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّرِيقَ يَوْمَ الْعِيدِ أَقْوَالاً مِنْهَا: لِيَزُورَ أَقَارِبَهُ مِنَ الأَْحْيَاءِ وَالأَْمْوَاتِ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ كَمَا فَعَل مَعَ بَعْضِهَا وَمِثْلُهُ فِي عُمْدَةِ
__________
(1) حديث عائشة:: " " دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 440) ، ومسلم (2 / 609) .
(2) فتح الباري 2 / 442.(31/117)
الْقَارِيَّ، وَذَلِكَ تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمَ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ (1)
ز - الْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ يَوْمَ الْعِيدِ:
8 - يَجُوزُ الْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّل وَجْهَهُ، وَدَخَل أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَال: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَقْبَل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعْهُمَا. فَلَمَّا غَفَل غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَال: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ. وَهُوَ يَقُول: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَال: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ نَعَمْ،
__________
(1) حديث جابر:: " " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 472) .(31/117)
قَال: فَاذْهَبِي (1)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ إِذْ دَخَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ بِهَا، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ (2) . وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ (3)
ح - زِيَارَةُ الْمَقَابِرِ فِي الْعِيدِ:
9 - تُسْتَحَبُّ فِي الْعِيدِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَهْلِهَا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، لِحَدِيثِ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَفِي رِوَايَةٍ " فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ
__________
(1) حديث عائشة:: " " دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 440) ، ومسلم (2 / 609) .
(2) حديث أبي هريرة:: " " بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " ". أخرجه مسلم (2 / 610) .
(3) حديث أنس:: " " كانت الحبشة يزفنون. . . " ". أخرجه أحمد (3 / 152) .(31/118)
الآْخِرَةَ " (1) وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ (2) . وَكَرِهَ زِيَارَتَهَا ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ (3) .
ط - عِظَةُ النِّسَاءِ:
10 - يُسْتَحَبُّ وَعْظُ النِّسَاءِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَتَعْلِيمُهُنَّ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَتَذْكِيرُهُنَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ. وَيُسْتَحَبُّ حَثُّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَتَخْصِيصُهُنَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ مُنْفَرِدٍ، وَمَحَل ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمَفْسَدَةُ " (4) قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَل فَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ، وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ قُلْتُ: (يَعْنِي ابْنَ جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ) أَتَرَى حَقًّا عَلَى الإِْمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ؟ قَال: إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ؟
__________
(1) حديث:: " " نهيتكم عن زيارة القبور. . . " ". أخرجه مسلم (2 / 672) من حديث بريدة، والرواية الأخرى أخرجها النسائي (7 / 235) .
(2) حديث:: " " زوروا القبور فإنها تذكر الموت " ". أخرجه مسلم (2 / 671) .
(3) فتح الباري:: 5 / 153 و 6 / 179، وعمدة القاري 6 / 306.
(4) فتح الباري 5 / 145، 147.(31/118)
قَال فِي الْفَتْحِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَال عِيَاضٌ: لَمْ يَقُل بِذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَحَمَلَهُ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَقَال: لاَ مَانِعَ مِنَ الْقَوْل بِهِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ (1) .
__________
(1) حديث جابر:: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 466) ، وانظر ص 2 / 467.(31/119)
عَيْن
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ضَبَطَتْهَا كُتُبُ اللُّغَةِ (1) .
وَالْعَيْنُ فِي مَوْضُوعِنَا يُقْصَدُ بِهَا الْعَيْنُ الَّتِي تُسَبِّبُ الإِْصَابَةَ بِهَا، يُقَال: عَانَهُ يُعِينُهُ عَيْنًا أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَائِنٌ وَالْمُصَابُ مَعِينٌ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَمَا أَعْيَنَهُ،. . أَيْ: مَا أَشَدَّ إِصَابَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَالْعَيُونُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَالْمِعْيَانُ الشَّدِيدُ الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَعِينُ وَالْمَعْيُونُ الْمُصَابُ بِهَا وَالْعَائِنَةُ مُؤَنَّثُ الْعَائِنِ.
وَاسْتَعْمَل الْعَرَبُ مَادَّةَ: نَجَأَ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَيُقَال: نَجَأَهُ نَجَأً أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ وَرَجُلٌ نَجُوءُ الْعَيْنِ أَيْ خَبِيثُهَا شَدِيدُ الإِْصَابَةِ بِهَا، وَأَيْضًا يُقَال: رَجُلٌ مَسْفُوعٌ أَيْ أَصَابَتْهُ سَفْعَةٌ - بِالْفَتْحِ - أَيْ عَيْنٌ، وَيُقَال أَيْضًا: رَجُلٌ نَفُوسٌ إِذَا كَانَ حَسُودًا يَتَعَنَّ أَمْوَال النَّاسِ لِيُصِيبَهَا بِعَيْنٍ وَأَصَابَتْ فُلاَنًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ:
__________
(1) تاج العروس شرح القاموس، ولسان العرب.(31/119)
نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُل لِلْمَنْظُورِ مِنْهُ ضَرَرٌ.
وَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَنُوفِيُّ بِأَنَّهَا: سُمٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ وَنَطَقَ بِهِ وَلَمْ يُبَارِكْ فِيمَا تَعَجَّبَ مِنْهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَسَدُ:
2 - الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: كُرْهُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا، يُقَال: حَسَدْتُهُ النِّعْمَةَ: إِذَا كَرِهْتَهَا عِنْدَهُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا تَمَنِّي زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ إِلَى الْحَاسِدِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحَسَدَ أَصْل الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ (2) .
ب - الْحِقْدُ:
3 - الْحِقْدُ لُغَةً: الاِنْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَاصْطِلاَحًا: سُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلاَئِقِ لأَِجْل الْعَدَاوَةِ (3) . وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحِقْدَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ.
__________
(1) فتح الباري 10 / 169 طبع بولاق، سنة 1301، وحاشية العدوي على شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني 2 / 351.
(2) المصباح المنير والتعريفات للجرجاني، وزاد المعاد 3 / 118.
(3) المصباح والتعريفات للجرجاني.(31/120)
ثُبُوتُ الْعَيْنِ:
4 - الإِْصَابَةُ بِالْعَيْنِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (1) أَيْ يَعْتَانُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزِيلُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً وَبُغْضًا فِيكَ، فَهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ حَاسِدٍ شَدِيدِ الْعَدَاوَةِ يَكَادُ يُزْلِقُهُ لَوْلاَ حِفْظُ اللَّهِ وَعِصْمَتُهُ لَهُ.
وَقَدْ أَرَادُوا بِالْفِعْل أَنْ يُصِيبُوهُ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا مُشْتَهِرِينَ بِذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلاَ مِثْل حُجَجِهِ، بِقَصْدِ إِصَابَتِهِ بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَنْزَل عَلَيْهِ هَذِهِ الآْيَةَ الْكَرِيمَةَ (2) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ حَقٌّ (3) وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ تُدْخِل الرَّجُل الْقَبْرَ وَالْجَمَل الْقِدْرَ (4) .
__________
(1) سورة القلم / 51.
(2) تفسير القرطبي 20 / 255، وتفسير ابن كثير 3 / 485، وفتح الباري 10 / 203.
(3) حديث:: " " العين حق. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 203) .
(4) حديث:: " " العين تدخل الرجل القبر. . . " ". أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9 / 244) من حديث جابر، واستنكره الذهبي في ميزان الاعتدال (2 / 275) .(31/120)
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إِلَى الْمُعَايَنِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ إِذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلَمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَكَمَا يَخْلُقُهُ بِإِعْجَابِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ فَقَدْ يَخْلُقُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ دُونَ سَبَبٍ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ قَبْل وُقُوعِهِ بِالاِسْتِعَاذَةِ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُل شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُل عَيْنٍ لاَمَّةٍ (1)
مَا يُسْتَطَبُّ بِهِ مِنْ الْعَيْنِ:
أ - التَّبْرِيكُ:
5 - الْمَقْصُودُ بِالتَّبْرِيكِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ بِالْبَرَكَةِ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ - بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ - يَحُول دُونَ إِحْدَاثِ أَيِّ ضَرَرٍ بِالْمَعِينِ وَيُبْطِل كُل أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَيْنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُول: اغْتَسَل أَبِي سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ بِالْخَرَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ
__________
(1) شرح ابن العربي على سنن الترمذي 8 / 217. وحديث:: " " كان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 408) من حديث ابن عباس.(31/121)
رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَال: وَكَانَ سَهْل رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَال: فَقَال لَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلاَ جِلْدَ عَذْرَاءَ قَال: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ - أَيْ صُرِعَ - فَأُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلاً وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُول اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلاَمَ يَقْتُل أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلاَّ بَرَّكْتَ - مُخَاطِبًا بِذَلِكَ عَامِرًا مُتَغَيِّظًا عَلَيْهِ وَمُنْكِرًا - أَيْ قُلْتَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِل الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنَ الْعَيْنِ وَيُذْهِبُ تَأْثِيرَهُ - ثُمَّ قَال: إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُول لَهُ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلاَ تَضُرَّهُ، وَأَيْضًا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَال: مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ (2)
__________
(1) حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف:: " " اغتسل أبي بالخرار. . . " ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 938) ، وصححه ابن حبان (13 / 470) .
(2) حديث:: " " من رأى شيئًا فأعجبه " ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 109) وقال:: رواه البزار من رواية أبي بكر الهذلي، وأبو بكر ضعيف جدًا.(31/121)
قَال الْعَدَوِيُّ: فَوَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يُبَارِكَ لِيَأْمَنَ مِنَ الْمَحْذُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ (1) .
ب - الْغُسْل:
6 - يَجِبُ عَلَى الْعَائِنِ إِذَا دَعَاهُ الْمَعِينُ لِلاِغْتِسَال أَنْ يَغْتَسِل لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا (2) .
قَال الذَّهَبِيُّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتُغْسِلْتُمْ أَيْ إِذَا طَلَبَ مِنْكُمْ مَنْ أَصَبْتُمُوهُ بِالْعَيْنِ أَنْ تَغْسِلُوا لَهُ فَأَجِيبُوهُ وَهُوَ أَنْ يَغْسِل الْعَائِنُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى الْمَعِينِ وَيَكْفَأَ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ وَقِيل: يَغْسِلُهُ بِذَلِكَ حِينَ يَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى (3) .
__________
(1) شرح الموطأ للزرقاني 4 / 148، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 2 / 392.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ 4 / 151. وحديث ابن عباس:: " " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر. . . " ". أخرجه مسلم (4 / 1719) .
(3) الطب النبوي ص 275.(31/122)
ج - الرُّقْيَةُ:
7 - الرُّقِيُّ مِمَّا يُسْتَطَبُّ بِهِ لِلإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ مَشْرُوعٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ (1) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَال: اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ (2) .
وَقَال الذَّهَبِيُّ: الرُّقِيُّ وَالتَّعَاوُذُ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا أُخِذَتْ بِقَبُولٍ وَصَادَفَتْ إِجَابَةً وَأَجَلاً، فَالرُّقِيُّ وَالتَّعَوُّذُ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَهَبَ الشِّفَاءَ كَمَا يُعْطِيهِ بِالدَّوَاءِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّمَا يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْعَائِنُ. أَمَّا إِذَا عُرِفَ الْعَائِنُ الَّذِي أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالاِغْتِسَال (4) .
__________
(1) حديث عائشة:: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 199) .
(2) حديث أم سلمة أنه رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 199) . والسفعة بفتح أولها وضمه، وهو تغير لون البعض من الوجه فيخرجه عن لونه الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سوداء، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة، والنظرة تدل على الإصابة بالعين (فتح الباري 10 / 202) .
(3) الطب النبوي للذهبي ص276.
(4) بدائع الفوائد لابن القيم 2 / 246.(31/122)
عُقُوبَةُ الْعَائِنِ:
8 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ أَمَّا إِذَا قَتَل بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنْ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: لاَ يُقْتَل الْعَائِنُ وَلاَ دِيَةَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الأَْمْرِ الْمُنْضَبِطِ الْعَامِّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الأَْحْوَال مِمَّا لاَ انْضِبَاطَ لَهُ، كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَال النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَنْشَأُ عَنِ الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُول مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلاَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَال الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُل لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ. وَالنُّقُول مِنْ مُخْتَلِفِ الْمَذَاهِبِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ كَوْنِ الإِْمَامِ يَمْنَعُ الْعَائِنَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِذَا عَرَفَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُ عَلَى لُزُومِ بَيْتِهِ؛ لأَِنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ وَآكِل الْبَصَل وَالثُّومِ فِي مَنْعِهِ مِنْ دُخُول الْمَسَاجِدِ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَبَيْتُ الْمَال تَكْفِيهِ الْحَاجَةَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَكَفِّ الأَْذَى (1) .
__________
(1) عن الرزقاني على الموطأ 4 / 150، وعن شرح التاودي لكتاب أدبي خليل صصفحة 3 كراس 36 طبع فاس، والدسوقي 4 / 245، وفتح الباري 10 / 205، وانظر روضة الطالبين 9 / 348.(31/123)
عِينَةٌ
اُنْظُرْ: بَيْعُ الْعِينَةِ
غَائِبٌ
اُنْظُرْ: غَيْبَة.
غَائِطٌ
اُنْظُرْ: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.(31/123)
غَارِمُونَ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَارِمُونَ جَمْعُ غَارِمٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَدِينُ، وَقِيل: هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا ضَمِنَهُ، وَتَكَفَّل بِهِ " قَال الزَّجَّاجُ: الْغَارِمُونَ هُمُ الَّذِينَ لَزِمَهُمُ الدَّيْنُ فِي الْحَمَالَةِ (1) .
وَفِي الأَْثَرِ: الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْغَارِمُونَ هُمْ: الْمَدِينُونَ الْعَاجِزُونَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ. وَقَال مُجَاهِدٌ: الْغَارِمُونَ هُمْ قَوْمٌ رَكِبَتْهُمُ الدُّيُونُ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَلاَ تَبْذِيرٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَفِيل:
2 - الْكَفِيل: هُوَ مَنِ الْتَزَمَ دَيْنًا، أَوْ إِحْضَارَ
__________
(1) لسان العرب.
(2) أثر:: " " الدين مقضي والزعيم غارم " ". أخرجه الترمذي (4 / 433) من حديث أبي أمامة الباهلي، وقال الترمذي:: حديث حسن صحيح.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 432 وما بعدها، وتفسير الطبري 14 / 317، ونهاية المحتاج 6 / 156، وحاشية ابن عابدين 2 / 61.(31/124)
عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ (1) وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَحَمَّل دَيْنًا وَيَزِيدُ الْكَفِيل تَحَمُّلَهُ إِحْضَارَ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ.
اسْتِحْقَاقُ الْغَارِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ:
3 - الْغَارِمُونَ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ بَيَّنَتْهُمْ آيَةُ مَصَارِفِ الصَّدَقَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا مِنَ الزَّكَاةِ.
وَفِي الْغَارِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَبَيَانُ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُمْ، وَمِقْدَارُ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ تَفْصِيلٌ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 17) .
دَفْعُ الزَّكَاةِ لِغَرِيمِ الْمَدِينِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْمُزَكِّي دَفْعَ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَى الْغَارِمِ فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهَا إِلَى غَرِيمِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا
__________
(1) لسان العرب وحاشية القليوبي 2 / 323 - 327.
(2) سورة التوبة / 60.(31/124)
إِلَى الْغَرِيمِ قَضَاءً عَنْ دَيْنِ الْغَارِمِ فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَجُوزُ ذَلِكَ، قَال أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُجْزِئُ هَذَا عَنْ زَكَاتِهِ؟ قَال: نَعَمْ لاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ،
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَى الْغَرِيمِ، قَال أَحْمَدُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَقِيضَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، قِيل: هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ إِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلاَ يَقْضِيَ دَيْنَهُ، قَال فَلْيُوَكِّل الْغَارِمُ الْمُزَكِّيَ لِيَقْضِيَ عَنْهُ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُزَكِّيَ لاَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إِلَى الْغَرِيمِ إِلاَّ بِوَكَالَةِ الْغَارِمِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْغَارِمِ، فَلاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَوْكِيلِهِ أَوْ إِذْنِهِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل هَذَا عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ الإِْمَامَ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِهِ؛ لأَِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَلَيْهِ فِي إِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ (1) .
__________
(1) المغني 6 / 433 - 434 بتصرف بسيط.(31/125)
ادِّعَاءُ الْغُرْمِ:
5 - إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغُرْمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَمْ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغُرْمِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَمِنَ الْغَارِمِ الضَّامِنِ لِغَيْرِهِ لاَ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، بِمَا عَلَى مُعْسِرٍ فَيُعْطَى، فَإِنْ وَفَّى فَلاَ رُجُوعَ، كَمُعْسِرٍ مُلْتَزِمٍ بِمَا عَلَى مُوسِرٍ بِلاَ إِذْنٍ، وَصَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى الأَْصِيل الْمُعْسِرِ أَوْلَى أَوْ هُوَ مُوسِرٌ بِمَا عَلَى مُوسِرٍ فَلاَ يُعْطَى (1) .
الاِسْتِدَانَةُ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ:
6 - قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اسْتَدَانَ لِنَحْوِ عِمَارَةِ مَسْجِدٍ وَقِرَى ضَيْفٍ وَفَكِّ أَسِيرٍ يُعْطَى عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النَّقْدِ، لاَ عَنْ غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ. وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَدِينِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
وَقَال صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ قِيل: لاَ أَثَرَ لِغِنَاهُ بِالنَّقْدِ أَيْضًا حَمْلاً عَلَى هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ الْعَامِّ نَفْعُهَا لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا (2) .
__________
(1) القليوبي 3 / 199، والمغني 6 / 434، ونهاية المحتاج 6 / 155.
(2) نهاية المحتاج 6 / 158.(31/125)
غَالِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَالِبُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوِ الْغَلَبِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْقَهْرُ وَالْكَثْرَةُ، يُقَال: غَلَبَهُ إِذَا قَهَرَهُ، وَغَلَبَ عَلَى فُلاَنٍ الْكَرَمُ: كَانَ أَكْثَرَ خِصَالِهِ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَفْظِ غَالِبٍ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمُصْطَلَحِ غَالِبٍ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
أ - غَالِبُ مُدَّةِ الْحَيْضِ:
2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٌ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ
__________
(1) لسان العرب، ومغني المحتاج 1 / 119.
(2) مغني المحتاج 1 / 109، وكشاف القناع 1 / 203.(31/126)
اغْتَسِلِي (1) .
ب - غَالِبُ مُدَّةِ النِّفَاسِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (2) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ عَلَى نِسْوَةٍ مَخْصُوصَاتٍ (3) .
ج - غَالِبُ مُدَّةِ الْحَمْل:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (4) .
د - اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ.
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَال مَا الأَْصْل فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ النَّجَاسَةَ كَأَوَانِي وَمَلاَبِسِ
__________
(1) حديث:: " " تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي " ". أخرجه الترمذي (1 / 223323) وقال:: حديث حسن صحيح.
(2) حديث أم سلمة:: " " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يومًا " ". أخرجه الترمذي (1 / 256) وفي إسناده جهالة، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 171) .
(3) مغني المحتاج 1 / 119.
(4) مغني المحتاج 3 / 387.(31/126)
الْكُفَّارِ، وَأَوَانِي وَمَلاَبِسِ الْخَمَّارِينَ، وَمَلاَبِسِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ وَأَمْثَالِهِمْ، وَكَأَوَانِي وَأَلْبِسَةِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالنَّجَاسَةِ كَالْمَجُوسِ، وَكَطِينِ الشَّارِعِ وَالْمَقَابِرِ الْمَنْبُوشَةِ، وَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا، وَلُعَابِ الصِّبْيَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ؛ وَلأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعْمَال لِغَلَبَةِ النَّجَاسَةِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ.
أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ مِنْ حُصُول النَّجَاسَةِ فِي الشَّيْءِ فَيَجِبُ التَّجَنُّبُ مِنْهُ وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة، وَعُمُومُ الْبَلْوَى)
هـ - زَكَاةُ الإِْبِل
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا دُونَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الإِْبِل هَل تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَالِبِ غَنْمِ الْبَلَدِ أَمْ أَنَّ الْمُزَكِّيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْغْنَامِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 46، ومغني المحتاج 1 / 29.(31/127)
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ بِالْخِيَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الإِْبِل الْخَمْسِ مَثَلاً شَاةً مِنْ الضَّأْنِ أَوْ شَاةً مِنْ الْمَعْزِ، وَأَيُّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ لِتَنَاوُل اسْمِ الشَّاةِ لَهُمَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا مِنْ جِنْسِ غَنَمِهِ وَلاَ مِنْ جِنْسِ غَنْمِ بَلَدِهِ؛ لإِِطْلاَقِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل فَفِيهَا شَاةٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إِخْرَاجُ غَالِبِ أَغْنَامِ بَلَدِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَغْنَامِ الْبَلَدُ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِقَال إِلَى غَنْمِ بَلَدٍ آخَرَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا فِي الْقِيمَةِ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا.
وَلَدَى الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ رَابِعٌ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ غَنَمِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ (2)
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف 43 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حديث:: " " إذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 317) من حديث أبي بكر في كتاب الزكاة.
(2) الفتاوى الخانية 1 / 246، والتاج والإكليل 2 / 258، مغني المحتاج 1 / 370، وروضة الطالبين 2 / 154، المجموع للنووي 5 / 39 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 185.(31/127)
و - زَكَاةُ الْفِطْرِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الأَْقْوَاتِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ هُوَ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِ الْمُخْرِجِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ وَتَعَلَّقَ بِالطَّعَامِ، فَوَجَبَ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ عَدَل عَنْ قُوتِ الْبَلَدِ إِلَى قُوتِ بَلَدٍ آخَرَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ أَجْوَدَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يُجْزِهِ.
وَإِنْ كَانَ أَهْل الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً مِنَ الأَْطْعِمَةِ لَيْسَتْ بَعْضُهَا بِأَغْلَبَ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّهَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَحْسَنِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1)
قَال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ وَقْتَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ لاَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَفِي قَوْلٍ لَهُ: الاِعْتِبَارُ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرَةِ، إِلاَّ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الاِعْتِبَارَ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ
__________
(1) سورة آل عمران / 92.(31/128)
يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُزَكِّي غَالِبُ قُوتِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا فَضَل عَنْ قُوتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُوتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْقْوَاتِ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا زَكَاةُ الْفِطْرَةِ، فَيُخْرِجُ مَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قُوتِهِ وَغَيْرَ قُوتِ أَهْل بَلَدِهِ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ قُوتَ أَهْل الْمَدِينَةِ فَدَل عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ (2) .
ز - الإِْطْعَامُ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَاتِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلْدَةِ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري:: " " كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 371) ، ومسلم (2 / 678) .
(2) الدر المختار 2 / 76، ومغني المحتاج 1 / 406، وجواهر الإكليل 1 / 142، ومواهب الجليل 2 / 367، وكشاف القناع 2 / 253.(31/128)
أَقْوَاتِ الْبَلَدِ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة)
ح - غَالِبُ النَّقْدِ فِي الْبَيْعِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا غَالِبًا انْصَرَفَتِ الْعُقُودُ إِلَيْهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عُرْفًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ - وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهَا - اُشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا وَلاَ يَكْفِي التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ، أَمَّا إِذَا اتَّفَقَتِ النُّقُودُ بِأَنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ فِي الْقِيمَةِ وَالْغَلَبَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَصِحُّ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي أَيَّهَا شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي الْعَقْدِ غَيْرَ النَّقْدِ الْغَالِبِ تَعَيَّنَ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُتْلِفَاتِ يَكُونُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، فَإِنْ كَانَ لاَ غَالِبَ فِيهَا عَيَّنَ الْقَاضِي وَاحِدًا مِنَ النُّقُودِ لِلتَّقْوِيمِ بِهَا (2) .
مُعَامَلَةُ مَنْ غَالِبُ مَالِهِ حَرَامٌ:
10 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 582، المجموع للنووي 6 / 130، مغني المحتاج 3 / 367، 4 / 327، وجواهر الإكليل 1 / 378.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 26، ومواهب الجليل 4 / 277، مغني المحتاج 2 / 17، كشاف المخدرات ص 215، قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2 / 120.(31/129)
الْحَلاَل وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ، قَال الْجُوَيْنِيُّ: لَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِلاَّ مَا نَدَرَ.
قَال السُّيُوطِيُّ: خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ مِنْهَا: مُعَامَلَةُ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَنِ الْحَرَامِ لاَ يَحْرُمُ فِي الأَْصَحِّ لَكِنْ يُكْرَهُ، وَكَذَا الأَْخْذُ مِنْ عَطَايَا السُّلْطَانِ إِذَا غَلَبَ الْحَرَامُ فِي يَدِهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا اشْتَرَى مِمَّنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ وَحَلاَلٌ كَالسُّلْطَانِ الظَّالِمِ وَالْمُرَابِي، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ حَلاَل مَالِهِ فَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الإِْنْسَانِ مِلْكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ كَرِهْنَاهُ لاِحْتِمَال التَّحْرِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَبْطُل الْبَيْعُ؛ لإِِمْكَانِ الْحَلاَل، قَل الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ، وَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ، وَبِقَدْرِ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ تَكُونُ كَثْرَةُ الشُّبْهَةِ وَقِلَّتُهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُل مِنْهُ (1) ، لَمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 50 وما بعدها و105 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 295، وانظر فتح المبين شرح الأربعين النووية مع حاشية المدابغي ص113 وما بعدها.(31/129)
الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ إِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (1) . وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّعَامُل مَعَ مَنْ غَالِبُ مَالِهِ مِنَ الْحَرَامِ (3) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي مُعَامَلَةِ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَرَامٌ: إِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الْخَلاَصُ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ مُعَامَلَتُهُ، مِثْل أَنْ يُقِرَّ إِنْسَانٌ بِأَنَّ فِي يَدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّهَا حَرَامٌ إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَهَذَا لاَ تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ بِدِينَارٍ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَلاَل، كَمَا لاَ يَجُوزُ الاِصْطِيَادُ إِذَا اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ بَرِّيَّةٌ بِأَلْفِ حَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ، وَإِنْ عُومِل بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ اُصْطِيدَ بِأَكْثَرَ مِنْ حَمَامَةٍ فَلاَ شَكَّ فِي
__________
(1) حديث:: " " الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ وبينهما مشبهات. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126) ، ومسلم (3 / 1219 - 1220) من حديث النعمان بن بشير.
(2) حديث:: " " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ". أخرجه الترمذي (4 / 668) وقال:: حديث حسن صحيح.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص50، 105، وفتح المبين شرح الأربعين النووية 3 / 113 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 295 - 298.(31/130)
تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِنْ غَلَبَ الْحَلاَل بِأَنِ اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَلاَلٍ جَازَتِ الْمُعَامَلَةُ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ بِأَلْفِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوِ اخْتَلَطَتْ أَلْفُ حَمَامَةٍ بَرِّيَّةٍ بِحَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ الاِصْطِيَادُ. ثُمَّ قَال: وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مِنْ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ مَرَاتِبُ مُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُبَاحَةٌ، وَضَابِطُهَا: أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَشْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْحَرَامِ وَتَخِفُّ بِكَثْرَةِ الْحَلاَل، فَاشْتِبَاهُ أَحَدِ الدِّينَارَيْنِ بِآخَرَ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ، وَاشْتِبَاهُ دِينَارٍ حَلاَلٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ حَرَامٍ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلاَل، فَكُلَّمَا كَثُرَ الْحَرَامُ تَأَكَّدَتِ الشُّبْهَةُ، وَكُلَّمَا قَل خَفَّتِ الشُّبْهَةُ، إِلَى أَنْ يُسَاوِيَ الْحَلاَل الْحَرَامَ فَتَسْتَوِي الشُّبُهَاتُ (1) .
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 72 - 73، 2 / 18، 47، 89.(31/130)
غَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْغَايَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمَدَى وَالْمُنْتَهَى (1) ، يُقَال: غَايَتُكَ أَنْ تَفْعَل كَذَا، أَيْ نِهَايَةُ طَاقَتِكَ أَوْ فِعْلِكَ (2) . وَقَالُوا: هَذَا الشَّيْءُ غَايَةٌ فِي الْحُسْنِ، أَوْ فِي الْقِيمَةِ، أَيْ بَلَغَ الْحَدَّ الأَْقْصَى (3) . وَالْمُغَيَّا: ذُو الْغَايَةِ، أَيِ الْحُكْمُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الْغَايَةِ (4) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَالْغَايَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الأَْوَّل: الْمُنْتَهَى، كَمَا يَقُولُونَ: (إِلَى) لِلْغَايَةِ، أَيْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُنْتَهَى حُكْمِ مَا قَبْلَهَا.
الثَّانِي: نِهَايَةُ الشَّيْءِ مِنْ طَرَفَيْهِ، أَيْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ كَمَا يَقُولُونَ: لاَ تَدْخُل الْغَايَتَانِ فِي الْحُكْمِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: تُطْلَقُ الْغَايَةُ بِالاِشْتِرَاكِ عُرْفًا بَيْنَ الْمُنْتَهَى وَنِهَايَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير.
(3) متن اللغة في المادة.
(4) نفس المرجع.(31/131)
الشَّيْءِ مِنْ طَرَفَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الأَْوَّل وَسُمِّيَتْ غَايَةً لأَِنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، كَمَا يَقُول فَخْرُ الإِْسْلاَمِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (1) فَاللَّيْل غَايَةٌ لِلصِّيَامِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ وَالأُْصُولِيُّونَ أَنَّ كَلِمَتَيْ: (إِلَى وَحَتَّى) لِلْغَايَةِ، أَيْ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُمَا مُنْتَهَى حُكْمِ مَا قَبْلَهُمَا (3) ، وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُول الْغَايَةِ (أَيْ مَا بَعْدَ حَرْفَيْ حَتَّى وَإِلَى) فِي الْمُغَيَّا، (أَيْ حُكْمُ مَا قَبْلَهُمَا) إِلَى مَذَاهِبَ:
قَال بَعْضُهُمْ: تَدْخُل مُطْلَقًا، وَقَال آخَرُونَ: لاَ تَدْخُل مُطْلَقًا، وَفَصَّل بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا، بِأَنْ تَنَاوَلَهَا صَدْرُ الْكَلاَمِ، أَيْ قَبْل كَلِمَتَيْ (حَتَّى وَإِلَى) فَتَدْخُل فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا، أَيْ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) تيسير التحرير 2 / 109 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 2 / 179.
(3) التوضيح مع التلويح 1 / 377، 387، وما بعدهما.، وتيسير التحرير 2 / 109، وما بعدها.، ومسلم الثبوت 1 / 244، 245 وما بعدهما.(31/131)
قَبْل هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (1) ، كَالْمَرَافِقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا، بِأَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا صَدْرُ الْكَلاَمِ، أَيْ مَا قَبْل كَلِمَةِ إِلَى (3) كَاللَّيْل فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} فَلاَ تَدْخُل فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ خَارِجَةً، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ (4) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: دُخُول الْغَايَةِ فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا وَعَدَمُ دُخُولِهَا فِيهِ مُرْتَبِطٌ بِالْقَرِينَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةُ الدُّخُول دَخَلَتْ وَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةُ الْخُرُوجِ خَرَجَتْ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ (5) ، لَكِنَّ الأَْشْهَرَ فِي (حَتَّى) الدُّخُول، وَفِي (إِلَى) عَدَمُ الدُّخُول، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ (6) وَهَذَا يُحْمَل عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي التَّحْرِيرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 2 / 178.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 244، 245 وتيسير التحرير 2 / 109.
(4) مسلم الثبوت بذيل المستصفى 1 / 244، 245.
(5) التلويح على التوضيح 1 / 288 وتيسير التحرير 2 / 109 وانظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي نقلاً عن الكشاف 2 / 178.
(6) مسلم الثبوت 1 / 244.(31/132)
غَبَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبَاءُ فِي اللُّغَةِ: قِلَّةُ الْفَطِنَةِ، وَالْغَبِيُّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: الْغَافِل الْقَلِيل الْفَطِنَةِ (1) ، وَفُلاَنٌ ذُو غَبَاوَةٍ: أَيْ تَخْفَى عَلَيْهِ الأُْمُورُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّوْمِ: " فَإِنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ " (2) أَيْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ، وَجَمْعُ الْغَبِيِّ: أَغْبِيَاءٌ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.
الْخِلاَبَةُ:
2 - الْخِلاَبَةُ: الْمُخَادَعَةُ. وَقِيل: الْمُخَادَعَةُ بِاللِّسَانِ (3) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ فَقُل لاَ خِلاَبَةَ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغَبَاءِ وَالْخِلاَبَةِ أَنَّ كُلًّا
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) حديث:: " " فإن غبي عليكم. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) من حديث أبي هريرة.
(3) لسان العرب، المصباح المنير.
(4) حديث:: " " قل:: لا خلابة " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 337) ومسلم (3 / 1165) ، من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.(31/132)
مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لَلَغَبْنَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ.
مَا يَتَّصِل بِالْغَبَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ
أ - الزَّكَاةُ لِلْغَبِيِّ:
3 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تُصْرَفُ لِلْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ إِذَا مَنَعَهُ اشْتِغَالُهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ عَنِ الْكَسْبِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَجِيبًا يُرْجَى تَفَقُّهُهُ وَنَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِعِلْمِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ تَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ بِحَيْثُ إِذَا رَاجَعَ الْكَلاَمَ فَهِمَ كُل مَسَائِلِهِ، أَوْ بَعْضَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ؛ لأَِنَّ نَفْعَهُ حِينَئِذٍ قَاصِرٌ عَلَيْهِ فَلاَ فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ إِلاَّ حُصُول الثَّوَابِ لَهُ فَيَكُونُ كَنَوَافِل الْعِبَادَاتِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 162)
ب - سُكُوتُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِغَبَائِهِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ لِدَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَشْرَحَ لَهُ الْحَال، وَكَذَا لَوْ نَكَل وَلَمْ يَعْرِفْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النُّكُول يَجِبُ الشَّرْحُ لَهُ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء)
__________
(1) تحفة المحتاج 7 / 152، المجموع للنووي 6 / 191.
(2) مغني المحتاج 4 / 468، القليوبي وعميرة 4 / 338.(31/133)
غُبَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغُبَارُ لُغَةً هُوَ: مَا دَقَّ مِنَ التُّرَابِ، أَوِ الرَّمَادِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا يَبْقَى مِنَ التُّرَابِ الْمُثَارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغُبَارِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْغُبَارِ فِي أَبْوَابٍ مِنْهَا:
أ - النَّجَاسَةُ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ غُبَارَ النَّجَاسَةِ نَجَسٌ إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَكَذَا إِذَا عَلِقَ بِشَيْءٍ رَطْبٍ كَالثَّوْبِ الْمَبْلُول لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَظْهَرَ لَهُ صِفَةٌ فِي
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، غريب القرآن للأصفهاني.(31/133)
الشَّيْءِ الطَّاهِرِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٍ)
ب - التَّيَمُّمُ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْغُبَارِ فِيمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ. وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي التُّرَابِ الَّذِي يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: الصَّعِيدُ تُرَابُ الْحَرْثِ وَهُوَ التُّرَابُ الْخَالِصُ، وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّعِيدُ تُرَابٌ لَهُ غُبَارٌ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل الْمَسْحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَيِ الصَّعِيدِ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَا غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، فَإِنْ كَانَ جَرْشًا أَوْ نَدِيًّا لاَ يَرْتَفِعُ لَهُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ مِنْ غُبَارِ تُرَابٍ عَلَى صَخْرَةٍ أَوْ مِخَدَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ حَصِيرٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ أَدَاةٍ، قَالُوا: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ فِيهِ غُبَارٌ، أَوْ عَلَى لِبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 147 - 216، مغني المحتاج 1 / 81، كشاف القناع 1 / 186 - 192.
(2) سورة المائدة / 6.(31/134)
أَوْ جُوَالِقَ أَوْ بَرْذَعَةٍ فَعَلِقَ بِيَدَيْهِ غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ جَازَ، لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ التُّرَابَ حَيْثُ هُوَ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِثْل هَذَا لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَصَارَ عَلَى يَدِهِ غُبَارٌ، لِحَدِيثِ أَبِي جَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ: أَقْبَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَل عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ (1)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ غُبَارٌ يَعْلَقُ عَلَى الْيَدِ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى أَنَّ الْغُبَارَ وَحْدَهُ لاَ يَكْفِي بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ تُرَابٌ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَهُ هُوَ التُّرَابُ الْخَالِصُ، وَالْغُبَارُ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَل هُوَ تُرَابٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالْمَالِكِيَّةُ التَّيَمُّمَ بِصَخْرَةٍ لاَ غُبَارَ عَلَيْهَا،
__________
(1) حديث أبي جهم بن الحارث:: " " أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 441) .
(2) البدائع 1 / 53 - 54، جواهر الإكليل 1 / 27، مغني المحتاج 1 / 96، المجموع 2 / 213 - 219، المغني 1 / 247.(31/134)
وَبِتُرَابٍ نَدِيٍّ لاَ يَعْلَقُ مِنْهُ بِالْيَدِ غُبَارٌ، وَبِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم ف 26)
ح - الصَّوْمُ.
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ لاَ يُفْطِرُ بِوُصُول غُبَارِ الطَّرِيقِ إِلَى جَوْفِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِتَكْلِيفِهِ إِطْبَاقَ فَمِهِ أَوْ نَحْوِهِ عِنْدَ الْغُبَارِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ؛ وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْغُبَارُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا مَاشِيًا أَوْ غَيْرَ مَاشٍ.
أَمَّا إِذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ فَتَحَ فَمَهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَهُ الْغُبَارُ وَوَصَل إِلَى جَوْفِهِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُفْطِرُ بِذَلِكَ، لِتَقْصِيرِهِ وَإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ جِنْسِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: غُبَارُ الطَّرِيقِ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَإِنْ قَصَدَ ابْتِلاَعَهُ؛ لأَِنَّ اتِّقَاءَ ذَلِكَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) البدائع 2 / 93، ابن عابدين 2 / 97، جواهر الإكليل 1 / 152، المجموع 6 / 317 - 328، مغني المحتاج 1 / 429، المغني 3 / 106، كشاف القناع 1 / 320.(31/135)
يَشُقُّ.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَحَكَى فِي الرِّعَايَةِ قَوْلاً: إِنَّهُ يُفْطِرُ مَنْ طَارَ إِلَى حَلْقِهِ غُبَارٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَاشٍ أَوْ غَيْرَ نَخَّالٍ أَوْ غَيْرَ وَقَّادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا (1)
5 - وَمِثْل غُبَارِ الطَّرِيقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ غُبَارُ غَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِمُ نَخَّالاً أَوْ لَمْ يَكُنْ نَخَّالاً؛ لأَِنَّهُ أَمْرٌ غَالِبٌ وَكَذَا غُبَارُ الْجِبْسِ لِصَانِعِهِ وَبَائِعِهِ، وَكَذَا غُبَارُ الْكَتَّانِ وَالْفَحْمِ وَالشَّعِيرِ وَالْقَمْحِ، قَال الْحَطَّابُ: قَال الْبُرْزُلِيُّ: مَسْأَلَةٌ، الْحُكْمُ فِي غُبَارِ الْكَتَّانِ وَغُبَارِ الْفَحْمِ وَغُبَارِ خَزْنِ الشَّعِيرِ وَالْقَمْحِ كَالْحُكْمِ فِي غُبَارِ الْجَبَّاسِينَ.
وَقَال أَشْهَبُ: إِنَّ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَنَحْوَهُ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا. وَلاَ يُفْطِرُ بِهِ إِذَا كَانَ نَفْلاً.
وَقَال ابْنُ بَشِيرٍ: أَمَّا غُبَارُ الْجَبَّاسِينَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لاَ يُغَذِّي وَيَنْفَرِدُ بِالاِضْطِرَارِ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَهَل يَكُونُ كَغُبَارِ الدَّقِيقِ، أَوْ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ؟ فَإِنْ عَلَّلْنَا غُبَارَ الطَّرِيقِ بِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا لاَ يُغَذِّي فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِعُمُومِ الاِضْطِرَارِ فَهَذَا بِخِلاَفِهِ.
__________
(1) الإنصاف 3 / 306 - 307، الفروع 3 / 55.(31/135)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَنَحْوَهُ يُفْطِرُ بِهِ غَيْرُ النَّخَّالِينَ وَالْوَقَّادِينَ وَنَحْوِهِمَا (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، البدائع 2 / 93، جواهر الإكليل 1 / 152، مواهب الجليل 2 / 441، الفواكه الدواني 1 / 359، مغني المحتاج 1 / 429، المجموع 6 / 318 - 328، المغني 3 / 106، كشاف القناع 1 / 320. (1) لسان العرب، القاموس المحيط.(31/136)
غِبْطَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغِبْطَةُ فِي اللُّغَةِ: حُسْنُ الْحَال وَالْمَسَرَّةُ، وَقَدْ تُسَمَّى الْغِبْطَةُ حَسَدًا مَجَازًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْل مَا لِغَيْرِهِ مِنْ نِعْمَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُول عَنِ الْغَيْرِ (2) .
وَتَأْتِي بِمَعْنَى الأَْصْلَحِ وَالأَْنْفَعِ وَالأَْحَظِّ، فَيَقُولُونَ مَثَلاً: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ مُوَلِّيهِ إِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غِبْطَةٌ: مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ وَحَظٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَسَدُ:
2 - الْحَسَدُ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 189، ومنهاج القاصدين لابن قدامة ص192 - 193.
(3) القليوبي على المحليي 2 / 287 - 305، 3 / 234.
(4) الصحاح، القاموس.(31/136)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِبْطَةِ: أَنَّ الْحَاسِدَ يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ وَتَحَوُّلَهَا عَنْهُ، وَالْغَابِطُ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْل مَا لِغَيْرِهِ، وَلاَ يَتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَةِ وَلاَ تَحَوُّلَهَا عَنِ الْمَغْبُوطِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى نِعْمَةٍ، فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَخِيكَ بِنِعْمَةٍ فَلَكَ فِيهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكْرَهَ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَتُحِبَّ زَوَالَهَا. وَهَذِهِ الْحَالَةُ تُسَمَّى حَسَدًا، فَالْحَسَدُ حَدُّهُ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ تُحِبَّ زَوَالَهَا، وَلاَ تَكْرَهَ وُجُودَهَا وَدَوَامَهَا، وَلَكِنْ تَشْتَهِي لِنَفْسِكَ مِثْلَهَا وَهَذِهِ تُسَمَّى غِبْطَةً (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْغِبْطَةُ إِنْ كَانَتْ فِي الطَّاعَةِ فَهِيَ مَحْمُودَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَائِزَاتِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ (2) .
فَتَكُونُ وَاجِبَةً إِنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ دِينِيَّةً وَاجِبَةً كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلاَةِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 189.
(2) فتح الباري 1 / 167، والدر المنثور 1 / 403، والتعريفات.(31/137)
وَالزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ كَانَ رَاضِيًا بِعَكْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ (1) .
وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً كَأَنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ مِنَ الْفَضَائِل، كَإِنْفَاقِ الأَْمْوَال فِي الْمَكَارِمِ وَالصَّدَقَاتِ، فَالْغِبْطَةُ فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا.
وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً، كَأَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَالْمُنَافَسَةُ فِيهَا مُبَاحَةٌ.
وَقَدْ تَحْرُمُ، كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ مَالٌ يُنْفِقُهُ فِي الْمَعَاصِي، فَيَقُول: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً مِثْل مَال فُلاَنٍ لَكُنْتُ أُنْفِقُهُ فِي مِثْل مَا يُنْفِقُهُ فِي الْمَعَاصِي (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 189 - 191.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 190 وما بعدها.(31/137)
غَبْن
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ. الْغَلَبُ وَالْخَدْعُ وَالنَّقْصُ (1) . قَال الْكَفَوِيُّ: الْغَبْنُ بِالْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ يُسْتَعْمَل فِي الأَْمْوَال، وَبِالْمُتَحَرِّكَةِ فِي الآْرَاءِ (2) " وَقَال ابْنُ السِّكِّيتِ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْفَتْحِ، وَفِي الرَّأْيِ بِالإِْسْكَانِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْحَطَّابُ: الْغَبْنُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لاَ يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّدْلِيسُ:
2 - التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنْ
__________
(1) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص186 ط دار القلم، وانظر المصباح المنير.
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 310.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه ص186.
(4) مواهب الجليل 4 / 468 - 469، والبهجة شرح التحفة 2 / 106.(31/138)
الْمُشْتَرِي، يُقَال دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الإِْسْنَادِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ هُوَ: أَنَّ التَّدْلِيسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَبْنِ.
ب - الْغِشُّ:
3 - الْغِشُّ هُوَ الاِسْمُ مِنَ الْغِشِّ مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يَمْحَضْهُ النُّصْحَ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا أَضْمَرَهُ (2) وَيَكُونُ الْغِشُّ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْغَبْنِ.
ح - الْغَرَرُ:
4 - الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ التَّغْرِيرِ وَهُوَ الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ (3) .
وَقَال الْجُرْجَانِيِّ: الْغَرَرُ مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ، لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (4) ؟
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط.
(4) التعريفات للجرجاني.(31/138)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْغَبْنُ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ لِلْمُشْتَرِي وَالْغِشِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ (1) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُل مِلَّةٍ. لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ لأَِحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ، إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ وَجَبَ الرَّدُّ بِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ (3) .
أَنْوَاعُ الْغَبْنِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ نَوْعَانِ: غَبْنٌ يَسِيرٌ وَغَبْنٌ فَاحِشٌ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْيَسِيرَ: مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ. وَالْفَاحِشَ:
__________
(1) الروض المربع شرح زاد المستنقنع 4 / 437.
(2) حديث:: " " من غشنا فليس منا " ". أخرجه مسلم (1 / 99) من حديث أبي هريرة.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1804.(31/139)
مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لأَِنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بَعْدَ الاِجْتِهَادِ، فَيُعْذَرُ فِيمَا يُشْتَبَهُ؛ لأَِنَّهُ يَسِيرٌ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلاَ يُعْذَرُ فِيمَا لاَ يُشْتَبَهُ لِفُحْشِهِ، وَلإِِمْكَانِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً إِلاَّ عَمْدًا.
وَقِيل: حَدُّ الْفَاحِشِ فِي الْعُرُوضِ نِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَفِي الْحَيَوَانِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْعَقَارِ خُمُسُ الْقِيمَةِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ رُبُعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْغَبْنَ يَحْصُل بِقِلَّةِ الْمُمَارَسَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل.
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سِعْرُهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَوْزِ لاَ يُعْفَى فِيهِ الْغَبْنُ وَإِنْ قَل وَإِنْ كَانَ فَلْسًا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لاَ يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَقِيل: الثُّلُثُ وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلاَ يُوجِبُ الرَّدَّ بِاتِّفَاقٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغَبْنُ الْيَسِيرُ هُوَ مَا
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 272، والبحر الرائق 7 / 169.
(2) مواهب الجليل 4 / 472، والدسوقي 3 / 140.(31/139)
يُحْتَمَل غَالِبًا فَيُغْتَفَرُ فِيهِ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ هُوَ مَا لاَ يُحْتَمَل غَالِبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ بَلَدِ الْبَيْعِ وَالْعَادَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُرْجَعُ فِي الْغَبْنِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِيرِ الأَْصْحَابِ، وَقِيل: يُقَدَّرُ الْغَبْنُ بِالثُّلُثِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْرْشَادِ. وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ عَنْ الْمُسْتَوْعِبِ: الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْفَسْخِ مَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. وَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِقَدْرِ ثُلُثِ قِيمَةِ الْبَيْعِ (2) .
أَثَرُ الْغَبْنِ فِي الْعُقُودِ:
7 - إِذَا كَانَ الْغَبْنُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَقْدِ يَسِيرًا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لاَ يُوحِشُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ (3) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْمَسَائِل، وَاعْتَبَرُوا الْغَبْنَ يُؤَثِّرُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 224، والجمل 3 / 408، 409.
(2) الإنصاف 4 / 394.
(3) الإفصاح 1 / 324 ط المؤسسة السعيدية بالرياض، وتفسير ابن العربي 4 / 1804.(31/140)
يَسِيرًا (1) . أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعُقُودِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ الآْتِيَةِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلاَ يُوجِبُ الرَّدَّ (2) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ رَدَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا (3) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ يُرَدُّ الْمَبِيعُ بِغَبْنٍ بِأَنْ يَكْثُرَ الثَّمَنُ أَوْ يَقِل جِدًّا، وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِ الْعُقَلاَءِ (4) .
وَجَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: مُجَرَّدُ الْغَبْنِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَإِنْ تَفَاحَشَ، وَلَوْ اشْتَرَى زُجَاجَةً بِثَمَنٍ كَبِيرٍ يَتَوَهَّمُهَا جَوْهَرَةً فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَلاَ نَظَرَ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَبْنِ؛ لأَِنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يُرَاجِعْ أَهْل
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 22، والبحر الرائق 7 / 169، وتبيين الحقائق 4 / 272، والإنصاف 4 / 395 مطبعة السنة المحمدية.
(2) الدر المختار 4 / 159، والحطاب 4 / 470، وروضة الطالبين 3 / 470، وتكملة المجموع 12 / 326.
(3) الدر المختار 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير لابن عابدين ضمن رسائله 2 / 69.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 140.(31/140)
الْخِبْرَةِ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَالُوا بِأَثَرِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبْهُ تَغْرِيرٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:
أ - تَصَرُّفُ الأَْبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيل بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، يُعْفَى فِيهِ يَسِيرُ الْغَبْنِ دُونَ فَاحِشِهِ كَمَا قَال ابْنُ نُجَيْمٍ (2) .
وَقَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنْ أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيِّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّائِبَ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ ر: (خِيَارُ الْغَبْنِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا)
ب - بَيْعُ الْمُسْتَسْلِمِ الْمُسْتَنْصِحِ (4) ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ رَدَّ بِغَبْنٍ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَسْلِمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِجَهْلِهِ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: أَنَا لاَ أَعْلَمُ قِيمَةَ هَذِهِ السِّلْعَةِ، فَبِعْنِي كَمَا تَبِيعُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 470.
(2) البحر الرائق 7 / 169.
(3) التاج والإكليل 4 / 468.
(4) التاج والإكليل 4 / 468.(31/141)
النَّاسَ فَقَال الْبَائِعُ: هِيَ فِي الْعُرْفِ بِعَشْرَةٍ فَإِذَا هِيَ بِأَقَل: أَوْ يَقُول الْبَائِعُ: أَنَا لاَ أَعْلَمُ قِيمَتَهَا فَاشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ فَقَال: هِيَ فِي عُرْفِهِمْ بِعَشْرَةٍ، فَإِذَا هِيَ بِأَكْثَرَ، فَلِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَل بِاتِّفَاقٍ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - مِنْهُمْ ابْنُ الْقَصَّارِ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبِ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْحَمَوِيِّ: فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ الرَّدِّ بِهِ (بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ) وَلَكِنْ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَفْتَى بِالرَّدِّ مُطْلَقًا (3) .
وَقَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنْ الْمُتَيْطِيِّ: تَنَازَعَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي هَذَا، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَلَى قِيمَةِ الثُّلُثِ فَأَكْثَرُ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَاعَ بِنُقْصَانِ النَّاسِ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 190.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير لابن عابدين 2 / 70، وتبيين الحقائق 4 / 79، والبحر الرائق 6 / 126، ومواهب الجليل 4 / 468، والمغني 3 / 584.
(3) تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير لابن عابدين ضمن رسائله 2 / 70.(31/141)
مَذْهَبَ مَالِكٍ: لِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ جَاهِلاً بِالْقِيَمِ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ بِإِعْطَاءِ الْعَاقِدِ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي ثَلاَثِ صُوَرٍ (2) : إِحْدَاهَا: تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (3) (ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 129. 131) .
وَالثَّانِيَةُ: بَيْعُ النَّاجِشِ وَلَوْ بِلاَ مُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ أُعْطِيتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ وَالثَّالِثَةُ: الْمُسْتَرْسِل إِذَا اطْمَأَنَّ وَاسْتَأْنَسَ وَغَبَنَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَلاَ أَرْشَ مَعَ إِمْسَاكٍ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ إِذَا صَاحَبَ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ بِهَذَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَصَحَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَأَفْتَى بِهِ صَدْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ (5) . (ر: خِيَارُ الْغَبْنِ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) التاج والإكليل 4 / 468.
(2) المغني 3 / 584، ومنتهى الإرادات 1 / 359، وكشاف القناع 3 / 211، والروض المربع 4 / 433.
(3) حديث:: " " لا تلقوا الجلب. . . " ". أخرجه مسلم (3 / 1157) من حديث أبي هريرة.
(4) الروض المربع شرح زاد المستنقنع 4 / 434 - 436.
(5) تبيين الحقائق 4 / 79، والبحر الرائق 6 / 126، والدر المختار 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير لابن عابدين 2 / 70.(31/142)
غَدْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَدْرُ لُغَةً: نَقْضُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَغَدَرَ بِهِ غَدْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَوْل:
2 - مِنْ مَعَانِي الْغَوْل: إِهْلاَكُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ لاَ يُحِسُّ بِهِ، وَكُل مَا أَخَذَ الإِْنْسَانُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَدْرِي فَأَهْلَكَهُ فَهُوَ غَوْلٌ، وَالاِسْمُ: الْغِيلَةُ. (2)
وَالْغَدْرُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَوْل.
ب - الْخُدْعَةُ:
3 - الْخَدِيعَةُ وَالْخُدْعَةُ: إِظْهَارُ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْخَتْل وَإِرَادَةِ
__________
(1) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 159.
(2) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، ومغني المحتاج 4 / 239.(31/142)
الْمَكْرُوهِ، وَمَا يُخْدَعُ بِهِ الإِْنْسَانُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْخُدْعَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَدْرِ، إِذِ الْغَدْرُ حَرَامٌ، أَمَّا الْخُدْعَةُ فَتُبَاحُ أَحْيَانًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (2)
ج - الْخِيَانَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ فِي اللُّغَةِ: نَقْصُ الْحَقِّ وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَعَدَمُ أَدَاءِ الأَْمَانَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (3)
وَالْخِيَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَدْرِ. (ر: الْخِيَانَة ف 1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لأَِنَّهُ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " الحرب خدعة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 158) ومسلم (3 / 1361) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) المعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي.(31/143)
أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ. وَقِيل: لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. (2)
وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدٍ أَمْ جَمَاعَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ.
6 - وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ، مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
__________
(1) سورة الإسراء / 34.
(2) حديث: " أربع من كن فيه كان منافقًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 89) ومسلم (1 / 78) من حديث عبد الله بن عمرو. وانظر: حاشية ابن عابدين 3 / 224، وجواهر الإكليل 1 / 257، ودليل الفالحين 4 / 435، 438، 3 / 156، والمغني لابن قدامة 8 / 465.(31/143)
شُرُوطِهِمْ (1) وَلأَِنَّ أَبَا بَصِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لاَ نَغْدِرُ، فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ. . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا (2) ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلاَدِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ، فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلاَ يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي بصير: " لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البيهقي (9 / 227) .(31/144)
سَوَاءٍ قَال: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ. (1) وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلاَ صُلْحٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنِ الدُّخُول فِي الدِّينِ، وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (2)
7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الأَْمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} ، (3) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَل مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. (4)
8 - كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
__________
(1) حديث: " من كان بينه وبين قوم عهد. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 143) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) البدائع 7 / 107، تفسير القرطبي 8 / 32، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 860، ومغني المحتاج 4 / 238، 262، والمغني لابن قدامة 8 / 463 - 465.
(3) سورة التوبة / 6.
(4) حديث: " ذمة المسلمين واحدة. . . ". أخرجه البخاري (13 / 275) ومسلم (2 / 999) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.(31/144)
مَنْ دَخَل مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لاَ يَغْدِرَهُمْ وَلاَ يَخُونَهُمْ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ، فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَال مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَالُوا: لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الأَْسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ، حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لأَِوْلاَدِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، أَوِ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْل خُرُوجِهِ مَالاً فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إِطْلاَقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ: أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لاَ يَهْرُبَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا، فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ(31/145)
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . (1) وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لاَ يَجُوزُ.
أَمَّا إِنْ أَمْكَنَهُ إِقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يُوَفِّيَهُ. لِئَلاَّ يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ. ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ الأَْسِيرَ إِذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَال دُونَ رُجُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَال فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلاَ يَرْجِعْ.
وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ عَلَى مِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
__________
(1) سورة النساء / 97.(31/145)
الْفُقَهَاءِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَسْرَى ف 82)
الْجِهَادُ مَعَ الإِْمَامِ الْغَادِرِ:
9 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْوَالِي أَوِ الإِْمَامِ الْغَادِرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا فِي فَرْضِ الْجِهَادِ مَعَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ جَائِرًا.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُقَاتِل مَعَهُ؛ لأَِنَّ الْقِتَال مَعَهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى غَدْرِهِ.
وَقِيل: إِنَّهُ يُقَاتِل مَعَهُ لأَِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَهُ خِذْلاَنٌ لِلإِْسْلاَمِ، وَنُصْرَةُ الدِّينِ وَاجِبَةٌ، وَلِحَدِيثِ: الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَى آخِرِ عِصَابَةٍ تُقَاتِل الدَّجَّال، لاَ يَنْقُضُهُ جَوْرُ مَنْ جَارَ وَلاَ غَدْرُ مَنْ غَدَرَ (2) وَلِقَوْل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ أَدْرَكُوا مَا حَدَثَ مِنَ الظُّلْمِ: اُغْزُ مَعَهُمْ عَلَى حَظِّكَ مِنَ الآْخِرَةِ، وَلاَ تَفْعَل مَا يَفْعَلُونَ مِنْ فَسَادٍ وَخِيَانَةٍ وَغُلُولٍ (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 239، وجواهر الإكليل 1 / 254، والفواكه الدواني 1 / 467، والمغني 8 / 397، 457.
(2) حديث: " الجهاد ماض منذ أن بعث الله نبيه. . . ". أورده النفراوي المالكي في الفواكه الدواني (1 / 466) ، ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
(3) تفسير القرطبي 8 / 33، والفواكه الدواني 1 / 466، وجواهر الإكليل 1 / 251(31/146)
غُدَّةٌ
.
اُنْظُرْ: أَطْعِمَة.
غَدِيرٌ
.
اُنْظُرْ: مِيَاه.
غُرَابٌ
.
اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ.
غِرَاسٌ
.
اُنْظُرْ: غَرْسٌ.(31/146)
غَرَامَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَامَاتُ جَمْعُ غَرَامَةٍ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرَمُ وَالْغُرْمُ، وَالْغَرِيمُ الْمَدِينُ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَيْضًا، (1) وَفِي الْحَدِيثِ فِي التَّمْرِ الْمُعَلَّقِ: فَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ. (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الضَّمَانُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الضَّمَانِ فِي اللُّغَةِ الاِلْتِزَامُ وَالْغَرَامَةُ. (3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ:
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) حديث: " فمن خرج بشيء منه فعليه. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 551) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مطولاً، وأخرج الترمذي (3 / 575) شطرًا منه وقال: حديث حسن.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط.(31/147)
الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْغَرَامَةِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ أَعَمُّ مِنَ الْغَرَامَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَامَاتِ:
مُوجِبُ الْغَرَامَاتِ:
3 - مُوجِبُ الْغَرَامَةِ فِي الأَْصْل: التَّعَدِّي - وَهُوَ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي الأَْفْعَال وَالتَّصَرُّفَاتِ - وَيَقَعُ عَلَى الأَْمْوَال وَالْفُرُوجِ وَالأَْنْفُسِ أَوِ الأَْبْدَانِ.
4 - وَأَسْبَابُهَا فِي الأَْمْوَال: عَقْدٌ وَيَدٌ وَإِتْلاَفٌ وَحَيْلُولَةٌ: فَالْعَقْدُ كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ بِفِعْل الْبَائِعِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلاَ غَرَامَةَ عَلَى أَحَدٍ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَهُوَ قَبْضٌ لِلْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ غَرَّمَ الأَْجْنَبِيَّ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَيَغْرَمُ الأَْجْنَبِيُّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَمِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 56، 59، وَضَمَان ف 31، 33)
5 - أَمَّا الْيَدُ كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ فَهِيَ
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 323.(31/147)
ضَرْبَانِ: مُؤْتَمَنَةٌ، وَغَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ.
فَالْيَدُ غَيْرُ الْمُؤْتَمَنَةِ كَيَدِ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالآْخِذِ لِلسَّوْمِ وَالْمُشْتَرِي فَاسِدًا، فَعَلَيْهِمْ رَدُّ الْمَال إِلَى مَالِكِهِ إِنْ كَانَتْ عَيْنُ الْمَال قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَ فَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَغَرَامَةُ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَكَذَا الإِْتْلاَفُ لِلْمَال، كَأَنْ يَقْتُل حَيَوَانًا أَوْ يَحْرِقَ ثَوْبًا أَوْ يَقْطَعَ أَشْجَارًا أَوْ يَسْتَهْلِكَ طَعَامًا وَشِبْهُ ذَلِكَ فَمَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مَا أَفْسَدَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْل عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي مُكَلَّفًا أَمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، فَيَحْكُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي التَّعَدِّي عَلَى الأَْمْوَال حُكْمَ الْمُكَلَّفِ، فَيَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهِ. وَيَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ التَّسَبُّبُ، كَأَنْ فَتَحَ حَانُوتًا وَتَرَكَهُ مَفْتُوحًا فَسُرِقَ، أَوْ قَفَصَ طَائِرٍ فَطَارَ، أَوْ حَل دَابَّةً مَرْبُوطَةً فَنَدَّتْ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا تَعَدِّيًا فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، أَوْ قَطَعَ وَثِيقَةً وَضَاعَ مَا فِيهَا مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَمَّا يَدُ الأَْمَانَةِ فَكَيَدِ الْوَدِيعِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيل، وَلاَ غَرَامَةَ فِيمَا تَلِفَ بِتِلْكَ الْيَدِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مِنْهَا تَعَدٍّ أَوْ(31/148)
تَقْصِيرٌ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان ف 66) .
6 - أَمَّا التَّعَدِّي فِي الْفُرُوجِ فَمَنِ اغْتَصَبَ امْرَأَةً وَزَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا. وَغَرَامَةُ صَدَاقٍ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)
7 - وَالْغَرَامَةُ بِسَبَبِ الْحَيْلُولَةِ، كَأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ بَهِيمَةً فَضَاعَ، أَوْ نَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَغْرَمُ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمِلْكِهِ. (2)
أَمَّا التَّعَدِّي عَلَى الأَْنْفُسِ أَوِ الأَْبْدَانِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ أَوِ الأَْرْشَ أَوِ الْحُكُومَةَ أَوِ الْغُرَّةَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، وَدِيَة ف 7، وَأَرْش ف 4. وَحُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4) .
__________
(1) القواعد الفقهية ص325، والمنثور في القواعد 2 / 322.
(2) المنثور في القواعد 2 / 325.(31/148)
غَرَر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّغْرِيرِ، وَهُوَ الْخَطَرُ، وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، يُقَال: غَرَّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَغُرَّةً فَهُوَ مَغْرُورٌ وَغَرِيرٌ: خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا غُرُورًا: خَدَعَتْهُ بِزِينَتِهَا، وَغَرَّرَ بِنَفْسِهِ تَغْرِيرًا وَتَغِرَّةً: عَرَّضَهَا لِلْهَلَكَةِ.
وَالتَّغْرِيرُ: حَمْل النَّفْسِ عَلَى الْغَرَرِ. (1)
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهَالَةُ:
2 - الْجَهَالَةُ لُغَةً: أَنْ تَفْعَل فِعْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير ومتن اللغة.
(2) التعريفات.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.(31/149)
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الْجَهْل الْمُتَعَلِّقُ بِخَارِجٍ عَنِ الإِْنْسَانِ كَمَبِيعٍ وَمُشْتَرًى وَإِجَارَةٍ وَإِعَارَةٍ وَغَيْرِهَا.
(ر: جَهَالَة ف 1 - 3)
وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَقَال: أَصْل الْغَرَرِ هُوَ الَّذِي لاَ يُدْرَى هَل يَحْصُل أَمْ لاَ؟ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَأَمَّا مَا عُلِمَ حُصُولُهُ وَجُهِلَتْ صِفَتُهُ فَهُوَ الْجَهُول، كَبَيْعِهِ مَا فِي كُمِّهِ، فَهُوَ يَحْصُل قَطْعًا، لَكِنْ لاَ يُدْرَى أَيْ شَيْءٍ هُوَ؟ فَالْغَرَرُ وَالْمَجْهُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الآْخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ فَيُوجَدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الآْخَرِ وَبِدُونِهِ
أَمَّا وُجُودُ الْغَرَرِ بِدُونِ الْجَهَالَةِ: فَكَشِرَاءِ الْعَبْدِ الآْبِقِ الْمَعْلُومِ قَبْل الإِْبَاقِ لاَ جَهَالَةَ فِيهِ، وَهُوَ غَرَرٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُدْرَى هَل يَحْصُل أَمْ لاَ؟
وَالْجَهَالَةُ بِدُونِ الْغَرَرِ: كَشِرَاءِ حَجَرٍ يَرَاهُ لاَ يَدْرِي أَزُجَاجٌ هُوَ أَمْ يَاقُوتٌ، مُشَاهَدَتُهُ تَقْتَضِي الْقَطْعَ بِحُصُولِهِ فَلاَ غَرَرَ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِ يَقْتَضِي الْجَهَالَةَ بِهِ.
وَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَكَالْعَبْدِ الآْبِقِ، الْمَجْهُول الصِّفَةِ قَبْل الإِْبَاقِ (1) :
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 265.(31/149)
ب - الْغَبْنُ:
3 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ: النُّقْصَانُ، يُقَال: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا أَيْ: نَقَصَهُ، وَغَبَنَ رَأْيَهُ غَبْنًا: قَلَّتْ فِطْنَتُهُ وَذَكَاؤُهُ. قَال الْفِيْرُوزَآبَادِيُّ.: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا - وَيُحَرَّكُ - أَوْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّحْرِيكِ فِي الرَّأْيِ: خَدَعَهُ (1) .
وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْغَبْنَ إِلَى فَاحِشٍ وَيَسِيرٍ، وَالْحَدُّ الْفَاصِل بَيْنَهُمَا - كَمَا يَقُول صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ - هُوَ الدُّخُول تَحْتَ التَّقْوِيمِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ، (2) فَالْفَاحِشُ مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْيَسِيرُ مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ. (3)
ج - التَّدْلِيسُ:
4 - التَّدْلِيسُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: كَتْمُ عَيْبِ السِّلْعَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُول: لَيْسَ لِي فِي الأَْمْرِ وَلْسٌ وَلاَ دَلْسٌ أَيْ: لاَ خِيَانَةٌ وَلاَ خَدِيعَةٌ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: (غبن) .
(2) الكليات 3 / 310، ودستور العلماء 3 / 3.
(3) البحر الرائق 7 / 169.
(4) المصباح المنير والمغرب مادة (دلس) والكليات 2 / 106.(31/150)
وَالْغَرَرُ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
5 - الْغَرَرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خَدِيعَةً أَوْ تَدْلِيسًا حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُول كِتَابِ الْبُيُوعِ، يَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَقَال: وَبَيْعُ مَا فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَلاَ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ بَاطِلٌ. (2)
أَقْسَامُ الْغَرَرِ:
6 - يَنْقَسِمُ الْغَرَرُ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُهُ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى: غَرَرٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْعُقْدَةِ وَغَرَرٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ. (3)
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1153) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 11 / 156، والمجموع 9 / 258.
(3) بداية المجتهد 2 / 171، والمجموع 9 / 258.(31/150)
شُرُوطُ الْغَرَرِ الْمُؤَثِّرِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا الشُّرُوطَ الآْتِيَةَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ كَثِيرًا:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ - أَيْ فِي الْبَيْعِ - ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: كَثِيرٌ مُمْتَنِعٌ إِجْمَاعًا، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَقَلِيلٌ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، كَأَسَاسِ الدَّارِ وَقُطْنِ الْجُبَّةِ، وَمُتَوَسِّطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، هَل يُلْحَقُ بِالأَْوَّل أَمْ بِالثَّانِي؟ (1) وَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لاَ يَجُوزُ وَأَنَّ الْقَلِيل يَجُوزُ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: نَقَل الْعُلَمَاءُ الإِْجْمَاعَ فِي أَشْيَاءَ غَرَرُهَا حَقِيرٌ، مِنْهَا: أَنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوُهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا شَهْرًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ،
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 265، 266 ط دار المعرفة، بيروت.
(2) بداية المجتهد 2 / 168.(31/151)
وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ دُخُول الْحَمَّامِ بِأُجْرَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ بِعِوَضٍ مَعَ اخْتِلاَفِ أَحْوَال النَّاسِ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَوْ مُكْثِهِمْ فِي الْحَمَّامِ، قَال: قَال الْعُلَمَاءُ: مَدَارُ الْبُطْلاَنِ بِسَبَبِ الْغَرَرِ وَالصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِكَابِ الْغَرَرِ، وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، أَوْ كَانَ الْغَرَرُ حَقِيرًا جَازَ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
وَقَدْ وَضَعَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضَابِطًا لِلْغَرَرِ الْكَثِيرِ فَقَال: الْغَرَرُ الْكَثِيرُ هُوَ مَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْدِ حَتَّى أَصْبَحَ الْعَقْدُ يُوصَفُ بِهِ (2)
ب - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً. أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ فِيمَا يَكُونُ تَابِعًا لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ. لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 258 ط المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
(2) المنتقى 5 / 41 ط السعادة 1332هـ.(31/151)
غَيْرِهَا (1) وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
1 - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مُفْرَدَةً، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، (2) وَلَكِنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ أَصْلِهَا جَازَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (3) وَقَدْ نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ، وَقَال: وَلأَِنَّهُ إِذَا بَاعَهَا مَعَ الأَْصْل حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَال الْغَرَرِ فِيهَا. (4)
2 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْل فِي الْبَطْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمَجْرِ " (5)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص121 ط دار الهلال، الأشباه والنظائر للسيوطي 120 ط دار الكتب العلمية 1983م.
(2) حديث: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 394) ومسلم (3 / 1165) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 49) ومسلم (3 / 1172) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(4) المغني لابن قدامة 4 / 92، 93.
(5) حديث ابن عمر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المجر ". أخرجه البيهقي (5 / 341) ثم أعله بضعف أحد رواته. والمجر: ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وأن يشتري ما في بطونها، وأن يشتري البعير بما في بطن الناقة.(31/152)
وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ الْجَنِينِ؛ لأَِنَّهُ غَرَرٌ، لَكِنْ لَوْ بَاعَ حَامِلاً بَيْعًا مُطْلَقًا صَحَّ الْبَيْعُ، وَدَخَل الْحَمْل فِي الْبَيْعِ بِالإِْجْمَاعِ (1) .
3 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: " لاَ تَشْتَرُوا اللَّبَنَ فِي ضُرُوعِهَا، وَلاَ الصُّوفَ عَلَى ظُهُورِهَا " (2) وَلأَِنَّهُ مَجْهُول الْقَدْرِ، لأَِنَّهُ قَدْ يُرَى امْتِلاَءُ الضَّرْعِ مِنَ السِّمَنِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، وَلأَِنَّهُ مَجْهُول الصِّفَةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّبَنُ صَافِيًا وَقَدْ يَكُونُ كَدِرًا، وَذَلِكَ غَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، لَكِنْ لَوْ بِيعَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ مَعَ الْحَيَوَانِ جَازَ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ حَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَجْهُولاً؛ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِلْحَيَوَانِ، (3) وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ. (4)
وَنَقَل صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ عَنْ مَالِكٍ
__________
(1) المجموع 9 / 322 وما بعدها.
(2) أثر ابن عباس: " ولا تشتروا اللبن في. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 15) والبيهقي (5 / 340) وصحح إسناده النووي في المجموع (9 / 326) .
(3) المجموع 9 / 326.
(4) حديث المصراة. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 368) ومسلم (3 / 1158) من حديث أبي هريرة.(31/152)
أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ لَبَنِ الْغَنَمِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً إِذَا كَانَ مَا يُحْلَبُ فِيهَا مَعْرُوفًا فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ لَبَنِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلاً شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي إِبَّانِ لَبَنِهَا وَعُلِمَ أَنَّ لَبَنَهَا لاَ يُقْطَعُ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل، إِذَا كَانَ قَدْ عُرِفَ وَجْهُ حِلاَبِهَا. (1)
ج - أَلاَّ تَدْعُوَ لِلْعَقْدِ حَاجَةٌ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْعَقْدِ: أَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ لَمْ يُؤَثِّرِ الْغَرَرُ فِي الْعَقْدِ، وَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا.
قَال الْكَاسَانِيُّ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ: إِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا جَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ، فَشَكَا أَهْلُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: {
__________
(1) تهذيب الفروق 3 / 274، والمدونة 4 / 297.(31/153)
إِذَا بَايَعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَنْتَ فِي كُل سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ (1) وَلِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّل وَالنَّظَرِ. (2)
وَقَال الْكَمَال عَنْ عَقْدِ السَّلَمِ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ. إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِسْتِرْبَاحِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهُوَ بِالسَّلَمِ أَسْهَل، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْبَيْعِ نَازِلاً عَنِ الْقِيمَةِ فَيُرْبِحُهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْحَال إِلَى السَّلَمِ، وَقُدْرَةٌ فِي الْمَال عَلَى الْبَيْعِ بِسُهُولَةٍ، فَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ الْحَالِيَّةُ إِلَى قُدْرَتِهِ الْمَآلِيَّةِ، فَلِهَذِهِ الْمَصَالِحِ شُرِعَ (3) .
وَقَال الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا جُوِّزَ الْجُعْل فِي الْعَمَل الْمَجْهُول وَالْغَرَرُ لِلضَّرُورَةِ. (4)
وَقَال النَّوَوِيُّ: الأَْصْل أَنَّ بَيْعَ الْغَرَرِ بَاطِلٌ. لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) حديث حبان بن منقذ أنه كان يغبن في التجارات. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 337) والبيهقي (5 / 273) والزيادة له.
(2) بدائع الصنائع 5 / 174.
(3) فتح القدير 5 / 324 ط الأميرية 1316هـ.
(4) المنتقى للباجي 5 / 110، 112 ط السعادة 1332هـ.(31/153)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (1) . وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ كَأَسَاسِ الدَّارِ، وَشِرَاءِ الْحَامِل مَعَ احْتِمَال أَنَّ الْحَمْل وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَكَامِل الأَْعْضَاءِ أَوْ نَاقِصُهَا، وَكَشِرَاءِ الشَّاةِ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ قَال: وَأَمَّا لَبَنُ الظِّئْرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ. (3)
د - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
10 - وَقَدِ اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَطْ، حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ مَا كَانَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْغَرَرُ.
قَال الْقَرَافِيُّ: فَصَل مَالِكٌ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: تقدم تخريجه ف / 5.
(2) المجموع للنووي 9 / 258.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 231.(31/154)
الأَْمْوَال وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ. (1)
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْوَصِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ
الْغَرَرُ فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلاً - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
أ - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، أَوْ يَكُونَ فِي مَحَل الْعَقْدِ.
1 - الْغَرَرُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ:
11 - قَدْ يَنْعَقِدُ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةٍ تَجْعَل فِيهِ غَرَرًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْغَرَرَ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ - الإِْيجَابِ وَالْقَبُول - لاَ بِمَحَلِّهِ - الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ -
وَيَدْخُل فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ عِدَّةُ بُيُوعٍ نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا صَرَاحَةً، مِنْهَا
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 151.(31/154)
الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَة ف 1 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِنْهَا بَيْعُ الْحَصَاةِ، كَأَنْ يَقُول الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِكَذَا، وَذَلِكَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي يَجْعَل الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. (2)
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 4) .
وَمِنْهَا بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. (3)
(ر: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ ف 3 و 4، وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ ف 2) .
وَيَدْخُل أَيْضًا فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ
__________
(1) حديث أبي هريرة " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 524) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي هريرة تقدم تخريجه ف / 5.
(3) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 359) ومسلم (3 / 1151) .(31/155)
تَعْلِيقُ الْبَيْعِ وَإِضَافَتُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل (1) . قَال الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَمَجِيءِ الشَّهْرِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَلَمْ يَجُزْ. (2)
2 - الْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ:
12 - مَحَل الْعَقْدِ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَشْمَل الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ.
وَالْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهَالَةِ بِهِ، لِذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْعِلْمَ بِالْمَحَل. (3)
وَالْغَرَرُ فِي الْمَبِيعِ يَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ الأُْمُورِ التَّالِيَةِ: الْجَهْل بِذَاتِ الْبَيْعِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ مِقْدَارِهِ أَوْ أَجَلِهِ، أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوِ التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَل الْمَعْدُومِ، أَوْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ.
13 - فَمِثَال الْجَهْل بِذَاتِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، أَوْ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْمَبِيعُ هُنَا - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ - إِلاَّ أَنَّهُ مَجْهُول الذَّاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص367، الفتاوى الهندية 4 / 396، الفروق للقرافي 1 / 229، المجموع 9 / 340، كشاف القناع 3 / 194، 195.
(2) المجموع للنووي 9 / 340.
(3) بدائع الصنائع 5 / 156 والقوانين الفقهية 272 ومغني المحتاج 2 / 16 وكشاف القناع 3 / 163.(31/155)
حُصُول نِزَاعٍ فِي تَعْيِينِهِ. (1) وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْعَ إِنْ جَعَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ بَيْعَ الاِخْتِيَارِ، وَكَذَا أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِنْ جَعَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ وَكَانَ اخْتِيَارُهُ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَمَا دُونَ.
وَمِثَال الْجَهْل بِجِنْسِ الْمَحَل: بَيْعُ الْحَصَاةِ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ، وَبَيْعُ الْمَرْءِ مَا فِي كُمِّهِ " وَأَنْ يَقُول بِعْتُكَ سِلْعَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا. (2)
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 3) . وَمِثَال الْجَهْل بِنَوْعِ الْمَحَل: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَال بِعْتُكَ كُرًّا - وَهُوَ كَيْلٌ - مِنْ حِنْطَةٍ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُل الْكُرِّ فِي مِلْكِهِ بَطَل، وَلَوْ بَعْضُهُ فِي مِلْكِهِ بَطَل فِي الْمَعْدُومِ وَفَسَدَ فِي الْمَوْجُودَةِ، وَلَوْ كُلُّهُ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لاَ يَجُوزُ، وَلَوْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُضِفِ الْبَيْعَ إِلَى تِلْكَ الْحِنْطَةِ. (3)
وَقَال الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ يَقَعَانِ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَال: رَابِعُهَا النَّوْعُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 156، 157، حاشية الدسوقي 3 / 15، المجموع 9 / 288، كشاف القناع 3 / 163.
(2) الفروق للقرافي 3 / 265، القوانين الفقهية ص282، نهاية المحتاج 3 / 402، كشاف القناع 3 / 163.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 21.(31/156)
كَعَبْدٍ لَمْ يُسَمِّهِ. (1)
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا جُهِل جِنْسُهَا أَوْ نَوْعُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، (2) وَفِي بَيْعِ مَا لاَ يُعْرَفُ جِنْسُهُ أَوْ نَوْعُهُ غَرَرٌ كَثِيرٌ. (3)
وَمِثَال الْجَهْل بِصِفَةِ الْمَحَل. بَيْعُ الْحَمْل، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ، وَبَيْعُ الْمَلاَقِيحِ، وَبَيْعُ الْمَجْرِ، وَبَيْعُ عَسْبِ الْفَحْل.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5، 6، 69)
وَمِثَال الْجَهْل بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعُ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ.
وَمِثَال الْجَهْل بِالأَْجَل. بَيْعُ حَبَل الْحَبَلَةِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5)
وَمِثَال عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَحَل: بَيْعُ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (4) ، وَبَيْعُ الإِْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ، وَبَيْعُ الْمَغْصُوبِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِثَال التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَل الْمَعْدُومِ: بَيْعُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ، وَبَيْعُ الْمُعَاوَمَةِ
__________
(1) الفروق 3 / 265.
(2) حديث أبي هريرة تقدم تخريجه ف / 5.
(3) المجموع للنووي 9 / 288.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 5، 6، القوانين الفقهية ص282، المجموع 9 / 149، 284، المغني لابن قدامة 4 / 221.(31/156)
وَالسِّنِينَ، وَبَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ (1) .
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 72، 88) .
14 - كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ فِي الثَّمَنِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهْل بِهِ.
وَالْجَهْل بِالثَّمَنِ قَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالذَّاتِ، كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ شَاةٍ مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، فَلاَ يَجُوزُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالنَّوْعِ قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا قَال: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ فِي ذِمَّتِكَ أَوْ قَال: بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِكَ، أَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِنَوْعِهَا. (3)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِصِفَةِ الثَّمَنِ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُول الصِّفَةِ؛ لأَِنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَحْصُل الْمُنَازَعَةُ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلاَ مُنَازَعَةٍ. (4)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ إِذَا لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، القوانين الفقهية ص282، المجموع 9 / 258، كشاف القناع 3 / 166.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 63 ط جامعة دمشق 1958م، كشاف القناع 3 / 173.
(3) المجموع للنووي 9 / 328، 329.
(4) فتح القدير 5 / 83، مواهب الجليل 4 / 276، كشاف القناع 3 / 174.(31/157)
يَكُنْ مُشَارًا إِلَيْهِ. فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُول الْقَدْرِ اتِّفَاقًا. (1)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِأَجَل الثَّمَنِ، قَال النَّوَوِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ (2) . وَقَال الْكَمَال: جَهَالَةُ الأَْجَل تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَاكَ فِي بِعِيدِهَا، وَلأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الأَْجَل - وَهُوَ السَّلَمُ - أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ، حَيْثُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (3)
وَعَلَى كُل ذَلِكَ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ (4)
ب - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ:
15 - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ قَدْ يَرِدُ عَلَى صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَرِدُ عَلَى مَحَل الْعَقْدِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 83، القوانين الفقهية ص251 ط الدار العربية للكتاب 1982م، المجموع 9 / 332، 333، كشاف القناع 3 / 174.
(2) المجموع 9 / 339
(3) حديث: " من أسلف في تمر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 428) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس، واللفظ لمسلم.
(4) فتح القدير 5 / 84.(31/157)
فَمِنَ الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ: التَّعْلِيقُ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَقُول: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ آجَرْتُكَ، بِسَبَبِ أَنَّ انْتِقَال الأَْمْلاَكِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ، وَلاَ جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِضَهُ عَدَمُ الْحُصُول، وَفِي ذَلِكَ غَرَرٌ. (1)
وَأَمَّا الْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ فَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ، لِذَا يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الإِْجَارَةِ مَا يَشْتَرِطُونَهُ فِي مَحَل الْبَيْعِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لأَِنَّ جَهَالَتَهُمَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، (2) فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اسْتِئْجَارِ الأَْجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ. (3)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ مَحَل الإِْجَارَةِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلاَ تَجُوزُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 396، الفروق للقرافي 1 / 229، المنثور في القواعد 1 / 374.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 3، حاشية الدسوقي 4 / 3، القوانين الفقهية ص301، مغني المحتاج 2 / 334، مطالب أولي النهى 3 / 582، 587.
(3) حديث أبي سعيد: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ". أخرجه أحمد (3 / 59) والبيهقي (6 / 120) ، وأعله البيهقي بالانقطاع بين أبي سعيد والراوي عنه.(31/158)
إِجَارَةُ مُتَعَذِّرِ التَّسْلِيمِ حِسًّا، كَإِجَارَةِ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، أَوْ شَرْعًا كَإِجَارَةِ الْحَائِضِ لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّبِيبِ لِقَلْعِ سِنٍّ صَحِيحٍ، وَالسَّاحِرِ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ. (1)
ج - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ:
16 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ السَّلَمِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الشَّارِعُ لِلْحَاجَةِ.
قَال الْكَمَال: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّلَمِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ.
وَزَادَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا أُخْرَى لِتَخْفِيفِ الْغَرَرِ فِيهِ مِنْهَا: تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، قَال الْغَزَالِيُّ: مِنْ شَرَائِطِهِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ جَبْرًا لِلْغَرَرِ فِي الْجَانِبِ. (3)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 187، حاشية الدسوقي 4 / 3، مغني المحتاج 2 / 336، 339، مطالب أولي النهى 3 / 604، 610، 616.
(2) فتح القدير 5 / 324.
(3) فتح العزيز شرح الوجيز بذيل المجموع 9 / 205.(31/158)
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. (1)
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ عِنْدَ مَحَلِّهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَّ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحَل بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الآْبِقِ بَل أَوْلَى، فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِل فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ يُحْتَمَل فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ؛ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ. (2)
وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ أَوْصَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ، قَال الرَّافِعِيُّ: لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَحْتَمِل جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ عَيْنٌ، فَلأََنْ لاَ يَحْتَمِلَهَا السَّلَمُ وَهُوَ دَيْنٌ كَانَ أَوْلَى.
وَعَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَقَال: لأَِنَّهُ دَيْنٌ وَهُوَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ بِهِ يَكُونُ مَجْهُولاً جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 208، حاشية الدسوقي 3 / 195، فتح العزيز بذيل المجموع 9 / 205، المغني 4 / 329.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 205، حاشية الدسوقي 3 / 211، فتح العزيز مع المجموع 9 / 241، والمغني 4 / 325.(31/159)
يَجُوزُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. (1)
د - الْغَرَرُ فِي الْجَعَالَةِ:
17 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ عَقْدِ الْجَعَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ؛ لِجَهَالَةِ الْعَمَل وَجَهَالَةِ الأَْجَل حَيْثُ إِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ الْجُعْل بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَل، وَهُوَ وَقْتٌ مَجْهُولٌ، إِلاَّ أَنَّهُ جُوِّزَ اسْتِثْنَاءً لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: هُوَ فِي الْقِيَاسِ غَرَرٌ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَوَّزَهُ. (2)
لَكِنْ مُنِعَتْ بَعْضُ الصُّوَرِ مِنَ الْجَعَالَةِ، مِنْهَا: مَا لَوْ قَال لِرَجُلٍ: بِعْ لِي ثَوْبِي وَلَكَ مِنْ كُل دِينَارٍ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا يَبِيعُهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَعْلُومًا كَأَنْ جَعَل الْعَامِل مَجْهُولاً، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجَهَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْل مَعْلُومًا. قَال مَالِكٌ: كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقَصَ فِي حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ، فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَدْرِي كَمْ جُعِل لَهُ. (3)
وَمِنْهَا: مَا لَوْ قَال لآِخَرَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ لَكَ فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 203، حاشية الدسوقي 3 / 207، 208، فتح العزيز بذيل المجموع 9 / 268، المغني 4 / 305.
(2) المقدمات لابن رشد 2 / 304.
(3) المنتقى 5 / 112.(31/159)
يَجُوزُ، قَال مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْجُعْل مَجْهُولٌ قَدْ دَخَلَهُ غَرَرٌ. (1)
ثَانِيًا - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ:
أ - عَقْدُ الْهِبَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْغَرَرِ عَلَى عَقْدِ الْهِبَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، يَدُل لِذَلِكَ أَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْمَوْهُوبِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَوْهُوبِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ، فَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ، بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ، وَتَلِدُهُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ، وَمَا لاَ - كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ وَضَالٍّ - فَلاَ. (3)
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ الْهِبَةَ: بِأَنَّهَا التَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ الْمَعْلُومِ الْمَوْجُودِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: خَرَجَ بِالْمَال نَحْوُ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) بدائع الصنائع 6 / 119.
(3) المنهاج مع مغني المحتاج 2 / 399.(31/160)
الْكَلْبِ، وَبِالْمَعْلُومِ الْمَجْهُول، وَبِالْمَوْجُودِ الْمَعْدُومُ، فَلاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهَا. (1)
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ الْهِبَةِ فِي حَالَةِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودُ، وَبِالْجُمْلَةِ كُل مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ. (3)
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، قَال الْقَرَافِيُّ: انْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ فِي قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَمَا لاَ يُجْتَنَبُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلَى مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً،
وَثَانِيهُمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَال، بَل إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لاَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 298.
(2) بدائع الصنائع 6 / 118، المهذب 1 / 453، المغني 5 / 658.
(3) بداية المجتهد 2 / 300 ط المكتبة التجارية الكبرى.(31/160)
ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، بِخِلاَفِ الْقِسْمِ الأَْوَّل إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَال الْمَبْذُول فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُل طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُول، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وُهِبَ لَهُ عَبْدُهُ الآْبِقُ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُل لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الأَْحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الأَْقْسَامَ حَتَّى نَقُول يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، بَل إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ. (1)
ب - الْوَصِيَّةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْمُوصَى بِهِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُول؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ،
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 151.(31/161)
وَلأَِنَّهَا - كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ - احْتَمَل فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الْغَرَرِ رِفْقًا بِالنَّاسِ وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (1) .
ثَالِثًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
20 - مَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِكَةَ الأَْبْدَانِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ لاَ يَدْرِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَكْسِبُ أَمْ لاَ. (2) وَمَنَعُوا أَيْضًا شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ. قَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَلاَ بَاطِل أَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِلْغَرَرِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَاوَضَ صَاحِبَهُ بِكَسْبٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ بِصِنَاعَةٍ وَلاَ عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. (4)
كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 416، 429، والدسوقي 4 / 435، والفروق للقرافي 1 / 151، ومغني المحتاج 3 / 45، والمهذب للشيرازي 1 / 459، والمغني لابن قدامة 6 / 31، 56، 58، 64.
(2) مغني المحتاج 2 / 212.
(3) المرجع السابق.
(4) بداية المجتهد 2 / 226 ط المكتبة التجارية، مغني المحتاج 2 / 212.(31/161)
قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ؛ لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ - بَل مَعْدُومٍ - وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (1) . وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: الْقِرَاضُ جَائِزٌ مُسْتَثْنًى مِنَ الْغَرَرِ وَالإِْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ. (2)
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ عِدَّةَ شُرُوطٍ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا مَنْعًا لِوُقُوعِ الْغَرَرِ فِيهَا.
وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تَعْرِيفِ الشَّرِكَاتِ وَمَا يَعْتَرِيهِ الْغَرَرُ مِنْهَا وَمَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَرِكَة)
رَابِعًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الرَّهْنِ، لِذَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَرْهُونِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمَوْجُودًا وَمَقْدُورًا عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 79.
(2) القوانين الفقهية ص 309 ط دار العلم للملايين 1979م.(31/162)
تَسْلِيمِهِ. (1)
وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَرَرَ فِي الرَّهْنِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ مَا لاَ يَحِل بَيْعُهُ فِي وَقْتِ الاِرْتِهَانِ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، وَلاَ يُبَاعُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا بَدَا صَلاَحُهُ، وَإِنْ حَل أَجَل الدَّيْنِ. (2)
وَقَيَّدَ الدَّرْدِيرُ الْغَرَرَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الرَّهْنِ بِالْغَرَرِ الْيَسِيرَةِ وَمَثَّل لَهُ بِالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ الْغَرَرُ - كَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ - فَلاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ. (3)
خَامِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
22 - تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْمَال الْمَجْهُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ، كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ (4) .
وَلأَِنَّهَا الْتِزَامُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ فِي الْمَجْهُول، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (5) .
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ جَهَالَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 135، مغني المحتاج 2 / 122، كشاف القناع 3 / 321، والمغني 4 / 374، 384، 386.
(2) بداية المجتهد 2 / 243 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 232.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 263.
(5) المغني لابن قدامة 4 / 592.(31/162)
الْمَكْفُول إِذَا كَانَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، نَحْوَ: كَفَلْتُ مَالَكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ وَيَكُونُ التَّعْيِينُ لِلْكَفِيل، وَنَحْوُ: إِنْ غَصَبَ مَالَكَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَأَنَا ضَامِنٌ.
أَمَّا لَوْ عَمَّمَ فَقَال: إِنْ غَصَبَكَ إِنْسَانٌ شَيْئًا فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ لاَ يَصِحُّ، كَمَا لاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْكَفَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُول لَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُول لَهُ نَحْوُ: أَنَا ضَامِنٌ زَيْدًا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ لِلنَّاسِ. (2)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْعِلْمَ بِالْمَضْمُونِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَعَيْنًا، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ مَعْرِفَةَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ وَلاَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ. (4)
سَادِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ، فَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. (5)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 267، مجمع الضمانات 270.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 334.
(3) مغني المحتاج 2 / 201، 202.
(4) المغني لابن قدامة 4 / 591.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 399، حاشية الدسوقي 3 / 380، 381، بداية المجتهد 2 / 271.(31/163)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْعِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ؛ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: وَكَّلْتُكَ فِي كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَفِي كُل أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كُل شَيْءٍ، لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيل لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهِ. (1)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ فِي هَذَا غَرَرًا عَظِيمًا وَخَطَرًا كَبِيرًا؛ لأَِنَّهُ تَدْخُل فِيهِ هِبَةُ مَالِهِ وَطَلاَقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ رَقِيقِهِ وَتَزَوُّجُ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ الْمُهُورُ الْكَثِيرَةُ وَالأَْثْمَانُ الْعَظِيمَةُ فَيَعْظُمُ الْغَرَرُ. (2)
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهَا.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمَ بِالْمُوَكَّل بِهِ عِلْمًا تَنْتَفِي بِهِ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ، أَمَّا الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ فَلاَ تَضُرُّ وَالْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ هِيَ جَهَالَةُ الْجِنْسِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دَابَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ الدَّابَّةَ تَشْمَل الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ وَالْبَغْل،
وَالْجَهَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الَّذِي تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ دَارٍ، فَهَذِهِ الْوَكَالَةُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 221.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 94، 95، كشاف القناع 3 / 482.(31/163)
لاَ تَصِحُّ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ أَوِ الصِّفَةَ لِتَقِل الْجَهَالَةُ.
وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الْمَحْضِ - النَّوْعُ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا - كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ فَرَسٍ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ. (1)
وَتَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُوَكِّل عَلَيْهِ وَيُعَيِّنُهُ الْعُرْفُ (2) .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُوَكَّل فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ. لأَِنَّ تَجْوِيزَ الْوَكَالَةِ لِلْحَاجَةِ يَقْتَضِي الْمُسَامَحَةَ، فَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّل فِيهِ مَعْلُومًا عِلْمًا يَقِل مَعَهُ الْغَرَرُ.
وَيَشْتَرِطُونَ فِي الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ بَيَانَ النَّوْعِ، وَإِذَا تَبَايَنَتْ أَوْصَافُ نَوْعٍ وَجَبَ بَيَانُ الصِّنْفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الأَْوْصَافِ، وَهَذَا فِيمَا يُشْتَرَى لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، أَمَّا مَا يُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ النَّوْعِ وَلاَ غَيْرُهُ، بَل يَكْفِي أَنْ يَقُول: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ مِنَ الْعُرُوضِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال اشْتَرِ لِي فَرَسًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 403.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 381.
(3) مغني المحتاج 2 / 221، 222.(31/164)
بِمَا شِئْتَ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيل حَتَّى يَذْكُرَ النَّوْعَ وَقَدْرَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ مَا يُمْكِنُ شِرَاؤُهُ وَالشِّرَاءُ بِهِ يَكْثُرُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَإِنْ ذَكَرَ النَّوْعَ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ صَحَّ لاِنْتِفَاءِ الْغَرَرِ، وَاقْتَصَرَ الْقَاضِي عَلَى ذِكْرِ النَّوْعِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ نَوْعًا فَقَدْ أَذِنَ فِي أَعْلاَهُ ثَمَنًا فَيَقِل الْغَرَرُ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ كُلِّهِ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ يَعْرِفُ مَالَهُ فَيَقِل الْغَرَرُ. (1)
سَابِعًا: الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
24 - يَرِدُ الْغَرَرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْمَهْرِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لاَ يَبْطُل بِجَهَالَةِ الْعِوَضِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا لِلْغَرَرِ فِي الْمَهْرِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ جَهَالَةَ نَوْعِ الْمَهْرِ تُفْسِدُ التَّسْمِيَةَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَيَجِبُ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْل.
كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ ثُبُوتِ الأَْجَل إِذَا كَانَتْ جَهَالَتُهُ مُتَفَاحِشَةً، وَيَجِبُ الْمَهْرُ حَالاً، وَذَلِكَ كَالتَّأْجِيل إِلَى هُبُوبِ الرِّيَاحِ أَوْ إِلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ، أَوْ إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 3 / 482.
(2) كشاف القناع 5 / 135.(31/164)
الْمَيْسَرَةِ. (1)
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - التَّصَرُّفَاتِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُ الْغَرَرِ فِيهَا وَعَدَمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ. فَالطَّرَفَانِ: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا الْغَرَرُ، إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.
وَإِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال، فَيُغْتَفَرُ فِيهِ الْغَرَرُ.
وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، قَال الْقَرَافِيُّ: هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَال فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) الآْيَةُ. يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيل دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوُ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَشُورَةِ بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 334، 335، 348، 359.
(2) سورة النساء / 24.(31/165)