وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ - وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ - إِلَى مَوَاطِنِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدَث، وُضُوء، جَنَابَة، حَيْض، نِفَاس) .
مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ. لِمَا مَرَّ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ: صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَسُنَّةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا، أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلاَتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ (2) .
__________
(1) حديث: " صبوا عليه ذنوبًا من ماء ". أخرجه أبو داود (1 / 265) وأصله في البخاري (فتح الباري 1 / 323) ومسلم (1 / 236) .
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 43، ومراقي الفلاح 112، 113، وفتح القدير 1 / 132، 133 وجواهر الإكليل 1 / 11، والشرح الكبير 1 / 65، 69 والعدوي على الخرشي 1 / 103، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 191، 192، والمهذب 1 / 66، 69، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 170، 175، والمحلي على المنهاج 1 / 180، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1 / 713، 714.(29/93)
وَأَيْضًا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْمَيِّتِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمُصَلِّي (1) .
وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَذَلِكَ فِي سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اشْتِرَاطِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَل فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلاَ يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ.
__________
(1) مراقي الفلاح 318، 319، فتح القدير 1 / 179، أسهل المدارك 1 / 76، جواهر الإكليل 1 / 68، الشرح الكبير 1 / 201، نهاية المحتاج 3 / 24، القليوبي وعميرة 1 / 334، المهذب 1 / 139، الإقناع 1 / 170، 2 / 67، كشاف القناع 2 / 118، منار السبيل 1 / 71، المغني مع الشرح الكبير 1 / 660، 2 / 350 ط. دار الكتاب العربي.
(2) مراقي الفلاح 260، الاختيار شرح المختار 1 / 43، 74، فتح القدير 1 / 179، 392، والمهذب 1 / 66، 69، 93 منهاج الطالبين 1 / 179، 180، 208، أسهل المدارك 1 / 175، 176، 308، 309، جواهر الإكليل 1 / 37، 38، 71، الشرح الكبير 1 / 200، 201، 307، منار السبيل 1 / 70، 114، نيل المآرب 1 / 120، المغني مع الشرح الكبير 1 / 650، 660.
(3) حديث: " الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 284) والحاكم (2 / 267) من حديث ابن عباس، واللفظ للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.(29/94)
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَالأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (1) .
وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (2) .
تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:
7 - النَّجَاسَاتُ الْعَيْنِيَّةُ لاَ تَطْهُرُ بِحَالٍ، إِذْ أَنَّ ذَاتَهَا نَجِسَةٌ، بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الأَْصْل وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا (3) .
وَالأَْعْيَانُ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَمِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالْمَيْتَةُ، وَالْبَوْل وَالْعَذِرَةُ مِنَ الآْدَمِيِّ (4) .
وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى الْقَوْل بِنَجَاسَةِ
__________
(1) مراقي الفلاح 397، فتح القدير 2 / 244، حاشية الدسوقي 2 / 31، المحلي على المنهاج 2 / 103، كشاف القناع 2 / 485، المغني 3 / 377.
(2) المحلي على المنهاج 1 / 281، البجيرمي علىالخطيب 2 / 179 ط. مصطفى الحلبي 1951م.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 60، وكشاف القناع 1 / 29.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 212، تبيين الحقائق 1 / 71 وما بعدها، الفتاوى الهندية 1 / 46، حاشية الدسوقي 1 / 49، 53، 56 وما بعدها، نهاية المحتاج 1 / 217 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 192، 193.(29/94)
الْخِنْزِيرِ كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَحْمُهُ نَجِسٌ.
وَلِمَعْرِفَةِ مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا أَوْ غَيْرَ نَجِسٍ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَة) .
النِّيَّةُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِشَرْطٍ فِي طَهَارَةِ الْخَبَثِ، وَيَطْهُرُ مَحَل النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ بِلاَ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَلأَِنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى.
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ، فَإِذَا لاَقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ الْمُسْتَعْمِل ذَلِكَ أَوْ لاَ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ (1) .
مَا تَحْصُل بِهِ الطَّهَارَةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُزِيلٌ لِلْخَبَثِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 1 / 21 ط. الأميرية 1315هـ، حاشية الدسوقي 1 / 78، المهذب 1 / 21، كشاف القناع 1 / 86.(29/95)
وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1) وَلِحَدِيثِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَال: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِكُل مَائِعٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ، كَالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا) (3) أَيْ حَكَّتْهُ. وَلأَِنَّهُ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الطَّهَارَةَ كَالْمَاءِ بَل أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ أَقْلَعُ لَهَا، وَلأَِنَّا نُشَاهِدُ وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَائِعَ يُزِيل شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَةِ فِي كُل مَرَّةٍ، وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ الْمَاءِ بِهِ، وَالنَّجَاسَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، لأَِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث أسماء: " جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 331) ومسلم (1 / 240) واللفظ لمسلم.
(3) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 413) .(29/95)
جَوَاهِرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَجْزَاؤُهَا بَقِيَ الْمَحَل طَاهِرًا لِعَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لأَِنَّ نَجَاسَتَهَا لِشِدَّتِهَا الْمُسْكِرَةِ الْحَادِثَةِ لَهَا، وَقَدْ زَال ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ خَلَفَتْهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَطْهُرَ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالتَّغَيُّرِ إِذَا زَال تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ (5) . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَال: أَتَانَا كِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَال: وَأَنَا غُلاَمٌ - قَبْل وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ (6) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 133، تبيين الحقائق 1 / 69، 70، الشرح الكبير 1 / 33، 34، القليوبي وعميرة 1 / 18 كشاف القناع 1 / 25، 181.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 209، حاشية الدسوقي 1 / 52، القليوبي وعميرة 1 / 72 كشاف القناع 1 / 186، 187.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 209، القليوبي وعميرة 1 / 72، 73.
(4) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر ". أخرجه مسلم (1 / 277) من حديث ابن عباس.
(5) حاشية الدسوقي 1 / 54، كشاف القناع 1 / 54.
(6) (6) حديث عبد الله بن حكيم: " أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أحمد (4 / 310) وأخرجه كذلك غيره، وأورده ابن حجر في التلخيص (1 / 47 - 48) وذكر أن فيه اضطرابا في سنده ومنته.(29/96)
وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ: الدَّلْكَ، وَالْفَرْكَ، وَالْمَسْحَ، وَالْيُبْسَ، وَانْقِلاَبَ الْعَيْنِ، فَيَطْهُرُ الْخُفُّ وَالنَّعْل إِذَا تَنَجَّسَ بِذِي جِرْمٍ بِالدَّلْكِ، وَالْمَنِيُّ الْيَابِسُ بِالْفَرْكِ، وَيَطْهُرُ الصَّقِيل كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ بِالْمَسْحِ، وَالأَْرْضُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْيُبْسِ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْحِمَارُ بِانْقِلاَبِ الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَقَعَا فِي الْمَمْلَحَةِ فَصَارَا مِلْحًا (1) .
الْمِيَاهُ الَّتِي يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهَا، وَاَلَّتِي لاَ يَجُوزُ:
10 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّطْهِيرِ بِهِ وَرَفْعُهُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ، إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ:
أ - مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُقَيَّدًا.
وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْخَبَثَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَيُلْحَقُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا تَغَيَّرَ بِطُول مُكْثِهِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ (2) .
ب - مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ، وَخَصَّ كُل مَذْهَبٍ هَذَا الْقِسْمَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمِيَاهِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 206 وما بعدها، تبيين الحقائق 1 / 70 وما بعدها.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، حاشية الدسوقي 1 / 33، 34 القليوبي وعميرة 1 / 18، كشاف القناع 1 / 25.(29/96)
فَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مِثْل الْهِرَّةِ الأَْهْلِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخْلاَةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ، وَكَانَ قَلِيلاً، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الأَْصَحُّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ أَصْلاً.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ حَدَثٍ كَوُضُوءٍ أَوِ اغْتِسَالٍ مَنْدُوبٍ لاَ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل قَلِيلاً كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْمَاءُ الْيَسِيرُ - وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل فَمَا دُونَهَا - إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لاَ تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهُورٍ، كَرَفْعِ حَدَثٍ حُكْمَ خَبَثٍ وَوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ مَنْدُوبٍ، فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا فَلاَ كَرَاهَةَ.(29/97)
وَمِنَ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ سَلاَمَةٌ فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاءُ الْمَكْرُوهُ ثَمَانِيَةٌ: الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ ثَمُودَ إِلاَّ بِئْرُ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ، وَمَاءُ أَرْضِ بَابِل، وَمَاءُ بِئْرِ ذَرْوَانَ.
وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِغَيْرِ مُمَازِجٍ، كَدُهْنٍ وَقَطِرَانٍ وَقِطَعِ كَافُورٍ، أَوْ مَاءٍ سُخِّنَ بِمَغْصُوبٍ أَوْ بِنَجَاسَةٍ، أَوِ الْمَاءُ الَّذِي اشْتَدَّ حَرُّهُ أَوْ بَرْدُهُ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الاِحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ تَعَيَّنَ وَزَالَتِ الْكَرَاهَةُ.
وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَال مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الْمَقْبَرَةِ، وَمَاءٌ فِي بِئْرٍ فِي مَوْضِعِ غَصْبٍ، وَمَا ظُنَّ تَنَجُّسُهُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَم فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ دُونَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ تَشْرِيفًا لَهُ (1) .
ج - مَاءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: مَا أُزِيل بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِل فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، حاشية الدسوقي 1 / 41 وما بعدها إلى 43، نهاية المحتاج 1 / 61، القليوبي وعميرة 1 / 19. كشاف القناع 1 / 27، 2 / 28.(29/97)
الْقُرْبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ الأَْحْدَاثِ، بِخِلاَفِ الْخَبَثِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْجَسَدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِمَحَلٍّ (1) .
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هُوَ: الْمَاءُ الْمُغَيَّرُ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الأَْعْيَانِ الطَّاهِرَةِ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ وَنَفْلِهَا عَلَى الْجَدِيدِ.
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ (2) .
د - مَاءٌ نَجِسٌ، وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ قَلِيلاً، أَوْ كَانَ كَثِيرًا وَغَيَّرَتْهُ، وَهَذَا لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلاَ النَّجِسَ بِالاِتِّفَاقِ (3) .
هـ - مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقِسْمِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَا شَرِبَ مِنْهُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، فتح القدير 1 / 58، 61.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 14، حاشية الدسوقي 1 / 37، 38 نهاية المحتاج 1 / 51 وما بعدها إلى 61، كشاف القناع 1 / 37.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 16، حاشية الدسوقي 1 / 38، نهاية المحتاج 1 / 63 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 38.(29/98)
بَغْلٌ أَوْ حِمَارٌ (1) .
و مَاءٌ مُحَرَّمٌ لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَاءُ آبَارِ دِيَارِ ثَمُودَ - غَيْرِ بِئْرِ النَّاقَةِ - وَالْمَاءُ الْمَغْصُوبُ، وَمَاءٌ ثَمَنُهُ الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه) .
تَطْهِيرُ مَحَل النَّجَاسَةِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَحْصُل بِهِ طَهَارَةُ مَحَل النَّجَاسَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ.
فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَل الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَال عَيْنِهَا وَلَوْ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَلِيظَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْغُسْل، لأَِنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا، فَتَزُول بِزَوَالِهَا.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّهُ يُغْسَل مَرَّتَيْنِ بَعْدَ زَوَال الْعَيْنِ، وَعَنْ فَخْرِ الإِْسْلاَمِ: ثَلاَثًا بَعْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ زَوَال الطَّعْمِ فِي النَّجَاسَةِ، لأَِنَّ بَقَاءَهُ يَدُل عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ النَّجَاسَةِ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ، وَكَذَا الرِّيحُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ زَوَالُهُ.
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 17.
(2) كشاف القناع 1 / 29 - 30.(29/98)
وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ غَسَلَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.
أَمَّا لَوْ غَسَلَهَا فِي إِجَّانَةٍ فَيَطْهُرُ بِالثَّلاَثِ إِذَا عُصِرَ فِي كُل مَرَّةٍ.
وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَل بِغَسْلِهَا ثَلاَثًا وُجُوبًا، وَالْعَصْرُ كُل مَرَّةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، تَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي اسْتِخْرَاجِهَا.
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَيُبَالِغُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّقَاطُرُ، وَالْمُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُل عَاصِرٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَصَرَ غَيْرَهُ قَطَّرَ طَهُرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ قُوَّتَهُ لِرِقَّةِ الثَّوْبِ قِيل: يَطْهُرُ لِلضَّرُورَةِ. وَهُوَ الأَْظْهَرُ، وَقِيل: لاَ يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ قَاضِي خَانْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْتَفَى بِالْعَصْرِ مَرَّةً.
ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْغَسْل وَالْعَصْرِ ثَلاَثًا إِنَّمَا هُوَ إِذَا غَمَسَهُ فِي إِجَّانَةٍ، أَمَّا إِذَا غَمَسَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ حَتَّى جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهُ ثَلاَثًا، فَقَدْ طَهُرَ مُطْلَقًا بِلاَ اشْتِرَاطِ عَصْرٍ وَتَكْرَارِ غَمْسٍ.
وَيُقْصَدُ بِالنَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَهُمْ: مَا يُرَى(29/99)
بَعْدَ الْجَفَافِ، وَغَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ: مَا لاَ يُرَى بَعْدَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ مَحَل النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ، بِشَرْطِ زَوَال طَعْمِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، لأَِنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحَل فَيُشْتَرَطُ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ زَوَال اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ. ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَعَسَّرَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.
فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ الطَّعْمِ، وَمُحَاوَلَةُ إِزَالَةِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ عَسِرَ زَوَال الطَّعْمِ، بِأَنْ لَمْ يَزُل بِحَتٍّ أَوْ قَرْصٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِقُوَّةِ دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا - وَهِيَ مَا لاَ يُدْرَكُ لَهَا عَيْنٌ وَلاَ وَصْفٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَمُ الإِْدْرَاكِ لِخَفَاءِ أَثَرِهَا بِالْجَفَافِ، كَبَوْلٍ جَفَّ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَلاَ أَثَرَ لَهُ وَلاَ رِيحَ، فَذَهَبَ وَصْفُهُ، أَمْ لاَ، لِكَوْنِ الْمَحَل صَقِيلاً لاَ تَثْبُتُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 85، 86، وابن عابدين 1 / 219.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 78 - 80.(29/99)
عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَالْمِرْآةِ وَالسَّيْفِ - فَإِنَّهُ يَكْفِي جَرْيُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفِعْل فَاعِلٍ كَمَطَرٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ مُنَقِّيَةٍ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِل الأَْنْجَاسَ سَبْعًا (2) وَقَدْ أُمِرَ بِهِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِدَلِيل إِلْحَاقِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ بِهِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُغْسَل مَحَل الاِسْتِنْجَاءِ سَبْعًا كَغَيْرِهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِيهِ عَدَدٌ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، لاَ فِي قَوْلِهِ وَلاَ فِعْلِهِ.
وَيَضُرُّ عِنْدَهُمْ بَقَاءُ الطَّعْمِ، لِدَلاَلَتِهِ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ وَلِسُهُولَةِ إِزَالَتِهِ وَيَضُرُّ كَذَلِكَ بَقَاءُ اللَّوْنِ أَوِ الرِّيحِ أَوْ هُمَا مَعًا إِنْ تَيَسَّرَ إِزَالَتُهُمَا، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 241، القليوبي وعميرة 1 / 75.
(2) قول ابن عمر: " أمرنا بغسل الأنجاس. . . " ورد من قوله بلفظ " كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار " أخرجه أبو داود (1 / 171) وذكره ابن قدامة في المغني (1 / 54) وأعله بضعف أحد رواته.
(3) كشاف القناع 1 / 183.(29/100)
وَهَذَا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، أَمَّا نَجَاسَتُهُمَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ قَبْل طَهَارَةِ الْمَغْسُول:
12 - الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَحَدِ أَوْصَافِ النَّجَاسَةِ نَجِسَةٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ (1) . قَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَلَوِ الْمُتَعَسِّرَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْجُسُ الْمَحَل الَّذِي تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهُ كَتَطْهِيرِ أَيِّ مَحَلٍّ مُتَنَجِّسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ الْمَحَل الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغُسْلِهِ سَبْعًا، فَيُغْسَل عِنْدَهُمْ مَا نَجِسَ بِبَعْضِ الْغَسَلاَتِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْغَسْلَةِ، فَلَوْ تَنَجَّسَ بِالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ مَثَلاً غُسِل ثَلاَثَ غَسَلاَتٍ لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْغَسَلاَتِ، فَطَهُرَتْ بِهِ فِي مِثْلِهِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغُسَالَةَ غَيْرَ الْمُتَغَيِّرَةِ طَاهِرَةٌ، قَال الدَّرْدِيرُ: لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةُ بَوْلٍ مَثَلاً
__________
(1) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 174) من حديث أبي أمامة، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 131) وذكر تضعيف أحد رواته.(29/100)
فِي جَسَدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَسَالَتْ غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ فِي سَائِرِهِ وَلَمْ تَنْفَصِل عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْغُسَالَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ إِنْ كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهُمَا فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْمَحَل بَعْدَ الْغَسْل، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ فَنَجِسَةٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ غُسِلَتْ بِالطَّهُورِ نَجَاسَةٌ فَانْفَصَل مُتَغَيِّرًا بِهَا، أَوِ انْفَصَل غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْل زَوَال النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِل مِنَ الْغَسْلَةِ السَّادِسَةِ فَمَا دُونَهَا وَهُوَ يَسِيرٌ فَنَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ مُلاَقٍ لِنَجَاسَةٍ لَمْ يُطَهِّرْهَا.
وَإِنِ انْفَصَل الْقَلِيل غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَال النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِل عَنْ مَحَلٍّ طَهُرَ أَرْضًا كَانَ الْمَحَل أَوْ غَيْرُهَا، فَطَهُورٌ إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرٌ (1) .
تَطْهِيرُ الآْبَارِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُول التَّغَيُّرُ، وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِل إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 17، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 80، الخرشي على خليل 1 / 115، روضة الطالبين 1 / 34، كشاف القناع 1 / 36، 184.(29/101)
طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِل هَذَا الْحَدَّ.
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزَحِ فَقَطْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آبَار ف 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْوُضُوءُ وَالاِغْتِسَال فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ وَالاِغْتِسَال فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ مَكْرُوهٌ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ أَوِ الْمُغْتَسِل، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّهُ يُورِثُ الْوَسْوَسَةَ (2) فَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِل أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 68 ط. الأميرية 1315 هـ. حاشية الدسوقي 1 / 46، أسنى المطالب 1 / 13، 16، كشاف القناع 1 / 40.
(2) ابن عابدين 1 / 240 الثالثة المطبعة الكبرى الأميرية 1323هـ، مراقي الفلاح ص 14، 20، 30، والاختيار شرح المختار 1 / 11 ط. مصطفى الحلبي 1936 م، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 93، 115 دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 16، والشرح الكبير 1 / 100، وروضة الطالبين 1 / 63 المكتب الإسلامي، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 66، والمغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 86، 87، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 41 المكتب الإسلامي.
(3) حديث: " لا يبولن أحدكم في مستحمه. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 33) وأبو داود (1 / 29) من حديث عبد الله بن مغفل، واللفظ لأبي داود، واستغربه الترمذي.(29/101)
تَطْهِيرُ الْجَامِدَاتِ وَالْمَائِعَاتِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَامِدٍ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِرَفْعِ النَّجَاسَةِ وَتَقْوِيرِ مَا حَوْلَهَا وَطَرْحِهِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي طَاهِرًا، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ (1) .
وَإِذَا وَقَعَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ، وَلاَ يَطْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُرَاقُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَقَال: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَلْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي مَاءٍ وَيَغْلِي، فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ، فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَوْسَعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ
__________
(1) حديث ميمونة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة. . . ". أخرج البخاري (فتح الباري 1 / 343) .
(2) حديث أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة. . . " أخرجه أحمد (2 / 265) .(29/102)
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا يَتَأَتَّى تَطْهِيرُهُ بِالْغَلْيِ - كَالزَّيْتِ - يَطْهُرُ بِهِ كَالْجَامِدِ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ: جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ يُخَاضُ فِيهِ، حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَطْهُرُ غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ فِي قَوْل الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِلاَّ الزِّئْبَقَ، فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ. وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ السَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَال: إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ إِلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ (1) .
تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ يَكُونُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَمُكَاثَرَتِهَا حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ.
وَلَوْ زَال التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ، قِيل: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا، وَقِيل: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْرْجَحُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين (1 / 222) ، فتح القدير 1 / 147، الشرح الكبير 1 / 58، 59، المهذب 1 / 56، 57 المغني لابن قدامة 1 / 37.(29/102)
قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّ النَّجَاسَةَ لاَ تُزَال إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلاً، وَحِينَئِذٍ فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.
وَمَحَل الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَال تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيل فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَال تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ زَال أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلاَ يَطْهُرُ، لاِحْتِمَال بَقَاءِ النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (3) وَتَطْهِيرُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِزَوَال التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ زَال التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ: كَأَنْ زَال بِطُول الْمُكْثِ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 18، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 46، 47.
(2) حديث: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 21) والحاكم (1 / 132) من حديث ابن عمر واللفظ للدارقطني، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " لا ينجسه شيء. . . ". تقدم تخريجه ف 12.(29/103)
وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ: كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجِسٌ لاَ وَصْفَ لَهُ فَيُقَدَّرُ مُخَالِفًا أَشَدَّ، كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَل وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُعْرَفُ زَوَال التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَال نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إِلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا لَزَال، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا ذَكَرَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّهُ يَزُول بِهِ الْحِسِّيُّ.
وَلاَ يَطْهُرُ الْمَاءُ إِنْ زَال التَّغَيُّرُ بِمِسْكٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ أَوْ خَلٍّ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَال أَوِ اسْتَتَرَ، وَالظَّاهِرُ الاِسْتِتَارُ، مِثْل ذَلِكَ زَوَال التَّغَيُّرِ بِالتُّرَابِ وَالْجِصِّ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نُزِحَ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ الْكَثِيرُ، وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَنْزُوحِ كَثِيرٌ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ لِزَوَال عِلَّةِ تَنَجُّسِهِ، وَهِيَ التَّغَيُّرُ. وَكَذَا الْمَنْزُوحُ الَّذِي زَال مَعَ نَزْحِهِ التَّغَيُّرُ طَهُورٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلاَ تُغَيَّرُ بِهِ وَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه) .
__________
(1) القليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 21، 22، الروض المربع 1 / 11، 13، كشاف القناع 1 / 41، 42.(29/103)
تَطْهِيرُ الأَْوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَاتِ:
17 - الآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُول اللَّحْمِ مُذَكًّى يَحِل اسْتِعْمَالُهَا.
وَأَمَّا الآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة) ج 1 ف 10 وَمَا بَعْدَهَا.
تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ:
18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً - كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ - فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ الأَْمْرِ بِغَسْل الأَْنْجَاسِ، وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلاً.
قَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْل غَسْلِهِ مَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ، لِمُلاَقَاةِ الْبَلَل لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لاَ بَلَل فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا طَهُرَ ظَاهِرُهَا، وَهَل يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْل أَمْ لاَ يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟ وَجْهَانِ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الاِكْتِفَاءَ بِالْغَسْل، وَهُوَ(29/104)
الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا، إِنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُول أَثَرُ النَّجَاسَةِ، لأَِنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُول بِالْمَسْحِ.
قَال الْكَمَال: وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ.
فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيل صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلاً، وَكَانَ يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْل كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، خَوْفًا مِنْ إِفْسَادِ الْغَسْل لَهُ.
قَال الدَّرْدِيرُ: وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لاَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، أَيْ خِلاَفًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فَهَذَا التَّعْلِيل يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنَ الدَّمِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 30، كشاف القناع 1 / 184، 185.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 206، فتح القدير 1 / 137، الاختيار 1 / 32 ط. مصطفى الحلبي 1936م.(29/104)
الْمُبَاحِ إِلاَّ إِذَا مُسِحَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ وَالْجَسَدَ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْل، وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إِذَا مُسِحَ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا، أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْل مِنْهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: قَال الْعَدَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، فَيَدْخُل فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ الأَْكْل إِذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ: الْمُبَاحُ أَصَالَةً، فَلاَ يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْل مُرْتَدٍّ بِهِ، وَقَتْل زَانٍ أَحْصَنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ.
كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولاً لاَ خَرْبَشَةَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلاَ عَفْوَ (1) .
تَطْهِيرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْمَنِيِّ
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَل الْمَنِيِّ يَكُونُ بِغَسْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكِهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 77، جواهر الإكليل 1 / 12.(29/105)
قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ الْتِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي طَهَارَةِ مَحَلِّهِ بِفَرْكِهِ يَابِسًا وَغَسْلِهِ طَرِيًّا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُل وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحُتُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي (2) ، وَلاَ خَفَاءَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لاَ تَحْتَلِمُ، فَيَلْزَمُ اخْتِلاَطُ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ بِهِ، فَيَدُل عَلَى طَهَارَةِ مَنِيِّهَا بِالْفَرْكِ بِالأَْثَرِ، لاَ بِالإِْلْحَاقِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَل الْمَنِيِّ يَكُونُ بِالْغَسْل لاَ غَيْرُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَنِيّ) .
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 125) وأصله في مسلم (1 / 239 - 240) .
(2) حديث عائشة: " أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى. . . ". أخرجه ابن خزيمة (1 / 147) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 207، 208 فتح القدير 1 / 136، 137، الخرشي على خليل مع حاشية العدوي 1 / 62، 92، القوانين الفقهية 48، 49 ط. دار العلم للملايين 1979 م، الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 123 ط. محمد صبيح، روضة الطالبين 1 / 17، كشاف القناع 1 / 194، 195، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 735، 737 ط. المنار بمصر - الطبعة الثانية.(29/105)
طَهَارَةُ الأَْرْضِ بِالْمَاءِ:
20 - إِذَا تَنَجَّسَتْ الأَْرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ - كَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا - فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَل عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.
بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل وَلاَ الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَ رَجُلاً فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ (1) . وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ لأَِنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْل، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْل وَإِنْ أَصَابَ الأَْرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُول فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلاَ فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الآْدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.
وَلاَ تَطْهُرُ الأَْرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ
__________
(1) حديث أنس قال: " جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 324) . واللفظ الثاني لمسلم (1 / 237) .(29/106)
النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلأَِنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يَزُول لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لأَِنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ، فَيَطْهُرُ وَجْهُ الأَْرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3) .
مَا تَطْهُرُ بِهِ الأَْرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ إِذَا أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 737، 738، 739 ط. دار الكتاب العربي من دار الريان للتراث، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56، روضة الطالبين 1 / 29 المكتب الإسلامي، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34 دار الفكر، جواهر الإكليل 1 / 5 - 6، الشرح الكبير1 / 33 - 34.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 32 - 33 ط. مصطفى الحلبي 1936م.
(3) حديث: " أيما أرض جفت فقد ذكت ". أورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 211) بلفظ: " ذكاة الأرض يبسها " وقال: غريب، يعني أنه لا أصل له مرفوعا، ثم ذكر أن ابن أبي شيبة أخرجه بهذا اللفظ موقوفًا على أبي جعفر محمد بن علي.(29/106)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لأَِمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْل الأَْعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ (1) وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلأَِنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْل (2) .
طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالاِسْتِحَالَةِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالاِسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ هَل يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) حديث: " أهريقوا عليه ذنوبًا من ماء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 525) من حديث أبي هريرة.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد المسالك للكشناوي 1 / 34 ط. دار الفكر، جواهر الإكليل 1 / 5، والشرح الكبير 1 / 33، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 739 - 740، ط. دار الكتاب العربي، منار السبيل في شرح الدليل 1 / 51، نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 99، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56 - 57 وينظر مصطلح (إحراق) فـ 5.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 209، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 52، نهاية المحتاج 1 / 230، كشاف القناع 1 / 187.(29/107)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالاِسْتِحَالَةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْل الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا (1) لأَِكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ طَهُرَتْ بِالاِسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَلاَ يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْل مُطْلَقًا، وَلاَ بِالاِسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِل مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.
لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً، فَإِذَا زَال ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ (3) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها ". أخرجه الترمذي (4 / 270) من حديث ابن عمر، وقال: حديث حسن غريب.
(2) نهاية المحتاج 1 / 230.
(3) كشاف القناع 1 / 186 - 187.(29/107)
الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُل؟ .
وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ بِالنَّارِ، أَوْ زَال أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.
كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلاَبِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِل الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى بِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّل الْحَقِيقَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلاَبُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُل فِيهِ كُل مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلاَبٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.(29/108)
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَال الإِْسْكَارِ مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلاً قَوِيًّا أَوْ لاَ، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ قَبْل غَسْل الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلاَةِ (1) .
مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْل الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج 20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:
24 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْ أَسْفَل الْخُفِّ أَوِ النَّعْل نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلاَ يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 210، 217، 218، حاشية الدسوقي 1 / 52، 57.(29/108)
دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْل الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل فِيهِمَا (1) .
قَال الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ شُرُوطٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ، أَمَّا الْبَوْل وَنَحْوُهُ فَلاَ يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَال الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ رَطْبًا فَلاَ يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُول النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ. الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْل قَطْعًا.
وَنَقَل الْبُهُوتِيُّ عَنِ الإِْنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْقَوْل بِنَجَاسَتِهِ (2) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 427) والحاكم (1 / 260) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) المجموع 1 / 598، كشاف القناع 1 / 189، الإنصاف 1 / 323.(29/109)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالأَْرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لاَ جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْل لاَ يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ الْغَسْل، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ الْبَوْل وَالْخَمْرَ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ الْغُسْل كَالثَّوْبِ.
وَلأَِبِي يُوسُفَ إِطْلاَقُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الأَْرْضِ، وَلْيُصَل فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ. وَلأَِبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ. إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالأَْرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلاَ يُطَهِّرُهُ بِخِلاَفِ الْيَابِسِ؛ لأَِنَّ الْخُفَّ لاَ يَتَدَاخَلُهُ إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلاَ كَذَلِكَ الْبَوْل وَالْخَمْرُ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْل مَا عَلَى الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ، وَبِخِلاَفِ الثَّوْبِ لأَِنَّهُ مُتَخَلَّلٌ
__________
(1) حديث: " إذا أصاب خف أحدكم أو نعله. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 267 - 268) من حديث أبي هريرة بلفظ: " إذا وطئ أحدكم نعله الأذى فإن التراب طهوره " ثم أخرجه برواية أخرى فيها: " بخفيه " وصحح إسناده النووي كما في نصب الراية (1 / 207 - 208) .(29/109)
فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، فَلاَ تَزُول بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْل.
وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.
قَال الْكَمَال: وَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ (1) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ، وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ الْغُسْل سِوَى الْحُكْمِ.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ النَّعْل بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا - كَالطُّرُقِ - لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ نَقْلاً عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلاَمِ ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 31، 33 ط. مصطفى الحلبي 1936م، فتح القدير والعناية 1 / 136.(29/110)
بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْل مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لاَ تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ دَلْكًا.
وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْل شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلاَبِ أَوْ فَضْلَةِ الآْدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.
قَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ (1) .
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلاَبِسِ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ:
25 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ ذَيْل ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَدَنِ، وَلاَ يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الأَْرْضِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْل ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ الإِْصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الذَّيْل يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 75.
(2) المجموع 1 / 598، روضة الطالبين 1 / 31، كشاف القناع 1 / 189.(29/110)
لِلسَّتْرِ، لاَ لِلزِّينَةِ وَالْخُيَلاَءِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لاَ تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لاَبِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لاَبِسَةً لَهُمَا فَلاَ عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيِّهَا أَمْ لاَ.
ب - وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْل الثَّوْبِ مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.
ج - وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا (1) .
التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ وَبَوْل الْجَارِيَةِ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ وَبَوْل الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلاَ أَوْ لاَ، يَكُونُ بِغَسْلِهِ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 74، 75، الخرشي على خليل 1 / 110.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 31، التاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 108.
(3) حديث: " استنزهوا من البول ". أخرجه الدارقطني (1 / 128) من حديث أبي هريرة ثم قال: الصواب مرسل.(29/111)
الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ بِلاَ سَيَلاَنٍ، فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ، فَبَال عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ (1) أَمَّا بَوْل الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلاَ يُجْزِئُ فِي تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْل، لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ يُنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ، وَيُغْسَل بَوْل الْجَارِيَةِ (2) ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الاِئْتِلاَفَ بِحَمْل الصَّبِيِّ يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا، فَلاَ يَلْصَقُ بِالْمَحَل كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.
قَال أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ وَاشْتَهَاهُ غُسِل بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لأَِنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَل، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْل (3) (ر: أُنُوثَة ف 16) .
__________
(1) حديث أم قيس بنت محصن: " أنها أتت بابن لها صغير. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 326) ومسلم (4 / 1734) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " ينضح بول الغلام. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 510) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) الاقناع للشربيني الخطيب 1 / 125، منهاج الطالبين 1 / 74، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56، روضة الطالبين 1 / 31 ط. المكتب الإسلامي ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 50 - 51 المكتب الإسلامي، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 297 - 298.(29/111)
تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:
27 - الأَْصْل فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الآْنِيَةِ.
وَفِي هَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلاَثًا بِحَيْثُ لاَ تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلاَ أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَل؛ لأَِنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَل؛ لأَِنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّل بِالْخَل.
وَفِي الْخُلاَصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَل فِيهِ الْمَاءُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كُل مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَطْهُرُ أَبَدًا (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا زَال أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 145.
(2) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 233) من حديث أبي هريرة.(29/112)
فَنُدِبَ إِلَى الثَّلاَثِ لِلشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ وَيَجُوزُ الاِقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْل مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالْغَسْل الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلاَنِ، قَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ: تُغْسَل وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلاَ تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ (2) . وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ، وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ (3) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الإِْنَاءِ خَمْرٌ يَتَشَرَّبُهَا الإِْنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِل فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْل؛ لأَِنَّ الْغَسْل لاَ يَسْتَأْصِل أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الإِْنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ. كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَل بِالنَّجَاسَةِ، قَال أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْل؛ لأَِنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُول النَّجَاسَةِ إِلَى: جِسْمِ الإِْنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلاَ يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56.
(2) المواق 1 / 113.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 66 - 67 دار الفكر، الشرح الكبير 1 / 60 والقوانين الفقهية ص 37.(29/112)
فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ (1) .
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلاَبِسِهِمْ:
28 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ لأَِنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ (2) .
وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَل ذَلِكَ: وَلاَ يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (3) لأَِنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلاَ يُكْرَهُ مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيل الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لاِسْتِحْلاَلِهِمُ الْخَمْرَ، وَلاَ يَتَّقُونَهَا كَمَا لاَ يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلاَبِسِ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح 50، 291 ط. دار الكتاب العربي.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 421) من حديث عثمان بن أبي العاص، وأشار المنذري إلى أعلاه بالانقطاع بين عثمان بن أبي العاص والراوي عنه، وهو الحسن البصري.
(3) سورة التوبة / 28.(29/113)
عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ بِالْغَسْل أَوْ غَيْرِهِ (1) .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَال أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْل الْكِتَابِ، وَنَأْكُل فِي آنِيَتِهِمْ فَقَال: لاَ تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لاَ تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا (2) . وَلأَِنَّهُمْ لاَ يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ.
فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لاَ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ (3) وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ، وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لأَِنَّ الأَْصْل فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 75، والعناية بهامشه بذات الصفحة، الاختيار 1 / 17، ابن عابدين 1 / 244.
(2) حديث أبي ثعلبة الخشني: " قلت: يا رسول الله أنا بأرض أهل الكتاب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 922) ومسلم (3 / 1532) واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة ". مستنبط من حديث عمران بن حصين، أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 447 - 448) ومسلم (1 / 474 - 476) .(29/113)
الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَال أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لاَ يُصَلُّونَ وَلاَ يَسْتَنْجُونَ وَلاَ يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنَ الأَْطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَال تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْل بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِمَلاَبِسِهِمْ، فَإِنَّ الأَْصْل فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لاَ يُصَلَّى فِي مَلاَبِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا، فَحُمِل عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الاِسْتِعْمَال مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ - أَهْل الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ - فَأَمَّا أَهْل الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْل طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَال آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 19 - 20، الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 36.
(2) الشرح الكبير 1 / 61، جواهر الإكليل 1 / 10.(29/114)
تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَال أَوَانِيهِمْ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَال فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لاَ أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. قَال: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَسِّمًا (2) .
وَرَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ (3) ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْل الْكِتَابِ - وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الأَْوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ - وَمَنْ يَأْكُل لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُل الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْل الذِّمَّةِ عَمَلاً بِالأَْصْل، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْل الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) حديث عبد الله بن مغفل: " أصبت جرابا من شحم يوم خيبر " أخرجه مسلم (3 / 1393) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي. . . ". أخرجه أحمد (3 / 270) بلفظ: " أن يهوديًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه ".(29/114)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ (1) وَلأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ، فَلاَ تَزُول بِالشَّكِّ.
وَقَال الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لاَ يُسْتَعْمَل مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلأَِنَّ أَوَانِيَهُمْ لاَ تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَال فِي الْمَجُوسِ: لاَ يُؤْكَل مِنْ طَعَامِهِمْ إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الإِْنَاءِ هَل اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لاَ؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الأَْصْل طَهَارَتُهُ (2) .
تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَل حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيل: يُغْسَل بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُول طَعْمُ النَّجِسِ، وَمَتَى زَال طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ
__________
(1) تقدم تخريجه في نفس الفقرة.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 61، 62، والشرح الكبير مع المغني 1 / 68، 69.
(3) مراقي الفلاح ص / 47، فتح القدير 1 / 145.(29/115)
بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَل حَتَّى يَنْفَصِل النَّجِسُ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْل عَلَى وَزْنِهِ قَبْل الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِل عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ (3) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّمِ: وَلاَ يَضُرُّكَ أَثَرُهُ (4) .
رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:
30 - الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا (5) .
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 60.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 33، القليوبي على شرح المنهاج 1 / 75.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح1 / 70 ط. دار الكتاب العربي.
(4) حديث: " ولا يضرك أثره. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 257) من حديث أبي هريرة.
(5) الشرح الكبير 1 / 75، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 63 ط. دار الفكر، وفتح القدير 1 / 139، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 60، 740 ط. دار الكتاب العربي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 55.(29/115)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد ج 23، ف 3) .
تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَل يَطْهُرُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا أَبِي يُوسُفَ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَل خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُل نَجِسٌ لاَ يَطْهُرُ أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلاَثًا لاَ يُؤْخَذُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَال طَبْخِهِ قَبْل نُضْجِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِل مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.
وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُل إِقَامَةُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ:(29/116)
أَحَدُهُمَا: يُغْسَل ثُمَّ يُعْصَرُ كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ. وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الاِكْتِفَاءَ بِالْغُسْل (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، هَل يَطْهُرُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ لاَ يَطْهُرُ.
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، وَاَلَّذِي لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَل قَبْل حُلُول الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِل قَلِيلاً، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْل الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ ثَلاَثًا، وَيُجَفَّفَ كُل مَرَّةٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْل مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 223، حاشية الدسوقي 1 / 59، روضة الطالبين 1 / 30، المجموع 2 / 600، كشاف القناع 1 / 188.(29/116)
وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَال أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلاَثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لاَ تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَل، وَتُرِكَ حَتَّى صَارَ الْكُل خَلًّا (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِل عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَل وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّل، وَمَحَل عَدَمِ الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ (3) .
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ بِنَجِسٍ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 221، حاشية الدسوقي 1 / 60، كشاف القناع 1 / 188.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 223، كشاف القناع 1 / 188.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 59، 60.(29/117)
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ أَمْ لاَ.
وَقَال الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ - كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ - أَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لاَ يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَل عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَنْجُسُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ - كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ - نَجِسٌ، وَلاَ طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ - وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ. أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِل الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ غَسْلُهُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 60.
(2) روضة الطالبين 1 / 29، 30.
(3) كشاف القناع 1 / 188.(29/117)
طُهْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّهْرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ (1) وَالتَّطَهُّرُ: الاِغْتِسَال، يُقَال: تَطَهَّرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ، وَجَمْعُ الطُّهْرِ: أَطْهَارٌ. وَفِي الشَّرْعِ: زَمَانُ نَقَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْءُ:
2 - الْقُرْءُ فِي اللُّغَةِ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا - يَقَعُ عَلَى، الطُّهْرِ وَعَلَى الْحَيْضِ (3) .
الْحَيْضُ:
3 - الْحَيْضُ فِي اللُّغَةِ السَّيَلاَنُ، تَقُول
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب، مادة: (طهر) .
(2) القوانين الفقهية ص 45.
(3) المصباح المنير والمغرب، مادة (حيض) ، حاشية ابن عابدين 1 / 188، مواهب الجليل 4 / 146، والبدائع 3 / 193، مغني المحتاج 3 / 385، وروضة الطالبين 8 / 366، والمغني لابن قدامة 7 / 452.(29/118)
الْعَرَبُ: حَاضَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا سَال صَمْغُهَا، وَحَاضَ الْوَادِي إِذَا سَال مَاؤُهُ، وَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا خَرَجَ دَمُهَا مِنْ رَحِمِهَا.
وَشَرْعًا: هُوَ دَمٌ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ بُلُوغِهَا عَلَى سَبِيل الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ (1) .
وَالْحَيْضَةُ الْمَرَّةُ، وَهِيَ الدَّفْعَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ دَفَعَاتِ دَمِ الْحَيْضِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الطُّهْرِ فِي أَبْوَابِ الْحَيْضِ وَالطَّلاَقِ وَالْعِدَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَمَا يَلِي:
الطُّهْرُ فِي بَابِ الْحَيْضِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ، فَقَدْ لاَ تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي عُمْرِهَا إِلاَّ مَرَّةً، وَقَدْ لاَ تَحِيضُ أَصْلاً، فَحِينَئِذٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ أَبَدًا، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ.
قَالُوا: وَإِنَّ غَالِبَ الطُّهْرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا بِلَيَالِيهَا؛ لأَِنَّ غَالِبَ الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَوْ سَبْعَةٍ، وَبَاقِي الشَّهْرِ وَهُوَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ يَكُونُ غَالِبَ الطُّهْرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ،
__________
(1) المصباح المنير والمغرب في ترتيب المعرب مادة " حيض " حاشية ابن عابدين 1 / 188، ومغني المحتاج 1 / 108.(29/118)
فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا (1) . إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَقَل الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ (2) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا) .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الطُّهْرِ أَوِ النَّقَاءِ الَّذِي يَحْدُثُ أَثْنَاءَ فَتْرَةِ الْحَيْضِ، كَأَنْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً، أَوْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمَيْنِ نَقَاءً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ (3) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيق ف 4 - 9) .
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، أَوِ النِّفَاسِ الَّذِي يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَنْ تَغْتَسِل بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لأَِكْثَرِ
__________
(1) حديث حمنة بنت جحش: " إنما هي ركضة من الشيطان ". أخرجه الترمذي (1 / 223 - 224) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 189، القوانين الفقهية ص45، المجموع للنووي 2 / 380، مغني المحتاج 1 / 109، المغني لابن قدامة 1 / 310، كشاف القناع 1 / 203، أحكام القرآن للجصاص 1 / 406، تفسير القرطبي 3 / 83.
(3) المجموع للنووي 2 / 387، 501، 502، المغني لابن قدامة 1 / 310، حاشية ابن عابدين 1 / 189، 192، الجامع لأحكام القرآن القرطبي 3 / 82.(29/119)
الْحَيْضِ جَازَ لِزَوْجِهَا الْوَطْءُ قَبْل الْغُسْل، وَإِنِ انْقَطَعَ لأَِقَل مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَغْتَسِل، أَوْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلاَةِ فَتَتَيَمَّمَ لَهَا (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف 44) .
الطُّهْرُ فِي بَابِ الطَّلاَقِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ - وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ - فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَإِنَّ طَلاَقَهُ يَكُونُ سُنِّيًّا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ: أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، لأَِنَّ فِيهِ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلأَِنَّهَا قَدْ تَحْمِل مِنْ ذَلِكَ الْجِمَاعِ فَيَحْصُل النَّدَمُ مِنْهُ (2) ، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) الآْيَةَ.
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 370، تفسير القطبي 3 / 88، مغني المحتاج 1 / 110، كشاف القناع 1 / 199، أحكان القرآن للجصاص 1 / 411.
(2) البدائع 3 / 89، 94، القوانين الفقهية ص 227، مغني المحتاج 3 / 307، روضة الطالبين 8 / 3، المغني لابن قدامة 7 / 98.
(3) سورة الطلاق / 1.(29/119)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (طَلاَق، وَحَيْض ف 45) .
الطُّهْرُ فِي الْعِدَّةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (1) بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ هِيَ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ هِيَ: الأَْطْهَارُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ هِيَ الْحَيْضُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قُرْء) .
طُهُورٌ
اُنْظُرْ: طَهَارَة
__________
(1) سورة البقرة / 228.(29/120)
طَوَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّوَافُ لُغَةً: الدَّوَرَانُ حَوْل الشَّيْءِ، يُقَال: طَافَ حَوْل الْكَعْبَةِ وَبِهَا يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَفَانًا بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْمَطَافُ: مَوْضِعُ الطَّوَافِ.
وَتَطَوَّفَ وَطَوَّفَ: بِمَعْنَى طَافَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) أَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ، قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطَّوَافُ: هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْل الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّعْيُ:
2 - السَّعْيُ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ، وَأَيْضًا الْقَصْدُ
__________
(1) سورة البقرة: الآية: 158.
(2) مادة (طوف) في القاموس المحيط وشرحه تاج العروس، ومختار الصحاح، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي، والمفردات في غريب القرآن.(29/120)
إِلَى الشَّيْءِ، وَالْعَدْوُ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الأَْعْمَال (1) .
وَاصْطِلاَحًا: الْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى السَّعْيِ الطَّوَافُ، وَالتَّطَوُّفُ، كَمَا سَبَقَ فِي الآْيَةِ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
أَنْوَاعُ الطَّوَافِ:
3 - يَتَنَوَّعُ الطَّوَافُ بِحَسَبِ سَبَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ:
طَوَافُ الْقُدُومِ، طَوَافُ الزِّيَارَةِ، طَوَافُ الْوَدَاعِ، طَوَافُ الْعُمْرَةِ، طَوَافُ النَّذْرِ، طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ. كَذَا عَدَّهَا الْحَنَفِيَّةُ (2) وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَعَدَّهَا الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةً: طَوَافُ الْقُدُومِ، طَوَافُ الرُّكْنِ، طَوَافُ الْوَدَاعِ، طَوَافُ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي الْفَوَاتِ، طَوَافُ النَّذْرِ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ (3) .
وَقَوْلُهُمْ " طَوَافُ الرُّكْنِ ": يَشْمَل طَوَافَ رُكْنِ الْحَجِّ وَرُكْنِ الْعُمْرَةِ، وَقَوْلُهُمْ: " طَوَافُ التَّطَوُّعِ " يَشْمَل تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، أَيِ الْمَسْجِدِ
__________
(1) مادة (س. ع. ى) في المصادر السابقة.
(2) لباب المناسك للسندي وشرحه للقاري " المسلك المتقسط شرح المنسك المتوسط " مطبعة مصطفى محمد ص 96 - 97.
(3) نهاية المحتاج للزملي طبع بولاق 2 / 405، ومغني المحتاج للشربيني تصوير بيروت 1 / 485.(29/121)
الْحَرَامِ، لاِعْتِبَارِ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِالصَّلاَةِ تَنُوبُ عَنِ الطَّوَافِ.
وَاخْتَصَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ بِطَوَافِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي الْفَوَاتِ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ عِنْدَهُمْ (1) ، وَيَتَحَلَّل بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حَتَّى لَوْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهُ السَّعْيُ، وَلاَ يَنْقَلِبُ عَمَلُهُ هَذَا إِلَى عُمْرَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَلِكُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ أَحْكَامُهُ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَوَّلاً: طَوَافُ الْقُدُومِ:
4 - وَيُسَمَّى طَوَافَ الْقَادِمِ، وَطَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَأَوَّل عَهْدٍ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ، الْمُحْرِمِ
__________
(1) الهداية بشرحها فتح القدير (طبع بولاق) 2 / 303، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 2 / 200 - 201، وحاشية الدسوقي 2 / 30 وما بعدها، والمغني (مطبعة النار - الثالثة) 3 / 527 - 528.
(2) نهاية المحتاج 2 / 480، ومغني المحتاج 1 / 537.(29/121)
مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي جَوَازِ دُخُول الْحَرَمِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ قَصَدَهُ لِحَاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ. وَلَمْ يُجِزْ غَيْرُهُمْ دُخُول الْحَرَمِ إِلاَّ بِنُسُكٍ: يُحْرِمُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، لِذَلِكَ كَانَ طَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْمُعْتَمِرَ يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَدَلِيل الْوُجُوبِ، وَكَيْفِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَوَقْتِهِ، وَمَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ: تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 88 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: طَوَافُ الإِْفَاضَةِ:
5 - طَوَافُ الإِْفَاضَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، لاَ يَتَحَلَّل الْحَاجُّ بِدُونِهِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ، وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَيُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَأْتِي مِنًى يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ، وَيَأْتِي مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ، وَالرُّكْنِ؛ لأَِنَّهُ فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ.
وَفِي فَرْضِيَّةِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَعَدَدِ أَشْوَاطِهِ، وَشُرُوطِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا(29/122)
يُسَنُّ فِيهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِهِ أَوْ تَرْكِهِ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ مِنْ ف 52 إِلَى 55 وَف 124) .
ثَالِثًا: طَوَافُ الْوَدَاعِ:
6 - وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ، وَطَوَافَ آخِرِ الْعَهْدِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، بِأَنَّهُ جَازَ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ، وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ. وَفِي شُرُوطِ وُجُوبِهِ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ وَوَقْتِهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 70 إِلَى 74) .
رَابِعًا: طَوَافُ الْعُمْرَةِ:
7 - وَهُوَ رُكْنٌ فِيهَا، وَأَوَّل وَقْتِهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَلاَ آخِرَ لَهُ.
__________
(1) حديث: ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 585) ، ومسلم (2 / 963) .(29/122)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عُمْرَة) .
خَامِسًا: طَوَافُ النَّذْرِ:
8 - وَهُوَ وَاجِبٌ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ لِلطَّوَافِ وَقْتًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَذْر) .
سَادِسًا: طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
9 - وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُل مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ، كَالْمُعْتَمِرِ، فَإِنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَ فَرْضِ الْعُمْرَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، كَمَا ارْتَفَعَ بِهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ طَوَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ تَحِيَّةَ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ هِيَ الطَّوَافُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَانِعٌ فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ (1) .
سَابِعًا: طَوَافُ التَّطَوُّعِ:
10 - وَمِنْهُ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَزَمَنُهُ - كَمَا سَبَقَ - عِنْدَ الدُّخُول، أَمَّا طَوَافُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ، فَلاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَيَجُوزُ فِي أَوْقَاتِ كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ وَيَكُونَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ.
__________
(1) شرح اللباب ص 97.(29/123)
وَيَصِحُّ مِنْ كُل مُسْلِمٍ عَاقِلٍ مُمَيِّزٍ - وَلَوْ مِنَ الصِّغَارِ - إِذَا كَانَ طَاهِرًا.
وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَكَذَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَالتَّحِيَّةِ، أَيْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ لُزُومِ إِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِالشُّرُوعِ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُرُوع ف 5) .
أَحْكَامُ الطَّوَافِ الْعَامَّةِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الطَّوَافِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا رُكْنًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ شَرْطًا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: حُصُول الطَّائِفِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الأَْشْوَاطِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى كُل طَائِفٍ أَنْ يَطُوفَ حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الأَْشْوَاطِ سَوَاءٌ كَانَ حُصُولُهُ هَذَا بِفِعْل نَفْسِهِ، أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ، بِأَنْ حَمَلَهُ الْغَيْرُ وَطَافَ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ شَخْصًا أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّوَافِ أَوْ حَمَلَهُ الآْخَرُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا كَافٍ فِي أَدَاءِ فَرْضِ الطَّوَافِ، وَسُقُوطِهِ عَنِ الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ
__________
(1) المرجع السابق 98.(29/123)
هُوَ حُصُول الطَّوَافِ حَوْل الْبَيْتِ، وَقَدْ حَصَل.
ثَانِيًا: عَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
12 - لاَ خِلاَفَ أَنَّ عَدَدَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ الْمَطْلُوبَةِ سَبْعَةٌ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي رُكْنِيَّةِ السَّبْعَةِ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لاَ يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ أَقَل مِنْهَا.
وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّبْعَةَ إِلَى رُكْنٍ وَوَاجِبٍ.
أَمَّا الْعَدَدُ الرُّكْنُ فَأَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ الأَْقَل الْبَاقِي بَعْدَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) فَإِنَّ الآْيَةَ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ، لأَِنَّهُ عَبَّرَ بِصِيغَةِ التَّفْعِيل، وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا الْقَدْرَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ امْتِثَال قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا} وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ، فَتَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، أَيِ التَّعْلِيمِ مِنَ الشَّارِعِ، وَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ سَبْعًا، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، كَمَا
__________
(1) سورة الحج 29.(29/124)
قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. (1) .
فَالْفَرْضُ طَوَافُ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ وَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
(1) قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ عَنْ أَيِّ قَيْدٍ، وَالأَْمْرُ الْمُطْلَقُ يُوجِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى شَوْطٍ مِنَ الطَّوَافِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَالدَّلِيل قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ أَكْثَرِ السَّبْعِ، وَهُوَ الإِْجْمَاعُ، فَتَكُونُ فَرْضًا، وَلاَ إِجْمَاعَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْبَاقِي، فَلاَ يَكُونُ فَرْضًا بَل وَاجِبًا.
(2) أَنَّ الطَّائِفَ قَدْ أَتَى بِأَكْثَرِ السَّبْعِ، وَالأَْكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل، فَكَأَنَّهُ أَدَّى الْكُل (3) .
وَقَال كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَقَل مِنْ سَبْعٍ، وَلاَ يَجْبُرُ بَعْضَهُ بِشَيْءٍ (4) .
الشَّكُّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ:
13 - لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ طَوَافِهِ وَهُوَ فِي
__________
(1) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) ، والبيهقي (5 / 125) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للبيهقي.
(2) نهاية المحتاج 2 / 409.
(3) بدائع الصنائع 2 / 132، والدر المختار وحاشيته 2 / 250.
(4) فتح القدير 2 / 247.(29/124)
الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الأَْقَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ (1) وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَمَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلاَةِ (2) .
وَأَجْرَى الْمَالِكِيَّةُ (3) ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْكِحِ، فَقَالُوا: يَبْنِي الشَّاكُّ غَيْرُ " الْمُسْتَنْكِحِ (4) عَلَى الأَْقَل، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ الشَّامِل لِلْوَهْمِ، أَمَّا الشَّاكُّ الْمُسْتَنْكِحُ فَيَبْنِي عَلَى الأَْكْثَرِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الشَّكِّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ بَيْنَ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ: أَمَّا طَوَافُ الْفَرْضِ كَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَاجِبِ كَالْوَدَاعِ فَقَالُوا: لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ فِيهِ أَعَادَهُ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، وَلَعَل الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَثْرَةُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَنُدْرَةِ الطَّوَافِ.
أَمَّا غَيْرُ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَهُوَ النَّفَل فَإِنَّهُ إِذَا شَكَّ فِيهِ يَتَحَرَّى، وَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَيَبْنِي عَلَى الأَْقَل الْمُتَيَقَّنِ فِي
__________
(1) المغني 3 / 378، وانظر المجموع 8 / 25.
(2) انظر المرجعين السابقين، ونهاية المحتاج 2 / 409، ومغني المحتاج 1 / 486 - 487.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشيته للدسوقي 2 / 33.
(4) المراد بالمستنكح في مصطلح المالكية هو من يأتيه الشك في كل يوم ولو مرة.(29/125)
أَصْلِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ فِي الطَّوَافِ، وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ عِبَارَاتِهِمْ فِي الشَّكِّ.
وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَدِ طَوَافِهِ أُخِذَ بِهِ إِنْ كَانَ عَدْلاً عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَعَهُ فِي الطَّوَافِ، وَلَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مُخَالِفٍ لِمَا فِي ظَنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا فِيمَا فِيهِ الاِحْتِيَاطُ فَيُكَذِّبُ نَفْسَهُ، لاِحْتِمَال نِسْيَانِهِ وَيُصَدِّقُهُ؛ لأَِنَّهُ عَدْلٌ لاَ غَرَضَ لَهُ فِي خَبَرِهِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ وَجَبَ الْعَمَل بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَشُكَّ؛ لأَِنَّ عِلْمَيْنِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ وَاحِدٍ، وَلأَِنَّ إِخْبَارَهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِنْكَارِهِ فِي فِعْلِهِ أَوْ إِقْرَارِهِ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ لَهُ الأَْخْذَ بِقَوْل الْعَدْل الْمُخَالِفِ لِعِلْمِهِ، خِلاَفًا لِلصَّلاَةِ.
ثَالِثًا: النِّيَّةُ:
14 - مُجَرَّدُ إِرَادَةِ الدَّوَرَانِ حَوْل الْكَعْبَةِ لاَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 113، ورد المحتار 2 / 230.
(2) المغني 3 / 378، ومغني المحتاج 1 / 486 - 487.(29/125)
لِقَصْدِ شَيْءٍ آخَرَ يَكْفِي فِي هَذَا الشَّرْطِ، دُونَ تَعْيِينِهِ لِلْفَرْضِ أَوِ الْوُجُوبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَلاَ تَعْيِينُ كَوْنِهِ لِلإِْفَاضَةِ أَوْ لِلصَّدَرِ أَوْ لِلْقُدُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1) فِي الرَّاجِحِ.
وَمَنْ قَامَ بِعَمَل الطَّوَافِ لِطَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ فِرَارًا مِنْ ظَالِمٍ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَعَ عَمَلِهِ هَذَا الطَّوَافَ (2) وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الإِْحْرَامِ كَافِيَةٌ عَنْ نِيَّةِ الطَّوَافِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ طَافَ طَوَافًا فِي وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَ الشَّارِعُ وُقُوعَهُ فِيهِ وَقَعَ عَنْهُ، نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لاَ، أَوْ نَوَى طَوَافًا آخَرَ، فَلَوْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا وَطَافَ بِأَيِّ نِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ نِيَّاتِ الطَّوَافِ كَأَنْ نَوَاهُ تَطَوُّعًا يَقَعُ طَوَافُهُ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ قَدِمَ حَاجًّا وَطَافَ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ نِيَّةَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ يَنْدَرِجُ فِيهَا الْوُقُوفُ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتُطْلَبُ النِّيَّةُ مِنَ الْمَارِّ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ شَرْطٌ إِنِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 99.
(2) المرجع السابق، وبدائع الصنائع للكاساني (طبع شركة المطبوعات العلمية) 2 / 128 وحاشية الهيثمي على الإيضاح ص 252، والفروع لابن مفلح الحنبلي (طبع عالم الكتب) 3 / 501، ومغني المحتاج (دار إحياء التراث - بيروت) 1 / 487، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (طبع عيسى الحلبي) 2 / 37.(29/126)
اسْتَقَل بِأَنْ لَمْ يَشْمَلْهُ نُسُكٌ، كَالطَّوَافِ الْمَنْذُورِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهِ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّل، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، بِخِلاَفِ الطَّوَافِ الَّذِي يَشْمَلُهُ نُسُكٌ وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ وَطَوَافِ الْقُدُومِ فَلاَ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نِيَّةٍ فِي الأَْصَحِّ، لِشُمُول نِيَّةِ النُّسُكِ لَهُ، وَقَالُوا: مَا لَمْ يَصْرِفِ الطَّوَافَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ مِنْ طَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بُدَّ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ مِنَ النِّيَّةِ لِحَدِيثِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ اتِّفَاقًا، وَفِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ يُعَيِّنُ فِي نِيَّتِهِ هَذَا الطَّوَافَ (3) .
طَوَافُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ:
15 - لَوْ طَافَ بِالْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ مَحْمُولاً،
__________
(1) البدائع 2 / 128 - 129، وشرح اللباب ص 98 و99، والدسوقي 2 / 37، والمهذب مع المجموع 8 / 16 و 18 و 21، والإيضاح ص 251 - 253، ونهاية المحتاج 2 / 409 و 414 و 416، ومغني المحتاج 1 / 487 و 292، والمغني 3 / 441 و 443 (مطبعة المنار - الثالثة) ، والفروع 3 / 499 - 501.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) المغني 3 / 441، وكشاف القناع 2 / 485، 505.(29/126)
أَجْزَأَ ذَلِكَ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُول، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِفِعْل هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ طَوَافُهُمَا بِأَنْ كَانَ لِعُمْرَتِهِمَا، أَوْ لِزِيَارَتِهِمَا، وَنَحْوِهِمَا، أَوِ اخْتَلَفَ طَوَافُهُمَا، فَيَكُونُ طَوَافُ الْحَامِل عَمَّا أَوْجَبَهُ إِحْرَامُهُ، وَطَوَافُ الْمَحْمُول كَذَلِكَ (1) .
وَانْظُرِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 137 - 143) .
طَوَافُ النَّائِمِ وَالْمَرِيضِ:
16 - لَوْ طَافَ أَحَدٌ بِمَرِيضٍ وَهُوَ نَائِمٌ مِنْ غَيْرِ إِغْمَاءٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ عَلَى فَوْرِهِ أَيْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً يَجُوزُ، وَإِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالطَّوَافِ بِهِ أَوْ فَعَلُوا لَكِنْ لاَ عَلَى فَوْرِهِ فَلاَ يُجْزِيهِ الطَّوَافُ. فَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ فَاكْتَفُوا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِعَقْدِ الرُّفْقَةِ، وَفِي الْمَرِيضِ النَّائِمِ اعْتَبَرُوا الأَْمْرَ الصَّرِيحَ لِقِيَامِ نِيَّتِهِمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 100.(29/127)
حَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّعُورِ مِنْ حَال الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يُفِيقَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَ الطَّوَافِ الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ (1) .
رَابِعًا: وُقُوعُ الطَّوَافِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ:
17 - مَكَانُ الطَّوَافِ هُوَ حَوْل الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ دَاخِل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) .
فَلَوْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَمِنْبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالأَْعْمِدَةِ، أَوْ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ قَدْ حَصَل حَوْل الْبَيْتِ، مَا دَامَ ضِمْنَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ وَسِعَ الْمَسْجِدُ، وَمَهْمَا تَوَسَّعَ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْحِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الطَّوَافُ بِسَقَائِفِ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ مَحَلٌّ كَانَ بِهِ قِبَابٌ مَعْقُودَةٌ، وَمِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ وَقُبَّةِ الشَّرَابِ حِذَاءُ زَمْزَمَ، وَلاَ يَضُرُّ حَيْلُولَةُ الأُْسْطُوَانَاتِ وَزَمْزَمُ وَالْقُبَّةُ بَيْنَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 100 - 101.
(2) سورة الحج الآية: 29.
(3) المسلك المتقسط ص 101، والدر المختار وحاشيته 2 / 230، ومغني المحتاج 1 / 487، ونهاية المحتاج 2 / 409، والمغني 3 / 375، والفروع 3 / 500.(29/127)
الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ بِسَبَبِ زَحْمَةٍ انْتَهَتْ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الزِّحَامَ يُصَيِّرُ الْجَمِيعَ مُتَّصِلاً بِالْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَحْمَةٌ بَل طَافَ تَحْتَ السَّقَائِفِ اعْتِبَاطًا، أَوْ لِحَرٍّ، أَوْ لِبَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ أَعَادَ وُجُوبًا مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْجِعْ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الرُّجُوعُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ كَالزَّحْمَةِ، كَمَا قَرَّرَ الدُّسُوقِيُّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَ فِي السَّقَائِفِ لِزَحْمَةٍ ثُمَّ قَبْل كَمَالِهِ زَالَتْ الزَّحْمَةُ وَجَبَ إِكْمَالُهُ فِي الْمَحَل الْمُعْتَادِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، فَلَوْ كَمُل الْبَاقِي فِي السَّقَائِفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعِيدُ ذَلِكَ الَّذِي كَمَّلَهُ فِي السَّقَائِفِ (1) .
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ كُلِّهِ:
18 - وَذَلِكَ يَشْمَل الشَّاذَرْوَانَ، وَهُوَ الْجُزْءُ السُّفْلِيُّ الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ مِنَ الْكَعْبَةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ؟ فَقَال جَمَاعَةٌ: هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ النَّفَقَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 33.
(2) الحطاب 3 / 70 - 71.(29/128)
سَادِسًا: أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ دَاخِلاً فِي طَوَافِهِ:
19 - الْحِجْرُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - هُوَ الْمَوْضِعُ الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ مُقَوَّسٍ تَحْتَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فِي الْجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَيُسَمَّى الْحَطِيمَ أَيْضًا.
وَالْحِجْرُ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْبَيْتِ، تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ النَّفَقَةِ، وَأَحَاطَتْهُ بِالْجِدَارِ، وَقِيل: الَّذِي مِنْهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، فَالنَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ إِلَى طَوَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ مَا قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَلاَ تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَال: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ فَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ (2) وَعَنْهَا
__________
(1) المجموع 8 / 28، 29.
(2) حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم ترى أن قومك لما بنوا الكعبة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 439) ومسلم (2 / 969) .(29/128)
قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَدْرِ (1) أَمِنْ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَال: نَعَمْ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إِلَى أَنَّ الطَّوَافَ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ فَرْضٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِطَوَافِهِ، حَتَّى لَوْ مَشَى عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي الطَّوَافِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، فَيُلْتَحَقُ بِهِ، فَيَكُونُ فَرْضًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: دُخُول الْحِجْرِ فِي الطَّوَافِ وَاجِبٌ لأَِنَّ كَوْنَهُ جُزْءًا مِنَ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ عِنْدَهُمْ لاَ الْفَرْضُ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ خَلْفَ الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ.
__________
(1) الجدر: هو الحجر.
(2) حديث عائشة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 439) ومسلم (2 / 973) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 131 و133 و 134، والمسلك المتقسط ص 104، ورد المحتار 2 / 219، وشرح المنهاج 2 / 105، ومغني المحتاج 1 / 486، ومواهب الجليل 3 / 71 - 75 وحاشية العدوي 1 / 466، والشرح الكبير 2 / 31، المغني 3 / 382 والفروع 3 / 499.(29/129)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بِغَيْرِ إِعَادَةٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ يُرْسِلُهُ إِلَى مَكَّةَ، وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِعَادَةُ كُل الطَّوَافِ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ.
أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الإِْعَادَةِ: فَيُجْزِيهِ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ يَمِينِهِ خَارِجَ الْحِجْرِ مُبْتَدِئًا مِنْ أَوَّل أَجْزَاءِ الْفُرْجَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ احْتِيَاطًا، وَيَطُوفَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَدْخُل الْحِجْرَ مِنَ الْفُرْجَةِ الَّتِي وَصَل إِلَيْهَا وَيَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، أَوْ لاَ يَدْخُل الْحِجْرَ، بَل يَرْجِعُ وَيَبْتَدِئُ مِنْ أَوَّل الْحِجْرِ (1) .
سَابِعًا: ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالشَّوْطِ الَّذِي بَدَأَهُ بَعْدَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوهَا دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا بَيَانٌ لإِِجْمَال الْقُرْآنِ.
وَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ مُحَاذَاةُ الْبَيْتِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 104 وقارن بفتح القدير 2 / 151.(29/129)
وَجَبَتْ مُحَاذَاتُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، كَالاِسْتِقْبَال فِي الصَّلاَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبَيْنِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَاجِبٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيل الْوُجُوبِ، لاَ سِيَّمَا وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (2) فَيَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ الْبِدَايَةِ مِنْهُ فِي طَوَافِ الرُّكْنِ (3) .
قَال الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْقَارِئُ (4) : وَلَوْ قِيل: إِنَّهُ وَاجِبٌ لاَ يَبْعُدُ، لأَِنَّ الْمُوَاظَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَرَّةٍ دَلِيلُهُ، فَيَأْثَمُ بِهِ وَيُجْزِيهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الآْيَةِ إِجْمَالٌ لَكَانَ شَرْطًا كَمَا قَال مُحَمَّدٌ، لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الاِبْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّطَوُّفِ فَرْضًا، وَافْتِتَاحُهُ - أَيْ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ - وَاجِبًا لِلْمُوَاظَبَةِ. . . وَهُوَ الأَْشْبَهُ وَالأَْعْدَل، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَوَّل.
ثَامِنًا: التَّيَامُنُ:
21 - التَّيَامُنُ: سَيْرُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ
__________
(1) المهذب 8 / 33، ونهاية المحتاج 2 / 407 وحاشية العدوي 1 / 466، وشرح الفاسي على الرسالة 1 / 352، والمغني 3 / 371 - 372، والفروع 3 / 497.
(2) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) من حديث جابر بلفظ " لتأخذوا مناسككم ".
(3) تنوير الأبصار والشرح والحاشية 2 / 203، وشرح الزرقاني 2 / 262، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 30 - 31، ومواهب الجليل 3 / 64 - 65.
(4) المسلك المتقسط ص 98.(29/130)
الْكَعْبَةِ، وَجَعْل يَسَارِهِ لِجَانِبِ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَرَّرُوا أَنَّ الطَّوَافَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل الْبَيْتَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَسَارِهِ (1) ، وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَيَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلاَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّيَامُنُ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ، وَالطَّوَافُ عَلَى عَكْسِهِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَتَجِبُ إِعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ هَيْئَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالطَّوَافِ، فَلاَ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَجَعَلُوا الآْيَةَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} دَلِيلاً عَلَى إِجْزَاءِ الطَّوَافِ وَصِحَّتِهِ عَلَى أَيِّ هَيْئَةٍ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ مُطْلَقٌ، فَيَتَأَدَّى الرُّكْنُ بِدُونِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَحَمَلُوا فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ (2) .
تَاسِعًا: الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ:
22 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى:
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطواف على يساره ". أخرجه مسلم (2 / 893) من حديث جابر بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا.
(2) البدائع 2 / 130 - 131 والمسلك المتقسط ص 104 وحاشية العدوي 1 / 466، والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 407، ومغني المحتاج 1 / 485.(29/130)
أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَمِنَ الأَْنْجَاسِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، فَإِذَا طَافَ فَاقِدًا أَحَدَهَا فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَمِنَ الْخَبَثِ وَاجِبٌ لِلطَّوَافِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ فَأَقِلُّوا مِنَ الْكَلاَمِ (1) .
وَإِذَا كَانَ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ تَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنَ الأَْحْدَاثِ، فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ الأَْمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيِّدْهُ الشَّارِعُ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا نَصٌّ قَطْعِيٌّ، وَالْحَدِيثُ خَبَرُ آحَادٍ وَيُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَلاَ يُقَيِّدُ نَصَّ الْقُرْآنِ، لأَِنَّهُ دُونَ رُتْبَتِهِ، فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَمِلْنَا بِهِ (2) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " الطواف بالبيت صلاة ". أخرجه النسائي (5 / 222) وصححه ابن حجر في التلخيص (1 / 130) .
(2) البدائع 2 / 129، والمسلك المتقسط ص 103، و108 وحاشية العدوي 1 / 456 - 466 والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 405، 406، ومغني المحتاج 1 / 485، وحاشية اليجوري 1 / 532، والمغني 3 / 377، د والفروع 3 / 502.(29/131)
وَعَلَى ذَلِكَ: فَمَنْ طَافَ مُحْدِثًا فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَوْدُ لأَِدَائِهِ إِنْ كَانَ طَوَافًا وَاجِبًا، وَلاَ تَحِل لَهُ النِّسَاءُ إِنْ كَانَ طَوَافَ إِفَاضَةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ تَجِبُ إِعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ.
وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ يَذْهَبُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُتَمِّمُ الأَْشْوَاطَ وَلاَ يُعِيدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى الأَْشْوَاطِ السَّابِقَةِ (1) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ فِي أَشْوَاطِ الطَّوَافِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَمْدًا فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لَهُ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَبْتَدِئُ أَيْضًا، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي، قَال حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ طَافَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ، يَتَوَضَّأُ فَإِنْ شَاءَ بَنَى، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ، قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَبْنِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا إِلاَّ الْوُضُوءَ، فَإِنْ عَمِل عَمَلاً
__________
(1) شرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466، لكن جزم خليل وأقره في الشرح الكبير 2 / 32 أنه يبنى إن رعف بعد غسل الدم بشرط ألا يتعد موضعا قريبا، كالصلاة وألا يبعد المكان جدا، وأن لا يطأ نجاسة، ونهاية المحتاج 3 / 271.(29/131)
غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَقْبَل الطَّوَافَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ الْعُذْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهَذَا مَعْذُورٌ، فَجَازَ الْبِنَاءُ، وَإِنِ اشْتَغَل بِغَيْرِ الْوُضُوءِ فَقَدْ تَرَكَ الْمُوَالاَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَزِمَهُ الاِبْتِدَاءُ إِذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، فَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَلاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ كَالصَّلاَةِ الْمَسْنُونَةِ إِذَا بَطَلَتْ (1) .
عَاشِرًا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ:
23 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّوَافَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَالصَّلاَةِ يَجِبُ فِيهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ (2) ، وَلِحَدِيثِ لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (3) .
فَمَنْ أَخَل بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الإِْخْلاَل الْمُفْسِدَ لِلصَّلاَةِ بِحَسَبِ الْمَذَاهِبِ، فَسَدَ طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ الدَّمُ (4) .
حَادِيَ عَشَرَ: مُوَالاَةُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
24 - اشْتِرَاطُ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ
__________
(1) المغني 3 / 396.
(2) حديث: " الطواف بالبيت صلاة " تقدم تخريجه فـ / 22.
(3) حديث: " لا يطوف بالبيت عريان ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 483) ومسلم (2 / 982) من حديث أبي هريرة.
(4) المراجع الفقهية السابقة.(29/132)
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ لِلاِتِّبَاعِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَى فِي طَوَافِهِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُوَالاَةَ وَاجِبَةٌ. وَدَلِيل شَرْطِ الْمُوَالاَةِ وَوُجُوبِهَا حَدِيثُ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ (1) فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالاَةُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَدَلِيل السُّنِّيَّةِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
ثَانِيَ عَشَرَ: الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي أَيِّ طَوَافٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا الطَّوَافُ غَيْرُ الْوَاجِبِ فَالْمَشْيُ فِيهِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ (3) .
فَلَوْ طَافَ رَاكِبًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ الْمَشْيِ، إِلاَّ إِذَا أَعَادَهُ مَاشِيًا، أَمَّا عِنْدَ
__________
(1) حديث: الطواف بالبيت تقدم تخريجه فـ / 22.
(2) الشرح الكبير 2 / 320 وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466 - 467، والمغني 3 / 395، والفروع 3 / 502، والمسلك المتقسط ص 108، ومغني المحتاج 1 / 492، وابن عابدين 2 / 168 - 169.
(3) البدائع 2 / 128، وحاشية العدوي 1 / 468، والشرح الكبير 2 / 40، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 105، والمغني 3 / 397، والإنصاف 4 / 19، نهاية المحتاج 3 / 275.(29/132)
الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ فَيَجُوزُ طَوَافُهُ بِلاَ كَرَاهِيَةٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْمَشْيِ وَطَافَ مَحْمُولاً فَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا وَلاَ إِثْمَ.
ثَالِثَ عَشَرَ: فِعْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ:
26 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ فَإِذَا خَرَجَ لَزِمَهُ دَمٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ. وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجّ ف 55) .
رَابِعَ عَشَرَ - رَكْعَتَا الطَّوَافِ بَعْدَ كُل سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ كُل طَوَافٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الطَّوَافِ الرُّكْنِ، أَوِ الْوَاجِبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .
__________
(1) الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 154، وحاشية العدوي 1 / 467، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 41 - 42، وشرح المنهاج 2 / 109، ومغني المحتاج 1 / 492، والمغني 3 / 384، والفروع 3 / 503.(29/133)
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَجَعَل الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُول - وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) .
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ امْتِثَالٌ لِهَذَا الأَْمْرِ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ ظَنِّيٌّ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْوُجُوبَ الَّذِي هُوَ دُونَ الْفَرْضِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ سُنَّةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ بِتَحْدِيدِ الصَّلاَةِ الْمُفْتَرَضَةِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَلاَةُ الطَّوَافِ - كَمَا قَال الشِّيرَازِيُّ - صَلاَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ عَلَى الأَْعْيَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا صَلَّى
__________
(1) حديث جابر " أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى مقام إبراهيم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 888) .
(2) مغني المحتاج جـ1 / 492 القليوبي وعميرة جـ 2 / 109، المهذب مع المجموع جـ 8 / 56، المغني جـ 3 / 384.(29/133)
الْمَكْتُوبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ.
سُنَنُ الطَّوَافِ:
أ - الاِضْطِبَاعُ:
28 - هُوَ أَنْ يَجْعَل وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى وَتَبْقَى كَتِفُهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّبُعِ وَهُوَ عَضُدُ الإِْنْسَانِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مُضْطَبِعًا (1) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى (2) .
__________
(1) حديث يعلى بن أمية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا ". أخرجه الترمذي (3 / 205) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ". أخرجه أبو داود (2 / 444) وصحح إسناده النووي في المجموع (8 / 19) .(29/134)
وَيُسَنُّ الاِضْطِبَاعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ كَطَوَافِ الْقُدُومِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ، وَطَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ إِلَيْهِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ طَوَافَ النَّفْل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ مَنْ لَمْ يُعَجِّل السَّعْيَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُضْطَبَعُ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَالاِضْطِبَاعُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ تَرَكَ الاِضْطِبَاعَ، حَتَّى أَنَّهُ تُكْرَهُ صَلاَةُ الطَّوَافِ مُضْطَبِعًا كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
(ر: اضْطِبَاع ف 4) .
ب - الرَّمَل:
29 - الرَّمَل هُوَ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهَزِّ الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ.
وَالرَّمَل سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِب. فَقَال الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقَوْا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 222 - 225 والقليوبي 2 / 108، وكشاف القناع 2 / 477 - 478، والمغني 3 / 372، والمنتقي للباجي 2 / 28.(29/134)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَال الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلاَءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا (1) .
لَكِنَّ الرَّمَل ظَل سُنَّةً فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى بِتَمَامِهَا، فَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ، وَكَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُول النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَرَمَل ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا (2) .
وَسَارَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ الرَّمَل كَالاِضْطِبَاعِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال، أَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يُسَنُّ لَهُنَّ رَمَلٌ وَلاَ اضْطِبَاعٌ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ سُنِّيَّةِ الرَّمَل أَهْل مَكَّةِ وَمَنْ أَحْرَمَ مِنْهَا أَيْضًا، فَلاَ يُسَنُّ لَهُمُ الرَّمَل عِنْدَهُمْ.
ج - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
30 - يُسَنُّ أَنْ يُبْدَأَ الطَّوَافُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل
__________
(1) حديث ابن عباس: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهنتهم حمى يثرب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 469 - 470) ومسلم 470 (2 / 923) واللفظ لمسلم.
(2) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا ومشى أربعا ". أخرجه مسلم (2 / 887) .(29/135)
الْحَجَرَ مُهَلِّلاً رَافِعًا يَدَيْهِ، وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، وَهُوَ وَاجِبٌ.
لَكِنَّ الْمُرُورَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لَيْسَ وَاجِبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِذَلِكَ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ، فَلَوْ اسْتَقْبَل الْحَجَرَ مُطْلَقًا وَنَوَى الطَّوَافَ كَفَى فِي حُصُول الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الاِبْتِدَاءُ مِنَ الْحَجَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
قَال الْحَطَّابُ: يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ الْيُسْرَى مُحَاذِيَةً لِيَمِينِ الْحَجَرِ ثُمَّ يُقَبِّلُهُ وَيَمْشِي عَلَى جِهَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى.
د - اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ:
31 - اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ مُقَابَلَةَ الْحَجَرِ، نَصَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْحَنَفِيَّةُ.
هـ - اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ:
32 - اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَفِي كُل شَوْطٍ، وَبَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا السُّنِّيَّةَ بِأَوَّل الطَّوَافِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِي بَاقِيهِ، وَاسْتَحَبَّ(29/135)
الْحَنَفِيَّةُ تَقْبِيل الْحَجَرِ.
وَصِفَةُ الاِسْتِلاَمِ: أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْحَجَرِ، وَيَضَعُ فَمَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُقَبِّلُهُ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّل الْحَجَرَ وَقَال: إِنِّي لأََعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (1) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوْفَةٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (2) .
و اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
33 - اسْتِلاَمُهُ يَكُونُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْوَاقِعُ قِبَل رُكْنِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر أن عمر قبل الحجر. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 471) ومسلم (2 / 925) واللفظ لمسلم.
(2) حديث ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني. أخرجه أبو داود (2 / 440 - 441) والنسائي (5 / 231) وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود (2 / 375) : " في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وفيه مقال ".
(3) حديث ابن عمر: ما تركت استلام هذين الركنين. أخرجه مسلم (2 / 924) .(29/136)
وَالسُّنِّيَّةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ فِي الشَّوْطِ الأَْوَّل مَنْدُوبٌ فِي غَيْرِهِ، وَقَال الشَّيْخَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: هُوَ مَنْدُوبٌ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّلُهُ وَلاَ يَسْجُدُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلاَ يُشِيرُ إِلَيْهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إِلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ.
أَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فَلاَ يُسَنُّ اسْتِلاَمُهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلاَ يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ (1) . وَقَدْ أَبْدَى الْعُلَمَاءُ لِذَلِكَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ سَبَبًا وَضَّحَهُ الرَّمْلِيُّ فَقَال: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْرْكَانِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ: أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ فِيهِ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى
__________
(1) حديث ابن عمر: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 473) ومسلم (2 / 924) .(29/136)
قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ (1) .
ز - الدُّعَاءُ:
34 - وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِي أَوَّل الطَّوَافِ، وَفِي كُل طَوْفَةٍ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ وَهُوَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} (2) وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي بَقِيَّةِ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِنْهُ:
الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ:
35 - اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا
__________
(1) انظر سنن الطواف في الهداية وشرحها 2 / 148 و 150 - 153، والمسلك المتقسط ص 108 ورد المحتار 2 / 227 و 229 - 232، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 466 - 468، والشرح الكبير 2 / 40 - 41 وشرح المنهاج 2 / 104، 106 - 108، ونهاية المحتاج 2 / 407 - 415، ومغني المحتاج 1 / 487 - 493 والمغني 3 / 370 - 384، والفروع 3 / 495 - 504.
(2) حديث: " بسم الله والله أكبر. . . الخ ". أورده ابن حجر في التلخيص (2 / 247) وقال: " لم أجده هكذا " ثم عزاه مختصرا دون لفظة: " ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك " إلى الأم للشافعي وهو فيه (2 / 170) من حديث ابن جريج قال: أنبئت أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(29/137)
وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (1) . " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ ". (2)
دُعَاءُ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ وَاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ أَوِ الْمُرُورِ بِهِ:
36 - بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ (3) .
وَالْمَعْنَى: أَطُوفُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَطُوفُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ.
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى:
37 - اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَمَا أَمَتَّ (4) .
__________
(1) دعاء: اللهم زد هذا البيت تشريفا. . . أخرجه الشافعي في المسند (1 / 339 - ترتيبه) عن ابن جريج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت قال: الحديث به، وأعله ابن حجر بالإعضال كذا في الفتوحات الربانية لابن علان (4 / 370) .
(2) دعاء: اللهم أنت السلام ومنك السلام. ورد موقوفًا على سعيد بن المسيب، أخرجه عنه الشافعي في المسند (1 / 338) .
(3) حديث: بسم الله الله أكبر. . . سبق تخريجه فـ 34.
(4) حديث: اللهم اجعله حجًا مبرورًا. . . قال ابن حجر في التلخيص (2 / 250) لم أجده واستحبه الشافعي وأسنده عنه البيهقي في السند (5 / 84) .(29/137)
وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي عُمْرَةً دَعَا فَقَال: اجْعَلْهَا عُمْرَةً مَبْرُورَةً، وَإِنْ كَانَ طَوَافًا نَفْلاً دَعَا: اجْعَلْهُ طَوَافًا مَبْرُورًا أَيْ مَقْبُولاً وَسَعْيًا مَشْكُورًا (وَسَعْيُ الرَّجُل عَمَلُهُ) كَمَا قَال تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (1) .
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الأَْرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ:
38 - اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ، وَأَنْتَ الأَْعَزُّ الأَْكْرَمُ (2) .
الدُّعَاءُ عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
39 - " بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَالذُّل، وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (3) .
الدُّعَاءُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
40 - رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (4) .
__________
(1) سورة النجم آية: 39.
(2) دعاء: اللهم اغفر وارحم. . . استحبه الشافعي، أسنده عنه البيهقي في السنن (5 / 84) .
(3) دعاء الركن اليماني: بسم الله، والله أكبر، والسلام على رسول الله. ورد عن علي بن أبي طالب، أخرجه عنه الأزرقي في أخبار مكة (1 / 242) .
(4) الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة. ورد مرفوعا من حديث عبد الله بن السائب، أخرجه عنه أبو داود (2 / 448 - 449) والحاكم (1 / 455) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(29/138)
رَبِّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَى كُل غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ (1) .
الدُّعَاءُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ:
41 - اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلاَنِيَتِي فَاقْبَل مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي، وَتَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُنِي إِلاَّ مَا كَتَبْتَ لِي، وَرِضًا بِمَا قَسَمْتَ (2) .
دُعَاءٌ لِعَامَّةِ الطَّوَافِ:
42 - اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطَايَايَ، وَعَمْدِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، إِنَّكَ إِنْ لاَ تَغْفِرْ لِي تُهْلِكْنِي (3) .
اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ،
__________
(1) دعاء: رب قنعني بما رزقتني. أخرجه الحاكم (1 / 455) من حديث ابن عباس مرفوعا، واستغربه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (4 / 382) .
(2) دعاء: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي. ورد من حديث دعاء آدم لما أهبطه الله إلى الأرض، أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10 / 183) وقال: (فيه النضر بن طاهر وهو ضعيف) .
(3) دعاء: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي. ورد في حديث عبد الأعلى التيمي مرسلا، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3 / 453) وأشار البيهقي إلى إرساله.(29/138)
وَنَوَاصِينَا بِيَدِكَ، وَتَقَلُّبُنَا فِي قَبْضَتِكَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا، وَإِنْ تَغْفِرْ لَنَا فَبِرَحْمَتِكَ، فَرَضْتَ حَجَّكَ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَعَلْتَ لَنَا مِنَ السَّبِيل، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ (1) .
دُعَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
43 - اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَشِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ (2) .
ح - الْقُرْبُ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ:
44 - الْقُرْبُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْبَيْتِ لِلرِّجَال وَالْبُعْدُ لِلنِّسَاءِ، وَعَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ سُنَّةً.
فَلَوْ فَاتَ الرَّمَل بِمُرَاعَاةِ الْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ فَالرَّمَل مَعَ الْبُعْدِ أَوْلَى، إِلاَّ إِذَا كَانَ الزِّحَامُ شَدِيدًا أَوْ خَافَ صَدْمَ النِّسَاءِ لَوْ بَعُدَ عَنِ الْبَيْتِ، فَالْقُرْبُ حِينَئِذٍ مَعَ تَرْكِ الرَّمَل أَوْلَى (3) .
ط - حِفْظُ الْبَصَرِ عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ:
45 - عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَحْفَظَ بَصَرَهُ، عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ عَنِ الطَّوَافِ: لأَِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ،
__________
(1) دعاء: اللهم البيت بيتك. . . أورده المتقي الهندي في كنز العمال (5 / 172 - 173) عزاه للديلمي وقال: (فيه عبد السلام بن الجنوب متروك) .
(2) دعاء: اللهم إني أسألك علما نافعًا. . . أخرجه الحاكم (1 / 473) من حديث ابن عباس موقوفًا عليه، وأشار الذهبي إلى تضعيف أحد رواته في الميزان (3 / 508) .
(3) مغني المحتاج 1 / 490 - 491.(29/139)
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيهِ التَّفَرُّغُ لأَِدَائِهِ.
ى - الإِْسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ:
46 - الإِْسْرَارُ بِالأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ (1) مَطْلُوبٌ فِي الطَّوَافِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِيعٌ، حَتَّى لاَ يُؤْذِيَ غَيْرَهُ إِنْ جَهَرَ.
ك - الْتِزَامُ الْمُلْتَزَمَ:
47 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّائِفُ الْمُلْتَزَمَ وَهُوَ الْجِدَارُ الَّذِي بَيْنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَبَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، اقْتِدَاءً بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتِزَامُهُ أَنْ يُلْصِقَ صَدْرَهُ وَخَدَّهُ الأَْيْمَنَ، وَيَدَاهُ وَكَفَّاهُ مَبْسُوطَتَانِ قَائِمَتَانِ، وَهُوَ مُتَذَلِّلٌ مُسْتَجِيرٌ بِرَبِّ الْبَيْتِ، وَالْمُلْتَزَمُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَيَدْعُو بِالْمَأْثُورِ مِنَ الدُّعَاءِ إِنْ حَفِظَهُ وَإِلاَّ فَبِمَا تَيَسَّرَ (2) .
ل - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
48 - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) لباب المناسك ص 110، وانظر رد المحتار 2 / 227، والشرح الكبير 2 / 41، والمغني 3 / 354.
(2) شرح ابن عابدين 1 / 170 - 187، وروضة الطالبين 3 / 118، كشاف القناع 2 / 513.(29/139)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مَأْثُورُ الدُّعَاءِ أَفْضَل مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِ مَأْثُورِهِ (2) .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الأَْفْضَل، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي الطَّوَافِ قِرَاءَةُ قُرْآنٍ، بَل الذِّكْرُ، وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ مِنَ السَّلَفِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى (3) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الدُّعَاءِ بِالْمَأْثُورِ فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلِيَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ الْمَأْثُورِ فِي الطَّوَافِ، بِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرٍ، وَالْقُرْآنُ أَفْضَل الذِّكْرِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْل كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْل اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ (5) .
مُبَاحَاتُ الطَّوَافِ:
49 - أ - الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
__________
(1) شرح اللباب ص 111 - 112، ورد المحتار 2 / 231، والمغني 3 / 378، والخرشي 2 / 326.
(2) مغني المحتاج 1 / 489.
(3) رد المحتار الموضع السابق.
(4) مغني المحتاج الموضع السابق.
(5) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 184) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال (حسن غريب) .(29/140)
صَرَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ الْكَلاَمِ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الأَْفْضَل أَلاَّ يَتَكَلَّمَ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ صَلاَةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلاَمَ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلاَ يَتَكَلَّمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ (2) .
ب - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ لاَ يَكُونُ مَشْغُولاً بِالذِّكْرِ (3) .
ج - الإِْفْتَاءُ وَالاِسْتِفْتَاءُ، وَنَحْوُهُ مِنْ تَعْلِيمِ جَاهِلٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ (4) .
د - الْخُرُوجُ مِنَ الطَّوَافِ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ.
هـ - الشُّرْبُ، لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ بِالْمُوَالاَةِ لِقِلَّةِ زَمَانِهِ، بِخِلاَفِ الأَْكْل (5) .
و لُبْسُ نَعْلٍ أَوْ خُفٍّ إِذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ.
مُحَرَّمَاتُ الطَّوَافِ:
50 - أ - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ، وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ لاَ يَتَحَلَّل التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ إِلاَّ بِالْعَوْدِ وَأَدَائِهِ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، أَوْ وَاجِبًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 131 وشرح اللباب ص 110 ونحوه في المغني لابن قدامة 3 / 378، انظر المجموع 8 / 52.
(2) حديث: الطواف صلاة. سبق فـ 22.
(3) شرح اللباب ص 111.
(4) المرجع السابق والمجموع 8 / 53.
(5) شرح الدر 2 / 231.(29/140)
ب - تَرْكُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ، وَحُكْمُهُ: أَنَّ الطَّوَافَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجِبُ أَنْ يُعِيدَهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا، أَوْ وَاجِبًا.
فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَلاَ إِشْكَال، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ مَكَّةَ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ وَإِعَادَتِهِ، كَمَا فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ.
ج - تَرْكُ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَسَبَ اصْطِلاَحِهِمْ، وَيَلْزَمُهُ الإِْثْمُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ (1) .
مَكْرُوهَاتُ الطَّوَافِ:
51 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أُمُورٍ تُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ، مِنْهَا:
أ - رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ بِمَا يُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ.
ب - الْكَلاَمُ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقِلُّوا الْكَلاَمَ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ فِي صَلاَةٍ.
ج - إِنْشَادُ شِعْرٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ.
د - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ، حَسْبَمَا هُوَ
__________
(1) المسلك المتقسط في المنسك المتوسط شرح لباب المناسك ص 112، مغني المحتاج 1 / 458، الخرشي 2 / 314.(29/141)
مُقَرَّرٌ فِي كُل مَذْهَبٍ، كَتَرْكِ الرَّمَل فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَكَتَرْكِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ.
هـ - الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ طَوَافٍ كَامِلٍ مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ بَعْدَ كُل طَوَافٍ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ الصَّلاَةُ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ فَيُؤَخِّرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
و الطَّوَافُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطَ، أَوْ وَهُوَ شَدِيدُ التَّوَقَانِ إِلَى الأَْكْل، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنِ الْحُضُورِ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ.
ز - الأَْكْل فِي الطَّوَافِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الشُّرْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَرَاهَةُ الشُّرْبِ أَخَفُّ عِنْدَهُمْ، قَال الشَّافِعِيُّ: لاَ بَأْسَ بِشُرْبِ الْمَاءِ فِي الطَّوَافِ وَلاَ أَكْرَهُهُ، بِمَعْنَى الْمَأْثَمِ، لَكِنِّي أُحِبُّ تَرْكَهُ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ أَحْسَنُ فِي الأَْدَبِ وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الإِْمْلاَءِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ شَرِبَ وَهُوَ يَطُوفُ (1) .
ح - وَضْعُ الطَّائِفِ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ مِثْل دَفْعِ التَّثَاؤُبِ.
ط - تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ أَوْ فَرْقَعَتُهَا، كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ (2) .
__________
(1) المجموع 8 / 53.
(2) شرح اللباب ص 112، المجموع 8 / 53.(29/141)
كَيْفِيَّةُ الطَّوَافِ:
52 - إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ الطَّوَافَ فَيَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ بِتَطْهِيرِ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَيَغْتَسِل إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَيَتَوَضَّأُ وَيَضْبِطُ ثِيَابَ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْمَنَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَزِحَامِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَدَاءَ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ مِثْل طَوَافِ الْقُدُومِ فِي حَال تَقْدِيمِ السَّعْيِ إِلَيْهِ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِذَا لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ عَلَيْهِ، وَطَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَيُسَنُّ لَهُ فِي هَذِهِ الأَْطْوِفَةِ الاِضْطِبَاعُ فِي الأَْشْوَاطِ كُلِّهَا.
كَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ:
53 - وَكَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ: أَنْ يَجْعَل الطَّائِفُ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى، وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَيَتْرُكُ كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً. ثُمَّ يَتَّجِهُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ حَتَّى يَتَجَاوَزَهُ قَلِيلاً إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا، يَنْوِي الطَّوَافَ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَيَجْعَل يَسَارَهُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ وَيَسْتَلِمُهُ، بِأَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَيَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ، وَيُقَبِّلَهُ ثَلاَثًا.
لَكِنْ إِذَا وَجَدَ الطَّائِفُ زِحَامًا فَيَجْتَنِبُ الإِْيذَاءَ، وَيَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ بِيَدَيْهِ؛ لأَِنَّ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ، وَإِيذَاءُ النَّاسِ حَرَامٌ(29/142)
يَجِبُ تَرْكُهُ، وَلاَ يَجُوزُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ لأَِجْل السُّنَّةِ، وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ، فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل وَكَبِّرْ (1) .
وَكَيْفِيَّةُ الإِْشَارَةِ: أَنْ يَرْفَعَ الطَّائِفُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَجْعَل بَاطِنَهُمَا نَحْوَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ يُشِيرُ بِهِمَا إِلَيْهِ.
54 - وَيَرْمُل الطَّائِفُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى إِنْ كَانَ سَيَسْعَى بَعْدَ الطَّوَافِ.
وَكَيْفِيَّةُ الرَّمَل: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مُقَارَبَةِ الْخُطَى وَهَزِّ الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ، وَيَمْشِي بَقِيَّةَ الأَْشْوَاطِ، وَيَكُونُ فِي طَوَافِهِ عَلَى غَايَةِ الأَْدَبِ وَالْحُضُورِ وَالتَّعْظِيمِ، مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْحَطِيمِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ دَائِرِيٍّ، جِهَةَ شِمَال الْكَعْبَةِ حَيْثُ الْمِيزَابُ فَيَجْعَل الْحَطِيمَ فِي ضِمْنِ طَوَافِهِ، وَلاَ يَدْخُل فِي دَاخِلِهِ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فَيَسْتَلِمُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَقَطْ، دُونَ سُجُودٍ وَلاَ تَقْبِيلٍ لَهُ وَلاَ لِيَدَيْهِ، حَتَّى يَصِل إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ
__________
(1) حديث: " يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر. . . ". أخرجه أحمد (1 / 28) من حديث عمر بن الخطاب وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 241) وقال: رواه أحمد، وفيه راو لم يسم.(29/142)
أَدَّى شَوْطًا، فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيُقَبِّلُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ زِحَامٌ.
وَيُتَابِعُ الطَّوَافَ حَتَّى تَكْمُل سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلَهُ خِتَامًا لأَِشْوَاطِ الطَّوَافِ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ زِحَامٌ، ثُمَّ يَتَّجِهُ نَحْوَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجْعَلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَضْعُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْعَامَّةُ، فَلاَ يُزَاحِمُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ أَيْنَمَا تَيَسَّرَ، فَحَيْثُمَا أَدَّاهُمَا جَائِزٌ، لَكِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَل، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَهُمَا بِمَا يُحِبُّ لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ.(29/143)
طُوًى
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّوَى مِنَ الطَّيِّ، مِنْ مَعَانِي الطَّيِّ فِي اللُّغَةِ: بِنَاءُ الْبِئْرِ بِالْحِجَارَةِ، يُقَال طَوَيْتُ الْبِئْرَ فَهُوَ طُوًى، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَفِي اللِّسَانِ: طُوَى جَبَلٌ بِالشَّامِ، وَقِيل. هُوَ وَادٍ فِي أَصْل الطُّورِ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (1) . وَفِي مُعْجَمِ يَاقُوتِ الْحَمَوِيِّ: الطُّوَى بِئْرٌ حَفَرَهَا عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهِيَ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْضَاءِ دَارُ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْفٍ (2) .
وَذُو طُوًى وَادٍ بِمَكَّةَ، قَال الزُّبَيْدِيُّ: يُعْرَفُ الآْنَ بِالزَّاهِرِ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: طُوًى - بِالْقَصْرِ وَتَثْلِيثِ الطَّاءِ وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ - وَادٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ - كَدَاءِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى - وَأَقْرَبُ إِلَى
__________
(1) سورة طه / 12.
(2) المصباح المنير، لسان العرب، تاج العروس، معجم البلدان مادة: طوى.(29/143)
السُّفْلَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى بِئْرٍ مَطْوِيَّةٍ - مَبْنِيَّةٍ - بِالْحِجَارَةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِي مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْل فِي ذِي طُوًى عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ لِلطَّوَافِ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَل أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِل وَيُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ هَذَا الْغُسْل بِذِي طُوًى إِنْ كَانَتْ فِي طَرِيقِهِ، وَإِلاَّ اغْتَسَل فِي غَيْرِ طَرِيقِهَا مِنْ نَحْوِ مَسَافَتِهَا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُقَدِّرُ مَا بَيْنَهُمَا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: وَالْجَائِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ كَالْيَمَنِ فَيَغْتَسِل مِنْ نَحْوِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: وَهَذَا الْغُسْل مُسْتَحَبٌّ لِكُل دَاخِلٍ مُحْرِمٍ سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 435) ومسلم (2 / 919) .(29/144)
عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْل عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ مَوْضِعٍ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 165، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 70، حاشية الدسوقي 2 / 38، 39، المجموع 8 / 2 ط. المكتبة السلفية، مغني المحتاج 1 / 483، المغني لابن قدامة 3 / 368 ط. مكتبة الرياض الحديثة، الإنصاف 1 / 250 ط. دار إحياء التراث العربي 1980م. فتح الباري 3 / 413، 435 ط. السلفية.(29/144)
طَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّوْل فِي اللُّغَةِ - بِفَتْحِ الطَّاءِ - الْفَضْل يُقَال: لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ طَوْلٌ: أَيْ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ، وَيُقَال: طَال عَلَى الْقَوْمِ يَطُول طَوْلاً إِذَا أَفْضَل، وَطَوْل الْحُرَّةِ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ مِنْ هَذَا لأَِنَّهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى صَدَاقِهَا وَكُلْفَتِهَا فَقَدْ طَال عَلَيْهَا، وَالأَْصْل أَنْ يُعَدَّى بِإِلَى فَيُقَال: وَجَدْت طَوْلاً إِلَى الْحُرَّةِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَقَالُوا: طَوْل الْحُرَّةِ.
وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْفَضْل وَالْمَنِّ (1) .
وَأَمَّا فِي الأَْصَحِّ: فَهُوَ السَّعَةُ وَالْغِنَى عَلَى قَوْلٍ، وَقَال آخَرُونَ: الطَّوْل كُل مَا يُقْدَرُ بِهِ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ نَقْدٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ دَيْنٍ عَلَى مَلِيءٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الطَّوْل: هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَهْرُ:
2 - الْمَهْرُ: صَدَاقُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَا وَجَبَ لَهَا
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب مادة (طول) .
(2) الجامع لأحكام القرآن 5 / 136، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 503، الفواكه الدواني 2 / 45.(29/145)
بِنِكَاحٍ أَوْ وَطْءٍ، أَوْ تَفْوِيتِ بُضْعٍ، وَسُمِّيَ الْمَهْرُ صَدَاقًا، لإِِشْعَارِهِ بِصِدْقِ رَغْبَةِ بَاذِلِهِ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ الأَْصْل فِي إِيجَابِ الْمَهْرِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِوَاجِدِ الطَّوْل الْحُرِّ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ، حَتَّى لاَ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى إِرْقَاقِ وَلَدِهِ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ (أَيْ وَلَدَهُ) وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ، وَأَنَّ مِنَ الطَّوْل الْمُحَرَّمِ لِنِكَاحِ الأَْمَةِ أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ صَالِحَةٌ لِلاِسْتِمْتَاعِ؛ لأَِنَّ وُجُودَ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ أَعْظَمُ مِنِ اسْتِطَاعَةِ طَوْلِهَا، وَلأَِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَزَوَّجُ الأَْمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ (2) ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلاِسْتِمْتَاعِ، بِأَنْ كَانَتْ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ، أَوْ هَرِمَةٌ، أَوْ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مَجْذُومَةٌ، أَوْ بَرْصَاءُ، أَوْ رَتْقَاءُ، أَوْ قَرْنَاءُ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الأَْمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا، وَهَذَا إِذَا خَافَ الزِّنَى.
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب مادة (مهر) مغني المحتاج 3 / 220، كشاف القناع 5 / 128.
(2) حديث: " لا يتزوج الأمة على الحرة ". أخرجه الدارقطني (4 / 39) من حديث عائشة، وأورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 175) وضعف أحد رواته.(29/145)
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَوْل الْحُرَّةِ لاَ يَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ نِكَاحِ الأَْمَةِ؛ لأَِنَّ نِكَاحَهُ لَيْسَ فِيهِ إِرْقَاقُ حُرٍّ، وَلأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الرِّقِّ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِفَاقِدِ الطَّوْل أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ الْمُسْلِمَةَ بِشُرُوطٍ اخْتَلَفُوا فِيهَا، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الطَّوْل الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) الآْيَةَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّوْل مَعْنَاهُ وُجُودُ حُرَّةٍ تَحْتَهُ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ حُرَّةٌ جَازَ لَهُ الزَّوَاجُ مِنْ أَمَةِ الْغَيْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنْ لاَ تَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ تَعْتَدُّ مِنْ طَلاَقِهِ الْبَائِنِ. وَذَهَبَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ - الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الطَّوْل مَعْنَاهُ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْلِمَةً أَمْ كِتَابِيَّةً (2) .
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ) ف 75.
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) البدائع 2 / 266، الجامع لأحكام القرآن 5 / 136، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 503، المغني لابن قدامة 6 / 596، مغني المحتاج 3 / 183، الفواكه الدواني 2 / 45، روضة الطالبين 7 / 129، حاشية ابن عابدين 2 / 290، كشاف القناع 5 / 85.(29/146)
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْفْضَل وَالْخَيْرِ لِلرَّجُل الْحُرِّ الَّذِي اجْتَمَعَتْ لَهُ شُرُوطُ الإِْبَاحَةِ أَنْ يَتْرُكَ نِكَاحَ الأَْمَةِ وَأَنْ يَصْبِرَ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1) حَتَّى لاَ يُسَبِّبَ الرِّقَّ لِوَلَدِهِ حَيْثُ إِنَّ وَلَدَهُ مِنَ الأَْمَةِ يَكُونُ رَقِيقًا يَمْلِكُهُ سَيِّدُهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ عَلَى مَالِكِهَا حُرِّيَّتَهُ فَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا (2) .
وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ.
وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا صُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ لاَ يُولَدُ لَهُ، كَالْخَصِيِّ مَثَلاً، لاِنْتِفَاءِ مَحْذُورِ رِقِّ الْوَلَدِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الأَْمَةُ مِلْكًا لأَِصْلِهِ الْحُرِّ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال: (حديث حسن صحيح) .
(3) البدائع 2 / 268، الفواكه الدواني 2 / 45، كشاف القناع 5 / 78، مغني المحتاج 3 / 185، روضة الطالبين 7 / 131.(29/146)
طِيبٌ
انْظُرْ: تَطَيُّب.
طِيَرَةٌ
انْظُرْ: تَطَيُّر.(29/147)
طُيُورٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّيُورُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ طَيْرٍ، وَهُوَ جَمْعُ طَائِرٍ، وَالطَّائِرُ: كُل ذِي جَنَاحٍ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ. وَتَطَيَّرَ فُلاَنٌ أَصْلُهُ التَّفَاؤُل بِالطَّيْرِ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي كُل مَا يُتَفَاءَل بِهِ أَوْ يُتَشَاءَمُ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا أَرَادَتِ الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ مَرَّتْ بِمَجَاثِمِ الطَّيْرِ وَأَثَارَتْهَا، لِتَسْتَفِيدَ هَل تَمْضِي أَوْ تَرْجِعُ؟ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ (1) ، وَقَال: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ (2) وَقَال أَيْضًا: أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة (طير) .
(2) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 215) ومسلم (4 / 1743) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " أقروا الطير على وكناتها ". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 106) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات، والحديث رواية أم كوز الكعبية.(29/147)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالطُّيُورِ مِنْ أَحْكَامٍ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الطُّيُورِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:
أ - بَيْعُ الطُّيُورِ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ وَغَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الطُّيُورِ، كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالْعُقَابِ وَنَحْوِهَا إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ يَقْبَل التَّعْلِيمَ؛ لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ اقْتِنَاؤُهُ وَفِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ، فَأُبِيحَ بَيْعُهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيمِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا بَيْعُ مَا يُنْتَفَعُ بِلَوْنِهِ كَالطَّاوُوسِ، أَوْ يُنْتَفَعُ بِصَوْتِهِ كَالْبُلْبُل وَالْهَزَارِ وَالْبَبَّغَاءِ وَالزُّرْزُورِ وَالْعَنْدَلِيبِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا بَيْعُ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ تُؤْكَل وَلاَ يُصْطَادُ بِهَا، كَالرَّخَمَةِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَامَةِ وَالْغُرَابِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، لأَِنَّ مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ قِيمَةَ لَهُ، فَأَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل، وَبَذْل الْعِوَضِ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بَيْعُ كُل ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ (1) .
__________
(1) البدائع 5 / 142، والمجموع للنووي 9 / 239، المغني لابن قدامة 4 / 283 - 285، مغني المحتاج 2 / 12، كشاف القناع 3 / 152.(29/148)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا يُصَادُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّيْرِ، كَبُومَةٍ يَجْعَلُهَا شِبَاكًا، وَهُوَ: طَائِرٌ تُخَاطُ عَيْنَاهُ وَيُرْبَطُ لِيَنْزِل عَلَيْهِ الطَّيْرُ فَيُصَادُ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ.
أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ هُنَا.
وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) ، وَقَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الطَّائِرِ الَّذِي يَأْلَفُ الرُّجُوعَ، هَل يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي حَال ذَهَابِهِ إِلَى الرَّعْيِ أَوْ غَيْرِهِ أَمْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 152.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 / 1153) من حديث أبي هريرة.(29/148)
الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ تَعَوَّدَ الْعَوْدَ إِلَى مَحَلِّهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِعَوْدَتِهِ لِعَدَمِ عَقْلِهِ.
وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَبْعُوثِ فِي شُغْلٍ (1) .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ مُغْلَقٍ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِلاَ تَعَبٍ - كَبُرْجٍ صَغِيرٍ - جَازَ بَيْعُهُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ إِلاَّ بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا يُحْتَاجُ فِي نَقْلِهِ إِلَى مُؤْنَةٍ كَبِيرَةٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُرْجُ وَنَحْوُهُ مَفْتُوحًا فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الطُّيُورِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، لأَِنَّ الطَّيْرَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّيَرَانِ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ (2) .
ب - الاِصْطِيَادُ بِالطُّيُورِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِصْطِيَادِ
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 283، المغني لابن قدامة 4 / 222، البدائع 5 / 147، القوانين الفقهية ص 148، كشاف القناع 3 / 162، مغني المحتاج 2 / 13، جواهر الإكليل 2 / 5 - 8.
(2) المصادر السابقة.(29/149)
بِكُل مَا يَقْبَل التَّعْلِيمَ وَيُمْكِنُ الاِصْطِيَادُ بِهِ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْعُقَابِ وَالشَّاهِينِ وَنَحْوِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنَ الطُّيُورِ، وَأَنَّ مَا أَخَذَتْهُ هَذِهِ الْجَوَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ وَجَرَحَتْهُ وَأَمْسَكَتْهُ وَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهَا مَيِّتًا أَوْ فِي حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ حَل أَكْلُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَازِي مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُل (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ الصَّيْدُ إِلاَّ بِالْكَلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (2) الآْيَةَ، حَيْثُ خَصَّ الاِصْطِيَادَ بِالْكِلاَبِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِ تَعْلِيمِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ وَمَا يَكُونُ بِهِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .
ج - اصْطِيَادُ الطُّيُورِ وَذَبْحُهَا:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ إِذَا كَانَ
__________
(1) حديث: " ما أمسك عليك فكل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 599) ومسلم (3 / 1530) من حديث عدي بن حاتم، واللفظ للبخاري.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) البدائع 5 / 51، 54، 58، المجموع للنووي 9 / 92، مغني المحتاج 4 / 275، المغني لابن قدامة 8 / 546، القوانين الفقهية ص 175.(29/149)
مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَذَكَاتُهُ بِالذَّبْحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِحُ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَذَكَاتُهُ بِعَقْرٍ مُزْهِقٍ لِلرُّوحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَفِي صُوَرِ هَذَا الْعَقْرِ وَمَا يَحِل مِنْهَا الطَّيْرُ أَوِ الصَّيْدُ خِلاَفٌ يُنْظَر فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .(29/150)
ظِئْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظِّئْرُ - بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا - الْمُرْضِعَةُ لِغَيْرِ وَلَدِهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى زَوْجِهَا أَيْضًا، وَالْجَمْعُ أَظْؤُرٌ وَآظَارٌ، يُقَال: ظَأَرَتِ الْمَرْأَةُ اتَّخَذَتْ وَلَدًا تُرْضِعُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَضَانَةُ:
2 - الْحَضَانَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَضَنَ، وَمِنْهُ حَضَنَ الطَّائِرُ بَيْضَهُ إِذَا ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ تَحْتَ جَنَاحَيْهِ، وَحَضَنَتِ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا إِذَا جَعَلَتْهُ فِي حِضْنِهَا أَوْ رَبَّتْهُ (3) .
وَفِي الشَّرْعِ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَحِفْظُهُ وَجَعْلُهُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، ولسان العرب والمعجم الوسيط مادة (ظئر) .
(2) تكملة فتح القدير 7 / 183، ونهاية المحتاج 5 / 292، ومغني المحتاج 2 / 345.
(3) مختار الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة (حضن) .(29/150)
فِي سَرِيرِهِ وَرَبْطُهُ وَدُهْنُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
وَسُمِّيَتِ التَّرْبِيَةُ حَضَانَةً تَجَوُّزًا مِنْ حَضَانَةِ الطَّيْرِ لِبَيْضِهِ وَفِرَاخِهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالظِّئْرِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (2) فَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ فِي الاِسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَرْضَعَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ (3) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّ الطِّفْل فِي الْعَادَةِ إِنَّمَا يَعِيشُ بِالرَّضَاعِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ رَضَاعُهُ مِنْ أُمِّهِ فَجَازَ ذَلِكَ كَالإِْجَارَةِ فِي سَائِرِ الْمَنَافِعِ (4) .
4 - وَلِعَقْدِ الظِّئْرِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ:
أَوَّلاً: الْعِلْمُ بِمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) المغني 5 / 496، وكشاف القناع 5 / 495، والقليوبي وعميرة 3 / 77، وابن عابدين 2 / 632.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع لولده إبراهيم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1808) من حديث أنس بن مالك.
(4) تكملة فتح القدير 7 / 185، والبدائع 4 / 209، والمبسوط 15 / 119، والبحر الرائق 8 / 25، وتبيين الحقائق 5 / 127، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 13، والفروق للقرافي 4 / 54، ومغني المحتاج 2 / 345 والمغني 5 / 450، والشرح الكبير مع المغني 6 / 10 - 15.(29/151)
يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الأُْجْرَةِ إِلاَّ بِهِ.
ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ الصَّبِيِّ بِالْمُشَاهَدَةِ؛ لأَِنَّ الرَّضَاعَ يَخْتَلِفُ بِكِبَرِ الصَّبِيِّ وَصِغَرِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُعْرَفُ كَذَلِكَ بِالْوَصْفِ.
ثَالِثًا: مَوْضِعُ الرَّضَاعِ، لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَيَشُقُّ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهِ، وَالإِْرْضَاعُ فِيهِ أَشَدُّ وُثُوقًا بِتَمَامِهِ، وَيَسْهُل عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا.
رَابِعًا: مَعْرِفَةُ الْعِوَضِ (1) .
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي إِجَارَةِ الظِّئْرِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ خِدْمَةُ الصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَلأَِنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ فَلاَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ، فَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لاَ تَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ وَكَمَا لَوْ خَدَمَتْهُ بِدُونِ الرَّضَاعِ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَيْنًا فَإِنَّ الْعَقْدَ مُرَخَّصٌ فِيهِ فِي الإِْجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ لِحِفْظِ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَال: " وَالأَْصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَا
__________
(1) البحر الرائق 8 / 25، والقليوبي وعميرة 3 / 77، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14، والدسوقي 4 / 13.(29/151)
سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ فَمَنْفَعَةُ كُل عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ الإِْجَارَةُ لِحَضَانَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ مَعًا، وَتَصِحُّ لأَِحَدِهِمَا، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي الإِْجَارَةِ، لأَِنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَنَافِعِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِلْعَادَةِ بِتَلاَزُمِهِمَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 116 - 117) .
أُجْرَةُ الظِّئْرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْعِوَضِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ الأَْجِيرُ أَوِ الظِّئْرُ نَفَقَةً مَعْلُومَةً مَوْصُوفَةً كَمَا يُوصَف فِي السَّلَمِ بِالاِتِّفَاقِ (2) .
أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ الظِّئْرَ أَوِ الأَْجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، أَوْ جَعَل لَهُ أَجْرًا وَشَرَطَ لَهُ طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ:
__________
(1) شرح العناية على الهداية 7 / 183، والمبسوط 15 / 118، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 8 / 24، 26، والقليوبي وعميرة 3 / 77، ونهاية المحتاج 5 / 292، ومغني المحتاج 2 / 345، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14 - 15 والدسوقي 4 / 10.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 185، والدسوقي 4 / 13، والمغني 5 / 450، ومغني المحتاج 2 / 345.(29/152)
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بِجَوَازِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَلأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الآْظَارِ وَعَدَمِ الْمُمَاكَسَةِ مَعَهُنَّ وَإِعْطَائِهِنَّ مَا يَشْتَهِينَ شَفَقَةً عَلَى الأَْوْلاَدِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا مُتَبَايِنًا فَيَكُونُ مَجْهُولاً، وَالأَْجْرُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا (1) .
وَعَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْكُل وَتَشْرَبَ مَا يَدِرُّ لَبَنَهَا وَيَصْلُحُ بِهِ، وَلِلْمُكْتَرِي مُطَالَبَتُهَا بِذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّمْكِينِ مِنَ الرَّضَاعِ وَفِي تَرْكِهِ إِضْرَارٌ بِالصَّبِيِّ (2) .
فَسْخُ إِجَارَةِ الظِّئْرِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى فَسْخِ إِجَارَةِ الظِّئْرِ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لاَ يَرْضِعُ لَبَنَهَا أَوْ يَقْذِفُهُ، أَوْ يَتَقَيَّؤُهُ أَوْ تَكُونُ الظِّئْرُ سَارِقَةً أَوْ فَاجِرَةً أَوْ أَرَادَ أَهْل الرَّضِيعِ السَّفَرَ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ أَعْذَارٌ، وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِهَا، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل مَتَى كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ،
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 432، والبدائع 4 / 209، وحاشية الدسوقي 4 / 13 - 14 والمدونة 4 / 442، والاختيار 2 / 59، وتكملة فتح القدير 7 / 187، والبحر الرائق 8 / 25، والقليوبي وعميرة 3 / 77، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14.(29/152)
وَكَذَلِكَ تُفْسَخُ الإِْجَارَةُ إِذَا مَرِضَتْ أَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ أَوِ الظِّئْرُ أَوِ انْقَطَعَ اللَّبَنُ.
وَإِنْ صَامَتِ الظِّئْرُ فَتَغَيَّرَ لَبَنُهَا بِالصَّوْمِ أَوْ نَقَصَ خُيِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ فَسْخِ الإِْجَارَةِ وَإِمْضَائِهَا، وَإِنْ قَصَدَتِ الظِّئْرُ الإِْضْرَارَ بِالرَّضِيعِ بِصَوْمِهَا أَثِمَتْ وَكَانَ لِلْحَاكِمِ إِلْزَامُهَا بِالْفِطْرِ بِطَلَبِ الْمُسْتَأْجِرِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِجَارَة ف 116 - 119) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 59، والفتاوى الهندية 4 / 432، ومواهب الجليل 5 / 411، وحاشية الدسوقي 4 / 13، والقليوبي وعميرة 3 / 77، وكشاف القناع 2 / 313، ومطالب أولي النهى 2 / 183.(29/153)
ظَاهِرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّاهِرُ فَاعِلٌ مِنَ الظُّهُورِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْوُضُوحُ وَالاِنْكِشَافُ (1) . يُقَال: ظَهَرَ الشَّيْءُ ظُهُورًا: بَرَزَ بَعْدَ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ قِيل: ظَهَرَ لِي رَأْيٌ: إِذَا عَلِمْتَ مَا لَمْ تَكُنْ عَلِمْتَهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الظَّاهِرُ اسْمٌ لِكَلاَمٍ ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ لِلسَّامِعِ بِصِيغَتِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّل، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مِنْ أَهْل اللِّسَانِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الإِْطْلاَقِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (4) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِحْلاَل الْبَيْعِ (5) .
وَقِيل: الظَّاهِرُ مَا دَل عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وشرح المنار للنسفى 1 / 141.
(2) المصباح المنير مادة (ظهر) .
(3) سورة النساء / 3.
(4) سورة البقرة / 275.
(5) أصول البزدوي بهامش كشف الأسرار 1 / 46.(29/153)
الأَْصْلِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ، وَيُحْتَمَل غَيْرُهُ احْتِمَالاً مَرْجُوحًا، كَالأَْسَدِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ الأَْسَدَ، فَإِنَّهُ رَاجِحٌ فِي الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ، مُحْتَمَلٌ وَمَرْجُوحٌ فِي الرَّجُل الشُّجَاعِ؛ لأَِنَّهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ، وَالأَْوَّل الْحَقِيقِيُّ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ (1) .
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ فِي الظَّاهِرِ أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَقْصُودًا بِالسَّوْقِ أَصْلاً فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصِّ (2) ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ هَذَا الاِشْتِرَاطِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَفِيُّ:
2 - الْخَفِيُّ مُقَابِل الظَّاهِرِ، وَهُوَ: مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِعَارِضٍ فِي غَيْرِ الصِّيغَةِ، لاَ يُنَال إِلاَّ بِالطَّلَبِ وَالتَّأَمُّل، كَآيَةِ السَّرِقَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ (4) .
ب - النَّصُّ:
3 - النَّصُّ هُوَ: اللَّفْظُ الدَّال فِي مَحَل النُّطْقِ
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 / 236، 2 / 52.
(2) مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 19، كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47 والتلويح مع التوضيح 1 / 408.
(3) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47.
(4) التعريفات 8 للجرجاني.(29/154)
يُفِيدُ مَعْنًى لاَ يُحْتَمَل غَيْرُهُ، كَزَيْدٍ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ لِلذَّاتِ الْمُشَخِّصَةِ، مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ لِغَيْرِهَا. وَالنَّصُّ هُوَ: مَا زَادَ وُضُوحًا عَلَى الظَّاهِرِ بِمَعْنًى مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، لاَ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ، وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (1) فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الإِْطْلاَقِ، نَصٌّ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ، لأَِنَّهُ سِيقَ الْكَلاَمُ لِلْعَدَدِ وَقُصِدَ بِهِ، فَازْدَادَ ظُهُورًا عَلَى الأَْوَّل (2) .
ج - الْمُفَسَّرُ:
4 - الْمُفَسَّرُ هُوَ: الْمَكْشُوفُ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ الْكَلاَمُ لَهُ، وَازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى النَّصِّ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْقَى مَعَهُ احْتِمَال التَّأْوِيل وَالتَّخْصِيصِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (3) فَالْمَلاَئِكَةُ اسْمٌ ظَاهِرٌ عَامٌّ، وَلَكِنْ يَحْتَمِل الْخُصُوصَ، فَلَمَّا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (كُلُّهُمْ) انْقَطَعَ هَذَا الاِحْتِمَال، لَكِنَّهُ بَقِيَ احْتِمَال الْجَمْعِ وَالتَّفَرُّقِ، فَانْقَطَعَ احْتِمَال تَأْوِيل التَّفْرِقَةِ بِقَوْلِهِ: {أَجْمَعُونَ} (4) .
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) أصول البزدوي على هامش كشف الأسرار 1 / 47، وشرح المنار 1 / 142، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 / 239.
(3) سورة الحجر / 30.
(4) شرح المنار للنسفي 1 / 143، والتوضيح مع التلويح 1 / 409، 410، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 49، 50.(29/154)
د - الْمُحْكَمُ:
5 - الْمُحْكَمُ هُوَ: مَا أُحْكِمَ الْمُرَادُ بِهِ عَنِ احْتِمَال النَّسْخِ وَالتَّبْدِيل، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقِنٌ مَأْمُونُ الاِنْتِقَاضِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) .
وَمِثَال الْمُحْكَمِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) وَكَذَا سَائِرُ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْتَمِل النَّسْخَ أَبَدًا (3) .
الْعَلاَقَةُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ:
6 - لِلْعُلَمَاءِ فِي بَيَانِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الظَّاهِرِ ظُهُورُ الْمُرَادِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَسُوقًا لَهُ أَمْ لاَ، وَفِي النَّصِّ كَوْنُهُ مَسُوقًا لِلْمُرَادِ، سَوَاءٌ احْتَمَل التَّخْصِيصَ وَالتَّأْوِيل أَمْ لاَ، وَفِي الْمُفَسَّرِ عَدَمُ احْتِمَال التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيل، سَوَاءٌ احْتَمَل النَّسْخَ أَمْ لاَ، وَفِي الْمُحْكَمِ عَدَمُ احْتِمَال شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) سورة آل عمران / 7.
(2) سورة الأنعام / 101.
(3) التوضيح والتلويح 1 / 410 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 51، وشرح المنار للنسفي ومعه نور الأنوار على المنار 1 / 143.(29/155)
وَعَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ الأَْرْبَعَةُ الأَْقْسَامِ مُتَمَايِزَةٌ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، مُتَدَاخِلَةٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْصُول إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ أَقْسَامٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الظَّاهِرِ عَدَمُ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُجْعَل ظَاهِرًا فِيهِ، وَفِي النَّصِّ احْتِمَال التَّخْصِيصِ أَوِ التَّأْوِيل، وَفِي الْمُفَسَّرِ احْتِمَال النَّسْخِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
7 - حُكْمُ الظَّاهِرِ هُوَ وُجُوبُ الْعَمَل بِاَلَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ حَتَّى صَحَّ إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالظَّاهِرِ، لأَِنَّهُ وَاضِحُ الْمُرَادِ بِالصِّيغَةِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ غَيْرُ نَاشِئٍ مِنْ دَلِيلٍ، فَلاَ يُعْتَبَرُ (3) .
لَكِنْ إِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرُ مَعَ النَّصِّ أَوْ الْمُفَسَّرِ أَوِ الْمُحْكَمِ يُتْرَكُ الْعَمَل بِالظَّاهِرِ، وَيُؤْخَذُ بِمَا هُوَ أَقْوَى وَأَوْضَحُ مِنْهُ، يَقُول
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 408، 409، ومسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 19.
(2) انظر المرجعين السابقين، وكشف الأسرار شرح المنار للنسفي 1 / 142 - 145، وكشف الأسرار لأصول البزدوي 46، 47.
(3) نور الأنوار مع كشف الأسرار شرح المنار 1 / 141، 142.(29/155)
التَّفْتَازَانِيُّ: الْكُل يُوجِبُ الْحُكْمَ، أَيْ يُثْبِتُهُ قَطْعًا وَيَقِينًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَيُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُفَسَّرُ عَلَيْهِمَا، وَالْمُحْكَمُ عَلَى الْكُل؛ لأَِنَّ الْعَمَل بِالأَْوْضَحِ وَالأَْقْوَى أَوْلَى وَأَحْرَى (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ظَبْيٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة.
ظُفُرٌ
انْظُرْ: أَظْفَار.
__________
(1) التوضيح مع التلويح 1 / 411 - 412.(29/156)
ظَفَرٌ بِالْحَقِّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّفَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ فِي اللُّغَةِ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَقَال اللَّيْثُ: الظَّفَرُ الْفَوْزُ بِمَا طَلَبْتَ وَالْفَلْحُ عَلَى مَنْ خَاصَمْتَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الظَّفَرِ بِالْحَقِّ فِي اللُّغَةِ فَوْزُ الإِْنْسَانِ بِحَقٍّ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَال لِمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ غَرِيمِهِ فَازَ بِمَا أَخَذَ، أَيْ سُلِّمَ لَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِيفَاءُ:
2 - الاِسْتِيفَاءُ مَصْدَرُ اسْتَوْفَى، وَهُوَ أَخْذُ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ كَامِلاً (2) .
وَقَدْ يَكُونُ بِرِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى حُكْمٍ قَضَائِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ.
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، المصباح المنير، مختار الصحاح.
(2) الموسوعة الفقهية 4 / 146.(29/156)
ب - الاِسْتِيلاَءُ:
3 - الاِسْتِيلاَءُ لُغَةً وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْغَلَبَةُ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
وَيَخْتَلِفُ عَنِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالأَْعْيَانِ الْمَادِّيَّةِ، وَالظَّفَرُ يَقَعُ عَلَى الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَحَلُّهَا عَيْنًا أَمْ لاَ، كَمَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ بِحَقٍّ، بَيْنَمَا الظَّفَرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاخْتِلاَفِ الْحُقُوقِ، فَيَحْرُمُ فِي بَعْضِهَا، وَيَجُوزُ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا.
أَوَّلاً: مَا يَحْرُمُ فِيهِ الظَّفَرُ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - فِي الْمَوَاضِعِ التَّالِيَةِ:
أ - تَحْصِيل الْعُقُوبَاتِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْصْل فِي اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَاتِ مِنْ قِصَاصٍ وَحُدُودٍ وَتَعْزِيرٍ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَرِيقِ الْقَضَاءِ (3) لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الموسوعة الفقهية 4 / 157.
(3) البحر الرائق 7 / 192، منح الجليل 4 / 321، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 334، قواعد الأحكام 2 / 197، 198، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني وحاشية العبادي 10 / 286، حاشية الباجوري 2 / 400، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 279.(29/157)
عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، حَيْثُ إِنَّهَا تُوقَعُ عَلَى النَّفْسِ، وَالْفَائِتُ فِيهَا لاَ يُسْتَدْرَكُ، فَوَجَبَ الاِحْتِيَاطُ فِي إِثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا (1) ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، لِيَنْظُرَ فِيهَا وَفِي أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَالاِحْتِيَاطُ فِيهَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، الَّذِي يَنْقَادُ فِي الْغَالِبِ لِعَاطِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِ مِنَ الْوَسَائِل اللاَّزِمَةِ لِلتَّحَرِّي مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِمَا وُضِعَ تَحْتَ يَدَيْهِ مِمَّا يُمْكِنُهُ مِنْ تَقَصِّي الْوَاقِعِ وَكَشْفِ الْحَقَائِقِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ جُعِل لِلنَّاسِ اسْتِيفَاءُ مَا لَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتٍ لَكَانَ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَعَدِّي بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ادِّعَاؤُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَ حُقُوقَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا سَبَبًا فِي تَحْرِيكِ الْفِتْنَةِ (2) ، وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ لاَ يَنْضَبِطُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الإِْمَامِ، سَوَاءٌ فِي شِدَّةِ إِيلاَمِهَا كَالْجَلْدِ، أَوْ فِي قَدْرِهَا كَالتَّعْزِيرِ (3) .
وَاسْتَثْنَى فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ مِمَّا تَقَدَّمَ حَالَةَ عَجْزِ صَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْعُقُوبَةِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِوَاسِطَةِ الْحَاكِمِ، بِسَبَبِ الْبُعْدِ عَنْهُ، فَأَجَازُوا
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 286، مغني المحتاج 4 / 461.
(2) منح الجليل 4 / 321، قواعد الأحكام 2 / 198.
(3) قواعد الأحكام 2 / 198.(29/157)
لِمَنْ وَجَبَ لَهُ تَعْزِيرٌ أَوْ حَدُّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٌ وَكَانَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ السُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِلضَّرُورَةِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ يُحْتَمَل ضَيَاعُهُ إِذَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ صَاحِبُهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ، وَنَقَل الشِّرْوَانِيُّ عَنِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ - أَيْ بِالْقَوَدِ - بِحَيْثُ لاَ يَرَى، فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِهِ (1) .
وَكَذَلِكَ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لِلْمَشْتُومِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّاتِمِ بِمِثْل قَوْلِهِ، وَالأَْفْضَل لَهُ أَنْ لاَ يَفْعَل (2) ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تُقَابَل بِمِثْلِهَا، وَإِلَى مِثْل هَذَا ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) .
حَيْثُ قَال: الاِعْتِدَاءُ هُوَ التَّجَاوُزُ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (4) أَيْ: يَتَجَاوَزُ، وَمَنْ ظَلَمَكَ فَخُذْ حَقَّكَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِكَ، وَمَنْ شَتَمَكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْل قَوْلِهِ، وَلاَ تَتَعَدَّ إِلَى أَبَوَيْهِ، وَلاَ إِلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ
__________
(1) حاشية الشرواني وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 286.
(2) البحر الرائق 7 / 192.
(3) سورة البقرة / 194.
(4) سورة الطلاق / 1.(29/158)
كَذَبَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تُقَابَل بِالْمَعْصِيَةِ (1) .
وَلَكِنْ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لاَ يَجُوزُ لِمَنْ ضُرِبَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنْ يَضْرِبَ مَنْ ضَرَبَهُ، وَلَوْ فَعَل يُعَزَّرُ الاِثْنَانِ، وَيَبْدَأُ بِإِقَامَةِ التَّعْزِيرِ عَلَى الْبَادِئِ، لأَِنَّهُ أَظْلَمُ، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ أَسْبَقُ (2) .
ب - تَحْصِيل الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَالإِْيلاَءِ وَالطَّلاَقِ بِالإِْعْسَارِ وَالإِْضْرَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ خَطِيرَةٌ، فَيَجِبُ الاِحْتِيَاطُ فِي إِثْبَاتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي فِي تَحْقِيقِ أَسْبَابِهَا، وَكُل ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْحَاكِمُ (3) .
ج - مَا يُؤَدِّي تَحْصِيلُهُ مِنَ الْحُقُوقِ إِلَى فِتْنَةٍ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ فِتْنَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ تَزِيدُ عَلَى مَفْسَدَةِ ضَيَاعِ الْحَقِّ، كَفَسَادِ عُضْوٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَفِرَ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 338.
(2) البحر الرائق 7 / 192.
(3) تهذيب الفروق 4 / 123، 124، شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 334.(29/158)
الْمُشْتَرَاةِ أَوِ الْمَوْرُوثَةِ وَخَافَ مِنْ أَخْذِهَا بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى السَّرِقَةِ فَلاَ يَأْخُذُهَا إِلاَّ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ (1) .
وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِرْعَابُ الْمُسْلِمِ وَتَرْوِيعُهُ، فَلاَ يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا إِذَا كَانَتْ مُودَعَةً عِنْدَ آخَرَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْوِيعِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ بِظَنِّ ضَيَاعِ الْوَدِيعَةِ (2) .
د - تَحْصِيل الدَّيْنِ الْمَبْذُول:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَحْصِيل الدُّيُونِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بَاذِلاً لَهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ (3) ،، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
ثَانِيًا - مَا يُشْرَعُ فِيهِ الظَّفَرُ بِالْحَقِّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ الظَّفَرُ بِالْحَقِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَضَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ التَّالِيَةِ:
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، الوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 260، تحفة المحتاج 10 / 288، حاشية الباجوري 2 / 400، كشاف القناع 6 / 357.
(2) تحفة المحتاج 10 / 288، مغني المحتاج 4 / 462 ط. الحلبي.
(3) مغني المحتاج 4 / 462.(29/159)
أ - تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ:
8 - يَجُوزُ تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، حَيْثُ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ اسْتِرْدَادَهَا مِنَ الْغَاصِبِ قَهْرًا (1) ، وَمِثْل ذَلِكَ كُل عَيْنٍ مُسْتَحَقَّةٍ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُهَا دُونَ قَضَاءٍ، فَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ سِلْعَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَوْ وَرِثَهَا أَوْ أَوْصَى بِهَا لَهُ فَلَهُ أَخْذُهَا وَلاَ يُشْتَرَطُ الرَّفْعُ إِلَى الْحَاكِمِ (2) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَوْ غَابَ بَعْدَ السَّنَةِ وَلَمْ يُسَلِّمِ الْمِفْتَاحَ إِلَى الْمُؤَجِّرِ، فَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِفْتَاحًا آخَرَ وَيَفْتَحَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَيَسْكُنَ فِيهَا أَوْ يُؤَجِّرَهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَأَمَّا الْمَتَاعُ فَيُرَحِّلُهُ فِي نَاحِيَةٍ إِلَى حِينِ حُضُورِ صَاحِبِهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْفَتْحُ عَلَى إِذْنِ الْقَاضِي (3) .
كَمَا ذَكَرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلشَّخْصِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 290، وتهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، الوجيز للغزالي 2 / 260، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، تحفة المحتاج 10 / 287، 288، مغني المحتاج 4 / 462، حاشية الباجوري 2 / 400، كشاف القناع 4 / 211، غاية المنتهى 3 / 463.
(2) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380، تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، تحفة المحتاج 10 / 287، 288.
(3) البحر الرائق 7 / 192.(29/159)
تَحْصِيل مَنَافِعِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، فَجَعَلُوا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ أَخْذُ الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ مَنَافِعُهُمْ بِهَا مِنْ أَجْل تَحْصِيل هَذِهِ الْمَنَافِعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ دَعْوَى وَلاَ قَضَاءٌ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَنْ لاَ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَحْرِيكِ فِتْنَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ ضَيَاعِ الْحَقِّ، وَأَضَافَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ شَرْطًا آخَرَ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَقٌّ لِشَخْصٍ آخَرَ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَشْتَرِيَ شَخْصٌ عَيْنًا مِنْ آخَرَ كَانَ قَدْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا فَلَيْسَ لَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَأْخُذَهَا قَهْرًا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْبَائِعِ بِهَا (2) .
وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا الشَّرْطَ، فَأَجَازَ أَخْذَهَا، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِشَخْصٍ آخَرَ (3) .
ب - تَحْصِيل نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ:
9 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي أَوْلاَدَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ وَلاَ
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 287، مغني المحتاج 4 / 462، حاشية الباجوري 2 / 400.
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، مغني المحتاج 4 / 460.
(3) تحفة المحتاج 10 / 287، 288.(29/160)
إِذْنِ الْحَاكِمِ (1) ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لاَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَل عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاحٌ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ (2) فَجَعَل لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقَّ فِي أَخْذِ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ وَلَدِهَا مِنْ مَال زَوْجِهَا (3) .
ثَالِثًا - مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الظَّفَرِ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الظَّفَرِ بِالْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي الذِّمَّةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ.
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 125، شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 7، 8، المهذب 2 / 319، المغني 9 / 237، القواعد لابن رجب ص 17، 31، 32، كشاف القناع 4 / 211، غاية المنتهى 3 / 463.
(2) حديث: " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 405) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري 13 / 146، صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 7، سنن أبي دود مع معالم السنن 3 / 166، سنن النسائي 8 / 246، 247، السنن الكبرى 10 / 141، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 4 / 164.(29/160)
فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَحْصِيل الْحُقُوقِ بِغَيْرِ دَعْوَى وَلاَ حُكْمٍ فِي حَالاَتٍ مُعَيَّنَةٍ وَبِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ إِذْنِ الْحَاكِمِ فِي كُل مَرَّةٍ يُرِيدُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا الأَْصْل اسْتِثْنَاءَاتٌ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ، وَلَمْ يُوفِهِ إِيَّاهُ بِرِضَاهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ مِنْ مَال الْغَرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَال مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ بِنَفْسِ صِفَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ دَرَاهِمِ غَرِيمِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ إِنْ كَانَ حَقُّهُ دَنَانِيرَ، وَلاَ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ غَرِيمِهِ، وَلاَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِ مُقَابِل تِلْكَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي لَهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّحِيحَ مُقَابِل الْمُنْكَسِرِ، بَل يَأْخُذُ مِثْل مَالِهِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ أَيْضًا (1) .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ رَأَى جَوَازَ أَخْذِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ اسْتِحْسَانًا.
__________
(1) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380.(29/161)
وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنَ الْمَدِينِ مُقِرًّا كَانَ أَوْ مُنْكِرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لِلدَّائِنِ بَيِّنَةٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّل إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ بِنَحْوِ كَسْرِ الْبَابِ وَثَقْبِ الْجِدَارِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَكُونَ هُنَاكَ وَسِيلَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنْ لاَ يُمْكِنَ تَحْصِيل الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِذَا ظَفِرَ بِمَال مَدْيُونِ مَدْيُونِهِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ فِيهِمَا يَنْبَغِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ (2) .
ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الدَّائِنُ مِنْ مَال مَدِينِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَخَذَ ضَمَانَ الرَّهْنِ (3) .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ أَدَائِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال الْمَدِينِ قَدْرَ حَقِّهِ، إِذَا كَانَ هَذَا الْمَال مِنْ جِنْسِ حَقِّ الدَّائِنِ، وَكَذَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ (4) .
__________
(1) انظر المرجعين السابقين.
(2) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380.
(3) انظر المرجعين السابقين.
(4) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 27، منح الجليل 4 / 321.(29/161)
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ، مِنْهَا: أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال الْغَرِيمِ غَيْرَ جِنْسِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ مَال غَرِيمِهِ مِنَ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَال الْمَأْخُوذُ وَدِيعَةً عِنْدَ الآْخِذِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (1) وَقَدْ ذُكِرَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل أَنَّ هَذَا الْقَوْل ضَعِيفٌ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ جَوَازُ أَخْذِ الْحَقِّ مِنَ الْوَدِيعَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْ مَال الْغَرِيمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ لاَ يَقْدِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُنْكِرًا (3) .
وَأَضَافَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ: إِنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْحَقِّ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَأَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ بِحَيْثُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ مُسَبَّبِهِ، وَأَنْ لاَ يُؤَدِّيَ أَخْذُهُ إِلَى فِتْنَةٍ وَشَحْنَاءَ، وَأَنْ
__________
(1) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ". أخرجه أبو داود (3 / 805) والترمذي (3 / 555) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(2) منح الجليل 4 / 321.
(3) تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321.(29/162)
لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ (1) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ بِمَا يَلِي:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَذْلِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، فَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبِغَيْرِ حُكْمِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَذِنَ بِذَلِكَ.
ب - حَدِيثُ هِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ، حَيْثُ أَجَازَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي بَنِيهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَبِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ (3) ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَشْرِيعٌ عَامٌّ يُجِيزُ لِكُل ذِي حَقٍّ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ غَرِيمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ إِذَا امْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ أَدَائِهِ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال مَا قَالَهُ لِهِنْدٍ عَلَى سَبِيل الْفُتْيَا وَالتَّشْرِيعِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْقَضَاءِ (4) .
ج - قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 123.
(2) سورة البقرة / 194.
(3) حديث هند زوجة أبي سفيان، تقدم تخريجه فـ 9.
(4) الأحكام للقرافي ص 27.(29/162)
ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (1) ، وَإِنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنَ الظَّالِمِ نَصْرٌ لَهُ (2)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّخْصُ عَلَى غَيْرِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ أَوْ لاَ، وَكَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى مُنْكِرٍ أَوْ عَلَى مُقِرٍّ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الدَّائِنِ بَيِّنَةٌ أَوْ لاَ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي.
أَوَّلاً - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَيْنًا:
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ إِذَا اسْتَحَقَّ شَخْصٌ عَيْنًا تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ فَلَهُ أَوْ وَلِيِّهِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ - أَخْذُ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِلاَ رَفْعٍ لِلْقَاضِي وَبِلاَ عِلْمِ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ لِلضَّرُورَةِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ أَخْذِهَا فِتْنَةً أَوْ ضَرَرًا، وَإِلاَّ رَفَعَ الأَْمْرَ إِلَى قَاضٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ كَمُحْتَسِبٍ وَأَمِيرٍ لاَ سِيَّمَا إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَتَخَلَّصُ إِلاَّ عِنْدَهُ.
__________
(1) حديث: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 98) ومسلم 4 / 1998 من حديث أنس واللفظ للبخاري. وانظر موارد الظمآن ص 457، وحلية العلماء 3 / 94.
(2) تفسير القرطبي ص 730 طبعة الشعب.(29/163)
ثَانِيًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ:
15 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَيْنًا حَالًّا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ طَالَبَهُ بِهِ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ وَلاَ يَحِل أَخْذُ شَيْءٍ لِلْمَدِينِ لأَِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُ مَالٍ مُعَيَّنٍ لَهُ جَبْرًا عَنْهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ.
ثَالِثًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى مُنْكِرٍ وَلاَ بَيِّنَةَ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ لَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ لِلدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَال الْمَدِينِ أَوْ مِنْ مَال مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ إِنْ ظَفِرَ بِهِ اسْتِقْلاَلاً؛ لِعَجْزِهِ عَنْ أَخْذِهِ إِلاَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَخْذُ غَيْرِ جِنْسِهِ إِنْ فُقِدَ جِنْسُ حَقِّهِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي قَوْلٍ يَمْتَنِعُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمَلُّكِهِ.
رَابِعًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَيْنًا عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلِلدَّائِنِ(29/163)
عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ اسْتِقْلاَلاً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الدَّيْنِ إِنْ وَجَدَهُ وَمِنْ غَيْرِهِ إِنْ فَقَدَهُ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَقِيل يُرْفَعُ الأَْمْرُ فِيهِمَا إِلَى قَاضٍ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ بِالْمُطَالَبَةِ وَالتَّقَاضِي.
خَامِسًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى:
18 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ إِذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ أَدَائِهَا وَظَفِرَ الْمُسْتَحِقُّ بِجِنْسِهَا مِنْ مَال الْمَالِكِ فَلَيْسَ لَهُ الأَْخْذُ.
سَادِسًا - كَسْرُ الْبَابِ وَنَحْوِهِ لِلْوُصُول إِلَى الْمُسْتَحَقِّ:
19 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَازَ لِلْمُسْتَحِقِّ الأَْخْذُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِقَاضٍ فَلَهُ حِينَئِذٍ كَسْرُ بَابٍ وَنَقْبُ جِدَارٍ لاَ يَصِل إِلَى الْمُسْتَحَقِّ إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا اسْتَحَقَّ الْوُصُول إِلَيْهِ وَلاَ يَضْمَنُ مَا فَوَّتَهُ كَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الصَّائِل إِلاَّ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ فَأَتْلَفَهُ لاَ يَضْمَنُ، وَأَضَافُوا: مَحَل ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْحِرْزُ لِلدَّيْنِ، وَغَيْرُ مَرْهُونٍ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَأَلاَّ يَكُونَ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، وَأَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الْكَسْرِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ لاَ يُوَكِّل غَيْرَهُ فَإِنْ فَعَل ضَمِنَ.(29/164)
سَابِعًا - تَمَلُّكُ مَا يَظْفَرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ ظَفَرًا بِحَقِّهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ يَتَمَلَّكُهُ بَدَلاً عَنْ حَقِّهِ، أَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْحَاجَةِ، وَقِيل يَجِبُ رَفْعُهُ إِلَى قَاضٍ يَبِيعُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَصَرَّفُ فِي مَال غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَالُوا: الْمَأْخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ إِنْ تَلِفَ قَبْل تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ فَوْقَ حَقِّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ الاِقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ ضَمِنَ الزَّائِدَ، لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ إِلاَّ بِمَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَخَذَهُ وَلاَ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ إِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ قَدْرِ حَقِّهِ فَقَطْ بَاعَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرَ حَقِّهِ وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ عَلَى غَرِيمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ بَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَرَدَّ مَا زَادَ.
ثَامِنًا - الظَّفَرُ بِمَال غَرِيمِ الْغَرِيمِ:
21 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُ مَال غَرِيمِ غَرِيمِهِ بِشُرُوطٍ هِيَ: أَلاَّ يَظْفَرَ بِمَال الْغَرِيمِ، وَأَنْ يَكُونَ غَرِيمُ الْغَرِيمِ جَاحِدًا أَوْ مُمْتَنِعًا، وَأَنْ يَعْلَمَ الْمُسْتَحِقُّ الْغَرِيمَ أَنَّهُ أَخَذَ(29/164)
حَقَّهُ مِنْ مَال غَرِيمِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ غَرِيمَ الْغَرِيمِ (1) .
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ بَاذِلٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ مَا يُعْطِيهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَقَاصَّا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ لأَِمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ كَالتَّأْجِيل وَالإِْعْسَارِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ عِوَضَهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلاَ يَحْصُل التَّقَاصُّ هَاهُنَا لأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ فِي الْحَال، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلاَصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الأَْخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِهِ، لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 461 - 464.(29/165)
ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى الْمُحَاكَمَةِ وَلاَ يُمْكِنُهُ إِجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: جَعَل أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الأَْخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ حِينَ قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الأَْخْذِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَخَذَ بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَحَرَّى وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (2) وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَقَدْ خَانَهُ فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (3) وَلأَِنَّهُ إِنْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ تَرَاضٍ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْحَقِّ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". تقدم فـ 9.
(2) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك. . . ". تقدم فـ (12) .
(3) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ". أخرجه أحمد (5 / 425) ، والبيهقي (6 / 100) من حديث أبي حميد الساعدي، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 46) : وحديث أبي حميد أصح ما في الباب.(29/165)
بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ إِلَيْهِ (1) .
وَأَبَاحَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخْذَ الضَّيْفِ مِنْ مَال مَنْ نَزَل بِهِ وَلَمْ يُقِرَّهُ بِقَدْرِ قِرَاهُ، لِظُهُورِ سَبَبِ الأَْخْذِ، وَمَتَى ظَهَرَ السَّبَبُ لَمْ يُنْسَبِ الآْخِذُ إِلَى الْخِيَانَةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قُلْنَا يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِل بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَال لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ (2) .
وَقَال طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ظَهَرَ السَّبَبُ لَمْ يَجُزِ الأَْخْذُ بِغَيْرِ إِذْنٍ لإِِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ وُصُول حَقِّهِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ بِدُونِ الأَْخْذِ خُفْيَةً (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 325 - 327.
(2) حديث: " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 532) ومسلم (3 / 1353) من حديث عقبة بن عامر.
(3) القواعد والفوائد الأصولية ص 309، والقواعد لابن رجب ص 31.(29/166)
ظِلٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظِّل فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الضِّحِّ (الشَّمْسُ أَوْ ضَوْءُهَا) ، قَال الْفَيُّومِيُّ: كُل مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ، مِثْلُهُ مَا فِي اللِّسَانِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الظِّل ضَوْءُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا اسْتَتَرَتْ عَنْكَ بِحَاجِزٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ: الظِّل أَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ: أَنَا فِي ظِل فُلاَنٍ، وَظِل اللَّيْل: سَوَادُهُ، وَهُوَ يَشْمَل مَا قَبْل الزَّوَال وَمَا بَعْدَهُ (2) ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَيْءُ:
2 - الْفَيْءُ: هُوَ الرُّجُوعُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الظِّل مِنَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ (4) ، وَيُقَال لِلْفَيْءِ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) مغني المحتاج 1 / 122.
(3) ابن عابدين على الدرالمختار 1 / 240.
(4) المصباح المنير، وابن عابدين 1 / 240، ومغني المحتاج 1 / 122.(29/166)
التَّبَعُ، لأَِنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ (1) .
وَيُفَرِّقُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الظِّل وَالْفَيْءِ: بِأَنَّ كُل مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ وَفَيْءٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ ظِلٌّ (2) ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْفُرُوقِ: بِأَنَّ الظِّل يَكُونُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَلاَ يَكُونُ الْفَيْءُ إِلاَّ بِالنَّهَارِ (3) .
وَقِيل: الظِّل بِالْغَدَاةِ، وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ (4) .
وَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الظِّل: يَشْمَل مَا قَبْل الزَّوَال وَمَا بَعْدَهُ، وَالْفَيْءُ: مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَهُ (5)
ب - الزَّوَال:
3 - الزَّوَال لُغَةً: التَّنْحِيَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ مَيْل الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَيُعْرَفُ بَعْدَ تَوَقُّفِ الظِّل مِنْ الاِنْتِقَاصِ، وَإِذَا أَخَذَ الظِّل فِي الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ (6) ، وَعَلَى هَذَا فَالزَّوَال سَبَبٌ لِطُول الظِّل وَالْفَيْءِ.
__________
(1) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري.
(2) المصباح المنير مادة (ظلل) .
(3) الفروق لأبي هلال العسكري.
(4) لسان العرب (ظلل) .
(5) ابن عابدين 1 / 240، ومغني المحتاج 1 / 122.
(6) ابن عابدين 1 / 238، وبداية المجتهد 1 / 48، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 / 371.(29/167)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الظِّل وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَدْخُل بِزَوَال الشَّمْسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ.
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ هُوَ بُلُوغُ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرُ ظِل الزَّوَال، وَهَذَا هُوَ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ أَيْضًا (1) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، سِوَى ظِل الزَّوَال، كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَدْخُل بِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الظِّل عِنْدَهُ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 8، 9) .
ثَانِيًا - التَّبَوُّل وَالتَّخَلِّي فِي الظِّل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّبَوُّل وَالتَّخَلِّي فِي ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ (3) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ: الْبِرَازَ فِي
__________
(1) فتح القدير 1 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 32، ومواهب الجليل 1 / 382، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 / 371 - 375.
(2) البدائع 1 / 123، والهداية مع فتح القدير 1 / 192.
(3) ابن عابدين 1 / 239، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 41، والمغني لابن قدامة 1 / 165.(29/167)
الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّل (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا اللَّعَّانِينَ، قَالُوا وَمَا اللَّعَّانُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ (2) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ وَاسْتَظْهَرَ الدُّسُوقِيُّ التَّحْرِيمَ حَيْثُ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِي الْمَوْرِدِ وَالطَّرِيقِ وَالظِّل وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حَرَامٌ (3) .
وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنْ كَلاَمِ النَّوَوِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي حُرْمَتُهُ لِلأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلإِِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
وَيُلْحَقُ بِالظِّل فِي الصَّيْفِ مَحَل الاِجْتِمَاعِ فِي الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (5) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلاِجْتِمَاعِ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ (6) .
__________
(1) حديث معاذ: " اتقوا الملاعن الثلاث. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 29) والحاكم (1 / 167) وصححه الحاكم ووافه الذهبي. والمورد: الطريق، وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: صدره، وقيل: ما برز منه.
(2) حديث: " اتقوا اللعانين؟ قالوا: وما اللعانان " أخرجه مسلم (1 / 226) من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 107.
(4) مغني المحتاج 1 / 41.
(5) ابن عابدين 1 / 229، والدسوقي 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 41.
(6) ابن عابدين 1 / 229.(29/168)
ثَالِثًا: اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ بِمَا لاَ يُلاَمِسُ الْوَجْهَ، كَبِنَاءٍ مِنْ حَائِطٍ وَسَقْفٍ وَقَبْوٍ وَخَيْمَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْمَحْمَل فَيَجُوزُ الاِسْتِظْلاَل بِظِلِّهِ الْخَارِجِ، كَمَا يُسْتَظَل بِالْحَائِطِ، نَازِلاً أَوْ سَائِرًا، سَوَاءٌ بِجَانِبِهِ أَوْ تَحْتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَجَوَازُ الاِسْتِظْلاَل بِمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَظَلَّل بِهِ ثَابِتًا فِي أَصْلٍ تَابِعٍ لَهُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيل الْجَوَازِ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال فِي حَدِيثِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَل بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ. (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُظِل ثَابِتًا فِي أَصْلٍ يَتْبَعُهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 63) .
رَابِعًا: الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّل:
7 - يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّل، لِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُجْلَسَ بَيْنَ الضِّحِّ
__________
(1) المغني 3 / 38، وابن عابدين 2 / 164، حاشية الدسوقي 2 / 56، 57 وحديث: " وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 889) من حديث جابر بن عبد الله.(29/168)
وَالظِّل وَقَال: مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ (1) وَقَال ابْنُ مَنْصُورٍ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّل وَالشَّمْسِ؟ قَال: هَذَا مَكْرُوهٌ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَا؟ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَال سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَال: رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّل إِلَى الظِّل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَامَ فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُوِّل إِلَى الظِّل (2) .
__________
(1) حديث: " نهى أن يجلس بين الضح والظل " أخرجه أحمد بن حنبل (3 / 413، 414) وحسن إسناده البوصيري في الزوائد (2 / 251) .
(2) الأداب الشرعية 3 / 160 طبعة أولى - المنار. وحديث قيس بن أبي حازم: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي في الشمس. . . " عزاه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3 / 160) إلى سعيد بن منصور، ونقل عن إسحاق بن راهويه أنه قال: صح النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية قيس عن أبيه أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب. أخرجه أبو داود (5 / 163) وجود إسناده ابن مفلح في الأداب الشرعية (3 / 160) .(29/169)
ظُلْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْمَيْل عَنِ الْقَصْدِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سُمِّيَ كُل عَسْفٍ ظُلْمًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَغْيُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ: الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ وَالاِسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ. . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
ب - الإِْكْرَاهُ:
3 - الإِْكْرَاهُ لُغَةً: مِنَ الْكُرْهِ - بِالضَّمِّ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وجمهرة اللغة مادة: (ظلم) .
(2) فتح القدير 5 / 433.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (بغى) والموسوعة الفقهية (بغاة) 8 / 130.(29/169)
بِمَعْنَى الْقَهْرِ، أَوْ مِنَ الْكَرْهِ - بِالْفَتْحِ - بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأَْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ: بِأَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِكْرَاه ف 98) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالإِْكْرَاهِ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَكُونُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ، دَل عَلَى حُرْمَتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (3) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءٍ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ عَنِ اللَّهِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفروق لأبي هلال العسكري ص 192.
(3) سورة النساء / 168، 169.
(4) سورة هود / 113.(29/170)
تَعَالَى أَنَّهُ قَال: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا. . (1) الْحَدِيثَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْل أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحَمَل عَلَيْهِ (2)
. وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الظُّلْمُ يَشْتَمِل عَلَى مَعْصِيَتَيْنِ: أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمُبَارَزَةُ الرَّبِّ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ غَالِبًا إِلاَّ بِالضَّعِيفِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الاِنْتِصَارِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الظُّلْمُ عَنْ ظُلْمَةِ الْقَلْبِ؛ لأَِنَّهُ لَوِ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْهُدَى لاَعْتَبَرَ، فَإِذَا سَعَى الْمُتَّقُونَ بِنُورِهِمُ الَّذِي حَصَل لَهُمْ بِسَبَبِ التَّقْوَى اكْتَنَفَتْ ظُلُمَاتُ الظُّلْمِ الظَّالِمَ، حَيْثُ لاَ يُغْنِي عَنْهُ ظُلْمُهُ شَيْئًا (3) .
__________
(1) حديث: " قال الله: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. . . " أخرجه مسلم (4 / 1994) من حديث أبي ذر.
(2) حديث: " من كانت له مظلمة لأخيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 101) من حديث أبي هريرة.
(3) فتح الباري 5 / 100.(29/170)
أَثَرُ الظُّلْمِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اعْتِبَارِ الْخَوْفِ مِنَ الظَّالِمِ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ الأَْمْنَ مِنَ الظَّالِمِ شَرْطٌ فِيهِمَا، فَكُل مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَال غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْهُ، أَوْ خَافَ عَلَى دِينِهِ كَخَوْفِهِ إِلْزَامَ قَتْل رَجُلٍ أَوْ ضَرْبِهِ، أَوْ أَنْ يُحْبَسَ بِحَقٍّ لاَ وَفَاءَ لَهُ عِنْدَهُ - لأَِنَّ حَبْسَ الْمُعْسِرِ ظُلْمٌ - فَكُل مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يُعْذَرُ فِي تَخَلُّفِهِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَلاَ عُذْرَ لِمَنْ يُطَالَبُ بِحَقٍّ هُوَ ظَالِمٌ فِي مَنْعِهِ، بَل عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَعَلَيْهِ تَوْفِيَةُ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَلاَ عُذْرَ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِجِنَايَةٍ ارْتَكَبَهَا (1) .
أَخْذُ الْمَال ظُلْمًا مِنَ الْحَاجِّ:
6 - اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَمْنَ الطَّرِيقِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَاعْتَبَرَهُ آخَرُونَ شَرْطًا لِلأَْدَاءِ، لاَ شَرْطًا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَمْن ف 9، وَمُصْطَلَحِ حَجّ ف 21) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ دَفْعِ الرَّصَدِيِّ بِالْمَال،
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 275، حاشية ابن عابدين 1 / 548، الزرقاني شرح خليل 2 / 67، حاشية القليوبي وعميرة 1 / 227، 268، كشاف القناع 1 / 495، 496 و 2 / 23.(29/171)
وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَهُوَ " أَمْنُ الطَّرِيقِ "، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تَرَصُّدَ الْحَاجِّ لأَِخْذِ مَالِهِ أَوِ التَّعَدِّي عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى دَفْعِ رِشْوَةٍ أَوْ مَكْسٍ أَوْ خِفَارَةٍ مِنَ الظُّلْمِ الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ هَذَا الشَّرْطِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ إِذَا انْدَفَعَ شَرُّ الرَّصَدِيِّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ وُجُوبُ أَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا انْدَفَعَ الشَّرُّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ شَرْطُ الأَْمْنِ، وَالإِْثْمُ عَلَى الآْخِذِ لاَ عَلَى الْمُعْطِي، لأَِنَّ الْمُعْطِيَ مُضْطَرٌّ لِلدَّفْعِ ضَرُورَةَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ لإِِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ شَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ الظَّالِمُ الَّذِي يَأْخُذُ الْمُكُوسَ عَلَى الْحُجَّاجِ، فَإِنَّ الْحَجَّ لاَ يَسْقُطُ وُجُوبُهُ بِأَخْذِ الْمَكْسِ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَنْكُثَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُ قَلِيلاً لاَ يُجْحِفُ.
وَوَجْهُ جَوَازِ الدَّفْعِ لِلْمَكَّاسِ: أَنَّ الرَّجُل(29/171)
بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ عِرْضَهُ مِمَّنْ يَهْتِكُهُ بِمَالِهِ، وَقَالُوا: كُل مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ دَيْنَهُ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ إِيَّاهُ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا، كَمَا لَوْ قَال الرَّجُل لآِخَرَ: لاَ أُمَكِّنُكَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ إِلاَّ بِجُعْلٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُ.
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ يَسْقُطُ بِأَخْذِ الظَّالِمِ مَالاً مِنَ الْحَاجِّ فِي صُورَتَيْنِ: الأُْولَى أَنْ يَأْخُذَ قَلِيلاً غَيْرَ مُجْحِفٍ، وَكَانَ يَنْكُثُ.
وَالثَّانِيَةُ. أَنْ يَأْخُذَ كَثِيرًا مُجْحِفًا، نَكَثَ أَمْ لَمْ يَنْكُثْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ لاَ يَسْقُطُ إِذَا كَانَ مَنْ يَدْفَعُ الْمَال لِلرَّصَدِيِّ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ لِلْمِنَّةِ. كَمَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يُعْطِيَ مَالاً لِلرَّصَدِيِّ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَى طَرِيقِ الرَّصَدِيِّ، وَيُكْرَهُ لَهُ إِعْطَاءُ الْمَال لِلرَّصَدِيِّ، لأَِنَّهُ يُحَرِّضُهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ قَبْل الإِْحْرَامِ، إِذْ لاَ حَاجَةَ لاِرْتِكَابِ الذُّل حِينَئِذٍ، أَمَّا بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَلاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ أَسْهَل مِنَ الْقِتَال أَوِ التَّحَلُّل.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَاجَّ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ(29/172)
لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً لاَ تُجْحِفُ بِمَالِهِ؛ لأَِنَّهَا غَرَامَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا، كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ غَدْرَ الْمَبْذُول لَهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الإِْجْحَافِ وَعَدَمِ النَّكْثِ وَالْغَدْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الرَّصَدِيِّ الظَّالِمِ مَالاً، وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالسَّعْيِ إِلَيْهِ إِذَا اضْطُرَّ الْحَاجُّ لِدَفْعِ الرِّشْوَةِ لِمَنْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِفَقْدِهِ شَرْطَ الأَْمْنِ، وَحَتَّى لاَ تَكُونَ الطَّاعَةُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَيَأْثَمُ بِالدَّفْعِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالإِْعْطَاءِ، وَلأَِنَّ مَا يُعْطِيهِ خُسْرَانٌ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَأُجْرَتِهِ.
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَثِيرُ الرِّشْوَةِ وَيَسِيرُهَا (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 144، وبدائع الصنائع 3 / 213، وفتح القدير 2 / 328، ومواهب الجليل 2 / 495، وحاشية الدسوقي 2 / 6، ونهاية المحتاج 3 / 240 - 242، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 88، والمغني 3 / 218، والإنصاف 3 / 407، وكشاف القناع 2 / 392.(29/172)
الظُّلْمُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ الْقَضَاءِ إِذَا جَارَ الزَّوْجُ فَلَمْ يَقْسِمْ لإِِحْدَى زَوْجَاتِهِ، أَوْ قَسَمَ إِحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ مِنَ الأُْخْرَى.
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
أَخْذُ الظَّالِمِ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا أَخَذَ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا مِنَ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (ضَمَان، غَصْب، وَدِيعَة) .
الاِمْتِنَاعُ عَنْ دَفْعِ مَالٍ فُرِضَ ظُلْمًا:
9 - لَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا فَرَضَ عَلَى النَّاسِ مَالاً ظُلْمًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: يَجِبُ عَلَى كُل مَنْ أَطَاقَ أَنْ يُقَاتِل مَعَ الإِْمَامِ، إِلاَّ إِنْ أَبْدَى مَنْ يُقَاتِلُهُمُ الإِْمَامُ مَا يُجَوِّزُ لَهُمُ الْقِتَال، كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ(29/173)
جَوْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْحَال مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ، مِثْل تَحْمِيل بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلإِْمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَلَّفَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ النَّاسَ بِمَالٍ ظُلْمًا فَامْتَنَعُوا عَنْ إِعْطَائِهِ، فَاسْتَظْهَرَ الْبُنَانِيِّ مِنْهُمْ أَنَّ تَعْرِيفَ ابْنِ عَرَفَةَ لِلْبَغْيِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ بُغَاةٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ لأَِنَّهُ جَائِرٌ.
أَمَّا تَعْرِيفُ خَلِيلٍ لِلْبُغَاةِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ بُغَاةٍ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا حَقًّا وَلاَ أَرَادُوا خَلْعَهُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ ظُلْمًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ، فَلاَ يُعْتَبَرُ امْتِنَاعُهُمْ عَنْ دَفْعِهِ بَغْيًا، لَكِنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ دَفْعِهِ فِيمَا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِهِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِمَّا طَلَبَهُ، فَإِنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَكْرَهَ أَحَدًا مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ - مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَأْمُورِ فَقَطْ - فَلاَ لَوْمَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَقَل امْتَنَعَتِ الْمُخَالَفَةُ. وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ: سَيَأْتِيكُمْ رَكِيبٌ مُبْغِضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا
__________
(1) فتح القدير 4 / 411.
(2) الزرقاني شرح مختصر خليل مع حاشية البناني 8 / 60.(29/173)
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلأَِنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلِيَدْعُوا لَكُمْ (1) فَدَل عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ، وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِمْ، وَكَفِّ أَلْسِنَتِنَا عَنْهُمْ (2) .
عَزْل الْحَاكِمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ لاَ يُعْزَل بِالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) ف 12، 23 وَمُصْطَلَحِ: (عَزْل) .
أَثَرُ الْقَتْل ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُول:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَقْتُول بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَمِنْ صُوَرِ الْقَتْل ظُلْمًا: قَتِيل اللُّصُوصِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، أَوْ مَنْ قُتِل مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْل الذِّمَّةِ، أَوْ مَنْ قُتِل دُونَ مَظْلَمَةٍ، أَوْ مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا.
__________
(1) حديث: " سيأتيكم ركيب مبغضون. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 245) من حديث جابر بن عتيك، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (1 / 366) تضعيف أحد رواته.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 2 / 398 ط. البابي الحلبي. الباب الحلبي.(29/174)
وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ شَهِيدَ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، أَوْ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا يُعْتَبَرُ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ، لَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فِي أَنَّهُ لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِقَوْل سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2)
وَلأَِنَّهُمْ مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتَلَهُمُ الْكُفَّارُ (3) .
أَثَرُ الْقَتْل ظُلْمًا فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْل الْمُؤْمِنِ ظُلْمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 608، 611، مواهب الجليل 2 / 247، 248، المدونة 1 / 184، كشاف القناع 2 / 100، الإنصاف 2 / 501، 502، 503، مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 128 - 129) والترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد واللفظ للترمذي، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(3) كشاف القناع 2 / 100، والإنصاف 1 / 501، 502، 503.(29/174)
مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ ظُلْمًا عُدْوَانًا مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الظُّلْمِ: الْقَتْل بِحَقٍّ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ.
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول مَعْصُومًا مَحْقُونَ الدَّمِ لِيَتَحَقَّقَ الظُّلْمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا} (1) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْقَتْل، وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَزَجْرًا عَنْ إِتْلاَفِ الْبُنْيَةِ الْمَطْلُوبِ بَقَاؤُهَا، فَلاَ يَجِبُ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ بِقَتْل حَرْبِيٍّ، وَلاَ مُرْتَدٍّ قَبْل التَّوْبَةِ، وَلاَ بِقَتْل زَانٍ مُحْصَنٍ، وَلاَ مُحَارِبٍ قَاطِعِ طَرِيقٍ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَلاَ تَارِكِ الصَّلاَةِ بَعْدَ أَمْرِ الإِْمَامِ لَهُ بِهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِصَاص) .
نِسْبَةُ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَثَرُهَا فِي الرِّدَّةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ فَلَوْ قَال شَخْصٌ لِغَيْرِهِ: لاَ تَتْرُكِ الصَّلاَةَ فَإِنَّ
__________
(1) سورة الإسراء / 33.
(2) نهاية المحتاج 7 / 235، حاشية الجمل 5 / 502، كشاف القناع 5 / 521، تفسير القرطبي 10 / 254، حاشية الدسوقي 4 / 237، الخرشي على خليل 8 / 5، البحرالرائق 8 / 327، حاشية ابن عابدين 5 / 342.(29/175)
اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُكَ فَقَال: لَوْ آخَذَنِي اللَّهُ بِهَا مَعَ مَا بِي مِنَ الْمَرَضِ وَالشِّدَّةِ ظَلَمَنِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 14) .
الْغِيبَةُ لِلشَّكْوَى مِنْ الظُّلْمِ:
14 - لاَ تُبَاحُ الْغِيبَةُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا التَّظَلُّمُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَقُول: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ، أَوْ فَعَل بِي كَذَا.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (1) .
وَمِنْ بَيْنِ الضَّرُورَاتِ الْمُبِيحَةِ لِلْغِيبَةِ الاِسْتِفْتَاءُ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بِكَذَا وَكَذَا فَمَا طَرِيقُ الْخَلاَصِ؟ وَالأَْسْلَمُ أَنْ يَقُول: مَا قَوْلُكَ فِي رَجُلٍ ظَلَمَهُ أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنَّ التَّصْرِيحَ مُبَاحٌ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مَعَ تَعْيِينِهِ مَا لاَ يُدْرِكُ مَعَ إِبْهَامِهِ (2) ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي
__________
(1) سورة النساء / 148.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 262، 263، روضة الطالبين 7 / 23.(29/175)
مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ؛ فَقَال: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غِيبَة) .
الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ:
15 - لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ ظُلْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ شَتَمَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْكُفْرِ لأَِنَّهُ فَوْقَ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَذَبَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، بَل يَدْعُو اللَّهَ فِيمَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ نَظِيرُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ فَلاَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينُهُ، بَل يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِ فِيمَنْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ، هَذَا مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ، وَالتَّوَرُّعُ عَنْهُ أَفْضَل، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الدُّعَاءُ قِصَاصٌ وَمَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَمَا صَبَرَ يُرِيدُ أَنَّهُ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ (3) .
وَذَهَبَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ قَاسِمٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 98.
(3) حديث: " من دعا على من ظلمه فقد انتصر " أخرجه الترمذي (5 / 554) من حديث عائشة، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (4 / 234) تضعيف أحد رواته.(29/176)
إِلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دُعَاء 18) .
وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
16 - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ هِيَ إِحْدَى وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ هُوَ قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ (2) .
فَمَدَارُ الأَْمْرِ فِي الْعَمَل بِهَذِهِ الْوِلاَيَةِ قَائِمٌ عَلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَمَنْعَتُهُ، وَلِذَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ: أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ مُهَابًا، نَافِذَ الأَْمْرِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَثَبْتِ الْقُضَاةِ، وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الأُْمُورَ الْعَامَّةَ كَالْوُزَرَاءِ وَالأُْمَرَاءِ لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَامُّ احْتَاجَ إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ.
يَقُول ابْنُ خَلْدُونٍ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ: النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 122.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77.(29/176)
السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ، وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِمْضَائِهِ (1) .
وَقَدْ تَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الشِّرْبِ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ (2) .
وَإِنَّمَا قَال لَهُ هَذَا أَدَبًا لَهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ) .
تَكْرِيمُ الظَّالِمِ وَإِعَانَتُهُ:
17 - يُقْصَدُ بِذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَدُل عَلَى تَكْرِيمِ الظَّالِمِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، كَإِجَابَةِ
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 222.
(2) حديث: " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 39) ومسلم (4 / 1829 - 1830) من حديث عروة بن الزبير، واللفظ لمسلم.
(3) الأحكام السلطانية ص 77، 80 - 83، المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 562 - 572، بدائع السلك في الملك 1 / 232 - 239.(29/177)
دَعْوَتِهِ، وَتَقْبِيل يَدِهِ، وَدَفْعِ رِشْوَةٍ لَهُ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا: (دَعْوَة ف 27، تَقْبِيل ف 8، رِشْوَة ف 7 إِعَانَة ف 11، رِدْء ف 4 - 7) .(29/177)
ظَنٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ظَنَّ، مِنْ بَابِ قَتَل وَهُوَ خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (1) وَمِنْهُ الْمَظِنَّةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ، قَال ابْنُ فَارِسٍ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ، وَالظِّنَّةُ بِالْكَسْرِ: التُّهْمَةُ (2) .
وَالظَّنُّ فِي الاِصْطِلاَحِ - كَمَا عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ - هُوَ: الاِعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَال النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيل: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ (3) ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: أَنَّ الظَّنَّ مِنَ الأَْضْدَادِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ يَقِينًا وَيَكُونُ شَكًّا، كَالرَّجَاءِ يَكُونُ أَمْنًا
__________
(1) سورة البقرة / 46.
(2) الصحاح واللسان والمصباح.
(3) التعريفات للجرجاني.(29/178)
وَخَوْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيل الشَّكِّ؛ لأَِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا (1) .
وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ (2) .
وَنَقَل أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ الزَّرْكَشِيَّ أَوْرَدَ ضَابِطَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالظَّنِّ الْوَارِدِ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّكِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَهُوَ الشَّكُّ.
الثَّانِي: أَنَّ كُل ظَنٍّ يَتَّصِل بِهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ شَكٌّ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {بَل ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُول وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} (3) وَكُل ظَنٍّ يَتَّصِل بِهِ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَهُوَ يَقِينٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّكُّ:
2 - الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الاِرْتِيَابُ.
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 174 ط. دمشق، الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 124 ط. دار الفكر.
(2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 104.
(3) سورة الفتح / 12.
(4) سورة الحاقة / 20، الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 165 ط. دمشق.(29/178)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ: أَنَّ الشَّكَّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لاَ يَمِيل الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الآْخَرُ فَهُوَ ظَنٌّ، فَإِذَا طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ (1) .
ب - الْوَهْمُ:
3 - الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ: سَبْقُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ مَا يُقَابِل الظَّنَّ (2) .
ج - الْيَقِينُ:
4 - الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الْحَاصِل عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ، وَلِهَذَا لاَ يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ: جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ (3) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني / 113 ط، حلبي.
(2) شرح البدخشي 1 / 25 ط. صبيح.
(3) شرح المجلة للأتاسي 1 / 18.(29/179)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ: مَحْظُورٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمُبَاحٌ.
فَأَمَّا الْمَحْظُورُ. فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ يَقُول: لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ (2) .
وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، فَعَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ سَكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث جابر: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن. . . " أخرجه مسلم (4 / 2206) .
(2) حديث " حسن الظن من حسن العبادة ". أخرجه أحمد (2 / 407) وأبو داود (5 / 266) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده راو قال عنه الذهبي في الميزان (2 / 234) : نكرة.(29/179)
عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِْنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَال: شَيْئًا (1)
ثُمَّ إِنَّ كُل ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ، وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيل عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيل وَحَصَل عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَالاِقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُول شَهَادَةِ الْعُدُول، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالأَْخِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لاَ يَظُنَّ بِهِ
__________
(1) حديث صفية: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 336، 337) ومسلم (4 / 1712)(29/180)
شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ، فَمِنْهُ: ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَإِنْ عَمِل بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَل عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا (1) .
وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ، فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلاَ يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ دَل عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَنْ دَخَل مَدْخَل السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ، مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا يَحْصُل بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الأَْحْكَامِ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 499 - 500.
(2) نهاية المحتاج للرملي 2 / 429 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 296 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 1 / 321 ط. الحلبي.(29/180)
الْحُكْمُ بِالظَّنِّ:
6 - ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ لِلظَّنِّ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الأَْدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةٍ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّكُّ، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} (1) ، وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ (2) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَل بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الأَْحْكَامُ غَالِبًا، بَل الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِل الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لاَ يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لاَ يُكَلَّفُ بِهِ (3) ، وَيُؤَيِّدُهُ
__________
(1) سورة الحجرات / 12، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16 / 323 ط. المصرية.
(2) حديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذبُ الحديث ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 484) ومسلم (4 / 1985) من حديث أبي هريرة.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (16 / 118 - 119) .(29/181)
حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا (1) .
عَدَمُ اعْتِبَارِ الظَّنِّ إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ:
7 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ: لاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَظْهَرُ خَطَؤُهُ لاَ أَثَرَ لَهُ وَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ (2) .
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ ظَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ (3) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَل الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَل الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَل يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 548، 549) ومسلم (1 / 116) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم
(2) المنثور 2 / 353 ط. الأولى، الأشباه والنظائر لابن نجيم وحاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة، والأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية.
(3) أسنى المطالب 1 / 118، 119 ط المكتبة الإسلامية، نهاية المحتاج 1 / 356 ط. المكتبة الإسلامية، الأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية، جواهر الإكليل 1 / 23 ط. الحلبي.(29/181)
سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِل:
مِنْهَا: لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَمَلاً بِظَنِّهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً بَطَل تَيَمُّمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ (2) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا يُتَعَبَّدُ فِيهِ بِالنَّصِّ قَطْعًا، كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لاَ يَجْتَهِدُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ لاَ يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالنَّصِّ، كَالاِجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي دُخُول الْوَقْتِ جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الأَْصَحِّ (3) .
أَثَرُ الظَّنِّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، حاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة.
(2) المنثور 2 / 354 ط. الأولى، والأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية.
(3) المنثور 2 / 354 - 355 ط. الأولى.(29/182)
إِلَى أَنَّ التَّعَارُضَ لاَ يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لاَ يَجُوزُ فِي الأَْدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّعَارُضِ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً، وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ فِي دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْمَظْنُونِ نَجَاسَتُهُ:
9 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ظَنَّ نَجَاسَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا جَازَ وُضُوءُهُ (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهَا، وَتَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي غَيَّرَهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ وَالطَّاهِرِيَّةَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَرَاحِيضِ وَرَخَاوَةِ أَرْضِهَا فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ مُغَيِّرَهُ مِمَّا لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ (4) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيل إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَشَكَّ هَل هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) إرشاد الفحول ص 274، 275 الحلبي، وشرح البدخشي 3 / 156، 157 صبيح.
(2) تيسير التحرير 3 / 136، 137 ط. صبيح.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم، حاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة.
(4) الدسوقي على الشرح 1 / 35 ط. دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 6 ط. الحلبي.(29/182)
فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَآخَرُونَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَلإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالاَنِ، وَالْمُخْتَارُ بَل الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل طَهَارَتُهُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ مُنَجِّسِهِ (أَيْ فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ) وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الَّذِي ظُنَّ نَجَاسَتُهُ مَكْرُوهٌ، بِخِلاَفِ مَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَلاَ يُكْرَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة) .
الظَّنُّ فِي دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ:
10 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَكَّ فِي دُخُول وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ. . وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَذَانُ الْوَاحِدِ لَوْ عَدْلاً، وَإِلاَّ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْمُصَلِّي هَل دَخَل وَقْتُ الصَّلاَةِ أَوْ لاَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ أَوْ ظَنَّ دُخُولَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدُّخُول وَتَوَهَّمَ الدُّخُول، سَوَاءٌ حَصَل لَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 19 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية الجمل على شرح المنهج للقاضي زكريا الأنصاري 1 / 39.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 31 ط. المكتب الإسلامي.
(3) ابن عابدين 1 / 247.(29/183)
مَا ذُكِرَ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ أَوْ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُول فِيهَا فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تُجْزِيهِ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَبَيَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلاَةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بِدُخُول الْوَقْتِ قَوِيًّا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الإِْرْشَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اجْتَهَدَ، مُسْتَدِلًّا بِالدَّرْسِ وَالأَْعْمَال وَالأَْوْرَادِ وَشَبَهِهَا، وَحَيْثُ لَزِمَ الاِجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلاَ اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلاَلَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُول الْوَقْتِ، وَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ لَمْ يُصَل حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَتِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ (3) .
__________
(1) الدسوقي على الشرح 1 / 181 ط. دار الفكر.
(2) روضة الطالبين 1 / 185 ط. المكتب الإسلامي.
(3) كشاف القناع 1 / 257 ط. عالم الكتب.(29/183)
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلأَْصْل، إِذِ الأَْصْل بَقَاءُ الْوَقْتِ.
الأَْخْذُ بِالظَّنِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ:
11 - مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رَأْيُهُ بَعْدَ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالاِجْتِهَادِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاِجْتِهَادِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، فَأُخْبِرُوا بِتَحْوِيل الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ (1) وَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَال تَغَيُّرِ ظَنِّهِ الاِسْتِدَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَمَكَثَ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ (2) .
وَتَبْطُل الصَّلاَةُ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ وَخَالَفَهَا بِصَلاَتِهِ لِغَيْرِهَا عَامِدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يُصَادِفِ الْقِبْلَةَ فِي الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، بَل وَإِنْ
__________
(1) حديث: " أن أهل قباء كانوا متوجهين إلى بيت المقدس في صلاة الفجر. . " أخرجه مسلم (1 / 275) من حديث ابن عمر.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 291 ط. المصرية.(29/184)
صَادَفَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، فَيُعِيدُهَا أَبَدًا، لِدُخُولِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَتَعَمُّدِهِ إِيَّاهُ (1) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ لِلْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الآْنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَل ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ دَلِيل الاِجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الأَْوَّل الآْنَ اعْتَمَدَ الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَهُ وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ عَلَى الأَْظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا أَمْ لاَ، وَقِيل: الْقَوْلاَنِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلاَ إِعَادَةَ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَل ظَنَّهُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 14 ط الحلبي.(29/184)
وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ إِعَادَةُ الأَْرْبَعِ، وَقِيل: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الأَْخِيرَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا فَيَبْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بَل مَظْنُونًا فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلاَ إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الأَْوَّل، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلاَتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الأُْولَى وَلاَ إِعَادَةَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لاَ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالاِجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ، فَهَل يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الأَْوَّل، وَالأَْوْلَى الاِسْتِئْنَافُ، قَال النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى مَحَارِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَحَارِيبُ لَزِمَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 219، 220 ط. المكتب الإسلامي.(29/185)
السُّؤَال عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِأَدِلَّتِهَا فَفَرْضُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ إِنْ وَجَدَهُ، وَلاَ يَجْتَهِدُ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا وَجَدَ النَّصَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَهُ يُخْبِرُهُ عَنْ ظَنٍّ فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَإِلاَّ لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ.
وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ - وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا - فَفَرْضُهُ الاِجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَتِهَا لأَِنَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جِهَةٌ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ صَلَّى إِلَيْهَا لِتَعَيُّنِهَا قِبْلَةً لَهُ، إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ، فَإِنْ تَرَكَهَا - أَيِ الْجِهَةَ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ - وَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا أَعَادَ مَا صَلاَّهُ إِلَى غَيْرِهَا وَإِنْ أَصَابَ لأَِنَّهُ تَرَكَ فَرْضَهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ - لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَطْمُورًا أَوْ كَانَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الاِجْتِهَادِ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَعَادَلَتْ عِنْدَهُ الأَْمَارَاتُ - صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِلاَ إِعَادَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال ف 28، وَاشْتِبَاه ف 20) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 307 ط. النصر.(29/185)
الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لاَ يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ؟ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِحَال الإِْمَامِ شَرْطُ الأَْدَاءِ بِجَمَاعَةٍ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا دَخَل مُصَلٍّ عَلَى قَوْمٍ ظَنَّ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ فَظَهَرَ خِلاَفُهُ، أَعَادَ أَبَدًا إِنْ كَانَ الدَّاخِل مُسَافِرًا، لِمُخَالَفَةِ إِمَامِهِ نِيَّةً وَفِعْلاً إِنْ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ خَالَفَهُ نِيَّةً، وَفَعَل خِلاَفَ مَا دَخَل عَلَيْهِ، وَتَبْطُل صَلاَتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، لِحُصُول الشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْبُطْلاَنَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاخِل مُقِيمًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ، وَلاَ يَضُرُّهُ كَوْنُهُمْ عَلَى خِلاَفِ ظَنِّهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلإِْمَامِ نِيَّةً وَفِعْلاً كَعَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَظُنَّهُمْ مُقِيمِينَ فَيَنْوِيَ الإِْتْمَامَ فَيَظْهَرَ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قَصَرَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَمَّ فَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصِّحَّةَ كَاقْتِدَاءِ مُقِيمٍ بِمُسَافِرٍ.
وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَمَّا دَخَل عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ لَمْ يُغْتَفَرْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 402 ط. بولاق، حاشية ابن عابدين 1 / 390 ط. المصرية.(29/186)
الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ فَاغْتُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِل مُقِيمًا صَحَّتْ وَلاَ إِعَادَةَ، لأَِنَّهُ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَال الْمُسَافِرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَبَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ لِتَقْصِيرِهِ فِي ظَنِّهِ إِذْ شِعَارُ الإِْقَامَةِ ظَاهِرٌ، أَوِ اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ بِمَنْ جَهِل سَفَرَهُ - أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَتَمَّ - وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا، لِتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ، لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالأَْصْل الإِْتْمَامُ، وَقِيل: يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَزِمَهُ الإِْتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إِمَامُهُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إِمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامُهُ قَبْل عِلْمِهِ بِحَالِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ (3) .
ظَنُّ الْخَوْفِ الْمُرَخَّصِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
13 - لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا
__________
(1) الدسوقي على الشرح 1 / 367 ط. دار الفكر، مواهب الجليل 2 / 152 ط. النجاح.
(2) حاشية القليوبي 1 / 262 - 263 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 2 / 255 ط. المكتبة الإسلامية.
(3) الكافي 1 / 198، 199 ط. المكتب الإسلامي.(29/186)
فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلاَفُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَدَاءِ صَلاَةِ الْخَوْفِ، بَل الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلاَفُهُ لَمْ تَجُزْ إِلاَّ إِنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلاَةِ قَبْل أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا، كَمَنِ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ (1) .
وَيَكْفِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ الإِْعَادَةِ مُجَرَّدُ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مَظْنُونًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلاَةِ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ أَنَّهُ عَدُوٌّ فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْتِحَامٍ أَوْ صَلاَةَ قَسْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ خِلاَفُ ذَلِكَ فَلاَ إِعَادَةَ، وَالظَّنُّ الْبَيِّنُ خَطَؤُهُ لاَ عِبْرَةَ بِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى تَعْطِيل حُكْمٍ، لاَ إِلَى تَغَيُّرِ كَيْفِيَّةٍ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْمُتَيَمِّمِ الْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ خِلاَفُهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ؛ لأَِنَّهُ أَخَل بِشَرْطٍ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 441 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 233 ط. الأميرية.
(2) الخرشي 2 / 97 ط. بولاق الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 394 ط. دار الفكر، جواهر الإكليل 1 / 101 ط. الحلبي.(29/187)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا لِسَوَادٍ ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَبَانَ بِخِلاَفِ ظَنِّهِمْ كَإِبِلٍ أَوْ شَجَرٍ قَضَوْا فِي الأَْظْهَرِ، لِتَرْكِهِمْ فُرُوضًا مِنَ الصَّلاَةِ بِظَنِّهِمْ الَّذِي تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلاَةِ وَقَدْ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (1) وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، اسْتَنَدَ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ أَمْ لاَ، وَقِيل: إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَصَلَّى صَلاَةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ أَعَادَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ (3) .
ظَنُّ الصَّائِمِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ:
14 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ
__________
(1) سورة البقرة / 239.
(2) روضة الطالبين 2 / 63 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 1 / 301 ط. الحلبي.
(3) الكافي 1 / 212 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 2 / 20 ط. النصر، مطالب أولي النهى 1 / 572 ط. المكتب الإسلامي.(29/187)
يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُل (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْم) .
الظَّنُّ فِي الْمَسْرُوقِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ:
15 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ظَنَّ السَّارِقِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ مَا سَرَقَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا، أَوْ سَرَقَ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَظُنُّهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنَّهَا فُلُوسٌ لاَ تُسَاوِي قِيمَتُهَا النِّصَابَ قُطِعَ وَلاَ يُعْذَرُ بِظَنِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الشَّكُّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي كَوْنِهِ هَل يَبْلُغُ نِصَابًا أَوْ لاَ لاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ (2) .
ظَنُّ الْمُكْرَهِ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:
16 - قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الآْمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى سُتْرَةٍ وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ وَعَلِمَهُ الآْمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الآْمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، فَإِنْ آل الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَجِبُ كُلُّهَا
__________
(1) فتح القدير 2 / 93 ط. الأميرية، والكافي 1 / 355 ط. المكتب الإسلامي.
(2) جواهر الإكليل 2 / 290 ط. الحلبي، حاشية القليوبي 4 / 186 ط. الحلبي، الكافي 4 / 176 ط. المكتب الإسلامي.(29/188)
عَلَى الآْمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ، نِصْفُهَا (1) .
لاَ أَثَرَ لِلظَّنِّ فِي الأُْمُورِ الثَّابِتَةِ بِيَقِينٍ:
17 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل الَّذِي يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ فَقَال: لاَ يَنْفَتِل أَوْ لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدُ رِيحًا (2) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةً أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَل بِيَقِينِهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ نَسِيَ صَلاَةً مِنَ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَمْسُ، لاِشْتِغَال ذِمَّتِهِ بِكُلٍّ مِنْهَا يَقِينًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بِالشَّكِّ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مُسْتَيْقَنٌ، فَإِذَا شَكَّ هَل طَلَّقَ أَمْ لاَ؟ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَل طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً.
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 136 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي وعميرة 4 / 102 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 7 / 246 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية الشرواني 8 / 390 ط. الحلبي.
(2) حديث: عباد بن تميم عن عمه، " أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 237) ومسلم (1 / 276) . واللفظ للبخاري.(29/188)
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَفْقُودَ لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ وَلاَ تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَمْثَالُهُ فِيهَا؛ لأَِنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ، فَلاَ نَرْفَعُهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ (1) .
أَثَرُ الظَّنِّ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ:
18 - إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خَطَؤُهُ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الإِْجْزَاءُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
وَالآْخَرُ: لاَ يُجْزِئُهُ، وَفِي الاِسْتِرْدَادِ قَوْلاَنِ. يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأ ف 11) .
أَثَرُ الظَّنِّ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
19 - لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خَطَأ ف 42) .
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 135، 136، 137 ط. الأولى، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 53 ط. العلمية، حاشية الحموي على ابن نجيم 1 / 89 العامرة.(29/189)
ظِهَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الظِّهَارُ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الظَّهْرِ؛ لأَِنَّ صُورَتَهُ الأَْصْلِيَّةَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَإِنَّمَا خَصُّوا الظَّهْرَ - دُونَ الْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَغَيْرِهِمَا - لأَِنَّ الظَّهْرَ مِنَ الدَّابَّةِ مَوْضِعُ الرُّكُوبِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا، أَوْ جُزْءًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ (2) .
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ، لأَِنَّهُ كَانَ الأَْصْل فِي اسْتِعْمَالِهِمْ.
__________
(1) المصباح المنير، مادة (ظهر) .
(2) مغني المحتاج 3 / 353، وفتح القدير على الهداية 3 / 225، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 439، كشاف القناع 5 / 368.(29/189)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّلاَقُ:
2 - الطَّلاَقُ لُغَةً: حَل الْقَيْدِ وَالإِْطْلاَقُ، وَشَرْعًا: حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ، وَنَحْوِهِ (1) .
وَكَانَ الظِّهَارُ طَلاَقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَاءَ الإِْسْلاَمُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
ب - الإِْيلاَءُ
3 - الإِْيلاَءُ لُغَةً: الْحَلِفُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَمْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ.
وَشَرْعًا: أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ (2) .
وَكَانَ الإِْيلاَءُ طَلاَقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ، وَخَصَّهُ بِأَحْكَامٍ غَيْرِ أَحْكَامِ الظِّهَارِ.
مَشْرُوعِيَّةُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ:
4 - كَانَ النَّاسُ قَبْل الإِْسْلاَمِ إِذَا غَضِبَ الرَّجُل عَلَى زَوْجَتِهِ لأَِمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ آلَى مِنْهَا، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 279.
(2) مغني المحتاج 3 / 343، والموسوعة الفقهية جـ 7 ص 221.(29/190)
كَظَهْرِ أُمِّي، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لاَ تَحِل لَهُ بِحَالٍ، وَتَبْقَى كَالْمُعَلَّقَةِ، لاَ هِيَ بِالْمُتَزَوِّجَةِ وَلاَ بِالْمُطَلَّقَةِ.
وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الإِْسْلاَمِ حَتَّى غَضِبَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا صَنَعَ زَوْجُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فِي، فَلَمَّا كَبِرَتْ سِنِّي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي جَعَلَنِي عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي مِنْهُ أَوْلاَدًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَاكِ إِلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَجْدِي. فَنَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْل الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ(29/190)
مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الظِّهَارُ مُحَرَّمٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ طَلاَقًا، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (2) .
وَلِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْتَكِي فَأَنْزَل اللَّهُ أَوَّل سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ (3) .
__________
(1) سورة المجادلة 1 - 4. وحديث: (غضب أوس بن الصامت على زوجته خولة بنت ثعلبة. .) . أخرجه ابن ماجه (1 / 666) والحاكم (2 / 481) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 220) : وأصله في البخاري.
(2) سورة المجادلة آية 2، ومغني المحتاج 3 / 357، وبدائع الصنائع 3 / 223.
(3) تقدم تخريج الحديث فقرة / 4.(29/191)
التَّوْقِيتُ وَالتَّأْبِيدُ فِي الظِّهَارِ:
6 - الظِّهَارُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا، مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَلاَ يَذْكُرُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً كَأُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، فَإِذَا قَال لَهَا ذَلِكَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِذَا عَزَمَ عَلَى قُرْبَانِهَا فِيهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَال الظِّهَارُ وَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِلاَّ مُؤَبَّدًا، فَإِنْ ذَكَرَ الْوَقْتَ فِيهِ كَانَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي هَذَا الشَّهْرَ كَانَ الظِّهَارُ مُؤَبَّدًا، وَلاَ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّهْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَبَعْدَهُ، وَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثِ: إِنَّ التَّوْقِيتَ فِي الظِّهَارِ لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 235، والمغني لابن قدامة 7 / 349، ومغني المحتاج 3 / 357.
(2) شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 24، وانظر المراجع السابقة.(29/191)
قَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الشَّهْرِ فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ (1) ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ الظِّهَارُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُؤَبَّدًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحُكْمَ، وَلأَِنَّ الظِّهَارَ شَبِيهٌ بِالْيَمِينِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْيَمِينُ يَصِحُّ فِيهِ التَّأْبِيدُ وَالتَّوْقِيتُ، فَيَكُونُ الظِّهَارُ مِثْلَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ (2) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الظِّهَارَ يُشْبِهُ الطَّلاَقَ مِنْ نَاحِيَةٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، وَالطَّلاَقُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أُقِّتَ بِوَقْتٍ كَانَ التَّوْقِيتُ لَغْوًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ (3) .
وَاسْتَدَل مَنْ قَال: إِنَّ التَّأْقِيتَ فِي الظِّهَارِ لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا بِأَنَّهُ لَمْ يُؤَبِّدِ التَّحْرِيمَ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ (4) .
__________
(1) حديث سلمة بن صخر " أنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ. . . " أخرجه أحمد (4 / 37) وأبو داود (2 / 660 - 662) والترمذي (3 / 493) وقال الترمذي: هذا حديث حسن. .
(2) المغني لابن قدامة 7 / 349، وإحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 3 / 517.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 243.
(4) مغني المحتاج 3 / 357.(29/192)
أَرْكَانُ الظِّهَارِ:
7 - رُكْنُ الظِّهَارِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - اللَّفْظُ الدَّال عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّعْبِيرُ الْمُشْتَمِل عَلَى تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا كَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَالظِّهَارُ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِالتَّعْبِيرِ الْمُنْشِئِ لَهُ عِنْدَهُمْ.
وَأَرْكَانُ الظِّهَارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةٌ هِيَ.
1 - مُشَبِّهٌ وَهُوَ الزَّوْجُ الْمُظَاهِرُ.
2 - مُشَبَّهٌ وَهُوَ الزَّوْجَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا.
3 - مُشَبَّهٌ بِهِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ.
4 - الصِّيغَةُ (1) .
شُرُوطُ الظِّهَارِ:
يُشْتَرَطُ فِي الظِّهَارِ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى الزَّوْجَةِ كُلِّهَا أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمَرْأَةِ كُلِّهَا صَحَّ الظِّهَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
أَمَّا إِنْ كَانَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى جُزْءٍ مِنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 440، روضة الطالبين 8 / 261، كشاف القناع 5 / 369.(29/192)
الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الشَّائِعَةِ كَالنِّصْفِ وَالرُّبْعِ، أَوْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْكُل مَجَازًا فَالظِّهَارُ يَكُونُ صَحِيحًا.
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكُل مَجَازًا مِثْل الْيَدِ وَالرِّجْل وَنَحْوِهِمَا فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يَصِحُّ الظِّهَارُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ جُزْءًا حَقِيقَةً كَالْيَدِ وَالرِّجْل، أَوْ كَانَ جُزْءًا حُكْمًا كَالشَّعْرِ وَالرِّيقِ وَالْكَلاَمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ كَالْيَدِ وَالرِّجْل، وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ وَالْكَلاَمِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ.
وَالْمَرْأَةُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى الرَّجُل إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا، وَإِمَّا يَكُونُ مُؤَقَّتًا.
فَإِنْ شَبَّهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْبِيدِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الظِّهَارِ، بِأَنْ
__________
(1) البدائع 3 / 233، 234، والمغني لابن قدامة 7 / 342، وشرح الخرشي 3 / 243، 246، ومغني المحتاج 3 / 353.(29/193)
قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ ظِهَارٌ.
أَمَّا إِذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْقِيتِ، كَأُخْتِ الزَّوْجَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْقِيتِ لَغْوٌ وَلَيْسَ بِظِهَارٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كِنَايَةَ ظِهَارٍ، إِنْ نَوَى بِهِ ظِهَارًا وَقَعَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَوْرَدَهَا ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا (1) .
10 - وَإِذَا شَبَّهَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُضْوُ هُوَ ظَهْرُ الأُْمِّ مِثْل أَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ بِهِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ أَنْ يَقُول: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَفِي حَدِيثِ خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 233 - 234، وحاشية الدسوقي 2 / 442 - 443، والخرشي 4 / 106، مغني المحتاج 3 / 354، المغني لابن قدامة 7 / 341، وكشاف القناع 5 / 369.(29/193)
فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ (1) ، وَمِثْل الأُْمِّ فِي هَذَا الْجَدَّةُ؛ لأَِنَّهَا أُمٌّ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ الْمُشَبَّهُ بِهِ " ظَهْرَ " غَيْرِ الأُْمِّ وَالْجَدَّةِ، مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، كَأُخْتِهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ نَسَبًا أَوْ رَضَاعًا، وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، فَالظِّهَارُ يَكُونُ صَحِيحًا.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْعُضْوُ الْمُشَبَّهُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الظَّهْرُ فَالتَّشَبُّهُ بِهِ يَكُونُ ظِهَارًا إِذَا كَانَ مِنَ الأَْعْضَاءِ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِثْل الْبَطْنِ وَالْفَخِذِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْعْضَاءِ الَّتِي يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ فَلاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ إِذَا كَانَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ لاَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّشْبِيهِ بِهِ مَعْنَى الظِّهَارِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ الظَّهْرِ يَكُونُ ظِهَارًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ جُزْءًا حَقِيقَةً كَالرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْل أَمْ كَانَ جُزْءًا حُكْمًا كَالشَّعْرِ وَالرِّيقِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ، فَلَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَشَعْرِ أُمِّي أَوْ كَرِيقِهَا كَانَ ظِهَارًا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا إِلاَّ أَنَّهَا لاَ يَحِل التَّلَذُّذُ
__________
(1) حديث خولة تقدم تخريجه فـ / 4.
(2) بدائع الصنائع 3 / 231.(29/194)
أَوْ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَالتَّلَذُّذُ أَوْ الاِسْتِمْتَاعُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ، فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ بِجُزْءٍ مِنْهَا ظِهَارًا، مِثْل التَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شَبَّبَهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الأُْمِّ - غَيْرِ الظَّهْرِ - فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَذْكُرُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَةِ وَالإِْعْزَازِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالشَّعْرِ، فَقَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا - وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الإِْعْزَازِ وَالإِْكْرَامِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ وَقَعَ ظِهَارًا قَطْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ بِجُزْءٍ غَيْرِ الظَّهْرِ يَكُونُ ظِهَارًا مَتَى كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الثَّابِتَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالرَّأْسِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كَالرِّيقِ وَالْعَرَقِ وَالدَّمْعِ وَالْكَلاَمِ أَوْ كَالشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الأَْعْضَاءِ الثَّابِتَةِ، وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَكَذَلِكَ الظِّهَارَ (3) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 90، والخرشي 4 / 103، روضة الطالبين 8 / 263، ومغني المحتاج 3 / 353.
(2) روضة الطالبين 8 / 263.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 346.(29/194)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
11 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مُشْتَمِلاً عَلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ.
فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي مَثَلاً، يَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ إِتْيَانِ زَوْجَتِهِ كَتَحْرِيمِ إِتْيَانِ أُمِّهِ، أَوْ تَحْرِيمَ التَّلَذُّذِ وَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا كَتَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِالأُْمِّ وَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ ظِهَارًا.
وَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ لاَ يَشْتَمِل عَلَى التَّحْرِيمِ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ، فَشَبَّهَ إِحْدَاهُمَا بِظَهْرِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَتَيْنِ يَحِل لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا، فَلاَ يَكُونُ تَشْبِيهُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالأُْخْرَى مُتَضَمِّنًا لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى يَكُونَ ظِهَارًا. وَكَذَا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ: أَنَا عَلَيْكَ كَظَهْرِ أُمِّكَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ إِلَيْهَا.
12 - وَإِنْ شَبَّهَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، فَإِنْ قَال: قَصَدْتُ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا بَائِنًا، وَإِنْ قَال: قَصَدْتُ التَّحْرِيمَ أَوْ: لَمْ أَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلاً كَانَ إِيلاَءً (1) .
__________
(1) البدائع 3 / 170، 232، وفتح القدير على الهداية 3 / 225، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 887، 888.(29/195)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَكُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ تَطْلُقُ عَلَيْهِ طَلاَقًا بَائِنًا وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ نَافِعٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال رَبِيعَةُ: مَنْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْل كُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَعِنْدَهُمْ يَلْزَمُ الظِّهَارُ بِأَيِّ كَلاَمٍ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، نَحْوُ: كُلِي، أَوِ اشْرَبِي، أَوِ اسْقِنِي، أَوِ اخْرُجِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ: كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ، أَوِ الدَّمِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلاِسْتِمَاعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَمَال زَيْدٍ، وَهَل فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِيهِ كَفَّارَةٌ، لأَِنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ مَالُهُ، وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ: إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا كَانَ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 168، المدونة 3 / 50 - 51.(29/195)
شَيْئًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هُوَ ظِهَارٌ، وَالأُْخْرَى: هُوَ يَمِينٌ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
13 - أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الظِّهَارِ دَالَّةً عَلَى إِرَادَتِهِ:
الظِّهَارُ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ هُوَ مَا يَكُونُ بِصِيغَةٍ تَدُل عَلَى إِرَادَةِ وُقُوعِهِ.
وَالصِّيغَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَةً أَوْ كِنَايَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا أَوْ إِضَافَةً.
فَصَرِيحُ الظِّهَارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا دَل عَلَى الظِّهَارِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً وَلاَ يَحْتَمِل شَيْئًا آخَرَ سِوَاهُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالظِّهَارُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ بِوُضُوحٍ، بِحَيْثُ يَسْبِقُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ دَلاَلَةِ حَالٍ.
وَحُكْمُ الصَّرِيحِ وُقُوعُ الظِّهَارِ بِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ، فَلَوْ قَال الرَّجُل هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَلَمْ يَقْصِدِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَلَوْ قَال: إِنَّهُ نَوَى بِهِ غَيْرَ الظِّهَارِ لاَ يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لأَِنَّهُ إِذَا نَوَى غَيْرَ الظِّهَارِ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، فَإِذَا ادَّعَى إِرَادَةَ غَيْرِ الظِّهَارِ لاَ يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ؛ لأَِنَّهَا خِلاَفُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 341 - 342، 7 / 341 - 342.(29/196)
الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلاَمُهُ (1) .
وَالْكِنَايَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا يَحْتَمِل الظِّهَارَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الظِّهَارِ عُرْفًا، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ: مِثْل أُمِّي، فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظِّهَارِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهَا مِثْل أُمِّهِ فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَيَحْتَمِل أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنْ قَصَدَ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فَلاَ يَكُونُ ظِهَارًا وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل كُل هَذِهِ الأُْمُورِ، فَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَرَادَهُ كَانَ صَحِيحًا وَحُمِل اللَّفْظُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَال: لَمْ أَقْصِدْ شَيْئًا لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، لأَِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَل فِي التَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِ فَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ (2) .
14 - وَالظِّهَارُ تَارَةً يَكُونُ خَالِيًا مِنَ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَمِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَتَارَةً يَكُونُ مُشْتَمِلاً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل أَوِ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِذَا خَلاَ التَّعْبِيرُ
__________
(1) البدائع 3 / 231، الشرح الصغير 2 / 637، روضة الطالبين 8 / 262.
(2) البدائع 3 / 231، وبداية المجتهد 2 / 90، والمغني لابن قدامة 7 / 342، والخرشي 4 / 107 ط. بيروت.(29/196)
عَنِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ كَانَ الظِّهَارُ مُنَجَّزًا، وَإِنِ اشْتَمَل عَلَى الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ مُضَافًا، وَإِنِ اشْتَمَل عَلَى التَّعْلِيقِ كَانَ مُعَلَّقًا.
فَالظِّهَارُ الْمُنَجَّزُ هُوَ: مَا خَلَتْ صِيغَةُ إِنْشَائِهِ عَنِ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعَنِ التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَهَذَا يُعْتَبَرُ ظِهَارًا فِي الْحَال، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُصُول شَيْءٍ آخَرَ.
وَالظِّهَارُ الْمُعَلَّقُ هُوَ: مَا رَتَّبَ حُصُولَهُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفَةِ مِثْل " إِنْ " " وَإِذَا " " وَلَوْ " " وَمَتَى " وَنَحْوِهَا.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الظِّهَارِ الْمُعَلَّقِ: أَنْ يَقُول الرَّجُل: لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ سَافَرْتِ إِلَى بَلَدِ أَهْلِكِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُل ظِهَارًا قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ يَجْعَل وُجُودَ التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ مُرْتَبِطًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَفِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ لاَ يَكُونُ الرَّجُل مُظَاهِرًا قَبْل أَنْ تُسَافِرَ زَوْجَتُهُ إِلَى بَلَدِ أَهْلِهَا، فَإِذَا سَافَرَتْ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ صَارَ مُظَاهِرًا، وَلَزِمَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ.(29/197)
وَإِذَا عَلَّقَ الظِّهَارَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَطَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، فَصَحَّ فِيهَا الاِسْتِثْنَاءُ.
وَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلاَنٍ، أَوْ بِمَشِيئَتِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الظِّهَارِ إِذَا عُلِّقَ عَلَى مَشِيئَةِ فُلاَنٍ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ قَوْلِهِمْ (1) .
15 - وَالظِّهَارُ الْمُضَافُ هُوَ: مَا كَانَتْ صِيغَةُ إِنْشَائِهِ مَقْرُونَةً بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ يَقْصِدُ الزَّوْجُ تَحْرِيمَ زَوْجَتِهِ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الزَّوْجِ ظِهَارًا مِنْ وَقْتِ صُدُورِهِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ الظِّهَارُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الإِْضَافَةَ لاَ تَمْنَعُ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ، وَلَكِنَّهَا تُؤَخِّرُ حُكْمَهُ، إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَفِي قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ الشَّهْرِ الْقَادِمِ يُعْتَبَرُ مُظَاهِرًا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلِهَذَا
__________
(1) درر الأحكام 1 / 393، كشاف القناع 5 / 373، حاشية الدسوقي 2 / 391.(29/197)
لَوْ كَانَ الرَّجُل قَدْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى: أَلاَّ يُظَاهِرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَقَال لَهَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ السَّابِقَةَ حُكِمَ بِحِنْثِهِ فِي الْيَمِينِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ، وَلَكِنْ لاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُعَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الزَّمَنِ الَّذِي أَضَافَ الظِّهَارَ إِلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظِّهَارَ مِثْل الطَّلاَقِ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَالطَّلاَقُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا وَمُعَلَّقًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الظِّهَارَ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَكَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُحَقَّقَ الْحُصُول أَوْ غَالِبُ الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبَل، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَجَّزًا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الْحَال، فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ، كَانَ مُظَاهِرًا فِي الْحَال، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ، لأَِنَّ الظِّهَارَ كَالطَّلاَقِ كِلاَهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، وَالطَّلاَقُ الْمُضَافُ أَوِ الْمُعَلَّقُ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَل، أَوْ غَالِبِ الْوُقُوعِ فِيهِ،
__________
(1) البدائع 3 / 232، المغني لابن قدامة 7 / 350، ومغني المحتاج 3 / 354، وروضة الطالبين 8 / 265.(29/198)
يَكُونُ مُنَجَّزًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ (1) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
16 - أَنْ يَكُونَ الْمُظَاهِرُ قَاصِدًا الظِّهَارَ. وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِذَا كَانَ مَعَ هَذِهِ الإِْرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي الظِّهَارِ كَانَ الظِّهَارُ صَادِرًا عَنْ رِضًا صَحِيحٍ، وَإِنْ وُجِدَتِ الإِْرَادَةُ وَحْدَهَا، وَانْتَفَتِ الرَّغْبَةُ فِي الظِّهَارِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الظِّهَارِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ الْمَدِيدِ، فَيَصْدُرُ الظِّهَارُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَا هُدِّدَ بِهِ لَوِ امْتَنَعَ، فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَنْ رِضًا صَحِيحٍ.
وَالظِّهَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - حَالَةِ الإِْكْرَاهِ - يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، لأَِنَّ الظِّهَارَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ كَالطَّلاَقِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِل، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ قَصْدٍ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 440 وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 3 / 243.
(2) البدائع 3 / 231.(29/198)
وَاخْتِيَارٍ، لَكِنَّهُ لاَ يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَظِهَارُ الْهَازِل مُعْتَبَرٌ كَطَلاَقِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ (1) فَيَكُونُ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْهَازِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: (2) لاَ يَصِحُّ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) .
17 - وَإِذَا صَدَرَتْ صِيغَةُ الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُوجِبَهَا، بَل أَرَادَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ - وَهَذَا هُوَ الْهَازِل - فَإِنَّ الظِّهَارَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (4) .
__________
(1) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6 / 249. وحديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. . ". أخرجه أبو داود (2 / 643 - 644) والترمذي (3 / 481) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) شرح الخرشي 4 / 102، الدسوقي 2 / 439، ومغني المحتاج 3 / 352، والمغني لابن قدامة 7 / 339.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(4) البدائع 3 / 231، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 366، ومغني المحتاج 3 / 288، والمغني لابن قدامة 6 / 535.(29/199)
وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (1) وَالظِّهَارُ كَالطَّلاَقِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلأَِنَّ الْهَازِل يَصْدُرُ عَنْهُ السَّبَبُ - وَهُوَ الصِّيغَةُ - وَهُوَ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَرْتِيبُ الأَْحْكَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا مَوْكُولٌ إِلَى الشَّارِعِ لاَ إِلَى الْعَاقِدِ.
18 - وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الظِّهَارِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الظِّهَارُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلاً - وَهَذَا هُوَ الْمُخْطِئُ - فَلاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا دِيَانَةً، وَيُعْتَبَرُ ظِهَارًا قَضَاءً، وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالظِّهَارِ إِلاَّ الزَّوْجُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي مُعَاشَرَةِ زَوْجَتِهِ بِدُونِ حَرَجٍ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَأَل فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَلاَّ شَيْءَ عَلَيْهِ، مَتَى عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُول، فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ، وَرُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُل حَتَّى يُكَفِّرَ، لأَِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَلَوْ قَبِل فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ لاَنْفَتَحَ الْبَابُ أَمَامَ
__________
(1) حديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. . ". تقدم تخريجه فـ 16.(29/199)
الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ، ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطَّلاَقِ - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدِ النُّطْقَ بِصِيغَةِ الظِّهَارِ، بَل قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَزَل لِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا فِي الْقَضَاءِ، كَمَا لاَ يَكُونُ ظِهَارًا فِي الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى (2) .
وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْكْرَاهِ وَالْهَزْل وَالْخَطَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الإِْكْرَاهِ تَكُونُ الْعِبَارَةُ صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ سَلِيمٍ لِوُجُودِ الإِْكْرَاهِ، وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الإِْرَادَةِ وَيَجْعَلُهَا لاَ تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ، بَل تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الأَْذَى وَالضَّرَرَ.
وَفِي الْهَزْل تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً، لأَِنَّهَا تَصْدُرُ بِرِضَا الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهَا لاَ يَكُونُ مَقْصُودًا؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ لاَ يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، بَل يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ.
وَفِي الْخَطَأِ لاَ تَكُونُ الْعِبَارَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 330، / 457، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 656 - 657.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 366، وشرح الخرشي 3 / 172، 173، ومغني المحتاج 3 / 287.(29/200)
الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلاً، بَل الْمَقْصُودُ عِبَارَةٌ أُخْرَى وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلاً عَنْهَا.
الشَّرْطُ السَّادِسُ
19 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. قِيَامُ الزَّوَاجِ حَقِيقَةً يَتَحَقَّقُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَعَدَمِ حُصُول الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الدُّخُول، فَإِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً زَوَاجًا صَحِيحًا، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا كَانَ الظِّهَارُ صَحِيحًا، دَخَل بِهَا قَبْل الظِّهَارِ أَوْ لَمْ يَدْخُل، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الدُّخُول: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) فَإِنَّهُ يَدُل دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الظِّهَارِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالْمَرْأَةُ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل.
وَقِيَامُ الزَّوَاجِ حُكْمًا يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا كَانَ الزَّوَاجُ بَعْدَهُ قَائِمًا طِوَال مُدَّةِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُزِيل رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْمُطَلَّقَةُ
__________
(1) سورة المجادلة / 3.(29/200)
طَلاَقًا رَجْعِيًّا تَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال الرَّجُل لاِمْرَأَةٍ لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلاَ مُعْتَدَّةً لَهُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَل لَهُ وَطْؤُهَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) . وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الظِّهَارَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالأَْجْنَبِيَّةُ أَوِ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ رَجْعِيٍّ لاَ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَائِهِ، فَلاَ يَكُونُ الظِّهَارُ مِنْهَا صَحِيحًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَال الرَّجُل لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْكَفَّارَةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ تَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ، فَصَحَّ انْعِقَادُهُ قَبْل النِّكَاحِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى (2) .
20 - وَإِذَا عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا، مِثْل أَنْ يَقُول رَجُلٌ لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ تَزَوَّجْتُكِ، فَقَدِ
__________
(1) البدائع 3 / 232، وشرح الخرشي على المختصر لخليل 3 / 244، ومغني المحتاج 3 / 353.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 354.(29/201)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِهِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) : إِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الَّتِي عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا كَانَ مُظَاهِرًا، فَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ قَال: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَهَا، قَال: " عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ (4) وَلأَِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ زَوْجَةٌ، فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ (5) : الظِّهَارُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الزَّوَاجِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا: لَوْ تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الَّتِي عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا لاَ يَكُونُ مُظَاهِرًا، فَيَحِل لَهُ قُرْبَانُهَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ:
أَوَّلاً - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَل الظِّهَارَ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُعَلِّقُ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل عِنْدَ إِنْشَاءِ الظِّهَارِ، فَلاَ يَكُونُ الظِّهَارُ مِنْهَا صَحِيحًا.
__________
(1) البدائع 3 / 232، والفتاوى الهندية 1 / 458.
(2) الشرح الكبير 2 / 444 - 445.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 354 - 355.
(4) المصدر المتقدم.
(5) مغني المحتاج 3 / 353.(29/201)
ثَانِيًا - قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ قَبْل نِكَاحٍ وَلاَ عِتْقَ قَبْل مِلْكٍ (1) م فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى بُطْلاَنِ الطَّلاَقِ قَبْل الزَّوَاجِ عَلَى سَبِيل الْعُمُومِ، فَيَشْمَل كُل طَلاَقٍ قَبْل الزَّوَاجِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، وَالظِّهَارُ مِثْل الطَّلاَقِ كِلاَهُمَا يُفِيدُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَلاَ يَصِحُّ قَبْل الزَّوَاجِ مُنَجَّزًا كَانَ أَوْ مُعَلَّقًا، اعْتِبَارًا بِالطَّلاَقِ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ:
21 - التَّكْلِيفُ:
يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل لِكَيْ يَكُونَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِأُمُورٍ:
أ - الْبُلُوغُ: فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الصَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا؛ لأَِنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ مَرْفُوعٌ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِل (2) .
__________
(1) حديث: " لا طلاق قبل نكاح. . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 660) من حديث المسور بن مخرمة وحسَّن إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 211) .
(2) أخرجه أبو داود (4 / 558 - 559) والحاكم (2 / 59) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(29/202)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الظِّهَارِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَهُوَ كَالطَّلاَقِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَطَلاَقُ الصَّبِيِّ لاَ يُعْتَبَرُ، فَكَذَلِكَ ظِهَارُهُ لاَ يُعْتَبَرُ (1) .
ب - الْعَقْل: فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمَجْنُونِ حَال جُنُونِهِ، وَلاَ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل؛ لأَِنَّ الْعَقْل أَدَاةُ التَّفْكِيرِ وَمَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْعَاقِل.
وَمِثْل الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ: الْمَعْتُوهُ وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمَدْهُوشُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ.
وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظِهَارَهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الإِْكْرَاهِ، لأَِنَّ السَّكْرَانَ لاَ وَعْيَ عِنْدَهُ، وَلاَ إِدْرَاكَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ أَوْ كَالنَّائِمِ، فَكَمَا لاَ يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ فَكَذَلِكَ لاَ يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ السَّكْرَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، بِأَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ حَتَّى سَكِرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي اعْتِبَارِ طَلاَقِهِ، فَمَنْ قَال مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ طَلاَقِهِ قَال
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 338، والبدائع 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 352، والشرح الكبير 2 / 439.(29/202)
بِاعْتِبَارِ ظِهَارِهِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) .
وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا تَنَاوَل الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي زَوَال عَقْلِهِ، فَيُجْعَل عَقْلُهُ مَوْجُودًا حُكْمًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَمَنْ قَال مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ قَال لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ، وَهُمْ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، (2) وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى عَقْلِهِ فَلاَ يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلاَ إِرَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ، كَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ج - الإِْسْلاَمُ: فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُسْلِمٍ لاَ يَصِحُّ ظِهَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ كِتَابِيًّا أَمْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 3 / 40، والبدائع 3 / 230، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 439، ومغني المحتاج 3 / 353، والمغني لابن قدامة 7 / 114، 238.
(2) الهداية مع فتح القدير 3 / 40، والبدائع 3 / 99، والمغني لابن قدامة 7 / 114، 115. (3) البدائع 3 / 230، والشرح الكبير 2 / 439.
(3) البدائع 3 / 230، والشرح الكبير 2 / 439.(29/203)
إِسْلاَمُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ (1) .
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَالأَْزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الآْيَةِ وَهِيَ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) لاَ يُرَادُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بَل الْمُرَادُ بِهِمُ الأَْزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ الْمَذْكُورِ فِي الآْيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ الظِّهَارُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لاَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَحْرِيمًا يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ (3) .
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (4) فَإِنَّهُ عَامٌّ، فَيَشْمَل الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ،
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 352، والمغني لابن قدامة 7 / 338، 339، والإنصاف 9 / 198.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) البدائع 3 / 230.
(4) سورة المجادلة / 3.(29/203)
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ لاَ يَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الأَْصْل فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ تَابِعٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَلاَ يُوجَدُ هَذَا الدَّلِيل هُنَا.
وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالإِْطْعَامُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الْكَافِرِ لاَ يَجْعَلُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلظِّهَارِ، قِيَاسًا عَلَى الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِلظِّهَارِ مَعَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الإِْعْتَاقُ (1) .
أَثَرُ الظِّهَارِ:
إِذَا تَحَقَّقَ الظِّهَارُ وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الآْثَارُ الآْتِيَةُ: -
22 - أ - حُرْمَةُ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْل التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَشْمَل حُرْمَةَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ مِنْ تَقْبِيلٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
أَمَّا حُرْمَةُ الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ فَلاَ خِلاَفَ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لاِتِّفَاقِهِمْ، عَلَى إِرَادَةِ الْوَطْءِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 387، 239 وكشاف القناع 5 / 372، وروضة الطالبين 8 / 261.(29/204)
مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (1) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ، فَسَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلاَ تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ (2)
أَمَرَهُ بِالاِسْتِغْفَارِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ، فَدَل هَذَا عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْوِقَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ دَلِيلاً عَلَى حُرْمَةِ الْوِقَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا حُرْمَةُ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، (4) وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْل " التَّمَاسِّ " وَالتَّمَاسُّ
__________
(1) سورة المجادلة / 3.
(2) حديث: " أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر. . ". أخرجه أبو داود (2 / 666) والترمذي (3 / 494) من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح، وذكر الزيلعي في نصب الراية (3 / 246 - 247) طرق الحديث، ثم قال: ولم أجد ذكر الاستغفار في شيء من طرق الحديث.
(3) البدائع 3 / 234، والمغني لابن قدامة 7 / 347، والشرح الكبير 2 / 445، ومغني المحتاج 3 / 357، وحاشية ابن عابدين 2 / 591.
(4) البدائع 2 / 234، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني لابن قدامة 7 / 348.(29/204)
يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْل التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ، وَلأَِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: " مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ ".
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (2) فَلاَ يَحْرُمُ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّقْبِيل وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلاَ يُخِل بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ (3) .
وَلَوْ وَطِئَ الْمُظَاهِرُ الْمَرْأَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ أَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ عَصَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 357، والمغني لابن قدامة 7 / 348.
(2) سورة البقرة / 237.
(3) مغني المحتاج 3 / 357.(29/205)
رَبَّهُ، لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَبْقَى زَوْجَتُهُ حَرَامًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْل أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَال: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَال: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَال: فَلاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَل مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ (2) .
فَالْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا وَطِئَ قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَأَنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى حَرَامًا كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ.
23 - ب - إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 456، والهداية مع فتح القدير 3 / 227، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني لابن قدامة 7 / 383.
(2) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6 / 276، 277. وحديث ابن عباس: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته. .) . أخرجه الترمذي (3 / 494) وقال: حديث حسن غريب صحيح.(29/205)
يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِل التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوَاجِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلاَقِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلاَقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الْحَال، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.
وَإِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلاَقَ مِنَ الْقَاضِي لاَ يُطَلِّقُهَا إِلاَّ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كَمَا فِي الإِْيلاَءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ الأَْشْهُرِ أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ
__________
(1) البدائع 3 / 234 وفتح القدير 3 / 225، والفتاوى الهندية 1 / 456، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 891.(29/206)
بِالطَّلاَقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا.
وَتَأْجِيل الطَّلاَقِ إِلَى مُضِيِّ أَرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ، فَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الظِّهَارِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيُّ فِي اخْتِصَارِهِ لِلأَْقْوَال بِالْمُدَوَّنَةِ، وَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِمَالِكٍ أَيْضًا وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ تَبَيُّنِ الضَّرَرِ، وَهُوَ يَوْمُ الاِمْتِنَاعِ مِنَ التَّكْفِيرِ وَعَلَيْهِ تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ (1) .
24 - ج - وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْل وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَدَوَاعِي الْوَطْءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُظَاهِرِينَ بِالْكَفَّارَةِ إِذَا عَزَمُوا عَلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجَاتِهِمُ اللاَّتِي ظَاهَرُوا مِنْهُنَّ فِي قَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) وَالأَْمْرُ يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلأَِنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُغَطِّيَ ثَوَابُهَا وِزْرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.
__________
(1) شرح الخرشي مع حاشية العدوي 3 / 235، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 433.
(2) سورة المجادلة / 3.(29/206)
وَالْكَلاَمُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَتَنَاوَل الأُْمُورَ الآْتِيَةَ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل - سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ:
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِهَا الظِّهَارُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ، وَالْعَوْدُ شَرْطٌ لِتَقْرِيرِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، (1) وَوَجْهٌ أَنَّ السَّبَبَ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ تُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ وَقَبْل التَّمَاسِّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ التَّمَاسِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلأَِنَّ الزَّوْجَ قَصَدَ تَحْرِيمَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 225، كشاف القناع 5 / 374.(29/207)
الزَّوْجَةِ بِالظِّهَارِ، فَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الأَْوْجُهِ، رَجَّحَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ مَعًا، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَمْرَيْنِ: ظِهَارٍ وَعَوْدٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَلاَ تَثْبُتُ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ (1) .
الأَْمْرُ الثَّانِي - اسْتِقْرَارُ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ:
26 - كَفَّارَةُ الظِّهَارِ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فَإِنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَهَا سَقَطَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا فَتَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ عِنْدَهُمَا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ (2) ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَطَأْ، فَإِنْ وَطِئَ فَلاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الدسوقي 2 / 446، 447، والمغني 7 / 353، وفتح القدير 3 / 225، ومغني المحتاج 3 / 356.
(2) ابن عابدين 5 / 594، والدسوقي 4 / 458، والسراجية ص 30، والخرشي 4 / 111.(29/207)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، بَل يُؤَدِّيهَا الْوَارِثُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّرِكَةِ (1) .
الأَْمْرُ الثَّالِثُ - شُرُوطُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
27 - يُشْتَرَطُ لإِِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الظِّهَارِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الإِْتْيَانُ بِالْكَفَّارَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ وُجُوبِهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ إِذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى سَبَبِهِ، وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا: لَوْ أَطْعَمَ رَجُلٌ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَال: هَذَا الإِْطْعَامُ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ ظِهَارِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَالْحُكْمُ لاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْل الْحَلِفِ، أَوْ كَفَّرَ عَنِ الْقَتْل قَبْل الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قَال رَجُلٌ لاِمْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ قَبْل أَنْ تَدْخُل زَوْجَتُهُ تِلْكَ الدَّارَ؛ لأَِنَّ الظِّهَارَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ دُخُول الدَّارِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ لاَ يُوجَدُ قَبْل وُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ (2) .
الثَّانِي: النِّيَّةُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ الإِْعْتَاقَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 174 - 175، والقليوبي 3 / 175، والمغني لابن قدامة 7 / 383، وكشاف القناع 5 / 389 و4 / 404.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 389.(29/208)
أَوِ الصِّيَامَ أَوِ الإِْطْعَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَصْدُ مُقَارِنًا لِفِعْل أَيِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَوْ سَابِقًا عَلَى فِعْلِهِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) .
وَلأَِنَّ كُل نَوْعٍ مِنَ الأَْنْوَاعِ الْوَاجِبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْتْيَانُ بِهِ لِلتَّكْفِيرِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ التَّكْفِيرُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ بِدُونِ نِيَّةٍ، ثُمَّ نَوَى أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الإِْطْعَامُ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فَلاَ يُجْزِئُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الصِّيَامَ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الَّتِي عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صَامَ فِيهِ يَصْلُحُ لِلصِّيَامِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، مِثْل النَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ لِلْكَفَّارَةِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (3) .
الأَْمْرُ الرَّابِعُ - خِصَال كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
28 - خِصَال كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ثَلاَثَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الآْتِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 894، ومغني المحتاج 3 / 359، والمغني لابن قدامة 7 / 387.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 133.(29/208)
أ - الإِْعْتَاقُ.
ب - الصِّيَامُ.
ج - الإِْطْعَامُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ (1) } .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِوْسِ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، قِيل لَهُ: لاَ يَجِدُ قَال: يَصُومُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَة)
انْتِهَاءُ الظِّهَارِ:
29 - يَنْتَهِي الظِّهَارُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الأُْمُورِ الآْتِيَةِ: أ - الْكَفَّارَةُ.
ب - الْمَوْتُ.
ج - مُضِيُّ الْمُدَّةِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 3 - 4.
(2) حديث أوس بن الصامت تقدم فـ 4.(29/209)
أ - انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ:
30 - إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ، وَتَحَقَّقَ رُكْنُ الظِّهَارِ، وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلاَ يَنْتَهِي هَذَا التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ مَتَى كَانَ الظِّهَارُ مُطْلَقًا عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ لاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَل مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل (1) ، إِذْ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى وَطْئِهَا، وَجَعَل لِهَذَا النَّهْيِ غَايَةً هِيَ التَّكْفِيرُ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ لاَ يَنْتَهِي حُكْمُهُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الرَّجُل إِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَفَارَقَهَا بِطَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، سَوَاءٌ رَجَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا وَتَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ (2) ، وَعَلَّل ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ بِأَنَّ الظِّهَارَ قَدِ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَالأَْصْل أَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إِذَا انْعَقَدَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَتَى كَانَ فِي
__________
(1) حديث: " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله. . ". تقدم تخريجه فـ 23.
(2) البدائع 3 / 235، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 890، وشرح الخرشي 3 / 251، ومغني المحتاج 3 / 357، والمغني لابن قدامة 7 / 352.(29/209)
بَقَائِهِ فَائِدَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَاحْتِمَال عَوْدَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلاَقِ إِلَى زَوْجِهَا الأَْوَّل قَائِمٌ، فَيَبْقَى الظِّهَارُ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ (1) .
ب - انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْمَوْتِ:
31 - وَيَنْتَهِي الظِّهَارُ أَيْضًا بِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَلَوْ ظَاهَرَ الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ انْتَهَى الظِّهَارُ وَانْتَهَى حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُل يَحْرُمُ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، وَالْمَرْأَةُ عَلَيْهَا أَلاَّ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلظِّهَارِ وَأَثَرِ الْمَوْتِ فِيهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ ف 26.
ج - مُضِيُّ الْمُدَّةِ:
32 - وَيَنْحَل الظِّهَارُ الْمُؤَقَّتُ بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ التَّوْقِيتِ وَالتَّأْبِيدِ فِي الظِّهَارِ فِي فِقْرَةِ (6) .
__________
(1) البدائع 3 / 235.(29/210)
ظُهْر
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ.
عَائِلَة
انْظُرْ: أُسْرَة.
عَائِن
انْظُرْ: عَيْن.(29/210)
عَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاجُ فِي اللُّغَةِ: أَنْيَابُ الْفِيل، وَلاَ يُسَمَّى غَيْرُ النَّابِ عَاجًا.
وَالْعَوَّاجُ: بَائِعُ الْعَاجِ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْعَاجُ: عَظْمُ الْفِيل، الْوَاحِدَةُ عَاجَةٌ، وَقَال شِمْرٌ: وَيُقَال لِلْمِسْكِ عَاجٌ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّةِ مَا قَال شِمْرٌ فِي الْعَاجِ: إِنَّهُ الْمِسْكُ، مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِثَوْبَانَ: اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (1) ، لَمْ يُرِدْ بِالْعَاجِ مَا يُخْرَطُ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ، لأَِنَّ أَنْيَابَهَا مَيْتَةٌ، وَإِنَّمَا الْعَاجُ الذَّبْل، وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، فَأَمَّا الْعَاجُ الَّذِي هُوَ لِلْفِيل فَنَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) حديث: " اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ". أخرجه أبو داود (4 / 420 تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة راويين من رواته، كذا في مختصر السنن للمنذري (6 / 109 - نشر دار المعرفة) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير.(29/211)
اللُّغَوِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا عَنِ الْعَاجِ: إِنَّهُ الذَّبْل وَهُوَ عَظْمُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ (1) ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا إِنَّهُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَابِ الْفِيل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الذَّبْل:
2 - فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الذَّبْل: ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ، وَفِي الْمُحْكَمِ: جِلْدُ السُّلَحْفَاةِ الْبَرِّيَّةِ، وَقِيل: الْبَحْرِيَّةِ يُجْعَل مِنْهُ الأَْمْشَاطُ، وَيُجْعَل مِنْهُ الْمِسْكُ أَيْضًا، وَقِيل: الذَّبْل: عِظَامُ ظَهْرِ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَتَّخِذُ مِنْهُ نِسَاءٌ أَسْوِرَةً، وَقَال ابْنُ شُمَيْلٍ: الذَّبْل الْقُرُونُ يُسَوَّى مِنْهُ الْمِسْكُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: الذَّبْل: شَيْءٌ كَالْعَاجِ (3) .
ب - الْمِسْكُ:
3 - فِي اللِّسَانِ: الْمِسْكُ: الذَّبْل، وَالْمِسْكُ: الأَْسْوِرَةُ وَالْخَلاَخِيل مِنَ الذَّبْل وَالْقُرُونِ وَالْعَاجِ، وَاحِدَتُهُ مَسْكَةٌ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ بِالتَّحْرِيكِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَبْلٍ أَوْ عَاجٍ (4) .
__________
(1) المجموع 1 / 238 ط. السلفية.
(2) الدردير على الدسوقي 1 / 54 - 55، والمغني 1 / 72.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (ذبل) .
(4) لسان العرب والمصباح المنير.(29/211)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاجِ:
أَوَّلاً: حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْعَاجِ أَوْ نَجَاسَتِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
4 - الأَْوَّل: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: إِنَّ الْعَاجَ الْمُتَّخَذَ مِنْ عَظْمِ الْفِيل نَجِسٌ لأَِنَّ عَظْمَهُ نَجِسٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ الْعَظْمُ مِنَ الْفِيل وَهُوَ حَيٌّ أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ، لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى نَجَاسَتِهِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) } وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَالْفِيل لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَهُوَ نَجِسٌ عَلَى كُل حَالٍ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُدْهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ، لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، وَلأَِنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَال خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ.
__________
(1) سورة المائدة: الآية (3) .(29/212)
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَشَطَ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (1) ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْ ثَوْبَانَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (2) ، فَلاَ دَلِيل فِي ذَلِكَ عَلَى الطَّهَارَةِ، لأَِنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّبْل وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، كَذَا قَالَهُ الأَْصْمَعِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْل اللُّغَةِ، وَقَال أَبُو عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُل عَظْمٍ عَاجًا (3) .
5 - الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ، قَال بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ - غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - وَهُوَ طَرِيقٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الطَّهَارَةَ، قَال فِي الْفَائِقِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْقَوْل بِالطَّهَارَةِ هُوَ الصَّوَابُ.
وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم امتشط بمشط من عاج ". أخرجه البيهقي في السنن (1 / 26 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك وأشار إلى تضعيف إسناده.
(2) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم طلب من ثوبان أن يشتري لفاطمة. . . تقدم تخريجه فـ 1.
(3) المجموع شرح المهذب 1 / 23، 236، 238 ط. المطبعة السلفية، والمجموع 9 / 217، والإنصاف 1 / 92، والمغني 1 / 72 - 73 والبدائع 5 / 142.(29/212)
الْمَيْتَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لاَ بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلاَ حَيَاةَ فِي الْعَظْمِ فَلاَ يَكُونُ مَيْتَةً، كَمَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْعَظْمِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ، أَلاَ كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ حَلاَلٌ إِلاَّ مَا أُكِل مِنْهَا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (3) .
6 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّفْصِيل بَيْنَ ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعَاجُ - وَهُوَ الْفِيل - أَوْ عَدَمِ ذَكَاتِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، جَاءَ فِي الدَّرْدِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: الظَّاهِرُ مَا ذُكِّيَ مِنَ الْحَيَوَانِ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً،
__________
(1) البدائع 1 / 63، وفتح القدير 1 / 85 نشر دار إحياء التراث، وابن عابدين 1 / 136 ومراقي الفلاح 89 - 90 والمجموع شرح المهذب 1 / 237 - 240 المطبعة السلفية والمغني لابن قدامة 1 / 72 - 73، والحطاب 1 / 103 ومنح الجليل 1 / 30 ومجموع فتاوى ابن تيمية 1 / 39 مطبعة كردستان العلمية.
(2) حديث: " قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ". أخرجه الدارقطني (1 / 48 - ط. شركة الطباعة الفنية) وأتبعه بتضعيف أحد رواته.
(3) حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتشط بمشط من عاج. تقدم تخريجه فـ / 4.(29/213)
وَكَذَلِكَ جُزْؤُهُ مِنْ عَظْمِ لَحْمٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَجِلْدٍ إِلاَّ مُحَرَّمُ الأَْكْل كَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ لاَ تَنْفَعُ فِيهَا (1) ، وَالنَّجِسُ مَا أُبِينَ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسِ الْمَيْتَةِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَظُفْرٍ وَعَاجٍ أَيْ سِنِّ فِيلٍ (2) .
وَفِي الْمَوَّاقِ: قَال ابْنُ شَاسٍ: كُل حَيَوَانٍ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ بِذَكَاتِهِ كُل أَجْزَائِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَجِلْدٍ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا أُخِذَ الْعَاجُ مِنْ عِظَامِ الْفِيل وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ لَمْ يُذَكَّ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِذَا أُخِذَ بَعْدَ ذَكَاتِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فِي بَابِ الأَْطْعِمَةِ: وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ الْفِيل يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا (4) .
ثَانِيًا: حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَاجِ:
أ - اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ مِنْهُ:
7 - الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيل - الَّذِي
__________
(1) الدسوقي 1 / 49.
(2) الدسوقي 1 / 54.
(3) المواق بهامش الحطاب 1 / 88.
(4) المجموع 9 / 217.(29/213)
يُتَّخَذُ مِنْهُ الْعَاجُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ مِنْهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ، وَهَذَا يَدُل عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الآْنِيَةِ مِنْ عَظْمِ الْفِيل (1) .
وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ مِنْهُ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي شَيْءٍ رَطْبٍ وَيَجُوزُ فِي يَابِسٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الإِْنَاءِ الْمُعَوَّجِ - أَيِ الْمُضَبَّبِ بِقِطْعَةٍ مِنْ عَظْمِ الْفِيل - إِنْ أَصَابَ الْمَاءُ تَعْوِيجَهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ، وَالصُّورَةُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ.
وَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَظْمِ الْفِيل فَاسْتَعْمَلَهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ رُطُوبَةٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَنَجَّسَ شَعْرُهُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَلاَ يَحْرُمُ وَلَوْ جُعِل الدُّهْنُ فِي عَظْمِ الْفِيل لِلاِسْتِصْبَاحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الاِسْتِعْمَال فِي غَيْرِ الْبَدَنِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ (2) .
وَكَرِهَ الإِْمَامُ مَالِكٌ الأَْدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيل وَالْمُشْطَ بِهَا.
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِي نَجَاسَةِ الزَّيْتِ الْمَوْضُوعِ فِي إِنَاءِ الْعَاجِ، وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ كَلاَمِ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 89 - 90، وابن عابدين 1 / 136.
(2) المجموع 1 / 243.(29/214)
أَهْل الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ يَقِينًا فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ (1) .
ب - حُكْمُ بَيْعِهِ وَالتِّجَارَةُ فِيهِ:
8 - الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيل أَجَازُوا بَيْعَهُ وَالاِنْتِفَاعَ بِهِ.
جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: يَجُوزُ بَيْعُ عَظْمِ الْفِيل وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَمْل وَالرُّكُوبِ وَالْمُقَاتَلَةِ (2) .
وَفِي الإِْنْصَافِ: وَعَلَى الْقَوْل بِطَهَارَتِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ (3) .
وَفِي الْمُغْنِي: وَرَخَّصَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ وَابْنُ جُرَيْجٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (4) .
9 - أَمَّا الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ.
قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ
__________
(1) أسهل المدارك 1 / 38 - 39.
(2) ابن عابدين 4 / 114.
(3) الإنصاف 1 / 92.
(4) المغني 1 / 72. وحديث ثوبان تقدم تخريجه فـ 1.(29/214)
يَحِل ثَمَنُهُ، وَبِهَذَا قَال طَاوُسٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (1) .
10 - وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ مَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الأَْدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيل وَالْمُشْطَ بِهَا وَالتِّجَارَةَ فِيهَا أَيْ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهُ فَحَمَل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمُ الآْخَرُ عَلَى التَّنْزِيهِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: حَمْل الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ أَحْسَنُ خُصُوصًا وَقَدْ نَقَل حَمْلَهَا عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونَ عَنِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَنَّ الْعَاجَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَيْتَةٍ لَكِنْ أُلْحِقَ بِالْجَوَاهِرِ فِي التَّزَيُّنِ فَأُعْطِيَ حُكْمًا وَسَطًا وَهُوَ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ مُرَاعَاةً لِمَا قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ وَعُرْوَةُ مِنْ جَوَازِ الاِمْتِشَاطِ بِهِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَاجِ الْمُتَّخَذِ مِنْ فِيلٍ مَيِّتٍ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ أَمَّا الْمُذَكَّى فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المجموع 9 / 217، والفروع 1 / 110، والإنصاف 1 / 92، والمغني 1 / 72.
(2) الدسوقي 1 / 55، ومنح الجليل 1 / 30.(29/215)
عَادَة
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَادَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَوْدِ، أَوِ الْمُعَاوَدَةِ، بِمَعْنَى التَّكْرَارِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الأُْمُورُ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْ غَيْرِ عَلاَقَةٍ عَقْلِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهَا تَكْرَارُ الشَّيْءِ وَعَوْدُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى تَكْرَارًا كَثِيرًا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاقِعًا بِطَرِيقِ الصُّدْفَةِ وَالاِتِّفَاقِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنَ الأُْمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُرْفُ:
2 - الْعُرْفُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ النُّكْرِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ شَهَادَةِ الْعُقُول وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ بِالْقَبُول (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم حاشية الحموي 1 / 126 - 127، ورسالة نشر العرف لابن عابدين ص 112، والتعريفات للجرجاني والكليات لأبي البقاء.
(2) لسان العرب مادة (عرف) .
(3) الكليات لأبي البقاء.(29/215)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَاصَدَقُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَادَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَنَدٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَأَنَّهَا تُحَكَّمُ فِيمَا لاَ ضَابِطَ لَهُ شَرْعًا، كَأَقَل مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَفِي أَقَل سِنِّ الْحَيْضِ وَالْبُلُوغِ، وَفِي حِرْزِ الْمَال الْمَسْرُوقِ، وَفِي ضَابِطِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ فِي الضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَفِي قَصْرِ الزَّمَانِ وَطُولِهِ عِنْدَ مُوَالاَةِ الْوُضُوءِ، وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلاَةِ، وَكَثْرَةِ الأَْفْعَال الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلاَةِ، وَفِي التَّأْخِيرِ الْمَانِعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِل وَالأَْنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ الْمَجْرَى إِذَا كَانَ لاَ يَضِيرُ مَالِكَهَا، فَتُحَكَّمُ الْعَادَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل إِقَامَةً لَهَا مَقَامَ الإِْذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَكَذَا الثِّمَارُ السَّاقِطَةُ مِنَ الأَْشْجَارِ الْمَمْلُوكَةِ، وَفِي عَدَمِ رَدِّ ظَرْفِ الْهَدِيَّةِ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ.
وَمَا جُهِل حَالُهُ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْل فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى عَادَةِ بَلَدِ الْبَيْعِ (2) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 112.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 90، المنثور للزركشي 2 / 356، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 128، ونهاية المحتاج 3 / 433، والمغني 4 / 22.(29/216)
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الاِعْتِبَارِ شَرْعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ (1) .
دَلِيل اعْتِبَارِ الْعَادَةِ فِي الأَْحْكَامِ:
4 - الأَْصْل فِي اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (2) .
وَفِي كُتُبِ أُصُول الْفِقْهِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ مِنَ الْمُعْتَبَرِ فِي الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - قَوْلُهُمْ: الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ.
ب - الْمُمْتَنِعُ عَادَةً كَالْمُمْتَنِعِ حَقِيقَةً.
ج - الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلاَلَةِ الْعَادَةِ.
د - إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ (3) .
وَقَلَّمَا يُوجَدُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ لِلْعَادَةِ مَدْخَلٌ فِي أَحْكَامِهِ.
__________
(1) الموافقات 2 / 286.
(2) أثر عبد الله بن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. أخرجه أحمد (1 / 379) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 177 - 178) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله موثقون.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 98، والأشباه لابن نجيم 1 / 126 - 127 - 131 ورسالة نشر العرف ص: 112 - 113 - 139 - 141، ومجلة الأحكام العدلية المواد 36، 38، 40، 41.(29/216)
أَقْسَامُ الْعَادَةِ:
تَنْقَسِمُ الْعَادَةُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
5 - فَبِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى: عَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَعَادَةٍ جَارِيَةٍ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ.
فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّارِعُ أَوْ نَفَاهَا، أَيْ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَمَرَ بِهَا إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا، أَوْ نَهَى عَنْهَا تَحْرِيمًا أَوْ كَرَاهِيَةً، أَوْ أَذِنَ فِيهَا فِعْلاً أَوْ تَرْكًا.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْيِهِ وَلاَ إِثْبَاتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.
فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: ثَابِتَةٌ أَبَدًا، كَسَائِرِ الأُْمُورِ الشَّرْعِيَّةِ كَالأَْمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ: أَمَرَ الشَّارِعُ بِهَا أَوْ نَهَى عَنْهَا، فَهِيَ مِنَ الأُْمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلاَ تَبْدِيل لَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، فَلاَ يَنْقَلِبُ الْحَسَنُ مِنْهَا قَبِيحًا لِلأَْمْرِ بِهِ، وَلاَ الْقَبِيحُ حَسَنًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ حَتَّى يُقَال مَثَلاً: إِنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ الآْنَ وَلاَ قَبِيحٍ، إِذْ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ نَسْخًا لِلأَْحْكَامِ الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ.
أَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثَابِتَةً، وَقَدْ تَتَبَدَّل،(29/217)
وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَسْبَابٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ (1) .
فَالثَّابِتَةُ هِيَ الْغَرَائِزُ الْجِبِلِّيَّةُ كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَالْوِقَاعِ، وَالْكَلاَمِ، وَالْبَطْشِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَالْمُتَبَدِّلَةُ مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَبَدِّلاً مِنْ حَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ وَبِالْعَكْسِ، مِثْل: كَشْفِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِقَاعِ، فَهُوَ لِذَوِي الْمُرُوآتِ قَبِيحٌ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي بَعْضِهَا، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِاخْتِلاَفِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، مُسْقِطًا لِلْمُرُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهَا غَيْرُ قَادِحٍ لَهَا، وَلاَ مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ (2) .
وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقَاصِدِ، فَتَنْصَرِفُ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنَى عِبَارَةٍ أُخْرَى، وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي الأَْفْعَال فِي الْمُعَامَلاَتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف) .
6 - وَتَنْقَسِمُ الْعَادَةُ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا إِلَى: عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ.
فَالْعَادَةُ الْعَامَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ فَاشِيَةً فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ، كَالاِسْتِصْنَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ
__________
(1) الموافقات 2 / 283 - 284.
(2) الموافقات 2 / 283 - 284.(29/217)
الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ فِي كُل الأَْمَاكِنِ - وَفِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ - كَالأَْحْذِيَةِ وَالأَْلْبِسَةِ وَالأَْدَوَاتِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَلاَ فِي زَمَنٍ مِنَ الأَْزْمَانِ.
أَمَّا الْخَاصَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ خَاصَّةً فِي بَلَدٍ، أَوْ بَيْنَ فِئَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ النَّاسِ، كَاصْطِلاَحِ أَهْل الْحِرَفِ الْمُخْتَلِفَةِ بِتَسْمِيَةِ شَيْءٍ بِاسْمٍ مُعَيَّنٍ فِي مُحِيطِهِمُ الْمِهَنِيِّ، أَوْ تَعَامُلِهِمْ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلاَتِ بِطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ فِيهَا بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ وَالْبِقَاعِ (1) .
مَا تَسْتَقِرُّ بِهِ الْعَادَةُ:
7 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَادَةَ يَخْتَلِفُ اسْتِقْرَارُهَا بِحَسَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ تَسْتَقِرُّ بِمَرَّةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَبِثَلاَثِ مَرَّاتٍ عِنْدَ آخَرِينَ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَيْض فِقْرَةُ 16)
وَاخْتِبَارُ الْجَارِحَةِ فِي الصَّيْدِ لاَ بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ عَدَمِ الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ تَكْرَارًا يَغْلِبُ عَلَى
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 127، ورسالة نشر العرف 115، والموافقات 2 / 284 - 285، والمنثور 3 / 178.
(2) نهاية المحتاج 1 / 326، وابن عابدين 2 / 88، وكشاف القناع 1 / 204.(29/218)
الظَّنِّ حُصُول التَّعَلُّمِ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَالأَْصَحُّ أَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ أَهْل الْخِبْرَةِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَيْد) وَمُصْطَلَحَ: (كَلْب)
وَلِلْعَادَةِ جُمْلَةُ أَحْكَامٍ مُرْتَبِطَةٍ بِالْعُرْفِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف) .
عَارِض
انْظُرْ: أَهْلِيَّة.
عَارِيَّة
انْظُرْ: إِعَارَة.
عَاشِر
انْظُرْ: عُشْر.
__________
(1) المنثور 3 / 360.(29/218)
عَاشُورَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - عَاشُورَاءُ: هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ: يَوْمِ الْعَاشِرِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
تَاسُوعَاءُ:
2 - تَاسُوعَاءُ: هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ أَنَّ صَوْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَحَبٌّ، اسْتِدْلاَلاً بِالْحَدِيثِ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (عشر) ، والدر المختار 2 / 83، وكشاف القناع 2 / 338، والمجموع شرح المهذب 6 / 382، وحاشية القليوبي 2 / 73، وجواهر الإكليل 1 / 146، والمغني لابن قدامة 3 / 174 ط. الرياض الحديثة.
(2) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 244) ومسلم (2 / 795) والترمذي (3 / 119) واللفظ له.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (تسع) وروضة الطالبين 2 / 387، وكشاف القناع 2 / 338، والشرح الكبير 1 / 516، وجواهر الإكليل 1 / 146، المدخل لابن الحاج 1 / 286.(29/219)
الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ عَاشُورَاءَ، فَقِيل لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تُعَظِّمُهُ، فَقَال: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَسْنُونٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، كَصَوْمِ يَوْمِ تَاسُوعَاءَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِل حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَفِي فَضْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ
__________
(1) حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء فقيل له. . .) . أخرجه مسلم (4 / 798) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء. . .) . أخرجه مسلم (4 / 792) من حديث عائشة.
(3) حديث: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة. . .) . أخرجه مسلم (4 / 818 - 819) من حديث أبي قتادة.
(4) حديث: " فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله -. . . ". تقدم تخريجه فـ / 2.(29/219)
الصِّيَامِ فِيهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَال: مَا هَذَا قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَال: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ (1) .
وَمَعْنَى تَكْفِيرِ سَنَةٍ: أَيْ ذُنُوبِ سَنَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغَائِرُ خُفِّفَ مِنْ كَبَائِرِ السَّنَةِ وَذَلِكَ التَّخْفِيفُ مَوْكُولٌ لِفَضْل اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُول فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ تَاسُوعَاءَ مَعَ صِيَامِ عَاشُورَاءَ أَوْجُهًا.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَصْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ.
وَالثَّالِثُ: الاِحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ
__________
(1) حديث: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء) . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 244) ومسلم (4 / 795) من حديث ابن عباس واللفظ للبخاري.
(2) أثر ابن عباس " خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4 / 287) .(29/220)
خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلاَل وَوُقُوعِ غَلَطٍ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ (1) .
وَلِلْمَزِيدِ مِنَ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ: (ر - صَوْمُ التَّطَوُّعِ) .
التَّوْسِعَةُ فِي عَاشُورَاءَ:
4 - قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَال وَالأَْهْل فِي عَاشُورَاءَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ (3) .
قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَدْ جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ سِتِّينَ فَمَا رَأَيْنَا إِلاَّ خَيْرًا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 83، المجموع شرح المهذب 6 / 382، 383، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 195، روضة الطالبين 2 / 387، حاشية القليوبي 2 / 73، حاشية الدسوقي 1 / 516، مواهب الجليل 2 / 406، جواهر الإكليل 1 / 146، شرح الزرقاني 2 / 197، المغني لابن قدامة 3 / 174 ط. الرياض الحديثة، كشاف القناع 2 / 338 - 339، نزنهة المتقين 2 / 885 - 886.
(2) الترغيب والترهيب 2 / 77، المدخل لابن الحاج 1 / 283.
(3) حديث: " من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه. . . ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 3 / 366، من حديث أبي هريرة. وأورده ابن حبان في كتاب المجروحين (3 / 97) وقال في أحد رواته: لا يجوز الاحتجاج به.
(4) كشاف القناع 2 / 339.(29/220)
5 - أَمَّا غَيْرُ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال مِمَّا يَحْدُثُ مِنَ الاِحْتِفَال وَالاِكْتِحَال وَالاِخْتِضَابِ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَلَيْلَتَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الاِحْتِفَال فِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ فِي يَوْمِهِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ مِنْهُ، بَل مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ وَضْعِ الْوَضَّاعِينَ أَهْل الْبِدَعِ تَشْجِيعًا لِبِدْعَتِهِمُ الَّتِي يَصْنَعُونَهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ (1) .
وَلَمْ يَثْبُتْ فِي فَضْل هَذَا الْيَوْمِ إِلاَّ الصِّيَامُ فَقَطْ.
عَاصِب
انْظُرْ: عَصَبَة.
عَاقِر
انْظُرْ: عُقْم
__________
(1) رد المحتار 2 / 144، حواشي الشرواني وابن قاسم 3 / 454، جواهر الإكليل 1 / 74، كشاف القناع 2 / 338.(29/221)
عَاقِلَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاقِلَةُ: جَمْعُ عَاقِلٍ، وَهُوَ دَافِعُ الدِّيَةِ، وَسُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلاً تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، لأَِنَّ الإِْبِل كَانَتْ تُعْقَل بِفِنَاءِ وَلِيِّ الْمَقْتُول، ثُمَّ كَثُرَ الاِسْتِعْمَال حَتَّى أُطْلِقَ الْعَقْل عَلَى الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الإِْبِل. وَقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَقْلاً لأَِنَّهَا تَعْقِل لِسَانَ وَلِيِّ الْمَقْتُول، أَوْ مِنَ الْعَقْل وَهُوَ الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ الْعَشِيرَةَ كَانَتْ تَمْنَعُ الْقَاتِل بِالسَّيْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ مَنَعَتْ عَنْهُ فِي الإِْسْلاَمِ بِالْمَال (1) .
حُكْمُ تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ لِلدِّيَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَالأَْصْل فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ الْهُذَلِيَّةِ وَدِيَةِ جَنِينِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ
__________
(1) المصباح المنير 3 / 157.(29/221)
فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ (1) .
وَأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ فَلاَ وَجْهَ لإِِهْدَارِهَا، وَأَنَّ الْخَطَأَ يُعْذَرُ فِيهِ الإِْنْسَانُ، وَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِيجَابِ بَدَلِهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَقِيَامِهَا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ أَوْجَبَتْ بَدَلَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نُصْرَةُ الْقَاتِل، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ إِعَانَتَهُ عَلَى ذَلِكَ كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ عَلَى الأَْقَارِبِ (2) .
عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ:
3 - عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ عَصَبَتُهُ، وَهُمُ الأَْقْرِبَاءُ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ كَالأَْعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَالإِْخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، فَتُقْسَمُ عَلَى الإِْخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَالأَْعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الأَْبِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنِيهِمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ هُمُ الْعَصَبَةُ
__________
(1) حديث: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر. . .) . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 216) ومسلم (3 / 1310) واللفظ له.
(2) كشاف القناع 6 / 60، والبدائع 7 / 255.(29/222)
وَأَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَصَبَةِ (1) .
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْل عَلَى عَصَبَتِهَا (3) .
وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يَعْقِل عَنْ مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (4) لأَِنَّهُ ابْنُ أَخِيهَا دُونَ ابْنِهَا الزُّبَيْرِ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ أَقَارِبَهُ أَخَصُّ، إِذْ لَهُمْ غُنْمُ الإِْرْثِ فَيَلْزَمُهُمُ الْغُرْمُ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (5) .
__________
(1) حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية. . .) . أخرجه مسلم (3 / 1310 - 1311) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) حديث: (اقتتلت امرأتان من هذيل. . .) . تقدم فـ 2.
(3) حديث: (ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت. . .) . أخرجه مسلم (3 / 1309) من حديث أبي هريرة.
(4) أثر عمر (قضى على علي رضي الله عنه بأن يعقل. . .) . أخرجه البيهقي (8 / 107) وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 37) بالانقطاع.
(5) المهذب 2 / 212، والقليوبي وعميرة 4 / 154، وبداية المجتهد 2 / 449، والمغني 9 / 515، ومغني المحتاج 4 / 96.(29/222)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْقَوْل: إِنَّ الْعَاقِلَةَ هُمْ أَهْل الدِّيوَانِ إِنْ كَانَ الْقَاتِل مِنْهُمْ، وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَمَا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ (1) جَعَل الدِّيَةَ عَلَى أَهْل الدِّيوَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاتِل مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنَ النَّسَبِ (2) .
وَلاَ يُؤَدِّي الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا مَعَ الْعَاقِلَةِ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنِ الْجَانِي مِنْ ضِمْنِهَا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَانِيَ يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ مِثْل مَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْعَاقِلَةِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ كَمَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ، وَأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّل جِنَايَةً وُجِدَتْ مِنْهُ وَضَمَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّحَمُّل (4) .
__________
(1) أثر عمر (عندما دون الدواوين جعل الدية على أهل الديوان) . أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 248 - 285) وعبد الرزاق في المصنف (9 / 420) وأورده أبو يوسف في كتاب الآثار ص (221) والزيلعي في نصب الراية (4 / 398 - 399) .
(2) المبسوط 27 / 125، 126.
(3) الأم 6 / 101، والمغني 9 / 516.
(4) المبسوط 27 / 126، وبداية المجتهد 2 / 449.(29/223)
وَيَدْخُل الآْبَاءُ وَالأَْبْنَاءُ مَعَ الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّهُمْ مِنَ الْعَصَبَةِ فَأَشْبَهُوا الإِْخْوَةَ وَالأَْعْمَامَ وَلأَِنَّ الْعَقْل مَوْضُوعٌ عَلَى التَّنَاصُرِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنَّ الْعَصَبَةَ فِي تَحَمُّل الْعَقْل مُرَتَّبُونَ كَمَا هُمْ فِي الْمِيرَاثِ فِي تَقْدِيمِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، وَالآْبَاءُ وَالأَْبْنَاءُ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِمِيرَاثِهِ فَكَانُوا أَوْلَى بِتَحَمُّل عَقْلِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ لَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَدْخُل الآْبَاءُ وَالأَْبْنَاءُ مَعَ الْعَاقِلَةِ (2) لأَِنَّهُمْ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ فَكَمَا لاَ يَتَحَمَّل الْجَانِي لاَ يَتَحَمَّلُونَ.
مِقْدَارُ الدِّيَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ كُل مَا كَانَ أَرْشُهُ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَأَكْثَرَ لِقَضَاءِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ (3)
__________
(1) المبسوط 27 / 127، فتح القدير 1 / 399، وبداية المجتهد 2 / 449، والمغني 9 / 516، منح الجليل 4 / 424.
(2) الأم 6 / 101، المغني والشرح الكبير 9 / 514، 515، مغني المحتاج 4 / 95.
(3) حديث: (قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالغرة التي في الجنين على العاقلة. . .) . أخرجه مسلم (3 / 1310) من حديث أبي هريرة، انظر المغني 9 / 737.(29/223)
وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، لأَِنَّ مَنْ حَمَل الْكَثِيرَ حَمَل الْقَلِيل كَالْجَانِي فِي الْعَمْدِ (2) .
وَتُلْزَمُ الْعَاقِلَةُ بِدَفْعِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ فِي مُضِيِّ سَنَةٍ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ الثُّلُثَ فِي مُضِيِّ سَنَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تُؤَدِّيهِ فِي مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ، فَمَا جَاوَزَ الثُّلُثَيْنِ فَيُؤَدِّي فِي مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَقَل مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي؛ لأَِنَّهُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ وَبَدَل مُتْلَفِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الدِّيَةِ أَنْ لاَ يُحْمَل مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَقْل الْمَأْمُومَةِ (3) وَأَنَّ الأَْصْل فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي الثُّلُثِ فَصَاعِدًا تَخْفِيفًا عَنِ الْجَانِي لِكَوْنِهِ كَثِيرًا، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 177.
(2) الأم 6 / 101.
(3) أثر عمر (أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى. . .) . أورده ابن قدامة في المغني (7 / 777) ولم يعزه لأحد ولم نهتد إليه في المصادر الموجودة لدينا.(29/224)
كَثِيرٌ (1) فَيَبْقَى مَا دُونَ الثُّلُثِ عَلَى الأَْصْل (2) .
الْقَتْل الَّذِي تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ:
5 - لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْقَتْل الْعَمْدِ، وَلاَ دِيَةَ الْقَتْل الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ الْقَتْل الَّذِي يُنْكِرُهُ الْجَانِي وَيُصَالَحُ الْمُدَّعِي عَلَى مَالٍ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا (3) وَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِ لَوَجَبَ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ وَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُ شَخْصٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَاطِئًا مَعَ مَنْ يُقِرُّ لَهُ، فَيَأْخُذُ الدِّيَةَ مِنْ عَاقِلَتِهِ فَيُقَاسِمُهُ إِيَّاهَا، وَلأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ ثَبَتَ بِمُصَالَحَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْمَال الَّذِي يَثْبُتُ بِالاِعْتِرَافِ.
وَلاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ شَيْئًا عَنِ الْقَتْل الْعَمْدِ،
__________
(1) حديث: " الثلث كثير ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 369) ومسلم (3 / 1252) من حديث ابن عباس.
(2) المغني 9 / 505 - 506.
(3) حديث: (لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا. . .) . أخرجه البيهقي (8 / 104) موقوفا على ابن عباس. وذكره الزيلعى في نصب الراية (4 / 379) وقال: غريب مرفوعا وذكر قول ابن عباس بلفظ " لا تعقل العاقلة. . . ".(29/224)
لأَِنَّهُ عَامِدٌ فَلاَ يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ وَلاَ الْمُعَاوَنَةَ (1) .
مِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ:
6 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ هُنَاكَ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، بَل يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَسَبَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ كَالنَّفَقَةِ (2) قَال تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (3) } وَلأَِنَّ تَعْيِينَ مِقْدَارٍ فِيهِ حَرَجٌ عَلَيْهِمْ، فَرُبَّمَا تَحَمَّلُوا مَا لاَ يُطِيقُونَهُ، قَال تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) }
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلاَ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا عَنِ الْقَاتِل، فَلاَ يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إِذَا كَانَتِ الْعَاقِلَةُ كَثِيرَةً، فَإِنْ قُلْتَ الْعَاقِلَةُ يُضَمُّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِل إِلَيْهِمْ مِنَ النَّسَبِ، حَتَّى لاَ يُصِيبَ الْوَاحِدَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (5) "
__________
(1) رد المحتار 5 / 412، المغني 7 / 775 - 777 ط. الرياض، القليوبي 4 / 176 وجواهر الإكليل 2 / 271.
(2) بداية المجتهد 2 / 449، والمغني 9 / 520 - 521.
(3) سورة البقرة - الآية: 286.
(4) سورة الحج الآية 78.
(5) بدائع الصنائع 7 / 256.(29/225)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ إِذَا كَانُوا أَغْنِيَاءً، وَفِي الْوَسَطِ رُبْعُ دِينَارٍ، لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ (1) . وَقَال الْفُقَهَاءُ: لاَ يُؤْخَذُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ فِيهَا مَعْنَى التَّنَاصُرِ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل النُّصْرَةِ، وَلأَِنَّ الدِّيَةَ صِلَةٌ وَتَبَرُّعٌ بِالإِْعَانَةِ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ لَيْسُوا مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (2) } وَلأَِنَّ تَحَمُّل الدِّيَةِ مُوَاسَاةٌ فَلاَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ كَالزَّكَاةِ، وَلأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْقَاتِل، فَلاَ يَجُوزُ التَّثْقِيل بِهَا عَلَى مَنْ لاَ جِنَايَةَ مِنْهُ، وَفِي إِيجَابِهَا عَلَى الْفَقِيرِ تَثْقِيلٌ عَلَيْهِ وَتَكْلِيفٌ بِمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ (3) .
عَاقِلَةُ اللَّقِيطِ وَالذِّمِّيِّ الَّذِي يُسْلِمُ:
7 - إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ
__________
(1) الأم 6 / 102.
(2) سورة الطلاق الآية / 7.
(3) ابن عابدين 5 / 413، القوانين الفقهية ص 228، المهذب للشيرازي 2 / 214 المغني لابن قدامة 7 / 790.(29/225)
وَالذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَال (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ (2)
عَام
انْظُرْ: سَنَة
__________
(1) ابن عابدين 5 / 114، المواق 6 / 266، روضة الطالبين 9 / 354، المغني لابن قدامة 7 / 791.
(2) حديث: " أنا وراث من لا وارث له: أعقل عنه وأرثه. ". أخرجه أبو داود (3 / 320) وابن ماجه (2 / 915) في حديث المقداد بن معدي كرب. وأورده ابن القيم في تهذيب السنة (4 / 171) روايات الحديث وحسنها.(29/226)
عَامِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَامِل فِي اللُّغَةِ بِوَزْنِ فَاعِلٍ مِنْ عَمِل، يُقَال: عَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.
وَيُطْلَقُ الْعَامِل وَيُرَادُ بِهِ: الْوَالِي، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَال: أَعْمَلْتُهُ كَذَا، وَاسْتَعْمَلْتُهُ أَيْ: جَعَلْتُهُ عَامِلاً، أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَعْمَل، وَعَمَّلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ بِالتَّشْدِيدِ: وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.
وَالْعُمَالَةُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ -: أُجْرَةُ الْعَامِل، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ هُوَ: الْمُتَوَلِّي عَلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّاعِي لِجَمْعِهَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَال، وَالْمُفَرِّقُ عَلَى أَصْنَافِهَا إِذَا فَوَّضَهُ الإِْمَامُ بِذَلِكَ (1) .
وَالْعَامِل بِمَعْنَى الْوَالِي: هُوَ مَنْ يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ يَسْتَعْمِلُهُ
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني مادة: عمل، جواهر الإكليل 1 / 138، حاشية ابن عابدين 2 / 59، 37.(29/226)
فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ (1) .
وَأَحْكَامُ هَذَا الْمُصْطَلَحِ خَاصَّةً بِعَامِل الزَّكَاةِ، أَمَّا الْعَامِل بِمَعْنَى الْوَالِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي: (إِمَارَة، وَوِلاَيَة) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَاشِرُ:
2 - الْعَاشِرُ: هُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الإِْمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّا يَمُرُّونَ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: عَشَرْتُ الْمَال عَشْرًا - مِنْ بَابِ قَتَل - وَعُشُورًا: أَخَذْتُ عُشْرَهُ وَاسْمُ الْفَاعِل عَاشِرٌ وَعَشَّارٌ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - تَعْيِينُ الْعُمَّال لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَلِّي الْعُمَّال ذَلِكَ، وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الأَْمْوَال (3) ، وَقَدِ اسْتَعْمَل عُمَرُ بْنُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 30.
(2) المصباح المنير، التعريفات للجرجاني (مادة: عشر) وحاشية ابن عابدين 2 / 38، 59.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يولي العمال لقبض الزكاة ". ورد عن جمع من الصحابة بمعناه، منهم عمر بن الخطاب كما أخرجه مسلم (2 / 676 - 677) من حديث أبي هريرة.(29/227)
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا (1) وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يُرْسِلُونَ عُمَّالَهُمْ لِقَبْضِهَا، وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَال وَلاَ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَل بِالزَّكَاةِ.
مَنْ يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْعَامِل:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا الثَّمَانِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (2) }
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُل فِي اسْمِ الْعَامِل:
السَّاعِي: وَهُوَ الَّذِي يَجْبِي الزَّكَاةَ وَيَسْعَى فِي الْقَبَائِل لِجَمْعِهَا.
وَالْحَاشِرُ: وَهُوَ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ أَرْبَابَ الأَْمْوَال. وَثَانِيهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ ذَوِي السِّهَامِ مِنَ الأَْصْنَافِ.
وَالْعَرِيفُ: وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ السَّاعِيَ أَهْل الصَّدَقَاتِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ.
وَالْكَاتِبُ: وَهُوَ الَّذِي يَكْتُبُ مَا أَعْطَاهُ أَرْبَابُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْمَال، وَيَكْتُبُ لَهُمْ
__________
(1) حديث: " أنه استعمل عمر على قبض الزكاة. . . ". أخرجه البخاري (13 / 150) ومسلم (2 / 724) من حديث عبد الله بن السعدي.
(2) سورة التوبة / 60.(29/227)
بَرَاءَةً بِالأَْدَاءِ، وَيَكْتُبُ كَذَلِكَ مَا يُدْفَعُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ.
وَالْقَاسِمُ: وَهُوَ الَّذِي يَقْسِمُ أَمْوَال الزَّكَاةِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهَا.
وَيَدْخُل فِي اسْمِ الْعَامِل كَذَلِكَ: الْحَاسِبُ، وَالْخَازِنُ، وَحَافِظُ الْمَال، وَالْعَدَّادُ، وَالْكَيَّال، وَالْوَزَّانُ، وَالرَّاعِي لِمَوَاشِي الصَّدَقَةِ، وَالْحَمَّال، وَكُل مَنْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الصَّدَقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ تَقَعِ الْكِفَايَةُ بِسَاعٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَاسِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَاشِرٍ أَوْ نَحْوِهِ زِيدَ فِي الْعَدَدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
مُؤْنَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ:
5 - أُجْرَةُ كَيْل أَمْوَال الصَّدَقَةِ وَوَزْنِهَا، وَمُؤْنَةُ دَفْعِهَا مِنَ الْمَالِكِ إِلَى السَّاعِي عَلَى رَبِّ الْمَال، وَكَذَا أُجْرَةُ الْكَيَّال وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَال، لأَِنَّهَا لِتَوْفِيَةِ الْوَاجِبِ، كَالْبَائِعِ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ.
أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّال وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ مُسْتَحِقَّاتِ الأَْصْنَافِ فَعَلَى سَهْمِ الْعَامِل بِلاَ خِلاَفٍ. إِذْ لَوِ أَلْزَمْنَاهَا الْمَالِكَ لَزِدْنَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ (1)
__________
(1) البدائع 2 / 44، حاشية ابن عابدين 2 / 38، 59، جواهر الإكليل 1 / 138، المجموع للنووي 6 / 187، مغني المحتاج 3 / 109، روضة الطالبين 2 / 313، المغني لابن قدامة 2 / 654، كشاف القناع 2 / 274.(29/228)
شُرُوطُ الْعَامِل:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا عَدْلاً سَمِيعًا ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، لِيَعْلَمَ مَا يَأْخُذُهُ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ غَيْرَ الْوَاجِبِ، أَوْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ، وَلِئَلاَّ يَدْفَعَ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ يَمْنَعَ عَنْ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا مِنَ الإِْمَامِ لِعُمُومِ أَمْرِ الزَّكَاةِ، أَيْ: أَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِ الأَْمْوَال وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا تَفْوِيضًا عَامًّا، كَأَنْ يَكُونَ مُنَفِّذًا فَقَطْ، عَيَّنَ لَهُ الإِْمَامُ مَا يَأْخُذُهُ وَمَنْ يُعْطِيهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَبْعَثُ الْعُمَّال وَيَكْتُبُ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَ (1) ، وَكَذَلِكَ فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَّالِهِ، وَلأَِنَّ هَذِهِ رِسَالَةٌ لاَ وِلاَيَةٌ.
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث العمال ويكتب لهم ما يأخذون ". ورد ذلك مع الصحابي قرة بن دعموص النميري في قصة أخرجها أحمد (5 / 72) من حديث جرير بن حازم، وأوردها الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 82) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح.(29/228)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل عَبْدًا، لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِل عَلَيْكُمْ عَبْدٌ (1) الْحَدِيثَ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ هَاشِمِيًّا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 144، وَجِبَايَة ف 13) .
مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل:
7 - إِذَا تَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقُّ الْعَامِل مِنْهَا؛ لأَِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَل فِيهَا شَيْئًا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَتُوَزَّعُ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الأَْصْنَافِ السَّبْعَةِ الأُْخْرَى.
وَالإِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْعَامِل، إِنْ شَاءَ أَرْسَلَهُ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ، بَل يَدْفَعُ إِلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَال: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا
__________
(1) حديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 121) من حديث أنس بن مالك.(29/229)
وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، قَال: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْل قَوْلِكَ، فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَل فَكُل وَتَصَدَّقْ (1) .
وَإِنْ شَاءَ عَقَدَ لَهُ عَقْدًا وَاسْتَأْجَرَهُ إِجَارَةً صَحِيحَةً سَمَّى لَهُ فِيهَا قَدْرَ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ.
8 - وَإِذَا زَادَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى أُجْرَتِهِ رَدَّ الْفَاضِل عَلَى سَائِرِ الأَْصْنَافِ، وَقَسَمَ عَلَى سِهَامِهِمْ.
أَمَّا إِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ أَقَل مِنْ أُجْرَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكَمَّل لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ الَّتِي بِيَدِهِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ مَا قَبَضَهُ؛ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ هُوَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ، وَلاَ يُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَال شَيْئًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ أَمْوَال الزَّكَاةِ الَّتِي بِيَدِهِ لأَِنَّهَا أُجْرَةُ عَمَلِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ أَيْنَ يُتَمَّمُ لَهُ؟ فَالْمَذْهَبُ
__________
(1) حديث: " إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل. . . ". أخرجه مسلم (2 / 723 - 724) .(29/229)
عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يُتَمَّمُ مِنْ حَقِّ سَائِرِ الأَْصْنَافِ، لأَِنَّهُ يَعْمَل لَهُمْ، فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيل: يُتَمَّمُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِكُل صِنْفٍ سَهْمًا، فَلَوْ قَسَمْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَْصْنَافِ وَنَقَصْنَا حَقَّهُمْ فَضَّلْنَا الْعَامِل عَلَيْهِمْ.
وَقِيل: الإِْمَامُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سِهَامِ الأَْصْنَافِ الأُْخْرَى، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْحَاكِمَ حَيْثُ يَسْتَوْفِي بِهِ حَقَّ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ، وَيُشْبِهُ الأَْجِيرَ، فَخُيِّرَ بَيْنَ حَقَّيْهِمَا.
وَقِيل: إِنْ كَانَ الإِْمَامُ بَدَأَ بِنَصِيبِ الْعَامِل، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ تَمَّمَ مِنْ سِهَامِ الأَْصْنَافِ الأُْخْرَى، وَإِنْ كَانَ بَدَأَ بِسِهَامِ الأَْصْنَافِ الأُْخْرَى فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ وَجَدَ سَهْمَ الْعَامِل يَنْقُصُ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لأَِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ.
وَقِيل: إِنْ فَضَل عَنْ قَدْرِ حَاجَةِ الأَْصْنَافِ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنَ الْفَضْل، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنْهُمْ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْخِلاَفُ فِي جَوَازِ التَّكْمِيل مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّكْمِيل مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا، بَل لَوْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَجْعَل أُجْرَةَ الْعَامِل كُلَّهَا فِي بَيْتِ الْمَال، وَيَقْسِمُ الزَّكَاةَ عَلَى سَائِرِ الأَْصْنَافِ(29/230)
جَازَ، لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ أَمْوَال الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل أُجْرَةٌ، إِلاَّ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا رَأَى إِعْطَاءَ الْعَامِل أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَيُوَفِّرُ الزَّكَاةَ عَلَى بَاقِي الأَْصْنَافِ جَازَ لَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَل لَهُ رِزْقًا ثَابِتًا فِي بَيْتِ الْمَال نَظِيرَ عِمَالَتِهِ، وَلاَ يُعْطِيهِ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ شَيْئًا جَازَ كَذَلِكَ (1) .
تَلَفُ مَال الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِل:
9 - لَوْ تَلِفَ مَال الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِل بِلاَ تَفْرِيطٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَكِيل: وَنَاظِرُ مَال الْيَتِيمِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ.
أَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَال بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، بِأَنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ أَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ عَلَيْهِمْ فَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ أُجْرَتِهِ إِذَا تَلِفَ الْمَال بِدُونِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 60، جواهر الإكليل 1 / 138، المجموع للنووي 6 / 175، 187، 188، روضة الطالبين 2 / 327، مغني المحتاج 3 / 109، 116، المغني لابن قدامة 2 / 668، كشاف القناع 2 / 276، 277.(29/230)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ، وَتُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ أَجِيرٌ، وَلأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْهَا.
وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ عَلَى سَبِيل الأُْجْرَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّهُ يَسْقُطُ، كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ تَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ؛ لأَِنَّ الْعَامِل عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ لاِشْتِغَالِهِ بِهَا، لاَ عَلَى سَبِيل الأُْجْرَةِ؛ لأَِنَّ الأُْجْرَةَ مَجْهُولَةٌ (2) .
بَيْعُ الْعَامِل مَال الزَّكَاةِ:
10 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ يَجُوزُ لِلسَّاعِي بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَال الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، بَل يُوصِلُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِأَعْيَانِهَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ أَهْل الزَّكَاةِ أَهْل رُشْدٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَالِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوْ يُوصِلُهَا إِلَى الإِْمَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَاعَ بِلاَ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ.
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 175، مغني المحتاج 3 / 119، جواهر الإكليل 2 / 139، البدائع 2 / 44، كشاف القناع 2 / 276.
(2) البدائع 2 / 44، حاشية ابن عابدين 2 / 38، 59.(29/231)
فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةُ الْبَيْعِ، كَأَنْ خَافَ هَلاَكَ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ، أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ خَطَرٌ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى رَدِّ جُبْرَانٍ، أَوْ إِلَى مُؤْنَةِ النَّقْل، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ لِلضَّرُورَةِ (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا:
11 - يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَوِ الْعَامِل أَنْ يُعَيِّنَ لِلنَّاسِ شَهْرًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَيْهَا، كَالْمَوَاشِي وَالنُّقُودِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرُ مِنَ السَّنَةِ هُوَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ (2) وَلأَِنَّهُ أَوَّل السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، وَلِيَتَهَيَّأَ أَرْبَابُ الأَْمْوَال لِدَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَتَهَيَّأَ الْمُسْتَحِقُّونَ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ قَبْل شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، لِيَصِل إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 175، مغني المحتاج 3 / 119، المغني لابن قدامة 2 / 674.
(2) حديث: " هذا شهر زكاتكم ". أخرجه مالك (322) وأبو عبيد في الأموال (177) موقوفا على عثمان بن عفان وأخرجه البيهقي (4 / 148) وقال: رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان، وأراد بذلك أن أصله في البخاري كما في التلخيص الحبير (2 / 164) .(29/231)
كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيَبْعَثُ الإِْمَامُ الْعُمَّال لأَِخْذِ زَكَوَاتِهَا وَقْتَ وُجُوبِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي كَذَلِكَ: أَنْ يَعُدَّ الْمَاشِيَةَ عَلَى الْمَاءِ إِنْ كَانَتْ تَرِدُ الْمَاءَ، وَفِي أَفْنِيَتِهِمْ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِدُ الْمَاءَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مِيَاهِهِمْ أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ (1) .
فَإِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَال بِعَدَدِهَا - وَهُوَ ثِقَةٌ - فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، أَوْ أَرَادَ الاِحْتِيَاطَ بَعْدَهَا عَدَّهَا.
فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعَدِّ بَعْدَ الْعَدِّ، وَكَانَ الْفَرْضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، أَعَادَ الْعَدَّ ثَانِيَةً.
وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَال فِي حَوَلاَنِ الْحَوْل كَأَنْ يَقُول الْمَالِكُ: لَمْ يَحِل الْحَوْل بَعْدُ، وَيَقُول السَّاعِي: بَل حَال الْحَوْل، أَوْ قَال الْمَالِكُ: هَذِهِ السِّخَال تَوَلَّدَتْ بَعْدَ الْحَوْل، وَقَال السَّاعِي: بَل تَوَلَّدَتْ قَبْلَهُ، أَوْ قَال
__________
(1) حديث: " تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم. . . ". أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص299) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه ابن ماجه (1 / 577) بلفظ مقارب، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 318) ، ولكن له شاهدًا من حديث عائشة أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 79) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.(29/232)
السَّاعِي: كَانَتْ مَاشِيَتُكَ نِصَابًا ثُمَّ تَوَالَدَتْ، وَقَال الْمَالِكُ: بَل مَاشِيَتِي تَمَّتْ نِصَابًا بِالتَّوْلِيدِ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَظَائِرُهَا مِمَّا لاَ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَتُهُ، وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرِّفْقِ.
وَإِنْ رَأَى السَّاعِي - الْمُفَوَّضُ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا - الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَل.
وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَال، وَرَأَى أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَعَل أَيْضًا، لأَِنَّ الْمَالِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ زَكَاتَهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْعَامِل، فَمَعَ إِذْنِهِ أَوْلَى.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ السَّاعِي - لأَِخْذِ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ - مَنْ يَخْرُصُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى خَرْصِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَارِصَانِ ذَكَرَانِ حُرَّانِ.
كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ - أَوِ الْعَامِل إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا لِلْقِسْمَةِ - أَنْ يَكُونَ عَارِفًا عَدَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَقَدْرَ حَاجَتِهِمْ، لِيَتَعَجَّل حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلاَكَ الْمَال عِنْدَهُ.
وَيَبْدَأُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْعَامِلِينَ، لأَِنَّ(29/232)
اسْتِحْقَاقَهُمْ أَقْوَى، لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُمْ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ (1) .
عَامّ
انْظُرْ: عُمُوم.
عَانِسٌ
انْظُرْ: عُنُوس.
__________
(1) المراجع السابقة، وجواهر الإكليل 1 / 139، حاشية ابن عابدين 2 / 39.(29/233)
عَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَانَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الشَّعْرُ النَّابِتُ فَوْقَ الْفَرْجِ، وَتَصْغِيرُهَا عُوَيْنَةٌ وَقِيل: هِيَ الْمَنْبَتُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، قَال الْعَدَوِيُّ وَالنَّفْرَاوِيُّ: الْعَانَةُ: هِيَ مَا فَوْقَ الْعَسِيبِ وَالْفَرْجِ وَمَا بَيْنَ الدُّبُرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْعَانَةِ الشَّعْرُ الَّذِي فَوْقَ ذَكَرِ الرَّجُل وَحَوَالَيْهِ وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الَّذِي حَوَالَيْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَانَةِ:
حَلْقُ الْعَانَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْعَانَةِ سُنَّةٌ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبَ
__________
(1) المغرب والمصباح المنير.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 353 ط والحلبي، والفواكه الدواني 2 / 401.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، والمجموع 1 / 289.(29/233)
حَلْقِ الْعَانَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا أَمَرَهَا زَوْجُهَا بِذَلِكَ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ حَلْقِ الْعَانَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ الإِْزَالَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ إِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِأَيِّ مُزِيلٍ مِنْ حَلْقٍ وَقَصٍّ وَنَتْفٍ وَنَوْرَةٍ (2) ، لأَِنَّ أَصْل السُّنَّةِ يَتَأَدَّى بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ مُزِيلٍ (3) ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَل لإِِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ فِي حَقِّ الرَّجُل (4) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الأَْوْلَى فِي حَقِّهَا النَّتْفُ (5) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي قَوْلٍ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ (6) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ طُرُوقِ النِّسَاءِ لَيْلاً حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ (7) .
__________
(1) المجموع 1 / 289، وكفاية الطالب الرباني 2 / 353 ط. الحلبي، وابن عابدين 5 / 261، والفروع 1 / 130.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، وكشاف القناع 1 / 76، والمغني 1 / 86.
(3) فتح الباري 10 / 344.
(4) فتح الباري 10 / 344، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، والمغني 1 / 86، وكفاية الطالب الرباني 2 / 353 ط. الحلبي، وابن عابدين 5 / 261، والاختيار 4 / 167.
(5) ابن عابدين 5 / 261، وحاشية الجمل 2 / 48، وفتح الباري 10 / 344.
(6) كفاية الطالب الرباني 2 / 353 - 354، وفتح الباري 10 / 344.
(7) حديث جابر: في النهي عن طروق النساء ليلا. أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 341) .(29/234)
قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَفْضَلِيَّةَ الْحَلْقِ (1) .
تَوْقِيتُ حَلْقِ الْعَانَةِ:
4 - يُسْتَحَبُّ حَلْقُ الْعَانَةِ فِي كُل أُسْبُوعٍ مَرَّةً، وَجَازَ فِي كُل خَمْسَةَ عَشْرَ، وَكُرِهَ تَرْكُهُ وَرَاءَ الأَْرْبَعِينَ (2) ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ وَنَتْفِ الإِْبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لاَ نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: ذِكْرُ الأَْرْبَعِينَ تَحْدِيدٌ لأَِكْثَرِ الْمُدَّةِ، وَلاَ يَمْنَعُ تَفَقُّدَ ذَلِكَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ: الاِحْتِيَاجُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْشْخَاصِ، وَالضَّابِطُ: الْحَاجَةُ فِي هَذَا وَفِي جَمِيعِ الْخِصَال الْمَذْكُورَةِ (4) ، (أَيْ خِصَال الْفِطْرَةِ) .
دَفْنُ شَعْرِ الْعَانَةِ:
5 - يُسْتَحَبُّ دَفْنُ مَا أُخِذَ مِنْ شَعْرِ الْعَانَةِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 122، والفروع 1 / 130، والمغني 1 / 86.
(2) الدر المختار 5 / 261، وكشاف القناع 1 / 76.
(3) حديث أنس: وقت لنا في قص الشارب. أخرجه مسلم (1 / 222)
(4) فتح الباري 10 / 346.(29/234)
وَمُوَارَاتُهُ فِي الأَْرْضِ (1) .
قَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الرَّجُل يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَال يَدْفِنُهُ، قُلْتُ: بَلَغَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ.
وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ. الشَّعْرِ وَالأَْظْفَارِ (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا دَفْنَهَا لِكَوْنِهَا أَجْزَاءً مِنَ الآْدَمِيِّ (3) .
حَلْقُ عَانَةِ الْمَيِّتِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِ الْمَيِّتِ (4) ، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ (5) ، فَقَدْ أَوْرَدَ الزَّرْقَانِيُّ أَثَرًا بِلَفْظِ يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ مَا يُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُحْلَقُ وَلاَ يُنَوَّرُ (6) .
__________
(1) المجموع 1 / 289 - 290.
(2) المغني 1 / 88، وكشاف القناع 1 / 76. وحديث: " أمر بدفن الشعر والأظفار ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5 / 232 - ط. دار الكتب العلمية) من حديث وائل بن حجر، وقال البيهقي: (هذا إسناد ضعيف) .
(3) فتح الباري 10 / 346.
(4) الاختيار 1 / 92.
(5) الزرقاني 2 / 88، والتاج والإكليل 2 / 212.
(6) حديث: " يصنع بالميت ما يصنع بالعروس ". أورده ابن حجر في التلخيص (2 / 106) بلفظ: " افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم " وقال: قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجده ثابتًا، وقال أبو شامة في كتاب السواك: هذا الحديث غير معروف.(29/235)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ شَعْرِ عَانَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ عَوْرَتِهِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فَلاَ يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْل مَنْدُوبٍ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ اسْتِحْبَابَ أَخْذِ شَعْرِ عَانَةِ الْمَيِّتِ، وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي يَقُولُونَ بِكَرَاهَتِهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: شَعْر) .
النَّظَرُ إِلَى الْعَانَةِ لِلضَّرُورَةِ:
7 - يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْعَانَةِ وَإِلَى الْعَوْرَةِ عَامَّةً لِحَاجَةٍ مُلْجِئَةٍ (3) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِهَا (بَدَنِ الْمَرْأَةِ) مِنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ (وَمِثْل ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل) لِحَدِيثِ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَال: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِل، وَمَنْ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ يُقْتَل فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يَنْبُتْ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنَ السَّبْيِ (4) .
وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ قَدْ سَرَقَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 97.
(2) المجموع 5 / 178 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج 3 / 133، وبدائع الصنائع 5 / 124. والمغني 6 / 558، وكشاف القناع 1 / 265.
(4) حديث عطية القرظي: كنت من سبي قريظة. أخرجه أبو داود (4 / 561) والترمذي (4 / 145) وقال: (حديث حسن صحيح) .(29/235)
فَقَال: انْطُرُوا إِلَى مُؤْتَزَرِهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ فِي التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُل مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَة)
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ حَلْقَ الْعَانَةِ لِمَنْ لاَ يُحْسِنُهُ ضِمْنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُجِيزُ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ (3) .
دَلاَلَةُ ظُهُورِ شَعْرِ الْعَانَةِ عَلَى الْبُلُوغِ:
8 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الإِْنْبَاتَ - وَهُوَ ظُهُورُ الشَّعْرِ الْخَشِنِ لِلْعَانَةِ - عَلاَمَةُ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا (4) .
وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو حَنِيفَةَ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةَ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا (5) .
__________
(1) المغني 6 / 558.
(2) مغني المحتاج 3 / 133.
(3) كشاف القناع 1 / 265.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 293. والمغني 4 / 509، وفتح الباري 5 / 277.
(5) عمدة القاري 13 / 239.(29/236)
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدِ اعْتَبَرَ الإِْنْبَاتَ أَمَارَةً عَلَى الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمُسْلِمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بُلُوغ فِقْرَةُ 10) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَانَةِ:
9 - تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْل فِي قَطْعِ عَانَةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ عَانَةُ الرَّجُل، لأَِنَّهُ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ وُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْل وَكَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 338، وفتح الباري 5 / 277.
(2) المغني 8 / 42، وأسنى المطالب 4 / 58، وانظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6 / 133، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 4 / 381.(29/236)
عَاهَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاهَةُ لُغَةً: الآْفَةُ، يُقَال: عِيهَ الزَّرْعُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - فَهُوَ مَعْيُوهٌ (1) .
وَعَاهَ الْمَال يَعِيهِ: أَصَابَتْهُ الْعَاهَةُ - أَيِ الآْفَةُ - وَأَرْضٌ مَعْيُوهَةٌ: ذَاتُ عَاهَةٍ، وَأَعَاهُوا وَأَعْوَهُوا وَعَوَّهُوا: أَصَابَتْ مَاشِيَتَهُمْ أَوْ زَرْعَهُمُ الْعَاهَةُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الْعَاهَةِ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَرَضُ:
2 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: السَّقَمُ نَقِيضُ الصِّحَّةِ، وَقَال الْفَيُّومِيُّ: الْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْل، وَالآْلاَمُ وَالأَْوْرَامُ أَعْرَاضٌ عَنِ الْمَرَضِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ.
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) القاموس المحيط.
(3) قواعد الفقه للبركني 371.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير.(29/237)
فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالْعَاهَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ فِيمَا نَزَل بِالإِْنْسَانِ مِنِ اضْطِرَابِ شَأْنِهِ أَنَّهُ يَزُول، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي شَخْصِهِ أَمْ كَانَ فِي الْمَال، يَقُول الْجَوْهَرِيُّ: يُقَال: أَمْرَضَ الرَّجُل إِذَا وَقَعَ فِي مَالِهِ عَاهَةٌ (2) .
وَتَنْفَرِدُ الْعَاهَةُ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى، كَالأَْقْطَعِ فِي حَدٍّ مَثَلاً، فَهِيَ عَاهَةٌ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مَرَضٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا فِي الشَّرِيعَةِ.
ب - الْعَيْبُ:
3 - الْعَيْبُ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى: الشَّيْنِ، وَبِمَعْنَى الْوَصْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْعَاهَةِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الأَْخِيرِ كَثِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الإِْنْسَانِ أَمِ الْحَيَوَانِ أَمِ الزَّرْعِ أَمْ غَيْرِهَا.
فَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ.
ج - الْجَائِحَةُ:
4 - الْجَائِحَةُ: كُل شَيْءٍ لاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ كَسَمَاوِيٍّ كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْجَرَادِ
__________
(1) التعريفات.
(2) الصحاح.(29/237)
وَالْمَطَرِ (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَاهَةِ وَالْجَائِحَةِ عَلاَقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعَاهَاتِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْعَاهَةُ ذَاتُهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاهَةِ:
الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ:
أَوَّلاً: اسْتِعَانَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ
كَالأَْقْطَعِ وَالأَْشَل:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ، كَالأَْقْطَعِ وَالأَْشَل، وَوَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل مُتَبَرِّعًا يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِعَانَةُ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، لَزِمَهُ الاِسْتِعَانَةُ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِل اسْتِعَانَةِ ذِي الْعَاهَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ.
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِعَانَةِ فِي
__________
(1) الموسوعة مصطلح جائحة 15 / 67، وحاشية الدسوقي 3 / 185.(29/238)
السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الاِسْتِعَانَةِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، وَقَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيُفَرِّقُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَال: إِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْخَدَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فِي الْحَضَرِ يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ (1) .
أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَفِي إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُعِيدُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَيَنْقُل الْعَدَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ (3) .
ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ وَهُوَ قَوْل
__________
(1) المبسوط للسرخسي 1 / 112، والمغني 1 / 123.
(2) منتهى الإرادات 1 / 36، والمبسوط 1 / 112، والمدونة 1 / 6.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 200.(29/238)
الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ (1) ، وَقَاسَهُ الشِّيرَازِيُّ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَعِبَارَتُهُ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الأَْقْطَعُ عَلَى الْوُضُوءِ وَوَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَزِمَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَلَّى وَأَعَادَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مُعِينًا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَوِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ.
ثَانِيًا: غُسْل مَكَانِ الْقَطْعِ مِنَ الأَْقْطَعِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَقُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ أَوْ شَعْرٌ أَوْ ظُفْرٌ لاَ يَلْزَمُهُ غُسْل مَا ظَهَرَ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ ابْتِدَاءَ طَهَارَةٍ جَدِيدَةٍ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِغُسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ فَلاَ يَعُودُ بِزَوَالِهِ، كَمَا إِذَا مَسَحَ وَجْهَهُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ غَسَلَهُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ قُطِعَ أَنْفُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعِيدُ الطَّهَارَةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قُطِعَ مَحَل الْفَرْضِ بِكَمَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غُسْلُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُغْسَل
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 195 وحاشية القليوبي على شرح الجلال على المنهاج 1 / 55، والأم 1 / 37.(29/239)
وَمَسْحُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْسَحُ (1) .
وَلَكِنْ هَل يَدْخُل عَظْمُ الْمَرْفِقِ بِتَمَامِهِ فِي مَحَل الْفَرْضِ؟ وَهَل يَدْخُل عَظْمُ الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ؟
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ فَعَلَيْهِ مَسْحُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنَ الْمَرْفِقِ خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ فَوْقِ الْمَرْفِقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَسْحُهُ، فَإِنَّ مَا فَوْقَ الْمَرْفِقِ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلطَّهَارَةِ، وَيَنُصُّ الْمَرْغِينَانِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ يَدْخُلاَنِ فِي الْغُسْل خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إِنْ فَكَّ عِظَامَ الْمَرْفِقِ فَأَصْبَحَ عَظْمُ الذِّرَاعِ مُنْفَصِلاً عَنْ عَظْمِ الْعَضُدِ، وَجَبَ غَسْل رَأْسِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُول: لاَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ حَالَةَ الاِتِّصَال لِضَرُورَةِ غَسْل الْمَرْفِقِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْوُجُوبِ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ تَبَعًا لِنَصِّ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ:
__________
(1) المهذب 1 / 49، وانظر 1 / 24 طبعة بيروت، شرح الخرشي 1 / 123، 126، بيروت، وفتح القدير 1 / 10 طبع بيروت، ابن عابدين 1 / 69.
(2) شرح الجلال المحلي على المنهاج 1 / 49، وانظر المبسوط 1 / 17، وشرح منتهى الإرادات 1 / 54.(29/239)
قَال مَالِكٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ رِجْلاَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ: إِذَا تَوَضَّأَ غَسَل مَا بَقِيَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَغَسَل مَوْضِعَ الْقَطْعِ أَيْضًا.
وَقَال سَحْنُونٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَيَبْقَى مِنَ الْكَعْبَيْنِ شَيْءٌ؟ قَال نَعَمْ، إِنَّمَا يُقْطَعُ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَيْنِ.
وَيَسْأَل سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ فَيَقُول: فَإِنْ هُوَ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، أَيَغْسِل مَا بَقِيَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَيَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ؟ قَال: لاَ يَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِل شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ إِذَا قُطِعَتَا مِنَ الْمَرْفِقِ لأَِنَّ الْقَطْعَ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الذِّرَاعَيْنِ، وَلأَِنَّ الْمَرْفِقَيْنِ فِي الذِّرَاعَيْنِ فَلَمَّا ذَهَبَ الْمَرْفِقَانِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ (1) .
ثَالِثًا: الأَْعْضَاءُ الزَّائِدَةُ:
9 - الأَْعْضَاءُ الزَّائِدَةُ يَجِبُ غَسْلُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ لِجَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا فِي الْغَسْل الْمَسْنُونِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا غَسْلُهَا أَوْ مَسْحُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ: فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوَانِ مُتَمَاثِلاَنِ كَالْيَدَيْنِ عَلَى مَنْكِبٍ
__________
(1) المدونة 1 / 23، 24.(29/240)
وَاحِدٍ وَلَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُ الزَّائِدَةِ مِنَ الأَْصْلِيَّةِ، وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا لِلأَْمْرِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (1) } .
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَمْيِيزُ الزَّائِدَةِ مِنَ الأَْصْلِيَّةِ، وَجَبَ غَسْل الأَْصْلِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ وَكَذَا الزَّائِدَةُ إِذَا نَبَتَتْ عَلَى مَحَل الْفَرْضِ.
أَمَّا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَلَمْ تُحَاذِ مَحَل الْفَرْضِ فَالاِتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِهَا فِي الْوُضُوءِ وَلاَ مَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ نَابِتَةً فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَحَاذَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا مَحَل الْفَرْضِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ غَسْل مَا حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ مِنْهَا (2) ، أَوْ كُلَّهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ (3) ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ فِيهَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يَعْلَى، وَالثَّانِي: قَوْل ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ: إِنَّ النَّابِتَةَ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهَا، قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً، لأَِنَّهَا أَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَل عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ، وَرَجَّحَهُ الْفَتُوحِيُّ، حَيْثُ قَال: فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْهُمَا: وَيَدٌ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) انظر فتح القدير 1 / 16، والمهذب 1 / 16 وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 123، والمغني 1 / 123.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 123.(29/240)
مَحَل الْفَرْضِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ (1) .
الْجِلْدَةُ الَّتِي كُشِطَتْ:
10 - إِذَا كُشِطَتِ الْجِلْدَةُ وَانْفَصَلَتْ عَنِ الْجِسْمِ عُومِل مَا ظَهَرَ مِنَ الْجِسْمِ بَعْدَ كَشْطِهَا مُعَامَلَةَ الظَّاهِرِ مُطْلَقًا.
أَمَّا إِذَا كُشِطَتْ وَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ، فَفِي الْغَسْل يَجِبُ غَسْلُهَا، وَتُعَامَل كَسَائِرِ الْبَشَرَةِ.
أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَإِنْ تَقَلَّعَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ وَتَدَلَّى مِنْهَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ غَسْلُهُ مَعَ غَسْل الْيَدِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَحَل الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ الأُْصْبُعَ الزَّائِدَةَ.
وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ الْعَضُدَ ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِنَ الْعَضُدِ.
وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ، وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ، لَزِمَهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ فَهُوَ فِي مَحَل الْفَرْضِ. وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ بِالآْخَرِ، لَزِمَهُ غَسْل مَا حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى الذِّرَاعِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ لَزِمَهُ غَسْل مَا تَحْتَهُ مَعَ غَسْلِهِ (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 53.
(2) راجع المغني 1 / 124، والمهذب 1 / 24، والمبدع 1 / 125.(29/241)
رَابِعًا: الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ وَنَحْوُهَا:
11 - إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ يَصِل الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ سُنَّةً سَوَاءٌ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ أَوْ أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ (1) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَبِوُجُوبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ تَخْلِيل أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ سُنَّةٌ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالتَّخْلِيل وَجَبَ التَّخْلِيل عِنْدَ الْجَمِيعِ.
فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الأَْصَابِعُ مُلْتَصِقَةً وَمُلْتَحِمَةً فَلاَ يَجُوزُ فَتْقُهَا لِتُخَلَّلٍ، بَل يَحْرُمُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَضَرَّةٌ، وَقَدْ صَارَتْ كَالأُْصْبُعِ الْوَاحِدَةِ (3) .
خَامِسًا: سَلَسُ الْبَوْل وَنَحْوُ:
12 - مَنْ عَاهَتُهُ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ كَاسْتِحَاضَةٍ وَسَلَسِ مَذْيٍ وَخُرُوجِ رِيحٍ دَائِمٍ وَنَاصُورٍ وَبَاسُورٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجُرُوحِ الدَّائِمَةِ
__________
(1) كفاية الأخيار 1 / 6، والمغني 1 / 108.
(2) راجع العدوي على الخرشي 1 / 123 - 126.
(3) كفاية الأخيار 1 / 25 ط. دار الإيمان، والمغني 1 / 108.(29/241)
الْفَوَرَانِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسَائِل، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5، وَاسْتِحَاضَة ف 30) .
سَادِسًا: الْخَارِجُ مِنْ فَتْحَةٍ قَامَتْ مَقَامَ السَّبِيلَيْنِ:
13 - إِذَا كَانَتِ الْعَاهَةُ تَتَمَثَّل فِي فَتْحَةِ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ دَمٍ أَوْ دُودٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ أَوْ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: قَصَرُوا التَّعْمِيمَ بِالْقَوْل بِنَقْضِ الْوُضُوءِ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ وَهِيَ مَا إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الأَْصْلِيُّ وَكَانَتِ الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلإِْنْسَانِ مِنْ مَخْرَجٍ تَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَضَلاَتُ، فَأُقِيمَ الْمُنْفَتِحُ تَحْتَ السُّرَّةِ مَكَانَ الْمَخْرَجِ وَهُوَ الْقُبُل وَالدُّبُرُ، فَأَخَذَ الْخَارِجُ مِنْ هَذَا الْمَخْرَجِ حُكْمَ الْخَارِجِ مِنْهُمَا فَنُقِضَ الْوُضُوءُ قَوْلاً وَاحِدًا (1) .
أَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةَ فَلَهُمْ فِيهَا خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ) .
وَالْحَنَفِيَّةُ عَمَّمُوا الْقَوْل بِنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ
__________
(1) حاشية العدوي بشرح الخرشي 1 / 154، نهاية المحتاج حاشية الشبراملسي 1 / 112.(29/242)
كُل خَارِجٍ نَجِسٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا بِشُرُوطِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْفَذًا مُنْفَتِحًا كَالآْنِفِ وَالْفَمِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، كَالْفَتْحَةِ تَحْتَ السُّرَّةِ أَمْ فَوْقَهَا، حَيْثُ قَاسُوا مَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْخَارِجِ مِنْهُمَا (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ فِي الْجِسْمِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، لأَِنَّ الْخَارِجَ بَوْلٌ وَغَائِطٌ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمَحَل، وَلَكِنَّهُمْ فَارَقُوهُمْ فِي غَيْرِ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، كَالرِّيحِ وَالدَّمِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ طَاهِرًا فَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً إِنْ كَانَ كَثِيرًا دُونَ الْيَسِيرِ (2) .
سَابِعًا: الْبَوْل قَائِمًا لِمَنْ بِهِ عَاهَةٌ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْقُعُودِ لَهُ أَنْ يَبُول قَائِمًا، كَمَنْ بِهِ عَاهَةٌ فِي رِجْلِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ أَوْ بِهِ بَاسُورٌ فَإِذَا جَلَسَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً ضَايَقَهُ ذَلِكَ وَنَزَفَ مِنْهُ
__________
(1) حاشية سعدي جلبي على الهداية 1 / 42، 43.
(2) المبدع شرح المقنع 1 / 156 - 157، المغني 1 / 184، 185، مسائل الإمام أحمد بتحقيق على المهنا 1 / 67.(29/242)
بَاسُورُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْعِلَل.
وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَال قَائِمًا فِيمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَال قَائِمًا (1) وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبُول الرَّجُل قَائِمًا (2) .
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ لِجُرْحٍ كَانَ فِي مَأْبِضِهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الأَْثِيرِ (3) ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَال قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ (4) وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ.
وَقِيل: إِنَّمَا بَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا لِوَجَعٍ فِي صُلْبِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ (5) ، أَمَّا غَيْرُ صَاحِبِ
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 89. وحديث: " انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 328) ومسلم (1 / 228) من حديث حذيفة، واللفظ لمسلم. والسباطة: ملقى التراب والقمامة، وهي المزبلة.
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما ". أخرجه ابن ماجه (1 / 112) والبيهقي (1 / 102) من حديث جابر وضعف إسناده البوصيري في الزوائد (1 / 93) .
(3) نيل الأوطار 1 / 90.
(4) حديث: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه ". أخرجه الحاكم (1 / 182) والبيهقي (1 / 101) من حديث أبي هريرة. وأورده ابن حجر في فتح الباري (1 / 330) وقال: ضعفه الدارقطني والبيهقي.
(5) معالم السنن للخطابي 1 / 29.(29/243)
الْعَاهَةِ فَالْبَوْل قَائِمًا مَكْرُوهٌ لَهُ تَنْزِيهًا.
ثَامِنًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (1) } قَال الشَّافِعِيُّ: فَدَل حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَالإِْعْوَازُ مِنَ الْمَاءِ، وَالآْخَرُ: لِلْمَرِيضِ فِي حَضَرٍ كَانَ أَوْ سَفَرٍ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفُرُوعِ (ر: تَيَمُّم ف 21 - 22) .
الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الصَّلاَةِ:
أَوَّلاً - أَذَانُ الأَْعْمَى:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّ أَذَانَ الأَْعْمَى جَائِزٌ إِذَا عَلِمَ دُخُول الْوَقْتِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
__________
(1) سورة المائدة 6.
(2) الأم 1 / 39.(29/243)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَذَانَ الْبَصِيرِ أَفْضَل مِنْ أَذَانِ الأَْعْمَى، فَيُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَذَانُ الأَْعْمَى، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ يُعْلِمُهُ أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ فَلاَ كَرَاهَةَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَذَانُ الأَْعْمَى إِنْ كَانَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي أَذَانِهِ أَوْ قَلَّدَ ثِقَةً فِي دُخُول الْوَقْتِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى، لأَِنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ لَمْ يُكْرَهْ لأَِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ أَعْمَى كَانَ يُؤَذِّنُ مَعَ بِلاَلٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بَصِيرًا، لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَعْرِفُ الْوَقْتَ فَرُبَّمَا غَلِطَ، فَإِنْ أَذَّنَ الأَْعْمَى صَحَّ أَذَانُهُ، قَال فِي الْمُبْدِعِ: كَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَذَانَ الأَْعْمَى، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسِ إِقَامَتَهُ (4) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 260، وشروح الهداية والكفاية مع فتح القدير 1 / 220، بدائع الصنائع 1 / 150.
(2) الدسوقي 1 / 197 - 198.
(3) المجموع 3 / 103. وحديث: " أذان ابن مكتوم مع بلال ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 99) ومسلم (1 / 287) من حديث ابن عمر.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 414، والمبدع 1 / 315.(29/244)
ثَانِيًا: اسْتِقْبَال الأَْعْمَى لِلْقِبْلَةِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنِ الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ الأَْدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا تَحَرَّى، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِقْبَال ف 36) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلأَْعْمَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ بَل يَسْأَل عَنِ الأَْدِلَّةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا إِلَى الْقِبْلَةِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ الْجَاهِل بِالأَْدِلَّةِ أَوْ يَكْفِيهِ الاِسْتِدْلاَل بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ مُكَلَّفًا عَدْلاً عَارِفًا بِطَرِيقِ الاِجْتِهَادِ أَوْ مِحْرَابًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ وَيُصَلِّي إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً (1) .
18 - أَمَّا مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أُخْرَى كَالْمَشْلُول وَمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ مُفَارَقَةَ سَرِيرِهِ لِعَاهَةٍ فِي عَيْنَيْهِ، أَوْ لِجُرْحٍ فِي جَسَدِهِ لَوْ حَرَّكَ لَنَزَفَ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ وَنَحْوَهُمْ إِذَا وَجَدُوا مَنْ يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَوْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُمْ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 / 226 - 227.(29/244)
أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ وَجَدَ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِعَاهَةٍ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ إِنْ تَحَرَّكَ سَرِيرُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَالَةٍ وَيُعِيدُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) } وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتْرُكَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَعَادَ (3) .
وَثَانِيهَا: قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لاَ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِمُسَاعِدٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْوَقْتِ
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ تَحْوِيلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ جُرْحٍ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُحْتَال لَهُ فِي - ذَلِكَ، فَإِنْ هُوَ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ فِي
__________
(1) الأم 1 / 85، والمبسوط 1 / 216.
(2) سورة البقرة / 144، 150.
(3) الأم 1 / 85.(29/245)
الْوَقْتِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ (1) .
ثَالِثُهَا: قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلاَ يُعِيدُ صَلاَتَهُ مَا دَامَ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّل إِلَى الْقِبْلَةِ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَيْهَا، نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (2) .
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلاَةِ، وَالْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ، ثُمَّ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الأَْرْكَانِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، فَكَذَلِكَ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الشُّرُوطِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ (3) .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (4) }
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5) .
ثَالِثًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
19 - مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ أَوِ
__________
(1) المدونة 1 / 76.
(2) السرخسي 1 / 216، والمبدع 1 / 400.
(3) المبسوط 1 / 216.
(4) سورة البقرة / 286.
(5) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة.(29/245)
الْجُلُوسِ أَوِ السُّجُودِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الأَْرْكَانِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ أَوِ النَّفَل (1) .
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَسَائِل.
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: فِي الْعَاجِزِ عَنِ السُّجُودِ:
20 - إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ السُّجُودِ وَأَمْكَنَ رَفْعُ وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا لِيَسْجُدَ عَلَيْهَا:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلاَ يَرْفَعُ إِلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ وَقَال: صَل عَلَى الأَْرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلاَّ فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَل سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ (2) .
__________
(1) مسائل الإمام أحمد بتحقيق د / على المهنا 2 / 349، وسنن البيهقي 2 / 36، 37 ومصنف عبد الرزاق 2 / 475، 478، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 271 - 272.
(2) الهداية 2 / 4، وفتح القدير على الهداية 1 / 458، المدونة 1 / 78، والمواق 2 / 4. وحديث جابر: " صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء. . . ". أخرجه البزار (كشف الأستار 1 / 274 - 275) والبيهقي في المعرفة (3 / 225) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 148) وقال: رواه البزار وأبو يعلى بنحوه. . . ورجال البزار رجال الصحيح.(29/246)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ يُومِئُ بِالسُّجُودِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؛ لأَِنَّ الْكُل مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْمَرِيضِ يُومِئُ أَوْ يَسْجُدُ عَلَى مِرْفَقَةٍ؟ قَال: كُل ذَلِكَ قَدْ رُوِيَ، لاَ بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالإِْيمَاءُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَالسُّجُودُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ قُعُودِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ يُؤَدِّيهَا قَاعِدًا إِنِ اسْتَطَاعَ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَال كَيْفَ أُصَلِّي؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل قَائِمًا
__________
(1) حديث: " السجود على وسادة عند العجز عن السجود ". روى عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2 / 477 - 478) والبيهقي (2 / 307) .
(2) حديث " الإيماء بالسجود عند العجز عن السجود ". تقدم من حديث جابر فـ 20.(29/246)
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْقُعُودِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُعُودَ عَلَى هَيْئَةِ التَّرَبُّعِ مُسْتَحَبٌّ، لأَِنَّ الْقُعُودَ فِي حَالَةِ الْعَجْزِ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْقِيَامُ يُخَالِفُ قُعُودَ الصَّلاَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ مُخَالِفًا لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ الاِفْتِرَاشَ فِي الْقُعُودِ أَفْضَل مِنَ التَّرَبُّعِ لأَِنَّ الاِفْتِرَاشَ قُعُودُ عِبَادَةٍ بِخِلاَفِ التَّرَبُّعِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكْمُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ:
22 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ وَنُدِبَ عَلَى الْجَنْبِ الأَْيْمَنِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ السَّابِقِ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا مَعَ إِمْكَانِ الصَّلاَةِ عَلَى جَنْبِهِ أَنَّهُ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " وصل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587) .
(2) المدونة 1 / 79، والخرشي 1 / 296، والقليوبي 1 / 145، المبسوط 1 / 212، والمغني 2 / 142 - 144.(29/247)
يَصِحُّ (1) ، وَالدَّلِيل يَقْتَضِي أَلاَّ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى جَنْبٍ وَلأَِنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى الاِسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى جَنْبٍ، فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إِيمَاءً (3) .
وَقَدْ جَوَّزَ الْمَرْغِينَانِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ (4) .
فَالأَْصْل فِي صَلاَةِ الْمَرِيضِ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (5) } قَال
__________
(1) المدونة 1 / 76، والمغني 2 / 146، والخرشي 1 / 296.
(2) حديث عمران بن حصين: " صل قائما فإن لم تستع فقاعدا ". تقدم فـ 21.
(3) الهداية 2 / 4 حديث: " يصل المريض قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء. . . ". أورده الزيلعى في نصب الراية (2 / 176) وقال: حديث غريب.
(4) فتح القدير 1 / 458.
(5) سورة آل عمران / 191.(29/247)
الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ بَيَانُ حَال الْمَرِيضِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ كَانَ عَاجِزًا فَقَدَرَ أَوْ كَانَ قَادِرًا فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا فَاسْتَطَاعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، أَوْ كَانَ مُسْتَطِيعًا فَعَجَزَ، صَلَّى كُلٌّ حَسَبَ الْحَالَةِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِعُذْرِهِ وَأَعْلَمُ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ اسْتَطَاعَهُ انْتَقَل إِلَيْهِ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ، وَلاَ يَسْتَأْنِفُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ صَلاَتِهِ انْتَقَل إِلَى الْجُلُوسِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَبِحَالِهِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا (2) ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلاَتَهُ كُلَّهَا قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَيُؤَدِّيَهَا جَمِيعًا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَتَأْخُذُ كُل حَالَةٍ حُكْمَهَا (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُوَرٍ ثَلاَثٍ فِي الْحُكْمِ:
أُولاَهَا: إِنْ صَلَّى الصَّحِيحُ بَعْضَ صَلاَتِهِ
__________
(1) المبسوط 1 / 212.
(2) مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله تحقيق الدكتور علي المهنا 2 / 352، والمغني 2 / 149 - 150، والإنصاف 2 / 309، والمهذب 1 / 101، والخرشي 1 / 298.
(3) المهذب 1 / 101.(29/248)
قَائِمًا، ثُمَّ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ يُتِمُّهَا قَاعِدًا، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ يُومِئُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، لأَِنَّهُ بِنَاءُ الأَْدْنَى عَلَى الأَْعْلَى، فَصَارَ كَالاِقْتِدَاءِ، فَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ.
وَثَانِيَتُهَا: مَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِمَرَضٍ، ثُمَّ صَحَّ، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ اسْتَقْبَل.
وَثَالِثَتُهَا: إِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلاَتِهِ بِإِيمَاءٍ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، اسْتَأْنَفَ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، فَكَذَا الْبِنَاءُ.
أَمَّا زُفَرُ فَجَوَّزَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ تَجْوِيزِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ:
24 - مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ يُومِئُ بِطَرَفِهِ، فَإِنْ عَجَزَ أَجْرَى أَفْعَال الصَّلاَةِ عَلَى قَلْبِهِ، وَلاَ يَتْرُكُ الصَّلاَةَ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، وَهَذَا هُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ (2) ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ
__________
(1) الهداية مع حاشية سعدى جلبي 2 / 7، وانظر فتح القدير 1 / 457.
(2) الخرشي 1 / 299، ونهاية المحتاج 1 / 470، والمبدع 1 / 101.(29/248)
بِطَرَفِهِ (1) وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلاَةُ، لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، أَشْبَهَ الْقَادِرَ عَلَى الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (2) .
وَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتِ الصَّلاَةُ عَنْهُ، وَلاَ يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلاَ بِقَلْبِهِ وَلاَ بِحَاجِبَيْهِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَال: لاَ أَشُكُّ أَنَّ الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ يُجْزِئُهُ، وَلاَ أَشُكُّ أَنَّهُ بِقَلْبِهِ لاَ يُجْزِئُهُ، وَأَشُكُّ فِيهِ بِالْعَيْنِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ زَادَتْ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَ مُفِيقًا، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا كَثُرَ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْل لاَ يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ (3) .
رَابِعًا - إِمَامَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ الصَّلاَةِ:
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ إِمَامًا بِمِثْلِهِ فِي هَذِهِ الْعَاهَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ ذِي
__________
(1) حديث الحسين بن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فإن لم يستطع أومأ بطرفه ". ذكره ابن مفلح في الفروع (2 / 46 / 47) وأشار إلى عدم ثبوته.
(2) المبدع 1 / 101.
(3) الهداية مع فتح القدير 2 / 5.(29/249)
الْعَاهَةِ لِلصَّحِيحِ، فَجَوَّزَهَا بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهَا آخَرُونَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاء ف 40) .
خَامِسًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ عَلَى صُورَةِ مُبْطِلٍ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ:
الْعَاهَةُ هُنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَاهَةٌ عَارِضَةٌ كَالتَّنَحْنُحِ وَالسُّعَال وَنَحْوِهِمَا، وَعَاهَةٌ خِلْقِيَّةٌ كَالتَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَنَحْوِهَا.
26 - أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِالسُّعَال وَالتَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِمَا حَرْفَانِ فَالصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ حَرْفَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لاَ يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ.
أَمَّا إِذَا اسْتَطَاعَ دَفْعَهُ وَفَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ لأَِنَّ مَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْقِرَاءَةِ يُلْحَقُ بِهَا (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ كَالسُّعَال وَالتَّأَوُّهِ مَثَلاً، أَمَّا السُّعَال وَنَحْوُهُ فَالأَْشْبَهُ بِأُصُولِهِمْ - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ - أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلاَتَهُ. . وَلأَِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ
__________
(1) فتح القدير 1 / 398.(29/249)
وَالنُّصُوصُ الْعَامَّةُ تَمْنَعُ مِنَ الْكَلاَمِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يُخَصِّصُهُ (1) ، وَلَهُمْ فِي التَّنَحْنُحِ قَوْلاَنِ، وَظَاهِرُ قَوْل أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ النَّحْنَحَةَ لاَ تُسَمَّى كَلاَمًا، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ إِسْمَاعِيل الزَّاهِدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ (3) .
27 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْعَاهَةُ الْخِلْقِيَّةُ كَصَاحِبِ التَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَالأَْلْثَغِ وَنَحْوِهِمْ فَهَذِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فِي حَال الصَّلاَةِ مُنْفَرِدًا، وَيُعَامَل هَؤُلاَءِ مُعَامَلَةَ الأُْمِّيِّ، فِي أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُمْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ إِصْلاَحُ هَذَا الْمَرَضِ وَعِلاَجُهُ، وَصَلاَتُهُمْ صَحِيحَةٌ فُرَادَى وَمَأْمُومِينَ لِقَارِئٍ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ.
أَمَّا إِمَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْقَارِئِ فَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّأْتَأَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ، فَيَكْرَهُونَ الإِْمَامَةَ لِصَاحِبِهَا إِلاَّ لِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي قِرَاءَتِهِمْ نَقْصًا عَنْ حَال الْكَمَال بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ، وَصَحَّتِ الصَّلاَةُ بِإِمَامَتِهِمْ لأَِنَّهُمْ يَأْتُونَ
__________
(1) المدونة 1 / 104، والمغني 2 / 52.
(2) المغني 2 / 52.
(3) العناية على الهداية 1 / 399.(29/250)
بِالْوَاجِبِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ حَرَكَةً أَوْ حَرْفًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ كَتَكْرِيرِ الآْيَةِ.
وَأَمَّا الأَْرَتُّ، وَهُوَ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي غَيْرِهِ، وَالأَْلْثَغُ وَهُوَ الَّذِي يُبَدِّل حَرْفًا بِغَيْرِهِ، فَهَذَانِ وَأَمْثَالُهُمَا لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِمَا، لأَِنَّهُمْ كَالأُْمِّيِّ، وَالأُْمِّيُّ لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا فِيهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ كَالتَّأْتَأَةِ، وَمَا فِيهِ تَغْيِيرُ حَرْفٍ بِحَرْفٍ، أَوْ إِدْغَامُهُ بِهِ، وَيُسَمِّي خَلِيلٌ صَاحِبَ كُل هَذَا (أَلْكَنُ) ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِأَلْكَنَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتِ اللُّكْنَةُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالأَْلْكَنُ هُوَ: مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إِخْرَاجَ بَعْضِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ لاَ يَنْطِقُ بِالْحَرْفِ أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَنْطِقُ بِهِ مُغَيَّرًا، فَيَشْمَل التِّمْتَامَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطِقُ فِي أَوَّل كَلاَمِهِ بِتَاءٍ مُكَرَّرَةٍ، وَالأَْرَتَّ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَل اللاَّمَ تَاءً أَوْ مَنْ يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، وَالأَْلْثَغَ وَهُوَ مَنْ يُحَوِّل اللِّسَانَ مِنَ السِّينِ إِلَى الثَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّاءِ إِلَى الْغَيْنِ، أَوِ اللاَّمِ أَوِ الْيَاءِ، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ، أَوْ مَنْ لاَ يَتِمُّ رَفْعُ لِسَانِهِ لِثِقَلٍ
__________
(1) راجع في هذا فتح القدير 1 / 375، والمبدع 2 / 76 وشرح المحلي على المنهاج 1 / 230، الموسوعة مصطلح (ألثغ ف 2) .(29/250)
فِيهِ، وَالطَّمْطَامَ وَهُوَ مَنْ يُشْبِهُ كَلاَمُهُ كَلاَمَ الْعَجَمِ وَنَحْوِهِمْ (1) .
سَادِسًا - أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي إِسْقَاطِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ:
28 - مِنَ الْعَاهَاتِ الَّتِي تُسْقِطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ فَرْضَ الْجُمُعَةِ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْعَاهَةُ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْ حُضُورِ الصَّلاَةِ كَالشَّلَل، وَالْعَمَى فِيمَنْ لاَ يَجِدُ قَائِدًا، وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْل مِنْ خِلاَفٍ، وَقَطْعُ الرِّجْلَيْنِ لِمَنْ لاَ يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعَاهَةُ الْمُنَفِّرَةُ كَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الزَّكَاةِ:
أَثَرُ الْعَاهَةِ قَدْ تَكُونُ مُؤَثِّرَةً فِي الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ أَوِ الإِْجْزَاءُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً - مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ عَاهَتُهُ الْجُنُونُ، سَوَاءٌ كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا، هَل تَجِبُ
__________
(1) انظر الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوي 2 / 32.
(2) الهداية مع فتح القدير 1 / 345، الخرشي 2 / 90 شرح الجلال على المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة 1 / 266 - 268، شرح منتهى الإرادات 1 / 292.(29/251)
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَخْرُجُ لِوَقْتِهَا، وَلَوْ كَانَ أَثْنَاءَ جُنُونِهِ. أَمْ لاَ؟
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 11) وَمُصْطَلَحِ: (جُنُون فِقْرَةُ 14) .
ثَانِيًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الإِْجْزَاءِ فِي الزَّكَاةِ:
30 - الْحَيَوَانُ الَّذِي أُصِيبَ بِعَاهَةٍ، كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْهَرَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَاهَاتِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِهِ فِي الزَّكَاةِ، بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدِّهِ عَلَى رَبِّ الْمَال.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حَيَوَانَاتِ النِّصَابِ إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا مَعُوهَةً مَئُوفَةً، فَإِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ مِنَ الْمَعِيبِ، وَيُرَاعَى الْوَسَطُ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَال شِرَاءَ صَحِيحَةٍ لإِِخْرَاجِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهَا (2)
__________
(1) حديث ابن عباس: " إياك وكرائم أموالهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 357) ومسلم (1 / 50) .
(2) حديث: " ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيرها. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 240) من حديث غاضرة قيس، وفي إسناده انقطاع ولكن وصله الطبراني في معجمه الصغير (1 / 334) .(29/251)
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَكْلِيفَ الصَّحِيحَةِ عَنِ الْمِرَاضِ إِخْلاَلٌ بِالْمُوَاسَاةِ، وَمَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَيْهَا (1) ، وَهَذَا هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ غُلاَمُ الْخَلاَّل إِلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ صَحِيحَةٌ، لأَِنَّ أَحْمَدَ قَال: لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي الأَْضَاحِيِّ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ ذَاتِ الْعَاهَةِ فِي حَدِيثِ: وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً، وَلاَ ذَاتَ عَوَارٍ (3) .
وَعَلَى هَذَا، فَيَشْتَرِي شَاةً صَحِيحَةً يُخْرِجُهَا عَنْ غَنَمِهِ الْمِرَاضِ وَالْمَعُوهَاتِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا مَالِكٌ، قَدْ نَقَلَتِ الْمُدَوَّنَةُ قَوْلَهُ: يُحْسَبُ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ كُل ذَاتِ عَوَارٍ، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهَا، وَالْعَمْيَاءُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ، وَلاَ تُؤْخَذُ فِيهَا، وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ، وَسُئِل مَالِكٌ: إِنْ كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا قَدْ جَرِبَتْ؟ فَقَال: عَلَى رَبِّ الْمَال أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَاةٍ فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ حَقِّهِ، وَسُئِل: وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْعَوَارِ إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ ذَوَاتَ عَوَارٍ كُلُّهَا؟ قَال: نَعَمْ.
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَا اسْتَثْنَاهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) المغني 2 / 600.
(2) المرجع السابق، والأم 2 / 5، وفتح القدير 2 / 182.
(3) سبل السلام 2 / 124، والمبدع 2 / 319. وحديث: " ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 321) من حديث أبي بكر.(29/252)
حَدِيثِهِ السَّابِقِ فَقَال: لاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ إِلاَّ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ خَيْرًا وَأَفْضَل (1) .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ حَيَوَانَاتُ النِّصَابِ كُلُّهَا مَرِيضَةً مَعُوهَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنِ الصَّحِيحَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا، وَبَعْضُهَا صَحِيحًا، فَلاَ يَقْبَل عَنْهَا فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ الصَّحِيحَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ نِصْفُ مَالِهِ صَحِيحًا، وَنِصْفُهُ الآْخَرُ مَعِيبًا، كَانَ لَهُ إِخْرَاجُ صَحِيحَةٍ وَمَعِيبَةٍ، قَال: وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُهُ (2) .
ثَالِثًا: أَثَرُ عَاهَةِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ عَاهَةِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ، وَاخْتِلاَفُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الزَّكَاةُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (3) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْدْرَاكِ (4) .
__________
(1) المدونة 1 / 312.
(2) المغني 2 / 600.
(3) سورة البقرة / 267
(4) المبسوط للسرخسي 2 / 206.(29/252)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) .
وَعِنْدَ مَالِكٍ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّرْعِ إِذَا أَفْرَكَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَاءِ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ الْعُشْرُ إِلاَّ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ (3) ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل مَالِكٍ إِذَا أَفْرَكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لاِبْنِ أَبِي مُوسَى الَّذِي قَال: تَجِبُ زَكَاةُ الْحَبِّ يَوْمَ حَصَادِهِ (4) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .
فَإِذَا هَلَكَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ بِعَاهَةٍ قَبْل وَقْتِ الْوُجُوبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ (5) .
وَإِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِيمَا هَلَكَ، سَوَاءٌ كَانَ هَلاَكُهُ بَعْدَ حَصَادِهِ أَوْ قَبْلَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو حَنِيفَةَ النِّصَابَ، وَاشْتَرَطَهُ الصَّاحِبَانِ وَقَالُوا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ مَحَلِّهِ، وَالْقَوْل بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بَعْدَ هَلاَكِهِ يُحِيلُهُ إِلَى صِفَةِ الْعُسْرِ (6) .
وَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا هَلَكَتِ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ قَبْل
__________
(1) سورة الأنعام / 141
(2) المدونة 1 / 348.
(3) التنبيه 58، والمنهاج برح الجلال 2 / 20.
(4) انظر المغني 2 / 702.
(5) انظر المراجع السابقة.
(6) فتح القدير 2 / 202.(29/253)
أَنْ يُدْخِلَهَا بَيْتَهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل حَصَادِهِ وَبَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ بَعْدَ حَصَادِهَا، فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا كُلِّهِ، إِلاَّ إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْهَلاَكِ نِصَابٌ.
وَإِذَا جَمَعَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ فِي مَكَانٍ، وَعَزَل مِنْهُ الْعُشْرَ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَلِفَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي حِفْظِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ التَّفْرِيطِ مِقْيَاسًا، فَإِذَا حَصَل الْهَلاَكُ بَعْدَ أَنْ حَلَّتْ زَكَاةٌ فَمَنْ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ أَوْ فِي تَأْخِيرِ الدَّفْعِ يُعَامَل بِتَفْرِيطِهِ، وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِ يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَتَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ: فَإِنْ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ لاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ وَلاَ تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ، كَمَا لاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ مَا هَلَكَ مِنْ أَمْوَالِهِ قَبْل الْحَوْل (2) .
وَلاَ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ بِجَعْل الثِّمَارِ فِي الْجَرِينِ، وَبِجَعْل الزَّرْعِ فِي الْبَيْدَرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْل ذَلِكَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ سَقَطَتْ، وَلاَ يُحَاسَبُ عَلَى مَا هَلَكَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تَسْتَقِرَّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الزَّكَاةُ ابْتِدَاءً (3) .
وَإِذَا كَانَ الْهَلاَكُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِتَفْرِيطِهِ ضَمِنَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِيمَا هَلَكَ مِنَ الأَْمْوَال، فَيُحَاسَبُ
__________
(1) المدونة 1 / 344.
(2) الأم 2 / 44.
(3) المبدع لابن مفلح 2 / 346.(29/253)
عَلَيْهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا زَكَاتَهَا، سَوَاءٌ تَلِفَ الْكُل أَمِ الْبَعْضُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ لِبَعْضِهَا بِدُونِ تَفْرِيطٍ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْل الْوُجُوبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ وَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي الْبَاقِي إِذَا كَانَ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَجَبَ فِي الْبَاقِي بِقَدْرِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ خُرِصَ أَوْ لَمْ يُخْرَصْ.
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الْحَجِّ:
أَوَّلاً: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ:
32 - مَنْ أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ كَالْمَشْلُول وَالْمَقْطُوعِ وَنَحْوِهِمَا.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ سَقَطَ الْحَجُّ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 19) .
ثَانِيًا: مَا لاَ يُقْبَل فِي الْهَدْيِ لِعَاهَةٍ فِيهِ:
33 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ مَا لاَ يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَاتِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: أُضْحِيَّة فِقْرَةُ 26 (وَهَدْي) .
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
34 - قَدْ يُصَابُ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ الْعَاهَاتِ الَّتِي تُسْقِطُ الأَْهْلِيَّةَ لِلتَّعَاقُدِ(29/254)
كَالْجُنُونِ، أَوْ تَقْصُرُهَا عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ التَّعَامُل، وَقَدْ شَرَحَ الأُْصُولِيُّونَ هَذِهِ الْعَاهَاتِ وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِعَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ (1) . ر: (أَهْلِيَّة) (وَبَيْع) فِقْرَةُ 26، وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي يُبْحَثُ تَأْثِيرُ الْعَاهَاتِ فِيهَا مَا يَلِي:
أَوَّلاً - بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا أَوْ بَعْدَهُ فَتُصِيبُهَا الْعَاهَةُ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الثَّمَرَةِ تُصِيبُهَا عَاهَةٌ بِسَبَبِ جَائِحَةٍ، فَتَتْلَفُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَار - فِقْرَةُ 17 وَجَائِحَة 6 - 10) .
ثَانِيًا - أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنَ الأُْجْرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُصِيبَتِ الثَّمَرَةُ أَوِ الزَّرْعُ بِآفَةٍ أَوْ جَائِحَةٍ فَأَتَتْ عَلَى الْمَحْصُول كُلِّهِ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل، وَإِذَا أَهْلَكَتِ الْبَعْضَ جَرَى فِيهِ الشَّرْطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعَامِل وَصَاحِبِ الأَْرْضِ (2) .
__________
(1) راجع في عوارض الأهلية التقرير والتحبير 2 / 172، والتنقيح والتوضيح 2 / 167، وغيرها، المجموع للنووي 9 / 171، والمغني 3 / 566، شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 5 / 4، بدائع الصنائع 5 / 135.
(2) راجع سبل السلام 3 / 77، والمغني 5 / 411، وحاشية القليوبي على المنهاج 3 / 67، والهداية مع فتح القدير 9 / 470.(29/254)
ثَالِثًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ تُصِيبُ الْمُسْلَمَ فِيهِ:
37 - إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، بِأَنْ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَانْقَطَعَ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَل وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُسْلِمِ وُجُودَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ حُلُول الأَْجَل، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالْجُمْهُورُ يُرَجِّحُونَ تَخْيِيرَ الْمُسْلِمِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَلَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَقْدُورٍ فِي الظَّاهِرِ، وَهَذَا يَسْتَوْجِبُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَعُرُوضُ الاِنْقِطَاعِ كَإِبَاقِ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي إِلاَّ الْخِيَارَ (1) .
وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ - غَيْرَ زُفَرَ - الْجُمْهُورَ فِيمَا إِذَا كَانَ الاِنْقِطَاعُ بَعْدَ حُلُول الأَْجَل وَقَبْل التَّسْلِيمِ، فَقَالُوا: لاَ يَبْطُل الْعَقْدُ، وَالْخِيَارُ لِرَبِّ الْمَال: إِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ وَانْتُظِرَ وُجُودُهُ (2) .
__________
(1) انظر فتح العزيز للرافعي بشرح الوجيز هامش المجموع 9 / 245، والمبدع لابن مفلح 4 / 193.
(2) فتح القدير 7 / 82، وتبيين الحقائق 4 / 113، والشرح الصغير 4 / 370، والمغني 4 / 26.(29/255)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ، وَبِهِ قَال زُفَرُ وَرِوَايَةً عَنِ الْكَرْخِيِّ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ الْمُعَيَّنُ قَبْل التَّسْلِيمِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّسْلِيمِ فِي كُلٍّ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لاَ يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ (1) .
رَابِعًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي النِّكَاحِ:
38 - قَدْ يُصَابُ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ بِعَاهَةٍ قَبْل عَقْدِ الزَّوَاجِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَثَرَ الْعَاهَةِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَوْ إِمْضَائِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَفَرْقُ النِّكَاحِ) .
خَامِسًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ:
39 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْجِهَادِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَمَنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ لاَ جِهَادَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجِهَادَ بَذْل الْجَهْدِ - وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ - فِي قِتَال أَعْدَاءِ اللَّهِ، لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَمَنْ لاَ وُسْعَ لَهُ وَلاَ طَاقَةَ عِنْدَهُ لاَ يُكَلَّفُ بِالْجِهَادِ.
__________
(1) فتح العزيز 9 / 245، وفتح القدير 7 / 82، وكشاف القناع 3 / 245.(29/255)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (جِهَاد ف 21) .
الْفِرَارُ مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِعَاهَةٍ:
40 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُكْمِ اجْتِنَابِ مَنِ ابْتُلِيَ بِعَاهَةِ الْجُذَامِ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْمْرَاضِ الَّتِي تَنْتَقِل مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى السَّلِيمِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جُذَام ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .(29/256)
عِبَادَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّل لِلْغَيْرِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ وَلاَ يَجُوزُ فِعْل ذَلِكَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَتُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الطَّاعَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَكَرُوا لَهَا عِدَّةَ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: مِنْهَا:
(1) - هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّل لَهُ.
(2) - هِيَ الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلاَفِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ.
(3) - هِيَ فِعْلٌ لاَ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ.
(4) - هِيَ اسْمٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَْقْوَال، وَالأَْفْعَال، وَالأَْعْمَال الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، تفسير الخازن في تفسير سورة الفاتحة، وتفسير البيضاوي في سورة الفاتحة، التعريفات للجرجاني.
(2) المصادر السابقة.(29/256)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُرْبَةُ:
2 - الْقُرْبَةُ هِيَ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الإِْحْسَانِ لِلنَّاسِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
ب - الطَّاعَةُ:
3 - الطَّاعَةُ هِيَ: مُوَافَقَةُ الأَْمْرِ بِامْتِثَالِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ (1) ، قَال تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (2)
4 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ (الْعِبَادَةُ - الْقُرْبَةُ - الطَّاعَةُ) عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ.
فَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَتَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ، وَالْقُرْبَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ، وَالطَّاعَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَمْ لاَ، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ، أَمْ لاَ (3) .
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَكُل مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ: عِبَادَةٌ، وَطَاعَةٌ، وَقُرْبَةٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 237.
(2) سورة النساء / 59.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 72.(29/257)
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْوَقْفُ، وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ: قُرْبَةٌ، وَطَاعَةٌ، لاَ عِبَادَةٌ.
وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: طَاعَةٌ، لاَ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُل بَعْدَهَا، وَلاَ عِبَادَةَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى نِيَّةٍ (1) ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَعَدَمُ النِّيَّةِ لاَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْعَمَل عِبَادَةً، وَقَال: وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ، وَالْقُرْبَةَ، وَالطَّاعَةَ تَكُونُ فِعْلاً وَتَرْكًا، وَالْعَمَل الْمَطْلُوبُ شَرْعًا يُسَمَّى عِبَادَةً إِذَا فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ تَعَبُّدًا، أَوْ تَرَكَهُ تَعَبُّدًا أَمَّا إِذَا فَعَلَهُ لاَ بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ، بَل لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ فَلاَ يَكُونُ عِبَادَةً (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (3)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِبَادَةِ:
الْعِبَادَةُ لاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ وَحْيٍ:
5 - الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ: تَهْذِيبُ النَّفْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالاِنْقِيَادِ لأَِحْكَامِهِ بِالاِمْتِثَال لأَِمْرِهِ، فَلاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 72 و 2 / 237، وعزاه إلى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
(2) البحر المحيط 1 / 293 - 294.
(3) سورة الروم / 38.(29/257)
طَرِيقِ الْوَحْيِ بِنَوْعَيْهِ: الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ الَّذِي لاَ يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، قَال تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) .
أَوْ بِمَا يُقِرُّهُ اللَّهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (2) أَمَّا الأُْمُورُ الْعَادِيَّةُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ لِتَنْظِيمِ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: التَّوْجِيهُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْل بَيْنَهُمْ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الاِجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، لِتَحْقِيقِ الْعَدْل، وَدَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِخَبَرِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3) وَالْحِكْمَةُ فِي إِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا: تَمَيُّزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَتَمْيِيزُ رُتَبِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: تَجِبُ النِّيَّةُ
__________
(1) سورة النجم / 3 - 4.
(2) حديث: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 301) ومسلم (3 / 1343) من حديث عائشة
(3) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب.(29/258)
فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، فَالْوُضُوءُ وَالْغُسْل يَتَرَدَّدَانِ بَيْنَ التَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ وَالْعِبَادَةِ، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِيَّةِ وَالتَّدَاوِي، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلاِسْتِرَاحَةِ وَيَكُونُ لِلاِعْتِكَافِ، وَدَفْعُ الْمَال لِلْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ الزَّكَاةِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهَا، وَالصَّلاَةُ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا، أَوْ نَفْلاً، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْفَرْضِ عَنِ النَّفْل.
أَمَّا الَّتِي لاَ تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، كَالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالأَْذْكَارِ فَلاَ تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ لأَِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِصُورَتِهَا (1) .
النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
7 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعِبَادَةَ فِي هَذَا الصَّدَدِ إِلَى أَقْسَامِ ثَلاَثَةٍ:
1 - عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
2 - عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
3 - عِبَادَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا.
فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ: كَالصَّلاَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 47، نهاية المحتاج 1 / 158، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 12، حاشية ابن عابدين 1 / 280 - 304، كشاف القناع 2 / 260.(29/258)
وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْل. . فَالأَْصْل فِيهَا امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ، إِلاَّ مَا أُخْرِجَ بِدَلِيلٍ، كَالصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الْبَدَنِيَّةِ الاِبْتِلاَءُ، وَالْمَشَقَّةُ، وَهِيَ تَحْصُل بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالأَْفْعَال الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَ يَتَحَقَّقُ بِفِعْل نَائِبِهِ، فَلَمْ تُجْزِئِ النِّيَابَةُ، إِلاَّ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا لِلنُّسُكِ، وَلَوِ اسْتَنَابَ فِيهِمَا وَحْدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِدَلِيلٍ وَرَدَ فِيهِ: فَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدَّى عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ (1) : (ر: صَوْم) .
الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ: أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّدَقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّذْرِ، وَالأُْضْحِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ، لأَِنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الإِْمَامِ إِمَّا وَاجِبٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ يُفَرِّقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ النِّيَابَةِ.
__________
(1) حديث ابن عباس: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . .) . أخرجه مسلم (2 / 880) .(29/259)
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ بَيْنَ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ الدَّائِمِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالْحَجِّ (1) .
وَصْفُ الْعِبَادَةِ بِالأَْدَاءِ، أَوِ الْقَضَاءِ، أَوِ الإِْعَادَةِ:
8 - الْعِبَادَةُ: إِنْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، وَوَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْوَقْتِ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ سَبَقَ فِعْلُهَا فِيهِ فَإِعَادَةٌ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَضَاءٌ، أَوْ قَبْلَهُ فَتَعْجِيلٌ، فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالنَّوَافِل الْمُؤَقَّتَةُ كُلُّهَا تُوصَفُ بِالأَْدَاءِ، وَبِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، كَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، فَلاَ تُوصَفُ بِأَدَاءٍ، وَلاَ قَضَاءٍ وَكَذَا الْوُضُوءُ، وَالْغُسْل لاَ يُوصَفَانِ بِأَدَاءٍ وَلاَ قَضَاءٍ، وَالزَّكَاةُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْل الْحَوْل يُسَمَّى تَعْجِيلاً.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
جَعْل ثَوَابِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِغَيْرِهِ:
9 - ذَهَبَ عُلَمَاءُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِلَى أَنَّ
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 3 / 113 شرح المحلي مع القليوبي 3 / 173، 2 / 338، المغني 5 / 91، حاشية ابن عابدين 1 / 237 - 493، جواهر الإكليل 1 / 163.(29/259)
لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَ مَا فَعَلَهُ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ فِي الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ، وَالْوَقْفِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، وَالْحَجِّ عَنْهُ، إِذَا فَعَلَهَا وَجَعَل ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ} (2) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3) وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُل مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، وَسَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَ عِبَادَتِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ صَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، أَمْ لَمْ تَصِحَّ فِيهَا، كَالصَّلاَةِ، وَالتِّلاَوَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ،
__________
(1) المغني 2 / 567 - 568، ابن عابدين 1 / 605، 2 / 236، نهاية المحتاج 6 / 92، مغني المحتاج 3 / 96، القليوبي 3 / 175.
(2) سورة الحشر / 10.
(3) سورة محمد / 19.
(4) حديث: " سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن أمي ماتت. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 301) من حديث ابن عباس، والترمذي (3 / 48) . قال الترمذي: " هذا حديث حسن ".(29/260)
وَقَالُوا: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، فِي الصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ وَهِيَ: عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَوْصَل اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا، مَعَ مَا رُوِيَ فِي التِّلاَوَةِ (1) .
وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الصَّدَقَةَ، وَنَحْوَهَا مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ كَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ، لاَ يُفْعَل عَنِ الْمَيِّتِ كَالصَّلاَةِ عَنْهُ قَضَاءً، أَوْ غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (2) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الإِْمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل إِلَى الْمَيِّتِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالأَْذْكَارِ وَجْهًا أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل إِلَى الْمَيِّتِ.
وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمُ ابْنُ الصَّلاَحِ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ، وَعَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ (3) ، وَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (4) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة النجم / 39.
(3) المصادر السابقة، مغني المحتاج 3 / 69، القليوبي 3 / 175 / 176، جواهرالإكليل 1 / 163.
(4) حديث: " ما رأى المسلمون حسنا. . . ". أخرجه أحمد (1 / 389) من قول ابن مسعود موقوفا عليه، وحسنه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص367) .(29/260)
هَل يَكُونُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِإِتْيَانِ الْعِبَادَةِ؟ :
10 - قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الأَْصْل أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الأَْدْيَانِ؛ لاَ يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا كَالصَّلاَةِ، مُنْفَرِدًا، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ، وَإِنْ أَتَى مَا يَخْتَصُّ بِشَرْعِنَا، وَلَوْ مِنَ الْوَسَائِل كَالتَّيَمُّمِ، أَوْ مِنَ الْمَقَاصِدِ، أَوْ مِنَ الشَّعَائِرِ كَالصَّلاَةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْحَجِّ الْكَامِل، وَالأَْذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ السَّجْدَةِ، يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلاَم) .(29/261)
عِبَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِبَارَةُ. فِي اللُّغَةِ: الْبَيَانُ وَالإِْيضَاحُ، يُقَال: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلاَنٍ: تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ: أَيْ يُبَيِّنُ، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا تَفْسِيرُهَا: يُقَال: عَبَرْتُ الرُّؤْيَا عَبْرًا وَعِبَارَةً: فَسَّرْتُهَا (1) ، وَفِي التَّنْزِيل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعِبَارَةُ هِيَ الأَْلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي، لأَِنَّهَا تَفْسِيرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مَسْتُورٌ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَوْل:
2 - الْقَوْل لُغَةً: الْكَلاَمُ أَوْ كُل لَفْظٍ يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْقَوْل عَلَى الآْرَاءِ وَالاِعْتِقَادَاتِ، فَيُقَال: هَذَا قَوْل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (عبر) .
(2) سورة يوسف / 43.
(3) كشف الأسرار 1 / 67، وقواعد الفقه لبركتي ص 371.(29/261)
أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْل الشَّافِعِيِّ، يُرَادُ بِهِ رَأْيُهُمَا وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَوْل وَالْعِبَارَةِ هِيَ أَنَّ الْقَوْل أَعَمُّ مِنَ الْعِبَارَةِ لأَِنَّ الْعِبَارَةَ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى.
ب - الصِّيغَةُ:
3 - الصِّيغَةُ لُغَةً: الْعَمَل وَالتَّقْدِيرُ، يُقَال: هَذَا صَوْغُ هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِهِ، وَصِيغَةُ الْقَوْل كَذَا، أَيْ مِثَالُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْعَمَل وَالتَّقْدِيرِ (2) .
وَالصِّيغَةُ اصْطِلاَحًا: الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَدُل عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ التَّصَرُّفِ (3) .
وَالْعِبَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الصِّيغَةِ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - قَسَّمَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنِيفَةِ الأَْلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ دَلاَلَتِهَا عَلَى الْمَعْنَى إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) القاموس المحيط مادة (قول) ، والكليات 4 / 18، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1976م.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة (لفظ) والكليات 4 / 167، والتعريفات للجرجاني ص 244.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (صوغ) وأسنى المطالب 2 / 3، وراجع مصطلح (صيغة) في الموسوعة.(29/262)
عِبَارَةُ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ، وَدَلاَلَةُ النَّصِّ، وَاقْتِضَاءُ النَّصِّ.
وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّظْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ وَكَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الإِْشَارَةُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّظْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً فَهُوَ الدَّلاَلَةُ، أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الاِقْتِضَاءُ.
فَعِبَارَةُ النَّصِّ هِيَ دَلاَلَةُ الْكَلاَمِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) فَإِنَّهُ يَدُل بِلَفْظِهِ وَعِبَارَتِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ، لأَِنَّهَا نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا} (2) ، وَثَانِيهُمَا: إِبَاحَةُ الْبَيْعِ وَمَنْعُ الرِّبَا، وَهُوَ مَقْصُودٌ تَبَعًا لِيُتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَصَالَةً، فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْعِبَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَيَكُونُ سَوْقُ الْكَلاَمِ لَهُ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) التلويح على التوضيح 1 / 130، وتيسير التحرير 1 / 86، وكشف الأسرار 1 / 67.(29/262)
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَسَائِرِ الأَْقْسَامِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْنْسَانَ الْمُكَلَّفَ مُؤَاخَذٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ أَلْفَاظٍ وَعِبَارَاتٍ، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنْخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ (1) ؟
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ كَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ فَعِبَارَتُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ (2) . (ر: أَهْلِيَّة ف 17، 27)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَعْتُوهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّة ف 19، 20، 21) .
6 - وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ
__________
(1) حديث معاذ بن جبل: " يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 11 - 12) وابن ماجه (2 / 1314 - 1315) . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، واللفظ للترمذي.
(2) المنثور في القواعد 2 / 301 نشر وزارة الأوقاف - الكويت 1982، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 215، تحفة الأحوذي 7 / 362 ط. المكتبة السلفية المدينة المنورة.(29/263)
الإِْشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا غُلِّبَتِ الإِْشَارَةُ.
قَال السُّيُوطِيُّ: لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ فُلاَنَةَ: هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ فَكَانَتْ عَجَمِيَّةً، أَوْ هَذِهِ الْعَجُوزَ فَكَانَتْ شَابَّةً أَوْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسَهُ، وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُول فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلاَنِ وَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ، وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: بِالصِّحَّةِ تَعْوِيلاً عَلَى الإِْشَارَةِ (1) .
عَبْد
انْظُرْ: رِقّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 34، والمنثور في القواعد 1 / 167، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 409.(29/263)
عَتَاقٌ
انْظُرْ: عِتْق.
عَتَاقَة
انْظُرْ: عِتْق.(29/264)
عِتْق
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِتْقُ لُغَةً: خِلاَفُ الرِّقِّ - وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ عِتْقًا وَعَتْقًا، وَأَعْتَقْتُهُ فَهُوَ عَتِيقٌ، وَلاَ يُقَال: عَتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، بَل أَعْتَقَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْخُلُوصُ. وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ - الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ جَبَّارٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنَ الرِّقِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِتَابَةُ:
2 - الْكِتَابَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَعْنَى الأَْجَل الْمَضْرُوبِ.
وَاصْطِلاَحًا - عَقْدٌ يُوجِبُ عِتْقًا عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مِنَ الْعَبْدِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَائِهِ (3) فَإِذَا
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والقاموس المحيط، مادة عتق.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 329.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 388.(29/264)
أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَال صَارَ الْعَبْدُ حُرًّا.
وَالْكِتَابَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِتْقِ؛ لأَِنَّهَا عِتْقٌ عَلَى مَالٍ.
ب - التَّدْبِيرُ:
3 - التَّدْبِيرُ لُغَةً: النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الأُْمُورِ لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، وَأَنْ يُعْتِقَ الرَّجُل عَبْدَهُ عَنْ دُبُرِهِ، فَيَقُول: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي - لأَِنَّ الْمَوْتَ دُبُرُ الْحَيَاةِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا - تَعْلِيقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ (2) .
وَالتَّدْبِيرُ عِتْقٌ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ.
ج - الاِسْتِيلاَدُ:
4 - الاِسْتِيلاَدُ لُغَةً: طَلَبُ الْوَلَدِ، وَهُوَ مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ: إِذَا أَحْبَلَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَاصْطِلاَحًا: تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ (3) . وَالاِسْتِيلاَدُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ، وَهُوَ حَمْل الأَْمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا وَوِلاَدَتُهَا.
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِتْقِ:
5 - شُرِعَ الْعِتْقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 380.
(3) البدائع 4 / 123.(29/265)
رَقَبَةٍ} (1) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) وَقَوْلُهُ {فَكُّ رَقَبَةٍ} (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ - فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهَا (4) وَقَدْ أَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ، وَأَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ (5) .
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ وَحُصُول الْقُرْبَةِ بِهِ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِتْقِ:
6 - الْعِتْقُ مِنْ أَفْضَل الْقُرَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِجِنَايَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: الْقَتْل، وَالظِّهَارُ، وَالْوَطْءُ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ، وَالْحِنْثُ فِي الأَْيْمَانِ، وَجَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنَ النَّارِ - لأَِنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا لِلآْدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهِ وَتَكْمِيل
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) سورة البلد / 13.
(4) حديث: " من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 599) ومسلم (2 / 1147) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(5) منح الجليل 4 / 564، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 89.(29/265)
أَحْكَامِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - حُكْمُ الْعِتْقِ: الاِسْتِحْبَابُ، وَهُوَ الإِْعْتَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ، كَمَنْ لاَ كَسْبَ لَهُ فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ وَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، أَوْ يَخَافُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ الْخُرُوجَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْرِقَ، أَوْ تَكُونُ جَارِيَةً فَيَخَافُ مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادَ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْخُرُوجُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ الزِّنَا مِنَ الْجَارِيَةِ - لأَِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ إِذَا أَعْتَقَهُ صَحَّ - لأَِنَّهُ إِعْتَاقٌ صَادِرٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ وَفِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَيَّنًا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ لاَ يُقْضَى بِهِ عَلَى النَّاذِرِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعِتْقُ نَاجِزًا وَتَعَيَّنَ مُتَعَلِّقُهُ، كَعَبْدِي هَذَا، أَوْ عَبْدِي فُلاَنٌ حُرٌّ.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 98 وما بعدها، المغني لابن قدامة 9 / 329.(29/266)
فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ إِنِ امْتَنَعَ (1) .
أَرْكَانُ الْعِتْقِ وَشُرُوطُهُ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ رُكْنًا وَاحِدًا، وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِل دَلاَلَةً عَلَى الْعِتْقِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ أَرْكَانًا ثَلاَثَةً تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْعِتْقِ هِيَ: الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ - وَالْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ - وَالصِّيغَةُ.
الأَْوَّل: الْمُعْتِقُ:
9 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْعِتْقِ كَوْنُهُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ، بَالِغًا عَاقِلاً حُرًّا رَشِيدًا مَالِكًا فَلاَ يَصِحُّ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ بِلاَ إِذْنٍ، وَلاَ مِنْ غَيْرِ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ أَوْ سَفَهٍ، وَلاَ مِنْ مُبَعَّضٍ وَمُكَاتَبٍ وَمُكْرَهٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِتْقُ السَّكْرَانِ كَطَلاَقِهِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق ف 18) ، وَيَصِحُّ الْعِتْقُ وَيَلْزَمُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ (2) وَيَثْبُتُ وَلاَؤُهُ عَلَى عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ.
الثَّانِي: الْمُعْتَقُ:
10 - وَيُشْتَرَطُ فِيهِ: أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لاَزِمٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 45، والمغني 9 / 330، وحاشية الدسوقي، 4 / 463 ومغني المحتاج 4 / 491، والقوانين الفقهية ص 371.
(2) بدائع الصنائع 4 / 55، حاشية الدسوقي 4 / 359، المغني لابن قدامة 9 / 333، مغني المحتاج 4 / 491.(29/266)
يَمْنَعُ عِتْقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ إِسْقَاطُهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ، لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِعَيْنِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ سَيِّدُهُ لِفُلاَنٍ ثُمَّ نَجَّزَ عِتْقَهُ فَإِنَّ عِتْقَهُ صَحِيحٌ مَاضٍ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ - وَهُوَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ - إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ غَيْرُ لاَزِمٍ؛ لأَِنَّ لِلْمُوصَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ وَيُنَجِّزُ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُرْتَهِنًا، أَوْ كَانَ رَبُّهُ مَدِينًا، أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ جِنَايَةٌ وَكَانَ رَبُّهُ مَلِيًّا صَحَّ الْعِتْقُ، وَعُجِّل الدَّيْنُ وَالأَْرْشُ، وَلاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا (1) .
الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ:
11 - وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً، ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً، فَالصَّرِيحُ مِثْل: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ أَعْتَقْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ - مِثْل قَوْل السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لاَ سَبِيل عَلَيْكَ وَلاَ سُلْطَانَ لِي عَلَيْكَ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَقَدْ خَلَّيْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الْخَفِيَّةُ - كَاذْهَبْ أَوِ اغْرُبْ عَنِّي أَوِ اسْقِنِي فَلاَ يَنْصَرِفُ لِلْعِتْقِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 331، حاشية الدسوقي 4 / 362، بدائع الصنائع 4 / 46، نهاية المحتاج 8 / 356، 357.(29/267)
أَسْبَابُ الْعِتْقِ:
لِلْعِتْقِ أَسْبَابٌ سِتَّةٌ هِيَ:
1 - التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
2 - النَّذْرُ وَالْكَفَّارَاتُ.
3 - الْقَرَابَةُ.
4 - الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ.
5 - التَّبْعِيضُ.
6 - الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ.
أَوَّلاً - الْعِتْقُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ:
12 - وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَال أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ (1) .
ثَانِيًا - عِتْقٌ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ:
13 - وَذَلِكَ كَالْقَتْل وَالظِّهَارِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ (2) .
__________
(1) حديث: " أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 146) ومسلم (2 / 1148) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع (4 / 49) فتح الجليل 4 / 564، المغني 9 / 329.(29/267)
ثَالِثًا: الْقَرَابَةُ:
14 - فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي يُعْتَقُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ (1) وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَل الأَْبِ وَالأُْمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالأَْخَوَاتُ وَالإِْخْوَةُ وَأَوْلاَدُهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالأَْعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتُ دُونَ أَوْلاَدِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال بِهِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ بِالْقَرَابَةِ - الأَْبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْمَوْلُودُونَ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالأَْخُ وَالأُْخْتُ مُطْلَقًا شَقِيقَيْنِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ، وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عِنْدَهُمُ الأُْصُول وَالْفُرُوعُ وَالْحَاشِيَةُ الْقَرِيبَةُ فَقَطْ، فَلاَ
__________
(1) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ". أخرجه أبو داود (4 / 260) والترمذي (3 / 637) من حديث سمرة.
(2) بدائع الصنائع 4 / 49، والمغني 9 / 355، والمبسوط للسرخسي 7 / 69.(29/268)
عِتْقَ لِلأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَلاَ لِلأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ إِذَا مُلِكَ بِالْقَرَابَةِ - عَمُودُ النَّسَبِ أَيِ: الأُْصُول وَالْفُرُوعُ - وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْعْمَامِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الأُْصُول: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ} (2) وَالأُْصُول وَالْفُرُوعُ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ مُلِكُوا اخْتِيَارًا أَوْ لاَ، اتَّحَدَ دِينُهُمَا أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الاِسْتِرْقَاقِ، وَلِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ (4) . أَيْ فَيُعْتِقَهُ الشِّرَاءُ، لاَ أَنَّ الْوَلَدَ هُوَ الْمُعْتِقُ بِإِنْشَائِهِ الْعِتْقَ، بِدَلِيل رِوَايَةِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ (5) .
وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 366، الشرح الصغير 4 / 521.
(2) سورة الإسراء / 24.
(3) مغني المحتاج 4 / 499، روضة الطالبين 12 / 132.
(4) حديث: " لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1148) من حديث أبي هريرة.
(5) زيادة " فيعتق عليه ". . . في مغني المحتاج (4 / 499) ولم نهتد إليه في المراجع التي بين أيدينا.(29/268)
وَالأَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا} (1) وَقَال تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2) تَدُل عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ (3) .
رَابِعًا: الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِعْتَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ سَيِّدُهُ فِيهِ مِنَ الأَْمْرِ الْخَفِيفِ كَاللَّطْمِ وَالأَْدَبِ وَالْخَطَأِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ وَشَنُعَ، مِنْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، أَوْ تَحْرِيقٍ بِنَارٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ إِفْسَادِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وُجُوبًا بِالْحُكْمِ، لاَ بِمُجَرَّدِ التَّمْثِيل - إِنْ تَعَمَّدَ السَّيِّدُ التَّمْثِيل بِالْعَبْدِ (4) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ أَوْ حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (5) .
__________
(1) سورة مريم / 92 - 93.
(2) سورة الأنبياء / 26.
(3) مغني المحتاج 4 / 499.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 367 بداية المجتهد لابن رشد 2 / 337 صحيح مسلم بشرح النووي 11 / 127، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 95، 96، القوانين الفقهية ص 372.
(5) حديث: " من مثل بعبده أو حرقه بالنار. . . ". أخرجه أحمد (2 / 225) من حديث عبد الله بن عمرو، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 239) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.(29/269)
الثَّانِي: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (1) .
خَامِسًا: التَّبْعِيضُ:
16 - مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ رَقِيقِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ؛ لأَِنَّ الإِْعْتَاقَ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الإِْعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ.
وَإِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْرِهِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ فَقَطْ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَبْعِيض ف 40) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 100، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 127، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 337، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 95، 96.
(2) بدائع الصنائع 4 / 87، وحاشية الدسوقي 4 / 369، والمغني لابن قدامة 9 / 336، 338، وروضة الطالبين 12 / 110، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 135، 137.(29/269)
سَادِسًا: الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ:
17 - إِذَا قَال السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ يَقَعُ الْعِتْقُ بِالاِتِّفَاقِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلاَءِ الْمُعْتِقِ وَمِيرَاثِهِ مِنَ الْمُعْتَقِ - فَتْحُ التَّاءِ - عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ، لأَِنَّ الْوَلاَءَ ثَمَرَةُ الْعِتْقِ، فَحَيْثُ وُجِدَ هَذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ السَّبَبُ تَحَقَّقَ الْمُسَبَّبُ (1) لِحَدِيثِ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ - بِكَسْرِ التَّاءِ (3) -.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلاَء) .
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى مَجِيءِ وَقْتٍ أَوْ فِعْلٍ، كَأَنْتَ حُرٌّ فِي رَأْسِ الْحَوْل، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فَعَبْدِي حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ أَوْ يَحْصُل الْفِعْل، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 159، 160، روضة الطالبين 12 / 170، مغني المحتاج 4 / 507، فتح الباري شرح البخاري 12 / 35، نيل الاوطار للشوكاني 6 / 79.
(2) حديث: " لمن أعتق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 185) ومسلم (2 / 1145) من حديث عائشة.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 417، المغني لابن قدامة 6 / 353، فتح الباري 12 / 32، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 79.(29/270)
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ - لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِعَبْدِهِ: أَنْتَ عَتِيقٌ إِلَى رَأْسِ الْحَوْل، فَلَوْلاَ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْل لَمْ يُعَلِّقْهُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ حَصَل الْفِعْل الْمُعَلَّقُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ عَتَاقُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ.
وَقَال النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَتَقَ، وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَنْقَسِمُ صِيغَةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صِيغَةُ بِرٍّ، وَصِيغَةُ حِنْثٍ.
فَأَمَّا صِيغَةُ الْبِرِّ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُول السَّيِّدُ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي فُلاَنٌ حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي فُلاَنَةُ حُرَّةٌ.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْحِنْثِ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُول
__________
(1) حديث: " لا طلاق إلا فيما تملك. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 640 - 641) والترمذي (3 / 477) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.
(2) المبسوط للسرخسي 7 / 80، 84، حاشية الدسوقي 4 / 364، نهاية المحتاج 8 / 354، كشاف القناع 4 / 522، المغني لابن قدامة 9 / 375، 376.(29/270)
السَّيِّدُ: إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ.
فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْبِرِّ فَلِلسَّيِّدِ الْبَيْعُ وَالْوَطْءُ، لأَِنَّهُ عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَحْصُل الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قَيَّدَ الْعِتْقَ بِأَجَلٍ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَخْرُجِ الْعَبْدُ وَلاَ الأَْمَةُ مِنْ ثُلُثٍ وَلاَ غَيْرِهِ، بَل يَكُونُ مِيرَاثًا.
وَإِذَا عَلَّقَ السَّيِّدُ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْحِنْثِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ وَلاَ وَطْءُ الأَْمَةِ، وَإِذَا بَاعَ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْل فِعْل الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْحِنْثِ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ، مِثْل: إِنْ لَمْ أَدْخُل الدَّارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَأَمَتِي حُرَّةٌ، فَيُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الْوَطْءِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ يَقْطَعُ الْعِتْقَ وَيُضَادُّهُ، بِخِلاَفِ الْوَطْءِ (1) .
فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ وَتَحَقَّقَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ التَّعْلِيقَ حَدَثَ وَالْعَبْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ، وَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْتَقُ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَسْقُطُ بِالْبَيْعِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 364.
(2) المبسوط للسرخسي 7 / 80 - 84، ونهاية المحتاج 8 / 354، وكشاف القناع 4 / 522، والمغني لابن قدامة 9 / 375، 376.(29/271)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعِتْقِ:
أَوَّلاً - إِرْثُ الْمُعْتِقِ مِنْ عَتِيقِهِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ - رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً - يَرِثُ جَمِيعَ مَال مَنْ أَعْتَقَهُ، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِالنَّسَبِ، وَيُسَمَّى الْعَتِيقُ: مَوْلَى الْعَتَاقَةِ: وَمَوْلَى النِّعْمَةِ أَوِ الْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ.
فَإِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ صِفَةً تَجْعَلُهُ مُسْتَحِقًّا لإِِرْثِ عَتِيقِهِ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (1) .
فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ وَأُسْرَتِهِ، وَالْعَتِيقُ يُنْسَبُ إِلَى مُعْتِقِهِ وَأُسْرَتِهِ، إِلاَّ أَنَّ النَّسَبَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الإِْرْثُ لِكِلاَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يَرِثُ الاِبْنُ أَبَاهُ يَرِثُ الأَْبُ ابْنَهُ، أَمَّا الإِْعْتَاقُ فَيُقَرِّرُ الإِْرْثَ لِجَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ، فَلاَ إِرْثَ لِلْعَتِيقِ مِنْ سَيِّدِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْعَل مَا يَسْتَوْجِبُ الْمُكَافَأَةَ بِعَكْسِ السَّيِّدِ (2) . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". أخرجه الشافعي (بدائع المنن 12 / 32) ومن طريقه الحاكم (4 / 341) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 268، روضة الطالبين 6 / 21، فتح الباري 12 / 32.(29/271)
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال. أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ (1) . وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْوَلاَءُ لِلأَْكْبَرِ (2) مِنَ الذُّكُورِ، وَلاَ تَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ وَلاَءَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ " (3) .
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الإِْرْثَ هُنَا بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ، وَهِيَ قَاصِرَةٌ عَلَى الرِّجَال؛ لأَِنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَحَقَّقُ بِهِمُ النُّصْرَةُ، وَهِيَ سَبَبٌ لِلْخِلاَفَةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ مَا كُنَّ سَبَبًا فِيهِ، بِإِعْتَاقِهِنَّ مُبَاشَرَةً، أَوْ بِوَاسِطَةِ إِعْتَاقِ مَنْ أَعْتَقْنَ. وَإِذَا كَانَ لِلْعَتِيقِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، أَوْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ أَصْحَابُ فُرُوضٍ، وَاسْتَوْعَبَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ كُل التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْمُعْتِقِ؛ لأَِنَّ لِهَؤُلاَءِ أَوْلَوِيَّةً عَلَيْهِ.
__________
(1) حديث: " أعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 45) ومسلم (2 / 1143) من حديث عائشة: واللفظ للبخاري.
(2) المراد بالأكبر الأقرب في الدرجة، وليس المراد به الأكبر سنًا.
(3) حديث: " الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء ". قال الزيلعي في نصب الراية: (4 / 154) غريب، انتهى. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى (10 / 306) عن علي وعبد الله وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم كانوا يجعلون الولاء للكبر من العصبة، ولا يورثون النساء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن.(29/272)
مَرْتَبَةُ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَاصِبَ السَّبَبِيَّ مُؤَخَّرٌ فِي الإِْرْثِ عَنِ الْعَاصِبِ النَّسَبِيِّ، أَمَّا تَحْدِيدُ مَرْتَبَتِهِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ فِي الإِْرْثِ تَلِي الْعَاصِبَ النَّسَبِيَّ مُبَاشَرَةً، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِرْثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَتِيقُ عَنْ بِنْتِهِ وَمَوْلاَهُ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِمَوْلاَهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلاَهُ فَالْمَال لِمَوْلاَهُ دُونَ ذِي الرَّحِمِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ بِنْتِ حَمْزَةَ قَالَتْ: مَاتَ مَوْلاَيَ وَتَرَكَ ابْنَةً، فَقَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنَتِهِ فَجَعَل لِي النِّصْفَ وَلَهَا النِّصْفَ (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلاَءُ (2) .
__________
(1) حديث عبد الله بن شداد عن بنت حمزة قالت: " مات مولاى. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 913) والحاكم (4 / 66) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 231) : رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح.
(2) حديث الحسن: " الميراث للعصبة فإن لم يكن عصبة فالولاء ". أخرجه سعيد بن منصور (3 / 75) مرسلا.(29/272)
وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّ إِرْثَ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَعَنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلاَ إِرْثَ لِلْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ مَعَ وُجُودِ وَارِثٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ فَرْضٍ أَوْ عَاصِبًا نَسَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ (1) لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (2) .
ثَانِيًا - مَال الْعَتِيقِ:
21 - إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ وَلَهُ مَالٌ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ مَالَهُ لِسَيِّدِهِ، لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِغُلاَمِهِ عُمَيْرٍ: يَا عُمَيْرُ إِنِّي أَعْتَقْتُكَ عِتْقًا هَنِيئًا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ غُلاَمًا وَلَمْ يُسَمِّ مَالَهُ فَالْمَال لَهُ فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ (3) ، وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ كَانَا لِلسَّيِّدِ، فَأَزَال مِلْكَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَبَقِيَ مِلْكُهُ فِي
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 76، أسباب النزول للسيوطي ص 92.
(2) سورة الأنفال / 75.
(3) حديث: " أيما رجل أعتق غلاما ولم يسم ماله. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 845) من حديث عبد الله بن مسعود وقال البوصيري في الزوائد (2 / 68) : هذا إسناد فيه مقال.(29/273)
الآْخَرِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ مَال الْعَبْدِ تَبَعٌ لَهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَهْل الْمَدِينَةِ وَقَدِ اسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَال الْعَبْدِ لَهُ (2) .
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَال الْعَبْدِ يَتْبَعُهُ فِي الْعِتْقِ، دُونَ الْبَيْعِ، مَا لَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ (3) .
عِتْقُ الْمُكَاتَبِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لاَ يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، إِذْ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ (4) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 232 ط. بيروت، البدائع 4 / 160، نهاية المحتاج 8 / 369 ط. بيروت.
(2) حديث: " من أعتق عبدا وله مال فمال العبد له ". أخرجه أبو داود (4 / 270 - 271) وابن ماجه (2 / 845) من حديث ابن عمر. وإسناده صحيح.
(3) الخرشي 8 / 131 ط. بيروت، حاشية الدسوقي 4 / 379، المغني لابن قدامة 9 / 374.
(4) حديث: " المكاتب عبد. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 442) والبيهقي (10 / 324) وصححه الحاكم وروي موقوفا عن بعض الصحابة كما في فتح الباري (5 / 195) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(29/273)
أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلاَّ عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ (1) فَعَلَى هَذَا إِنْ أَدَّى الْعَبْدُ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُعْتَقْ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي عِتْقَهُ عَتَقَ وَيُعْتَقُ مَعَهُ وَلَدُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَ لإِِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ (3) .
فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُنَّ بِالْحِجَابِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ لِمَا يُؤَدِّي، وَلأَِنَّهُ مَالِكٌ لِوَفَاءِ مَال الْكِتَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ الْوَفَاءِ، وَإِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدَيْهِ قَبْل الأَْدَاءِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ أَصْبَحَ حُرًّا (4) .
عِتْقُ الْمُدَبَّرِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ
__________
(1) حديث: " أيما عبد كاتب. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 244) والحاكم (2 / 218) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) بدائع الصنائع 4 / 134، 135، حاشية الدسوقي 4 / 399، روضة الطالبين 12 / 236.
(3) حديث: " إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه ". أخرجه أبو داود (4 / 244) والترمذي (3 / 553) وأشار البيهقي في السنن الكبرى (10 / 327) إلى تضعيف الشافعي له.
(4) المغني لابن قدامة 9 / 429.(29/274)
مِنْ ثُلُثِ الْمَال بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ، فَيَنْفُذُ فِي الْجَمِيعِ كَالْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ.
وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ عَتَقَ مِنْهُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ وَبَقِيَ سَائِرُهُ رَقِيقًا (1) .
عِتْقُ الْمُسْتَوْلَدَةِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي أُمِّ وَلَدِهِ التَّصَرُّفُ بِمَا يَنْقُل الْمِلْكَ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلاَ وَقْفُهَا وَلاَ رَهْنُهَا وَلاَ تُورَثُ، بَل تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ كُل الْمَال وَيَزُول الْمِلْكُ عَنْهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِيلاَد ف 10) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 123، القوانين الفقهية ص 376، المغني لابن قدامة 9 / 387، روضة الطالبين 12 / 198.(29/274)
عَتَه
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصُ الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ، وَالْمَعْتُوهُ الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ أَوْ جُنُونٍ.
وَالْعَتَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الذَّاتِ، تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْل، وَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَبْل:
2 - الْخَبْل (بِالتَّسْكِينِ) : الْفَسَادُ وَالْجُنُونُ، وَيَكُونُ فِي الأَْفْعَال وَالأَْبْدَانِ وَالْعُقُول فَيُؤَثِّرُ فِيهَا، وَيَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْجُنُونِ وَالْمَرَضِ.
وَالْخَبَل (بِالتَّحْرِيكِ) : الْجِنُّ، وَالْخَابِل: الشَّيْطَانُ، وَالْخَبَال: الْفَسَادُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل. {مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (2) وَفِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، التعريفات للجرجاني.
(2) سورة التوبة / 47.(29/275)
الْحَدِيثِ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ خَبْلٌ (1) أَيْ: فَسَادُ الْفِتْنَةِ وَالْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَالْقَتْل.
وَالْخَبْل وَالْعَتَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى وَهُوَ نُقْصَانُ الْعَقْل فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (2) .
ب - الْحُمْقُ:
3 - الْحُمْقُ: فَسَادُ الْعَقْل، أَوْ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ (3) .
وَالْحُمْقُ وَالْعَتَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي فَسَادِ الْعَقْل وَسُوءِ التَّصَرُّفِ.
ج - الإِْغْمَاءُ:
4 - الإِْغْمَاءُ: مَصْدَرُ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُل، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُول، وَالإِْغْمَاءُ: مَرَضٌ يُزِيل الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْل، وَقِيل: فُتُورٌ عَارِضٌ - لاَ بِمُخَدِّرٍ - يُزِيل عَمَل الْقُوَى.
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَتَهِ وَالإِْغْمَاءِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ: مُؤَقَّتٌ، وَالْعَتَهُ مُسْتَمِرٌّ غَالِبًا، وَالإِْغْمَاءُ يُزِيل
__________
(1) حديث: " بين يدى الساعة خبل ". أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 8) ولم نهتد إلى من أخرجه من المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.(29/275)
الْقُوَى كُلَّهَا، وَالْعَتَهُ يُضْعِفُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعَتَهَ يَسْلُبُ التَّكْلِيفَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمَعْتُوهِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْمَجْنُونِ مِنْ أَحْكَامٍ، سَوَاءٌ فِي أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، أَوْ فِي أُمُورِ الْمَال وَالْمُعَامَلاَتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، أَوْ فِي الْعُقُودِ الأُْخْرَى كَعُقُودِ النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الأُْخْرَى.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل وَفِي رِوَايَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الدَّبُوسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: غمى، والمغرب في ترتيب المعرب في مادة: إغماء وحاشية ابن عابدين 2 / 426.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 560) والحاكم (2 / 59) وصححه ووافقه الذهبي. أما رواية " وعن المعتوه حتى يعقل " فأخرجها أحمد (6 / 100 - 101) .(29/276)
فَقَال: تَجِبُ عَلَى الْمَعْتُوهِ الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: وَصَرَّحَ الأُْصُولِيُّونَ: بِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْتُوهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْعَاقِل فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ مِثْل ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الأُْصُولِيِّينَ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَهْلِيَّة وَحَجْر وَجُنُون) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة 945، 957، 960، 978، الفتاوى الهندية 3 / 465، الفتاوى البزازية 4 / 122، حاشية ابن عابدين 2 / 426، 427، جواهر الإكليل 1 / 281، مغني المحتاج 1 / 131، نهاية المحتاج 1 / 376، المغني لابن قدامة 1 / 400، تبيين الحقائق 5 / 191.(29/276)
عَتِيرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَتِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: لَهَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
أ - أَوَّل مَا يُنْتَجُ، كَانُوا يَذْبَحُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ.
ب - ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فَنُسِخَ ذَلِكَ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا نَذَرَ: لَئِنْ ظَفِرَ بِهِ لِيَذْبَحَنَّ مِنْ غَنَمِهِ فِي رَجَبٍ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِهِ، فَرُبَّمَا ضَاقَتْ نَفْسُهُ عَنْ ذَلِكَ وَضَنَّ بِغَنَمِهِ، فَيَأْخُذُ عَدَدَهَا ظِبَاءً، فَيَذْبَحُهَا فِي رَجَبٍ مَكَانَ تِلْكَ الْغَنَمِ، فَكَأَنَّ تِلْكَ عَتَائِرُهُ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدِ انْفَرَدَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب.
(2) حديث: " لا فرع ولا عتيرة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 596) ومسلم (3 / 1564) من حديث أبي هريرة.(29/277)
بِتَفْسِيرٍ خَاصٍّ، قَال: الْعَتِيرَةُ: الطَّعَامُ الَّذِي يُبْعَثُ لأَِهْل الْمَيِّتِ، قَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ يُرْسِل لِمَنَاحَةٍ، وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَرَعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْفَرَعِ لُغَةً: أَنَّهُ أَوَّل نِتَاجِ الإِْبِل وَالْغَنَمِ، كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لآِلِهَتِهِمْ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ، تَقُول: أَفْرَعَ الْقَوْمُ إِذَا ذَبَحُوا الْفَرَعَ.
أَوْ هُوَ: بَعِيرٌ كَانَ يُذْبَحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا كَانَ لِلإِْنْسَانِ مِائَةُ بَعِيرٍ نَحَرَ مِنْهَا بَعِيرًا كُل عَامٍ، فَأَطْعَمَ النَّاسَ، وَلاَ يَذُوقُهُ هُوَ وَلاَ أَهْلُهُ.
وَقِيل: الْفَرَعُ: طَعَامٌ يُصْنَعُ لِنِتَاجِ الإِْبِل، كَالْخَرَسِ لِوِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ (2) .
وَفَسَّرَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، وَهُوَ: أَنَّهُ أَوَّل وَلَدٍ تَلِدُهُ النَّاقَةُ أَوِ الشَّاةُ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لآِلِهَتِهِمْ (3) .
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ الْعَتِيرَةِ فِي كَوْنِهَا مِمَّا تَعَوَّدَهُ
__________
(1) البدائع 5 / 69، والمواق والحطاب 3 / 248، والمجموع 8 / 443 - 446 ط. السلفية، المغني 8 / 650.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمغرب.
(3) الحطاب 3 / 248، والمغني 8 / 650، وأسنى المطالب 1 / 550.(29/277)
الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الذَّبْحِ تَقَرُّبًا لِلآْلِهَةِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ.
غَيْرَ أَنَّ الْعَتِيرَةَ اشْتَهَرَ كَوْنُهَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ.
ب - الأُْضْحِيَّةُ:
3 - الأُْضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ ضَحْوَةً، أَيْ وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، أَوْ هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ يَوْمَ الأَْضْحَى.
وَشَرْعًا: هِيَ مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ الْعَتِيرَةِ فِي أَنَّهَا ذَبِيحَةٌ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ الْعَتِيرَةَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ.
ج - الْعَقِيقَةُ:
4 - الْعَقِيقَةُ: مَا يُذَكَّى مِنَ النَّعَمِ، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ وِلاَدَةِ مَوْلُودٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أَنْثَى (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - جَاءَ الإِْسْلاَمُ وَالْعَرَبُ يَذْبَحُونَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مَا يُسَمَّى بِالْعَتِيرَةِ أَوِ الرَّجَبِيَّةِ، وَصَارَ مَعْمُولاً بِذَلِكَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ (3) ، لِقَوْل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 5 / 11.
(2) الحطاب والمواق 3 / 255.
(3) المغني 8 / 650، الحطاب 3 / 248، المجموع شرح المهذب 8 / 446 ط. السلفية.(29/278)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْل كُل بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ (1) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَسْخِ هَذَا الْحُكْمِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْعَتِيرَةِ مَنْسُوخٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ فَرَعَ لاَ عَتِيرَةَ (3) ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُل صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَسَخَتِ الأُْضْحِيَّةُ كُل ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَنَسَخَ غُسْل الْجَنَابَةِ كُل غُسْلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ انْتِسَاخَ الْحُكْمِ مِمَّا لاَ يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل وَكِيعِ بْنِ عُوَيْسٍ وَابْنِ كَجٍّ وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ نَفْيُ كَوْنِهَا سُنَّةً، لاَ تَحْرِيمُ فِعْلِهَا، وَلاَ كَرَاهَتُهُ، فَلَوْ ذَبَحَ إِنْسَانٌ ذَبِيحَةً فِي رَجَبٍ، أَوْ ذَبَحَ وَلَدَ النَّاقَةِ لِحَاجَتِهِ
__________
(1) حديث: " على أهل كل بيت أضحية وعتيرة ". أخرجه أبو داود (3 / 226) من حديث مخنف بن سليم، وضعف إسناده الخطابي كما في مختصر السنن للمنذري (4 / 93) .
(2) المجموع شرح المهذب 8 / 446 ط. السلفية.
(3) حديث: " لا فرع ولا عتيرة " سبق تخريجه فـ 1.
(4) البدائع 5 / 69.(29/278)
إِلَى ذَلِكَ أَوْ لِلصَّدَقَةِ أَوْ إِطْعَامِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْل عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ سِوَى ابْنِ سِيرِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ نَسْخٌ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّهُمْ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى الإِْبَاحَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الإِْبَاحَةِ بِمَا رَوَى الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَال رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: يَا رَسُول اللَّهِ، الْعَتَائِرُ وَالْفَرَائِعُ؟ قَال: مَنْ شَاءَ عَتَرَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ (2) وَمَا رُوِيَ عَنْ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ فِي رَجَبٍ ذَبَائِحَ فَنَأْكُل مِنْهَا وَنُطْعِمُ مِنْهَا مَنْ جَاءَنَا؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَال وَكِيعٌ: لاَ أَتْرُكُهَا أَبَدًا (3) .
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ
__________
(1) المغني 8 / 650، الحطاب 3 / 248.
(2) حديث الحارث بن عمرو أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. أخرجه النسائي (7 / 167 - 169) وفي إسناده ضعف، ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه أبو داود (3 / 263) والحاكم (4 / 236) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث لقيط بن عامر: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نذبح في رجب ذبائح. أخرجه أحمد (4 / 12 - 13) ، وفي إسناده جهالة راويه وكيع بن عدي.(29/279)
يُبَيِّنُوا حُكْمَ الْعَتِيرَةِ، هَل هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ؟ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَسْخِ طَلَبِ الْعَتِيرَةِ، وَقَالُوا تُسْتَحَبُّ الْعَتِيرَةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ نُبَيْشَةَ قَال: نَادَى رَجُلٌ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَال: اذْبَحُوا لِلَّهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ. . . إِلَخْ الْحَدِيثِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ فَلَمْ يُبْطِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَتِيرَةَ مِنْ أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا أَبْطَل خُصُوصَ الذَّبْحِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاقْتَضَتْهُ الأَْحَادِيثُ: أَنَّهُمَا لاَ يُكْرَهَانِ، بَل يُسْتَحَبَّانِ، (أَيِ الْفَرَعُ وَالْعَتِيرَةُ (1)) .
__________
(1) المجموع 8 / 443 - 444 - 445 - 446، وفتح الباري 9 / 597.(29/279)
عُجْب
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُجْبِ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: الزَّهْوُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْعُجْبُ: ظَنُّ الإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ مَنْزِلَةٍ هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: الْعُجْبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا، مَعَ نِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ (3) .
قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْعُجْبُ فَرْحَةٌ فِي النَّفْسِ بِإِضَافَةِ الْعَمَل إِلَيْهَا وَحَمْدِهَا عَلَيْهِ، مَعَ نِسْيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ، وَالْمُتَفَضِّل بِالتَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَمَنْ فَرِحَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَعْظَمَهُ، لِمَا يَرْجُو عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِهِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَحْمَدْهَا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجَبٍ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 306 نشر دار الصحوة - القاهرة.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 360 ط. الحلبي 1939م.
(4) بدائع السلك في طبائع الملك لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي 1 / 495 - 496.(29/280)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبْرُ:
2 - الْكِبْرُ: هُوَ ظَنُّ الإِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إِظْهَارٌ لِذَلِكَ، وَصِفَةُ " الْمُتَكَبِّرِ " لاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنِ ادَّعَاهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ فِيهَا كَاذِبٌ، وَلِذَلِكَ صَارَ مَدْحًا فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَذَمًّا فِي الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا شَرَفُ الْمَخْلُوقِ فِي إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ هِيَ: أَنَّ الْكِبْرَ يَتَوَلَّدُ مِنَ الإِْعْجَابِ (2) .
ب - الإِْدْلاَل:
3 - الإِْدْلاَل: مِنْ أَدَل، وَالأَْدَل: الْمَنَّانُ بِعَمَلِهِ، وَالإِْدْلاَل وَرَاءَ الْعُجْبِ، فَلاَ مُدِل إِلاَّ وَهُوَ مُعْجَبٌ، وَرُبَّ مُعْجَبٍ لاَ يُدِل (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْعُجْبُ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَصْفِ كَمَالٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَرَى حَقًّا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُمِّيَ إِدْلاَلاً، فَالْعُجْبُ يَحْصُل بِاسْتِعْظَامِ مَا عَجِبَ بِهِ، وَالإِْدْلاَل يُوجِبُ تَوَقُّعَ الْجَزَاءِ، مِثْل أَنْ يَتَوَقَّعَ إِجَابَةَ دُعَائِهِ وَيُنْكِرُ رَدَّهُ (4) .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة 299 - 300.
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 300.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 360.
(4) مختصر منهاج القاصدين ص 244 وقارن بما جاء في إحياء علوم الدين 3 / 360.(29/280)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْعُجْبُ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} (1) ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الإِْنْكَارِ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ (3) فَجَعَل الْعُجْبَ أَكْبَرَ الذُّنُوبِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: الْهَلاَكُ فِي شَيْئَيْنِ: الْعُجْبُ وَالْقُنُوطُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ السَّعَادَةَ لاَ تُنَال إِلاَّ بِالطَّلَبِ، وَالْقَانِطُ لاَ يَطْلُبُ، وَالْمُعْجَبُ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِمُرَادِهِ فَلاَ يَسْعَى (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 25.
(2) حديث: " ثلاث مهلكات: شح مطاع. . . ". أخرجه البزار كما في كشف الأستار للهيثمي (1 / 60) وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 286) وقال: رواه البزار والبيهقي وغيرهما، وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده - وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال - فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى.
(3) حديث: " لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك. . . ". رواه البزار كما في كشف الأستار (4 / 244) من حديث أنس، وهو حسن لطرقه كما في فيض القدير للمناوي (5 / 331) .
(4) إحياء علوم الدين 3 / 358 - 359، ومختصر منهاج القاصدين ص 243، والذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 306.(29/281)
وَقَال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الإِْعْجَابُ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الأَْلْبَابِ (1) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ وَصْفٌ رَدِيءٌ يَسْلُبُ الْفَضَائِل وَيَجْلُبُ الرَّذَائِل، وَيُوجِبُ الْمَقْتَ وَيُخْفِي الْمَحَاسِنَ وَيُشْهِرُ الْمَسَاوِئَ وَيُفْضِي إِلَى الْمَهَالِكِ (2) .
أَنْوَاعُ الْعُجْبِ:
5 - مَا بِهِ الْعُجْبُ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَعْجَبَ بِبَدَنِهِ فَيَلْتَفِتَ إِلَى جَمَال نَفْسِهِ وَيَنْسَى أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلزَّوَال فِي كُل حَالٍ (3) .
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ: النَّظَرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ وَإِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ.
الثَّانِي: الْقُوَّةُ، اسْتِعْظَامًا لَهَا مَعَ نِسْيَانِ شُكْرِهَا، وَتَرْكُ الاِعْتِمَادِ عَلَى خَالِقِهَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ حِينَ قَالُوا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (4) .
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ اعْتِرَافُهُ بِمُطَالَبَةِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلسَّلْبِ، فَيُصْبِحُ أَضْعَف الْعِبَادِ (5) .
__________
(1) المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 414 وأدب الدنيا والدين 232 ط. الحلبي.
(2) المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 413.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 363 وبدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496.
(4) سورة فصلت / 15.
(5) بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 363 - 364.(29/281)
الثَّالِثُ: الْعَقْل، اسْتِحْسَانًا لَهُ وَاسْتِبْدَادًا بِهِ.
وَيَنْفِي الْعُجْبَ فِيهِ تَرْدِيدُ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَتَجْوِيزُ أَنْ يُسْلَبَ مِنْهُ كَمَا فُعِل بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِنِ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ بِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً (1) .
الرَّابِعُ: النَّسَبُ الشَّرِيفُ افْتِخَارًا بِهِ وَاعْتِقَادًا لِلْفَضْل بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ.
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ لاَ يَجْلِبُ ثَوَابًا وَلاَ يَدْفَعُ عَذَابًا، وَأَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِكُلٍّ مِنِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ وَعَمَّتِهِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (2) .
وَمِنَ الْعُجْبِ التَّكَبُّرُ بِالأَْنْسَابِ عُمُومًا، فَمَنِ اعْتَرَاهُ الْعُجْبُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَعَزُّزٌ بِكَمَال غَيْرِهِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَبَاهُ الْبَعِيدَ تُرَابٌ (3) .
الْخَامِسُ: الاِنْتِسَابُ إِلَى ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ وَفَسَقَةِ أَعْوَانِهِمْ تَشَرُّفًا بِهِمْ (4) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْل وَعِلاَجُهُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 364، وبدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496.
(2) حديث: " لا أغني عنك من الله شيئا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 501) من حديث ابن عباس.
(3) بدائع السلك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 364، ومختصر منهاج القاصدين ص 242، 245.
(4) بدائع السلك 1 / 496.(29/282)
أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَخَازِيهِمْ وَأَنَّهُمُ الْمَمْقُوتُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
السَّادِسُ: كَثْرَةُ الأَْوْلاَدِ وَالأَْقَارِبِ وَالأَْتْبَاعِ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانًا لِلتَّوَكُّل عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَيَنْفِي الْعُجْبَ بِهِ تَحَقُّقُهُ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ كَثْرَتَهُمْ لاَ تُغْنِي عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ شَيْئًا (2) .
السَّابِعُ: الْمَال، اعْتِدَادًا بِهِ وَتَعْوِيلاً عَلَيْهِ كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ إِذْ قَال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا} (3) وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً غَنِيًّا جَلَسَ بِجَنْبِهِ فَقِيرٌ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ ثِيَابِهِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَشِيتَ يَا فُلاَنُ أَنْ يَعْدُوَ غِنَاكَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْدُوَ إِلَيْكَ فَقْرُهُ (4) وَذَلِكَ لِلْعُجْبِ بِالْغِنَى.
وَيَنْفِيهِ عِلْمُهُ أَنَّ الْمَال فِتْنَةٌ، وَأَنَّ لَهُ آفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً (5) .
الثَّامِنُ: الرَّأْيُ الْخَطَأُ، تَوَهُّمًا أَنَّهُ نِعْمَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ نِقْمَةٌ، قَال تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (6) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 366.
(2) بدائع السلك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 366.
(3) سورة الكهف / 34.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا غنيا. . . ". أخرجه أحمد في الزهد (ص38) وفي إسناده إرسال.
(5) بدائع السلك 1 / 497، وإحياء علوم الدين 3 / 366.
(6) سورة فاطر / 8.(29/282)
وَعِلاَجُ هَذَا الْعُجْبِ أَشَدُّ مِنْ عِلاَجِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ صَاحِبَ الرَّأْيِ الْخَطَأِ جَاهِلٌ بِخَطَئِهِ، وَعِلاَجُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ: أَنْ يَكُونَ مُتَّهِمًا لِرَأْيِهِ أَبَدًا لاَ يَغْتَرُّ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ صَحِيحٍ (1) .
أَسْبَابُ الْعُجْبِ:
6 - مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعُجْبِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَإِطْرَاءُ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُل: أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا (2) .
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْمَدْحُ ذَبْحٌ.
وَلِذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِل أَنْ يَسْتَرْشِدَ إِخْوَانَ الصِّدْقِ، الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمَرَايَا الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ
__________
(1) بدائع السلك 1 / 497، وإحياء علوم الدين 3 / 366 - 367، ومختصر منهاج القاصدين ص 245 - 246.
(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 476) ومسلم (4 / 2296) واللفظ للبخاري.(29/283)
مُسَاوِيهِ الَّتِي صَرَفَهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَنْهَا (1) .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، إِذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ (2) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي (3) .
وَيَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ إِذَا رَأَى مِنْ غَيْرِهِ سَيِّئَةً أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى فِيهَا مِثْل ذَلِكَ أَزَالَهُ وَلاَ يَغْفُل عَنْهُ (4) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص 235 - 236 ط. الحلبي والمنهج المسلوك ص 418.
(2) حديث: " المؤمن مرآة المؤمن. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 217) من حديث أبي هريرة، وحسن إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (2 / 180) .
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 307.
(4) الذريعة إلى مكارم الشريعة 307.(29/283)
عَجْزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجْزُ لُغَةً: مَصْدَرُ الْفِعْل عَجْزٌ، يُقَال: عَجَزَ عَنِ الأَْمْرِ يَعْجِزُ عَجْزًا، وَعَجَّزَ فُلاَنٌ رَأْيَ فُلاَنٍ: إِذَا نَسَبَهُ إِلَى خِلاَفِ الْحَزْمِ، كَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ.
وَالْعَجْزُ: الضَّعْفُ، وَالتَّعْجِيزُ: التَّثْبِيطُ (1) . وَفِي الْمِصْبَاحِ: أَعْجَزَهُ الشَّيْءُ: فَاتَهُ (2) . وَفِي مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ: الْعَجْزُ: أَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْل الشَّيْءِ، وَهُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ (3) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ قَال الرَّافِعِيُّ: لاَ نَعْنِي بِالْعَجْزِ عَدَمَ الإِْمْكَانِ فَقَطْ، بَل فِي مَعْنَاهُ خَوْفُ الْهَلاَكِ. . . وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الإِْمَامُ فِي ضَبْطِ الْعَجْزِ أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ تُذْهِبُ خُشُوعَهُ (4)
وَيَقُول الأُْصُولِيُّونَ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير.
(3) المفردات للراغب.
(4) مغني المحتاج 1 / 154.(29/284)
عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُل أَمْرٍ، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لاَ تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ، بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ حَقِيقَةً، وَلاَ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ إِلاَّ بِنُقْصَانٍ يَحِل بِهِ، أَوْ مَرَضٍ يُزَادُ بِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّخْصَةُ:
2 - الرُّخْصَةُ لُغَةً: التَّسْهِيل فِي الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا: إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنِ الأَْمْرِ الأَْصْلِيِّ إِلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ، تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ.
ب - التَّيْسِيرُ:
3 - التَّيْسِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ يَسَّرَ، يُقَال: يَسَّرَ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 192 - 193، والتلويح على التوضيح 1 / 198 وما بعدها، والموافقات للشاطبي 2 / 107، ومسلم الثبوت مع شرحه 1 / 137 وما بعدها.
(2) المصباح المنير.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 299.(29/284)
الأَْمْرَ إِذَا سَهَّلَهُ وَلَمْ يُعَسِّرْ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُوَافِقُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ (1) .
وَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ.
ج - الْقُدْرَةُ:
4 - الْقُدْرَةُ لُغَةً: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تُمَكِّنُ الْحَيَّ مِنَ الْفِعْل وَتَرْكِهِ بِالإِْرَادَةِ (3) . وَالْقُدْرَةُ ضِدُّ الْعَجْزِ، فَهُمَا ضِدَّانِ.
أَسْبَابُ الْعَجْزِ:
5 - لِلْعَجْزِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، إِذْ هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَمْ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُل تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِل لِتَحْصِيلِهِ، وَفِقْدَانُ هَذِهِ الْوَسَائِل يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيل الْمَطْلُوبِ.
فَعَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ مَثَلاً سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ (4) (الْوُضُوءِ وَالْغُسْل) .
وَفِقْدَانُ الْقُدْرَةِ الْبَدَنِيَّةِ - مَثَلاً - سَبَبٌ مِنْ
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية 14 / 211 ف 1 مصطلح تيسير.
(2) المصباح المنير.
( x663 ;) التعريفات للجرجاني.
(4) مغني المحتاج 1 / 87، والبدائع 1 / 46.(29/285)
أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل (1) ، وَسَبَبٌ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ (2) .
وَفِقْدَانُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ (3) .
وَالإِْعْسَارُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ الإِْنْفَاقِ (4) .
وَعَدَمُ وُجُودِ مَا يُثْبِتُ حَقَّ الْمُدَّعِي سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (5) . . . وَهَكَذَا.
وَفِقْدَانُ هَذِهِ الأَْسْبَابِ يُسَمَّى عُذْرًا، فَالأَْعْذَارُ فِي الْجُمْلَةِ أَسْبَابٌ لِلْعَجْزِ (6) .
وَيَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَالْعَتَهِ. . . إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ يُبْنَى عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا يَعْرِضُ لِلأَْهْلِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ الإِْنْسَانُ (7) .
كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ
__________
(1) المهذب 1 / 108، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270.
(2) مغني المحتاج 1 / 437، والاختيار 1 / 140.
(3) المهذب 1 / 303.
(4) الاختيار 2 / 41.
(5) القوانين الفقهية / 299.
(6) المنثور 2 / 375 - 376.
(7) فواتح الرحموت 2 / 156 - 160 وما بعدها، والتلويح على التوضيح 2 / 164 وما بعدها.(29/285)
فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ كَقَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ (1) .
وَذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ بَعْضَ أَسْبَابِ الْعَجْزِ أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى الْحُكْمِ، وَحُكْمُ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، أَوْ هِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (2) وَيَقْسِمُونَ الْقُدْرَةَ إِلَى قُدْرَةٍ مُمَكِّنَةٍ وَقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ (3) .
وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْعَسِيرِ اسْتِقْصَاءُ أَسْبَابِ الْعَجْزِ؛ لأَِنَّ كُل تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِلُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي تُحَقِّقُهُ، وَاَلَّتِي يُعْتَبَرُ فِقْدَانُهَا سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ وَيُرْجَعُ لِكُل تَصَرُّفٍ فِي بَابِهِ.
أَنْوَاعُ الْعَجْزِ:
6 - الْعَجْزُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ.
جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ، وَحَدُّهُ: أَنْ يَلْحَقَهُ بِالْقِيَامِ ضَرَرٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ فِيهَا، أَوْ حُكْمِيٌّ: بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ بِقِيَامِهِ.
__________
(1) المنثور 1 / 253 و 2 / 165 والفروق للقرافي 1 / 118، وتهذيب الفروق 1 / 179.
(2) سورة البقرة / 286.
(3) فواتح الرحموت 1 / 135، 137 - 140، والتلويح 1 / 197 - 198.(29/286)
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى قَوْل الدُّرِّ (لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ) بِقَوْلِهِ: الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ وَصْفَانِ لِلتَّعَذُّرِ، وَلَيْسَ لِلْمَرَضِ (1) .
وَفِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ جَاءَ: خَائِفُ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ وَالْعَطَشِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ عَاجِزٌ حُكْمًا، فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ (2) .
وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ، قَال الدَّرْدِيرُ: يَتَيَمَّمُ ذُو مَرَضٍ، وَلَوْ حُكْمًا، كَصَحِيحٍ خَافَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ حُدُوثَهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ (قَوْلُهُ: أَوْ حُكْمًا) وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي خَافَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ حُدُوثَ مَرَضٍ، فَهُوَ بِسَبَبِ خَوْفِهِ الْمَذْكُورِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ (3) ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ (4) .
وَقَال الْبَزْدَوِيُّ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لاَ تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ حَقِيقَةً لِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ بِبَدَنِهِ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ يَحِل
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 508، وينظر البحر الرائق 2 / 121.
(2) الهداية 1 / 26.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 147 - 148.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 340.(29/286)
بِاسْتِعْمَالِهِ نَقْصٌ بِبَدَنِهِ أَوْ مَرَضٌ يَزْدَادُ بِهِ (1) .
أَثَرُ الْعَجْزِ:
7 - الْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْحُدُودِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُل مَا عَجَزَ عَنْهُ الإِْنْسَانُ يَسَّرَتْهُ لَهُ الشَّرِيعَةُ، تَفَضُّلاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (2) قَال الْجَصَّاصُ: فِي هَذِهِ الآْيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلاَ يُطِيقُهُ، وَلَوْ كَلَّفَ أَحَدًا مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلاَ يَسْتَطِيعُهُ لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ (3) .
وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْقَوَاعِدِ مَا يَجْمَعُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ وَوَضَّحُوا التَّخْفِيفَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى كُل سَبَبٍ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ:
الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: الأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 193.
(2) سورة البقرة / 286.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 537 - 538.(29/287)
قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .
وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ رُخَصُ الشَّارِعِ وَتَخْفِيفَاتُهُ، وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ هِيَ: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالإِْكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْل وَالْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْصُ. . إِلَخْ.
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الأَْسْبَابِ مِنْ آثَارِ.
وَمِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ: التَّيَمُّمُ عِنْدَ مَشَقَّةِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ، وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ مَعَ حُصُول الْفَضِيلَةِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، وَتَرْكُ الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْهَرَمِ مَعَ الْفِدْيَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذَكَرُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّقْصِ: عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ (3) .
وَمَا سَبَقَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ يُوَضِّحُ أَثَرَ الْعَجْزِ فِي الْعِبَادَاتِ.
أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَأَثَرُ الْعَجْزِ يَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ إِلَى تَصَرُّفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة الحج / 78.
(3) الأشباه النظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 76.(29/287)
النَّفَقَةِ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ بَل تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالأَْدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلاَ الزَّوْجُ (1) . (ر: نَفَقَة) .
2 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مَوَانِعَ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمَوَانِعَ اسْتِدَامَتِهَا، فَقَال: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا هُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَل كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ تَصِحُّ مَعَهُ الإِْمَامَةُ فِي عَقْدٍ، وَلاَ اسْتِدَامَةَ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الأُْمَّةِ.
أَمَّا مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَل أَوْ فُقِدَ بِهِ بَعْضُ النُّهُوضِ، كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَال التَّصَرُّفِ - فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ مِنَ الإِْمَامَةِ؛ لأَِنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.
__________
(1) الهداية 2 / 41، وحاشية ابن عابدين 2 / 256، والدسوقي 2 / 509، ومغني المحتاج 3 / 442، وحاشية الجمل 4 / 488، والمغني 7 / 573 - 574 والقليوبي 4 / 82.(29/288)
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا (1) . ر: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .
3 - الدَّعْوَى إِذَا صَحَّتْ، سَأَل الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَل الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقَال: لاَ، فَقَال: فَلَكَ يَمِينُهُ (2) فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا (3) .
وَإِنْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنِّي قَضَيْتُهُ، أَوْ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ أَبْرَأَنِي، وَطَلَبَ الإِْنْظَارَ لَزِمَ إِنْظَارُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَضَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَاسْتَحَقَّ مَا ادَّعَى بِهِ (4) .
ر: (دَعْوَى ف 68 - وَقَضَاء) .
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُفْسَخُ الإِْجَارَةُ بِالأَْعْذَارِ عِنْدَنَا، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 19.
(2) حديث: " ألك بينة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 123) من حديث وائل بن حجر.
(3) الهداية 3 / 156.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 495 وتبصرة الحكام بهامش فتح العلي 1 / 176.(29/288)
عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الإِْجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، فَتُفْسَخُ بِهِ، إِذِ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إِلاَّ بِتَحَمُّل ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ. وَكَذَا مَنِ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِر فِيهِ، فَذَهَبَ مَالُهُ، أَوْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا، فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ، لأَِنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إِلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ (1) . (ر: إِجَارَة) .
أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَجْزِ:
تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعَجْزِ وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
أَوَّلاً: سُقُوطُ الْمَطْلُوبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ:
9 - إِذَا عَجَزَ الإِْنْسَانُ عَنْ أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَخْفِيفَ إِسْقَاطٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ إِسْقَاطُ الْحَجِّ عَنِ الْفَقِيرِ (2) .
ثَانِيًا: الاِنْتِقَال إِلَى بَدَل الْمَطْلُوبِ:
10 - إِذَا عَجَزَ الإِْنْسَانُ عَنْ فِعْل الْمَطْلُوبِ
__________
(1) الهداية 3 / 250.
(2) المنثور 1 / 253 والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 83، والتلويح 2 / 164، 168، 169.(29/289)
وَكَانَ لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى الْبَدَل، كَالْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى التَّيَمُّمِ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) . وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ انْتَقَل إِلَى الْقُعُودِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ انْتَقَل إِلَى الاِضْطِجَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ انْتَقَل إِلَى الإِْيمَاءِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ انْتَقَل إِلَى الإِْطْعَامِ (3) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ وَلَمْ يَجِدْهُ - لاَ يَتْرُكُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى الْبَدَل، كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا
__________
(1) سورة النساء / 43، المائدة / 6.
(2) حديث: " صل قائما فإن لم تستطع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 83، والذخيرة ص 339، والمنثور 1 / 254، والمهذب 1 / 108، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 538، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 77.(29/289)
كَانَ مَعَهُ مَالٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ، فَعَلَيْهِ الاِنْتِقَال إِلَى الصَّوْمِ، لأَِنَّهُ مُؤَقَّتٌ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الثَّلاَثَةَ فِي الْحَجِّ، وَكَمَا لَوْ عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلاَ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَهُ وَكَانَ مَالُهُ غَائِبًا، بِخِلاَفِ جَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّأْخِيرَ (1) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي الْقَوَاعِدِ: الأَْبْدَال إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلاَتِ فِي وُجُوبِ الإِْتْيَانِ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلاَتِهَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الأَْجْرِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ الأَْجْرَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالإِْعْتَاقِ، وَلاَ الإِْطْعَامُ كَالصِّيَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ، إِذْ لَوْ تَسَاوَتِ الأَْبْدَال وَالْمُبْدَلاَتُ لَمَا شُرِطَ فِي الاِنْتِقَال إِلَى الْبَدَل فَقْدُ الْمُبْدَل (2) .
وُجُودُ الأَْصْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَل:
11 - مَنْ تَلَبَّسَ بِالْبَدَل فِي الْعِبَادَةِ لِعَجْزِهِ عَنِ الأَْصْل، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل فِي أَثْنَاءِ أَدَاءِ الْبَدَل فَقَدْ قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَ الْبَدَل مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، لَيْسَ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُتَمَتِّعُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَرُجُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَتَمَادَى فِي إِتْمَامِ
__________
(1) المنثور 1 / 178، 219 - 220.
(2) المنثور 1 / 225.(29/290)
الْعَشَرَةِ، وَلاَ أَثَرَ لِوُجُودِ الْهَدْيِ بَعْدُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَل مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَل يُرَادُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ، كَمَا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ التَّيَمُّمِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ وَقَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ (1) .
12 - وَإِذَا شُرِعَ فِي الْبَدَل، ثُمَّ وُجِدَ الأَْصْل بَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْبَدَل، فَقَدْ قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا فَقَدْ مَضَى الأَْمْرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا وَتَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ الْمَال فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ وَصَامَ، ثُمَّ عَادَ الْمَال، لأَِنَّ وَقْتَهُ مُضَيَّقٌ كَالصَّلاَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا فَقَوْلاَنِ، كَمَا لَوْ عَادَ مَالُهُ بَعْدَ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ (2) .
الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ فَقَدَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ (3) ، لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
__________
(1) المنثور 1 / 220 - 221.
(2) الزركشي 1 / 222 - 223.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 5، والبدائع 1 / 106 - 107، والخرشي 1 / 294 - 299.(29/290)
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) .
وَفَصَّل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَالزَّرْكَشِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ رَجَبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوعَةً فِي نَفْسِهَا وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ كُل آيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا بِنَفْسِهَا (3) ، كَمَنِ انْتَهَى فِي الْكَفَّارَةِ إِلَى الإِْطْعَامِ، فَقَدَرَ عَلَى إِطْعَامِ ثَلاَثِينَ، فَيَتَعَيَّنُ إِطْعَامُهُمْ (4) . وَكَذَا لَوْ وُجِدَ بَعْضُ الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ فِي الأَْصَحِّ (5) .
وَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي الْعِبَادَةِ، بَل هُوَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ إِلَيْهَا، كَتَحْرِيكِ اللِّسَانِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِمْرَارِ الْمُوسَى فِي الْحَلْقِ وَالْخِتَانِ، فَهَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ الْقِرَاءَةِ وَالْحَلْقِ وَالْقَطْعِ، وَقَدْ سَقَطَ
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة.
(3) المنثور 1 / 227 - 228، والقواعد لابن رجب ص 11.
(4) المنثور 1 / 228.
(5) المنثور 1 / 229.(29/291)
الأَْصْل فَسَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، لَكِنْ فِي تَحْرِيكِ اللِّسَانِ مِنَ الأَْخْرَسِ خِلاَفًا (1) . ر: (خَرَس ف 30) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَذَكَرَ الإِْمَامُ ضَابِطًا لِبَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَقَال: كُل أَصْلٍ ذِي بَدَلٍ فَالْقُدْرَةُ عَلَى بَعْضِ الأَْصْل لاَ حُكْمَ لَهَا، وَسَبِيل الْقَادِرِ عَلَى الْبَعْضِ كَسَبِيل الْعَاجِزِ عَنِ الْكُل، إِلاَّ فِي الْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْمَاءِ، أَوِ الْقَادِرِ عَلَى إِطْعَامِ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْتَهَى الأَْمْرُ إِلَى الإِْطْعَامِ.
وَإِنْ كَانَ لاَ بَدَل لَهُ كَالْفِطْرَةِ لَزِمَهُ الْمَيْسُورُ مِنْهُمَا، وَكَسَتْرِ الْعَوْرَةِ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ السَّاتِرِ يَجِبُ الْمَقْدُورُ مِنْهُ، وَكَمَا لَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْل الْبَاقِي (2) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ ضَابِطًا آخَرَ فَقَال: الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الأَْصْل إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْمُسْتَعْمِل سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ مِنْهُ، كَوِجْدَانِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ فِي نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَقْدُورِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ جَرِيحًا، وَكَمَا يُكَفِّرُ الْمُبَعَّضُ بِالْمَال (3) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مَسَائِل الْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 10، والمنثور 1 / 233.
(2) المنثور 1 / 232.
(3) المنثور 1 / 226 - 227.(29/291)
بِالْمَعْسُورِ، قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: هِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) .
عَجُز
انْظُرْ: أَلْيَة
عَجْفَاء
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
عِجْل
انْظُرْ: بَقَر
عَجَم
انْظُرْ: أَعْجَمِيّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 159 - 160.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر. . . ". تقدم تخريجه فـ 13.(29/292)
عَجْمَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْبَهِيمَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ عَجْمَاءَ لأَِنَّهَا لاَ تَتَكَلَّمُ، فَكُل مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلاَمِ أَصْلاً فَهُوَ أَعْجَمُ وَمُسْتَعْجِمٌ.
وَالأَْعْجَمُ أَيْضًا: الَّذِي لاَ يُفْصِحُ وَلاَ يُبَيِّنُ كَلاَمَهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْمَرْأَةُ عَجْمَاءُ.
وَالأَْعْجَمُ أَيْضًا: الَّذِي فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ أَفْصَح بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَتُطْلَقُ الْعَجْمَاءُ وَالْمُسْتَعْجِمُ عَلَى كُل بَهِيمَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَجْمَاءَ بِأَنَّهَا: الْبَهِيمَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيَوَانُ:
2 - الْحَيَوَانُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل ذِي رُوحٍ، نَاطِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَاطِقٍ.
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب.
(2) القواعد للبركتي ص 373، وفتح الباري 12 / 255.(29/292)
وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ جِسْمٌ نَامٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالإِْرَادَةِ (1) .
وَالْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْعَجْمَاءِ.
ب - الدَّابَّةُ:
3 - تُطْلَقُ الدَّابَّةُ عَلَى: كُل مَا يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ، فَكُل حَيَوَانٍ فِي الأَْرْضِ دَابَّةٌ (2) .
وَالدَّابَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَجْمَاءِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَ الْبَهِيمَةِ ضَمِنَ إِتْلاَفَهَا نَفْسًا أَوْ مَالاً، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْبَهِيمَةِ أَمْ لاَ، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَاكِبًا أَمْ سَائِقًا أَمْ قَائِدًا، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمُ التَّعَدِّيَ، وَوَضَعَ آخَرُونَ قُيُودًا أُخْرَى؛ لأَِنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا كَانَتْ بِيَدِ إِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا، وَجِنَايَتُهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْبَهِيمَةِ شَخْصٌ يُمْكِنُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِ جِنَايَتُهَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلاً فَعَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانُهُ لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلاً، وَلاَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا.
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح المنير.(29/293)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان ف 102 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - أَكْل الْعَجْمَاءِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الْعَجْمَاءِ حِل الأَْكْل إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيَوَان ف 5) ، (أَطْعِمَة: ف 57 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - زَكَاةُ الْعَجْمَاءِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النَّعَمِ، وَهِيَ الْبَقَرُ وَالإِْبِل وَالْغَنَمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 38) .
د - الرِّفْقُ بِالْعَجْمَاءِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ عَجْمَاءَ إِطْعَامُهَا وَسَقْيُهَا وَالرِّفْقُ بِهَا، لِحَدِيثِ: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (1) .
__________
(1) حديث: " عذبت امرأة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 515 ط السلفية) ومسلم (4 / 2022 ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.(29/293)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيَوَان ف 5) (وَرِفْق ف 10) .
وَلِلْعَجْمَاءِ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَبَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَرَهْنِهَا وَإِعَارَتِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
عُجْمَة
انْظُرْ: أَعْجَمِيّ، وَلُغَة(29/294)
عَجُوزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجُوزُ لُغَةً: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ، وَقَدْ عَجَزَتْ تَعْجِزُ عَجْزًا، وَعَجَّزَتْ تَعْجِيزًا: أَيْ طَعَنَتْ فِي السِّنِّ، وَسُمِّيَتْ عَجُوزًا لِعَجْزِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
وَفَسَّرَ الْقُرْطُبِيُّ الْعَجُوزَ بِالشَّيْخَةِ، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: وَلاَ يُؤَنَّثُ بِالْهَاءِ، وَقَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ. وَيُقَال أَيْضًا: عَجُوزَةٌ - بِالْهَاءِ - لِتَحْقِيقِ التَّأْنِيثِ، وَرُوِيَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُول عَجُوزَةٌ - بِالْهَاءِ - وَالْجَمْعُ عَجَائِزُ وَعُجُزٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُتَجَالَّةُ:
2 - الْمُتَجَالَّةُ هِيَ الْعَجُوزُ الْفَانِيَةُ الَّتِي لاَ إِرْبَ لِلرِّجَال فِيهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للراغب الأصفهاني وتفسير القرطبي 9 / 6.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 164.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 421 نشر دار المعرفة، والفواكه الدواني 2 / 410.(29/294)
ب - الْبَرْزَةُ:
3 - الْبَرْزَةُ: الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ الَّتِي تَبْرُزُ لِلرِّجَال وَتَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ وَهِيَ الَّتِي أَسَنَّتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ الْمَحْجُوبَاتِ (1) .
ج - الْقَاعِدُ:
4 - الْقَاعِدُ - بِغَيْرِ هَاءٍ - هِيَ الَّتِي قَعَدَتْ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنَ السِّنِّ وَعَنِ الْوَلَدِ وَالْمَحِيضِ (2) .
النَّظَرُ إِلَى الْعَجُوزِ:
5 - يُبَاحُ النَّظَرُ مِنَ الْعَجُوزِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا. عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَثْنَاهُنَّ اللَّهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (4) ، وَلأَِنَّ مَا حَرُمَ النَّظَرُ لأَِجْلِهِ مَعْدُومٌ فِي جِهَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ (5) .
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تفسير ابن العربي 3 / 418 - 419 وانظر تفسير القرطبي 12 / 309.
(3) سورة النور / 60.
(4) سورة النور / 31.
(5) كشاف القناع 5 / 13، وروضة الطالبين 7 / 24 والبدائع 5 / 121.(29/295)
الْمَذْهَبِ - بِالْعَجُوزِ كُل مَنْ لاَ تُشْتَهَى فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ خَاصَّةً (1) .
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى إِلْحَاقِ الْعَجُوزِ بِالشَّابَّةِ؛ لأَِنَّ الشَّهْوَةَ لاَ تَنْضَبِطُ، وَهِيَ مَحَل الْوَطْءِ (2) .
الْخَلْوَةُ بِالْعَجُوزِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ ثَالِثَهُمَا، يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْل مَا لاَ يَحِل، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ (3) وَلَفْظُ الرَّجُل فِي الْحَدِيثِ يَتَنَاوَل الشَّيْخَ وَالشَّابَّ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْمَرْأَةِ يَتَنَاوَل الشَّابَّةَ وَالْمُتَجَالَّةَ (4) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِالْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ، نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ: الْعَجُوزُ الشَّوْهَاءُ وَالشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ (5) .
وَأَجَازَ الشَّاذِلِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ خَلْوَةَ الشَّيْخِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 14.
(2) روضة الطالبين 7 / 24.
(3) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان ". أخرجه الترمذي (4 / 466) من حديث عمر بن الخطاب، وقال " حديث حسن صحيح ".
(4) الفواكه الدواني 2 / 409 - 410 وحاشية الجمل 4 / 125، والإنصاف 8 / 31، وابن عابدين 5 / 235.
(5) رد المحتار على الدر المختار 5 / 235.(29/295)
الْهَرَمِ بِالْمَرْأَةِ شَابَّةً أَوْ مُتَجَالَّةً وَخَلْوَةُ الشَّابِّ بِالْمُتَجَالَّةِ (1) .
وَضَابِطُ الْخَلْوَةِ اجْتِمَاعٌ لاَ تُؤْمَنُ مَعَهُ الرِّيبَةُ عَادَةً، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قُطِعَ بِانْتِفَائِهَا عَادَةً، فَلاَ يُعَدُّ خَلْوَةً (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: خَلْوَة ف 6) .
مُصَافَحَةُ الْعَجُوزِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ وَجْهِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) وَلاِنْعِدَامِ الضَّرُورَةِ إِلَى مَسِّ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا؛ لأَِنَّهُ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفِّ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ - لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلاَ حَرَجَ فِي تَرْكِ مَسِّهَا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْجْنَبِيَّةُ شَابَّةً تُشْتَهَى (4) .
أَمَّا إِذَا كَانَتْ عَجُوزًا فَلاَ بَأْسَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 410.
(2) حاشية الجمل 4 / 125.
(3) حديث: " من مس كف امرأة ليس منها بسبيل. . . ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 240) وقال: غريب.
(4) البناية 9 / 250 - 251، وبدائع الصنائع 5 / 123، ومغني المحتاج 3 / 132، وكشاف القناع 5 / 15.(29/296)
بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا، لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (1) .
بِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْل إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ مَسِّ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ (3) .
السَّلاَمُ عَلَى الْعَجُوزِ:
8 - يَرَى الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلاَمُ عَلَى الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلاَم ف 19) .
تَشْمِيتُ الْعَجُوزِ:
9 - لاَ يَجُوزُ تَشْمِيتُ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ، أَمَّا الْعَجُوزُ إِذَا عَطَسَتْ فَحَمِدَتِ اللَّهَ شَمَّتَهَا الرَّجُل، وَكَذَلِكَ إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَتْهُ الْعَجُوزُ رَدَّ عَلَيْهَا (4) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (تَشْمِيت ف 8) .
__________
(1) البناية 9 / 251.
(2) البناية 9 / 251، ومطالب أولي النهى 5 / 14، والإنصاف 8 / 26.
(3) مغني المحتاج 3 / 132 - 133، وحاشية الدسوقي 1 / 215.
(4) ابن عابدين 5 / 236، والفواكه الدواني2 / 451، والأداب الشرعية 2 / 352 - 353.(29/296)
مُدَاوَاةُ الْعَجَائِزِ الْجَرْحَى فِي الْغَزْوِ:
10 - يَجُوزُ لِلْمُتَجَالاَّتِ مِنَ النِّسَاءِ مُدَاوَاةُ الْجَرْحَى وَالْمَرْضَى الأَْجَانِبِ وَمَا شَاكَلَهَا وَنَقْل الْمَوْتَى، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَجَالاَّتِ فَيُعَالِجْنَ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُنَّ لِلرِّجَال، فَيَصِفْنَ الدَّوَاءَ، وَيَضَعُهُ غَيْرُهُنَّ عَلَى الْجُرْحِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَضَعْنَهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ (1) .
وَضْعُ الْعَجُوزِ ثِيَابَهَا:
11 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} (2) وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِهَذَا الْحُكْمِ لاِنْصِرَافِ الأَْنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لاَ مَذْهَبَ لِلرِّجَال فِيهِنَّ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ، وَأُزِيل عَنْهُنَّ كُلْفَةُ التَّحَفُّظِ الْمُتْعِبِ لَهُنَّ (3) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {ثِيَابَهُنَّ} قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: تَضَعُ خِمَارَهَا، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جِدَارٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال قَوْمٌ: الْكَبِيرَةُ الَّتِي أَيِسَتْ مِنَ النِّكَاحِ لَوْ بَدَا شَعْرُهَا فَلاَ بَأْسَ، فَعَلَى هَذَا
__________
(1) عمدة القاري 14 / 168 - 169، وفتح الباري 6 / 80.
(2) سورة النور / 60.
(3) تفسير القرطبي 12 / 309.(29/297)
يَجُوزُ لَهَا وَضْعُ الْخِمَارِ.
وَالثَّانِي: جِلْبَابَهُنَّ وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا، يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوِ الْمُقَنَّعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ، تَضَعُهُ عَنْهَا إِذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الثِّيَابِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالشَّابَّةِ فِي التَّسَتُّرِ، إِلاَّ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تَضَعُ الْجِلْبَابَ الَّذِي فَوْقَ الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ (1) .
__________
(1) تفسير ابن العربي 3 / 419، وتفسير القرطبي 12 / 309.(29/297)
عَدَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ التَّوَسُّطُ، وَالاِعْتِدَال: الاِسْتِقَامَةُ، وَالتَّعَادُل التَّسَاوِي، وَالْعَدَالَةُ صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الاِحْتِرَازَ عَمَّا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً ظَاهِرًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الْعَدَالَةُ هِيَ اسْتِوَاءُ أَحْوَال الشَّخْصِ فِي دَيْنِهِ وَاعْتِدَال أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْعَدَالَةِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: الإِْخْبَارُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ وَدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَجِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَالإِْمَامَةُ فِي الصَّلاَةِ، وَشُرُوطُ عَامِل الزَّكَاةِ، وَشُرُوطُ الشَّاهِدَيْنِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ، وَشُرُوطُ الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَلِيُّ النِّكَاحِ وَالإِْمَامَةِ الْكُبْرَى، وَالْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَدْل) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، التعريفات للجرجاني، المفردات للأصفهاني مادة (عدل) .
(2) البدائع 6 / 268، جواهر الإكليل 1 / 12، مغني المحتاج 4 / 427، كشاف القناع 6 / 418.(29/298)
عَدَاوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدَاوَةُ فِي اللُّغَةِ: الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، يُقَال: عَدَا فُلاَنٌ عَدْوًا وَعَدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً أَيْ: ظَلَمَ ظُلْمًا جَاوَزَ فِيهِ الْقَدْرَ، وَعَدَا بَنُو فُلاَنٍ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ أَيْ: ظَلَمُوهُمْ (1) .
وَالْعَادِي: الظَّالِمُ، وَالْعَدُوُّ: خِلاَفُ الصَّدِيقِ الْمُوَالِي، وَالْجَمْعُ أَعْدَاءٌ.
وَفِي التَّعْرِيفَاتِ وَدُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: الْعَدَاوَةُ هِيَ مَا يَتَمَكَّنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَالاِنْتِقَامِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدَاقَةُ:
2 - الصَّدَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْوُدِّ وَالنُّصْحِ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقًا، وَالاِسْمُ الصَّدَاقَةُ: أَيْ خَالَلْتُهُ.
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الصَّدَاقَةُ صِدْقُ الاِعْتِقَادِ فِي الْمَوَدَّةِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالإِْنْسَانِ دُونَ غَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) التعريفات 1 / 1، والمغرب 306، ودستور العلماء 2 / 308.(29/298)
فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اتِّفَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى الْمَوَدَّةِ، فَإِذَا أَضْمَرَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ مَوَدَّةَ صَاحِبِهِ، فَصَارَ بَاطِنُهُ فِيهَا كَظَاهِرِهِ سُمِّيَا صَدِيقَيْنِ (1) .
فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ.
ب - الْخُصُومَةُ:
3 - الْخُصُومَةُ لُغَةً: الْمُنَازَعَةُ، وَالْجَدَل، وَالْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ هِيَ: أَنَّ الْخُصُومَةَ مِنْ قَبِيل الْقَوْل، وَالْمُعَادَاةُ مِنْ أَفْعَال الْقُلُوبِ (2) .
ج - الْكُرْهُ:
4 - الْكُرْهُ فِي اللُّغَةِ: الْقُبْحُ وَالْقَهْرُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ، تَقُول: كَرِهْتُهُ أَكْرَهُهُ كُرْهًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأَْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَكَرِهَ الأَْمْرَ وَالْمَنْظَرَ كَرَاهَةً فَهُوَ كَرِيهٌ، مِثْل قَبُحَ قَبَاحَةً فَهُوَ قَبِيحٌ وَزْنًا وَمَعْنًى.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والكليات 3 / 111، وانظر تفسير الماوردي آية 61 من سورة النور.
(2) لسان العرب، وتكملة فتح القدير 6 / 96.(29/299)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْعَدَاوَةُ فِي الشَّهَادَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ قَبُول الشَّهَادَةِ عَدَمُ التُّهْمَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَمِنَ التُّهَمِ الَّتِي لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مِنْ أَجْلِهَا: الْعَدَاوَةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْل بَيْتِهِ (2) وَالْغِمْرُ: الْحِقْدُ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ الَّتِي لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مِنْ أَجْلِهَا: الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ الدِّينِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْمُعَادَاةَ مِنْ أَجْل الدُّنْيَا مُحَرَّمَةٌ وَمُنَافِيَةٌ لِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ ذَلِكَ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَذِبًا.
وَالْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ هِيَ الْعَدَاوَةُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ أُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالْمَال وَالْجَاهِ، فَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل
__________
(1) المصباح المنير والمغرب 406.
(2) حديث: " لا تجوز شهادة الخائن. . . ". أخرجه أحمد (2 / 204 - ط. الميمنية) وقوى إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 198 ط. شركة الطباعة الفنية) .(29/299)
شَهَادَةُ الْمَجْرُوحِ عَلَى الْجَارِحِ وَوَرَثَةِ الْمَقْتُول عَلَى الْقَاتِل، وَالْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَاذِفِ، وَالْمَشْتُومِ عَلَى الشَّاتِمِ، وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ضَابِطِهَا، فَقَال الشَّلَبِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْعَدُوُّ مَنْ يَفْرَحُ بِحُزْنِهِ وَيَحْزَنُ بِفَرَحِهِ، وَقِيل: يُعْرَفُ بِالْعُرْفِ، وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ دُرَرِ الْحُكَّامِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ: أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ أَحَدٍ، أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ، وَطَلَبَ لَهُ الشَّرَّ وَنَحْوَهُ، فَهُوَ عَدُوُّهُ، لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ لِلتُّهْمَةِ.
أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ فَلاَ تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُتَّبِعُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَلَوْ تَجَاوَزَ أَحَدٌ الْحَدَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي وَالْمَعَاصِي وَصَارَ أَحَدٌ عَدُوًّا لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ ذَلِكَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ قَدْ سَبَّبَتْ إِفْرَاطَ الأَْذَى عَلَى الْفَاسِقِ وَمُرْتَكِبِ الْمَعَاصِي، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْنَعُ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ قَبُول الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ،(29/300)
سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّاهِدُ عَدُوًّا لِلزَّوْجَيْنِ أَمْ أَحَدِهِمَا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى قَبُول شَهَادَةِ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ، إِذْ لاَ تُهْمَةَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْبَل وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. (1)
ب - الْعَدَاوَةُ فِي الْقَضَاءِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْضِي عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِنَقْضِهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
ج - الْعَدَاوَةُ فِي النِّكَاحِ:
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ تَزْوِيجِ الأَْبِ لاِبْنَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ بِأَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا أَهْل
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 221، ودرر الحكام 4 / 355، 356، وحاشية الدسوقي 3 / 171، والقوانين الفقهية 336، وتبصرة الحكام 1 / 180 ط. الشرقية 1301هـ، روضة الطالبين 11 / 237، مغني المحتاج 3 / 144، المغني 12 / 55 وما بعدها، منتهى الإرادات 3 / 554، كشاف القناع 6 / 431، الإنصاف 12 / 74.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 301، حاشية الدسوقي 4 / 152، روضة الطالبين 11 / 146، كشاف القناع 6 / 320، الروض المربع 368.(29/300)
مَحَلِّهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا، بِخِلاَفِ الْعَدَاوَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ يَحْتَاطُ لِمُوَلِّيَتِهِ لِخَوْفِ الْعَارِ وَغَيْرِهِ.
قَال الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الإِْجْبَارِ أَيْضًا: انْتِفَاءُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَاهُنَا ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ، أَمَّا مُجَرَّدُ كَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلاَ تُؤَثِّرُ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ.
قَال صَاحِبُ شَرْحِ الرَّوْضِ: وَلاَ حَاجَةَ لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ عَدَاوَةِ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ شَفَقَةَ الْوَلِيِّ تَدْعُوهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُزَوِّجُهَا مِنْ عَدُوِّهَا. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 149، القليوبي وعميرة 3 / 222، كشاف القناع 5 / 44.(29/301)
عُدَّة
التَّعْرِيفُ
1 - الْعُدَّةُ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِعْدَادُ وَالتَّأَهُّبُ وَمَا أَعْدَدْتَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ سِلاَحٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: جَمِيعُ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْعَدُوِّ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُدَّةِ:
2 - الْعُدَّةُ - أَيِ الاِسْتِعْدَادُ لِلْحَرْبِ - فَرِيضَةٌ تُلاَزِمُ فَرِيضَةَ الْجِهَادِ، فَالْحَرْبُ بِلاَ عُدَّةٍ إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالْعُدَّةُ لِلْحَرْبِ فِي سَبِيل إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَال تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ، (3) وَالْخِطَابُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفتوحات الإلهية، تفسير البغوي 2 / 253.
(3) سورة الأنفال / 60.(29/301)
التَّهْلُكَةِ} (1) أَيْ بِتَرْكِ الإِْنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْخِطَابُ أَيْضًا لِكَافَّتِهِمْ، وَعَدَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَرْكَ الإِْنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَعَدَمَ الاِسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ بِاِتِّخَاذِ الْعُدَّةِ اللاَّزِمَةِ لِلنَّصْرِ تَهْلُكَةً لِلنَّفْسِ، وَتَهْلُكَةً لِلْجَمَاعَةِ، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْجِهَادِ فِي التَّوْجِيهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ تُلاَزِمُهَا فِي الأَْغْلَبِ الأَْعَمِّ دَعْوَةٌ إِلَى الإِْنْفَاقِ.
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْمَاوَرْدِيِّ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيل اللَّهِ فَتَهْلَكُوا، ثُمَّ قَال: هَذَا قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيل: لاَ تُقْحِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْحَرْبِ بِغَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ، وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: التَّهْلُكَةُ أَنْ تُمْسِكَ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَالْعُدَّةُ بِمَا فِي الطَّوْقِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ تَرَكُوهَا أَثِمُوا جَمِيعًا، وَهِيَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ وَتَلْزَمُ عَلَيْهِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: مِنَ الأُْمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الإِْمَامِ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ، وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ حَتَّى لاَ يَظْفَرَ الأَْعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ فِيهَا مُحَرَّمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ دَمًا، وَعَدَّ الْقُرْآنُ تَرْكَ الْعُدَّةِ لِلْحَرْبِ إِعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ، فَقَال تَعَالَى: فِي
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) الخازن، ابن كثير، تفسير الماوردي.(29/302)
شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِعْذَارٍ وَاهِيَةٍ فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ مَعَهُ فِي الْجِهَادِ: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} .
(1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سِلاَح) .
مَا تَكُونُ بِهِ الْعُدَّةُ:
3 - بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعُدَّةَ: بِأَنَّهَا الْقُوَّةُ، وَرِبَاطُ الْخَيْل، قَال تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُوَّةِ: وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أ - الْقُوَّةُ: ذُكُورُ الْخَيْل، وَرِبَاطُ الْخَيْل إِنَاثُهَا.
ب - الْقُوَّةُ: السِّلاَحُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
ج - التَّصَافِي، وَاتِّفَاقُ الْكَلِمَةِ.
د - الثِّقَةُ بِاَللَّهِ.
هـ - الرَّمْيُ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 16. والآيات من سورة التوبة من 44 - 46.(29/302)
وَقَال صَاحِبُ تَفْسِيرِ الْخَازِنِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَقْوَالاً فِي مَعْنَى الْقُوَّةِ: الْقَوْل الرَّابِعُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُوَّةِ جَمِيعُ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْعَدُوِّ، فَكُل مَا هُوَ آلَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِعْدَادِهَا، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (1) لاَ يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِ الرَّمْيِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِعْدَادِهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ (2) وَكَقَوْلِهِ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ (3) فَهَذَا لاَ يَنْفِي اعْتِبَارَ غَيْرِهِ، بَل يَدُل عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ أَجَل الْمَقْصُودِ، وَلأَِنَّ الرَّمْيَ كَانَ مِنْ أَنْجَعِ وَسَائِل الْحَرْبِ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَكَذَا هُنَا يُحْمَل مَعْنَى الآْيَةِ عَلَى الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِتَال فِي الْجِهَادِ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الآْلاَتِ، كَالرَّمْيِ بِالنَّبْل، وَالنِّشَابِ، وَالسَّيْفِ، وَتَعَلُّمِ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالتَّصَافِي، وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ، وَالثِّقَةِ بِاَللَّهِ وَكُل ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَقَال الشِّهَابُ: إِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا هُنَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ تَامٌّ فِي
__________
(1) حديث: " ألا إن القوة الرمي " أخرجه مسلم (3 / 1522) من حديث عقبة بن عامر.
(2) حديث: " الحج عرفة ". أخرجه أبو داود (2 / 486) الحاكم (1 / 464) من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " الندم توبة ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1420) والحاكم (4 / 243) من حديث ابن مسعود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(29/303)
بَدْرٍ، فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ النَّصْرَ بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ لاَ يَتَأَتَّى فِي كُل زَمَانٍ، وَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى وُجُودِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ اتِّقَاءَ بَأْسِ الْعَدُوِّ. (1)
وَخَصَّ رِبَاطَ الْخَيْل بِالذِّكْرِ - مَعَ أَنَّ الأَْمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ يَتَنَاوَل جَمِيعَ مَا يُتَقَوَّى بِهِ لِلْحَرْبِ عَلَى اخْتِلاَفِ صُنُوفِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَسْبَابِهَا - لأَِنَّهَا الأَْدَاةُ الَّتِي كَانَتْ بَارِزَةً عِنْدَ مَنْ كَانَ يُخَاطِبُهُمُ الْقُرْآنُ أَوَّل مَرَّةٍ، وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ لَدَيْهِمْ، وَلاَ يُطِيقُونَ إِعْدَادَهَا لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لاَ يُطَاقُ. (2)
__________
(1) تفسير الخازن، الفتوحات الإلهية، روح المعاني، تفسير البغوي: في تفسير آية 60 من سورة الأنفال، وآية 46 من سورة التوبة وآية 195 من سورة البقرة.
(2) المصادر السابقة.(29/303)
عِدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِدَّةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَدِّ وَالْحِسَابِ، وَالْعَدُّ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْصَاءُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لاِشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدَدِ مِنَ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ غَالِبًا، فَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ مَا تَعُدُّهُ مِنْ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا، أَوْ أَيَّامِ حَمْلِهَا، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، وَقِيل: تَرَبُّصُهَا الْمُدَّةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهَا، وَجَمْعُ الْعِدَّةِ: عِدَدٌ، كَسِدْرَةٍ، وَسِدَرٍ.
وَالْعُدَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الاِسْتِعْدَادُ أَوْ مَا أَعْدَدْتَهُ مِنْ مَالٍ وَسِلاَحٍ، وَالْجَمْعُ عُدَدٌ، مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ.
وَالْعِدُّ: الْمَاءُ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ، كَمَاءِ الْعَيْنِ وَمَاءِ الْبِئْرِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اسْمٌ لِمُدَّةٍ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ أَوْ لِتَفَجُّعِهَا عَلَى زَوْجِهَا.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير(29/304)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِبْرَاءُ:
2 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ أَيِ التَّخَلُّصِ، أَوِ التَّنَزُّهِ وَالتَّبَاعُدِ أَوِ الإِْعْذَارِ وَالإِْنْذَارِ أَوْ طَلَبُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل (1) ، أَوْ هُوَ الاِسْتِقْصَاءُ وَالْبَحْثُ عَنْ كُل أَمْرٍ غَامِضٍ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الْمَعْنَى الأَْوَّل: الاِسْتِبْرَاءُ فِي الطَّهَارَةِ: وَهُوَ إِزَالَةُ مَا بِالْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأَْذَى. (3)
الْمَعْنَى الثَّانِي: الاِسْتِبْرَاءُ فِي النَّسَبِ: وَهُوَ تَرَبُّصُ الأَْمَةِ مُدَّةً بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ حُدُوثًا أَوْ زَوَالاً لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ أَوْ لِلتَّعَبُّدِ. (4)
فَالاِسْتِبْرَاءُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْعِدَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُدَّةٌ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ لِتَحِل لِلاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَيَفْتَرِقَانِ فِي عِدَّةِ أُمُورٍ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ مِنْهَا:
أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، حَتَّى وَلَوْ تَيَقَّنَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ، لِتَغْلِيبِ جَانِبِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الاِسْتِبْرَاءِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) الفواكه الدواني 2 / 90.
(3) شرح الحدود ابن عرفة للرصاع ص 36.
(4) مغني المحتاج 3 / 408.(29/304)
وَأَنَّهُ يَكْفِي الْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ لاَ فِي الْعِدَّةِ. (1)
ب - الإِْحْدَادُ:
3 - الإِْحْدَادُ لُغَةً: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ وَالأَْسَفِ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِنْهُ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالإِْحْدَادِ: أَنَّ الْعِدَّةَ ظَرْفٌ لِلإِْحْدَادِ، فَفِي الْعِدَّةِ تَتْرُكُ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِمَوْتِ زَوْجِهَا.
ج - التَّرَبُّصُ:
4 - التَّرَبُّصُ لُغَةً: الاِنْتِظَارُ، يُقَال: تَرَبَّصْتُ الأَْمْرَ تَرَبُّصًا انْتَظَرْتُهُ، وَتَرَبَّصْتُ الأَْمْرَ بِفُلاَنٍ تَوَقَّعْتُ نُزُولَهُ بِهِ.
(4) وَاصْطِلاَحًا هُوَ التَّثَبُّتُ وَالاِنْتِظَارُ قَال تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} (5) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ أَنَّ التَّرَبُّصَ
__________
(1) الفروق 3 / 302 - 205.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، مختار الصحاح.
(3) البدائع 3 / 208، مغني المحتاج 3 / 399.
(4) المصباح المنير.
(5) سورة المؤمنين / 25.(29/305)
ظَرْفٌ لِلْعِدَّةِ فَإِذَا انْتَهَتِ الْعِدَّةُ انْتَهَى التَّرَبُّصُ، وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْعِدَّةِ وَفِي غَيْرِهَا كَالآْجَال فِي بَابِ الدُّيُونِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعِدَّةِ، فَكُل عِدَّةٍ تَرَبُّصٌ، وَلَيْسَ كُل تَرَبُّصٍ عِدَّةٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيل عَلَيْهَا:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا (1) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (4)
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 190 وما بعدها، الدسوقي 2 / 486 مغني المحتاج 3 / 384، المغني لابن قدامة 7 / 448 مكتبة الرياض الحديثة.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) سورة الطلاق / 4.
(4) سورة البقرة / 234.(29/305)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَحُدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (1) وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاَثِ حِيَضٍ. (3)
ج - الإِْجْمَاعُ - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا مِنْ عَصْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.
سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ:
6 - تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُول بِسَبَبِ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ اللِّعَانِ، كَمَا تَجِبُ بِالْمَوْتِ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي
__________
(1) حديث: " لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث. . . " أخرجه مسلم (2 / 1127) .
(2) حديث: " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ". أخرجه مسلم (2 / 1114) .
(3) حديث عائشة: " أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض ". أخرجه ابن ماجه (1 / 671) وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 357) .(29/306)
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلاَ تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُول، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَجِبُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ: بُطْلاَن ف 30 وَخَلْوَة ف 19.
انْتِظَارُ الرَّجُل مُدَّةَ الْعِدَّةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الرَّجُل حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا دُونَ انْتِظَارِ مُضِيِّ مُدَّةِ عِدَّتِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَ الزَّوَاجَ بِعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ طَلَّقَ رَابِعَةً وَيُرِيدُ الزَّوَاجَ بِأُخْرَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الاِنْتِظَارُ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ بِالاِتِّفَاقِ، أَوِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الاِنْتِظَارُ.
وَمَنْعُ الرَّجُل مِنَ الزَّوَاجِ هُنَا لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ، لاَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلاَ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ، وَإِنْ كَانَ يُحْمَل مَعْنَى الْعِدَّةِ، قَال النَّفْرَاوِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِدَّةِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ لأَِنَّ مُدَّةَ مَنْعِ مَنْ طَلَّقَ رَابِعَةً مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا لاَ يُقَال لَهُ عِدَّةٌ، لاَ لُغَةً، وَلاَ شَرْعًا، لأَِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، كَزَمَنِ الإِْحْرَامِ أَوِ الْمَرَضِ وَلاَ يُقَال فِيهِ أَنَّهُ مُعْتَدٌّ (1)
__________
(1) لبدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 598، الفواكه الدواني 2 / 90، ومغني المحتاج 3 / 384، المغني لابن قدامة 7 / 448، جواهر الإكليل 1 / 384، الدسوقي 2 / 469.(29/306)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْعِدَّةِ:
8 - شُرِعَتِ الْعِدَّةُ لَمَعَانٍ وَحِكَمٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ مِنْهَا: الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنْ لاَ يَجْتَمِعَ مَاءُ الْوَاطِئَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِطُ الأَْنْسَابُ وَتَفْسُدُ، وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ خَطَرِ الزَّوَاجِ وَرَفْعُ قَدْرِهِ وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ، وَمِنْهَا: تَطْوِيل زَمَانِ الرَّجْعَةِ لِلْمُطَلِّقِ لَعَلَّهُ يَنْدَمُ وَيَفِيءُ فَيُصَادِفُ زَمَنًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الرَّجْعَةِ، وَمِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ وَإِظْهَارُ تَأْثِيرِ فَقْدِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّل، وَلِذَلِكَ شُرِعَ الإِْحْدَادُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الإِْحْدَادِ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمِنْهَا: الاِحْتِيَاطُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَمَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ، وَحَقِّ الْوَلَدِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، فَفِي الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّارِعُ الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُول فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِدَّةِ مُجَرَّدَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَل ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ مَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا. (1)
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (2) إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْعِدَدِ فِي الشَّرْعِ ثَلاَثَةٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 85.
(2) لبدائع للكاساني 3 / 191، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 598، الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 468، الفواكه الدواني 2 / 91، جواهر الإكليل 1 / 385، شرح منح الجليل 2 / 371، مغني المحتاج 3 / 385 وما بعدها، روضة الطالبين 8 / 366 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، المغني لابن قدامة 7 / 448 وما بعدها.(29/307)
أ - عِدَّةُ الْقُرُوءِ.
ب - عِدَّةُ الأَْشْهُرِ.
ج - عِدَّةُ وَضْعِ الْحَمْل.
أَوَّلاً - الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ.
10 - قَال الْفَيُّومِيُّ: الْقُرْءُ فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْحُ وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ، مِثْل فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَأَفْلُسٌ، وَالضَّمُّ وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْل قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، قَال أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. (1)
11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ اصْطِلاَحًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالأَْقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ: الأَْطْهَارُ، (2) ،
وَالطُّهْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحْتَوَشُ بَيْنَ دَمَيْنِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الدسوقي 2 / 469، جواهر الإكليل 1 / 385، الفواكه الدواني 2 / 91، روضة الطالبين 8 / 366، مغني المحتاج 3 / 385، تفسير القرطبي 3 / 113، وما بعدها، إعلام الموقعين 1 / 25، المغني لابن قدامة 7 / 452 وما بعدها مكتبة الرياض الحديثة.(29/307)
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ مُجَرَّدُ الاِنْتِقَال إِلَى الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمَا يَلِي:
أ - بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ أَوْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ، فَاللاَّمُ بِمَعْنَى فِي، وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَمَرَ بِالطَّلاَقِ فِي الطُّهْرِ، لاَ فِي الْحَيْضِ لِحُرْمَتِهِ بِالإِْجْمَاعِ، فَيُصْرَفُ الإِْذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّةً، وَتَطْلُقُ فِيهِ النِّسَاءُ.
(2) ب - وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.
(3) فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى الطُّهْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ، فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ.
كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فَرْضًا إِثْرَ الطَّلاَقِ بِلاَ مُهْلَةٍ فَصَحَّ أَنَّهَا الطُّهْرُ الْمُتَّصِل بِالطَّلاَقِ لاَ الْحَيْضُ الَّذِي لاَ يَتَّصِل بِالطَّلاَقِ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) سورة الطلاق / 1.
(2) تفسير القرطبي 18 / 153، 3 / 115.
(3) حديث: " مره فليراجعها. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 345 - 346) ومسلم (2 / 1093) في حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.(29/308)
الْقُرْءُ هُوَ الْحَيْضُ لَوَجَبَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِيمَنْ طَلَّقَ حَائِضًا أَنْ تَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، وَلَكِنْ لاَ يُعْتَدُّ بِهَا.
ج - وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنَّمَا الأَْقْرَاءُ الأَْطْهَارُ. (1)
د - وَلأَِنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، فَيُقَال: قَرَأْتُ كَذَا فِي كَذَا إِذَا جَمَعْتَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ؛ لأَِنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ خُرُوجُهُ مِنْهُ، وَمَا وَافَقَ الاِشْتِقَاقَ كَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ وَقُرُوءٍ وَأَقْرُؤٍ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْقُرْءِ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَالْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ قَال أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَيْثُ نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُنْتُ أَقُول: إِنَّهَا الأَْطْهَارُ، وَأَنَا الْيَوْمُ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى هَذَا،
__________
(1) سبل السلام للصنعاني 3 / 204 ط. إحياء التراث العربي - بيروت وحديث عائشة: " إنما الأقراء الأطهار. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 577) موقوفا على عائشة، وعند الشافعي في الأم (5 / 209) محتجا به.
(2) مغني المحتاج 3 / 385.(29/308)
وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ سِوَاهُ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالاِعْتِدَادِ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِل الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لأَِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلاَقُ مَحْسُوبٌ مِنَ الأَْقْرَاءِ عِنْدَ الْقَوْل الأَْوَّل، وَالثَّلاَثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالاِسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لاَ يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَل بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حُمِل عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الاِعْتِدَادُ بِثَلاَثٍ حِيَضٍ كَوَامِل؛ لأَِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ عَمَلاً بِالْكِتَابِ، فَكَانَ الْحَمْل عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ. (3)
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: طَلاَقُ الأَْمَةِ اثْنَتَانِ، وَعِدَّتُهَا
__________
(1) البدائع 3 / 193 - 194، فتح القدير 4 / 308، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 82، 85، كشاف القناع 5 / 417، إعلام الموقعين 1 / 25، القرطبي 3 / 113 وما بعدها. نيل الأوطار للشوكاني 7 / 90 وما بعدها، سبل السلام 3 / 205.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) البدائع 3 / 194، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 83 - 84. دار الكتاب العربي - بيروت.(29/309)
حَيْضَتَانِ (1) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأَْمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الاِنْقِضَاءُ، إِذِ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لاَ فِي تَغْيِيرِ أَصْل الْعِدَّةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ أَصْل مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ (2) .
ج - وَلأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَال الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا (3) وَقَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: انْظُرِي إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلاَ تُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى الْقُرْءِ (4) فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ. (5)
د - وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان " أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من حديث ابن عمر، وذكر ابن حجر في التلخيص (3 / 213) أن في إسناده راويين ضعيفين، ثم نقل عن الدارقطني والبيهقي أنهما صححاه موقوفا على ابن عمر.
(2) البدائع 3 / 194.
(3) حديث: " تدع الصلاة أيام أقرائها. . . " أخرجه الترمذي (1 / 220) وأبو داود (1 / 209) وضعفه أبو داود
(4) حديث: " انظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي. . . " أخرجه أبو داود (1 / 191) . وأصله في البخاري (فتح الباري 1 / 420) .
(5) المغني والشرح الكبير 9 / 83 - 84.(29/309)
الرَّحِمِ يَحْصُل بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ. (1)
عِدَّةُ الْحُرَّةِ ذَاتُ الأَْقْرَاءِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ ذَاتِ الأَْقْرَاءِ وَهِيَ مَنْ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ (2) ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ وَإِنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَال طُهْرُهَا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}
(4) وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُول بِهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوِ الْفَاسِدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ. (ر: خَلْوَة)
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ، وَقَوْل بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الطُّهْرُ، وَقَوْل غَيْرِهِ: إِنَّهُ الْحَيْضُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اخْتِلاَفٌ فِي حِسَابِ الْعِدَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) البدائع 3 / 194.
(2) البدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 599 - 603 الدسوقي 2 / 469 جواهر الإكليل 1 / 385، الفواكه 2 / 91، مغني المحتاج 3 / 384 - 386 روضة الطالبين 8 / 368، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 91، كشاف القناع 5 / 417.
(3) روضة الطالبين 8 / 369، الفواكه 2 / 91، الدسوقي 2 / 469.
(4) سورة البقرة / 228.(29/310)
أ - الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلُقَتْ طَاهِرًا، وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لأَِنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كَلاَمِهِ تَعَالَى عَلَى مُعْظَمِ الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) مَعَ أَنَّهُ فِي شَهْرَيْنِ وَعَشْرِ لَيَالٍ، وَلِذَلِكَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ - بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ - لاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ دَمِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ وَاغْتِسَالِهَا فِي الْمُعْتَمَدِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِل الْمُعْتَمَدِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْغُسْل لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بَل يَكْفِي انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - إِلاَّ الزُّهْرِيُّ حَيْثُ قَال: تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِبَقِيَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ زَمَنٌ حَرُمَ فِيهِ الطَّلاَقُ،
__________
(1) سورة البقرة / 197.(29/310)
فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ كَزَمَنِ الْحَيْضِ. (1)
وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا قَوْل زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي ثَوْرٍ لِئَلاَّ تَزِيدَ الْعِدَّةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ.
ب - الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَنْقَضِي مَا لَمْ تَحِضِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَ حِيَضٍ كَوَامِل تَالِيَةٍ لِلطَّلاَقِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ فَلاَ يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضِهَا فَإِنَّهَا لاَ تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، لِحُرْمَةِ الطَّلاَقِ فِي الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلاَ تَعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا. (2)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَفَائِدَةُ الاِخْتِلاَفِ أَنَّ
__________
(1) الدسوقي 2 / 469 الفواكه 2 / 91 جواهر الإكليل 1 / 385 روضة الطالبين 8 / 366 - 367 مغني المحتاج 3 / 385 المغني مع الشرح 9 / 85 - 88.
(2) البدائع 3 / 193، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 85، 99.(29/311)
مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لاَ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا، حَتَّى لاَ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلاَثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ.
(1) 15 - وَلَكِنْ هَل الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِالْغُسْل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، أَمْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْهَا. .؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ اغْتِسَالٍ، إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرَةً، لاِنْقِطَاعِ الدَّمِ بِيَقِينٍ، إِذْ لاَ مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ؛ لأَِنَّهَا إِذَا رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ حَيْضًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِعَدَمِ احْتِمَال عَوْدِ دَمِ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَزُول الْحَيْضُ ضَرُورَةً وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ رَجْعَتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِل، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلاَ يَحِل لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا، بِشَرْطِ أَنْ تَجِدَ مَاءً فَلَمْ تَغْتَسِل وَلاَ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلاَ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إِلَيْهَا: (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول:
__________
(1) البدائع 3 / 193.
(2) البدائع 3 / 183.(29/311)
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (1) أَيْ يَغْتَسِلْنَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: تَحِل لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا حَتَّى تَغْتَسِل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. (2) وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْل شَرْطًا لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَيْثُ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَال الرَّجُل: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُول مَا كَانَ، إِنَّهُ طَلَّقَنِي وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْتُ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْتُ بَابِي، وَوَضَعْتُ غُسْلِي، وَخَلَعْتُ ثِيَابِي، فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَال: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُل فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، فَقُلْتُ: أَرَى الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِل لَهَا الصَّلاَةُ، فَقَال عُمَرُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الأَْشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ
__________
(1) سورة البقر / 222 انظر تفسير القرطبي 3 / 88.
(2) حديث: " تحل لزوجها الرجعة عليها. . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف موقوفا على عمر وعلى.(29/312)
تَطْلِيقَتَيْنِ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْل.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَلأَِنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَل مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ تَسْتَيْقِنْ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ، لاِحْتِمَال الْمُعَاوَدَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، إِذِ الدَّمُ لاَ يَدِرُّ دَرًّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَدِرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَكَانَ احْتِمَال الْعَوْدِ قَائِمًا، وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ إِلَى الْعَشَرَةِ، فَلَمْ يُوجَدِ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ، فَلاَ يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِيَقِينٍ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لأَِنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا اغْتَسَلَتِ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلاَةِ، إِذْ لاَ يُبَاحُ أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ، فَتَقَرَّرَ الاِنْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الاِغْتِسَال فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لاِنْتِهَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ تَغْتَسِل، لَكِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلاَةِ، أَوْ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ، بِأَنْ كَانَتْ مُسَافِرَةً فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ.
أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَل فَهَل تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؟
قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلاَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَقَال(29/312)
مُحَمَّدٌ: تَنْتَهِي الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ الصَّلاَةِ فَلاَ يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِبَاحَةِ الْمُعْتَدَّةِ لِلأَْزْوَاجِ بِالْغُسْل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِل، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلاَ يَحِل لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلاَةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ فَأَشْبَهَتِ الْحَائِضَ.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وَقَدْ كَمُلَتِ الْقُرُوءُ، بِدَلِيل وُجُوبِ الْغُسْل عَلَيْهَا وَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَفِعْل الصِّيَامِ وَصِحَّتِهِ مِنْهَا، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ فِيهَا وَاللِّعَانِ وَالنَّفَقَةِ، قَال الْقَاضِي: إِذَا شَرَطْنَا الْغُسْل أَفَادَ عَدَمُهُ إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الأَْزْوَاجِ، فَأَمَّا سَائِرُ الأَْحْكَامِ فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا (3) .
__________
(1) البدائع 3 / 183 - 185.
(2) سورة البقرة 228 وانظر تفسير القرطبي 3 / 116 - 117.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 86، 87 والشرح الكبير عليه 100 - 101.(29/313)
عِدَّةُ الأَْمَةِ:
16 - عِدَّةُ الأَْمَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْفُرْقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهَا، وَبِاخْتِلاَفِ حَالِهَا بِاعْتِبَارِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَمْل أَوِ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ ف 99)
ثَانِيًا: الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالأَْشْهُرِ تَجِبُ فِي حَالَتَيْنِ: (1)
الْحَالَةُ الأُْولَى:
وَهِيَ مَا تَجِبُ بَدَلاً عَنِ الْحَيْضِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا الَّتِي لَمْ تَرَ دَمًا لِيَأْسٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، أَوْ جَاوَزَتْهُ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (2) أَيْ فَعِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ، وَلأَِنَّ الأَْشْهُرَ هُنَا بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ، وَالأَْصْل مُقَدَّرٌ بِثَلاَثَةٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَل.
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 192، حاشية الدسوقي 2 / 470، الفواكه الدواني 2 / 91 جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 386، روضة الطالبين 8 / 370 المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 89، 106، تفسير القرطبي 18 / 162 وما بعدها.
(2) سورة الطلاق / 4.(29/313)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ أَنْ تَكُونَ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، وَفِي الْكَبِيرَةِ الآْيِسَةِ مِنَ الْمَحِيضِ أَنْ تَكُونَ قَدْ جَاوَزَتِ السَّبْعِينَ سَنَةً. (1)
وَسِنُّ الْيَأْسِ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيَاس ف 6) .
وَإِذِ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ فَرَاغِهَا فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَلاَ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ.
وَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الأَْشْهُرِ انْتَقَلَتْ إِلَى الأَْقْرَاءِ وَلاَ يُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الأَْصْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَل - كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ أَثْنَاءَ تَيَمُّمِهِ. (2)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
عِدَّةُ الْوَفَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ أَصْلاً بِنَفْسِهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ بَعْدَ زَوَاجٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل الدُّخُول أَمْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَمْ لاَ، بِشَرْطِ أَلاَّ تَكُونَ حَامِلاً وَمُدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 91، والمغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 102، روضة الطالبين 8 / 370، الدسوقي 2 / 473.
(2) مغني المحتاج 3 / 386.(29/314)
وَعَشْرًا} (1) وَقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (2)
وَقُدِّرَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَمْل إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ. (3)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دُونَ النِّكَاحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ كَخَامِسَةٍ فَلاَ عِدَّةَ إِلاَّ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ دَخَل بِهَا وَهِيَ مُطِيقَةٌ فَتَعْتَدُّ كَالْمُطَلَّقَةِ. (4)
كَيْفِيَّةُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
18 - إِنَّ حِسَابَ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ الْوَفَاةِ يَكُونُ بِالشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ لاَ
__________
(1) الآية رقم 234 من سورة البقرة - المبسوط 6 / 30.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن. . . ". رواه البخاري ومسلم (اللؤلؤ والمرجان 258 - 259. نشر وزارة الأوقاف الكويتية) .
(3) البدائع 3 / 192 - 195 فتح القدير 4 / 311، ابن عابدين 2 / 603، الدسوقي 2 / 475، الفواكه الدواني 2 / 93، روضة الطالبين 8 / 398، 399، مغني المحتاج 3 / 395، 396، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 106، 107 كشاف القناع 5 / 415.
(4) الفواكه الدواني 2 / 93.(29/314)
الشَّمْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ أَوِ الْوَفَاةُ فِي أَوَّل الْهِلاَل اعْتُبِرَتِ الأَْشْهُرُ بِالأَْهِلَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُل هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) حَتَّى وَلَوْ نَقَصَ عَدَدُ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعِدَّةِ بِالأَْشْهُرِ، فَقَال سُبْحَانَهُ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (2) وَقَال تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الأَْشْهُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَلاَثِينَ يَوْمًا أَوْ أَقَل، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا (4) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5)
وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ أَوْ حَدَثَتِ الْوَفَاةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَلَوْ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 189.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) حديث: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر مرتين " أخرجه مسلم 2 / 761 من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) مختصرا
(5) البدائع 3 / 195، الفواكه الدواني 2 / 91، مغني المحتاج 3 / 386، 395 روضة الطالبين 8 / 370، 398 المغني لابن قدامة والشرح الكبير9 / 104، 105.(29/315)
أَثْنَاءِ أَوَّل يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ مِنْهُ اعْتُبِرَ شَهْرَانِ بِالْهِلاَل، وَيَكْمُل الْمُنْكَسِرُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ نَاقِصًا.
وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالأَْشْهُرِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ الْمُنْكَسِرِ بِالأَْيَّامِ وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالأَْهِلَّةِ، وَيَكْمُل الشَّهْرُ الأَْوَّل مِنَ الشَّهْرِ الأَْخِيرِ.
(1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الاِعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ، وَالأَْشْهُرُ اسْمُ الأَْهِلَّةِ، فَكَانَ الأَْصْل فِي الاِعْتِدَادِ هُوَ الأَْهِلَّةُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُل هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2) ، جَعَل الْهِلاَل لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَل إِلَى الأَْيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْهِلاَل فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل فَعَدَلْنَا عَنْهُ إِلَى الأَْيَّامِ، وَلاَ تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الأَْشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالأَْهِلَّةِ. (3)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُحْتَسَبُ بِالأَْيَّامِ، فَتَعْتَدُّ مِنَ الطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَمِنَ الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلاَثِينَ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 399، مغني المحتاج 3 / 395.
(2) سورة البقرة / 189.
(3) البدائع 3 / 196، الفواكه الدواني 2 / 92، روضة الطالبين 8 / 370، مغني المحتاج 3 / 386، المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 104، 105(29/315)
يَوْمًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ انْكَسَرَ جَمِيعُ الأَْشْهُرِ، قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ.
وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الاِحْتِيَاطُ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الأَْيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوِ اعْتَبَرْنَاهَا بِالأَْهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنِ الأَْيَّامِ، فَكَانَ إِيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. (1)
بَدْءُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الأَْشْهُرِ تَبْدَأُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِيهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا فِي أَثْنَاءِ اللَّيْل أَوِ النَّهَارِ ابْتُدِئَ حِسَابُ الشَّهْرِ مِنْ حِينَئِذٍ، وَاعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (2) وَقَال تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ: إِمَّا يَقِينًا وَإِمَّا اسْتِظْهَارًا، فَلاَ وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُحْسَبُ يَوْمُ الطَّلاَقِ إِنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فَجْرِهِ، وَلاَ يَوْمُ الْوَفَاةِ (4) .
__________
(1) البدائع 3 / 195، 196، روضة الطالبين 8 / 370، 399، مغني المحتاج 3 / 386، 395.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) فتح القدير 4 / 329، الفواكه الدواني 2 / 92، روضة الطالبين 8 / 370 المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 105، 106، سبل السلام 3 / 201. إحياء التراث العربي - بيروت. وهذا فيما مضى، وأما الآن فلا حرج في ذلك لإمكان ضبطه بالدقيقة للقادر على الساعة.(29/316)
الْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالأَْشْهُرِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَشْرَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَتَجِبُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ مَعَ اللَّيْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) فَالْعَرَبُ تُغَلِّبُ صِيغَةَ التَّأْنِيثِ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً عَلَى الْمُذَكَّرِ فَتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيَالِي وَتُرِيدُ اللَّيَالِيَ بِأَيَّامِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (2) يُرِيدُ بِأَيَّامِهَا بِدَلِيل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال فِي آيَةٍ أُخْرَى {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} (3) يُرِيدُ بِلَيَالِيِهَا وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ اللَّيَالِي وَالأَْيَّامُ وَبِهَذَا قَال أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ خِلاَفًا لِلأَْوْزَاعِيِّ وَالأَْصَمِّ اللَّذَيْنِ قَالاَ: تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ؛ لأَِنَّ الْعَشْرَ تُسْتَعْمَل فِي اللَّيَالِي دُونَ الأَْيَّامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الأَْيَّامُ اللاَّتِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيَالِي تَبَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ، أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ (الْعَشْرِ) فِي الْكِتَابِ
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) سورة مريم / 10.
(3) سورة آل عمران / 41.(29/316)
وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (1) فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْدُودِ اللَّيَالِي وَإِلاَّ لأََنَّثَهُ. (2)
ثَالِثًا: الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْل:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَامِل تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنْ طَلاَقٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَهِيَ تَحْصُل بِوَضْعِ الْحَمْل. (4)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلاً: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْل، قَلَّتِ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ، حَتَّى وَلَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ. (5)
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن. . . " تقدم تخريجه فـ 17.
(2) البدائع: 3 / 195، فتح القدير 4 / 313، الفواكه الدواني 2 / 94 الدسوقي 2 / 475، روضة الطالبين 8 / 398، مغني المحتاج 3 / 395 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 107، سبل السلام 3 / 201.
(3) سورة الطلاق / 4.
(4) البدائع 3 / 192، 196، الدسوقي 2 / 474، مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 373، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110.
(5) البدائع 3 / 196، حاشية الدسوقي 2 / 474، جواهر الإكليل 1 / 364، الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 3 / 388، حاشية الجمل 4 / 454، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110، تفسير القرطبي 3 / 174.(29/317)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَقَدْ جَاءَتْ عَامَّةً فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِنَّ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَكَانَتْ حَامِلاً. (1)
وَالآْيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
(2) كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَْسْلَمِيَّةَ نَفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ (4) وَقِيل: إِنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَال الزُّهْرِيُّ: وَلاَ أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ
__________
(1) البدائع 3 / 196، 197.
(2) سورة البقرة / 234، والفواكه الدواني 2 / 92.
(3) البدائع 3 / 196 تفسيرالقرطبي 3 / 174.
(4) حديث: سبيعة الأسلمية: " أنها نفست. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم بشرح النووي، دار إحياء التراث العربى) .(29/317)
وَهِيَ فِي دَمِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ. (1)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، بَل وَلَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِسَاعَةٍ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعُ الْحَمْل فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنَ الاِنْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ. (2)
وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. . . وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ: وَضْعُ الْحَمْل أَوْ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (4) فَالآْيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّهَا
__________
(1) سبل السلام 3 / 196، 197، ونيل الأوطار للشوكاني 7 / 85 وما بعده دار الجيل بيروت البدائع 3 / 197.
(2) البدائع 3 / 197.
(3) البدائع 3 / 197 صحيح مسلم 10 / 109 - 110، سبل السلام 3 / 196 وما بعده - نيل الأوطار 7 / 85 وما بعدها، تفسير القرطبي 3 / 174 - 175.
(4) سورة البقرة / 234.(29/318)
عَامَّةٌ تَشْمَل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَامِلاً كَانَتْ أَوْ حَائِلاً وَخَاصَّةً فِي الْمُدَّةِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ أَيْضًا، لأَِنَّهَا تَشْمَل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَغَيْرَهَا وَخَاصَّةً فِي وَضْعِ الْحَمْل، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الآْيَتَيْنِ وَالْعَمَل بِهِمَا أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْل الأُْصُول؛ لأَِنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الأَْجَلَيْنِ فَقَدْ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الآْيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْل فَقَدْ تَرَكَتِ الْعَمَل بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَإِعْمَال النَّصَّيْنِ مَعًا خَيْرٌ مِنْ إِهْمَال أَحَدِهِمَا. (2)
الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الإِْنْسَانِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَتِ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْقَضِي بِهَا
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) تفسير القرطبي 3 / 175، صحيح مسلم 10 / 110، سبل السلام 3 / 196 نيل الأوطار للشوكاني 7 / 85 وما بعدها، والبدائع للكساني 3 / 196 - 197.(29/318)
الْعِدَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُول بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِهِ.
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْوَضْعِ لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لاَ صُورَةَ فِيهَا فَلاَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَمْل دَمًا اجْتَمَعَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَلاَمَةُ كَوْنِهِ حَمْلاً أَنَّهُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ. (2)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ فِي الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا احْتِمَالاً كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا لاَعَنَ حَامِلاً وَنَفَى الْحَمْل انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لإِِمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَالْقَوْل قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ الإِْمْكَانُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) البدائع 3 / 196، ابن عابدين 2 / 604، القليوبي وعميرة 4 / 43 / 44، مغني المحتاج 3 / 388 - 389، روضة الطالبين 8 / 376، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 113 وما بعدها.
(2) الدسوقي 2 / 474.(29/319)
مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَلاَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْل، كَمَا إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإِْنْزَال أَوْ مَمْسُوحٌ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وَهَكَذَا كُل مَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِل بِوَلَدٍ لاَ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ. (1)
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِل تَنْقَضِي بِانْفِصَال جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْل وَاحِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ.
24 - الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: فِيمَا لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ هَل تَنْقَضِي الْعِدَّةُ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ بِانْفِصَالِهِ كُلِّهِ عَنْ أُمِّهِ (3) ، خِلاَفًا لاِبْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِل إِنَّهَا تَحِل بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْل بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الأَْقَل لِلأَْكْثَرِ. (4)
__________
(1) الدسوقي 2 / 474، روضة الطالبين 8 / 373 وما بعدها، مغني المحتاج 3 / 388، المغني مع الشرح الكبير 9 / 117.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) ابن عابدين 2 / 604، الدسوقي 2 / 474، الفواكه الدواني 2 / 92 جواهر الإكليل 1 / 387، مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 375، القليوبي 4 / 42 - 44، حاشية الجمل 4 / 446، المغني مع الشرح الكبير 9 / 112.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 474.(29/319)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ احْتِيَاطًا؛ لأَِنَّ الأَْكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلاَ يَقُومُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ احْتِيَاطًا. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَنْقَضِي بِخُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُنْفَصِلاً أَوْ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَاقِي بَقِيَتِ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الآْخَرُ. (2)
25 - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْحَمْل اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحَمْل إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ إِلاَّ بِوَضْعِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ، وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْل، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الْوَلَدِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لاِنْقِضَائِهَا، وَلأَِنَّهَا لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 604، البدائع 3 / 196.
(2) روضة الطالبين 8 / 375.(29/320)
الأَْوَّل لأَُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ كَمَا لَوْ وَضَعَتِ الآْخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَشَكَّتْ فِي وُجُودِ ثَانٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ وَتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَمْلٌ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاؤُهُ فَلاَ يَزُول بِالشَّكِّ (1) ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل فَلَوْ وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَكَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ قَبْل أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ أَوِ الآْخَرَ لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونَانِ تَوْأَمَيْنِ إِذَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ.
(2) الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الأَْوَّل وَلَكِنْ لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الآْخَرَ، (3) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (4) وَلَمْ يَقُل أَحْمَالَهُنَّ فَإِذَا وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا. (5)
وَعَلَى هَذَا الْقَوْل لاَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا بَعْدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 604، فتح القدير 4 / 314، ط. مصطفى الحلبي بمصر، والبدائع 3 / 198، حاشية الدسوقي 2 / 474، مغني المحتاج 3 / 388، حاشية الجمل 4 / 446، المغني مع الشرح الكبير 9 / 112 - 113.
(2) روضة الطالبين 8 / 375، مغني المحتاج 3 / 388.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 22، البدائع 3 / 198.
(4) سورة الطلاق / 4.
(5) البدائع 3 / 198.(29/320)
وَضْعِ الْوَلَدِ الأَْوَّل لِعَدَمِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الأَْخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ انْقِضَاءَ مُرَاجَعَةِ الْحَامِل يَتَوَقَّفُ عَلَى وَضْعِ كُل الْحَمْل وَهَذَا هُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. (1)
مَتَى يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْل الزَّوَاجُ: بِالْوَضْعِ أَمْ بِالطُّهْرِ؟
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْل حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْل كُلِّهِ فَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ أَنَّ زَوْجَهَا لاَ يَقْرَبُهَا حَتَّى تَطْهُرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
(2) الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا دَامَتْ فِي دَمِ نِفَاسِهَا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ (3) وَمَعْنَى تَعَلَّتْ يَعْنِي طَهُرَتْ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 8 / 478 - 479.
(2) سورة البقرة / 222.
(3) حديث: " فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ". أخرجه النسائي (6 / 195) من حديث سبيعة الأسلمية. وأصله في البخاري (فتح الباري 9 / 469) ومسلم (2 / 1123) .
(4) المراجع السابقة، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 175.(29/321)
ارْتِيَابُ الْمُعْتَدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ:
27 - مَعْنَاهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ أَمَارَاتِ الْحَمْل وَهِيَ فِي عِدَّةِ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ هَل هُوَ حَمْلٌ أَمْ لاَ. (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: قَال الْمَالِكِيَّةُ إِنِ ارْتَابَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَيْ شَكَّتْ وَتَحَيَّرَتْ بِالْحَمْل إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْل هَل تَتَرَبَّصُ خَمْسًا مِنَ السِّنِينَ أَوْ أَرْبَعًا؟ فِيهِ خِلاَفٌ: إِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَزِدِ الرِّيبَةُ حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إِنْ مَضَتْ وَزَادَتِ الرِّيبَةُ لِكِبَرِ بَطْنِهَا مَكَثَتْ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا مَضَتِ الْخَمْسَةُ أَوِ الأَْرْبَعَةُ حَلَّتْ وَلَوْ بَقِيَتِ الرِّيبَةُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْمُرْتَابَةُ بِالْحَمْل قَبْل تَمَامِ الْخَمْسِ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَوَلَدَتْ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي لَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِي لأَِنَّهُ نَكَحَ حَامِلاً، أَمَّا عَدَمُ لُحُوقِهِ بِالأَْوَّل فَلِزِيَادَتِهِ عَلَى الْخَمْسِ سِنِينَ بِشَهْرٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوِلاَدَتِهِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ ارْتَابَتْ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لاَ بِثِقَلٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 104، مغني المحتاج 3 / 389.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 474، الفواكه الدواني 2 / 94، جواهر الإكليل 1 / 387.(29/321)
وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا لَمْ تَنْكِحْ آخَرَ حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ بِمُرُورِ زَمَنٍ تَزْعُمُ النِّسَاءُ أَنَّهَا لاَ تَلِدُ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ قَدْ لَزِمَتْهَا بِيَقِينٍ فَلاَ تَخْرُجُ عَنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِلتَّرَدُّدِ فِي انْقِضَائِهَا وَالاِحْتِيَاطِ فِي الأَْبْضَاعِ، وَلأَِنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُبْطِل الْعَقْدَ، فَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَنِكَاحِ الآْخَرِ اسْتَمَرَّ نِكَاحُهَا إِلَى أَنْ تَلِدَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِبُطْلاَنِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا حَامِلاً يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْوَلَدُ لِلأَْوَّل إِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ قَبْل نِكَاحٍ بِآخَرَ تَصْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ لِتَزُول الرِّيبَةُ لِلاِحْتِيَاطِ لِخَبَرِ: (1) دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ. (2)
الْقَوْل الثَّالِثُ: قَال الْحَنَابِلَةُ إِنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لاَ لَهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي حُكْمِ الاِعْتِدَادِ حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 389
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668) والنسائي (8 / 328) من حديث الحسن بن علي. وقال الترمذي حديث حسن صحيح.(29/322)
زُوِّجَتْ قَبْل زَوَال الرِّيبَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَل إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْل أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِبَيَانِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
الثَّانِي: إِنْ ظَهَرَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَالتَّزَوُّجِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَالْحَمْل مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلاَ يَزُول بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَكِنْ لاَ يَحِل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَحِل لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَوَطِئَهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْل النِّكَاحِ فَلاَ يَحِل لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَحِل لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ. (1)
تَحَوُّل الْعِدَّةِ أَوِ انْتِقَالُهَا:
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ ثَلاَثَةٌ: عِدَّةٌ بِالأَْقْرَاءِ أَوْ
__________
(1) (1) المغني لابن قدامة 9 / 104 - 105. هذا ما كان معروفا في عصرهم بناء على الريبة لعدم وجود اليقين وأما اليوم فيمكن أن يتوصل إلى اليقين بوجود الحمل أو عدمه بالوسائل العلمية المتقدمة.(29/322)
بِالأَْشْهُرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْل، وَقَدْ تَنْتَقِل مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى كَمَا يَلِي:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
انْتِقَال الْعِدَّةِ أَوْ تَحَوُّلُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الآْيِسَةُ.
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْبَالِغَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالأَْشْهُرِ فَحَاضَتْ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، فَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، لأَِنَّ الأَْشْهُرَ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَل بَطَل حُكْمُ الْبَدَل كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ. (1)
أَمَّا إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَهَا وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لأَِنَّهُ مَعْنًى حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَاَلَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلاَ يُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا الأَْصْل؛ لأَِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَنْعُهُ لَمْ يَحْصُل لِمَنْ لَمْ تَحِضْ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ بِحَالٍ. (2)
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 200، والمغني لابن قدامة 9 / 102.
(2) البدائع 3 / 200. ط. دار الكتاب العربي، ابن عابدين 2 / 606، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 473، الفواكه الدواني 2 / 92 ط. دار المعرفة بيروت - القوانين الفقهية 299، روضة الطالبين 8 / 370، مغني المحتاج 3 / 386، المغني لابن قدامة 9 / 102 - وما بعدها - دار الكتاب العربي.(29/323)
وَالآْيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّل عِدَّتُهَا إِلَى الأَْقْرَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لأَِنَّهَا لَمَّا رَأَتِ الدَّمَ دَل عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ فِي الظَّنِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ فِي حَقِّهَا لأَِنَّهَا بَدَلٌ فَلاَ يُعْتَبَرُ مَعَ وُجُودِ الأَْصْل، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلإِْيَاسِ فِيهَا وَقْتًا - إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لاَ يَحِيضُ مِثْلُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ حَتَّى يَبْطُل بِهِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ.
وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْجَصَّاصِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ ذَلِكَ فِي الَّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَأَمَّا الآْيِسَةُ فَمَا تَرَى مِنَ الدَّمِ لاَ يَكُونُ حَيْضًا، أَلاَ تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ مِنْهَا كَانَ مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، كَذَا عَلَّل الْجَصَّاصُ (1) خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الآْيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السَّبْعِينَ، وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْل السِّتِّينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَل هُوَ حَيْضٌ أَمْ
__________
(1) البدائع 3 / 200، ابن عابدين 2 / 606، روضة الطالبين 8 / 372، مغني المحتاج 3 / 386.(29/323)
لاَ؟ (1) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ دَلِيل الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ، وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لاَ تَعْتَدُّ بِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ، كَاَلَّتِي لاَ تَرَى دَمًا. (2)
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس ف 6) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الآْيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ تَمَامِ الأَْشْهُرِ فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: - لاَ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الأَْقْرَاءِ، بَل انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ الأَْشْهُرِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِي: - يَلْزَمُهَا، لأَِنَّهُ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً بِخِلاَفِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الاِعْتِدَادِ مِنَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ.
الثَّالِثُ: - وَهُوَ الأَْظْهَرُ إِنْ كَانَ نَكَحَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الأَْقْرَاءُ (3) .
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 204، مواهب الجليل 4 / 144 - 146، الدسوقي 2 / 420 المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 92، 108.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 93.
(3) روضة الطالبين 8 / 373، المغني لابن قدامة 9 / 103.(29/324)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ:
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْتَقِل مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ فَتَسْتَقْبِل الْعِدَّةَ بِالأَْشْهُرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} . (1)
وَالأَْشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ تَسْتَقْبِل وَثَبَتَتْ عَلَى الأَْوَّل لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلاً وَبَدَلاً وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تُلَفَّقُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا بِالْحَيْضِ فَوَجَبَتْ بِالأَْشْهُرِ (2) .
وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لاَ يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا عَادَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّمِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَنَا خِلاَفُهُ. وَسِنُّ الْيَأْسِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ. (3)
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْل سِنِّ الْيَأْسِ فَقَدِ
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) فتح القدير 4 / 146، 147، وبدائع الصنائع 3 / 200، حاشية الدسوقي، روضة الطالبين 8 / 371، المغني لابن قدامة 9 / 103.
(3) مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 372، فتح القدير 4 / 145، مواهب الجليل 4 / 144، 146، الدسوقي 2 / 420، المغني لابن قدامة 9 / 92.(29/324)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَحَوُّل الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَيَسْرِي عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
(1) وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلاَقُهُ وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا بَائِنًا فِي حَال صِحَّتِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِل عِدَّةَ الطَّلاَقِ وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ بِالإِْبَانَةِ، فَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِهِ،
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 108.(29/325)
فَتَعَذَّرَ إِيجَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ عَلَى حَالِهَا.
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا بَائِنًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ - مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ - احْتِيَاطًا، لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ لأَِنَّهَا تَرِثُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا بِأَنَّهَا حَاضَتْ قَبْل الْمَوْتِ حَيْضَتَيْنِ، وَلَمْ تَحِضِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى انْتَهَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِل عِدَّةَ الطَّلاَقِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْل انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا تُكْمِل هَذِهِ الْعِدَّةَ.
وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الإِْرْثِ خَاصَّةً لِتُهْمَةِ الْفِرَارِ فَلأََنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لأَِنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا الاِعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُل وَجْهٍ لأَِنَّهَا بَائِنٌ مِنَ النِّكَاحِ فَلاَ تَكُونُ
__________
(1) البدائع 3 / 200 - 201، المبسوط 6 / 39.(29/325)
مَنْكُوحَةً، وَلأَِنَّ الإِْرْثَ الَّذِي ثَبَتَ مُعَامَلَةً بِنَقِيضِ الْقَصْدِ لاَ يَقْتَضِي بَقَاءَ زَوْجِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلأَْسَفِ وَالْحُزْنِ وَالْحِدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى (1) .
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْل.
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّل إِلَى وَضْعِ الْحَمْل، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، لأَِنَّ الْحَامِل لاَ تَحِيضُ وَلأَِنَّ وَضْعَ الْحَمْل أَقْوَى دَلاَلَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ (2) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3) } .
ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ فِي
__________
(1) فتح القدير 4 / 142، 143، ط. دار التراث العربي، وابن عابدين 2 / 605 البدائع 3 / 200، القوانين الفقهية 242، الدسوقي 3 / 475، الحطاب 4 / 150 - 152، روضة الطالبين 8 / 399، المغني لابن قدامة 9 / 108، مغني المحتاج 3 / 396.
(2) البدائع 3 / 201، الدسوقي 2 / 474، نهاية المحتاج 7 / 129، روضة الطالبين 8 / 377، مغني المحتاج 3 / 389، المغني لابن قدامة 9 / 103.
(3) الآية / 4 الطلاق.(29/326)
الطَّلاَقِ عَقِيبَ الطَّلاَقِ، وَفِي الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلاَقُ أَوِ الْوَفَاةُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلاَقِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، لَكِنْ قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلاَقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ، قَال الْبَابَرْتِيُّ: لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الطَّلاَقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا بِالدَّيْنِ وَوَصِيَّتِهِ لَهَا بِشَيْءٍ، وَيَتَوَاضَعَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِالطَّلاَقِ، فَلَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ بِطَلاَقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَدْ مَضَى مِقْدَارُ الْعِدَّةِ قَبْل إِقْرَارِهِ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّتَهَا مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ، وَتَرِثُهُ لأَِنَّهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلاَ يَرِثُهَا لاِنْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِإِقْرَارِهِ، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَتَعْتَدُّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، أَمَّا الْبَائِنُ فَلاَ يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَتَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَبْدَأُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَتَبْدَأُ عِدَّةُ الأَْقْرَاءِ مِنْ حِينِ الطَّلاَقِ،
__________
(1) الهداية 4 / 154.
(2) الخرشي 4 / 146.(29/326)
لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَلَوْ بَلَغَتْهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلاَقُهَا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَانَتْ مُنْقَضِيَةً، فَلاَ يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنْهَا، لأَِنَّ الصَّغِيرَةَ تَعْتَدُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهَا. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ لاَ مِنْ يَوْمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ (2) .
33 - وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلاً فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْتَهِي بِوَضْعِ الْحَمْل كُلِّهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِمُضِيِّ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَبَيَّنَ الْكَاسَانِيُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَقَال: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ: الأَْوَّل بِالْقَوْل، وَالثَّانِي بِالْفِعْل.
أَمَّا الْقَوْل فَهُوَ: إِخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 397 - 401 ونهاية المحتاج 7 / 139 - 143.
(2) المغني 9 / 188 - 191.(29/327)
الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يُحْتَمَل الاِنْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الأَْشْهُرِ فَإِنَّهَا لاَ تُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ وَمُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا لاَ تُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقٍ فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ يُقْبَل قَوْلُهَا، وَإِنْ أَخْبَرَتْ فِي مُدَّةٍ لاَ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لاَ يُقْبَل قَوْلُهَا؛ لأَِنَّ قَوْل الأَْمِينِ إِنَّمَا يُقْبَل فِيمَا لاَ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ هُنَا يُكَذِّبُهَا، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا إِلاَّ إِذَا فَسَّرَتْ مَعَ يَمِينِهَا، فَيُقْبَل قَوْلُهَا مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يُكَذِّبُهَا مَعَ التَّفْسِيرِ، وَأَقَل مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سِتُّونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تِسْعَةٌ وَثَلاَثُونَ يَوْمًا.
وَأَمَّا الْفِعْل: فَيَتَمَثَّل فِي أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي لَمْ تُصَدَّقْ، لاَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الأَْوَّل وَلاَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي جَائِزٌ؛ لأَِنَّ إِقْدَامَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُحْتَمَل الاِنْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى الاِنْقِضَاءِ (1) .
__________
(1) البدائع 3 / 198 - 200، فتح القدير 4 / 312، 331.(29/327)
عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
34 - الاِسْتِحَاضَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ: سَيَلاَنُ الدَّمِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ مَرَضٍ وَفَسَادٍ مِنْ عِرْقٍ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ يُسَمَّى الْعَاذِل (1) .
فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ نُزُول الدَّمِ عَلَيْهَا بِدُونِ انْقِطَاعٍ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْحَال لاَ يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ:
35 - الأَْمْرُ الأَْوَّل: إِنِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ بِرَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ كَثْرَةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ عَادَةٍ - وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا غَيْرَ الْمُتَحَيِّرَةِ - فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ (2) لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} وَلأَِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهَا (3) وَلأَِنَّ الدَّمَ الْمُمَيَّزَ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ يُعَدُّ حَيْضًا، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ لاَ بِالأَْشْهُرِ (4) .
__________
(1) رسائل ابن عابدين 1 / 74، القوانين الفقهية ص 56، الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 1 / 108، كشاف القناع 1 / 196.
(2) البدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 312، 335، الدسوقي 2 / 470، الفواكه الدواني 2 / 92، جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 385، 386، روضة الطالبين 8 / 369، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 101.
(3) فتح القدير 4 / 335، روضة الطالبين 8 / 369.
(4) الفواكه الدواني 2 / 92.(29/328)
36 - الأَْمْرُ الثَّانِي الْمُسْتَحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَنَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا، أَوْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَمْ غَيْرَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ هُنَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ نُزُول الْحَيْضِ مَرَّةً فِي كُل شَهْرٍ، أَوْ لاِشْتِمَال كُل شَهْرٍ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ غَالِبًا، وَلِعِظَمِ مَشَقَّةِ الاِنْتِظَارِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، وَلأَِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرْتَابَةٌ، فَدَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ تَلَجَّمِي وَتَحَيَّضِي فِي كُل شَهْرٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ (2) فَجَعَل لَهَا حَيْضَةً فِي كُل شَهْرٍ تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ، وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) حديث حمنة بنت جحش. أخرجه الترمذي (1 / 223) وابن ماجه (1 / 205) واللفظ لابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.(29/328)
قَوْلٍ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا وَلاَ تَدْرِي مَا رَفَعَهَا، وَلأَِنَّهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ لَهَا حَيْضًا مَعَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا سَنَةً، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً لِزَوَال الرِّيبَةِ؛ لأَِنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْل غَالِبًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ بَعْدَ السَّنَةِ، وَقِيل: بِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا عِدَّةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ عِنْدَهُمْ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لِلاِحْتِيَاطِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَال طُهْرُهَا، أَوْ لأَِنَّهَا قَبْل الْيَأْسِ مُتَوَقِّعَةٌ لِلْحَيْضِ الْمُسْتَقِيمِ (1) .
عِدَّةُ الْمُرْتَابَةِ أَوْ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ:
37 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَابَةَ أَوِ الْمُمْتَدَّ طُهْرُهَا هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا دُونَ حَمْلٍ وَلاَ يَأْسٍ، فَإِذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَانْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ،
__________
(1) فتح القدير 4 / 312، 335، الدسوقي 2 / 470، جواهر الإكليل 1 / 385، الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 3 / 385، روضة الطالبين 8 / 369، المغني لابن قدامة 9 / 102.(29/329)
كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ وُجُوبًا، حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ فَتَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ كَالآْيِسَةِ، وَلاَ تُبَالِي بِطُول مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ، لأَِنَّ الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ جُعِل بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزْ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ قَبْلَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ فِي الْمُرْضِعِ.
وَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا دُونَ عِلَّةٍ تُعْرَفُ، فَقَدْ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَتَرَبَّصُ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْل: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، لِتَتْبِينِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِزَوَال الرِّيبَةِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحَمْل لاَ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ تَنْقَضِي بِهَا عِدَّتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ يُدْرَى مَا رَفَعَهُ: تَجْلِسُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ بِهَا حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ سَنَةٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ.(29/329)
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، وَقَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَل عَنِ الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَتَحِيضُ حَيْضَةً ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا قَال: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَلَمْ تَدْرِ مِمَّا ارْتَفَعَتْ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ لاَ تُبْنَى عَلَى عِدَّةٍ أُخْرَى (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: بِأَنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ أَوْ تَيْأَسُ فَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعِلَّةٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَل الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ إِلاَّ لِلَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالآْيِسَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ، فَأَشْبَهَتْ مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَارِضٍ مَعْرُوفٍ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمُرْتَابَةَ تَتَرَبَّصُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل: أَرْبَعَ سِنِينَ لِتَعْلَمَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَقِيل فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا: تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل، فَحَاصِل الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ مُدَّةَ الْحَمْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 195، ابن عابدين 2 / 606، حاشية الدسوقي 2 / 470، القوانين الفقهية 241، جواهر الإكليل ج1 / 385، الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 3 / 387، روضة الطالين 8 / 371، المغني لابن قدامة 9 / 100.(29/330)
غَالِبَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ حَمْلٍ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَفْقًا لِلْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ - وَهُوَ التَّرَبُّصُ لِسِنِّ الْيَأْسِ -: لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الأَْشْهُرِ الثَّلاَثَةِ وَجَبَتِ الأَْقْرَاءُ، لِلْقُدْرَةِ عَلَى الأَْصْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَل، وَيُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا قَطْعًا؛ لأَِنَّهُ طُهْرٌ مُحْتَوَشٌ بِدَمَيْنِ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الأَْشْهُرِ فَأَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا: إِنْ نَكَحَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَالأَْقْرَاءُ وَاجِبَةٌ فِي عِدَّتِهَا، لأَِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً، وَقِيل: تَنْتَقِل إِلَى الأَْقْرَاءِ مُطْلَقًا تَزَوَّجَتْ أَمْ لاَ، وَقِيل: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، قِيَاسًا عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَأْسِ يَأْسُ عَشِيرَتِهَا، وَفِي قَوْلٍ: يَأْسُ كُل النِّسَاءِ لِلاِحْتِيَاطِ وَطَلَبًا لِلْيَقِينِ (1) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ:
38 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، كَعِدَّةِ زَوْجَةِ الْكَبِيرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ مَاتَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 387، 388، وروضة الطالبين 8 / 371 - 373.(29/330)
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ وَأَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي مَاتَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ - وَلاَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ - عِدَّةُ زَوْجَتِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ لأَِنَّ هَذَا الْحَمْل لَيْسَ مِنْهُ بِيَقِينٍ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِلَيْهِ، فَلاَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، كَالْحَمْل مِنَ الزِّنَا أَوِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ الْعِدَّةِ وَلَوِ احْتِمَالاً (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا فَلاَ تَنْقَضِي عِدَّةُ زَوْجَتِهِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا، لاَ مِنْ مَوْتٍ وَلاَ طَلاَقٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلاَقِ، وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الأَْجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْعِدَّةُ بِدُخُول زَوْجِهَا الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإِْعْلاَقُ، وَكَذَلِكَ بِخَلْوَتِهِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْهُ الْوَطْءُ لِصِغَرِهِ، أَوْ لَمْ تَحْصُل خَلْوَةٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الطَّلاَقِ.
__________
(1) البدائع 3 / 197، فتح القدير 4 / 323، ابن عابدين 2 / 604، المبسوط 6 / 52، الدسوقي 2 / 474 / 468، جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 374، المغني لابن قدامة 9 / 119 - 120.
(2) الفواكه الدواني 2 / 91 - 92.(29/331)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَطْءَ الصَّبِيِّ - وَإِنْ كَانَ فِي سِنٍّ لاَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ - يُوجِبُ عِدَّةَ الطَّلاَقِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَلأَِنَّ الْوَطْءَ شَاغِلٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلأَِنَّ الإِْنْزَال الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْعُلُوقُ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا يَخْتَلِفُ بِالأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، وَلِعُسْرِ تَتَبُّعِهِ أَعْرَضَ الشَّارِعُ عَنْهُ، وَاكْتَفَى بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ أَوِ اسْتِدْخَال الْمَنِيِّ كَمَا اكْتَفَى فِي التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَشَقَّةِ. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ وَطْءِ الصَّبِيِّ تَهَيُّؤُهُ لِلْوَطْءِ وَأَفْتَى بِهِ الْغَزَالِيُّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْل لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) ، وَلأَِنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُول فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلاَدَةُ دَلِيل فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لاَ يَدُل عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ، فَكَانَ إِيجَابُ مَا دَل عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى، إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ الْحَمْل بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، بَل تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 384، روضة الطالبين 8 / 365 - 366، شرح المنهاج بحاشيتي القليوبي وعميره 4 / 39.
(2) سورة الطلاق / 4.(29/331)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) وَلأَِنَّ الْحَمْل إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ، فَلاَ تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْل الْحَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَبَل، فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْل، وَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ لاَ يَحْصُل عَادَةً إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ، وَالصَّبِيُّ لاَ مَاءَ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَسْتَحِيل وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيل تَقْدِيرُهُ (2) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَمْسُوحِ:
39 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَجْبُوبِ كَزَوْجَةِ الصَّبِيِّ، لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ طَلاَقِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْل الدُّخُول، وَقِيل: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ يُعَالَجُ وَيُنْزِل، وَعَلَى الأَْوَّل خَلِيلٌ، وَعَلَى الثَّانِي عِيَاضٌ، وَلَوْ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَلاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْل، لاَ مِنْ مَوْتٍ وَلاَ طَلاَقٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلاَقِ، وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الأَْجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) البدائع 3 / 197 - 198، المغني لابن قدامة 9 / 119 - 120.
(3) الفواكه الدواني 2 / 91 - 92، الدسوقي 2 / 468 - 473.(29/332)
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ وَالْخُصْيَتَيْنِ فَلاَ تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الْخُصْيَتَيْنِ قَائِمُ الذَّكَرِ فَعَلَى امْرَأَتِهِ الْعِدَّةُ؛ لأَِنَّهُ يَطَأُ بِذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ قَائِمَ الْخُصْيَتَيْنِ: فَهَذَا إِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَقِيل: يُرْجَعُ فِي الْمَقْطُوعِ ذَكَرُهُ أَوْ أُنْثَيَاهُ إِلَى أَهْل الْمَعْرِفَةِ كَالأَْطِبَّاءِ أَوِ النِّسَاءِ (1) .
وَالْمَمْسُوحُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ، فَلاَ عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي الْمُعْتَمَدِ فِي طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا مَاتَ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَلاَ يَلْحَقُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، لأَِنَّ الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ لأَِبِيهِ، وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِأَقْصَى الأَْجَلَيْنِ: الْوَضْعِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَعْتَدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ وَطْءِ خَصِيٍّ لاَ مَقْطُوعِ الذَّكَرِ وَلَوْ دُونَ الأُْنْثَيَيْنِ لِعَدَمِ الدُّخُول، لَكِنْ إِنْ بَانَتْ حَامِلاً لَحِقَهُ الْوَلَدُ، لإِِمْكَانِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا، وَاعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ وَإِنْ نَفَاهُ، بِخِلاَفِ الْمَمْسُوحِ، لأَِنَّ
__________
(1) الدسوقي 2 / 732، جواهر الإكليل 1 / 386، 285.
(2) شرح منح الجليل 2 / 372.(29/332)
الْوَلَدَ لاَ يَلْحَقُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَتَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الطَّلاَقِ: ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإِْنْزَال بِأَنْ يَحُكَّ مَوْضِعَ ذَكَرِهِ بِفَرْجِهَا فَيُنْزِل، فَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لاَ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدٌ، لأَِنَّهُ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، فَلاَ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ سِنِينَ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَابِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمَجْبُوبَ أَوِ الْخَصِيَّ كَالْعِنِّينِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا (3) .
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ الْخَصِيَّ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ بِشَرْطِ الإِْنْزَال (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 384، روضة الطالبين 8 / 365 - 366، القليوبي وعميرة 4 / 39.
(2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة: 9 / 120.
(3) فتح القدير 4 / 297، 299، 300، حاشية ابن عابدين 2 / 340، 426، 593، 594.
(4) المبسوط 6 / 53.(29/333)
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ:
40 - الْمَفْقُودُ: هُوَ الَّذِي غَابَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مَعَ إِمْكَانِ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَخَرَجَ الأَْسِيرُ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ خَبَرُهُ، وَالْمَحْبُوسُ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ الْكَشْفُ عَنْهُ (1) ، فَإِذَا غَابَ الرَّجُل عَنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَخْل مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا غَابَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ، فَلاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَظَل عَلَى عِصْمَتِهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَحِقَهَا ضَرَرٌ مِنْ غَيْبَتِهِ أَوْ كَانَتْ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة) .
ثَانِيهِمَا: إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَلاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ - فِيمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلاَمَةَ - إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى عِصْمَتِهِ، فَلاَ تَزُول الزَّوْجِيَّةُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتُهُ أَوْ طَلاَقُهُ، أَوْ تَمْضِي مُدَّةٌ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَهَذِهِ سُلْطَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِلْقَاضِي، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 479.
(2) فتح القدير 3 / 313. ط - الأميرية بولاق. 1315 هـ، ابن عابدين 3 / 332، والزيلعي 3 / 312، مغني المحتاج 3 / 397، روضة الطالبين 8 / 400، المغني لابن قدامة 9 / 130، كشاف القناع 2 / 590.(29/333)
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ، فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا يَقِينُ مَوْتِهِ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ (1) لأَِنَّ عَقْدَهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ إِذَا بَلَغَ سِنُّهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ وِلاَدَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيل: تِسْعُونَ سَنَةً، أَوْ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ إِذَا مَاتَ آخِرُ أَقْرَانِهِ سِنًّا، أَوْ يُفَوَّضُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ (3) ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ.
وَنَقَل أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَم عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا مَضَى عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلاَدَتِهِ قَسَمَ مَالَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) (1) حديث: " امرأة المفقود امرأته. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 312) من حديث المغيرة بن شعبة وضعفه الزيلعي في نصب الراية (3 / 473) .
(2) مغني المحتاج 3 / 397، الروضة 8 / 400، سبل السلام 3 / 208.
(3) فتح القدير 3 / 313. ط - الأميرية، الزيلعي 3 / 312.(29/334)
هَذَا الْعُمْرِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فَقْدُهُ بِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الْحَنَابِلَةِ - فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ - إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (3) ، وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَاللَّيْثُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ (4) ، فَالتَّرَبُّصُ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، أَوْ أَنَّهُ أَكْثَرُ الْحَمْل عِنْدَهُمْ (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 131.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 479، وما بعده، جواهر الإكليل. 1 / 389، 391، شرح منح الجليل 2 / 385 وما بعدها، شرح الزرقاني 4 / 202، مغني المحتاج 3 / 397، روضة الطالبين 8 / 400 وما بعدها، المغني لابن قدامة 9 / 132، كشاف القناع 2 / 590 - 591.
(3) سبل السلام 3 / 207.
(4) المغني 9 / 132 - 134.
(5) شرح منح الجليل 2 / 386، جواهر الإكليل 1 / 389، الزرقاني 4 / 212.(29/334)
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي الْقِتَال تَتَرَبَّصُ سَنَةً فَقَطْ، لأَِنَّ غَلَبَةَ هَلاَكِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَبَتِهِ فِي غَيْرِهَا، لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْقِتَال (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْعَجْزِ عَنْ خَبَرِهِ، وَقِيل: مِنْ حِينِ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْقَاضِي أَوِ الْوَالِي أَوْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (2) ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ لَهَا، لأَِنَّهَا مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَافْتَقَرَتْ إِلَى ضَرْبِ الْحَاكِمِ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ الْخَبَرِ وَبُعْدِ الأَْثَرِ؛ لأَِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي مَوْتِهِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ، وَهَذَا التَّفْصِيل عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الأَْسِيرِ:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الأَْسِيرِ لاَ تُنْكَحُ حَتَّى تُعْلَمَ بِيَقِينٍ وَفَاتُهُ، وَهَذَا قَوْل
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 133.
(2) الدسوقي 2 / 479، جواهر الإكليل 1 / 389، شرح منح الجليل 2 / 385، الزرقاني 4 / 212.
(3) روضة الطالبين 8 / 401، المغني 9 / 135.(29/335)
النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيِّ وَمَكْحُولٍ (1) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ:
42 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الدُّخُول أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ بِسَبَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ جَمَعَهَا الإِْسْلاَمُ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ فَالْفُرْقَةُ مِنَ الرِّدَّةِ وَعِدَّتُهَا تَكُونُ بِالأَْشْهُرِ، أَوْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالْوَضْعِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ أَوْ قُتِل حَدًّا وَامْرَأَتُهُ فِي الْعِدَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا إِلاَّ عِدَّةُ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالرِّدَّةِ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى الزَّوْجَاتِ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَوَرِثَتْهُ قِيَاسًا عَلَى طَلاَقِ الْفَارِّ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ، حَتَّى إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَرَ فِي مُدَّةِ الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ ثَلاَثَ حِيَضٍ تَسْتَكْمِل بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ كُل مُعْتَدَّةٍ وَرِثَتْ تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 299 - 300، وجواهر الإكليل 1 / 339، 391 نهاية المحتاج جـ 6 ص 28، المغني 9 / 130.(29/335)
الْوَفَاةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: بِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الإِْرْثِ، فَلأََنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لأَِنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا الاِعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ، قِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلاَقًا بَائِنًا الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
عِدَّةُ الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ الْوَفَاةِ كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِدَّةِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، لأَِنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَال تَعَالَى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2) فَهِيَ حَقُّهُ، وَالْكِتَابِيَّةُ أَوِ الذِّمِّيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ،
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 200، 136، ابن عابدين 2 / 392، 393، فتح القدير 4 / 316، منح الجليل 3 / 207، مواهب الجليل 3 / 479، شرح الزرقاني 8 / 169، مغني المحتاج 3 / 190، المغني لابن قدامة 7 / 171، 177.
(2) سورة الأحزاب / 49.(29/336)
وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَِجْل حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل إِيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ تَحْتَ ذِمِّيٍّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ دِينُهُمْ لاَ يُقِرُّ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فَوْرَ طَلاَقِهَا؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحَقِّ الزَّوْجِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِيجَابِهَا بِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَلاَ وَجْهَ لإِِيجَابِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْقُرُبَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ، وَحِفْظُ النَّسَبِ حَقُّ الْوَلَدِ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال حَقِّهِ، فَكَانَ عَلَى الْحَاكِمِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ حَتَّى تَضَعَ الْحَمْل، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ الْحُرَّةَ غَيْرُ الْحَامِل إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ ذِمِّيٍّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا، وَأَرَادَ مُسْلِمٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا - وَقَدْ دَخَل بِهَا - فَعِدَّتُهَا ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَل بِهَا حَلَّتْ مَكَانَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ (1) .
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 191، 192، 193، 195، 197، فتح القدير 4 / 333، 334 - ط. الحلبي. 3 / 289، 291 - ط. الأميرية، ابن عابدين 2 / 603، 614، جواهر الإكليل 1 / 384، 387، 389، شرح منح الجليل على مختصر خليل 2 / 381، حاشية الدسوقي 2 / 475، مغني المحتاج 3 / 188، 196، 200.(29/336)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الذِّمِّيَّةِ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ، لأَِنَّ الذِّمِّيَّةَ مِنْ أَهْل دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَجَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ، وَلِعُمُومِ الآْيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَلأَِنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُول أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ، فَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ (1) .
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وَلأَِنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُول، فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
__________
(1) البدائع 3 / 191 - 193، فتح القدير 4 / 333، 334، المغني 9 / 76.
(2) سورة البقرة / 228.(29/337)
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً (1) كَمَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ (2) .
(ر: مُصْطَلَحَ خُلْع) .
عِدَّةُ الْمُلاَعَنَةِ:
45 - عِدَّةُ الْمُلاَعَنَةِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، لأَِنَّهَا مُفَارَقَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (3) .
عِدَّةُ الزَّانِيَةِ:
46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الزَّانِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) أخرجه أبو داود 2 / 669، والترمذي 3 / 482، ط. الحلبي.
(2) تفسير القرطبي 3 / 144، 145، ط. بيروت، فتح القدير 3 / 269، ط. الأميرية، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 468، روضة الطالبين 8 / 365، ط. المكتب الإسلامي، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 78.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 78.(29/337)
وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا، حَامِلاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالزِّنَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَلاَ يُوجِبُ الْعِدَّةَ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الزِّنَا جَازَ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ، لِئَلاَّ يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ (3) فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ وَطْئِهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ لِلْحَامِل مِنْ زِنًا عَلَى الأَْصَحِّ،
__________
(1) حديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.
(2) حديث: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه. . . ". أخرجه أبو داود 2 / 615، والترمذي 3 / 437 من حديث رويفع بن ثابت واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حديث حسن.
(3) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع ". أخرجه أبو داود (2 / 614) من حديث أبي سعيد الخدري وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 171 - 172) .(29/338)
إِذْ لاَ حُرْمَةَ لَهُ.
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ، لأَِنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شُغْل الرَّحِمِ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَلأَِنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلأَِنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْل الاِعْتِدَادِ اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنَ الزِّنَا، فَلاَ يَحْصُل حِفْظُ النَّسَبِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ غُصِبَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الاِسْتِبْرَاءُ مِنْ وَطْئِهَا بِثَلاَثِ حِيَضٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً.
أَمَّا الْحَامِل مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ غَصْبٍ فَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْل الْوَضْعِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَتِ الزَّانِيَةُ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا زَمَنَ الاِسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا وَجَبَ فَسْخُهُ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً. (1)
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِبْرَاء ف 24) .
__________
(1) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع. . . " تقدم تخريجه آنفًا وانظر أقوال الفقهاء في بدائع الصنائع للكاساني 3 / 192، 193، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 471، جواهر الإكليل 1 / 386، مغني المحتاج 3 / 384، 388، روضة الطالبين 8 / 375 سبل السلام 3 / 207، شرح منح الجليل 2 / 375، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 79 - 80.(29/338)
عِدَّةُ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا:
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالدُّخُول فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ، أَيْ بِالدُّخُول، مِثْل: نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَزَوْجَةِ الْغَيْرِ، وَالْمَحَارِمِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْحَدَّ، بِأَنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، لاَ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ، إِذْ لاَ حَقَّ لِلنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَيًّا كَانَ نَوْعَهُ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، لِعَدَمِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحَدِّ، وَلِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَنِكَاحُ امْرَأَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ(29/339)
الزَّوْجُ الثَّانِي بِأَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ - أَيِ الزَّوْجُ الثَّانِي - لاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالدُّخُول، حَتَّى لاَ يَحْرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا لأَِنَّهُ زِنًا، وَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَبِهِ يُفْتَى (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ بُطْلاَن ف 30) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى الأَْزْوَاجِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (2) وَلاَ يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إِلاَّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ،
__________
(1) البدائع 3 / 192، فتح القدير 4 / 307، 320، 330 جواهر الإكليل 1 / 386، 387، الدسوقي 2 / 219، 471، 475، منح الجليل 2 / 375، 381 نهاية المحتاج 7 / 119، 120، 168، روضة الطالبين 7 / 42، 51، 8 / 365، 399، مغني المحتاج 3 / 147، 148 - 384 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 79، 145،146، 7 / 345.
(2) سورة البقرة / 234.(29/339)
وَالنِّعْمَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لأَِنَّهُ نِكَاحٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَوَجَبَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ (2) .
عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ:
48 - عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ الَّتِي زُفَّتْ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، وَالْمَوْجُودَةُ لَيْلاً عَلَى فِرَاشِهِ إِذَا ادَّعَى الاِشْتِبَاهَ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِشُغْلِهِ وَلِحُقُوقِ النَّسَبِ فِيهِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا تَحْصُل الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَلأَِنَّ الشُّبْهَةَ تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الاِحْتِيَاطِ، وَإِيجَابُ الْعِدَّةِ مِنْ بَابِ الاِحْتِيَاطِ.
وَإِنْ وُطِئَتِ الْمُزَوَّجَةُ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَحِل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إِلَى اخْتِلاَطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الأَْنْسَابِ، وَلَهُ الاِسْتِمْتَاعُ مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي أَحَدِ وَجْهَيِ
__________
(1) البدائع 3 / 192، 193، فتح القدير 4 / 320، روضة الطالبين 8 / 399، المغني مع الشرح الكبير 9 / 145.
(2) جواهر الإكليل 1 / 387، الدسوقي 2 / 475، المغني مع الشرح الكبير 9 / 145، 146.(29/340)
الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ حَرُمَ وَطْؤُهَا لِعَارِضٍ مُخْتَصٍّ بِالْفَرْجِ، فَأُبِيحَ الاِسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ كَالْحَائِضِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ هُنَا عَلَى سَبِيل الاِسْتِبْرَاءِ (1) .
عِدَّةُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ:
49 - إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ دُونَ تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلاَقِ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى زَوْجَةٍ مَجْهُولَةٍ فَهُوَ طَلاَقٌ مُبْهَمٌ، وَالْجَهَالَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ طَارِئَةً، فَالأَْصْلِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلاَقِ فِيهَا مِنَ الاِبْتِدَاءِ مُضَافًا إِلَى الْمَجْهُول، وَالطَّارِئَةُ: أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى مَعْلُومَةٍ ثُمَّ تُجْهَل، كَمَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ ثَلاَثًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ.
وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلاَقِ الْمُبْهَمِ كَعِدَّةِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (3) وَلَكِنَّهُمُ
__________
(1) البدائع 3 / 192، فتح القدير 4 / 320، جواهر الإكليل 1 / 386، الدسوقي 2 / 471، منح الجليل 2 / 375، روضة الطالبين 8 / 365، 399، مغني المحتاج 3 / 396، المغني 9 / 79.
(2) البدائع 3 / 224 - 228.
(3) سورة البقرة / 228.(29/340)
اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا هَل مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَمْ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ لاَ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْل الْبَيَانِ، وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ لأَِنَّ الطَّلاَقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ (1) .
وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْل بَيَانِ الطَّلاَقِ الْمُبْهَمِ لإِِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالأُْخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لاَ عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلاَقِ لاَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَدَارَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنَ الاِحْتِيَاطِ الْقَوْل بِوُجُوبِهَا عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مُعَيَّنَةً أَوْ مُبْهَمَةً، كَقَوْلِهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ: وَنَوَى مُعَيَّنَةً أَمْ لاَ وَمَاتَ قَبْل الْبَيَانِ لِلْمُعَيَّنَةِ أَوِ التَّعْيِينِ لِلْمُبْهَمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْل مَوْتِهِ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا اعْتَدَّتَا لِوَفَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ
__________
(1) البدائع 3 / 224 وفتح القدير 3 / 159 - ط - الأميرية.
(2) البدائع 3 / 228.(29/341)
أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا، لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَمَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً بِالطَّلاَقِ يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً بِالْمَوْتِ وَكَذَا إِنْ وَطِئَ كُلًّا مِنْهُمَا وَهُمَا ذَوَاتَا أَشْهُرٍ فِي طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ هُمَا ذَوَاتَا أَقْرَاءٍ وَالطَّلاَقُ رَجْعِيٌّ، فَتَعْتَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا فِي ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ اعْتَدَّتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالأَْكْثَرِ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ وَثَلاَثَةِ قُرُوءٍ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهَا بِعِدَّةٍ أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ لِتَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهَا بِيَقِينٍ، وَتُحْتَسَبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنَ الْمَوْتِ جَزْمًا، وَتُحْسَبُ الأَْقْرَاءُ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيل: مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَعِدَّةُ الْحَامِل مِنْهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْل؛ لأَِنَّ عِدَّتَهَا لاَ تَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيرَيْنِ.
وَلَوِ اخْتَلَفَ حَال الْمَرْأَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَمْسُوسَةً أَوْ حَامِلاً أَوْ ذَاتَ أَقْرَاءٍ وَالأُْخْرَى بِخِلاَفِهَا، عَمِلَتْ كُل وَاحِدَةٍ بِمُقْتَضَى الاِحْتِيَاطِ فِي حَقِّهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لاَ بِعَيْنِهَا، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دُونَ غَيْرِهَا، مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ لاَ مِنْ وَقْتِ الْقُرْعَةِ، وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيهَا. . .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 396، 397، روضة الطالبين 8 / 399 - 400.(29/341)
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَى الْجَمِيعِ الاِعْتِدَادُ بِأَقْصَى الأَْجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَالْوَفَاةِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا ذَاتُ الأَْقْرَاءِ فَمِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ.
وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ ثَلاَثًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ تَكْمِيل عِدَّةِ الطَّلاَقِ مِنْ وَقْتِ طَلاَقِهِنَّ ثَلاَثًا. . .
(1) وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً لاَ بِعَيْنِهَا طَلُقَتَا أَوْ طَلُقْنَ مَعًا طَلاَقًا مُنَجَّزًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا فَالطَّلاَقُ لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ قَال لإِِحْدَاهُمَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلأُْخْرَى أَوْ أَنْتِ وَلاَ نِيَّةَ خُيِّرَ فِي طَلاَقِ أَيَّتِهِمَا أَحَبَّ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (2) .
تَدَاخُل الْعِدَدِ:
50 - تَدَاخُل الْعِدَدِ مَعْنَاهُ: أَنْ تَبْتَدِئَ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةً جَدِيدَةً وَتَنْدَرِجُ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، وَالْعِدَّتَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَقَطْ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ شَخْصَيْنِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 105، 8 / 429، 433.
(2) الزرقاني 4 / 125، جواهر الإكليل 1 / 355، 356، الدسوقي 2 / 402.(29/342)
الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّدَاخُل وَعَدَمِهِ وَفْقًا لِكُل حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَزِمَتْهَا عِدَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَصْدِ، مِثْل: مَا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَوَطِئَهَا، وَقَال: ظَنَّتْ أَنَّهَا تَحِل لِي، أَوْ طَلَّقَهَا بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّتَيْنِ تَتَدَاخَلاَنِ، فَتَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ ابْتِدَاءً مِنَ الْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْعِدَّةِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِشَخْصٍ، وَكَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ بِالأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ جَاهِلاً إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا، وَجَاهِلاً أَوْ عَالِمًا إِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، تَدَاخَلَتِ الْعِدَّتَانِ، وَمَعْنَى التَّدَاخُل: أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، أَوْ ثَلاَثَةِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 325، ابن عابدين 2 / 609، روضة الطالبين 8 / 384 / 394، القليوبي وعميرة 4 / 46 - 47 ط. الحلبي، المهذب للشيرازي 2 / 151 - 153. ط - دار المعرفة، نهاية المحتاج 7 / 132 - 135، الكافي 3 / 316 - 320 - ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 425 - 428 - ط. النصر، المغني لابن قدامة 9 / 121، 122 - دار الكتاب العربى، مغني المحتاج 3 / 391 - 393، المبسوط 6 / 401، الموسوعة الفقهية ج 11 ص 91.(29/342)
أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلاَقِ، وَقَدْرُ تِلْكَ الْبَقِيَّةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَاقِعًا عَنِ الْجِهَتَيْنِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي قَدْرِ الْبَقِيَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، وَلاَ رَجْعَةَ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ وَبَعْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الطَّلاَقِ مُسْتَوْفًى هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْل وَالأُْخْرَى بِالأَْقْرَاءِ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا حَامِلاً ثُمَّ وَطِئَهَا، أَوْ حَائِلاً ثُمَّ أَحْبَلَهَا، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ: يَرَوْنَ تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ، لأَِنَّهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: عَدَمُ التَّدَاخُل لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْجِنْسِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْل هُنَا بِالتَّدَاخُل أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ تَنْقَضِيَانِ بِالْوَضْعِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ إِلَى أَنْ تَضَعَ إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ بِالْحَمْل، أَوْ كَانَتْ بِالأَْقْرَاءِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ التَّدَاخُل إِذَا كَانَ الْحَمْل لِعِدَّةِ الطَّلاَقِ اعْتَدَّتْ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلاَ رَجْعَةَ إِلاَّ فِي مُدَّةِ الْحَمْل، وَإِنْ كَانَ الْحَمْل لِعِدَّةِ الْوَطْءِ، أَتَمَّتْ بَعْدَ(29/343)
وَضْعِهِ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الطَّلاَقِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ قَبْل الْوَضْعِ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ، كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، أَوْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَوَطِئَهَا الثَّانِي وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ التَّدَاخُل، لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لآِدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلاَ كَالدَّيْنَيْنِ. وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ احْتِبَاسٌ يَسْتَحِقُّهُ الرِّجَال عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي احْتِبَاسِ رَجُلَيْنِ كَاحْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلأَْوَّل لِسَبْقِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي، وَلاَ تَتَقَدَّمُ عِدَّةُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الأَْوَّل إِلاَّ بِالْحَمْل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَتَدَاخَل الْعِدَّتَانِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَجَلٌ، وَالآْجَال تَتَدَاخَل وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ، وَيَنْدَرِجُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَل بِالْوَاحِدَةِ، فَتَتَدَاخَلاَنِ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنَ الْحَيْضِ فِيهَا، تَحْقِيقًا لِلتَّدَاخُل بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، فَلَوْ لَمْ تَرَ فِيهَا(29/343)
دَمًا يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الأَْشْهُرِ بِثَلاَثِ حِيَضٍ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جُزَيٍّ فُرُوعًا فِي تَدَاخُل الْعِدَّتَيْنِ (2) :
الْفَرْعُ الأَْوَّل: مَنْ طَلُقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ، انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ يَهْدِمُ عِدَّةَ الرَّجْعِيِّ، بِخِلاَفِ الْبَائِنِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي، سَوَاءٌ أَكَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لاَ، لأَِنَّ الرَّجْعَةَ تَهْدِمُ الْعِدَّةَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ بَنَتِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الْمَسِيسِ بَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الأُْولَى، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُول اسْتَأْنَفَتْ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلاَقِ، فَدَخَل بِهَا الثَّانِي، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي، وَقِيل تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَتَجْزِيهَا
__________
(1) فتح القدير 4 / 328، روضة الطالبين 8 / 220 - 384، 393، 394.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 157، الدسوقي 2 / 499، الزرقاني 4 / 235، جواهر الإكليل 1 / 398، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 195، 196. دار إحياء التراث - بيروت.(29/344)
عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَالْوَضْعُ يُجْزِئُ عَنِ الْعِدَّتَيْنِ اتِّفَاقًا (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ طَرَأَ مُوجِبٌ لِعِدَّةٍ مُطْلَقًا - لِوَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ - قَبْل تَمَامِ عِدَّةٍ انْهَدَمَ الأَْوَّل، أَيْ: بَطَل حُكْمُهُ مُطْلَقًا، كَانَ الْمُوجِبَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، بِفِعْلٍ سَائِغٍ أَمْ لاَ، وَاسْتَأْنَفَتْ حُكْمَ الطَّارِئِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ قَدْ تَمْكُثُ أَقْصَى الأَْجَلَيْنِ، مِثْل الرَّجُل الَّذِي تَزَوَّجَ بَائِنَتَهُ وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةً مِنْ طَلاَقِهِ الثَّانِي وَيَنْهَدِمُ الأَْوَّل، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْل الْبِنَاءِ فَإِنَّهَا تَبْقَى عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ الأَْوَّل، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ تَزَوُّجِهَا - بَنَى بِهَا أَوْ لاَ - فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَتَنْهَدِمُ الأُْولَى.
وَالْمُرْتَجِعُ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْل تَمَامِ عِدَّتِهَا، سَوَاءٌ وَطِئَهَا بَعْدَ ارْتِجَاعِهَا أَوْ لاَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا قَبْل تَمَامِ عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، فَإِنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ طَلاَقٍ مِنْ يَوْمِ طَلاَقِهِ لَهَا ثَانِيًا أَوْ عِدَّةَ وَفَاةٍ مِنْ يَوْمِ مَوْتِهِ؛ لأَِنَّ ارْتِجَاعَهَا يَهْدِمُ الْعِدَّةَ الأُْولَى الْكَائِنَةَ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ (2) .
الطَّلاَقُ فِي الْعِدَّةِ:
51 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي 157.
(2) الدسوقي والشرح الكبير 2 / 499 - 501، الخرشي 4 / 172 - 175 مواهب الجليل 4 / 176 - 178(29/344)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ يَلْحَقُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ (1) .
فَالرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، لِبَقَاءِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهَا بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ، قَال الشَّافِعِيُّ: الرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ لُحُوقَ الطَّلاَقِ وَصِحَّةَ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالإِْيلاَءِ وَالْمِيرَاثِ (2)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَلْحَقُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى كَخُلْعٍ وَفَسْخٍ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمَحَل وَهِيَ الزَّوْجَةُ، أَوْ لِزَوَال الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا لَوِ انْتَهَتْ عِدَّتُهَا، وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً كُبْرَى لاَ يَلْحَقُهَا الطَّلاَقُ.
أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى فَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلاَقِ (3) .
وَأَمَّا طَلاَقُ الْكِنَايَةِ الْوَاقِعِ فِي عِدَّةِ الْمُبَانَةِ أَوِ
__________
(1) البدائع 3 / 134، 180، فتح القدير 3 / 21، 64. ط 1 ابن عابدين 2 / 474، الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 422 جواهر الإكليل 1 / 364، شرح الزرقاني 4 / 80، 145، 163 مغني المحتاج 3 / 293، 294، روضة الطالبين 8 / 222، المغني لابن قدامة 9 / 108، 8 / 235 - 237، 477، 494. مغني المحتاج 3 / 293.
(2) مغني المحتاج 3 / 293
(3) البدائع 3 / 135، جواهر الإكليل 1 / 339، روضة الطالبين 8 / 68، مغني المحتاج 3 / 292، المغني لابن قدامة 8 / 183، 184.(29/345)
الْمُخْتَلِعَةِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ كَانَتِ الْكِنَايَةُ تَحْمِل مَعْنَى الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، لأَِنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكِنَايَةِ رَجْعِيٌّ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الطَّلاَقِ الصَّرِيحِ، فَيَلْحَقُهَا الْخُلْعُ وَالإِْبَانَةُ فِي الْعِدَّةِ كَالصَّرِيحِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُهَا لأَِنَّ هَذِهِ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ لاَ تَعْمَل إِلاَّ فِي حَال قِيَامِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْكِنَايَةُ تَحْمِل مَعْنَى الطَّلاَقِ الْبَائِنِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ، وَنَوَى الطَّلاَقَ، لاَ يَلْحَقُهَا بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ، وَالْوَصْلَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ قَطْعُهَا ثَانِيًا، أَوْ لأَِنَّ الإِْبَانَةَ تَحْرِيمٌ شَرْعًا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُحَالٌ (1) . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً كُبْرَى لاَ تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ، لاِنْعِدَامِ الْعَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَلِزَوَال الْمِلْكِ وَزَوَال حِل الْمَحَلِّيَّةِ (2) .
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
52 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ أَوِ الْمُوَاعَدَةِ بِالنِّكَاحِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَمْ بَائِنٍ أَمْ وَفَاةٍ
__________
(1) البدائع 3 / 135، والقرطبي 3 / 147.
(2) البدائع 3 / 187، جواهر الإكليل 1 / 339، روضة الطالبين 8 / 68، مغني المحتاج 3 / 293، المغني لابن قدامة 8 / 243، 471.(29/345)
أَمْ فَسْخٍ أَوْ مُعْتَدَّةٍ عَنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ (1) ، وَفِي التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَة ف 9 - 13 وَتَعْرِيض ف 4 - 5)
عَقْدُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ:
53 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلأَْجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ أَيًّا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلاَقٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى (2) . وَذَلِكَ لِحِفْظِ الأَْنْسَابِ وَصَوْنِهَا مِنَ الاِخْتِلاَطِ وَمُرَاعَاةً لِحَقِّ الزَّوْجِ الأَْوَّل، فَإِنْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي عِدَّتِهَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (3) وَالْمُرَادُ تَمَامُ الْعِدَّةِ، وَالْمَعْنَى: لاَ تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ، أَوْ لاَ تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّةِ (4) .
__________
(1) البدائع 3 / 204، وجواهر الإكليل 1 / 276، ومغني المحتاج 3 / 135 - 136، وكشاف القناع 5 / 18.
(2) البدائع للكاساني 3 / 204، جواهر الإكليل 1 / 276، 283، الفواكه الدواني 2 / 33، 34، الدسوقي 2 / 217 وما بعدها، منح الجليل 2 / 8 وما بعدها، روضة الطالبين 7 / 43، مغني المحتاج 3 / 135، 174 وما بعدها، المغني لابن قدامة 9 / 120، 126.
(3) سورة البقرة / 235.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 192، 193، البدائع 3 / 204.(29/346)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلأَِنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَبَعْدَ الثَّلاَثِ وَالْبَائِنِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ حَال قِيَامِ الْعِدَّةِ، لِقِيَامِ بَعْضِ الآْثَارِ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ كَالثَّابِتِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزَوُّجِ لِلأَْجَانِبِ لاَ لِلأَْزْوَاجِ؛ لأَِنَّ عِدَّةَ الطَّلاَقِ إِنَّمَا لَزِمَتْهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ، لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ نِكَاحِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ لاَ عَلَى الزَّوْجِ إِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ حَقَّهُ (1) .
وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ طُلَيْحَةَ الأَْسْدِيَةَ كَانَتْ زَوْجَةَ رَشِيدٍ الثَّقَفِيِّ وَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِخَفْقَةِ ضَرَبَاتٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَال عُمَرُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الأَْوَّل، ثُمَّ إِنْ شَاءَ كَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الآْخَرِ، ثُمَّ لاَ يَنْكِحُهَا أَبَدًا (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 204.
(2) الفواكه الدواني 2 / 34.(29/346)
مَكَانُ الْعِدَّةِ:
54 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَكَانَ الْعِدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ هُوَ بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْل مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا، وَقَبْل مَوْتِهِ، أَوْ عِنْدَمَا بَلَغَهَا خَبَرُ مَوْتِهِ، وَتَسْتَتِرُ فِيهِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا (1) . فَإِذَا كَانَتْ فِي زِيَارَةِ أَهْلِهَا، فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ فِيهِ لِلاِعْتِدَادِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ، فَالسُّكْنَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّعَبُّدِ، فَلاَ تَسْقُطُ وَلاَ تَتَغَيَّرُ إِلاَّ بِالأَْعْذَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَيْهَا، وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا هُوَ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْل مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا أَوْ مَوْتِهِ، وَبِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344 - ط - الحلبي، ابن عابدين 2 / 621، جواهر الإكليل 1 / 391 وما بعدها، الدسوقي 2 / 484، الفواكه الدواني 2 / 97 - 99، منح الجليل 2 / 394، روضة الطالبين 8 / 410، مغني المحتاج 3 / 401 وما بعدها، المغني لابن قدامة 170 وما بعدها، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 100 وما بعدها. ط الجيل، سبل السلام 3 / 203، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 177 وما بعدها.
(2) سورة الطلاق / 1.(29/347)
أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ: أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ؟ فَقَالَتْ: قَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَال: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَل إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَبِهِ قَضَى عُثْمَانُ، فِي جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الاِعْتِدَادُ عَلَيْهَا فِي الْمَنْزِل الَّذِي مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ بِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا (2) .
__________
(1) حديث: الفريعة بنت مالك أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه مالك في الموطأ (2 / 591) وأعله ابن القطان وغيره بجهالة راوية فيه كما في التخليص الحبير لابن حجر (3 / 240) .
(2) المغني 9 / 170 - 171.(29/347)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ (1) .
وَقَال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَهَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) نَسَخَتِ الآْيَةَ الَّتِي جَعَلَتِ الْعِدَّةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلاً كَامِلاً وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (3) وَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى، وَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالتَّرِكَةِ، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ (4) .
خُرُوجُ أَوْ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَكَانِ الْعِدَّةِ:
55 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ مُلاَزَمَةُ السَّكَنِ فِي الْعِدَّةِ، فَلاَ تَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ
__________
(1) المغني 9 / 182.
(2) سورة البقرة / 234.
(3) سورة البقرة / 240.
(4) المغني 9 / 170.(29/348)
خَرَجَتْ أَثِمَتْ وَلِلزَّوْجِ فِي حَال الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ مَنْعُهَا، وَلِوَرَثَتِهِ كَذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ إِخْرَاجُهَا مِنْ مَسْكَنِ النِّكَاحِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِلاَّ أَثِمُوا بِذَلِكَ لإِِضَافَةِ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقَوْله تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى الأَْزْوَاجِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَخْرُجْنَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلأَِزْوَاجِهِنَّ، فَالْعِدَّةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقُّ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ بِالتَّرَاضِي، لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلإِْسْقَاطِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل، إِلاَّ لِلأَْعْذَارِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ (1) كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَدَى جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ، وَذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالِهَا وَبِاخْتِلاَفِ الأَْوْقَاتِ وَالأَْعْذَارِ.
خُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
56 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ لاَ لَيْلاً وَلاَ نَهَارًا (2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي 18 / 154 وما بعدها، البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 343. ط - الحلبي، جواهر الإكليل 1 / 391 - 393، الفواكه الدواني 2 / 98، مغني المحتاج 3 / 402، روضة الطالبين 8 / 415، المغني 9 / 170 وما بعدها، 176، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 100.
(2) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344، المبسوط للسرخسي 6 / 32 - 36، روضة الطالبين 8 / 146، مغني المحتاج 3 / 403 - 404.(29/348)
تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ. . .} إِلَخْ. فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الأَْزْوَاجَ عَنِ الإِْخْرَاجِ وَالْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ، إِلاَّ إِذَا ارْتَكَبْنَ فَاحِشَةً، أَيِ: الزِّنَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} وَالأَْمْرُ بِالإِْسْكَانِ نَهْيٌ عَنِ الإِْخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَهِيَ زَوْجَتُهُ، فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهَا، فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَلأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَلاَ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ كَمَا قَبْل الطَّلاَقِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْدَ الطَّلاَقِ لاَ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِهِ، بِخِلاَفِ مَا قَبْل الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّلاَقِ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ وَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَمْلِكُ إِبْطَالَهُ، بِخِلاَفِ مَا قَبْل الطَّلاَقِ، لأَِنَّ الْحُرْمَةَ ثَمَّةَ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً فَيَمْلِكُ إِبْطَال حَقِّ نَفْسِهِ بِالإِْذْنِ بِالْخُرُوجِ (2) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا بِجَوَازِ خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، وَتَلْزَمُ مَنْزِلَهَا بِاللَّيْل لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 416.
(2) البدائع 3 / 205.(29/349)
الْفَسَادِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاَثًا، فَخَرَجَتْ تَجِدُّ نَخْلاً لَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال لَهَا: اخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَكِ لَعَلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَدَّةِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا يَجُوزُ لَهَا فِي الأَْوْقَاتِ الْمَأْمُونَةِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ وَالأَْزْمِنَةِ، فَفِي الأَْمْصَارِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَفِي غَيْرِهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَلَكِنْ لاَ تَبِيتُ إِلاَّ فِي مَسْكَنِهَا.
خُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ:
57 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، أَوْ طَرَفَيِ النَّهَارِ لِشِرَاءِ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ مَلْبَسٍ وَمَأْكَلٍ وَدَوَاءٍ أَوْ بَيْعِ غَزْلٍ، أَوْ كَانَتْ تَتَكَسَّبُ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ مَحَلِّهَا كَالْقَابِلَةِ وَالْمَاشِطَةِ أَوْ لأَِدَاءِ عَمَلِهَا سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا بَيْنُونَةً
__________
(1) حديث: جابر: " طلقت خالتي ثلاثا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1121) وأبو داود (2 / 720) واللفظ لأبي داود.(29/349)
صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاَثًا: فَخَرَجَتْ. . . إِلَخْ قَال الشَّافِعِيُّ: وَالْجِدَادُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ نَهَارًا غَالِبًا، وَالضَّابِطُ عِنْدَهُ: كُل مُعْتَدَّةٍ لاَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَقْضِيهَا حَاجَتَهَا لَهَا الْخُرُوجُ، أَمَّا مَنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنٍ أَوْ ضَرُورَةٍ كَالزَّوْجَةِ، لأَِنَّهُنَّ مَكْفِيَّاتٌ بِنَفَقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ.
بَل أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْبَائِنِ الْخُرُوجَ لَيْلاً إِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا نَهَارًا، وَكَذَا إِلَى دَارِ جَارَةٍ لَهَا لِغَزْلٍ وَحَدِيثٍ وَنَحْوِهِمَا لِلتَّأَنُّسِ، بِشَرْطِ: أَنْ تَأْمَنَ الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا، وَأَنْ تَرْجِعَ وَتَبِيتَ فِي بَيْتِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَال: اسْتَشْهَدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَآمَ نِسَاؤُهُمْ وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ فَجِئْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْل فَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُل امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَى بَيْتِهَا (1) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 486، 487، جواهر الإكليل 1 / 393 الفواكه الدواني 3 / 99، تفسير القرطبي 18 / 154 - 155 مغني المحتاج 403، روضة الطالبين 8 / 416، وصحيح مسلم 10 / 108 - إحياء التراث، وسبل السلام 3 / 203، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 97 - 100. وحديث: " استشهد رجال يوم أحد. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 436) من حديث مجاهد مرسلا.(29/350)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّلاَثِ أَوِ الْبَائِنِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، لِعُمُومِ النَّهْيِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى تَحْصِينِ الْمَاءِ (1) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:
58 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لاَ تَخْرُجُ لَيْلاً، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا (2) . قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لاِكْتِسَابِ مَا تُنْفِقُهُ، لأَِنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لَهَا مِنَ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَل نَفَقَتُهَا عَلَيْهَا، فَتَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيل النَّفَقَةِ، وَلاَ تَخْرُجُ بِاللَّيْل لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْل، وَإِذَا خَرَجَتْ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا لاَ تَبِيتُ خَارِجَ مَنْزِلِهَا الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ (3) .
وَقَال الْمُتَوَلِّي: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، فَلاَ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (4) وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ السَّابِقِ (5) ، وَبِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إِلَيْهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، فَسَأَلْنَ
__________
(1) البدائع 3 / 205.
(2) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344، جواهر الإكليل 1 / 393، الدسوقي 2 / 486، منح الجليل 2 / 396، الفواكه الدواني 2 / 99، مغني المحتاج 3 / 403، روضة الطالبين 8 / 416، المغني 9 / 176، تفسير القرطبي 18 / 154، 155، سبل السلام 3 / 203، نيل الأوطار 7 / 102، صحيح مسلم 10 / 108.
(3) البدائع 3 / 205، وانظر الدسوقي 2 / 486.
(4) روضة الطالبين 8 / 416.
(5) حديث الفريعة تقدم تخريجه ف 57.(29/350)
ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْنَ: " إِنَّا نَسْتَوْحِشُ، فَأَقَرَّهُنَّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا كَانَ بِاللَّيْل فَلْتَرُحْ كُل امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا (1) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ:
59 - الْمُعْتَدَّةُ مِنْ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: الْمُعْتَدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ، إِلاَّ إِذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، وَالصَّغِيرَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ لاَ رَجْعَةَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ الْوَلَدِ وَلاَ وَلَدَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ رَجْعِيَّةً فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ دُونَ إِذْنِ زَوْجِهَا لأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ، وَالْمَجْنُونَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لأَِنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ كَالصَّغِيرَةِ، إِلاَّ أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، وَالْكِتَابِيَّةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لأَِنَّ السُّكْنَى فِي
__________
(1) البدائع 3 / 205، مغني المحتاج 3 / 403، المغني لابن قدامة 9 / 176، صحيح مسلم 10 / 108، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 102، سبل السلام 3 / 203.
(2) روضة الطالبين 8 / 416.(29/351)
الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ فَتَكُونُ عِبَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْكُفَّارُ لاَ يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ، إِلاَّ إِذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ مِنَ الْخُرُوجِ لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الاِخْتِلاَطِ، فَإِذَا أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهَا مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَةَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ (1) .
مَا يُبِيحُ لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجَ وَالاِنْتِقَال مِنْ مَكَانِ الْعِدَّةِ:
60 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ وَفَاةٍ الْخُرُوجُ وَالاِنْتِقَال مِنْ مَكَانِ الْعِدَّةِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا، بِأَنْ خَافَتْ سُقُوطَ مَنْزِلِهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ كَانَ الْمَنْزِل بِأُجْرَةٍ وَلاَ تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ فِي أُجْرَتِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَوْ كَانَ الْمَنْزِل مِلْكًا لِزَوْجِهَا وَقَدْ مَاتَ، أَوْ كَانَ نَصِيبُهَا لاَ يَكْفِيهَا، أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا مِنْهُمُ - الْوَرَثَةُ - فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَنْتَقِل. . . لأَِنَّ السُّكْنَى وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِالأَْعْذَارِ، وَإِذَا انْتَقَلَتْ لِعُذْرٍ: يَكُونُ سُكْنَاهَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِل الَّذِي انْتَقَلَتْ مِنْهُ
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 207، 208.(29/351)
فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَنْهُ، لأَِنَّ الاِنْتِقَال مِنَ الأَْوَّل إِلَيْهِ كَانَ لِعُذْرٍ، فَصَارَ الْمَنْزِل الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا مِنَ الأَْصْل، فَلَزِمَهَا الْمَقَامُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ انْتِقَالُهَا مِنْ مَكَانِ الْعِدَّةِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، كَبَدْوِيَّةٍ مُعْتَدَّةٍ ارْتَحَل أَهْلُهَا فَلَهَا الاِرْتِحَال مَعَهُمْ حَيْثُ كَانَ يَتَعَذَّرُ لُحُوقُهَا بِهِمْ بَعْدَ الْعِدَّةِ، أَوْ لِعُذْرٍ لاَ يُمْكِنُ الْمَقَامُ مَعَهُ بِمَسْكَنِهَا كَسُقُوطِهِ أَوْ خَوْفِ جَارِ سُوءٍ أَوْ لُصُوصٍ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْحَاكِمُ الَّذِي يُزِيل الضَّرَرَ، فَإِذَا وُجِدَ الْحَاكِمُ الَّذِي يُزِيل الضَّرَرَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ فَلاَ تَنْتَقِل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَضَرِيَّةً أَمْ بَدَوِيَّةً، وَإِذَا انْتَقَلَتْ لَزِمَتِ الثَّانِي إِلاَّ لِعُذْرٍ. . . وَهَكَذَا، فَإِذَا انْتَقَلَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ رُدَّتْ بِالْقَضَاءِ قَهْرًا عَنْهَا؛ لأَِنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى (2) . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُعْذَرُ لِلْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ هِيَ:
إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ لُصُوصٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ جَارِ سُوءٍ. وَتَتَحَرَّى الْقُرْبَ مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، أَوْ لَوْ لَزِمَهَا عِدَّةٌ وَهِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَلْزَمُهَا أَنْ
__________
(1) البدائع 3 / 205، 206، فتح القدير 3 / 285. ط - 1 الأميرية ببولاق.
(2) الدسوقي 2 / 486 - 487، الفواكه الدواني 2 / 99، جواهر الإكليل 1 / 393.(29/352)
تُهَاجِرَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، قَال الْمُتَوَلِّي: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لاَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا وَلاَ عَلَى دِينِهَا فَلاَ تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ، أَوْ إِذَا لَزِمَهَا حَقٌّ وَاحْتِيجَ إِلَى اسْتِيفَائِهِ وَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهُ فِي مَسْكَنِهَا كَحَدٍّ أَوْ يَمِينٍ فِي دَعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً خَرَجَتْ وَحُدَّتْ أَوْ حَلَفَتْ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَسْكَنِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَدَّرَةً بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا نَائِبًا أَوْ أَحْضَرَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مُسْتَعَارًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا فَرَجَعَ الْمُعِيرُ أَوْ طَلَبَهُ الْمَالِكُ أَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِل طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَل ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الاِنْتِقَال لِلْعُذْرِ (2) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ لِلْحَجِّ أَوْ لِلسَّفَرِ أَوْ الاِعْتِكَافِ:
61 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ إِلَى الْحَجِّ، لأَِنَّ الْحَجَّ لاَ يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ تَفُوتُ.
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 415 - 417، مغني المحتاج 3 / 403 - 404، المغني لابن قدامة 9 / 176، 177.
(2) البدائع 3 / 206.(29/352)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَحْرَمَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بَقِيَتْ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُنْشِئَ سَفَرًا لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، فَإِنْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُسَافِرَةِ فَفِي مُضِيِّهَا عَلَى سَفَرِهَا أَوْ رُجُوعِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (إِحْدَاد ف 22، 24 وَرُجُوع ف 25) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ فَيَلْزَمُهَا الْعَوْدَةُ إِلَى مَسْكَنِهَا لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ لأَِنَّهَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ: تَمْضِي الْمُعْتَكِفَةُ عَلَى اعْتِكَافِهَا إِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ، وَبِهَذَا قَال رَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ اعْتِكَافٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلاَ تَخْرُجُ لَهُ، بَل تَبْقَى فِي بَيْتِهَا حَتَّى تُتَمِّمَ عِدَّتَهَا، فَلاَ تَخْرُجُ لِلطَّارِئِ بَل تَسْتَمِرُّ عَلَى السَّابِقِ (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْدَاد، ف 24) .
إِحْدَادُ الْمُعْتَدَّةِ:
62 - الإِْحْدَادُ هُوَ: تَرْكُ التَّزَيُّنِ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 351. ط - الأميرية، البحر الرائق 2 / 326، الفتاوى الهندية 1 / 212، فتح القدير 3 / 298، 299، حاشية الدسوقي 2 / 485، 486 المجموع 6 / 445، 446، الجمل 4 / 465، ومغني المحتاج 3 / 404، المغني لابن قدامة 3 / 207، 9 / 186.(29/353)
وَالطِّيبِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَحُكْمُ الإِْحْدَادِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَدْخُل بِهَا الزَّوْجُ الْمُتَوَفَّى بِخِلاَفِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا (1) أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا فَلاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا لِبَقَاءِ أَكْثَرِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فِيهَا، بَل يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا وَالْعَوْدَةِ لَهَا، لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْدَاد ف 4)
نَفَقَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
63 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلاَقًا رَجْعِيًّا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَمَا يَلْزَمُهَا لِمَعِيشَتِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَامِلاً أَمْ حَائِلاً، لِبَقَاءِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ
__________
(1) البدائع 3 / 208، 209، فتح القدير 4 / 342، الدسوقي 2 / 478، جواهر الإكليل 1 / 389، منح الجليل 2 / 384، الفواكه 2 / 94، الباجي على الموطأ 4 / 145، روضة الطالبين 8 / 405، مغني المحتاج 3 / 398، 399، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 166، الكافي لابن قدامة 2 / 950.(29/353)
مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ حَائِلاً، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 12 - 15) .
الإِْرْثُ فِي الْعِدَّةِ:
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ إِذَا مَاتَتْ، أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَرِثَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِبَقَاءِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ قَائِمَةً، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ فِي حَالَةِ صِحَّةِ الزَّوْجِ، بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرْثِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ فِي حَالَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ: " طَلاَقُ الْفَارِّ (1) " فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى الْقَوْل بِإِرْثِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ فِي حَالَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِشَرْطِ
__________
(1) البدائع 3 / 180، 187، 218 وما بعدها، فتح القدير 3 / 150، 155. ط - الأميرية، ابن عابدين 2 / 520، 4 / 465، المبسوط 6 / 155 وما بعدها، حاشية الدسوقي 2 / 353، ط. الحلبي، جواهر الإكليل 1 / 333، 334، 364، 388، الفواكه الدواني 2 / 56. دار المعرفة بيروت، مغني المحتاج 3 / 294، روضة الطالبين 8 / 72، 74، 222، شرح الزرقاني 4 / 70، 209، المغني 7 / 217، 8 / 477.(29/354)
أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا، وَأَنْ يَمُوتَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلاَقُ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَحِقَّةً لِلْمِيرَاثِ وَقْتَ الطَّلاَقِ، وَتَظَل أَهْلِيَّتُهَا لِذَلِكَ حَتَّى وَفَاةِ الْمُطَلِّقِ.
أَمَّا إِذَا مَاتَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ فِي الْعِدَّةِ فَلاَ يَرِثُ الْمُطَلِّقُ مِنْهَا عَمَلاً بِقَصْدِهِ السَّيِّئِ، فَبِطَلاَقِهِ الْبَائِنِ لَهَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الإِْرْثِ مِنْهَا (1) ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ تَرِثُ زَوْجَهَا لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ لاَعَنَهَا أَوْ خَالَعَهَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ وَمَاتَ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا أَمْ لاَ، حَتَّى وَلَوِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَزْوَاجًا، وَلاَ يَرِثُهَا الزَّوْجُ فِي حَالَةِ مَوْتِهَا فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً أَيْضًا، لأَِنَّهُ الَّذِي أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لأَِنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ بِيَدِهِ (2) وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ أَنَّهَا لاَ تَرِثُ لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلأَِنَّهَا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا بِالاِتِّفَاقِ (3) .
أَمَّا عَلَى الْقَوْل الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْبَائِنَ تَرِثُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: تَرِثُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ أَوْ
__________
(1) المراجع السابقة والمبسوط 6 / 154 وما بعدها.
(2) الدسوقي 2 / 353، الفواكه 2 / 56، 57، الإكليل 1 / 333، 334، الزرقاني 4 / 70، 209.
(3) روضة الطالبين 8 / 72، 74، 222، مغني المحتاج 3 / 294.(29/354)
مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ أَبَدًا، إِلاَّ أَنَّ لِلْقَوْل الْقَدِيمِ شُرُوطًا: كَوْنُ الزَّوْجَةِ وَارِثَةً، وَعَدَمُ اخْتِيَارِهَا الْبَيْنُونَةَ فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ وَنَحْوِهِ وَمَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَوْنُهَا بِطَلاَقٍ لاَ بِلِعَانٍ وَفَسْخٍ، وَكَوْنُهُ مَنْشَأً لِيَخْرُجَ مَا إِذَا أَقَرَّ بِهِ، وَكَوْنُهُ مُنَجَّزًا (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ إِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ فِي الْمَرَضِ بِرَغْبَتِهَا أَوِ اخْتِيَارِهَا، وَلَمْ يَرِثْهَا إِنْ مَاتَتْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَرِثُهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَيْضًا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهَا لاَ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ (2) .
وَيُنْظَرُ (مُصْطَلَحُ طَلاَق ف 66) .
مُعَاشَرَةُ الْمُعْتَدَّةِ وَمُسَاكَنَتُهَا:
65 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الأَْجْنَبِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ مُعَاشَرَتُهَا وَمُسَاكَنَتُهَا أَوِ الْخَلْوَةُ بِهَا أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، لاِنْقِطَاعِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلاَ تَحِل لَهُ إِلاَّ بِعَقْدٍ وَمَهْرٍ جَدِيدَيْنِ فِي الْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى، أَوْ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ثُمَّ يُفَارِقَهَا فِي الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُعَاشَرَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 294. ط - الحلبي.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 217، 223.(29/355)
رَجْعِيٍّ أَوْ مُسَاكَنَتُهَا وَالاِسْتِمْتَاعُ أَوِ الْخَلْوَةُ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ لِزَوْجَتِهِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا مُعَاشَرَتُهَا وَمُسَاكَنَتُهَا فِي الدَّارِ الَّتِي تَعْتَدُّ فِيهَا، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخَلْوَةِ بِهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِهَا وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (1)
فَالطَّلاَقُ رَفْعٌ لِحِل النِّكَاحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الدُّخُول عَلَيْهَا أَوِ الأَْكْل مَعَهَا أَوْ لَمْسُهَا أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْكَنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً وَمَعَهَا مَحْرَمٌ مُمَيِّزٌ يُسْتَحَى مِنْهُ وَيَكُونُ بَصِيرًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِمْتَاعُ بِالرَّجْعِيَّةِ وَالْخَلْوَةُ بِهَا وَلَمْسُهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا بِنِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ، وَكَذَلِكَ بِدُونِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهَا فِي الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا (3) .
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سبل السلام 3 / 182، نيل الأوطار 7 / 43 جواهر الإكليل 1 / 364، الفواكه 2 / 97، روضة الطالبين 8 / 418، 419، مغني المحتاج 3 / 407. ط - الحلبي، المغني 8 / 483 - 484.
(3) البدائع 3 / 180، 182، 183، ابن عابدين 2 / 622، 5 / 15، المبسوط 6 / 36 المغني لابن قدامة 8 / 477 - 478.(29/355)
الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ وَالدَّعَاوَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا:
66 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (1) ، (ر: مُصْطَلَحَ رَجْعَة) وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ: عِدَّةُ دَعَاوَى أَهَمُّهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِلاَفِ الزَّوْجَيْنِ فِي تَارِيخِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ تَارِيخِ الرَّجْعَةِ.
وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ ذُكِرَتْ بِالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْعَة، ف 23) وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا مَا يَأْتِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الرَّجْعِيَّةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بَعْدَ زَمَنٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهِ صُدِّقَتْ فِي إِخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرْءِ، وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْوَضْعِ لِحَمْلِهَا - اللاَّحِقِ لِزَوْجِهَا، أَوِ الَّذِي يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ - بِلاَ يَمِينٍ مِنْهَا عَلَى انْقِضَائِهَا، وَعَلَيْهِ فَلاَ تَصِحُّ رَجْعَتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ. . . وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْقُرُوءِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِنْقِضَاءُ فِيهِ نَادِرًا، كَحِضْتُ ثَلاَثًا فِي شَهْرٍ، سُئِل النِّسَاءُ فَإِنْ صَدَّقْنَهَا أَيْ: شَهِدْنَ أَنَّ النِّسَاءَ تَحِيضُ لِمِثْلِهِ عُمِل بِهِ (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 180، الدسوقي 2 / 415، الفواكه 2 / 58، جواهر الإكليل 1 / 362، مغني المحتاج 3 / 335، روضة الطالبين 8 / 214، 217، كشاف القناع 5 / 341، الروض المربع 6 / 601، سبل السلام 3 / 182، 183. ط - بيروت.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 421، 422، جواهر الإكليل 1 / 364.(29/356)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ رَاجَعَ الْمُعْتَدَّةَ فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ، فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا قَبْل أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِمَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِذَا كَانَ الاِخْتِلاَفُ قَبْل النِّكَاحِ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً.
فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَال: رَاجَعْتُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَتْ: بَل السَّبْتُ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا لاَ تَعْلَمُهُ رَاجَعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الرَّجْعَةِ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ وَقِيل: الْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الاِنْقِضَاءِ، بَل عَلَى وَقْتِ الرَّجْعَةِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَتْ هِيَ: انْقَضَتِ الْخَمِيسَ، وَقَال هُوَ: بَل انْقَضَتِ السَّبْتَ، صُدِّقَ فِي الأَْصَحِّ بِيَمِينِهِ: أَنَّهَا مَا انْقَضَتِ الْخَمِيسَ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ انْقِضَائِهَا قَبْلَهُ، وَقِيل: هِيَ الْمُصَدَّقَةُ، وَقِيل: الْمُصَدَّقُ السَّابِقُ الدَّعْوَى (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَاجَعَ الزَّوْجُ مُطَلَّقَتَهُ فَادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، فَإِنْ قِيل: هِيَ الْحَيْضُ، وَأَقَل الطُّهْرِ ثَلاَثَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَأَقَل مَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، وَإِنْ قِيل: الْقُرُوءُ هِيَ الأَْطْهَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 340 - 242، روضة الطالبين 8 / 223 - 224.(29/356)
فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ، وَمَتَى ادَّعَتِ الْمُطَلَّقَةُ عِدَّتَهَا بِالْقُرُوءِ فِي أَقَل مِنْ هَذَا لَمْ يُقْبَل قَوْلُهَا، وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي أَقَل مِنْ شَهْرٍ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنِ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِي أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ صُدِّقَتْ بِلاَ بَيِّنَةٍ.
وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا فِيهِ، وَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ فِيهِ، لأَِنَّ الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلاَفِ فِي وَقْتِ الطَّلاَقِ.
وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْل لِتَمَامِهِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا فِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ إِمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) .
ثُبُوتُ النَّسَبِ فِي الْعِدَّةِ:
67 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ فِي الْعِدَّةِ، مَا دَامَ قَدْ وُلِدَ فِي نِطَاقِ الْحَدِّ الأَْقْصَى لِمُدَّةِ الْحَمْل مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلاَ يَنْتَفِي عَنْهُ إِلاَّ بِاللِّعَانِ - سَوَاءٌ أَقَرَّتِ الْمُعْتَدَّةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ لَمْ تُقِرَّ (2)
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي ثُبُوتِ
__________
(1) المغني 8 / 486.
(2) جواهر الإكليل 1 / 380، 381، 387، المواق بهامش الحطاب 4 / 135، مغني المحتاج 3 / 390، نهاية المحتاج 7 / 117، 118، الفروع 3 / 290، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 55، 56، 116 - 119.(29/357)
النَّسَبِ بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ الَّتِي أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ لَمْ تُقِرَّ، وَبَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيَّةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ نَسَب) .
فَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ عَكْسُهُ بِيَقِينٍ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِهِ.
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَكْسُهُ، فَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَلأَِنَّهَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَضَاءِ عِدَّتِهَا وَحِل النِّكَاحِ لَهَا بِمُدَّةِ الْحَمْل، فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا لِمُدَّةِ الْحَمْل، كَمَا يُعَلِّلُهُ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ يَبْلُغُ أَرْبَعَ سِنِينَ؛ لأَِنَّهُ وَلَدٌ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل، وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ (3) .
__________
(1) البدائع 3 / 211 وما بعدها.
(2) الاختيار 3 / 179، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 118 و 7 / 479 - الموسوعة 18 / 144.
(3) جواهر الإكليل 1 / 380، مغني المحتاج 3 / 373.(29/357)
دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْمُعْتَدَّةِ:
68 - الْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَلاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ وَفِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ (1) .
(ر: نَفَقَة، زَكَاة) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 62، فتح القدير 2 / 22، المبسوط 5 / 201، حاشية الدسوقي 1 / 499، القليوبي وعميرة 3 / 196، المجموع 6 / 192، 230، المغني 2 / 649.(29/358)
عَدَدِيَّاتٌ
ر: مِثْلِيَّاتٌ.(29/358)
عَدْل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدْل: خِلاَفُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأُْمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الأَْمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإِْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْعَدْل مِنَ النَّاسِ: هُوَ الْمَرْضِيُّ. قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ، وَرَجُلٌ عَدْلٌ: بَيِّنُ الْعَدْل، وَالْعَدَالَةُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَاهُ: ذُو عَدْلٍ.
وَالْعَدْل يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطَابِقَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَيُقَال: عَدْلاَنِ، وَعُدُولٌ، وَفِي الْمُؤَنَّثَةِ: عِدْلَةٌ.
وَالْعَدَالَةُ: صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الاِحْتِرَازَ عَمَّا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً فِي الظَّاهِرِ.
وَالْعَدْل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ غَالِبَةً عَلَى سَيِّئَاتِهِ (1) . وَهُوَ ذُو الْمُرُوءَةِ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، التعريفات للجرجاني، والمغرب في ترتيب المعرب، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني، ومغني المحتاج 4 / 427، كشاف القناع 6 / 418، القوانين الفقهية ص303، ومجلة الأحكام العدلية ص344 مادة 1705.
(2) معين الحكام ص82 ط: الميمنة في مصر 1310هـ.(30/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِسْطُ:
2 - الْقِسْطُ فِي اللُّغَةِ: الْعَدْل وَالْجَوْرُ فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَأَقْسَطَ بِالأَْلِفِ عَدَل فَهُوَ مُقْسِطٌ إِذَا عَدَل، فَكَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ كَمَا يُقَال شَكَا إِلَيْهِ فَأَشْكَاهُ.
فَقَسَطَ وَأَقْسَطَ لُغَتَانِ فِي الْعَدْل، أَمَّا فِي الْجَوْرِ فَلُغَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ قَسَطَ بِغَيْرِ أَلِفٍ (1) .
وَالْقِسْطُ بِإِطْلاَقَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْعَدْل.
ب - الظُّلْمُ:
3 - أَصْل الظُّلْمِ: الْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ: فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ (2) .
وَهُوَ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَالظُّلْمُ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِل (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) حديث: " فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ". أخرجه أبو داود (1 / 94) ، وابن ماجه (1 / 146) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد روى من طرق صحيحة كما قال ابن حجر في التلخيص (1 / 83) ، وضعف جماعة من العلماء لفظ " أو نقص " كما في عون المعبود (1 / 299) .
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والتعريفات للجرجاني.(30/5)
ج - الْفِسْقُ:
4 - الْفِسْقُ هُوَ: الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَفَسَقَ فُلاَنٌ أَيْ: خَرَجَ عَنْ حَجْرِ الشَّرْعِ، وَالظُّلْمُ أَعَمُّ مِنَ الْفِسْقِ (1) .
أَحْكَامُ الْعَدْل:
5 - الْعَدْل مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَْرْضُ، وَانْتَظَمَ أَمْرُ الْخَلِيقَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحْكَامُ الْعَدْل فِي أَبْوَابٍ عَدِيدَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:
فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ عَدْلاً (2) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ خِلاَفُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الإِْمَامِ عَدْلاً، لِحَدِيثِ: صَلُّوا خَلْفَ كُل بَرٍّ وَفَاجِرٍ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) البدائع 1 / 156، حاشية ابن عابدين 1 / 368، جواهر الإكليل 1 / 77، القوانين الفقهيه ص68، المجموع للنووي 4 / 253، مغني المحتاج 1 / 242، الأحكام السلطانية للماوردي ص6، 101، روضة الطالبين 1 / 355.
(3) حديث: " صلوا خلف كل بر وفاجر ". أخرجه أبو داود (1 / 398) ، والدارقطني (2 / 57) من حديث أبي هريرة واللفظ للدارقطني، وأعله ابن حجر بالانقطاع كما في التلخيص (2 / 35) .(30/6)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الإِْمَامِ عَدْلاً، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْفَاسِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ} (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلاَ يَؤُمُّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا (2) وَحَدِيثِ: اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ) ف 24
فِي عَامِل الزَّكَاةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَامِل الزَّكَاةِ الْعَدْل، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ وَجَعْلُهُ عَامِلاً لِلزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ هَذَا نَوْعُ وِلاَيَةٍ فَاشْتُرِطَ فِيهَا الْعَدْل كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ؛ وَلأَِنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْل الأَْمَانَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْعَدْل أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاسِقٍ فِي عَمَلِهِ، وَلَيْسَ أَنْ يَكُونَ عَادِلاً عَدْل الشَّهَادَةِ.
وَيُعَبِّرُ الْحَنَابِلَةُ فِي غَالِبِ كُتُبِهِمْ بِالأَْمَانَةِ،
__________
(1) سورة السجدة / 18.
(2) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجرًا. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 342) من حديث جابر، وضعف إسناده البوصيري في الزوائد (1 / 203) .
(3) حديث: " اجعلوا أئمتكم خياركم. . . ". أخرجه البيهقي (3 / 90) ، والدارقطني (2 / 88) من حديث ابن عمر، وضعف البيهقي إسناده.(30/6)
إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْهَا الْعَدَالَةُ (1) .
فِي رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَرَى هِلاَل رَمَضَانَ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَالَةِ الْمَعْنِيَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي رَائِي هِلاَل رَمَضَانَ هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْمَقْصُودَةَ هِيَ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، فَلاَ يُقْبَل قَوْل مَسْتُورِ الْحَال لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ، كَمَا لاَ تُقْبَل مِنَ الْفَاسِقِ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا بِوُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ يَثِقُ بِهِ بِرُؤْيَتِهِ لِهِلاَل رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا غَيْرَ عَدْلٍ، كَمَا أَنَّ عَلَى رَائِي الْهِلاَل أَنْ يَصُومَ عَدْلاً كَانَ أَوْ فَاسِقًا، شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَوْ رُدَّتْ؛ لأَِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 77، جواهر الإكليل1 / 138، المجموع للنووي 6 / 167، روضة الطالبين 2 / 335، كشاف القناع 2 / 375، الفروع 2 / 606، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص115.
(2) البدائع 2 / 80 - 81، مواهب الجليل 2 / 381، جواهر الإكليل 1 / 144، القوانين الفقهية ص115، المجموع للنووي 6 / 275 - 282، مغني المحتاج 1 / 420، كشاف القناع 2 / 304، المغني لابن قدامة 3 / 157.(30/7)
وَفِي رُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشُّهُورِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 6) .
فِي الْقِبْلَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَل خَبَرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ أَوْ يُقَلِّدُهُ غَيْرُهُ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، وَأَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ؛ وَلِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِإِخْبَارِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْبَل خَبَرُ الْفَاسِقِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَةِ الْفَاسِقِ فِي بَيْتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي عَمِلَهَا أَمَّا إِذَا عَمِلَهَا هُوَ فَكَإِخْبَارِهِ (1) .
فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ مَنْ يُقْبَل خَبَرُهُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، فَلاَ يُقْبَل خَبَرُ الْفَاسِقِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ
__________
(1) حاشية أبي عابدين 1 / 289، جواهر الإكليل 1 / 45، الفواكه الدواني 1 / 269، المجموع للنووي 3 / 200، مغني المحتاج 1 / 146، المغني لابن قدامة 1 / 453، كشاف القناع 1 / 306.(30/7)
مِنْ أَهْل الرِّوَايَةِ وَلاَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هُنَا هِيَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ: لَوْ أَخْبَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُسَّاقِ لاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ قُبِل خَبَرُهُمْ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْل نَفْسِهِ فِي الْمَاءِ (1) .
فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ عَدْلاً.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَدْلاً فِي النِّكَاحِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ: إِنَّهُ شَرْطُ كَمَالٍ يُسْتَحَبُّ وُجُودُهُ، وَيُكْرَهُ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْفَاسِقِ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 72، جواهر الإكليل 1 / 12، روضة الطالبين 1 / 35، مغني المحتاج 1 / 28، المغني لابن قدامة 1 / 64.
(2) البدائع 2 / 239، وحاشية ابن عابدين 2 / 295، وجواهر الإكليل 1 / 281، ومواهب الجليل 3 / 438، والفواكه الدواني 2 / 22، وحاشية العدوي 2 / 34، ومغني المحتاج 3 / 155، وروضة الطالبين 7 / 64، والمغني 6 / 466.(30/8)
وَهَذَا الْخِلاَفُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ السُّلْطَانِ الَّذِي يُزَوِّجُ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهَا، أَمَّا هُوَ فَلاَ تُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا لاَ تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي سَيِّدٍ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ؛ لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا (1) .
فِي الْوَصِيِّ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَصِيِّ عَدْلاً:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ عَدْلاً هُنَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا حَسَنَ التَّصَرُّفِ حَافِظًا لِمَال الصَّبِيِّ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِيصَاء ف 11)
فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً؛ لأَِنَّ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ وِلاَيَةٌ كَالْوِصَايَةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا عَيَّنَ فَاسِقًا لَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهُ، وَتُزَال يَدُهُ مِنَ الْوَقْفِ، وَإِنْ وَلاَّهُ الْحَاكِمُ وَهُوَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 155، المغني لابن قدامة 6 / 466، كشاف القناع 5 / 54.(30/8)
عَدْلٌ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ انْعَزَل وَنَزَعَ الْحَاكِمُ مِنْهُ الْوَقْفَ؛ لأَِنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إِبْقَاءِ وِلاَيَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ، قَال السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُعْتَبَرُ فِي مَنْصُوبِ الْحَاكِمِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى فِي مَنْصُوبِ الْوَاقِفِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ مَنْصُوبًا مِنْ قِبَل الْوَاقِفِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف)
فِي وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا أَوْ غَيْرَهُمَا؛ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ، وَتَفْوِيضُهَا إِلَى غَيْرِ الْعَدْل تَضْيِيعٌ لِلصَّبِيِّ وَلِمَال الصَّبِيِّ، وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لاَ الْبَاطِنَةُ، فَتَثْبُتُ الْوِلاَيَةُ لِلأَْبِ مَثَلاً إِذَا كَانَ مَسْتُورَ الْحَال لاَ يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلاَ فِسْقُهُ وَذَلِكَ؛ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ وَكَمَالِهَا عَلَى وَلَدِهِ، وَمِثْل الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلاَيَةٌ)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 408، 6 / 213، تبيين الحقائق 3 / 329، مواهب الجليل 6 / 37، مغني المحتاج 2 / 393، المغني لابن قدامة 5 / 647، روضة الطالبين 5 / 347.
(2) جواهر الإكليل 1 / 409، مغني المحتاج 2 / 173، كشاف القناع 3 / 446، حاشية ابن عابدين 2 / 633، الإنصاف 11 / 177.(30/9)
فِي الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى وَالْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً مَنْ يَتَوَلَّى الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى أَوْ مَا شَابَهَهَا مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ عَدْلاً؛ لأَِنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْفَاسِقِ الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَنُقِلَتْ فِي هَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِثْل الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْوُلاَةُ الْعَامُّونَ وَالْوُزَرَاءُ التَّنْفِيذِيُّونَ وَأَعْضَاءُ مَجْلِسِ الشُّورَى وَأُمَرَاءُ الْجُيُوشِ. . . . (1)
ر: مُصْطَلَحُ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)
فِي الْقُضَاةِ وَوُلاَةِ الْمَظَالِمِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَخْلَفِينَ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحَكَّمِينَ وَغَيْرِهِمْ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَنَحْوُهُ عُدُولاً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 368، 4 / 299، جواهر الإكليل 2 / 221، 227، مغني المحتاج 3 / 75، 4 / 130، روضة الطالبين 6 / 313، 10 / 42، الأحكام السلطانية للماوردي ص6، 22، 35، 66 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص6، 20.(30/9)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَوْ يَتَصَدَّى لِلْفَتْوَى، فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ لِلْقَضَاءِ وَلاَ مَنْ فِيهِ نَقْصٌ يَمْنَعُ قَبُول شَهَادَتِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ لَيْسَتْ شَرْطَ صِحَّةٍ فِي تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ وَيَجُوزُ تَقْلِيدُهَا لَهُ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ؛ لأَِنَّ الْعَدَالَةَ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ شَرْطَ كَمَالٍ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي عِنْدَهُمْ أَلاَّ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَمَانَةُ الأَْمْوَال وَالأَْبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ، فَلاَ يَقُومُ بِوَفَائِهَا إِلاَّ مَنْ كَمُل وَرَعُهُ وَتَمَّ تَقْوَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ قُلِّدَ الْفَاسِقُ مَعَ هَذَا جَازَ التَّقْلِيدُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا؛ لأَِنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَلاَ يَمْنَعُ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ، وَحُكِيَ عَنِ الأَْصَمِّ مِثْل هَذَا حَيْثُ قَال: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَاسِقًا (1) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي ذَرٍّ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا.
__________
(1) البدائع 7 / 3، حاشية ابن عابدين 4 / 299، 301 الفتاوى الخانية 2 / 462، الأحكام السلطانية للماوردي ص66، 77 ولأبي يعلى ص73، مغني المحتاج 4 / 374 - 378، 388، 389، 391، كشاف القناع 6 / 300، المغني لابن قدامة 9 / 39، 40، 100.(30/10)
قَال: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَال: صَل الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَل، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ (1)
ر: مُصْطَلَحُ: (قَضَاءٌ) وَمُصْطَلَحُ: (وِلاَيَةٌ)
فِي الشُّهُودِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاهِدِ عَدْلاً:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ أَنْ يَكُونُوا عُدُولاً فِي التَّحَمُّل وَالأَْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ نَبَأِ الْفَاسِقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (3)
وَالشَّهَادَةُ نَبَأٌ فَيَجِبُ التَّثَبُّتُ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ مَحْدُودٍ فِي الإِْسْلاَمِ، وَلاَ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ (4) ، وَلأَِنَّ دِينَ الْفَاسِقِ لَمْ يَزَعْهُ عَنِ
__________
(1) حديث: " كيف أنت إذا كانت عليه أمراء. . .؟ " أخرجه مسلم (1 / 448) .
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة الحجرات / 6.
(4) حديث: " لا تجوز شهادة خائن. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 792) من حديث عبد الله بن عمرو، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 37) .(30/10)
ارْتِكَابِ مَحْظُورَاتٍ فِي الدِّينِ، فَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ لاَ يَزَعَهُ عَنِ الْكَذِبِ فَلاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِشَهَادَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَدْل لَيْسَ شَرْطًا فِي أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّل الشَّهَادَةَ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِذَا تَحَمَّل الشَّهَادَةَ وَهُوَ فَاسِقٌ ثُمَّ تَابَ مِنْ فِسْقِهِ ثُمَّ شَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتُبْ فَيُمْنَعُ مِنَ الأَْدَاءِ؛ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.
وَالْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ هِيَ الظَّاهِرَةُ، أَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ الْبَاطِنَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَال عَنْ حَال الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيل، وَالتَّزْكِيَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، مَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ، أَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ لاَ يَكْتَفِيَ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، بَل يَسْأَل عَنْ حَال الشُّهُودِ؛ لِدَرْءِ الْحُدُودِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَسْأَل الْقَاضِي عَنْ حَال الشُّهُودِ، بَل يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (2) ؛ وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ
__________
(1) البدائع 6 / 266، وجواهر الإكليل 2 / 232، ومغني المحتاج 6 / 426، وكشاف القناع 6 / 416.
(2) سورة البقرة / 143.(30/11)
الْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الْوُصُول إِلَيْهَا فَيَجِبُ الاِكْتِفَاءُ بِالظَّاهِرَةِ.
وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ: إِلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (شَهَادَةٌ ف 22)
فِي رَاوِي الْحَدِيثِ:
18 - ذَهَبَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ - فِي الْحَدِيثِ - أَنْ يَكُونَ عَدْلاً سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ تَأْخُذُوا الْعِلْمَ إِلاَّ عَمَّنْ تُجِيزُونَ شَهَادَتَهُ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ وَعَنِ النَّخَعِيِّ قَال: كَانُوا إِذَا أَتَوُا الرَّجُل لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى صَلاَتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ
__________
(1) البدائع 6 / 266، 268، 270، الفتاوى الخانية 2 / 460، والقوانين الفقهية ص303، 304.
(2) سورة الحجرات / 6.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) حديث: " لا تأخذوا العلم إلا عمن تجيزون شهادته ". أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (9 / 301) من حديث ابن عباس وأشار إلى إعلاله، ونقل ذلك عنه المناوي في فيض القدير (6 / 384) وزاد: إن فيه راويًا قال عنه النسائي: " متروك الحديث ".(30/11)
وَتَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي إِمَّا بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلِينَ، وَإِمَّا بِالاِسْتِفَاضَةِ، فَمَنِ اشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْل النَّقْل وَالْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُل حَامِل عِلْمٍ مَعْرُوفَ الْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ أَبَدًا عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْمِل هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُل خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَال الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيل الْجَاهِلِينَ (1)
وَيُقْبَل التَّعْدِيل سَوَاءٌ فِي الرَّاوِي أَوْ فِي الشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِهِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ؛ لأَِنَّ أَسْبَابَهُ كَثِيرَةٌ يَصْعُبُ ذِكْرُهَا.
أَمَّا الْجَرْحُ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجْرَحُ وَمَا لاَ يَجْرَحُ، فَقَدْ يُطْلِقُ أَحَدُهُمُ الْجَرْحَ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ اعْتَقَدَهُ جَرْحًا وَلَيْسَ بِجَرْحٍ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِهِ لِيُنْظَرَ هَل هُوَ قَادِحٌ أَوْ لاَ؟ قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: وَهَذَا ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ.
وَجَرْحُ الرَّاوِي أَوْ تَعْدِيلُهُ يَثْبُتُ - فِي
__________
(1) حديث: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ". أخرجه العقيلي في الضعفاء (1 / 9) من حديث أبي أمامة، وأشار ابن كثير إلى عدم صحته في الباعث الحثيث ص94.(30/12)
الصَّحِيحِ - بِوَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْعَدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي قَبُول الْخَبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي جَرْحِ رَاوِيهِ أَوْ تَعْدِيلِهِ، وَقِيل: لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ (1) .
وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيل إِنِ اجْتَمَعَا فِي شَخْصٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيل؛ لأَِنَّ الْمُعَدِّل يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ، وَالْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ خَفِيَ عَلَى الْمُعَدِّل؛ وَلأَِنَّ الْجَارِحَ يَقُول: رَأَيْتُهُ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا، وَالْمُعَدِّل مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَل كَذَا وَكَذَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُتَسَاوِينَ أَوْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ.
وَقِيل إِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَالتَّعْدِيل أَوْلَى.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمْ: إِذَا كَانَ الْجَارِحُونَ وَالْمُعَدِّلُونَ مُتَسَاوِينَ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَعْدَل فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي التَّعْدِيل أَمْ فِي التَّجْرِيحِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ الَّذِي لاَ يَكْفُرُ فِي بِدْعَتِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ فَاسِقٌ بِبِدْعَتِهِ، وَكَمَا اسْتَوَى فِي الْكُفْرِ الْمُتَأَوِّل وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّل، يَسْتَوِي فِي الْفِسْقِ الْمُتَأَوِّل وَغَيْرُ الْمُتَأَوِّل،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِل رِوَايَتَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص94، تدريب الراوي ص197، جواهر الإكليل 2 / 234، المغني لابن قدامة 9 / 63، 67، 68، 69.(30/12)
يَسْتَحِل الْكَذِبَ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَوْ لأَِهْل مَذْهَبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَال الشَّافِعِيُّ: أَقْبَل شَهَادَةَ أَهْل الأَْهْوَاءِ إِلاَّ الْخَطَابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ.
وَقَال آخَرُونَ: تُقْبَل رِوَايَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً، وَلاَ تُقْبَل إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ (1)
الْعَدْل فِي الْحُكْمِ:
19 - تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْعَدْل فِي الْحُكْمِ وَحُرْمَةِ جَوْرِ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ
وَأَصْل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (2)
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِْمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (4) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النحل / 90.
(3) سورة الحجرات / 9.
(4) حديث: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 299) ، ومسلم (3 / 1459) من حديث ابن عمر.(30/13)
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاَّ لَمْ يَدْخُل مَعَهُمُ الْجَنَّةَ. (2)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 11)
20 - الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ وُجُوبِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (4) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (5) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 8)
__________
(1) حديث: " ما من عبد يسترعيه الله رعية ". أخرجه مسلم (3 / 1460) من حديث معقل بن سيار.
(2) حديث: " ما من أمير يلي أمر المسلمين. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1460) من حديث معقل بن يسار.
(3) حديث: " اللهم من ولى من أمر أمتي شيئًا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1458) من حديث عائشة.
(4) سورة النساء / 3.
(5) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 438) ، والحاكم (2 / 186) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(30/13)
الْعَدْل بَيْنَ الأَْوْلاَدِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ مُرَاعَاةَ الْعَدْل فِي الْهِبَاتِ، وَالْعَطَايَا بَيْنَ الأَْوْلاَدِ، وَعَدَمِ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً. فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْل هَذَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَاتَّقُوا اللَّهُ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ قَال: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 11)
__________
(1) حديث النعمان بن بشير: " أعطاني أبي عطية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 211) ، ومسلم (2 / 1242 - 1243) واللفظ للبخاري.(30/14)
عُدْوَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُدْوَانُ: بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنِ الْحَدِّ، مَصْدَرُ عَدَا يَعْدُو يُقَال: عَدَا الأَْمْرَ يَعْدُوهُ وَتَعَدَّاهُ كِلاَهُمَا تَجَاوَزَهُ، وَعَدَا عَلَى فُلاَنٍ عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً أَيْ: ظَلَمَ ظُلْمًا جَاوَزَ فِيهِ الْقَدْرَ، وَمِنْهُ كَلِمَةُ: الْعَدُوِّ، وَقَوْل الْعَرَبِ: فُلاَنٌ عَدُوُّ فُلاَنٍ مَعْنَاهُ: يَعْدُو عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ وَيَظْلِمُهُ (1) .
وَيُسْتَعْمَل الْعُدْوَانُ بِمَعْنَى السَّبِيل أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (2) أَيْ: لاَ سَبِيل (3) وَيَقُول الْقُرْطُبِيُّ: الْعُدْوَانُ: الإِْفْرَاطُ فِي الظُّلْمِ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَأَغْلَبُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي التَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال بِغَيْرِ حَقٍّ، مِمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ أَوِ الضَّمَانَ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) سورة البقرة / 193.
(3) لسان العرب.
(4) تفسير القرطبي 6 / 47.
(5) فتح القدير مع الهداية 7 / 363، الزرقاني على مختصر خليل 8 / 7، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 240، والقليوبي 3 / 26.(30/14)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الظُّلْمُ:
2 - الظُّلْمُ اسْمٌ مِنْ ظَلَمَهُ ظُلْمًا وَمَظْلِمَةً، وَأَصْل الظُّلْمِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (1) .
يَقُول الأَْصْفَهَانِيُّ: الظُّلْمُ يُقَال فِي مُجَاوَزَةِ الْحَقِّ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى نُقْطَةِ الدَّائِرَةِ، وَيُقَال فِيمَا يَكْثُرُ وَفِيمَا يَقِل مِنَ التَّجَاوُزِ (2) .
وَيَقُول الأَْلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} (3)
الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ بِمَعْنًى، وَقِيل: أُرِيدَ بِالْعُدْوَانِ: التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ، وَبِالظُّلْمِ: الظُّلْمُ عَلَى النَّفْسِ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعِقَابِ (4)
ب - الإِْثْمُ:
3 - الإِْثْمُ لُغَةً: الذَّنْبُ، وَقِيل: هُوَ أَنْ يَعْمَل مَا لاَ يَحِل لَهُ.
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ: مَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ شَرْعًا وَطَبْعًا (5) قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.
(3) سورة النساء / 30.
(4) تفسير روح المعاني للألوسي 5 / 16.
(5) التعريفات للجرجاني.(30/15)
: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) الإِْثْمُ: الْفِعْل الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الذَّمَّ (2) ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الأَْلُوسِيُّ (3) ، وَقِيل: مَا تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ (4) ، وَفِي الْحَدِيثِ: الإِْثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ. (5)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالإِْثْمُ أَعَمُّ مِنَ الْعُدْوَانِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعُدْوَانِ حَسَبَ اخْتِلاَفِ مُتَعَلَّقِهِ، فَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ أَنَّ حِفْظَ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْل وَالنَّسْل وَالْمَال مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ (6) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 85.
(2) القرطبي 2 / 20.
(3) تفسير روح المعاني للألوسي 1 / 312.
(4) تفسير القرطبي 2 / 20.
(5) حديث: " الإثم ما حاك في صدرك ". أخرجه مسلم (4 / 1980) من حديث النواس بن سمعان.
(6) الموافقات للشاطبي 2 / 8، 11.(30/15)
حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا (1)
وَعَلَى ذَلِكَ: فَالْعُدْوَانُ عَلَى الأَْنْفُسِ عَمْدًا حَرَامٌ وَمُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ (2) وَكَذَلِكَ الْعُدْوَانُ عَلَى الأَْعْضَاءِ عَمْدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقَتْل الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ الْعُدْوَانُ، قَال الْبُنَانِيُّ: الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ، وَالْعُدْوَانُ مَا كَانَ غَضَبًا لاَ لَعِبًا وَلاَ أَدَبًا (3) . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الأَْبِيُّ الأَْزْهَرِيُّ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قَتْلٌ - قِصَاصٌ)
وَالْعُدْوَانُ عَلَى الأَْمْوَال بِالسَّرِقَةِ أَوِ الْحِرَابَةِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحَيْهِمَا كَمَا أَنَّ الْعُدْوَانَ عَلَى الأَْمْوَال بِالْغَصْبِ وَالنَّهْبِ وَالاِخْتِلاَسِ وَالاِحْتِيَال وَنَحْوِهَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْغَصْبِ أَنَّهُ: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: يَدْخُل فِيهِ أَمَانَاتٌ
__________
(1) حديث: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 185) ، ومسلم (3 / 1306) من حديث أبي بكرة، واللفظ لمسلم.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 353، وجواهر الإكليل 2 / 155، وحاشية القليوبي 4 / 105، والمغني لابن قدامة 7 / 648.
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 7.
(4) جواهر الإكليل 2 / 148.(30/16)
تَعَدَّى فِيهَا وَإِنْ جَهِلَهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (غَصْبٌ، نَهْبٌ، إِتْلاَفٌ ف 34) .
5 - وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِرَدِّ الْعَيْنِ إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَإِلاَّ فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، أَوْ قِيمَتُهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: رَدُّ الْمِثْل هُوَ الأَْصْل فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الأَْصْل (أَيْ: أَصْل الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ) ، أَمَّا الْقِيمَةُ فَتُعْتَبَرُ مِثْلاً مَعْنًى وَلاَ تَكُونُ مَشْرُوعَةً مَعَ احْتِمَال الأَْصْل (2) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) .
وَالْعُدْوَانُ عَلَى الأَْعْرَاضِ بِالزِّنَا أَوِ الْقَذْفِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَبِمَا دُونَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ، وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (زِنى، قَذْف)
عُدُول
انْظُرْ: رُجُوع
__________
(1) فتح القدير 7 / 366، والاختيار 3 / 59، والمواق 5 / 274، القليوبي 3 / 26.
(2) فتح القدير مع الهدية 7 / 366، 367 مع تصرف في العبارة، ومجمع الضمانات ص203، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 357، ومغني المحتاج 4 / 194.
(3) سورة البقرة / 194.(30/16)
عَدْوَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدْوَى فِي اللُّغَةِ: أَصْلُهُ مِنْ عَدَا يَعْدُو إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَأَعْدَاهُ مِنْ عِلَّتِهِ وَخُلُقِهِ وَأَعْدَاهُ بِهِ جَوَّزَهُ إِلَيْهِ.
وَالْعَدْوَى: أَنْ يَكُونَ بِبَعِيرٍ جَرَبٌ مَثَلاً فَتُتَّقَى مُخَالَطَتُهُ بِإِبِلٍ أُخْرَى حَذَارٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا بِهِ مِنَ الْجَرَبِ إِلَيْهَا فَيُصِيبَهَا مَا أَصَابَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الطِّيبِيُّ: الْعَدْوَى: تَجَاوُزُ الْعِلَّةِ صَاحِبَهَا إِلَى غَيْرِهِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَرَضُ:
2 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: السَّقَمُ، نَقِيضُ الصِّحَّةِ، يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْمَرَضُ: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْل، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: أَصْل الْمَرَضِ: النُّقْصَانُ، وَهُوَ بَدَنٌ مَرِيضٌ: نَاقِصُ الْقُوَّةِ، وَقَلْبٌ مَرِيضٌ: نَاقِصُ الدِّينِ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: الْمَرَضُ فِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) الأبي شرح صحيح مسلم 6 / 37.(30/17)
الْبَدَنِ: فُتُورُ الأَْعْضَاءِ، وَفِي الْقَلْبِ: فُتُورٌ عَنِ الْحَقِّ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْمَرَضُ هُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (2) .
وَعَلاَقَةُ الْمَرَضِ بِالْعَدْوَى أَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَبِالْعَكْسِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْوَى مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْوَى أَحْكَامٌ مِنْهَا:
نَفْيُ الْعَدْوَى أَوْ إِثْبَاتُهَا:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ الْعَدْوَى أَوْ نَفْيِهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
3 - أَوَّلاً: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ لاَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ، وَإِنَّمَا بِفِعْل اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَْسَدِ (3) كَمَا وَرَدَ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُورَدُ مُمَرَّضٌ عَلَى مُصِحٍّ (4) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُمَا صَحِيحَانِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) حديث: " لا عدوى ولا طيرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 158)
(4) حديث: " لا يورد ممرض على مصح ". أخرجه مسلم (4 / 1744) من حديث أبي هريرة.(30/17)
وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ حَدِيثَ: لاَ عَدْوَى الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ وَتَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمَرَضَ وَالْعَاهَةَ تَعْدِي بِطَبْعِهَا لاَ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيثُ: لاَ يُورَدُ مُمَرَّضٌ عَلَى مُصِحٍّ فَأَرْشَدَ فِيهِ إِلَى مُجَانَبَةِ مَا يَحْصُل الضَّرَرُ عِنْدَهُ فِي الْعَادَةِ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، فَنَفَى فِي الْحَدِيثِ الأَْوَّل الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا، وَلَمْ يَنْفِ حُصُول الضَّرَرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلِهِ، وَأَرْشَدَ فِي الثَّانِي إِلَى الاِحْتِرَازِ مِمَّا يَحْصُل عِنْدَهُ الضَّرَرُ بِفِعْل اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَدَرِهِ (1) .
4 - ثَانِيًا: ذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْقَوْل بِنَفْيِ الْعَدْوَى لِحَدِيثِ: لاَ عَدْوَى، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنْ حَدِيثِ: وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَْسَدِ. فَقَالَتْ: مَا قَال ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَال: لاَ عَدْوَى وَقَال: فَمَنْ أَعْدَى الأَْوَّل؟ "
وَاسْتُدِل لِهَذَا الْمَذْهَبِ كَذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِيرَادِ الْمُمَرَّضِ عَلَى الْمُصِحِّ لَيْسَ لِلْعَدْوَى بَل لِلتَّأَذِّي (2) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (14 / 13، 14) .
(2) فتح الباري (10 / 158، 159) ، وصحيح مسلم بشرح النووي (14 / 214) .(30/18)
5 - ثَالِثًا ذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْقَوْل بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَال: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَل إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ (1) وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَْسَدِ. (2)
الْخَوْفُ مِنَ الْعَدْوَى:
6 - الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَكُونُ حَرَامًا: إِنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ فِعْل وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ وَكَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَالْخَوْفِ مِنَ الأُْسُودِ وَالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ وَالظُّلْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ فِي الأَْرْضِ فَلاَ تَدْخُلُوهَا. (3)
قَال الْمُنَاوِيُّ: أَيْ: يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَجْذُومِ عَلَى أَجْسَامِنَا مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالأَْسْقَامِ وَفِي الْحَدِيثِ: فِرَّ مِنَ
__________
(1) حديث: " كان في وفد ثقيف رجل مجذوم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1752) .
(2) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر. . . ". سبق تخريجه، والفروق 4 / 240، والآداب الشرعية 3 / 381.
(3) حديث: " إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 179) ، ومسلم (4 / 1738) واللفظ للبخاري.(30/18)
الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَْسَدِ فَصَوْنُ النُّفُوسِ وَالأَْجْسَامِ وَالْمَنَافِعِ وَالأَْعْضَاءِ وَالأَْمْوَال وَالأَْعْرَاضِ عَنِ الأَْسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ وَاجِبٌ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2)
عَزْل الزَّوْجِ الْمَرِيضِ عَنِ الصَّحِيحِ:
7 - إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِمَرَضٍ مُعْدٍ، كَالْجُذَامِ، فَيَرَى الْجُمْهُورُ ثُبُوتَ خِيَارِ الْفَسْخِ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لإِِثَارَةِ النُّفْرَةِ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْعَقْدِ.
أَمَّا إِنْ حَصَل بَعْدَهُ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ ر: (جُذَامٌ ف 4)
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 237 وهامشه 4 / 258.
(2) سورة البقرة / 195.(30/19)
عُذْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُذْرُ لُغَةً: - هُوَ الْحُجَّةُ الَّتِي يُعْتَذَرُ بِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْذَارٌ، يُقَال: لِي فِي هَذَا الأَْمْرِ عُذْرٌ، أَيْ: خُرُوجٌ مِنَ الذَّنْبِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: عَذَرْتُهُ عُذْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: رَفَعْتُ عَنْهُ اللَّوْمَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْ: غَيْرُ مَلُومٍ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّخْصَةُ:
2 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ: اسْمٌ مِنْ (رَخَّصَ) تَقُول: رَخَّصَ لَهُ الأَْمْرَ أَيْ: أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى تَرْخِيصِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ خَفَّفَهَا عَنْهُ (2) فَهِيَ إِذْنٌ بِمَعْنَى: التَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَا شُرِعَ مِنَ الأَْحْكَامِ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ (3) ، وَلَوْلاَ الْعُذْرُ لَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) لسان العرب.
(3) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 101.(30/19)
ب - الْعَفْوُ:
3 - الْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَحْوُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ - أَيْضًا -: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ، وَتَرْكُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضًا قَبُول الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الصَّفْحُ وَإِسْقَاطُ اللَّوْمِ وَالذَّنْبِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ هُوَ: إِسْقَاطُ وَلِيِّ الْمَقْتُول الْقَوَدَ عَنِ الْقَاتِل (2) .
أَقْسَامُ الْعُذْرِ:
4 - يَنْقَسِمُ الْعُذْرُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عُذْرٍ خَاصٍّ، وَعُذْرٍ عَامٍّ
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
أَوَّلاً: الْعُذْرُ الْخَاصُّ بِأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ:
وَيَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
5 - النَّوْعُ الأَْوَّل: الْعُذْرُ الْمُلاَزِمُ غَالِبًا لِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ: وَمِنْهُ: الاِسْتِحَاضَةُ (3) وَسَلَسُ الْبَوْل (4) وَانْفِلاَتُ الرِّيحِ، وَانْطِلاَقُ الْبَطْنِ،
__________
(1) لسان العرب.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 175 وما بعدها، والقواعد للبركتي.
(3) هي الدم الخارج من الفرج، لا من الرحم، لمرض وغيره.
(4) وهو ما خرج بنفسه من غير اختيار من الأحداث، كالبول والمذي والمني والغائط يسيل من المخرج بنفسه، فيعفى عنه ولا يجل غسله للضرورة إذا لازم كل يوم ولو مرة (الشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 72) .(30/20)
وَالْجُرْحُ الَّذِي لاَ يُرْقَأُ (1) وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ (2) فَكُل مُسْلِمٍ مُصَابٌ بِعُذْرٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْذَارِ يَكُونُ مَعْذُورًا، وَالْمَعْذُورُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ: هُوَ الَّذِي لاَ يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ إِلاَّ وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ.
أَثَرُ هَذِهِ الأَْعْذَارِ فِي الْعِبَادَاتِ:
أ - فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الأَْيَّامُ الْمُعْتَبَرَةُ حَيْضًا وَجَبَ عَلَيْهَا الاِغْتِسَال مِنَ الْحَيْضِ، ثُمَّ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْل بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُل يَوْمٍ، أَوْ لِكُل صَلاَةٍ بِسَبَبِ خُرُوجِ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ إِلاَّ إِذَا عَرَضَ لَهَا مَا يُوجِبُ الْغُسْل غَيْرُ الاِسْتِحَاضَةِ
7 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُضُوئِهَا، وَوُضُوءِ مَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل، وَانْفِلاَتُ الرِّيحِ، وَانْطِلاَقُ الْبَطْنِ، وَالْجُرْحُ الَّذِي لاَ يُرْقَأُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَؤُلاَءِ يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ، وَيُصَلُّونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْفَرَائِضِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، وَالْوَاجِبَاتُ كَالْوِتْرِ، وَكَذَا النَّوَافِل (3) حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، مَا لَمْ
__________
(1) أي لا يسكن ولا يهدأ.
(2) هو دم الأنف الذي لا يسكن ولا ينقطع.
(3) البناية في شرح الهداية للعيني 1 / 672.(30/20)
يَعْرِضْ نَاقِضٌ مِنَ النَّوَاقِضِ الاِعْتِيَادِيَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (1) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ، فَلاَ أَطْهُرُ، تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (2) وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ (3) ؛ لأَِنَّهُ يُرَادُ بِالصَّلاَةِ الْوَقْتُ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ (4) وَيُقَال: آتِيكَ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ أَيْ: لِوَقْتِهَا (5) فَالْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا تَكُونُ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ مَا لَمْ يَطْرَأْ نَاقِضٌ آخَرُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ
__________
(1) حديث " المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة "، قال الزيلعي في نصب الراية 1 / 204: غريب جدًا، ورواه البخاري (فتح الباري 1 / 332) " ثم توضئي لكل صلاة ".
(2) حديث فاطمة بنت أبي حبيش " توضئي لوقت كل صلاة " ذكره العيني في البناية (1 / 677) .
(3) حديث " المستحاضة تتوضأ لكل صلاة " ورد بلفظ ثم توضئ لكل صلاة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332) .
(4) حديث: " أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ". أخرجه أحمد (2 / 222) من حديث عبد الله بن عمرو، وأصله في البخاري (فتح الباري 1 / 437) ومسلم (1 / 370 - 371) من حديث جابر.
(5) الاختيار لتعليل المختار 1 / 29.(30/21)
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ لاَ يَجِبُ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَكْثَرَ مِنْ إِتْيَانِهِ فَيَجِبُ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنَ الْحَدَثِ الْمُبْتَلَى بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي (1) وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْوُضُوءِ؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ، وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ؛ لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُعْتَادٍ (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ يَجِبُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا لِكُل فَرْضٍ بَعْدَ دُخُول وَقْتِهِ، وَيُصَلُّوا مَعَ هَذَا الْفَرْضِ مَا يَشَاءُونَ مِنَ النَّوَافِل، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (3) مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا نَاقِضٌ اعْتِيَادِيٌّ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا عَلَيْهِمِ الْوُضُوءُ لِكُل صَلاَةٍ، وَبَعْدَ غَسْل مَحَل الْحَدَثِ وَشَدِّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ خُرُوجِ
__________
(1) حديث: فاطمة بنت أبي حبيش " فاغتسلي وصلّى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 425) ، ومسلم (1 / 263) واللفظ لمسلم.
(2) شرح الدردير مع حاشية الدسوقي 1 / 115 وما بعدها.
(3) حديث: " فاطمة بنت أبي حبيش " توضئي لكل صلاة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332) .
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 1 / 318.(30/21)
الْحَدَثِ بِمَا يُمْكِنُ (1) مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِل وَتَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي (2) .
هَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْل وَالْوُضُوءِ لأَِصْحَابِ الأَْعْذَارِ، وَوَسِيلَةُ التَّطَهُّرِ فِي كِلَيْهِمَا هِيَ الْمَاءُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَوُجُودِهِ.
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّيَمُّمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، فَقَدْ قَاسَ الْفُقَهَاءُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْغُسْل فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمَا، بِشَرْطِ فِقْدَانِ الْمَاءِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ، فَالتَّيَمُّمُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلاَةِ وَفِقْدَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَالْخَلَفُ لاَ يُخَالِفُ الأَْصْل، بَل يَقُومُ مَقَامَهُ.
شَرْطُ ثُبُوتِ الْعُذْرِ وَزَوَالِهِ:
8 - شَرْطُ ثُبُوتِ الْعُذْرِ: هُوَ اسْتِمْرَارُ الْحَدَثِ وَعَدَمُ التَّمَكُّنِ مِنْ حِفْظِ الطَّهَارَةِ، أَوِ اسْتِمْرَارُهُ
__________
(1) بداية المجتهد 608، والمغني لابن قدامة 1 / 341.
(2) حديث: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده " تدع الصلاة أيام أقرائها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 204) ، وأصله في مسلم (1 / 264) .(30/22)
أَكْثَرَ مِنَ انْقِطَاعِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَمْضِي وَقْتُ صَلاَةٍ إِلاَّ وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ وَمُلاَزِمٌ لَهُ غَالِبًا.
أَمَّا شَرْطُ زَوَالِهِ: فَهُوَ انْقِطَاعُ الْعُذْرِ كَالدَّمِ وَغَيْرِهِ، وَخُرُوجُ صَاحِبِهِ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَخُلُوُّ وَقْتٍ كَامِلٍ عَنْهُ؛ لأَِنَّ طَهَارَةَ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَتَقَيَّدُ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ (1) .
بُطْلاَنُ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ بُطْلاَنِ طَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا تَبْطُل بِخُرُوجِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ نَاقِضٌ آخَرُ، وَلَوْ كَانَ مُمَاثِلاً لِلْعُذْرِ الأَْوَّل، كَمَا لَوْ سَال أَحَدُ مَنْخِرَيْهِ فَتَوَضَّأَ لَهُ، ثُمَّ سَال الآْخَرُ فِي الْوَقْتِ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِالثَّانِي؛ لأَِنَّهُ حَدَثٌ جَدِيدٌ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ وَلأَِنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلطَّهَارَةِ، وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ تَبْطُل بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا تَبْطُل بِدُخُولِهِ (2) وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (3) فَالْحَدَثُ الآْخَرُ وَخُرُوجُ الْوَقْتِ أَوْ دُخُولُهُ يُبْطِلاَنِ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ.
__________
(1) الاختيار 1 / 29، 30، الخرشي 1 / 152.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 216، والمغني 1 / 341.
(3) الاختيار 1 / 29.(30/22)
طُرُوءُ الْعُذْرِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ:
10 - إِذَا تَحَقَّقَ فِي الْمُكَلَّفِ وُجُودُ الْعُذْرِ قَبْل الصَّلاَةِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، وَيَبْقَى طَاهِرًا فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، فَيُصَلِّي وَإِنِ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ مَعَهُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، فَلاَ تَبْطُل عِبَادَتُهُ؛ لِضَرُورَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُعَدُّ مِنَ الْحَدَثِ الْمُبْتَلَى بِهِ.
أَمَّا إِذَا دَخَل الصَّلاَةَ صَحِيحًا سَلِيمًا، ثُمَّ دَهَمَهُ الْعُذْرُ فِي أَثْنَائِهَا وَتَأَكَّدَ لَدَيْهِ اسْتِمْرَارُهُ، فَهَل يُنْقَضُ وُضُوءُهُ وَتَبْطُل صَلاَتُهُ أَمْ لاَ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
11 - أَوَّلاً: إِذَا خَرَجَ مَا يُعْذَرُ بِهِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، كَانَ الْخُرُوجُ حَدَثًا يُبْطِل الْوُضُوءَ كَمَا يُبْطِل الصَّلاَةَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) الَّذِينَ قَالُوا: بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعُذْرُ مُعْتَادًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ، وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ (2) ، وَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ
__________
(1) البناية 1 / 672، ونهاية المحتاج 1 / 318، والمغني لابن قدامة 1 / 340.
(2) حديث: " توضئ لكل صلاة وصلي وإن قطر الدم. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 204) ، والدارقطني (1 / 212 - 213) وذكر الدارقطني تضعيف أحد رواته، وانظر البناية 1 / 662.(30/23)
أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي (1) ، أَمْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ، لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْمَذْيِ: يَغْسِل ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ (2) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: فِي الْوَدْيِ الْوُضُوءُ (3) وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ غَيْرُ مُعْتَادَيْنِ، وَقَدْ وَجَبَ فِيهِمَا الْوُضُوءُ؛ وَلأَِنَّهُمَا خَارِجَانِ مِنَ السَّبِيل فَيَنْقُضَانِ كَالرِّيحِ وَالْغَائِطِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا يُبْطِل الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَسَلَسِ الْبَوْل، وَلاَزَمَهُ نِصْفَ الزَّمَانِ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَلاَ يُبْطِل صَلاَتَهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَقَل فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَيُبْطِل الصَّلاَةَ (4) .
12 - ثَانِيًا: إِذَا كَانَ مَا يُعْذَرُ بِهِ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ وَالرُّعَافِ، فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ قَلِيلاً
__________
(1) حديث: " اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 411) من حديث عائشة وانظر: المغني لابن قدامة 1 / 340.
(2) حديث علي " يغسل ذكره ويتوضأ " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 379) ، ومسلم (1 / 247) .
(3) البناية 1 / 196 وأثر ابن عباس " في الودي الوضوء ". أخرجه البيهقي (1 / 169، 170) ، وابن أبي شيبة في المصنف (1 / 92) بلفظ " وأما المذي والودي ففيهما الوضوء ".
(4) الشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 136 - 137.(30/23)
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. أَمَّا إِنْ كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رُعَاف ف 2) .
النَّوْعُ الثَّانِي: أَعْذَارٌ طَارِئَةٌ:
13 - هُنَاكَ أَعْذَارٌ تَرْفَعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الضِّيقَ فِي عِبَادَاتِهِ وَتَكَالِيفِهِ فِي أَحْوَالِهِ كَافَّةً، مِنْهَا: مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَالْمَرَضِ مَثَلاً، وَمِنْهَا: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالْخَوْفِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ شِدَّةُ الْوَحَل عُذْرًا لِتَرْكِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ شِدَّةُ الرِّيحِ بِاللَّيْل لاَ بِالنَّهَارِ، كَمَا يَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى مَالٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ نَارٍ، أَوِ الْخَوْفُ عَلَى الْعِرْضِ، أَوِ الدِّينِ، كَأَنْ يَخَافَ قَذْفَ أَحَدٍ مِنَ السُّفَهَاءِ لَهُ، أَوْ إِلْزَامَ قَتْل شَخْصٍ أَوْ ضَرْبِهِ ظُلْمًا، أَوْ إِلْزَامَ بَيْعَةِ ظَالِمٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ الشَّدِيدَيْنِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ،
__________
(1) البناية في شرح الهداية 1 / 247، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 139 - 140، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل 1 / 291، 292.
(2) الشرح الصغير على أقرب المسالك 1 / 515 - 516.(30/24)
وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ: الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ الْخَائِفُ مِنْ ضَيَاعِ مَالِهِ، كَغَلَّةٍ فِي بَيَادِرِهَا، وَدَوَابَّ أَنْعَامٍ لاَ حَافِظَ لَهَا، أَوْ تَلَفِهِ أَوْ فَوَاتِهِ، كَمَنْ ضَاعَ لَهُ كِيسُ نُقُودٍ وَهُوَ يَرْجُو وُجُودَهُ، أَوْ خَائِفٌ مِنْ ضَرَرٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي مَعِيشَةٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَأَذٍّ بِمَطَرٍ شَدِيدٍ أَوْ وَحَلٍ أَوْ ثَلْجٍ، أَوْ جَلِيدٍ، أَوْ رِيحٍ بَارِدَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ، أَوْ ذَاتَ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ (2) .
وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَضِيعُوا (3) وَكَذَلِكَ يُعْذَرُ عِنْدَهُمْ عَنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً خَشْيَةَ الأَْذَى بِوَحَلٍ أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ فِي الصَّلاَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِمَطَرٍ يَبُل الثِّيَابَ (4)
__________
(1) الأم للشافعي 1 / 138.
(2) المغني 1 / 631 - 632، وكشاف القناع 1 / 495 - 497، وحديث: ابن عمرن " كأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 156 - 157) ، ومسلم (1 / 484) ، واللفظ لمسلم.
(3) المغني 1 / 633.
(4) الروض المربع 1 / 79، 81، والمغني لابن قدامة 2 / 274.(30/24)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ عُذْرًا يُبِيحُ لِلْمُكَلَّفِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلاَ عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَعْذَارٌ عَامَّةٌ تَتَّصِل بِأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ:
14 - لَقَدْ بَنَى الإِْسْلاَمُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، فَشَرَعَ أَلْوَانًا مِنَ الرُّخَصِ لِظُرُوفٍ تُوجِدُ لِلْمُكَلَّفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ تُثْقِل كَاهِلَهُ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ. . وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الرُّخَصِ:
أ - السَّفَرُ:
وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَفَر ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا يَلِي:
قَصْرُ الصَّلاَةِ وَجَمْعُهَا:
15 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
جَوَازُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِشُرُوطِهِ مِنَ(30/25)
الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم) .
امْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّفَرَ يُطِيل مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
سُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ السَّفَرُ بِشُرُوطِهِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَنِ الْمُسَافِرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
سُقُوطُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ، وَيَسْقُطُ هَذَا فِي السَّفَرِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
ب - الْمَرَضُ:
وَمِنَ الرُّخَصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَرَضِ مَا يَأْتِي:(30/25)
التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ شَرْعًا:
20 - إِذَا خَافَ الْمَرِيضُ مِنَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ، أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرَ الْبُرْءِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم ف 21) .
الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
21 - إِذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ بِأَرْكَانِهَا أَوْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِذَلِكَ صَلَّى عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: صَلاَةُ الْمَرِيضِ.
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ لِلْمَرِيضِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ ف 9) .
التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ تَخَلُّفِ الْمَرِيضِ عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ لِلْعَجْزِ أَوِ الْمَشَقَّةِ عَلَى
تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ(30/26)
فِي رَمَضَانَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم) .
خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
25 - يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْمَرَضِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اعْتِكَافٌ ف 36 وَمَا بَعْدَهَا) .
الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَفِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ:
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِْنَابَةِ فِي الْحَجِّ، وَفِي رَمْيِ الْجِمَارِ لِغَيْرِ الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 66، 115) .
اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ مَعَ الْفِدْيَةِ:
27 - حَظَرَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمُحْرِمِ تَذْكِيرًا لَهُ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ نُسُكٍ، لَكِنَّ الشَّارِعَ رَاعَى الأَْعْذَارَ الَّتِي قَدْ تَقُومُ بِالْمُحْرِمِ، فَأَبَاحَ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ، وَشَرَعَ الْفِدْيَةَ جَبْرًا لِمَا قَدْ يَكُونُ فِي إِحْرَامِ الْمُحْرِمِ مِنْ مُخَالَفَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 54 وَمَا بَعْدَهَا) .
التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى(30/26)
عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (1) لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَبَاحُوا التَّدَاوِيَ بِهِمَا لِعُذْرٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاوِي ف 8 وَ 9) .
إِبَاحَةُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ وَلَمْسِهَا:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الأَْجْنَبِيِّ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَلَمْسِهَا مِنَ الذَّكَرِ، أَوِ الأُْنْثَى، لَكِنَّهُمْ أَبَاحُوا ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوِ الضَّرُورَةِ كَالْمَرَضِ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطْبِيب ف 4، وَعَوْرَة) .
ج - الإِْكْرَاهُ: -
30 - الإِْكْرَاهُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ مَعَهُ بَعْضُ الأَْحْكَامِ هُوَ: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ (2) ، وَلِلإِْكْرَاهِ تَقْسِيمَاتٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ رَاعَاهَا الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ وَمِنْهَا: تَقْسِيمُ الإِْكْرَاهِ إِلَى إِكْرَاهٍ بِحَقٍّ، وَهُوَ: الإِْكْرَاهُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي لاَ ظُلْمَ فِيهِ وَلاَ إِثْمَ، وَإِكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ
__________
(1) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البيهقي (10 / 5) عن حديث أم سلمة ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 86) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2) كشف الأسرار 4 / 1502.(30/27)
وَهُوَ: الإِْكْرَاهُ ظُلْمًا أَوِ الإِْكْرَاهُ الْمُحَرَّمُ لِتَحْرِيمِ وَسِيلَتِهِ أَوْ لِتَحْرِيمِ الْمَطْلُوبِ بِهِ.
وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْكْرَاهَ إِلَى: إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ: وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ، بِإِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْهَا، أَوْ بِإِتْلاَفِ جَمِيعِ الْمَال، أَوِ التَّهْدِيدِ بِهَتْكِ الْعِرْضِ، أَوْ بِقَتْل مَنْ يَهُمُّ الإِْنْسَانَ أَمْرُهُ، وَإِكْرَاهٍ غَيْرِ مُلْجِئٍ وَهُوَ: الَّذِي يَكُونُ بِمَا لاَ يُفَوِّتُ النَّفْسَ أَوْ بَعْضَ الأَْعْضَاءِ، كَالْحَبْسِ لِمُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَالضَّرْبِ الَّذِي لاَ يُخْشَى مِنْهُ الْقَتْل أَوْ إِتْلاَفُ بَعْضِ الأَْعْضَاءِ.
وَالإِْكْرَاهُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ مُفْسِدٌ لِلرِّضَا فِي الْجُمْلَةِ، وَبَعْضُهُ مُفْسِدٌ لِلاِخْتِيَارِ، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ، وَفِي أَحْكَامِ الإِْكْرَاهِ بِأَقْسَامِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِي آثَارِ كُل قِسْمٍ عَلَى الاِخْتِيَارِ وَالرِّضَا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه، ف 16 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - الْجَهْل وَالنِّسْيَانُ:
31 - الْجَهْل هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ (1) ، وَالنِّسْيَانُ مِنْ مَعَانِيهِ: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ (2) ، وَالْجَهْل وَالنِّسْيَانُ يُعْتَبَرَانِ عُذْرَيْنِ مُسْقِطَيْنِ لِلإِْثْمِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَهْل ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِسْيَان) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) المصباح المنير.(30/27)
هـ - الْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ وَالنَّوْمُ:
32 - الْجُنُونُ هُوَ: اخْتِلاَل الْعَقْل يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِ الْعَقْل إِلاَّ نَادِرًا (1)
وَالإِْغْمَاءُ هُوَ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْل مَغْلُوبًا (2) ، وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ عُرِّفَ بِأَنَّهُ: فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْل يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالأَْفْعَال الاِخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَال الْعَقْل (3) .
33 - وَالْجُنُونُ: عُذْرٌ وَعَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ، وَهُوَ يُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا؛ لأَِنَّ أَسَاسَهَا الْعَقْل وَالتَّمْيِيزُ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْل وَالتَّمْيِيزِ وَلاَ يُؤَثِّرُ الْجُنُونُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ أَسَاسَهَا الإِْنْسَانِيَّةُ، أَمَّا أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْجِنَايَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُون ف 9 وَمَا بَعْدَهَا وَأَهْلِيَّة ف 27) .
34 - وَكُلٌّ مِنَ الإِْغْمَاءِ وَالنَّوْمِ عُذْرٌ، وَهُمَا لاَ يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ؛ لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِمَا بِالذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا يُوجِبَانِ تَأْخِيرَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالأَْدَاءِ إِلَى حَال الْيَقَظَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء ف 5 وَمَا بَعْدَهَا، وَأَهْلِيَّة ف 30 - 31 وَنَوْم)
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) المصباح المنير، التقرير والتحبير 2 / 179.
(3) المصباح المنير، التقرير والتجبير 2 / 177.(30/28)
وَالاِضْطِرَارُ:
35 - الاِضْطِرَارُ: ظَرْفٌ قَاهِرٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا يَجُوزُ بِسَبَبِهِ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ شَرْعًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى إِحْدَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ وَهِيَ: النَّفْسُ، وَالْمَال وَالْعِرْضُ، وَالْعَقْل، وَالدِّينُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَفِي هَذَا الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَة) .
ز - الْحَاجَةُ:
36 - الْحَاجَةُ هِيَ: الَّتِي لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِيَانَةُ الأُْصُول الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلاَ حِمَايَتُهَا، وَلَكِنْ تَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا مَعَ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، فَهِيَ إِذَنْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَةِ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهَا عُسْرٌ وَصُعُوبَةٌ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَاجَة ف 2) .
ح - الصِّغَرُ:
37 - الصِّغَرُ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ؛ لِمَا فِي الصَّغِيرِ مِنَ النَّقْصِ فِي الْعَقْل وَالْقُدْرَةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَالصَّبِيُّ قَبْل أَنْ يُمَيِّزَ كَالْمَجْنُونِ، أَمَّا بَعْدَ التَّمْيِيزِ فَيَحْدُثُ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ (2) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 10 تعليق عبد الله محمد دراز.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 335، 336.(30/28)
أَعْذَارٌ لَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ:
أ - الإِْعْسَارُ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ:
38 - إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ لإِِعْسَارِهِ، وَطَلَبَتِ التَّفْرِيقَ بِنَاءً عَلَى عَجْزِهِ عَمَّا وَجَبَ لَهَا وَلَوْ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، فَهَل يُعْتَبَرُ الإِْعْسَارُ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ عُذْرًا لِعَدَمِ تَلْبِيَةِ طَلَبِهَا؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لإِِعْسَارِ الزَّوْجِ وَعَجْزِهِ عَنِ النَّفَقَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْعْسَارَ بِالدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ لَيْسَ عُذْرًا، فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعُسْرَ عَرَضٌ لاَ يَدُومُ، وَالْمَال غَادٍ وَرَائِحٌ؛ وَلأَِنَّ التَّفْرِيقَ ضَرَرٌ بِالزَّوْجِ لاَ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، أَمَّا عَدَمُ الإِْنْفَاقِ فَهُوَ ضَرَرٌ بِالزَّوْجَةِ يُمْكِنُ عِلاَجُهُ بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَيُرْتَكَبُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ (2) .
__________
(1) الدردير على الدسوقي 2 / 518، والمهذب 2 / 163، والمغني 7 / 564 وما بعدها.
(2) تبيين الحقائق 3 / 54، وفتح القدير3 / 329، ومغني المحتاج 3 / 442، وزاد المعاد 4 / 154.(30/29)
ب - الْعُذْرُ فِي تَأْخِيرِ رَدِّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رَدَّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا (1) ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَتَى عَلِمَ الْعَيْبَ فَأَخَّرَ الرَّدَّ لَمْ يَبْطُل خِيَارُهُ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا (2) ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَسَكَتَ لِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ مَهْمَا سَكَتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالرَّدِّ، فَهُوَ مَعْذُورٌ مَهْمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ فَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، وَمِنَ الْعُذْرِ عِنْدَهُمْ: انْشِغَالُهُ بِصَلاَةٍ دَخَل وَقْتُهَا، أَوْ بِأَكْلٍ وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا لَوْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ ثُمَّ تَرَاخَى لِمَرَضٍ أَوْ خَوْفِ لِصٍّ، أَوْ حَيَوَانٍ مُفْتَرِسٍ، أَوْ نَحْوِهِ فَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ، إِذِ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ، وَالْجَوَازُ عَارِضٌ؛ وَلأَِنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 93، والمغني 4 / 144، ومغني المحتاج 2 / 56.
(2) رد المحتار 4 / 93، والمغني في الشرح الكبير 4 / 95.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 121.(30/29)
الْمَال، فَكَانَ فَوْرِيًّا كَالشُّفْعَةِ، فَيَبْطُل الرَّدُّ بِالتَّأْخِيرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ (1) ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ عَلَى الْفَسْخِ إِنْ أَمْكَنَهُ وَلَوْ فِي حَال عُذْرِهِ؛ لأَِنَّ التَّرْكَ يَحْتَمِل الإِْعْرَاضَ، وَأَصْل الْبَيْعِ اللُّزُومُ، فَتَعَيَّنَ الإِْشْهَادُ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ.
ج - الْعُذْرُ فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ:
40 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ يُعَدُّ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ (2) ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي صُوَرِ هَذَا الْعُذْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ يُعِدُّونَ التَّأْخِيرَ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ جَائِزًا لِلأَْعْذَارِ الآْتِيَةِ:
السَّفَرِ، كَأَنْ سَمِعَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ يَطْلُبُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يُشْهِدُ إِنْ قَدَرَ وَإِلاَّ وَكَّل، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الْبَائِعِ عَلَى أَسَاسِ أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ فَوْرِيٌّ عِنْدَهُمْ.
وَمِنَ الأَْعْذَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَعَسُّرُ الْوُصُول
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 56.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص280، وبدائع الصنائع 5 / 17، وحاشية الدسوقي 3 / 488، ومغني المحتاج 2 / 307 والمغني مع الشرح الكبير5 / 477.(30/30)
إِلَى الْقَاضِي فَهُوَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الشَّفِيعِ الْجَارِ، وَالصَّلاَةُ الْمَفْرُوضَةُ فَهِيَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُعِدُّونَ عَدَمَ طَلَبِ الْمُشْتَرِي مِنَ الشَّفِيعِ تَقْدِيمَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَوْ إِسْقَاطَهَا، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ، عُذْرًا فَيَقُولُونَ: عِنْدَ الشِّرَاءِ يَطْلُبُ الْمُشْتَرِي مِنَ الشَّفِيعِ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ إِسْقَاطَهَا، فَإِذَا رَفَضَ إِصْدَارَ أَحَدِهِمَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِإِسْقَاطِهَا، وَلاَ عُذْرَ لَهُ بِتَأْخِيرِ اخْتِيَارِ أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ، إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَطَّلِعُ بِهِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ كَسَاعَةٍ مَثَلاً، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ الْمُشْتَرِي الطَّلَبَ أَوِ الإِْسْقَاطَ - وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ - يَكُونُ عُذْرًا لِلشَّفِيعِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الأَْظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَلْيُبَادِرْ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا عَنْ بَلَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّل إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا بَطَل حَقُّهُ فِي الأَْظْهَرِ (3)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص280، وبدائع الصنائع 5 / 17.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 488.
(3) مغني المحتاج 2 / 307.(30/30)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَةٌ ف 31) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ: يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُؤَخِّرَ طَلَبَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا لِعُذْرٍ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَعْلَمَ لَيْلاً فَيُؤَخِّرَهُ إِلَى الصُّبْحِ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُل أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلاَقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَمَّامِ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلاَةِ وَسُنَّتِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا. .؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ عَلَى غَيْرِهَا، فَلاَ يَكُونُ الاِشْتِغَال بِهَا رِضًى بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ (1) .
د - أَثَرُ الْعُذْرِ فِي الْعُقُودِ
41 - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) لَكِنْ قَدْ تَطْرَأُ أَعْذَارٌ لاَ يُمْكِنُ مَعَهَا الْوَفَاءُ بِهَا، أَوْ يَتَعَسَّرُ مَعَهَا ذَلِكَ، وَعِنْدَئِذٍ يَنْحَل الإِْلْزَامُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: كُل عُذْرٍ لاَ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْفَسْخِ (3) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير 5 / 479.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) رد المحتار 5 / 55.(30/31)
هـ - الْعُذْرُ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ:
42 - الْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَفِيرٌ عَامٌّ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، فَالْجِهَادُ يُصْبِحُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُل قَادِرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَلَكِنْ مَنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ فَلاَ يُطَالَبُ بِالْجِهَادِ؛ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِلَى أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ فَقَال: {لَيْسَ عَلَى الأَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (2) . وَالآْيَةُ نَزَلَتْ فِي هَؤُلاَءِ حِينَ هَمُّوا بِالْخُرُوجِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَقَال سُبْحَانَهُ أَيْضًا: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) فَظَاهِرُ الآْيَتَيْنِ يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ فِي كُل مَا يَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ الْعُذْرُ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِهَاد) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 98، وفتح القدير 3 / 241.
(2) سورة الفتح / 17.
(3) سورة التوبة / 91.
(4) بدائع الصنائع 7 / 97 - 98، وتبيين الحقائق 3 / 241، وفتح القدير 4 / 278 وبداية المجتهد 1 / 380، والجامع لأحكام القرآن 6 / 4705.(30/31)
عَذْرَاءُ
انْظُرْ: بَكَارَةٌ
عَذِرَة
انْظُرْ: نَجَاسَة
عُذْرَةٌ
انْظُرْ بَكَارَةٌ
عَذِيرَة
انْظُرْ: إِعْذَارٌ، وَدَعْوَةٌ(30/32)
عِرَافَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِرَافَةُ بِالْكَسْرِ تَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى عَمَل الْعَرَّافِ، وَهُوَ مُثَقَّلٌ بِمَعْنَى الْمُنَجِّمِ وَالْكَاهِنِ، وَقِيل: الْعَرَّافُ: يُخْبِرُ عَنِ الْمَاضِي، وَالْكَاهِنُ: يُخْبِرُ عَنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَل.
الْمَعْنَى الثَّانِي: الْعِرَافَةُ: مَصْدَرُ عَرَفْتُ عَلَى الْقَوْمِ أَعْرُفُ فَأَنَا عَارِفٌ، أَيْ: مُدَبِّرٌ أَمْرَهُمْ وَقَائِمٌ بِسِيَاسَتِهِمْ، وَعُرِفْتُ عَلَيْهِمْ بِالضَّمِّ لُغَةٌ، فَأَنَا عَرِيفٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل نَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْبَغَوِيِّ: أَنَّ الْعَرَّافَ: هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُْمُورِ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ يُسْتَدَل بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا، كَالْمَسْرُوقِ مَنِ الَّذِي سَرَقَهُ، وَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّنْجِيمُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّنْجِيمِ فِي اللُّغَةِ: النَّظَرُ إِلَى
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الزواجر 2 / 91، وأسنى المطالب 4 / 82.(30/32)
النُّجُومِ (1) ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السَّلَفِيَّةِ (2) .
ب - الْكِهَانَةُ:
3 - الْكِهَانَةُ: هِيَ تَعَاطِي الْخَبَرِ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الأَْسْرَارِ (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ: أَنَّ الْكَاهِنَ مَنْ يُخْبِرُ بِوَاسِطَةِ النَّجْمِ عَنِ الْمَغِيبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَل، بِخِلاَفِ الْعَرَّافِ فَإِنَّهُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْمَغِيبَاتِ الْوَاقِعَةِ (4) أَيْ: فِي الْمَاضِي.
وَقِيل: الْكَاهِنُ أَعَمُّ مِنَ الْعَرَّافِ؛ لأَِنَّ الْعَرَّافَ يُخْبِرُ عَنِ الْمَاضِي، وَالْكَاهِنُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَل (5)
ج - السِّحْرُ:
4 - السِّحْرُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْخُدْعَةِ، يُقَال: سَحَرَهُ أَيْ: خَدَعَهُ، قَال تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} (6) أَيِ: الْمَخْدُوعِينَ.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30، 31
(3) ابن عابدين 1 / 31، التعريفات للجرجاني.
(4) شرح روض الطالب 4 / 82.
(5) المصباح المنير.
(6) سورة الشعراء / 153.(30/33)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَهُ تَعْرِيفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا مَا أَوْرَدَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِقَوْلِهِ: السِّحْرُ شَرْعًا: مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ لأَِقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ (1) . وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُول مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ لأَِسْبَابٍ خَفِيَّةٍ (2) . الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْعِرَافَةُ حَرَامٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: الأَْصْل فِيهِ اسْتِرَاقُ الْجِنِّ السَّمْعَ مِنْ كَلاَمِ الْمَلاَئِكَةِ، فَيُلْقِيهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ، وَالْكَاهِنُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْعَرَّافِ (4) . وَقَال النَّوَوِيُّ أَيْضًا: الْعَرَّافُ مِنْ جُمْلَةِ الْكُهَّانِ (5) وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُل مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا (6) وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) حاشية القليوبي 4 / 169.
(2) ابن عابدين 1 / 31.
(3) حديث: أبي هريرة " من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه ". أخرجه أحمد (2 / 429) ، والحاكم (1 / 8) وصححه الحاكم.
(4) فتح الباري شرح البخاري (10 / 216) .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (15 / 227) .
(6) ابن عابدين 1 / 31.(30/33)
مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: عَدَمُ قَبُول صَلاَتِهِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لاَ ثَوَابَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ (2) .
6 - وَاخْتِلاَفُ الْوَعِيدَيْنِ: الْكُفْرِ وَعَدَمِ قَبُول الصَّلاَةِ، بِاخْتِلاَفٍ حَالَيْ مَنْ أَتَى الْكَاهِنَ أَوِ الْعَرَّافَ، فَمَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا وَصَدَّقَهُمَا فِي قَوْلِهِمَا يَكْفُرُ، لإِِشْرَاكِهِ الْغَيْرَ مَعَ اللَّهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ اللَّهُ، وَمَنْ أَتَاهُمَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَال وَلَمْ يُصَدِّقْهُمَا لَمْ يَكْفُرْ، بَل يُحْرَمُ مِنْ ثَوَابِ صَلاَتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا زَجْرًا (3) .
وَهَذَا مَا يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ لَمْ تُقْبَل صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (4) . وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ) .
__________
(1) حديث: " من أتى عرافًا فسأله عن شيء ". أخرجه مسلم (4 / 1751) .
(2) شرح صحيح مسلم (15 / 227) .
(3) فتح الباري 10 / 17.
(4) حديث أنس: " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد برئ. . . ". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 118) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه رشدين بن سعد وهو ضعيف، وفيه توثيق في أحاديث الرقاق، وبقية رجاله ثقات.(30/34)
أَمَّا الْعِرَافَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَلَمْ نَجِدْ لَهَا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ وَتُؤْخَذُ أَحْكَامُهَا مِنْ مُصْطَلَحِ: (إِمَارَة) .
عُرَاة
انْظُرْ: عَوْرَة
عَرَايَا
انْظُرْ: بَيْعُ الْعَرَايَا
عُرْبُون
انْظُرْ: بَيْعَ الْعُرْبُونِ.(30/34)
عَرَبِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: عَرُبَ لِسَانُهُ عُرُوبَةً: إِذَا كَانَ عَرَبِيًّا فَصِيحًا، وَرَجُلٌ عَرَبِيٌّ: ثَابِتُ النَّسَبِ فِي الْعَرَبِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَرَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ: إِذَا كَانَ بَدَوِيًّا صَاحِبَ نُجْعَةٍ وَارْتِيَادٍ لِلْكَلأَِ وَتَتَبُّعِ مَسَاقِطِ الْغَيْثِ، وَأَعْرَبَ: إِذَا كَانَ فَصِيحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ، وَعَرَّبَ مَنْطِقَهُ أَيْ: هَذَّبَهُ مِنَ اللَّحْنِ، وَعَرَّبَهُ: عَلَّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ.
وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ: مَا نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ، قَال قَتَادَةَ: كَانَتْ قُرَيْشُ تَخْتَارُ أَفْضَل لُغَاتِ الْعَرَبِ حَتَّى صَارَ أَفْضَل لُغَاتِهَا لُغَتَهَا فَنَزَل الْقُرْآنُ بِهَا.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَجَعَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْقُرْآنَ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبِيًّا؛ لأَِنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ أُنْزِل بِلِسَانِهِمْ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 5 / 269.(30/35)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - عُجْمِيَّةٌ
2 - فِي اللُّغَةِ: الْعُجْمُ وَالْعَجَمُ خِلاَفُ الْعَرَبِ وَالْعَرَبُ، يُقَال: عَجَمِيٌّ وَجَمْعُهُ عَجَمٌ وَالْعُجْمُ: جَمْعُ الأَْعْجَمِ الَّذِي لاَ يُفْصِحُ، وَالْعَجَمِيُّ: الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْعَجَمِ أَفْصَحَ أَوْ لَمْ يُفْصِحْ.
وَرَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ وَأَعْجَمُ: إِذَا كَانَ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ أَفْصَحَ بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَيُقَال: لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ إِذَا كَانَ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ (1) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعُجْمَةُ وَالْعَجَمِيَّةُ خِلاَفُ الْعَرَبِيَّةِ.
ب - لُغَةٌ:
3 - اللُّغَةُ: اللَّسْنُ وَهِيَ أَصْوَاتٌ يُعَبِّرُ بِهَا كُل قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ، وَالْجَمْعُ لُغَاتٌ وَلُغُونٌ، وَفِي التَّهْذِيبِ: لَغَا فُلاَنٌ عَنِ الصَّوَابِ وَعَنِ الطَّرِيقِ: إِذَا مَال عَنْهُ، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: وَاللُّغَةُ أُخِذَتْ مِنْ هَذَا؛ لأَِنَّ هَؤُلاَءِ تَكَلَّمُوا بِكَلاَمٍ مَالُوا فِيهِ عَنْ لُغَةِ هَؤُلاَءِ الآْخَرِينَ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَاللُّغَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرَهَا
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وقواعد الأحكام 2 / 102.
(2) لسان العرب.(30/35)
فَضْل اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
4 - لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الأَْلْسُنِ؛ لأَِنَّهَا لِسَانُ أَهْل الْجَنَّةِ، وَيُثَابُ الإِْنْسَانُ عَلَى تَعَلُّمِهَا وَعَلَى تَعْلِيمِهَا غَيْرَهُ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاَثٍ: لأَِنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَلِسَانُ أَهْل الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَلاَمُ أَهْل الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - قَال الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ، قَال فِي الْقَوَاطِعِ: مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي إِشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الأُْمَّةِ فَفَرْضٌ فِيمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الصَّلاَةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالأَْذْكَارِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ (3) .
__________
(1) الدر المختار 5 / 269.
(2) حديث: " أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي. . . ". أخرجه الحاكم (4 / 87) من حديث ابن عباس، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 52) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط. . وفيه العلاء بن عمرو الحنفي وهو مجمع على ضعفه.
(3) البحر المحيط (6 / 202) ، وإرشاد الفحول ص252.(30/36)
مَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِ.
6 - جَاءَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لُغَةً وَنَحْوًا وَصَرْفًا، فَلْيَعْرِفِ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فِي الاِسْتِعْمَال، إِلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ صَرِيحَ الْكَلاَمِ وَظَاهِرَهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَعَامَّهُ وَخَاصَّهُ، وَحَقِيقَتَهُ وَمَجَازَهُ.
قَال أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَكْفِيهِ مِنَ اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِفَ غَالِبَ الْمُسْتَعْمَل وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ، وَمِنَ النَّحْوِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّمْيِيزُ فِي ظَاهِرِ الْكَلاَمِ كَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ (1) .
وَفِي إِرْشَادِ الْفُحُول: يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَفْسِيرُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنَ الْغَرِيبِ وَنَحْوِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَل الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ الأَْئِمَّةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ (2) .
الاِحْتِجَاجُ بِالْعَرَبِيَّةِ:
7 - قَال ابْنُ فَارِسٍ: لُغَةُ الْعَرَبِ يُحْتَجُّ بِهَا فِيمَا
__________
(1) البحر المحيط 6 / 202.
(2) إرشاد الفحول ص251 - 252.(30/36)
اخْتُلِفَ فِيهِ إِذَا كَانَ التَّنَازُعُ فِي اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ مِنْ سُنَنِهَا فِي حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا مَا سَبِيلُهُ الاِسْتِنْبَاطُ، وَمَا فِيهِ لِدَلاَئِل الْعَقْل مَجَالٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي الْقُرْءِ، وَالْعَوْدِ فِي الظِّهَارِ، وَنَحْوِهِ، فَمِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلاِحْتِجَاجِ فِيهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا يُوَكَّل إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قَال: وَيَقَعُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لُغَتَانِ كَالصِّرَامِ، وَثَلاَثٌ كَالزُّجَاجِ، وَأَرْبَعٌ كَالصَّدَاقِ، وَخَمْسٌ كَالشِّمَال، وَسِتٌّ كَالْقِسْطَاسِ وَلاَ يَكُونُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (1) .
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَرَبِيَّةُ وَمَا لاَ يُشْتَرَطُ.
8 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - الْعَرَبِيَّةَ فِي مَسَائِل مِنْهَا: - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالأَْذْكَارُ فِي الصَّلاَةِ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلاَةِ وَالأَْذَانِ، وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْجَمَة ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
عَرَج
انْظُرْ: أَعْرَج
__________
(1) البحر المحيط 2 / 24.(30/37)
عُرْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُرْسُ فِي اللُّغَةِ: مِهْنَةُ الإِْمْلاَكِ وَالْبِنَاءِ، وَقِيل: اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ خَاصَّةً، وَالْعَرُوسُ: وَصْفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى مَا دَامَا فِي إِعْرَاسِهِمَا، وَأَعْرَسَ الرَّجُل بِامْرَأَتِهِ: إِذَا دَخَل بِهَا، وَالْعِرْسُ بِالْكَسْرِ: امْرَأَةُ الرَّجُل، وَالْجَمْعُ أَعْرَاسٌ، وَالْعُرْسُ بِالضَّمِّ: الزِّفَافُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الزِّفَافُ:
2 - الزِّفَافُ لُغَةً: إِهْدَاءُ الزَّوْجَةِ إِلَى زَوْجِهَا، يُقَال: زَفَّ النِّسَاءُ الْعَرُوسَ إِلَى زَوْجِهَا، وَالاِسْمُ الزِّفَافُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالْعُرْسُ أَعَمُّ مِنَ الزِّفَافِ.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي والمغرب.
(3) المصادر السابقة، وحاشية ابن عابدين 2 / 262.(30/37)
تَخَلُّفُ الْعَرُوسُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَجُوزُ لِلْعَرُوسِ التَّخَلُّفُ عَنِ الْخُرُوجِ لِحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ وَسَائِرِ أَعْمَال الْبِرِّ، كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ مُدَّةَ الزِّفَافِ بِسَبَبِ الْعُرْسِ، وَلاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي مَنْعِهِ مِنْ شُهُودِ ذَلِكَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِلاَّ لَيْلاً فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّخَلُّفُ تَقْدِيمًا لِلْوَاجِبِ عَلَى السُّنَّةِ، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ: يَجُوزُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنْ حُضُورِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِسَبَبِ الْعُرْسِ، لِلاِشْتِغَال بِزَوْجَتِهِ وَتَأْنِيسِهَا وَاسْتِمَالَةِ قَلْبِهَا (1) .
وَلِيمَةُ الْعُرْسِ:
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ مَشْرُوعَةٌ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا وَأَمَرَ بِهَا، قَال أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثًا يَبْنِي عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 100، القوانين الفقهية ص 79، مواهب الجليل 2 / 184، مغني المحتاج 3 / 257، 3 / 257، الإنصاف 2 / 303، كشاف القناع 1 / 497.(30/38)
كَانَ فِيهَا خُبْزٌ وَلاَ لَحْمٌ، أَمَرَ بِالأَْنْطَاعِ فَأَلْقَى فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأَْقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ (1) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَال لَهُ: تَزَوَّجْتُ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (2) وَوَلِيمَةُ الْعُرْسِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا طَعَامٌ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الأَْطْعِمَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَيْنًا، لِظَاهِرِ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّ الإِْجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً.
أَمَّا إِجَابَةُ الْوَلِيمَةِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَيْنًا عَلَى كُل مَنْ يُدْعَى إِلَيْهَا (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا (4) وَفِي لَفْظٍ: أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَيْهَا (5) وَلِحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ
__________
(1) حديث أنس: " أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 126) ، ومسلم (2 / 1044) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أولم ولو بشاة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 221) من حديث أنس.
(3) جواهر الإكليل 1 / 325، مغني المحتاج 3 / 244، المغني لابن قدامة 7 / 1، شرح السنة للبغوي 9 / 132، سبل السلام 3 / 325.
(4) حديث: " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 240) من حديث ابن عمر.
(5) حديث: " أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 246) ، ومسلم (2 / 1053) من حديث ابن عمر.(30/38)
عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلِيمَة) .
تَهْنِئَةُ الْعَرُوسِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَهْنِئَةِ الْعَرُوسِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لإِِدْخَال السُّرُورِ عَلَيْهِ عَقِبَ الْعَقْدِ وَالْبِنَاءِ، فَيَقُول لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال: مَا هَذَا؟ فَقَال: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَال: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (2) وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَأَ الإِْنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَال: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ (3) .
قَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا مِنْ ذِكْرِ السَّعَادَةِ، وَمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ
__________
(1) حديث: " من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". أخرجه مسلم (2 / 1055) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " رأى على عبد الرحمن بن عوف أثرة صفرةً. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 221) من حديث أنس - وقد تقدم ف 5.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 598 - 599) والحاكم (2 / 183) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(30/39)
يَقُول: بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَقْوَال الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ (1) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيل بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ جُشَمَ، فَدَخَل عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَالُوا: بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَال: لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكَ. قَالُوا: فَمَا نَقُول يَا أَبَا يَزِيدَ؟ قَال: قُولُوا: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ وَبَارَكَ عَلَيْكُمْ، إِنَّا كَذَلِكَ كُنَّا نُؤْمَرُ. (2)
دُعَاءُ الْعَرُوسِ لِنَفْسِهِ وَلِعَرُوسِهِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَرُوسِ إِذَا زُفَّتْ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ أَوَّل مَرَّةٍ أَنْ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهَا، وَيَدْعُوَ أَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ (3) وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ فِي ذَلِكَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوِ
__________
(1) سبل السلام 3 / 239، جواهر الإكليل 1 / 275، مواهل الجليل 3 / 408، مغني المحتاج 3 / 139، كشاف القناع 5 / 22، المغني لابن قدامة 6 / 539، شرح السنة للبغوي 9 / 132، 135، الأذكار للنووي ص251، 326.
(2) حديث: " أن عقيل بن أبي طالب تزوج امرأة من جشم. . . ". أخرجه أحمد (1 / 201) من طريق الحسن البصري عن عقيل، وقال ابن حجر في فتح الباري (9 / 222) : رجاله ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال.
(3) مواهب الجليل 3 / 408، مغني المحتاج 3 / 139، سبل السلام 3 / 239 المغني لابن قدامة 6 / 539، كشاف القناع 5 / 22، الأذكار للنووي ص251.(30/39)
اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُل الْحَدِيثَ (1) . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَال: " تَزَوَّجْتُ فَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَقَدَّمُوهُ فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَصَل رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خُذْ بِرَأْسِ أَهْلِكَ فَقُل: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لأَِهْلِي فِي، وَارْزُقْهُمْ مِنِّي وَارْزُقْنِي مِنْهُمْ، ثُمَّ شَأْنُكَ وَشَأْنُ أَهْلِكَ.
ضَرْبُ الدُّفُوفِ فِي الْعُرْسِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ إِعْلاَنُ النِّكَاحِ، وَضَرْبُ الدُّفُوفِ فِيهِ حَتَّى يَشْتَهِرَ وَيُعْرَفَ وَيَتَمَيَّزَ عَنِ السِّفَاحِ (2) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ، وَلْيُولِمْ أَحَدُكُمْ وَلَوْ بِشَاةٍ، فَإِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً وَقَدْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فَلْيُعْلِمْهَا، وَلاَ يَغُرَّهَا وَفِي رِوَايَةٍ: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ
__________
(1) حديث: " إذا تزوج أحدكم امرأة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 617) من حديث عبد الله بن عمرو، وقد جود إسناده العراقي في تخريجه لأحاديث علوم الدين (1 / 338 بهامش الإحياء) .
(2) شرح السنة للبغوي 9 / 46، سبل السلام 3 / 248، حاشية ابن عابدين 2 / 261، 5 / 221 - 223، جواهر الإكليل 1 / 326، مواهب الجليل 4 / 6، مغني المحتاج 4 / 429، المغني لابن قدامة 6 / 537، كشاف القناع 5 / 22، 183.(30/40)
وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَال (1) . أَيِ: الدُّفِّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا فَعَلَتْ فُلاَنَةُ؟ لِيَتِيمَةٍ كَانَتْ عِنْدَهَا، فَقُلْتُ: أَهْدَيْنَاهَا إِلَى زَوْجِهَا، قَال: فَهَل بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي؟ قَالَتْ: تَقُول مَاذَا؟ قَال: تَقُول:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ
فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ
لَوْلاَ الذَّهَبُ الأَْحْمَرُ
مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ
لَوْلاَ الْحِنْطَةُ السَّمْرَا
مَا سَمِنَتْ عَذَارِيكُمْ
(2)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتًا أَوْ دُفًّا، قَال: مَا هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: عُرْسٌ أَوْ خِتَانٌ صَمَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمَا عَمِل بِالدِّرَّةِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (غِنَاء، شِعْر، وَلِيمَة) .
قَسْمُ الْعَرُوسِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) حديث: " أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد. . . ". أخرجه الترمذي بعضه (3 / 290) ، وأخرجه البيهقي (7 / 290) ، بتمامه من حديث عائشة. وأعله الترمذي والبيهقي براو ضعيف فيه، وأخرج الرواية الأخرى البيهقي (2 / 290) من طريق آخر، وأعله كذلك براو ضعيف آخر.
(2) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما فعلت فلانة. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 289) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه رواد بن الجراح، وثقه أحمد وابن معين وابن حبان، وفيه ضعف.(30/40)
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ صَاحِبَ النِّسْوَةِ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَدِيدَةً وَأَعْرَسَهَا قَطَعَ الدَّوْرَ، وَأَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَثَلاَثًا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَتَكُونُ السَّبْعُ وَالثَّلاَثُ مُتَتَالِيَاتٍ، وَلاَ يَقْضِيهَا لِزَوْجَاتِهِ الْبَاقِيَاتِ، ثُمَّ يَعُودُ لِلدَّوْرِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ (1) ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ
وَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَافِ، وَإِنَّ الثَّيِّبَ الْعَرُوسَ إِذَا شَاءَتْ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا فَعَل، وَقُضِيَ لِلْبَوَاقِي مِنْ ضَرَّاتِهَا؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا وَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ وَحَاسَبْتُكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلاَثٌ وَفِي لَفْظٍ: إِنْ شِئْتِ أَقَمْتُ مَعَكِ ثَلاَثًا خَالِصَةً لَكِ، وَإِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ ثُمَّ
__________
(1) حديث أنس: " من السنة إذا تزوج الرجل البكر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 314) ، ومسلم (2 / 1084) واللفظ للبخاري.(30/41)
سَبَّعْتُ لِنِسَائِي. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ فَضْل لِلْجَدِيدَةِ فِي الْقَسْمِ عَلَى الْقَدِيمَةِ؛ لإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُل الْمَيْل} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) .
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَنَافِعٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: لِلْبِكْرِ ثَلاَثٌ وَلِلثَّيِّبِ لَيْلَتَانِ (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
__________
(1) حديث أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1083) ، واللفظ الأخير أخرجه الدارقطني (3 / 284) .
(2) سورة النساء / 129.
(3) سورة النساء / 19.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 400، جواهر الإكليل 1 / 327، مواهب الجليل 4 / 9، مغني المحتاج 3 / 256، المغني لابن قدامة 7 / 43، كشاف القناع 5 / 207، سبل السلام 3 / 341، شرح السنة للبغوي 9 / 154.(30/41)
عَرْصَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - عَرْصَةُ الدَّارِ فِي اللُّغَةِ: سَاحَتُهَا، وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْوَاسِعَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ. وَالْجَمْعُ عِرَاصٌ وَعَرَصَاتٌ، وَقِيل: هِيَ كُل مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لاَ بِنَاءَ فِيهِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْعَرْصَةِ بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي اللُّغَةِ:
أ - الْمَعْنَى الأَْخَصُّ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرْصَةَ: اسْمٌ لِسَاحَةِ الدَّارِ وَوَسَطِهَا، وَمَا كَانَ بَيْنَ الدُّورِ مِنْ خَلاَءٍ، فَقَدْ قَال الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ: لاَ شُفْعَةَ فِي عَرْصَةٍ، وَهِيَ سَاحَةُ الدَّارِ الَّتِي بَيْنَ بُيُوتِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْحَوْشِ (2) ، وَفِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: الْعَرْصَةُ اسْمٌ لِلْخَلاَءِ بَيْنَ الدُّورِ (3) .
ب - الْمَعْنَى الأَْعَمُّ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَرْصَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَيْنَ الدُّورِ أَمْ لاَ.
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ قَال: بِعْتُكَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 482.
(3) حاشية القليوبي 3 / 79.(30/42)
هَذِهِ الأَْرْضَ أَوِ السَّاحَةَ أَوِ الْعَرْصَةَ أَوِ الْبُقْعَةَ، وَفِيهَا بِنَاءٌ، يَدْخُل فِي الْبَيْعِ دُونَ الرَّهْنِ قَال الشَّبْرَامُلْسِيُّ: الْفُقَهَاءُ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الْعَرْصَةَ وَالسَّاحَةَ فِي مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ، بَل أَشَارُوا إِلَى أَنَّ الأَْلْفَاظَ الأَْرْبَعَةَ (الأَْرْضَ - السَّاحَةَ - الْعَرْصَةَ - الْبُقْعَةَ) عُرْفًا بِمَعْنًى وَهُوَ: الْقِطْعَةُ مِنَ الأَْرْضِ لاَ بِقَيْدِ كَوْنِهَا بَيْنَ الدُّورِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَرِيمُ:
2 - الْحَرِيمُ لُغَةً: مَا حَرُمَ فَلاَ يُنْتَهَكُ، وَهُوَ أَيْضًا فِنَاءُ الدَّارِ أَوِ الْمَسْجِدِ، وَيَأْتِي كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْحِمَى (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَرِيمُ الشَّيْءِ: مَا حَوْلَهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ، وَإِنْ حَصَل أَصْل الاِنْتِفَاعِ بِدُونِهِ (3) .
ب - الْفِنَاءُ
3 - فِنَاءُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: مَا اتَّصَل بِهِ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِ، وَقَال الْكَفَوِيُّ: فِنَاءُ الدَّارِ هُوَ:
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 115 - 116.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) ابن عابدين 5 / 279، نهاية المحتاج 5 / 334 ط مصطفى الحلبي.(30/42)
مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهَا، أَوْ هُوَ مَا اتَّسَعَ مِنْ أَمَامِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الأَْبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْفِنَاءُ: مَا يَلِي الْجُدْرَانَ مِنَ الشَّارِعِ الْمُتَّسِعِ النَّافِذِ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَرْصَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَرْصَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أ - الْبَيْعُ:
4 - لَوْ قَال شَخْصٌ لِغَيْرِهِ: بِعْتُكَ هَذِهِ الأَْرْضَ أَوِ السَّاحَةَ أَوِ الْعَرْصَةَ أَوِ الْبُقْعَةَ وَفِيهَا بِنَاءٌ وَشَجَرٌ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرٍ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ، فَإِذَا وُجِدَ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ عُمِل بِهِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الشَّجَرَ بِالنَّابِتِ الرَّطْبِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الدُّخُول، لِخُرُوجِهَا عَنْ مُسَمَّى الأَْرْضِ وَلاَ دَلِيل عَلَى تَبَعِيَّتِهَا لَهَا مِنْ عُرْفٍ وَلاَ غَيْرِهِ، فَلاَ وَجْهَ لِلدُّخُول.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 358.
(2) مواهب الجليل 5 / 157 - 158.(30/43)
وَأَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْبَيْعِ كُل مَا يَنْقُل الْمِلْكَ، مِنْ نَحْوِ هِبَةٍ وَوَقْفٍ وَوَصِيَّةٍ وَصَدَقَةٍ (1) .
وَمَنْ بَاعَ دَارًا تَنَاوَل الْبَيْعُ بِنَاءَهَا وَفِنَاءَهَا؛ لأَِنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْبِنَاءِ وَالأَْرْضِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَالأَْصْل أَنَّ الْعَرْصَةَ أَصْلٌ فِي الدَّارِ؛ لأَِنَّ قَرَارَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا دَخَل الْبِنَاءُ وَمَا كَانَ مُتَّصِلاً بِالْبِنَاءِ فِي بَيْعِ الدَّارِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لاِتِّصَال الْبِنَاءِ بِالْعَرْصَةِ اتِّصَال قَرَارٍ، فَيَكُونُ تَبَعًا لَهَا (2) .
ب - الشُّفْعَةُ:
5 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيمَنْ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي الشُّفْعَةِ، وَفِيمَا تَكُونُ فِيهِ الشُّفْعَةُ.
وَمِنْ تَرْتِيبِ الْحَنَفِيَّةِ لِمَرَاتِبِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ يَتَبَيَّنُ اسْتِحْقَاقُ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ التَّابِعَةِ لِمَا هُوَ مَبِيعٌ.
قَال الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: الشُّفْعَةُ تُسْتَحَقُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا بِثَلاَثَةِ مَعَانٍ: بِالشَّرِكَةِ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدُ الْبَيْعِ، أَوْ بِالشَّرِكَةِ فِي حُقُوقِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 35، وفتح القدير5 / 483 - 485، والدسوقي 3 / 170 - 171، والشرح الصغير 2 / 81 - 82 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 4 / 115 - 117، ومغني المحتاج 2 / 80، وكشاف القناع 3 / 274 - 275، ومنتهى الإرادات 2 / 207.
(2) فتح القدير 5 / 483 - 484، والدسوقي 3 / 170 - 171 ومغني المحتاج 2 / 84 والمغني 4 / 88 وكشاف القناع 3 / 274، ومنتهى الإرادات 2 / 206.(30/43)
ذَلِكَ، أَوْ بِالْجِوَارِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: دَارٌ بَيْنَ قَوْمٍ فِيهَا مَنَازِل لَهُمْ فِيهَا شَرِكَةٌ بَيْنَ بَعْضِهِمْ، وَفِيهَا مَا هِيَ مُفْرَدَةٌ لِبَعْضِهِمْ، وَسَاحَةُ الدَّارِ مَوْضُوعَةٌ بَيْنَهُمْ يَتَطَرَّقُونَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِيهَا، وَبَابُ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْمَنَازِل فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَبَاعَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الْمَنْزِل نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ، أَوْ مِنْ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ بِحُقُوقِهِ مِنَ الطُّرُقِ فِي السَّاحَةِ وَغَيْرِهَا، فَالشَّرِيكُ فِي الْمَنْزِل أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الشَّرِيكِ فِي السَّاحَةِ، وَمِنَ الشَّرِيكِ فِي الزُّقَاقِ الَّذِي فِيهِ بَابُ الدَّارِ، فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ فِي الْمَنْزِل الشُّفْعَةَ فَالشَّرِيكُ فِي السَّاحَةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ.
وَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ فِي السَّاحَةِ فَالشَّرِيكُ فِي الزُّقَاقِ الَّذِي لاَ مَنْفَذَ لَهُ الَّذِي يَشْرَعُ فِيهِ بَابُ الدَّارِ أَحَقُّ بَعْدَهُ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْجَارِ الْمُلاَصِقِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ حُكْمَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ عَلَى إِمْكَانِ قِسْمَتِهَا أَوْ عَدَمِهِ، وَعَلَى إِمْكَانِ إِيجَادِ الْبَدِيل إِذَا بِيعَتِ الدَّارُ الَّتِي تَتْبَعُهَا الْعَرْصَةُ، كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، إِذْ لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 5 / 240 وتكملة فتح القدير 8 / 300 - 301.(30/44)
شُفْعَةَ فِي الْعِرَاصِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي لاَ تَنْقَسِمُ إِذَا بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ شُفْعَةَ فِي فِنَاءٍ وَلاَ طَرِيقٍ وَلاَ مُنَقَّبَةٍ (1) . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِيهَا الشُّفْعَةَ لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ (2) ؛ وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لإِِزَالَةِ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ، وَالضَّرَرُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَكْثَرُ؛ لأَِنَّهُ يَتَأَبَّدُ ضَرَرُهُ، أَمَّا مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ، بِحَيْثُ إِذَا قُسِمَ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِالْقِسْمَةِ فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِيهِ.
6 - وَإِذَا بِيعَ بَيْتٌ مِنْ دَارٍ لَهَا صَحْنٌ، وَلاَ طَرِيقَ لِلْبَيْتِ إِلاَّ مِنْ هَذَا الصَّحْنِ، فَلاَ شُفْعَةَ فِي الصَّحْنِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُضِرُّ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ لِلْبَيْتِ بَابٌ آخَرُ يُسْتَطْرَقُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ يُفْتَحُ مِنْهُ بَابٌ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ كَانَ الصَّحْنُ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ". ذكره ابن قدامة في المغني (5 / 313) وعزاه لأبي الخطاب في رؤوس المسائل، وذكره أبو عبيد في غريب الحديث (3 / 121) .
(2) حديث: " الشفعة فيما لم يقسم " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 436) بلفظ " قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ". وأخرجه مسلم (3 / 1229) من حديث جابر.(30/44)
قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّحْنُ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهُ أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ تَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، لَكِنْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ تَجِبَ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِحَالٍ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ بِتَحْوِيل الطَّرِيقِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مَعَ مَا فِي الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ تَفْوِيتِ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي وَأَخْذِ بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنَ الْعَقَارِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الصَّحْنِ شَرِيكًا فِي الدَّارِ، فَأَرَادَ أَخْذَ الصَّحْنِ وَحْدَهُ.
وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الْمُشْتَرِي مِنَ الصَّحْنِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ فَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الزَّائِدِ بِكُل حَالٍ، لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ؛ لأَِنَّ فِي ثُبُوتِهَا تَبْعِيضَ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي، وَلاَ يَخْلُو مِنَ الضَّرَرِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِي الْعَرْصَةِ، سَوَاءٌ بِيعَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ مَا هِيَ تَبَعٌ لَهُ مِنْ بُيُوتٍ. جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 298، والأم 4 / 4، وشرح منتهى الإرادات 2 / 435، والمغني 5 / 313 - 314 ط الرياض.(30/45)
لاَ شُفْعَةَ فِي عَرْصَةٍ، وَهِيَ سَاحَةُ الدَّارِ الَّتِي بَيْنَ بُيُوتِهَا، أَوْ عَلَى جِهَةٍ مِنْ بُيُوتِهَا، وَتُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ بِالْحَوْشِ، وَلاَ فِي مَمَرٍّ - أَيْ طَرِيقٍ إِذَا كَانَتِ الْبُيُوتُ الَّتِي تَتْبَعُهَا الْعَرْصَةُ أَوِ الْمَمَرُّ قَدْ قُسِمَتْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَبَقِيَتِ السَّاحَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ، فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْعَرْصَةِ مَعَ مَا حَصَل لَهُ مِنَ الْبُيُوتِ، أَوْ بَاعَهَا مُفْرَدَةً، فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا لِلآْخَرِ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَابِعَةً لِمَا لاَ شُفْعَةَ فِيهِ وَهُوَ الْبُيُوتُ الْمُنْقَسِمَةُ، كَانَ لاَ شُفْعَةَ فِيهَا، وَقِيل: إِنْ بَاعَهَا وَحْدَهَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ (1) .
إِلاَّ أَنَّ اللَّخْمِيَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لَهُ تَفْصِيلٌ آخَرُ، قَال: إِنْ قُسِمَتْ بُيُوتُ الدَّارِ دُونَ مَرَافِقِهَا مِنْ سَاحَةٍ وَطَرِيقٍ. ثُمَّ بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ حَظَّهُ مِنْ بُيُوتِهَا بِمَرَافِقِهَا فَلاَ شُفْعَةَ فِي الْبَيْتِ؛ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ وَلاَ شُفْعَةَ لِلْجَارِ، وَكَذَلِكَ لاَ شُفْعَةَ فِي السَّاحَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لاَ شُفْعَةَ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهَا مِنْ مَنْفَعَةِ مَا قُسِمَ مَصْلَحَتُهُ، وَإِنْ بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ مِنَ السَّاحَةِ فَقَطْ وَكَانَ الْبَائِعُ يَدْخُل إِلَى الْبُيُوتِ مِنَ السَّاحَةِ كَانَ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَرُدُّوا بَيْعَهُ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ أَسْقَطَ تَصَرُّفَهُ، وَكَانَ يَصِل إِلَى
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 230 ط الحلبي، وجواهر الإكليل 2 / 160.(30/45)
الْبُيُوتِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ أَهْل الدَّارِ جَازَ لِبَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ الشُّفْعَةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الشُّفْعَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ، وَإِنْ بَاعَ مِنْ غَيْرِ أَهْل تِلْكَ الدَّارِ كَانَ لَهُمْ رَدُّ بَيْعِهِ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ السَّاكِنِ أَخَفُّ مِنْ ضَرَرِ غَيْرِ السَّاكِنِ، وَلَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا بَيْعَهُ وَيَأْخُذُوا بِالشُّفْعَةِ (1) .
ج - الأَْيْمَانُ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ: لاَ يَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ فَانْهَدَمَتْ وَصَارَتْ سَاحَةً، فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لأَِنَّهُ زَال عَنْهَا اسْمُ الدَّارِ؛ وَلأَِنَّ اسْمَ الدَّارِ يَشْمَل السَّاحَةَ وَالْبُنْيَانَ.
قَال الْخَطِيبُ: هَذَا إِذَا قَال: لاَ أَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنْ قَال: لاَ أَدْخُل هَذِهِ حَنِثَ بِالْعَرْصَةِ، وَإِنْ قَال: دَارًا، لَمْ يَحْنَثْ بِفَضَاءِ مَا كَانَ دَارًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ عَيَّنَ وَقَال: لاَ أَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا بَعْدَ يَمِينِهِ ثُمَّ دَخَلَهَا يَحْنَثُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ الدَّارَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ فَيُرَاعَى فِيهِ ذَاتُ الْمُعَيَّنِ، لاَ صِفَتُهُ؛ لأَِنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ، وَالإِْشَارَةُ كَافِيَةٌ
__________
(1) منح الجليل 3 / 596.
(2) منح الجليل 1 / 681، ومغني المحتاج 4 / 332، منتهى الإرادات 3 / 437، والمهذب 2 / 133 - 134.(30/46)
لِلتَّعْرِيفِ، وَذَاتُ الدَّارِ قَائِمَةٌ بَعْدَ الاِنْهِدَامِ؛ لأَِنَّ الدَّارَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْعَرْصَةُ قَائِمَةٌ. وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ بِدُونِ الْبِنَاءِ قَوْل النَّابِغَةِ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ
سَمَّاهَا دَارًا بَعْدَمَا خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَخَرِبَتْ، أَمَّا لَوْ حَلَفَ: لاَ يَدْخُل دَارًا، فَدَخَل دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: دَارًا وَإِنْ ذُكِرَ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهِيَ الدَّارُ الْمَبْنِيَّةُ، فَيُرَاعَى فِيهِ الاِسْمُ وَالصِّفَةُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لاَ يَحْنَثُ (1) .
د - الْوَصِيَّةُ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِعَرْصَةٍ فَبَنَاهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا لَوْ زَرَعَهَا فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُجُوعًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَزْرُوعُ مِمَّا تَبْقَى أُصُولُهُ فَالأَْقْرَبُ، كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ إِلَى كَلاَمِهِمْ فِي بَيْعِ الأُْصُول وَالثِّمَارِ أَنَّهُ كَالْغِرَاسِ؛ لأَِنَّهُ يُرَادُ لِلدَّوَامِ
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ فَلاَ تَبْطُل
__________
(1) البدائع 3 / 37، وفتح القدير 4 / 479 نشر دار التراث، والاختيار 4 / 56.(30/46)
الْوَصِيَّةُ بِبِنَاءِ الْعَرْصَةِ، فَلَوْ أَوْصَى بِعَرْصَةٍ ثُمَّ بَنَاهَا دَارًا مَثَلاً فَلاَ تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِبِنَائِهَا، وَيَشْتَرِكُ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ بِقِيمَتَيِ الْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَارٍ فَهَدَمَهَا فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَلاَ وَصِيَّةَ لَهُ فِي النَّقْضِ الَّذِي نَقَصَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْعَرْصَةُ فَقَطْ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا هَدَمَ الدَّارَ فَالْعَرْصَةُ وَالنَّقْصُ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَالْهَدْمُ لاَ يُبْطِل الْوَصِيَّةَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَبْقَى الْعَرْصَةُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لأَِنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْبِنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي التَّبَعِ لاَ يَدُل عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الأَْصْل.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَإِنَّ الْهَدْمَ يُعْتَبَرُ رُجُوعًا فِي النَّقْضِ وَفِي الْعَرْصَةِ، وَهَذَا إِذَا هَدَمَهَا الْمُوصِي، أَمَّا إِذَا هَدَمَهَا غَيْرُهُ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل فِي النَّقْضِ لِبُطْلاَنِ الاِسْمِ، وَلاَ تَبْطُل فِي الْعَرْصَةِ (1) .
هـ - مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
9 - يَرِدُ ذِكْرُ الْعَرْصَةِ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِثْل:
__________
(1) البدائع 7 / 379، والاختيار 5 / 66، وجواهر الإكليل 2 / 319، ومغني المحتاج 3 / 72، وشرح منتهى الإرادات 2 / 546.(30/47)
الإِْقْرَارِ (1) وَالإِْجَارَةِ (2) وَالْعَارِيَّةِ (3) وَالْقِسْمَةِ (4) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهَا وَمُصْطَلَحَاتِهَا
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 336 نشر دار إحياء التراث.
(2) حاشية القليوبي 3 / 79.
(3) الزرقاني 6 / 65 - 66.
(4) الاختيار 2 / 76 - 77.(30/47)
عَرْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرْضُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي - فِي اللُّغَةِ يَأْتِي لِمَعَانٍ مِنْهَا: الإِْظْهَارُ وَالْكَشْفُ، يُقَال: عَرَضْتُ الشَّيْءَ، أَظْهَرْتُهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} (1) قَال الْفَرَّاءُ فِي مَعْنَى الآْيَةِ: أَبْرَزْنَاهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهَا الْكُفَّارُ وَمِنْهَا الْمَتَاعُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - عَرْضُ الإِْسْلاَمِ عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنَ الزَّوْجَيْنِ:
2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ أَسْلَمَ كِتَابِيٌّ تَزَوَّجَ بِوَثَنِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ قَبْل الدُّخُول تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ
__________
(1) سورة الكهف / 100.
(2) الصحاح، والقاموس المحيط ودستور العلماء 2 / 316، والكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 226.(30/48)
إِسْلاَمِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لاَ طَلاَقًا (1) .
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُول فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الآْخَرُ قَبْل انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا قَوْل الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقَال أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: تَتَعَجَّل الْفُرْقَةُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلاَّل وَقَوْل الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ عُرِضَ الإِْسْلاَمُ عَلَى الآْخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثِ حِيَضٍ أَوْ مُضِيِّ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ،
__________
(1) المغني 6 / 614 ط الرياض، وروضة الطالبين 7 / 143.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص201.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 616.(30/48)
فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الآْخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَلاَ يُتَعَرَّضْ لَهُمَا؛ لأَِنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ صَحِيحٌ بَعْدَ إِسْلاَمِ الرَّجُل فَلأََنْ يَبْقَى أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهَا الإِْسْلاَمَ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَوِي إِنْ كَانَ دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل بِهَا، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ دِهْقَانَةَ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُعْرَضَ الإِْسْلاَمُ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَضَ الإِْسْلاَمَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَأَبَتْ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الدَّارُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ خِلاَفٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَفُ الدَّارِ ف 5) .
وَإِذَا عُقِدَ نِكَاحُ صَبِيَّيْنِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ يَعْقِل الإِْسْلاَمَ صَحَّ
__________
(1) المبسوط 5 / 45.(30/49)
إِسْلاَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا، وَيُعْرَضُ عَلَى الآْخَرِ الإِْسْلاَمُ إِنْ كَانَ يَعْقِل، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ: فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا بَالِغَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْبَاءَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالأَْدَاءِ، وَالَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَإِنْ كَانَ عَاقِلاً فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا، إِذِ الأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل مَنْ صَحَّ مِنْهُ الإِْسْلاَمُ إِذَا أَتَى بِهِ صَحَّ مِنْهُ الإِْبَاءُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ: الصَّبِيُّ يَسْتَوِي بِالْبَالِغِ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْنُونًا (1) هَذَا وَيُنْتَظَرُ عَقْل غَيْرِ مُمَيِّزٍ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلاَ يُنْتَظَرُ لِعَدَمِ نِهَايَتِهِ، بَل يُعْرَضُ الإِْسْلاَمُ عَلَى أَبَوَيْهِ فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ تَبِعَهُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ نَصَّبَ الْقَاضِي عَنْهُ وَصِيًّا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالْفُرْقَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا ثَبَتَ نِكَاحُهُمَا إِذَا خَلاَ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَإِنْ سَبَقَ الزَّوْجُ إِلَى الإِْسْلاَمِ أُقِرَّ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ، وَيُقَرُّ عَلَى غَيْرِهَا إِذَا أَسْلَمَتْ بِأَثَرِهِ، وَإِنْ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 5 / 46 - 47، وابن عابدين 2 / 389.
(2) ابن عابدين 2 / 389.(30/49)
سَبَقَتْ هِيَ: فَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ وَإِلاَّ بَانَتْ (1) .
ب - عَرْضُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُل الصَّالِحِ.
3 - يَجُوزُ عَرْضُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُل وَتَعْرِيفُهُ رَغْبَتَهَا فِيهِ، لِصَلاَحِهِ وَفَضْلِهِ أَوْ لِعِلْمِهِ وَشَرَفِهِ أَوْ لِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَال الدِّينِ، وَلاَ غَضَاضَةَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، بَل ذَلِكَ يَدُل عَلَى فَضْلِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَال: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، قَال أَنَسُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَل حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهُ (2) قَال: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا. (3)
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص201 نشر الدار العربية للكتاب.
(2) " واسوأتاه " الواو فيه للنداء ولكن هي الواو التي تختص بالندبة والألف فيه للندبة والهاء للسكت نحو وازيداه، والمراد بالسوأة هنا: الفعلة الفاحشة والفضيحة. (عمدة القاري 20 / 113) .
(3) حديث: " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 174) .(30/50)
ج - عَرْضُ الإِْنْسَانِ مَوْلَيَاتِهِ عَلَى أَهْل الْخَيْرِ:
4 - يَجُوزُ عَرْضُ الإِْنْسَانِ بِنْتَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ مَوْلَيَاتِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ خَيْرَهُ وَصَلاَحَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ وَلاَ اسْتِحْيَاءَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ بَأْسَ بِعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا (1) فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ - فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَال: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَال: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَال عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يُرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَال: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَال عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ.
__________
(1) (فتح الباري 9 / 178) .(30/50)
قَال أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأُِفْشِيَ سِرَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا.
(1) وَأَمَّا الْعَرْضُ بِمَعْنَى الْمَتَاعِ.
فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عُرُوض)
__________
(1) حديث: عبد الله بن عمر: " أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 175 - 176) .(30/51)
عِرْض
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعِرْضِ - بِالْكَسْرِ -: النَّفْسُ وَالْحَسَبُ: يُقَال: نَقِيُّ الْعِرْضِ، أَيْ: بَرِيءٌ مِنَ الْعَيْبِ، وَفُلاَنٌ كَرِيمُ الْعِرْضِ أَيْ: كَرِيمُ الْحَسَبِ، وَيُقَال: عَرَّضَ عِرْضَهُ: إِذَا وَقَعَ فِيهِ وَشَتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ أَوْ سَاوَاهُ فِي الْحَسَبِ (1) . وَجَمْعُ الْعِرْضِ أَعْرَاضٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا. (2)
وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ النَّفْسِ أَوِ الدَّمِ وَالْمَال فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَسَبُ فَقَطْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ (3) . وَهَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرُ:
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) حديث: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 158) من حديث أبي بكرة.
(3) حديث: " كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1986) من حديث أبي هريرة.(30/51)
الْحَسَبُ هُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ عِرْضٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَسَبُ:
2 - الْحَسَبُ هُوَ: الْكَرَمُ وَالشَّرَفُ الثَّابِتُ فِي الآْبَاءِ، وَقِيل: هُوَ الْفِعَال الصَّالِحَةُ مِثْل الشَّجَاعَةِ، وَالْجُودِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْوَفَاءِ، وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الْحَسَبُ هُوَ الشَّرَفُ الثَّابِتُ لِلشَّخْصِ وَلآِبَائِهِ. (1)
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ غَالِبًا الْحَسَبَ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، أَيْ: مَآثِرِ الآْبَاءِ وَالأَْجْدَادِ وَشَرَفِ النَّسَبِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - كَفَلَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الأَْنْفُسِ وَالأَْعْرَاضِ وَالأَْمْوَال، وَشَرَعَتْ لِذَلِكَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَالْعِرْضِ وَالْمَال فِي حَالَةِ الصِّيَال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير، والموسوعة الفقهية 17 / 222.
(3) سورة البقرة / 194.(30/52)
فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (1) وَلَيْسَ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا يُتْلِفُ مِنَ النَّفْسِ أَوِ الْمَال فِي حَالَةِ الدِّفَاعِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ وَسِيلَةٌ أُخْرَى أَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ (2)
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْعِرْضِ بِمَعْنَى الْبُضْعِ وَاجِبٌ، فَيَأْثَمُ الإِْنْسَانُ بِتَرْكِهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:؛ لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَسَوَاءٌ بُضْعُ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِثْل الْبُضْعِ مُقَدِّمَاتُهُ (3) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ وَجَدَ رَجُلاً يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، لِقَوْل عُمَرَ لِمَنْ وَجَدَ رَجُلاً بَيْنَ فَخِذَيِ امْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (4) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَالْمَال، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ، وَجَوَازِهِ عَنِ الْمَال.
__________
(1) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد ". أخرجه الترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 268، 269، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 357، ومغني المحتاج 4 / 194، 195، والمغني لابن قدامة 8 / 331، 332.
(3) مجمع الضمانات ص203، والدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 357، ومغني المحتاج 4 / 194، 195، والمغني لابن قدامة 8 / 331، 332.
(4) المغني لابن قدامة 8 / 332.(30/52)
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ بِالْجَوَازِ فِي الصُّورَتَيْنِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (صِيَال ف 5، 12) .
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 268، 269، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 357، ومغني المحتاج 4 / 194، 195، والمغني لابن قدامة 8 / 332، 333.(30/53)
عُرْف
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُرْفُ لُغَةً: كُل مَا تَعْرِفُهُ النَّفْسُ مِنَ الْخَيْرِ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ ضِدُّ النُّكُرِ، وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ: الْجُودُ (1) .
وَهُوَ اصْطِلاَحًا: مَا اسْتَقَرَّتِ النُّفُوسُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْعُقُول، وَتَلَقَّتْهُ الطَّبَائِعُ بِالْقَبُول (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَادَةُ:
2 - الْعَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الدَّيْدَنُ يُعَادُ إِلَيْهِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ صَاحِبَهَا يُعَاوِدُهَا أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: مَا اسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الْمَعْقُول، وَعَادُوا إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (4) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعَادَةُ وَالْعُرْفُ بِمَعْنًى
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) التعريفات للجرجاني.(30/53)
وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَاصَدَقَ وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ: بِأَنَّ الْعَادَةَ هِيَ الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ، بَيْنَمَا الْمُرَادُ بِالْعُرْفِ هُوَ الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ (1) .
ب - الاِسْتِحْسَانُ:
3 - الاِسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدُّ الشَّيْءِ حَسَنًا وَاعْتِقَادُهُ كَذَلِكَ (2) .
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْعُدُول عَنِ الدَّلِيل إِلَى الْعَادَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، كَدُخُول الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَمَنِ الْمُكْثِ وَقَدْرِ الْمَاءِ وَالأُْجْرَةِ، فَإِنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَى خِلاَفِ الدَّلِيل (3) .
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الاِسْتِحْسَانُ: إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيل عَلَى طَرِيقِ الاِسْتِثْنَاءِ وَالتَّرْخِيصِ، لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهَا: تَرْكُ الدَّلِيل لِلْعُرْفِ، وَتَرْكُهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَتَرْكُهُ لِلتَّيْسِيرِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ (4) .
فَالْعُرْفُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِحْسَانِ.
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 122، تيسير التحرير 1 / 317، التقرير والتحبير 1 / 282.
(2) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني.
(3) حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 390، مع الاعتصام للشاطبي 2 / 119.
(4) حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 395، الاعتصام للشاطبي 2 / 119 ط التجارية الكبرى، الفروق للقرافي 1 / 171 ط إحياء الكتب العربية 1344هـ.(30/54)
أَقْسَامُ الْعُرْفِ:
أَوَّلاً: الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ، وَالْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ:
يَنْقَسِمُ الْعُرْفُ بِحَسَبِ اسْتِعْمَال الأَْلْفَاظِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَعَانِي، أَوْ بِحَسَبِ الأَْعْمَال الَّتِي يَقُومُ بِهَا النَّاسُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
عُرْفٍ قَوْلِيٍّ: (لَفْظِيٍّ) ، وَعُرْفٍ عَمَلِيٍّ.
أ - الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ:
4 - الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ: أَنْ يَتَعَارَفَ قَوْمٌ إِطْلاَقَ لَفْظٍ عَلَى مَعْنًى، بِحَيْثُ لاَ يَتَبَادَرُ عِنْدَ سَمَاعِهِ إِلاَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَالدِّرْهَمِ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ (1) . فَمَعْنَى الْعُرْفِ فِي اللَّفْظِ: أَنْ يُنْقَل إِطْلاَقُ لَفْظٍ، وَيُسْتَعْمَل فِي مَعْنًى، حَتَّى يَصِيرَ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، مِثَال ذَلِكَ إِطْلاَقُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ مَعَ أَنَّهَا فِي اللُّغَةِ لِكُل مَا يَدِبُّ.
وَكَمَا يَنْقُل الْعُرْفُ اللَّفْظَ الْمُفْرَدَ يَنْقُل الْمُرَكَّبَ، فَالْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا نُقِلَتِ الأَْلْفَاظُ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، أَوْ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ أَفْرَادِهَا، أَمَّا إِذَا اسْتَمَرَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُتَعَرَّفًا، فَلاَ يُسَمَّى عُرْفًا قَوْلِيًّا أَوْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ (2) .
__________
(1) التقرير والتحبير 1 / 282 ط الأميرية 1316هـ.
(2) الفروق 1 / 171، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 187، شرح التنقيح للقرافي ص44.(30/54)
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْعُرْفَ الْقَوْلِيَّ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ أَلْفَاظَ التَّصَرُّفَاتِ، وَلاَحَظُوا ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ كُل مُتَكَلِّمٍ إِنَّمَا يُحْمَل لَفْظُهُ عَلَى عُرْفِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ هُوَ الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُحْمَل عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ فَإِنَّهُ يُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى عُرْفِهِ، وَتُحْمَل أَلْفَاظُ النَّاسِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْعُقُودُ وَالتَّصَرُّفَاتُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ، وَيَجْرِي مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْتِزَامَاتٍ عَلَى حَسَبِ مَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ (1) .
ب - الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ:
5 - الْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ: هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ وَتَعَارَفُوهُ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، كَتَعَارُفِ النَّاسِ الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَالاِسْتِصْنَاعِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعُرْفُ عَمَلِيٌّ وَقَوْلِيٌّ، فَالأَْوَّل: كَتَعَارُفِ قَوْمٍ عَلَى أَكْل الْبُرِّ وَلَحْمِ الضَّأْنِ، فَإِذَا قَال: اشْتَرِ لِي طَعَامًا أَوْ لَحْمًا انْصَرَفَ إِلَى الْبُرِّ وَلَحْمِ الضَّأْنِ عَمَلاً بِالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ (2) .
وَالأَْعْرَافُ وَالْعَادَاتُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ
__________
(1) المستصفي 2 / 29 ط الأميرية 1324هـ، أحكام الفصول في أحكام العقول 286 ط دار الغرب الإسلامي 1986 قواعد الأحكام 2 / 77، 116، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص211.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 112.(30/55)
فِي مُعَامَلاَتِهِمْ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ بِالأَْلْفَاظِ، قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: فُصِل فِي تَنْزِيل دَلاَلَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الأَْحْوَال مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الأَْقْوَال فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا، وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ فِي ذَلِكَ: التَّوْكِيل فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِثَمَنِ الْمِثْل وَغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، تَنْزِيلاً لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ حَمْل الإِْذْنِ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْكُفْءِ وَمَهْرِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الأَْفْهَامِ فِيمَنْ وَكَّل آخَرَ بِتَزْوِيجِ ابْنَتِهِ، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ الأُْخْرَى (1) فَبَاعَ وَأَقْبَضَ وَقَبَضَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَفْظِيٍّ اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى الإِْذْنِ الْعُرْفِيِّ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ اللَّفْظِيِّ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ (2) . فَالْعُرْفُ الْعَمَلِيُّ أَوِ الْعَادَةُ فِي الْفِعْل هِيَ الْمُحَكَّمَةُ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ، مَا يَجِبُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَجِبُ، تَبَعًا لِلْعُرْفِ الْجَارِي
__________
(1) حديث: عروة بن الجعد البارقي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632) .
(2) إعلام الموقعين 2 / 412، 413 ط دار الجليل، وقواعد الأحكام 2 / 107 ط دار الكتب العلمية.(30/55)
بَيْنَهُمْ، وَمَا يَدْخُل فِي الْعُقُودِ تَبَعًا وَمَا لاَ يَدْخُل.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ (1) ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ: (الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ) وَالْمَعْرُوفُ بَيْنَ التُّجَّارِ كَالْمَشْرُوطِ بَيْنَهُمْ، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ، وَفِيهِ أَيْضًا: الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: الْعُرْفُ الْعَامُّ وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ:
6 - الْعُرْفُ الْعَامُّ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ عَامَّةُ النَّاسِ كَمَنْ حَلَفَ لاَ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلاَنٍ، فَهُوَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ بِمَعْنَى الدُّخُول، سَوَاءٌ دَخَلَهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا
وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ: هُوَ مَا لَمْ يَتَعَارَفْهُ عَامَّةُ النَّاسِ بَل بَعْضُهُمْ، كَالأَْلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْ عُرْفِ التَّخَاطُبِ، أَوْ فِي عُرْفِ طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ اصْطِلاَحُ الرَّفْعِ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ اسْتِمْرَارَ الْعَمَل بِهِ بَيْنَ النَّاسِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 3 ط. السعادة 1955.
(2) المبسوط 15 / 172، 173.
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 186، الأشباه والنظائر لابن نجيم 93، شرح التنقيح 20، 200، الموافقات 2 / 297 ط. المكتبة التجارية الكبرى.(30/56)
ثَالِثًا: الْعُرْفُ الصَّحِيحُ وَالْعُرْفُ الْفَاسِدُ:
7 - يَنْقَسِمُ الْعُرْفُ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ.
فَالصَّحِيحُ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِنَصٍّ شَرْعِيٍّ، وَلاَ تَفْوِيتٌ لِمَصْلَحَةٍ وَلاَ جَلْبٌ لِمَفْسَدَةٍ، كَتَعَارُفِهِمْ تَقْدِيمَ الْهَدَايَا مِنَ الْخَطِيبِ لِخَطِيبَتِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا مِنَ الْمَهْرِ.
وَالْعُرْفُ الْفَاسِدُ: مَا خَالَفَ بَعْضَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَوْ بَعْضَ قَوَاعِدِهِ، كَتَعَارُفِهِمْ عَلَى بَعْضِ الْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ (1) .
رَابِعًا: الْعُرْفُ الثَّابِتُ وَالْعُرْفُ الْمُتَبَدِّل:
8 - يَنْقَسِمُ الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ وَعَدَمِهِ إِلَى: عُرْفٍ ثَابِتٍ، وَعُرْفٍ مُتَبَدِّلٍ.
وَالْعُرْفُ الثَّابِتُ: هُوَ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ وَالأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال؛ لأَِنَّهُ يَعُودُ إِلَى طَبِيعَةِ الإِْنْسَانِ وَفِطْرَتِهِ، كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَمِنَ الْعُرْفِ الثَّابِتِ الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ: وَهُوَ مَا كَلَّفَ بِهِ الشَّرْعُ وَأَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَوْ أَذِنَ فِيهِ
وَالْعُرْفُ الْمُتَبَدِّل: هُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْزْمَانِ وَالْبِيئَاتِ وَالأَْحْوَال، وَهُوَ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 114، الموافقات للشاطبي 2 / 283 ط التجارية الكبرى.(30/56)
أَنْوَاعٌ: فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى اعْتِبَارِ الْبِقَاعِ، وَالْبِيئَاتِ مِنْ حُسْنِ شَيْءٍ أَوْ قُبْحِهِ، فَيَكُونُ فِي مَكَانٍ حَسَنًا، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ قَبِيحًا، مِثْل كَشْفِ الرَّأْسِ فَهُوَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ قَبِيحٌ فِي الْبِلاَدِ الْمَشْرِقِيَّةِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي الْبِلاَدِ الْمَغْرِبِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اعْتِبَارُ الْعُرْفِ:
9 - يَنْقَسِمُ الْعُرْفُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهُ فِي الأَْحْكَامِ - إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: -
أ - مَا قَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، كَمُرَاعَاةِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَوَضْعِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَهَذَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَالأَْخْذُ بِهِ.
ب - مَا قَامَ الدَّلِيل الشَّرْعِيُّ عَلَى نَفْيِهِ، كَعَادَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّبَرُّجِ، وَطَوَافِهِمْ فِي الْبَيْتِ عُرَاةً، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْعْرَافِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ، فَهَذِهِ الأَْعْرَافُ لاَ تُعْتَبَرُ.
ج - مَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيل الشَّرْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ.
10 - وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اعْتِبَارِهِ وَمُرَاعَاتِهِ وَبَنَوْا عَلَيْهِ الْكَثِيرَ مِنَ الأَْحْكَامِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 90، والموافقات للشاطبي 2 / 283.(30/57)
أَحَدٌ مِنْهُمْ (1) وَقَدْ قَامَ الدَّلِيل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ. فَمِنَ الْكِتَابِ: قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} . (2)
قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الإِْنْفَاقَ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَادَةِ، وَهِيَ دَلِيلٌ أُصُولِيٌّ، بَنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الأَْحْكَامَ، وَرَبَطَ بِهِ الْحَلاَل وَالْحَرَامَ (3) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ رَدُّ الْحُقُوقِ الْمُطْلَقَةِ فِي الشَّرْعِ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي نَفَقَاتِهِمْ، فِي حَقِّ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ، كَمَا رَدَدْنَاهُمْ فِي الْكِسْوَةِ إِلَى ذَلِكَ (4) . وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَال: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (5) قَال ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ اعْتِمَادُ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 44، 2 / 113، 114 وفتح الباري 9 / 510. ط. مكتبة الرياض الحديث.
(2) سورة الطلاق / 7
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1830. ط. عيسى الحلبي 1958م.
(4) المغني 7 / 567 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(5) حديث عائشة: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، أخرجه البخاري (فتح الباري / 9 / 507) ومسلم (3 / 1338) .(30/57)
الْعُرْفِ فِي الأُْمُورِ الَّتِي لاَ تَحْدِيدَ فِيهَا مِنْ قِبَل الشَّارِعِ (1) .
شُرُوطُ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُطَّرِدًا أَوْ غَالِبًا:
11 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْعُرْفِ: أَنْ يَكُونَ مُطَّرِدًا أَوْ غَالِبًا. وَمَعْنَى الاِطِّرَادِ: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لاَ يَتَخَلَّفُ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، وَمَعْنَى الْغَلَبَةِ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل بِالْعُرْفِ كَثِيرًا، وَلاَ يَتَخَلَّفُ إِلاَّ قَلِيلاً، ذَلِكَ أَنَّ الاِطِّرَادَ أَوِ الْغَلَبَةَ يَجْعَل الْعُرْفَ مَقْطُوعًا بِوُجُودِهِ، قَال السُّيُوطِيُّ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ، فَإِذَا اضْطَرَبَتْ فَلاَ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَكَانَا فِي بَلَدٍ اخْتَلَفَ فِيهِ النُّقُودُ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ، انْصَرَفَ الْبَيْعُ إِلَى الأَْغْلَبِ، قَال فِي الْهِدَايَةِ:؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ.
قَال الشَّاطِبِيُّ: وَإِذَا كَانَتِ الْعَوَائِدُ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا فَلاَ يَقْدَحُ فِي اعْتِبَارِهَا انْخِرَاقُهَا مَا بَقِيَتْ
__________
(1) فتح الباري 9 / 510 ط مكتبة الرياض الحديثة.(30/58)
عَادَةً فِي الْجُمْلَةِ (1) . وَبِهَذَا الشَّرْطِ يَخْرُجُ الْعُرْفُ الْمُشْتَرَكُ - هُوَ مَا تَسَاوَى الْعَمَل بِهِ وَتَرْكُهُ - مِنَ الاِعْتِبَارِ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا أَوْ دَلِيلاً يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَحْدِيدِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ عَامًّا:
12 - هَذَا الشَّرْطُ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي بِنَاءِ الأَْحْكَامِ الْعُرْفُ الْعَامُّ دُونَ الْخَاصِّ (3) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَلاَّ يَكُونَ الْعُرْفُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ الشَّرْعِيِّ:
13 - يُشْتَرَطُ فِي الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا: أَلاَّ يُخَالِفَ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، بِمَعْنَى أَنْ لاَ يَكُونَ مَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ مُخَالِفًا لِلأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَإِلاَّ فَلاَ اعْتِبَارَ لِلْعُرْفِ، كَتَعَارُفِ النَّاسِ شُرْبَ الْخَمْرِ وَتَبَرُّجَ النِّسَاءِ وَالتَّعَامُل بِالْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 92 ط دار الكتب العلمية 1983 م، الأشباه والنظائر لابن نجيم 94 ط دار الهلال 1980، الموافقات للشاطبي 2 / 228 ط المكتبة التجارية.
(2) رسائل ابن عابدين 2 / 132.
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 11114، 115، 130، الأشباه والنظائر لابن نجيم 102، 103، الأشباه والنظائر للسيوطي 96، الفتاوى الكبرى الفقهية 4 / 58.(30/58)
ثُمَّ إِنَّ مُخَالَفَةَ الْعُرْفِ لِلنَّصِّ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَإِذَا خَالَفَ الْعُرْفُ النَّصَّ الشَّرْعِيَّ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَإِنَّهُ يُعْمَل بِالنَّصِّ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِلْعُرْفِ؛ لأَِنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْعُرْفِ، وَلاَ يُتْرَكُ الأَْقْوَى لِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعُرْفُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا (1) .
وَإِذَا خَالَفَ الْعُرْفُ النَّصَّ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ الْعُرْفُ مُخَصِّصًا وَلاَ مُقَيِّدًا لِلنَّصِّ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُرْفَ يُخَصِّصُ النَّصَّ وَيُقَيِّدُهُ (2) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: - أَلاَّ يُعَارِضَ الْعُرْفَ تَصْرِيحٌ بِخِلاَفِهِ:
14 - يُشْرَطُ لاِعْتِبَارِ الْعُرْفِ: أَلاَّ يَصْدُرَ تَصْرِيحٌ بِخِلاَفِهِ، فَإِذَا صَرَّحَ الْعَاقِدَانِ مَثَلاً
__________
(1) فتح القدير 5 / 282، 283، ط الأميرية 1316هـ، مجوعة رسائل ابن عابدين 2 / 114، فتح الباري 9 / 510.
(2) التقرير والتحبير 1 / 282 ط الأميرية 1316هـ، ومسلم الثبوت بذيل المستصفي 1 / 345 ط الأميرية 1322هـ، حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 70، 71، 84 ط دار الكتب العلمية، والفروق للقرافي 1 / 171، 173، 174 ط دار إحياء الكتب العربية 1344هـ، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 48، 2 / 114، حاشية الدسوقي 2 / 143.(30/59)
بِخِلاَفِ الْعُرْفِ فَلاَ اعْتِبَارَ لِلْعُرْفِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لِلدَّلاَلَةِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: كُل مَا يَثْبُتُ فِي الْعُرْفِ إِذَا صَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ بِخِلاَفِهِ مِمَّا يُوَافِقُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَيُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ صَحَّ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الأَْجِيرِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّهَارَ بِالْعَمَل مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ يَقْطَعُ الْمَنْفَعَةَ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُصَلِّيَ الرَّوَاتِبَ، وَأَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى الأَْرْكَانِ، صَحَّ وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الأَْوْقَاتِ إِنَّمَا خَرَجَتْ عَنِ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْعُرْفِ الْقَائِمِ مَقَامَ الشَّرْطِ، فَإِذَا صَرَّحَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ الشَّرْعُ وَيُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ جَازَ (1) . الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ قَائِمًا عِنْدَ إِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ:
15 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْعُرْفِ: أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عِنْدَ إِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ سَابِقًا أَوْ مُقَارِنًا لِلتَّصَرُّفِ عِنْدَ إِنْشَائِهِ؛ لأَِنَّ كُل مَنْ يَقُومُ بِتَصَرُّفٍ - سَوَاءٌ كَانَ قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ؛ لِيَصِحَّ الْحَمْل عَلَى الْعُرْفِ الْقَائِمِ،
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 158 ط دار الكتب العلمية، وانظر درر الحكام 1 / 42.(30/59)
فَلاَ عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ الطَّارِئِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْعَوَائِدُ الطَّارِئَةُ بَعْدَ النُّطْقِ لاَ يُقْضَى بِهَا عَلَى النُّطْقِ، فَإِنَّ النُّطْقَ سَالِمٌ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، فَيُحْمَل عَلَى اللُّغَةِ، وَنَظِيرُهُ: إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُحْمَل عَلَى الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ فِي النَّقْدِ، وَمَا يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ فِي النُّقُودِ لاَ عِبْرَةَ بِهِ فِي هَذَا الْبَيْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ وَالإِْقْرَارُ وَالْوَصِيَّةُ إِذَا تَأَخَّرَتِ الْعَوَائِدُ عَلَيْهَا لاَ تُعْتَبَرُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْعَوَائِدِ مَا كَانَ مُقَارِنًا لَهَا.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الْعُرْفُ الَّذِي تُحْمَل عَلَيْهِ الأَْلْفَاظُ إِنَّمَا هُوَ الْمُقَارِنُ السَّابِقُ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِبَارَةَ السُّيُوطِيِّ: وَلِذَا قَالُوا: لاَ عِبْرَةَ بِالطَّارِئِ (1) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل بَعْضِ مَسَائِل الْعُرْفِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَادَة) ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلاَمُ مُفَصَّلاً عَلَى مَبَاحِثِ الْعُرْفِ وَمَسَائِلِهِ فِي: الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) شرح تنقيح الفصول للقرافي 211 ط دار الفكر 1973م، الأشباه والنظائر للسيوطي 96، الأشباه والنظائر لابن نجيم 101.(30/60)
عَرَفَات
التَّعْرِيفُ:
1 - عَرَفَاتُ وَعَرَفَةُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ رُكْنَ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِهَا (1) .
حُدُودُ عَرَفَةَ:
2 - قَال الشَّافِعِيُّ: هِيَ مَا جَاوَزَ وَادِي عُرَنَةَ - بِعَيْنٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ إِلَى الْجِبَال الْقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ، وَقَدْ وُضِعَتِ الآْنَ عَلاَمَاتٌ حَوْل أَرْضِ عَرَفَةَ تُبَيِّنُ حُدُودَهَا وَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهَا؛ لِئَلاَّ يَقَعَ وُقُوفُهُ خَارِجَ عَرَفَةَ، فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ، أَمَّا جَبَل الرَّحْمَةِ فَفِي وَسَطِ عَرَفَاتٍ، وَلَيْسَ نِهَايَةَ عَرَفَاتٍ، وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى مَوَاضِعَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ يَقَعُ فِيهَا الاِلْتِبَاسُ لِلْحُجَّاجِ وَهِيَ:
أ - وَادِي عُرَنَةَ.
ب - وَادِي نَمِرَةَ.
ج - الْمَسْجِدُ الَّذِي سَمَّاهُ الأَْقْدَمُونَ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَيُسَمَّى مَسْجِدَ نَمِرَةَ وَمَسْجِدَ عَرَفَةَ، قَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ،
__________
(1) المصباح المنير.(30/60)
وَإِنَّ مَنْ وَقَفَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ تَوْسِيعُ الْمَسْجِدِ كَثِيرًا فِي عَصْرِنَا، وَفِي دَاخِل الْمَسْجِدِ عَلاَمَاتٌ تُبَيِّنُ لِلْحُجَّاجِ مَا هُوَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَا لَيْسَ مِنْهَا يَنْبَغِي النَّظَرُ إِلَيْهَا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، بَل هُوَ الرُّكْنُ الَّذِي إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ لِحَدِيثِ: الْحَجُّ عَرَفَةَ (2) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (حَجٌّ ف وَمَا بَعْدَهَا، وَيَوْمُ عَرَفَةَ.)
__________
(1) المجموع 8 / 110 - 111، والمسلك المتقسط: 140 - 141، حاشية إرشاد الساري، وتاريخ مكة 2 / 194 - 195، ومعجم البلدان 12 / 4.
(2) حديث: " الحج عرفة ". أخرجه أبو داود (2 / 486 تحقيق عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 464 - ط - دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(30/61)
عَرَق
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَرَقُ لُغَةً: مَا جَرَى مِنْ أُصُول الشَّعْرِ مِنْ مَاءِ الْجِلْدِ، قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَيَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ مِنْهَا: الثَّوَابُ وَاللَّبَنُ.
وَيُسْتَعْمَل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا رَشَحَ مِنَ الْبَدَنِ.
وَالآْخَرِ: نَوْعٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ يُقَطَّرُ مِنَ الْخَمْرِ وَيُسَمَّى عَرَقِيًّا
(1) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّمْعُ:
2 - الدَّمْعُ لُغَةً: مَاءُ الْعَيْنِ، يُقَال: دَمَعَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا إِذَا سَال مَاؤُهَا، وَعَيْنٌ دَامِعَةٌ أَيْ: سَائِلٌ دَمْعُهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَرَقِ وَالدَّمْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْجِسْمُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 50، وروضة الطالبين 1 / 16، وحاشية ابن عابدين 3 / 162، 163، 1 / 216.
(2) المصباح المنير.(30/61)
ب - اللُّعَابُ:
3 - اللُّعَابُ فِي اللُّغَةِ: مَا سَال مِنَ الْفَمِ، يُقَال: لَعَبَ الرَّجُل إِذَا سَال لُعَابُهُ، وَأَلْعَبَ أَيْ: صَارَ لَهُ لُعَابٌ يَسِيل مِنْ فَمِهِ، وَلُعَابُ الْحَيَّةِ: سُمُّهَا، وَلُعَابُ النَّحْل الْعَسَل.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْعَرَقُ بِمَعْنَى مَا رَشَحَ مِنَ الْبَدَنِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ الإِْنْسَانِ مُطْلَقًا، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، الصَّاحِي وَالسَّكْرَانِ، وَالطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ وَالْجُنُبِ (2) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ:
فَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ عَرَقَ الْحَيَوَانِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: طَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَوَلِّدٌ مِنَ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ.
فَالطَّاهِرُ: عَرَقُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَعَرَقُ الْفَرَسِ، أَمَّا عَرَقُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ؛ فَلأَِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمٍ مَأْكُولٍ فَأَخَذَ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 93.
(2) تبيين الحقائق 1 / 31، حاشية الدسوقي 1 / 50، كشاف القناع 1 / 193، 194، المغني 1 / 49.(30/62)
حُكْمَهُ، وَأَمَّا طَهَارَةُ عَرَقِ الْفَرَسِ؛ فَلأَِنَّ عَرَقَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَحُرْمَتُهُ لِكَوْنِهِ آلَةَ الْجِهَادِ لاَ لِنَجَاسَتِهِ.
وَالنَّجِسُ: عَرَقُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، أَمَّا الْكَلْبُ فَلِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ (1) فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ النَّجَاسَةَ؛ لأَِنَّ الطَّهُورَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ فَيَسْتَدْعِي سَابِقَةَ التَّنَجُّسِ أَوِ الْحَدَثِ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ، فَتَعَيَّنَ الأَْوَّل، وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ؛ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) وَأَمَّا سِبَاعُ الْبَهَائِمِ؛ فَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَحْمُهَا حَرَامٌ نَجِسٌ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُل ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ (3) .
وَالْمَكْرُوهُ: عَرَقُ الْهِرَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ، قَال الْكَرْخِيُّ: كَرَاهِيَةُ عَرَقِ الْهِرَّةِ لأَِجْل أَنَّهَا لاَ تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ، وَقَال الطَّحَاوِيُّ: الْكَرَاهَةُ لِحُرْمَةِ
__________
(1) حديث: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 274) ، ومسلم (1 / 234) من حديث أبي هريرة. واللفظ لمسلم.
(2) سورة الأنعام / 145.
(3) حديث: " نهى عن كل ذي ناب من السباع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 657) ، ومسلم (3 / 1534) من حديث ابن عباس. واللفظ لمسلم.(30/62)
لَحْمِهَا
قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَوْل الطَّحَاوِيِّ يَدُل عَلَى أَنَّهَا إِلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ؛ لأَِنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لاَزِمٌ غَيْرُ عَارِضٍ، وَقَوْل الْكَرْخِيِّ يَدُل عَلَى التَّنَزُّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَالأَْقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال فِيهَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ (1) وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ فَلِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، وَيَصِل مِنْقَارُهَا إِلَى مَا تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا الإِْبِل وَالْبَقَرُ الْجَلاَّلَةُ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ فَاسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى، فَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَنْقَضُّ مِنْ عُلُوٍّ وَهَوَاءٍ فَلاَ يُمْكِنُ صَوْنُ الأَْوَانِي عَنْهَا لاَ سِيَّمَا فِي الْبَرَارِيِّ، وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ طَوَافُهَا أَلْزَمُ مِنَ الْهِرَّةِ؛ لأَِنَّ الْفَأْرَةَ تَدْخُل مَا لاَ تَقْدِرُ الْهِرَّةُ دُخُولَهُ وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي الْبَابِ لِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا؛ لأَِنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ وَحَرَامٌ. وَالْعَرَقُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَرَقُ الْحِمَارِ وَالْبَغْل لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: أَمَرَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ وَقَال: إِنَّهَا رِجْسٌ (2) . وَأَمَّا الْبَغْل فَهُوَ
__________
(1) حديث: " إنها ليست بنجس. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 154) من حديث أبي قتادة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " أمر يوم خيبر بإكفاء القدور. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 653 - 654) ، ومسلم (3 / 1540) من حديث أنس.(30/63)
مِنْ نَسْل الْحِمَارِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قِيل: سَبَبُهُ تَعَارُضُ الأَْخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيل اخْتِلاَفُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّ الْحِمَارَ أَشْبَهَ الْهِرَّةَ لِوُجُودِهِ فِي الدُّورِ وَالأَْفْنِيَةِ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ دُونَ الضَّرُورَةِ فِيهَا لِدُخُولِهَا مَضَايِقَ الْبَيْتِ فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ وَالسِّبَاعَ، فَلَمَّا ثَبَتَ الضَّرُورَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَاسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ تَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَصُيِّرَ إِلَى الأَْصْل، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الآْخَرِ فَبَقِيَ الأَْمْرُ مُشْكِلاً، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ آخَرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ كُل حَيَوَانٍ حَيٍّ، بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، وَلَوْ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَرَقَ لَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً، فَعَرَقُ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ، وَعَرَقُ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ نَجِسٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كُل الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرَةٌ مَا عَدَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: النَّجِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لاَ يُؤْكَل مِنَ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ(30/63)
خِلْقَةً كَالصَّقْرِ وَالْبُومِ وَالْعُقَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّسْرِ وَالرَّخَمِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَالأَْبْقَعِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ وَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَابْنِ آوَى وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي طَهَارَةُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُهُمَا وَيُرْكَبَانِ فِي زَمَنِهِ وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَة، وَنَجَاسَة) .
ب - الْعَرَقُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ:
6 - الْعَرَقُ نَوْعٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ يُقَطَّرُ مِنَ الْخَمْرِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْخَمْرِ، فَهُوَ نَجِسٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ شَكَّ أَنَّ الْعَرَقَ الْمُسْتَقْطَرَ مِنَ الْخَمْرِ هُوَ عَيْنُ الْخَمْرِ، تَتَصَاعَدُ مَعَ الدُّخَانِ وَتُقَطَّرُ مِنَ الطَّابَقِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهَا إِلاَّ أَجْزَاؤُهُ التُّرَابِيَّةُ؛ وَلِذَا يَفْعَل الْقَلِيل مِنْهُ فِي الإِْسْكَارِ أَضْعَافَ مَا
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 31 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 1 / 148 وما بعدها حاشية الدسوقي 1 / 50، روضة الطالبين 1 / 13، 16، مغني المحتاج 1 / 78، 81، مطالب أولي النهى 1 / 231 وما بعدها 234، 237، كشاف القناع 1 / 192، والمغني لابن قدامة 1 / 49.(30/64)
يَفْعَلُهُ كَثِيرُ الْخَمْرِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمُفْتَى بِهِ: أَنَّ الْعَرَقَ لَمْ يَخْرُجْ بِالطَّبْخِ وَالتَّصْعِيدِ عَنْ كَوْنِهِ خَمْرًا، فَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ، وَأَمَّا إِذَا سَكِرَ مِنْهُ فَلاَ شُبْهَةَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي بِنَجَاسَتِهِ أَيْضًا (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 162، 163.(30/64)
عُرَنَة
التَّعْرِيفُ:
1 - عُرَنَةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ، وَيُقَال أَيْضًا بَطْنُ عُرَنَةَ: وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ مِنْ جِهَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَمَكَّةَ (1) . (وَعُرَنَةُ هُوَ وَادٍ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى حَدِّ عَرَفَةَ، وَالْعَلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى حَدِّ الْحَرَمِ، فَلَيْسَ عُرَنَةُ مِنْ عَرَفَةَ، وَلاَ مِنَ الْحَرَمِ (2)) . عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ عُرَنَةَ، وَيُقَال: بَطْنُ عُرَنَةَ لَيْسَ مِنْ عَرَفَةَ وَلاَ يُجْزِئُ الْوُقُوفُ فِيهِ، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِيهِ لاَ يَصِحُّ وُقُوفُهُ وَلاَ يُجْزِئُ. وَجَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَادِي عُرَنَةَ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ، لاَ خِلاَفَ فِيهِ. نَصَّ عَلَيْهِ
__________
(1) انظر معجم البلدان: 4 / 111 ومعجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع تأليف عبد الله البكري الأندلسي: 3: 935 (طبع عالم الكتب) والمجموع 8 / 109 المسلك المتقسط 1 / 140، 141 مع حاشية إرشاد الساري
(2) حاشية الدسوقي 2 / 38.(30/65)
الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْوَاقِفَ فِيهِ لَمْ يَقْضِهِ بِعَرَفَةَ (2) .
__________
(1) حديث: " كل عرفات موقف ". أخرجه أحمد (4 / 82) من حديث جبير بن مطعم وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 24) وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات.
(2) ابن عابدين 2 (173 - 176) ، حاشية الدسوقي 2 / 38، المجموع للنووي 8 / 106، 107، والمغني 3 / 410.(30/65)
عُرُوضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُرُوضُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ عَرْضٍ، وَمِنْ مَعَانِي الْعَرْضِ بِالسُّكُونِ فِي اللُّغَةِ الْمَتَاعُ، قَالُوا: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَيْنٌ وَمَا سِوَاهُمَا عَرْضٌ، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوضُ هِيَ: الأَْمْتِعَةُ الَّتِي لاَ يَدْخُلُهَا كَيْلٌ، وَلاَ وَزْنٌ، وَلاَ يَكُونُ حَيَوَانًا وَلاَ عَقَارًا.
وَالْعَرَضُ - بِالْفَتْحِ - يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا مَتَاعُ الدُّنْيَا، وَحُطَامُهَا، فَفِي الأَْثَرِ: الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُل مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَفِي التَّنْزِيل: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَهُ، وَمِنْهَا: الْعَرْضُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ - هُوَ: مَا عَدَا الأَْثْمَانَ مِنَ الْمَال عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ
__________
(1) سورة الأعراف / 169.(30/66)
وَالْعَقَارِ وَسَائِرِ الْمَال، وَبِفَتْحِهَا: كَثْرَةُ الْمَال وَالْمَتَاعِ، وَسُمِّيَ عَرْضًا؛ لأَِنَّهُ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُول وَيَفْنَى.
وَقِيل:؛ لأَِنَّهُ يُعْرَضُ لِيُبَاعَ وَيُشْتَرَى تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُول بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَتَسْمِيَةِ الْمَعْلُومِ عِلْمًا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
: الْبِضَاعَةُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْبِضَاعَةِ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَال تُعَدُّ لِلتِّجَارَةِ
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْبِضَاعَةِ عَلَى الْمَال الْمَبْعُوثِ لِلاِتِّجَارِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهَا وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (3) وَحَدِيثِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ (4) وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا قَال: فِي الإِْبِل صَدَقَتُهَا، وَفِي
__________
(1) كشاف القناع 2 / 239، المغني 3 / 30.
(2) المصباح المنير، وبدائع الصنائع 6 / 87.
(3) سورة البقرة / 267.
(4) حديث سمرة: " كان يأمرنا أن نخرج الصدقة ". أخرجه أبو داود (2 / 212) ، وقال ابن حجر في التلخيص (2 / 179) : وفي إسناده جهالة.(30/66)
الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا (1) .؛ وَلأَِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّمَاءِ، بِإِعْدَادِ صَاحِبِهَا فَأَشْبَهَتِ الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ خِلْقَةً، كَالسَّوَائِمِ، وَالنَّقْدَيْنِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ ف 77 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: أبي ذر " في الإبل صدقتها وفي الغنم. . . ". أخرجه الدارقطني (2 / 101) ، وقال ابن حجر في التلخيص (2 / 179) : وإسناده غير صحيح.(30/67)
عُرْيَان
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُرْيَانُ فِي اللُّغَةِ: الْمُتَجَرِّدُ مِنْ ثِيَابِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُرْيِ، وَهُوَ خِلاَفُ اللُّبْسِ يُقَال: عَرِيَ الرَّجُل مِنْ ثِيَابِهِ يَعْرَى مِنْ بَابِ تَعِبَ عُرْيًا فَهُوَ عَارٍ وَعُرْيَانٌ، وَالْمَرْأَةُ عَارِيَّةً وَعُرْيَانَةٌ (1) . وَنَقَل ابْنُ مَنْظُورٍ: أَنَّ الْعُرْيَانَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّبْتِ الَّذِي قَدْ عَرِيَ عُرْيًا إِذَا اسْتَبَانَ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَشْفُ:
2 - الْكَشْفُ: مِنْ كَشَفَ الشَّيْءَ أَيْ: رَفَعَ عَنْهُ مَا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ، كَشَفَ اللَّهُ غَمَّهُ بِمَعْنَى: أَزَالَهُ، وَاكْتَشَفَتِ الْمَرْأَةُ: بَالَغَتْ فِي إِظْهَارِ مَحَاسِنِهَا (3) .
وَالْكَشْفُ أَعَمُّ مِنَ الْعُرْيِ.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) لسان العرب.(30/67)
السَّتْرُ:
3 - السَّتْرُ بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ سَتَرْتُ الشَّيْءَ أَسْتُرُهُ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَتَسَتَّرَ أَيْ: تَغَطَّى، وَجَارِيَةٌ مُسَتَّرَةٌ أَيْ: مُخَدَّرَةٌ.
وَالسَّتْرُ مُقَابِل الْعُرْيِ (1) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعُرْيَانِ:
أ - الاِغْتِسَال عُرْيَانًا:
4 - الاِغْتِسَال عُرْيَانًا بَيْنَ النَّاسِ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ وَكَشْفَهَا مُحَرَّمٌ إِلاَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَقَدْ رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَال: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل، وَلاَ الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ (3) أَمَّا إِذَا كَانَ خَالِيًا فَيَجُوزُ الاِغْتِسَال عُرْيَانًا، لَكِنْ قَيَّدَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الْجَوَازَ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ التَّسَتُّرُ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا (4) لِمَا
__________
(1) لسان العرب.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 363، وابن عابدين 5 / 32، تفسير القرطبي 4 / 252، 253 (وفتح الباري 1 / 385، 386) ، ومغني المحتاج 1 / 86، والمغني لابن قدامة 1 / 230، 231، وحديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك " أخرجه الترمذي (5 / 97، 98) وقال: حديث حسن.
(3) حديث: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 266) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) القرطبي 14 / 252، فتح الباري 1 / 386، المغني لابن قدامة 1 / 230 - 231.(30/68)
وَرَدَ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَال: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (1) وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَل غَدِيرًا وَعَلَيْهِ بُرْدٌ لَهُ مُتَوَشِّحًا بِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيل لَهُ، قَال: إِنَّمَا تَسَتَّرْتُ مِمَّنْ يَرَانِي وَلاَ أَرَاهُ، يَعْنِي رَبِّي وَالْمَلاَئِكَةَ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْل) ، (عَوْرَة) .
ب - دُخُول الْحَمَّامِ عُرْيَانًا:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ دُخُول الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، قَال أَحْمَدُ: إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ كُل مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إِزَارٌ فَادْخُلْهُ وَإِلاَّ فَلاَ تَدْخُل (3) وَفَصَّل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: دُخُول الرَّجُل الْحَمَّامَ مَعَ زَوْجَتِهِ أَوْ وَحْدَهُ مُبَاحٌ، وَمَعَ قَوْمٍ لاَ يَسْتَتِرُونَ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا مَعَ قَوْمٍ مُسْتَتِرِينَ فَمَكْرُوهٌ (4) .
__________
(1) حديث: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: " الله أحق أن يستحيا منه. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 304) ، والترمذي (5 / 98) ، واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حديث حسن.
(2) تفسير القرطبي 14 / 252، وانظر المراجع السابقة.
(3) ابن عابدين 5 / 32، والقوانين الفقهية ص443، 444، أسنى المطالب 1 / 72، والمغني لابن قدامة 1 / 230، 233.
(4) حاشية البناني على شرح الزرقاني 7 / 45.(30/68)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَمَّام) (وَعَوْرَة) .
ج - الصَّلاَةُ عُرْيَانًا:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ (1) وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ فَرْضٌ (2) فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ دُونَهُ، أَيْ عُرْيَانًا. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ بِجَمَاعَةٍ، فِي خَلْوَةٍ أَوْ بَيْنَ النَّاسِ، فِي ضَوْءٍ أَوْ فِي ظَلاَمٍ (3) ، وَهَذَا الشَّرْطُ لِمَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَوَاجِدًا لِلثِّيَابِ، فَلَوْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ قَادِرًا وَوَاجِدًا لِلسَّاتِرِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَالدَّلِيل عَلَى اشْتِرَاطِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَةِ الْعُرْيَانِ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (4) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ (5) . وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي مَا يَسْتُرُ بِهِ
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 1 / 466، وفتح القدير لابن الهمام مع الهداية 1 / 260، 273، وابن عابدين 1 / 380، وشرح الزرقاني 1 / 173، 179، ومغني المحتاج 1 / 184، 185، وكشاف القناع 1 / 263، 264.
(2) مراقي الفلاح ص114.
(3) نفس المراجع.
(4) سورة الأعراف / 31.
(5) مغني المحتاج 1 / 184.(30/69)
عَوْرَتَهُ، فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا؛ لأَِنَّ اشْتِرَاطَ السَّتْرِ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ مُقَيَّدٌ بِالْقُدْرَةِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة، وَصَلاَة) .
كَيْفِيَّةُ الصَّلاَةِ عُرْيَانًا:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ (2) ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا أَوْ جَالِسًا وَرَكَعَ وَسَجَدَ بِالأَْرْضِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّ الأَْوَّل أَفْضَل؛ لأَِنَّ السَّتْرَ وَجَبَ لِحَقِّ الصَّلاَةِ وَحَقِّ النَّاسِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 35) .
8 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ لِلْعُرَاةِ:
فَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْجَمَاعَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلْعُرَاةِ، وَبِهِ قَال قَتَادَةُ؛ لأَِنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةُ الرَّجُل فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ وَحْدَهُ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 1 / 42، 185، وجواهر الإكليل 1 / 43، ومغني المحتاج 1 / 185، وكشاف القناع 1 / 272.
(2) الهداية مع شروحها 1 / 185، وكشاف القناع 1 / 172.
(3) المرجعان السابقان، والمغني لابن قدامة 1 / 596.(30/69)
سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) عَامٌّ فِي كُل مُصَلٍّ، وَلاَ تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهَا فِي الْمَوْقِفِ، كَمَا لَوْ كَانُوا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامُهُمْ، قَال الْبُهُوتِيُّ وَتُصَلِّي الْعُرَاةُ جَمَاعَةً وُجُوبًا (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ جَمَاعَتِهِمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا صَلَّوْا بِالْجَمَاعَةِ يَتَوَسَّطُهُمْ إِمَامُهُمْ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُمَا (3) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ: وَيُرْسِل كُل وَاحِدٍ رِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ فَخِذَيْهِ يُومِئُ إِيمَاءً (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْعُرْيَانَ يُصَلِّي قَائِمًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَإِنِ اجْتَمَعَ الْعُرَاةُ الْعَاجِزُونَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ بِظَلاَمٍ لِلَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً كَالْمَسْتُورِينَ فِي تَقْدِيمِ إِمَامِهِمْ وَاصْطِفَافِهِمْ خَلْفَهُ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِظَلاَمٍ تَفَرَّقُوا لِلصَّلاَةِ وُجُوبًا وَصَلَّوْا فُرَادَى، وَإِلاَّ أَعَادُوا بِوَقْتٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَفَرُّقُهُمْ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ مِنْ نَحْوِ
__________
(1) حديث: " صلاة الرجل في الجماعة تزيد. . . ". أخرجه مسلم (1 / 451) من حديث ابن عمر.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 596، 597، وكشاف القناع 1 / 273.
(3) ابن عابدين 1 / 380، والمغني لابن قدامة 1 / 596، 597.
(4) فتح القدير مع الهداية 1 / 185.(30/70)
سَبُعٍ، أَوْ خَوْفٍ عَلَى مَالٍ مِنَ الضَّيَاعِ، أَوْ لِضِيقِ مَكَانٍ كَسَفِينَةٍ، صَلَّوْا قِيَامًا رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ صَفًّا وَاحِدًا غَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ، إِمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ فِي الصَّفِّ غَيْرُ مُتَقَدَّمٍ عَلَيْهِمْ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْعُرْيَانِ الْعَاجِزِ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ قَوْلاَنِ وَوَجْهٌ، وَقِيل: ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: يُصَلِّي قَائِمًا، وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَالثَّانِي: يُصَلِّي قَاعِدًا، وَهَل يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَمْ يُومِئُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ (2) ، وَلَوْ حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْعُرَاةِ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَيَقِفُ إِمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ، وَهَل يُسَنُّ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ، أَمِ الأَْصَحُّ أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى؟ قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ: الاِنْفِرَادُ أَفْضَل، وَالْجَدِيدُ: الْجَمَاعَةُ أَفْضَل، قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ مَا حَكَاهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَالاِنْفِرَادَ سَوَاءٌ (3) ، وَهَذَا إِذَا كَانُوا بِحَيْثُ يَتَأَتَّى نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانُوا عُمْيًا، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ اسْتُحِبَّتْ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ بِلاَ خِلاَفٍ (4) .
وَبَيَانُ مَا يُعْتَبَرُ سَاتِرًا لِلْعَوْرَةِ مِنَ الثِّيَابِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 43، والحطاب 1 / 507.
(2) روضة الطالبين 1 / 122.
(3) روضة الطالبين 1 / 285.
(4) نفس المرجع.(30/70)
وَغَيْرِهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة) .
هَل يُعِيدُ الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ سَاتِرًا بَعْدَ الصَّلاَةِ؟
9 - إِذَا صَلَّى الْعَاجِزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عُرْيَانًا، ثُمَّ وَجَدَ مَا يَسْتُرُهَا بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا فَهَل يُعِيدُ الصَّلاَةَ أَمْ لاَ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: يُعِيدُ الصَّلاَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَال الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال: هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَل الْبُهُوتِيُّ عَنِ الرِّعَايَةِ: أَنَّهُ هُوَ الأَْقْيَسُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
الثَّانِي: تَمَّتْ صَلاَتُهُ وَلاَ يُعِيدُهَا، وَهَذَا قَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
الطَّوَافُ عُرْيَانًا:
10 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ حَتَّى لَوْ طَافَ عُرْيَانًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ (2) كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ كَمَا فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ طَافَ عُرْيَانًا مَعَ الْقُدْرَةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 466، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 179، ومغني المحتاج 1 / 185، وكشاف القناع 1 / 272.
(2) فتح القدير مع الهداية 2 / 249، والبدائع 2 / 129.(30/71)
عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ (1) ، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى شَرْطِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى فِي الطَّوَافِ (2) . وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ شَرَطُوا سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ (3) .
عَزْفٌ
انْظُرْ: مَعَازِفُ.
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 79، مناهج الطالبين ص 103.
(2) الشرح الصغير 2 / 346.
(3) كشاف القناع 2 / 485.(30/71)
عَزْل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَزْل لُغَةً: التَّنْحِيَةُ، يُقَال: عَزَلَهُ عَنِ الأَْمْرِ أَوِ الْعَمَل أَيْ: نَحَّاهُ عَنْهُ (1) .
وَيُقَال: عَزَل عَنِ الْمَرْأَةِ وَاعْتَزَلَهَا: لَمْ يُرِدْ وَلَدَهَا.
قَال الْجَوْهَرِيُّ الْعَزْل: عَزْل الرَّجُل الْمَاءَ عَنْ جَارِيَتِهِ إِذَا جَامَعَهَا لِئَلاَّ تَحْمِل (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْل مِنْ أَحْكَامٍ:
عَزْل الإِْمَامِ مِنْ قِبَل مَنْ بَايَعَهُ:
2 - تَنْعَقِدُ الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى بِبَيْعَةِ الأُْمَّةِ - مُمَثَّلَةً بِأَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ - لِلإِْمَامِ الَّذِي تَتَوَافَرُ فِيهِ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ.
وَيُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الإِْمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُول بِزَوَالِهَا، إِلاَّ الْعَدَالَةَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَال الْعَدَالَةِ عَلَى مَنْصِبِ الإِْمَامَةِ.
وَتَفْصِيل
__________
(1) مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي 3 / 266، والصحاح للجوهري 5 / 1763، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.
(2) لسان العرب.(30/72)
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12) .
عَزْل الإِْمَامِ نَفْسَهُ:
3 - عَزْل الإِْمَامِ نَفْسَهُ يَعْنِي اسْتِعْفَاءَهُ أَوِ اسْتِقَالَتَهُ مِنَ الإِْمَامَةِ.
وَقَدْ حَصَل الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الأَْوَّل - جَوَازُ ذَلِكَ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ: وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ وَتَنَازَل عَنِ الْخِلاَفَةِ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا تَمَّتْ لَهُ الْبَيْعَةُ أَقَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَسْتَقْبِل النَّاسَ وَيَقُول: قَدْ أَقَلْتُكُمْ فِي بَيْعَتِي، هَل مِنْ كَارِهٍ؟ هَل مِنْ مُبْغِضٍ؟ وَلَوْلاَ جَوَازُهَا لَمَا قَال ذَلِكَ.
الثَّانِي - عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَةَ انْعَقَدَتْ لَهُ مِنْ قِبَل أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، فَصَارَ الْعَقْدُ لاَزِمًا، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ إِلاَّ بَعْدَ صُدُورِ قَرَارٍ مِنْهُمْ بِعَزْلِهِ (1)
عَزْل الْوَزِيرِ:
4 - لاَ يَجُوزُ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ،
وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص25.(30/72)
وَهَل عَزْل الإِْمَامِ لِلْوَزِيرِ يُؤَثِّرُ عَلَى عَزْل عُمَّالِهِ وَوُلاَتِهِ؟
الْوَزَارَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ - وَزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوَزَارَةِ تَنْفِيذٍ. . فَإِذَا عَزَل الإِْمَامُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ لَمْ يَنْعَزِل بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْوُلاَةِ، أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ - فَعَزْلُهُ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ يَكُونُ سَبَبًا لِعَزْل عُمَّال التَّنْفِيذِ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِعَزْل عُمَّال التَّفْوِيضِ؛ لأَِنَّ عُمَّال التَّفْوِيضِ وُلاَةٌ، وَعُمَّال التَّنْفِيذِ نُوَّابٌ (1) .
عَزْل الْقَاضِي:
أَوَّلاً - عَزْل الْقَاضِي نَفْسَهُ:
5 - إِذَا رَغِبَ الْقَاضِي اعْتِزَال مَنْصِبِ الْقَضَاءِ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ هُوَ - بِأَنْ يَقُول عَزَلْتُ نَفْسِي عَنِ الْقَضَاءِ، أَوْ أَنَا مَعْزُولٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ كَتَبَ بِذَلِكَ لِلإِْمَامِ بِسَبَبٍ أَوْ دُونَ سَبَبٍ - صَحَّ ذَلِكَ وَصَارَ مَعْزُولاً؛ لأَِنَّهُ بِمَثَابَةِ الْوَكِيل، وَلِلْوَكِيل عَزْل نَفْسِهِ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يَعْتَزِل بَعْدَ سَمَاعِ الإِْمَامِ بِذَلِكَ لاَ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَ وُصُول كِتَابِهِ إِلَيْهِ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ - فَقَيَّدُوا ذَلِكَ بِشَرْطِ عَدَمِ تَعَلُّقِ حَقٍّ لأَِحَدٍ فِي قَضَائِهِ حَتَّى لاَ يُؤَدِّيَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص25.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 318، وتبصرة الحكام 1 / 62 ط. بيروت، القليوبي 4 / 299، وكشاف القناع 6 / 294.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 318.(30/73)
انْعِزَالُهُ إِلَى حُصُول ضَرَرٍ لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ (1) .
ثَانِيًا - عَزْلُهُ بِمَوْتِ الإِْمَامِ أَوْ بِعَزْلِهِ عَنِ الإِْمَامَةِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ انْعِزَال الْقَاضِي بِمَوْتِ الإِْمَامِ الَّذِي وَلاَّهُ الْقَضَاءَ أَوْ عَزَلَهُ، سَوَاءٌ أَظْهَرَهُمْ تَقْلِيدَهُ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِ أَوْ بَقَائِهِ فِي الإِْمَامَةِ أَمْ أَطْلَقَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَانِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ، وَبِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الإِْمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّل مِنَ الْحُكَّامِ وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ إِلَى أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ الثَّانِي حُكَّامًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَل لِمَصْلَحَةِ الإِْمَامِ، بَل لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
ثَالِثًا - عَزْل الْقَاضِي مِنْ قِبَل الإِْمَامِ:
7 - إِذَا كَانَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ مُتَوَفِّرَةً فِي الْقَاضِي، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ عَزْلَهُ فَهَل يَمْلِكُ الإِْمَامُ عَزْلَهُ أَمْ لاَ؟ .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 62 ط. بيروت.
(2) البدائع 7 / 16، الخرشي 7 / 144، مغني المحتاج 4 / 383، المغني 7 / 103.(30/73)
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَمْلِكُ الإِْمَامُ عَزْلَهُ مُطْلَقًا، فَإِذَا عَزَلَهُ نَفَذَ عَزْلُهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ، دُونَ حُصُول إِثْمٍ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَدُ رَأْيَيِ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَعْزِلُونَ قُضَاتَهُمْ، وَلَوْلاَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ لَمَا فَعَلُوهُ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: يُمْكِنُ لِلإِْمَامِ عَزْل الْقَاضِي لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ التَّالِيَةِ:
أ - حُصُول خَلَلٍ مِنْهُ وَلَوْ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ.
ب - أَنْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ خَلَلٌ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ تَحْصِيلاً لِتِلْكَ الْمَزِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
ج - أَنْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ خَلَلٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَفْضَل مِنْهُ بَل مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، وَلَكِنْ فِي عَزْلِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَتَسْكِينِ فِتْنَةٍ.
أَمَّا إِنْ عَزَلَهُ دُونَ حُصُول هَذِهِ الأَْسْبَابِ فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَهَل يَنْفُذُ عَزْلُهُ أَمْ لاَ؟ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُرَاعَاةً لأَِمْرِ الإِْمَامِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَنْفُذُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 317، بدائع الصنائع 7 / 16، والمغني لابن قدامة 9 / 103 ط. بيروت.(30/74)
ثَانِيهِمَا: عَدَمُ النَّفَاذِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْخَلَل وَعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ.
وَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَزْلُهُ إِنْ تَحَقَّقَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي بَقَائِهِ وَيُسْتَحَبُّ إِنْ خُشِيَ مَفْسَدَتُهُ (1) . الرَّأْيُ الثَّالِثُ: عَدَمُ جَوَازِ عَزْلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الرَّأْيُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ لَهُ أَمْرٌ تَعُودُ مَصْلَحَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَمْلِكِ الإِْمَامُ عَزْلَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ (2) .
اسْتِيلاَءُ الْبَاغِي عَلَى السُّلْطَةِ هَل يُؤَدِّي إِلَى عَزْل الْقُضَاةِ؟
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْقُضَاةَ لاَ يَنْعَزِلُونَ بِمُجَرَّدِ اسْتِيلاَءِ الْبَاغِي، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ عَزَلَهُمُ انْعَزَلُوا وَلاَ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُمْ.
وَإِذَا انْهَزَمَ الْبَاغِي وَعَادَ السُّلْطَانُ الْعَدْل لِلْحُكْمِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ ثَانِيًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 381، وأدب القاضي لابن أبي الدم 1 / 150.
(2) انظر المغني 9 / 103، والمبدع 10 / 16، الخرشي 7 / 146.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 307.(30/74)
تَعْلِيقُ عَزْل الْقَاضِي عَلَى شَرْطٍ:
9 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ تَعْلِيقُ عَزْل الْقَاضِي عَلَى شَرْطٍ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ انْعَزَل قِيَاسًا عَلَى تَعْلِيقِ تَقْلِيدِهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا كَتَبَ الإِْمَامُ لِلْقَاضِي كِتَابًا يَتَضَمَّنُ تَعْلِيقَ عَزْلِهِ عَلَى قِرَاءَتِهِ لِلْكِتَابِ، كَأَنْ قَال لَهُ: إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتَ مَعْزُولٌ، فَقَرَأَهُ أَوْ طَالَعَهُ فَفَهِمَ مَا فِيهِ، انْعَزَل لِوُجُودِ الصِّفَةِ، قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَزِل؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ إِعْلاَمُهُ بِالْعَزْل لاَ قِرَاءَتُهُ بِنَفْسِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل نَظَرًا لِصُورَةِ اللَّفْظِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ التَّقْلِيدِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَال: إِنْ قُتِل زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِل جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 305، ومغني المحتاج 3 / 382
(2) حديث: " إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 510) من حديث عبد الله بن عمر.(30/75)
رَابِعًا: عَزْل الْقَاضِي لِفِقْدَانِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صَلاَحِيَّتِهِ لِلْقَضَاءِ:
10 - لِلْقَاضِي شُرُوطٌ يَنْبَغِي أَنْ تَتَحَقَّقَ فِي الشَّخْصِ الْمُزْمَعِ تَعْيِينُهُ فِي مَنْصِبِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَفِي عَزْل الْقَاضِي التَّفْصِيل الآْتِي:
أ - الْجُنُونُ:
11 - الْجُنُونُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ كَانَ مُطْبِقًا - فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى انْعِزَال الْقَاضِي (1) . وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ قَدْرِ الْمُدَّةِ لاِسْتِمْرَارِهِ حَتَّى يَكُونَ مُطْبِقًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُون ف 8) .
أَمَّا الْمُتَقَطِّعُ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْعَزِل بِالْجُنُونِ وَإِنْ قَل الزَّمَنُ (2) .
ب - الإِْغْمَاءُ:
12 - لِلْفُقَهَاءِ فِي عَزْل الْقَاضِي بِالإِْغْمَاءِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَنْعَزِل الْقَاضِي بِهِ - وَإِنْ قَل الزَّمَنُ - وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 38، والخرشي 7 / 138، ومغني المحتاج 4 / 380، والمغني لابن قدامة 9 / 104.
(2) القليوبي 4 / 294.
(3) مغني المحتاج 4 / 38، والبجيرمي على المنهج 4 / 347، والقليوبي وعميرة 4 / 299.(30/75)
وَثَانِيهِمَا - عَدَمُ عَزْلِهِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
ج - الرِّدَّةُ:
13 - الرِّدَّةُ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِعَزْل الْقَاضِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ تَوَلِّيهِ الْقَضَاءَ الإِْسْلاَمَ، فَإِذَا ارْتَدَّ الْقَاضِي فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ التَّوْلِيَةِ وَوَجَبَ عَزْلُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (2) وَلاَ سَبِيل أَعْظَمُ مِنَ الْقَضَاءِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: عَدَمُ عَزْل الْقَاضِي بِالرِّدَّةِ إِلاَّ أَنَّ مَا قَضَى بِهِ فِي حَال الرِّدَّةِ بَاطِلٌ.
الثَّانِيَةُ: يَنْعَزِل بِالرِّدَّةِ، كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّ أَرْبَعَ خِصَالٍ إِذَا حَلَّتْ بِالْقَاضِي انْعَزَل: فَوَاتُ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ أَوِ الْعَقْل أَوِ الدِّينِ (3) .
د - الْفِسْقُ:
14 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَزْل الْقَاضِي بِسَبَبِ الْفِسْقِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 304، والشرح الصغير 2 / 331، منتهى الإرادات 3 / 465.
(2) سورة النساء / 141.
(3) ابن عابدين 4 / 304.(30/76)
الأَْوَّل: اعْتِبَارُهُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ عَزْلِهِ، وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِذْ قَال بِهِ كُل مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ الْكَمَال وَابْنُ مَلَكٍ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي يَشْهَدُ فِي قَضِيَّةٍ مُنْفَرِدَةٍ، فَاشْتِرَاطُهَا فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِي كُل قَضِيَّةٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى (1) .
الثَّانِي: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْفِسْقِ سَبَبًا لِلْعَزْل، وَهُوَ مُقَابِل مَا سَبَقَ مِنْ رَأْيَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
هـ - الرِّشْوَةُ:
15 - أَخْذُ الرِّشْوَةِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا كَوْنُهَا سَبَبًا لِعَزْل الْقَاضِي أَوْ عَدَمِ عَزْلِهِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِشْوَة ف 18، 19) .
و الْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنْ مُزَاوَلَةِ الْقَضَاءِ:
16 - الْمَرَضُ الْمُؤَقَّتُ - وَهُوَ مَا يُرْجَى زَوَالُهُ - لاَ يَنْعَزِل بِهِ الْقَاضِي، أَمَّا الدَّائِمُ - وَهُوَ مَا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنْ كَانَ يُعْجِزُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 363، 419، وفتح القدير 6 / 357، وتبصرة الحكام 1 / 62، ومغني المحتاج 4 / 381، والمغني 9 / 104.(30/76)
عَنِ النَّهْضَةِ وَالْحُكْمِ يَنْعَزِل بِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ النَّهْضَةِ دُونَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْعَزِل (1) ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: يَنْعَزِل بِهِ الْقَاضِي عَنِ الْقَضَاءِ، وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ عَزْلُهُ دُونَ تَفْصِيلٍ (2) .
ز - الْعَمَى:
17 - إِذَا عُيِّنَ الْقَاضِي وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ فَالْفُقَهَاءُ يَرَوْنَ انْعِزَالَهُ؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُقِرَّ مِنَ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالشَّاهِدَ مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ وَلأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بَصِيرًا، مَعَ أَنَّهُ يَشْهَدُ فِي أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْبَصَرِ وَرُبَّمَا أَحَاطَ بِحَقِيقَةِ عِلْمِهَا، وَالْقَاضِي وِلاَيَتُهُ عَامَّةٌ، وَيَحْكُمُ فِي قَضَايَا النَّاسِ عَامَّةً، فَإِذَا لَمْ تُقْبَل مِنَ الأَْعْمَى الشَّهَادَةُ فَالْقَضَاءُ مِنْ بَابِ أَوْلَى (3) .
ح - الصَّمَمُ:
18 - وَفِي الصَّمَمِ يَجْرِي مَا وَرَدَ فِي الْعَمَى؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ الأَْصَمَّ لاَ يَسْمَعُ قَوْل الْخَصْمَيْنِ وَلاَ إِفَادَةَ الشُّهُودِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 380.
(2) المغني 9 / 104.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 388، وفتح القدير 6 / 357، والخرشي 7 / 40، ومغني المحتاج 4 / 380، والمغني 9 / 40، وكشاف القناع 6 / 291.(30/77)
الأَْطْرَشَ - وَهُوَ مَنْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ الْقَوِيَّ - يَصِحُّ قَضَاؤُهُ (1) .
ط - الْبُكْمُ:
19 - إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي الْخَرَسُ اسْتَلْزَمَ عَزْلَهُ - كَمَا سَبَقَ فِي الْعَمَى سَوَاءٌ أَفْهَمَتْ إِشَارَتُهُ أَمْ لَمْ تُفْهِمْ؛ لأَِنَّ فِيهِ مَشَقَّةً لِلْخُصُومِ وَالشُّهُودِ، لِتَعَسُّرِ فَهْمِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ؛ وَلأَِنَّ إِشَارَتَهُ لاَ يَفْهَمُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ (2)
ى - كَثْرَةُ شَكَاوَى الْمُتَرَافِعِينَ عَلَيْهِ:
20 - إِذَا كَثُرَتِ الشَّكْوَى ضِدَّ قَاضٍ مِنَ الْقُضَاةِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتُهِرَ بِالْعَدَالَةِ، قَال مُطَرِّفٌ: لاَ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ عَزْلُهُ، وَإِنْ وَجَدَ عِوَضًا مِنْهُ، فَإِنَّ فِي عَزْلِهِ إِفْسَادًا لِلنَّاسِ عَلَى قُضَاتِهِمْ، وَقَال أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْزِلَهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا إِذَا وَجَدَ مِنْهُ بَدَلاً؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِصْلاَحًا لِلنَّاسِ، يَعْنِي لِمَا ظَهَرَ مِنَ اسْتِيلاَءِ الْقُضَاةِ وَقَهْرِهِمْ، فَفِي ذَلِكَ كَفٌّ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ فَلْيَعْزِلْهُ إِذَا وَجَدَ بَدَلاً مِنْهُ، وَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الشَّكِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَدَلاً مِنْهُ كَشَفَ عَنْ حَالِهِ وَصِحَّةِ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ
__________
(1) المراجع السابقة، الفتاوى الهندية 3 / 307، 318، والخرشي 7 / 140، والمغني 9 / 40.
(2) المراجع السابقة.(30/77)
رِجَالٍ ثِقَاتٍ يَسْتَفْسِرُونَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْل بَلَدِهِ، فَإِنْ صَدَّقُوا ذَلِكَ عَزَلَهُ
وَإِنْ قَال أَهْل بَلَدِهِ: مَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ خَيْرًا أَبْقَاهُ وَنَظَرَ فِي أَحْكَامِهِ الصَّادِرَةِ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ أَمْضَاهُ، وَمَا خَالَفَ رَدَّهُ، وَأَوَّل ذَلِكَ خَطَأً لاَ جَوْرًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ عَزْلُهُ لِذَلِكَ لَكِنْ قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: يَجِبُ عَزْلُهُ (2) .
الْقَرَارُ بِعَزْل الْقَاضِي:
21 - إِذَا فَقَدَ الْقَاضِي شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَحِيَةِ لِلْقَضَاءِ، أَوْ طَرَأَ سَبَبٌ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ أَوِ الْمُبَرِّرَةِ لِعَزْلِهِ، فَفِي عَزْلِهِ بِذَلِكَ أَوِ انْعِزَالِهِ التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ بِالْقَاضِي وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ صَارَ مَعْزُولاً: ذَهَابُ الْبَصَرِ، وَذَهَابُ السَّمْعِ، وَذَهَابُ الْعَقْل، وَالرِّدَّةُ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ عَدْلاً فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ اسْتَحَقَّ الْعَزْل، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. . . وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ عَزْلُهُ، وَقِيل: إِذَا وَلَّى عَدْلاً ثُمَّ فَسَقَ انْعَزَل؛ لأَِنَّ عَدَالَتَهُ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 62.
(2) مغني المحتاج 4 / 376، 381.(30/78)
مَشْرُوطَةٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ مُوَلِّيَهُ اعْتَمَدَهَا فَيَزُول بِزَوَالِهِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ الْفَتْوَى: أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِالرِّدَّةِ أَيْضًا فَإِنَّ الْكُفْرَ لاَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْقَضَاءِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ هَل يَنْعَزِل الْقَاضِي بِفِسْقِهِ أَوْ حَتَّى يَعْزِلَهُ الإِْمَامُ؟
قَال الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ عَزْلِهِ، وَهُوَ قَوْل أَصْبَغَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَصَّارِ: أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ بَعْدَ وِلاَيَتِهِ انْفَسَخَ عَقْدُ وِلاَيَتِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا فَقَدَ الْقَاضِي شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْقَضَاءِ كَأَنْ جُنَّ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ انْعَزَل بِذَلِكَ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِذَا عَزَل الإِْمَامُ الْقَاضِيَ بِنَحْوِ كَثْرَةِ الشَّكْوَى مَثَلاً فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُ خَبَرُ الْعَزْل لِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَا يَمْنَعُ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ ابْتِدَاءً يَمْنَعُهَا دَوَامًا إِذَا طَرَأَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِفِسْقٍ أَوْ زَوَال عَقْلٍ، فَيَنْعَزِل بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ وُجُودَ الْعَقْل وَالْعَدَالَةِ وَنَحْوِهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 304، والفتاوى الهندية 3 / 316.
(2) التبصرة 1 / 62.
(3) روضة الطالبين 11 / 125 - 126، مغني المحتاج 4 / 380 - 382.(30/78)
الْوِلاَيَةِ، فَتَبْطُل بِزَوَالِهِ لِفَقْدِ شَرْطِهَا، إِلاَّ فَقْدَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ (أَيِ الْقَاضِي) فِي حَال سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَتَّى عَمِيَ أَوْ طَرِشَ، فَإِنَّ وِلاَيَةَ حُكْمِهِ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَلَوْ مَرِضَ مَرَضًا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ تَعَيَّنَ عَزْلُهُ، وَقَال الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ: يَنْعَزِل بِذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الإِْمَامِ عَزْلُهُ (1) .
زَوَال أَسْبَابِ عَزْل الْقَاضِي:
22 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْقَاضِي سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ انْعِزَالِهِ، ثُمَّ زَال هَذَا السَّبَبُ وَعَادَتْ إِلَى الْقَاضِي أَهْلِيَّتُهُ لِلْقَضَاءِ لَمْ تَعُدْ وِلاَيَتُهُ بِلاَ تَوْلِيَةٍ فِي الأَْصَحِّ كَالْوَكَالَةِ؛ وَلأَِنَّ الشَّيْءَ إِذَا بَطَل لَمْ يَنْقَلِبْ إِلَى الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ زَال الْمَانِعُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ، كَالأَْبِ إِذَا جُنَّ، ثُمَّ أَفَاقَ أَوْ فَسَقَ ثُمَّ تَابَ (2)
عِلْمُ الْقَاضِي بِالْعَزْل:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْعَزْل لاَ يُعْتَبَرُ نَافِذًا بِمُجَرَّدِ الْعَزْل،
__________
(1) كشاف القناع 6 / 297.
(2) مغني المحتاج 4 / 381.(30/79)
بَل لاَ بُدَّ مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ لاَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ (1) ، فَلَوْ أَصْدَرَ حُكْمًا بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَبْل بُلُوغِهِ خَبَرُ الْعَزْل نَفَذَ حُكْمُهُ، إِذْ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ عَظِيمُ ضَرَرٍ عَلَى النَّاسِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ: عَزَلْتُكَ، أَوْ أَنْتَ مَعْزُولٌ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَنْعَزِل مَا لَمْ يَأْتِهِ الْكِتَابُ (3) .
الآْثَارُ الْقَضَائِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ عَزْلِهِ:
24 - فِي الآْثَارِ الْقَضَائِيَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَزْلِهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء)
عَزْل خَلِيفَةِ الْقَاضِي:
25 - إِنْ أَذِنَ الإِْمَامُ لِلْقَاضِي بِالاِسْتِخْلاَفِ فَإِنَّ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ الْقَاضِي لاَ يَنْعَزِل بِمَوْتِهِ أَوِ انْعِزَالِهِ، وَلاَ بِإِصْدَارِ أَمْرٍ مِنَ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا لَوْ فَوَّضَ لَهُ الْعَزْل فَإِنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَهُ (4) .
وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْلِيَتَهُ تُعْتَبَرُ مِنْ قِبَل
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 317، وتبصرة الحكام 1 / 62، والخرشي 7 / 143، ومغني المحتاج 4 / 382، والمبدع 10 / 17.
(2) مغني المحتاج 4 / 382.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 317، مغني المحتاج 4 / 382.
(4) البدائع 7 / 16، الفتاوى الهندية 3 / 317 - 318.(30/79)
السُّلْطَانِ نَفْسِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَهُ (1)
وَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيل خِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي: (اسْتِخْلاَفٌ، وَقَضَاءٌ) .
عَزْل الْحَكَمِ أَوِ الْمُحَكَّمِ:
26 - مَنْ وَلاَّهُ خَصْمَانِ لِيَكُونَ مُحَكَّمًا بَيْنَهُمَا، يَنْعَزِل بِأُمُورٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَحْكِيم فِقْرَةُ 41) .
عَزْل الْوَكِيل:
27 - عَقْدُ الْوَكَالَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ - أَيْ غَيْرِ الْمُلْزِمَةِ - لأَِيٍّ مِنَ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل، إِذِ الثَّانِي مُتَبَرِّعٌ، وَالأَْوَّل قَدْ لاَ يَسْتَسِيغُ تَصَرُّفَ وَكِيلِهِ فَيُمْكِنُهُ الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ عَزْل الْوَكِيل عَنِ الْوَكَالَةِ قَدْ يَقَعُ مِنَ الْوَكِيل نَفْسِهِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ مُوَكِّلِهِ
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ وَغَيْرِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة) .
عَزْل الْوَصِيِّ:
28 - يَكُونُ عَزْل الْوَصِيِّ بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ عَنِ الْوِصَايَةِ أَوْ بِعَزْلِهِ مِنْ قِبَل الْمُوصِي، أَوْ بِحُدُوثِ خَلَلٍ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 316(30/80)
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِيصَاء فِقْرَةُ 18 وَوَصِيَّة) .
عَزْل الْمُضَارِبِ:
29 - الْمُضَارَبَةُ: عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ تَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَبُّ مَالٍ وَالآْخَرُ عَامِلٌ - وَالْمُضَارِبُ هُوَ الْعَامِل مِنْهُمَا، وَعَزْلُهُ يَتَحَقَّقُ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لإِِنْهَاءِ الْمُضَارَبَةِ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة) .
عَزْل الْكَفِيل:
30 - الْكَفِيل هُوَ مَنْ يَضُمُّ ذِمَّتَهُ إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الْمُطَالَبَةِ بِنَفْسٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقُّ الْمَكْفُول لَهُ فِي مُطَالَبَةِ الْكَفِيل، فَلاَ بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْكَفِيل مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
وَيَنْتَهِي هَذَا الْحَقُّ بِأُمُورٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَالَة) .
عَزْل نَاظِرِ الْوَقْفِ:
31 - نَاظِرُ الْوَقْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلِيًّا أَوْ فَرْعِيًّا.
فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا فَإِنَّ عَزْلَهُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:(30/80)
1 - بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ عَنْ وِلاَيَةِ الْوَقْفِ.
2 - بِمَوْتِهِ.
3 - بِفَقْدِ شَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيهِ، وَهِيَ: الْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكَفَاءَةُ، وَالإِْسْلاَمُ (1) . وَإِنْ كَانَ فَرْعِيًّا فَفِي عَزْلِهِ خِلاَفٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
عَزْل الْمَرِيضِ عَنِ الأَْصِحَّاءِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَزْل الْمَرْضَى عَنِ الأَْصِحَّاءِ خَشْيَةَ الْعَدْوَى وَانْتِقَال الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ عَزْلِهِمْ، فَقَال بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ الْعَزْل، وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (عَدْوَى وَمَرَضٌ) .
الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ وَالأَْمَةِ:
33 - الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ وَالأَْمَةِ هُوَ أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُل حَلِيلَتَهُ، فَإِذَا قَارَبَ الإِْنْزَال نَزَعَ وَأَنْزَل خَارِجَ الْفَرْجِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ - إِمَّا الْعُزُوفُ عَنْ عُلُوقِ الْمَرْأَةِ وَتَكْوِينِ حَمْلٍ فِي رَحِمِهَا، وَإِمَّا أَسْبَابٌ صِحِّيَّةٌ تَعُودُ إِلَى الْمَرْأَةِ أَوْ إِلَى الْجَنِينِ أَوْ إِلَى الطِّفْل الرَّضِيعِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 381، وبلغة السالك 2 / 282، ومغني المحتاج 2 / 393، والمبدع 5 / 337.(30/81)
أَوَّلاً - الْعَزْل عَنِ الأَْمَةِ الْمَمْلُوكَةِ:
34 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - إِلَى جَوَازِ عَزْل السَّيِّدِ عَنْ أَمَتِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَذِنَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَقُّهُ لاَ غَيْرُ، وَكَذَا إِنْجَابُ الْوَلَدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حَقًّا لَهَا (1)
ثَانِيًا - الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ.
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: الإِْبَاحَةُ مُطْلَقًا أَذِنَتِ الزَّوْجَةُ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ، إِلاَّ أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَل وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا الاِسْتِمْتَاعُ دُونَ الإِْنْزَال، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهَا (2) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: الإِْبَاحَةُ بِشَرْطِ إِذْنِهَا، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمَالِكٍ، وَهُوَ الرَّأْيُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مَا إِذَا فَسَدَ الزَّمَانُ فَأَبَاحُوهُ دُونَ إِذْنِهَا (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالإِْبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَعْزِل عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِل، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، كُنَّا نَعْزِل عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 176، وشرح الزرقاني على الموطأ 3 / 229، والمغني بأعلى الشرح الكبير 8 / 134.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 52.
(3) ابن عابدين 2 / 379، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 14.(30/81)
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا (1)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالإِْبَاحَةِ بِشَرْطِ الاِسْتِئْذَانِ بِمَا رَوَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْزَل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (2)
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: نُهِيَ عَنْ عَزْل الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (3)
وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ: إِنْ كَانَ الْعَزْل بِدُونِ عُذْرٍ؛ فَلأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ لِتَقْلِيل النَّسْل، وَقَطْعِ اللَّذَّةِ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ إِذْ قَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوَلَدِ فَقَال: تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا (4)
وَقَال: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ
__________
(1) حديث: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 305) ومسلم (2 / 1065) من حديث جابر.
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 620) ، وضعف إسناده البوصيري في الزوائد (1 / 339) .
(3) حديث: " نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 231) وذكر ابن حجر في التلخيص (3 / 188) تضعيف أحد رواته.
(4) حديث: " تناكحوا تكثروا. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6 / 173) عن سعيد بن أبي هلال وذكر فيه ابن حجر في التلخيص (3 / 116) تضعيف أحد رواته.(30/82)
بِكُمُ الأُْمَمَ (1) وَالْعُذْرُ فِي الْعَزْل يَتَحَقَّقُ فِي الأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
1 - إِذَا كَانَتِ الْمَوْطُوءَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَتَخْشَى عَلَى الْوَلَدِ الْكُفْرَ.
2 - إِذَا كَانَتْ أَمَةً وَيَخْشَى الرِّقَّ عَلَى وَلَدِهِ.
3 - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ يُمْرِضُهَا الْحَمْل أَوْ يَزِيدُ فِي مَرَضِهَا.
4 - إِذَا خَشِيَ عَلَى الرَّضِيعِ مِنَ الضَّعْفِ.
5 - إِذَا فَسَدَ الزَّمَانُ وَخَشِيَ فَسَادَ ذُرِّيَّتِهِ.
__________
(1) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 542) من حديث معقل بن يسار، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 258) .(30/82)
عُزْلَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُزْلَةُ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِعْتِزَال (1) ، وَهُوَ تَجَنُّبُ الشَّيْءِ بِالْبَدَنِ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِالْقَلْبِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْخُرُوجُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ بِالاِنْزِوَاءِ وَالاِنْقِطَاعِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخَلْوَةُ:
2 - الْخَلْوَةُ: انْفِرَادُ الإِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ (4) .
قَال السُّهْرَوَرْدِيُّ: الْخَلْوَةُ غَيْرُ الْعُزْلَةِ، فَالْخَلْوَةُ مِنَ الأَْغْيَارِ، وَالْعُزْلَةُ مِنَ النَّفْسِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَمَا يَشْغَل عَنِ اللَّهِ، فَالْخَلْوَةُ كَثِيرَةُ الْوُجُودِ، وَالْعُزْلَةُ قَلِيلَةُ الْوُجُودِ (5) .
حُكْمُ الْعُزْلَةِ:
3 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعُزْلَةِ عِنْدَ
__________
(1) القاموس المحيط ومتن اللغة.
(2) المفردات للراغب الأصفهاني.
(3) التعريفات للجرجاني، ودستور العلماء 2 / 320.
(4) القواعد للبركتي.
(5) عوارف المعارف ص424 - 425.(30/83)
ظُهُورِ الْفِتَنِ وَفَسَادِ النَّاسِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِزَالَتِهَا بِحَسَبِ الْحَال وَالإِْمْكَانِ (1) ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعُزْلَةِ وَالاِخْتِلاَطِ: قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الاِخْتِلاَطَ بِالنَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ - أَيْ مِنْ شُهُودِ خَيْرِهِمْ دُونَ شَرِّهِمْ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ - هُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْيَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (2) .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالاِجْتِمَاعِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الاِفْتِرَاقِ وَحَذَّرَ مِنْهُ، فَقَال تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
__________
(1) عمدة القارئ 1 / 163 ط. المنيرية، والقرطبي 10 / 360، 17 / 264.
(2) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين 3 / 46 - 47 ط. الحلبي، وعمدة القاري 1 / 163.(30/83)
إِخْوَانًا} (1) وَأَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ مِنْهُمْ فَقَال عَزَّ وَجَل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} .
(2) وَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3)
وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ مِنْهَا: قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. (4)
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُخَالَطَةَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْفَوَائِدِ، وَشُهُودُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيصَال الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَإِفْشَاءُ السَّلاَمِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِعَانَةُ الْمُحْتَاجِ، وَحُضُورُ
__________
(1) سورة آل عمران / 103.
(2) سورة الأنفال / 63.
(3) سورة آل عمران / 105، وانظر: العزلة للخطابي بتحقيق ياسين محمد السواس ص53 نشر دار ابن كثير، وإحياء علوم الدين 2 / 223.
(4) حديث: " المؤمن الذي يخالط الناس. . . ". أخرجه أحمد (5 / 365) وذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية 3 / 476 وقال عن رواته: (كلهم ثقات) . وانظر: الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 476.(30/84)
جَمَاعَاتِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُل أَحَدٍ (1) .
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ وَالْعَيْنِيُّ عَنْ قَوْمٍ: تَفْضِيل الْعُزْلَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ السَّلاَمَةِ الْمُحَقَّقَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِوَظَائِفِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَمَا يُكَلَّفُ بِهِ، قَال الْكِرْمَانِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي عَصْرِنَا تَفْضِيل الاِنْعِزَال لِنُدْرَةِ خُلُوِّ الْمَحَافِل عَنِ الْمَعَاصِي (2) .
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (3) وَبِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ. (4)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْعُزْلَةِ
__________
(1) عمدة القاري 1 / 163، وفتح الباري (13 / 42 - 43) ط. السلفية.
(2) فتح الباري 13 / 42 - 43، وعمدة القاري 1 / 163.
(3) سورة مريم / 48.
(4) حديث: " أمسك عليك لسانك. . . ". أخرجه الترمذي 4 / 605، وقال: (حديث حسن) . وانظر إحياء علوم الدين 2 / 225 والعزلة ص63.(30/84)
وَالْمُخَالَطَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِ أَحَدُهُمَا
(1) وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْخَطَّابِيِّ: أَنَّ الْعُزْلَةَ وَالاِخْتِلاَطَ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقَاتِهِمَا، فَتُحْمَل الأَْدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَضِّ عَلَى الاِجْتِمَاعِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الأَْئِمَّةِ وَأُمُورِ الدِّينِ، وَعَكْسُهَا فِي عَكْسِهِ، وَأَمَّا الاِجْتِمَاعُ وَالاِفْتِرَاقُ بِالأَْبْدَانِ، فَمَنْ عَرَفَ الاِكْتِفَاءَ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ مَعَاشِهِ وَمُحَافَظَةِ دِينِهِ، فَالأَْوْلَى لَهُ الاِنْكِفَافُ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالسَّلاَمِ وَالرَّدِّ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ تَرْكُ فُضُول الصُّحْبَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُغْل الْبَال وَتَضْيِيعِ الْوَقْتِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ وَيُجْعَل الاِجْتِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الاِحْتِيَاجِ إِلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، فَيَقْتَصِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَهُوَ رُوحُ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ (2) .
قَال الْغَزَالِيُّ: إِنْ وَجَدْتَ جَلِيسًا يُذَكِّرُكَ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَسِيرَتُهُ فَالْزَمْهُ وَلاَ تُفَارِقْهُ، وَاغْتَنِمْهُ وَلاَ تَسْتَحْقِرْهُ، فَإِنَّهَا غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ وَضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ خَيْرٌ مِنَ
__________
(1) فتح الباري 13 / 43 ط السلفية.
(2) فتح الباري 1 / 332 - 333 ط. السلفية.(30/85)
الْوَحْدَةِ، وَأَنَّ الْوَحْدَةَ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السُّوءِ (1) .
آدَابُ الْعُزْلَةِ:
4 - يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ - إِذَا آثَرَ الْعُزْلَةَ - أَنْ يَعْتَقِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنِ الْخَلْقِ سَلاَمَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ، وَلاَ يَقْصِدَ سَلاَمَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الأَْوَّل نَتِيجَةُ اسْتِصْغَارِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَ شُهُودُ مَزِيَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ وَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ (2) ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الأَْذْكَارِ إِلاَّ ذِكْرَ رَبِّهِ، خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الإِْرَادَاتِ إِلاَّ رِضَا رَبِّهِ، وَخَالِيًا مِنْ مُطَالَبَةِ النَّفْسِ مِنْ جَمِيعِ الأَْسْبَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ خَلْوَتَهُ تُوقِعُهُ فِي فِتْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ (3) . وَأَنْ يَتْرُكَ الْخِصَال الْمَذْمُومَةَ؛ لأَِنَّ الْعُزْلَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ اعْتِزَال الْخِصَال الْمَذْمُومَةِ، فَالتَّأْثِيرُ لِتَبْدِيل الصِّفَاتِ لاَ لِلتَّنَائِي عَنِ الأَْوْطَانِ (4) ، وَأَنْ يَأْكُل الْحَلاَل (5) ، وَيَقْنَعَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعِيشَةِ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْجِيرَانِ، وَيَسُدَّ سَمْعَهُ عَنِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 232.
(2) الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري بتحقيق د. عبد الحليم محمود، ود. محمود بن الشريف 1 / 298 - 299 نشر دار الكتب الحديثة
(3) الرسالة القشيرية 1 / 300.
(4) الرسالة القشيرية 1 / 299.
(5) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص93.(30/85)
الإِْصْغَاءِ إِلَى مَا يُقَال فِيهِ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُزْلَةِ (1) .
وَلْيَكُنْ لَهُ أَهْلٌ صَالِحَةٌ، أَوْ جَلِيسٌ صَالِحٌ لِتَسْتَرِيحَ نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ سَاعَةً مِنْ كَدِّ الْمُوَاظَبَةِ، فَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى بَقِيَّةِ السَّاعَاتِ (2) .
وَلْيَكُنْ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلْمَوْتِ وَوَحْدَةِ الْقَبْرِ (3) .
وَلْيَلْزَمِ الْقَصْدَ فِي حَالَتَيِ الْعُزْلَةِ وَالْخُلْطَةِ؛ لأَِنَّ الإِْغْرَاقَ فِي كُل شَيْءٍ مَذْمُومٌ وَخَيْرُ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَلاَّ تَمْتَنِعَ مِنْ حَقٍّ يَلْزَمُكَ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبُوكَ بِهِ، وَأَلاَّ تَنْهَمِكَ لَهُمْ فِي بَاطِلٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْكَ وَإِنْ دَعَوْكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنِ اشْتَغَل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنِ انْحَل فِي الْبَاطِل جَمَدَ عَنِ الْحَقِّ، فَكُنْ مَعَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ، وَكُنْ بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ فِي الشَّرِّ، وَتَوَخَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ شَاهِدًا كَغَائِبٍ وَعَالِمًا كَجَاهِلٍ (4) .
كَيْفِيَّةُ الاِعْتِزَال:
5 - الاِعْتِزَال عَنِ النَّاسِ يَكُونُ مَرَّةً فِي الْجِبَال وَالشِّعَابِ، وَمَرَّةً فِي السَّوَاحِل وَالرِّبَاطِ، وَمَرَّةً فِي الْبُيُوتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِذَا كَانَتِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 243.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 243.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 244.
(4) العزلة للخطابي ص236 - 237.(30/86)
الْفِتْنَةُ فَأَخْفِ مَكَانَكَ، وَكُفَّ لِسَانَكَ (1) وَلَمْ يَخُصَّ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ.
وَقَدْ جَعَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعُزْلَةَ، اعْتِزَال الشَّرِّ وَأَهْلِهِ بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ إِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. قَال ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي تَفْسِيرِ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَكُونَ مَعَ الْقَوْمِ، فَإِذَا خَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَخُضْ مَعَهُمْ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَاسْكُتْ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: أَحْوَال النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْتَلِفُ فَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى سُكْنَى الْكُهُوفِ وَالْغِيرَانِ فِي الْجِبَال، وَهِيَ أَرْفَعُ الأَْحْوَال؛ لأَِنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ وَنَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ مُخْبِرًا عَنِ الْفِتْيَةِ فَقَال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} (3) ، وَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ الْعُزْلَةُ لَهُ فِي بَيْتِهِ أَخَفَّ عَلَيْهِ وَأَسْهَل، وَقَدِ اعْتَزَل رِجَالٌ مِنْ أَهْل بَدْرٍ فَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْل عُثْمَانَ، فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلاَّ إِلَى قُبُورِهِمْ، وَرُبَّ رَجُلٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَصْبِرُ بِهَا عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ
__________
(1) حديث: " إذا كانت الفتنة فأخف مكانك ". أورده القرطبي في تفسيره 10 / 361 ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إلى من أخرجه.
(2) تفسير القرطبي 10 / 361.
(3) سورة الكهف / 16.(30/86)
وَأَذَاهُمْ، فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفٌ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ (1) .
فَوَائِدُ الْعُزْلَةِ:
6 - قَدْ يَكُونُ لِلْعُزْلَةِ فَوَائِدُ مِنْهَا:
أ - التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ، وَالاِسْتِئْنَاسِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
ب - التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ الإِْنْسَانُ لَهَا غَالِبًا بِالْمُخَالَطَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمُسَارَقَةِ الطَّبْعِ مِنَ الأَْخْلاَقِ الرَّدِيئَةِ، وَالأَْعْمَال الْخَبِيثَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا (3) .
ج - الْخَلاَصُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ، وَصِيَانَةُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَالتَّعَرُّضِ لأَِخْطَارِهَا (4) .
د - الْخَلاَصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ (5) .
هـ - السَّلاَمَةُ مِنْ آفَاتِ النَّظَرِ إِلَى زِينَةِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 362.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 226 وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية لأبي سعيد الخادمي 4 / 46 - 47.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 228 - 231، والعزلة 101 - 102.
(4) إحياء علوم الدين 2 / 232.
(5) إحياء علوم الدين 2 / 223، العزلة للخطابي ص107 - 108.(30/87)
الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَالاِسْتِحْسَانُ لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زُخْرُفِهَا وَعَابَهُ مِنْ زَبْرَجِ غُرُورِهَا (1) .
و السَّلاَمَةُ مِنَ التَّبَذُّل لِعَوَامِّ النَّاسِ وَحَوَاشِيهِمْ وَالتَّصَوُّنُ عَنْ ذِلَّةِ الاِمْتِهَانِ مِنْهُمْ (2)
آفَاتُ الْعُزْلَةِ:
7 - قَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُسْتَفَادُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِالْمُخَالَطَةِ، فَكُل مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ يَفُوتُ بِالْعُزْلَةِ وَفَوَاتُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُزْلَةِ (3) .
__________
(1) العزلة ص103 - 104، وإحياء علوم الدين 2 / 235.
(2) العزلة ص115.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 236، وبريقة محمودية شرح طريقة محمدية 4 / 47، وعوارف المعارف للسهروردي ص 425 وما بعدها.(30/87)
عَزْم
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ، يُقَال: عَزَمَ عَلَى الشَّيْءِ، وَعَزَمَهُ عَزْمًا: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَزَمَ عَزِيمَةً وَعَزْمَةً: اجْتَهَدَ وَجَدَّ فِي أَمْرِهِ (1) وَيَأْتِي بِمَعْنَى الصَّبْرِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْتِزَامِ الأَْمْرِ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (2) وَفَسَّرَهُ الأَْلُوسِيُّ بِأَنَّهُ: تَصْمِيمُ رَأْيٍ وَثَبَاتُ قَدَمٍ فِي الأُْمُورِ (3) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ الْعَزْمَ هُوَ: الْمَيْل إِلَى الشَّيْءِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَى فِعْلِهِ (4) ، وَقَال التَّهَانُوِيُّ: الْعَزْمُ هُوَ: جَزْمُ الإِْرَادَةِ، أَيِ الْمَيْل بَعْدَ التَّرَدُّدِ الْحَاصِل مِنَ الدَّوَاعِي الْمُخْتَلِفَةِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) سورة طه / 115، وانظر القرطبي 11 / 251.
(3) روح المعاني 16 / 270.
(4) فتح الباري (11 / 327) .
(5) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.(30/88)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ:
2 - الإِْرَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَشِيئَةُ، وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَيْهِ، أَوْ هِيَ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْحَيِّ حَالاً يَقَعُ مِنْهُ الْفِعْل عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (1) .
فَالإِْرَادَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَزْمِ، حَيْثُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّصْمِيمُ عَلَى فِعْل الشَّيْءِ.
ب - النِّيَّةُ:
3 - النِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، ثُمَّ خُصَّتْ فِي غَالِبِ الاِسْتِعْمَال بِعَزْمِ الْقَلْبِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ (2) . وَعَلَى ذَلِكَ فَهِيَ أَقْرَبُ لِمَعْنَى الْعَزْمِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النِّيَّةَ: قَصْدُ الشَّيْءِ، مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ وَتَرَاخَى فَهُوَ عَزْمٌ (3) وَنَقَل التَّهَانُوِيُّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّيَّةَ وَالْعَزْمَ مُتَّحِدَانِ مَعْنًى (4) ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْل جَزْمًا (5) ، وَهَذَا
__________
(1) التعريفات.
(2) المصباح المنير.
(3) مغني المحتاج 4 / 124، وحاشية القليوبي (4 / 176) .
(4) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
(5) مراقي الفلاح ص117، والمغني لابن قدامة 3 / 94.(30/88)
هُوَ مَعْنَى الْعَزْمِ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ اسْمٌ لِلإِْرَادَةِ الْحَادِثَةِ، لَكِنَّ الْعَزْمَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْفِعْل، وَالْقَصْدُ الْمُقْتَرِنُ بِهِ، وَالنِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْفِعْل مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْمَنْوِيِّ (1) .
ج - الْهَمُّ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْهَمِّ: الإِْرَادَةُ وَالْقَصْدُ، يُقَال: هَمَمْتُ بِالشَّيْءِ هَمًّا إِذَا أَرَدْتَهُ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، وَالْهَمُّ أَوَّل الْعَزْمِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَزْمِ أَيْضًا (2) . وَيَقُول ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ الْهَمَّ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْل وَهُوَ أَنْ يَمِيل إِلَى الشَّيْءِ وَلَكِنْ لاَ يُصَمِّمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَفَوْقَهُ الْعَزْمُ، وَهُوَ: أَنْ يَمِيل إِلَيْهِ وَيُصَمِّمَ عَلَى فِعْلِهِ، فَالْعَزْمُ مُنْتَهَى الْهَمِّ، وَالْهَمُّ أَوَّل الْعَزْمِ (3) ، وَالْعَزْمُ فِيهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْل، بِخِلاَفِ الْهَمِّ، كَمَا قَال التَّهَانُوِيُّ (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ مَسَائِل الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ فِي مَسَائِل مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) ابن عابدين 1 / 72.
(2) المصباح المنير.
(3) فتح الباري 11 / 327، والمصباح المنير.
(4) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.(30/89)
أ - الثَّوَابُ أَوِ الْعِقَابُ عَلَى الْعَزْمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُعَاقَبُ عَلَى مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ مِنَ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَعْمَلْهَا أَوْ يَتَكَلَّمْ بِهَا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّمْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا (1) قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَمَّا يَقَعُ فِي النَّفْسِ حَتَّى يَقَعَ الْعَمَل بِالْجَوَارِحِ، أَوِ الْقَوْل بِاللِّسَانِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْوَسْوَسَةِ: تَرَدُّدُ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ (2) كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَفْعَلْهَا فَلاَ عِقَابَ عَلَيْهِ (3) ، بَل تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ إِذَا كَانَ قَدْ تَرَكَهَا قَادِرًا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل قَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز لي عن أمتي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 60) ومسلم (1 / 116) والرواية الأخرى هي لمسلم وللبخاري كذلك (11 / 549) .
(2) (فتح الباري 5 / 161 ط السلفية) .
(3) (فتح الباري 11 / 323) .(30/89)
إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً (1) أَمَّا الْعَزْمُ: وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْهَمِّ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْحَسَنَةِ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ حَسَنَةً قَبْل الْعَمَل بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَزْمِ عَلَى السَّيِّئَةِ قَبْل أَنْ يَعْمَل بِهَا، هَل يُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً أَمْ لاَ؟ وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُقَسَّمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مِنَ الاِعْتِقَادِيَّاتِ وَأَعْمَال الْقُلُوبِ صَرْفًا، كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْبَعْثِ، فَهَذَا كُفْرٌ، يُعَاقَبُ عَلَيْهِ جَزْمًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْمَال الْجَوَارِحِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلاَفُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ أَصْلاً، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ (2) .
ب - الْعَزْمُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الأَْدَاءِ.
__________
(1) حديث: " ومن هم بسيئة فلم يعملها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 323) .
(2) فتح الباري 11 / 317، 328، 12 / 197 في شرح حديث: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . . " والموافقات للشاطبي 2 / 235، والقليوبي 4 / 319.(30/90)
فَقَال الْجُمْهُورُ: جَمِيعُ الْوَقْتِ وَقْتٌ لأَِدَائِهِ، فَيَتَخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ، وَلاَ يُتْرَكُ فِي كُل الْوَقْتِ، لَكِنْ قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: الْوَاجِبُ فِي كُل وَقْتٍ الْفِعْل أَوِ الْعَزْمُ بَدَلاً، وَيَتَعَيَّنُ الْفِعْل آخِرًا (1) ، وَمِثْلُهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَى الْقَضَاءِ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَوْرًا فِي الْمُوَسَّعِ، وَكَذَا كُل عِبَادَةٍ مُتَرَاخِيَةٍ، يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهَا، كَالصَّلاَةِ إِذَا دَخَل وَقْتُهَا الْمُوَسَّعُ (2) وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ أَوَّلُهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ فَقَضَاءٌ، بَيْنَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَيْسَ كُل الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْوَاجِبِ بَل آخِرُهُ (3) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ
ج - الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ:
8 - قَرَّرَ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّ امْتِثَال الأَْمْرِ أَوِ النَّهْيِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْمَقْدُورِ، وَهُوَ الْفِعْل فِي الأَْمْرِ وَالْكَفُّ فِي النَّهْيِ، أَيْ: الاِمْتِنَاعُ عَنْ إِتْيَانِ الْفِعْل الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْل
__________
(1) مسلم الثبوت مع المستصفى 1 / 73.
(2) كشاف القناع 2 / 333.
(3) مسلم الثبوت 1 / 73، 74، والبدائع 1 / 95، والتلويح مع التوضيح 1 / 207.(30/90)
مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ أَوْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي حَال الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَلاَ ثَوَابَ عَلَى تَرْكِهِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
د - الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فِي التَّوْبَةِ:
9 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِتَوَفُّرِ شُرُوطٍ مِنْهَا: الْعَزْمُ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَى مِثْل الْمَعْصِيَةِ أَبَدًا (2)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَة ف 4) .
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 132.
(2) بدائع الصنائع 7 / 96، والفواكه الدواني 1 / 88، 89، وحاشية القليوبي 4 / 201، والمغني 9 / 201، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 100، وتفسير الألوسي 28 / 159.(30/91)
عَزِيمَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَزِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِجْتِهَادُ وَالْجِدُّ فِي الأَْمْرِ، وَهِيَ مَصْدَرُ عَزَمَ عَلَى الشَّيْءِ، وَعَزَمَهُ عَزْمًا: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَزَمَ عَزِيمَةً وَعَزْمَةً: اجْتَهَدَ وَجَدَّ فِي أَمْرِهِ، وَعَزِيمَةُ اللَّهِ فَرِيضَتُهُ الَّتِي افْتَرَضَهَا، وَالْجَمْعُ عَزَائِمُ (1) .
وَالْعَزِيمَةُ اصْطِلاَحًا كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ: هِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: الْعَزِيمَةُ شَرْعًا: عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ السَّالِمِ مُوجَبُهُ عَنِ الْمُعَارِضِ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّكَالِيفِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرُّخْصَةُ:
2 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، وَالإِْذْنُ فِي الأَْمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّسْهِيل فِي
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) المستصفى 1 / 98 ط. الأميرية 1322هـ.
(3) البحر المحيط 1 / 325 ط. وزارة الأوقاف - الكويت 1988م.(30/91)
الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا، إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْغَزَالِيُّ: هِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ، وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ (2) .
فَالْعَزِيمَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مُقَابِل الرُّخْصَةِ، عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هِيَ الْحُكْمُ الْمُتَغَيِّرُ عَنْهُ، وَقَدْ لاَ تَكُونُ فِي مُقَابِل الرُّخْصَةِ، عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هِيَ الْحُكْمُ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْلاً (3) ".
أَقْسَامُ الْعَزِيمَةِ:
3 - قَسَّمَ الأُْصُولِيُّونَ الْعَزِيمَةَ إِلَى أَقْسَامٍ: قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَنْقَسِمُ الْعَزِيمَةُ إِلَى فَرْضٍ وَوَاجِبٍ، وَسُنَّةٍ، وَنَفْلٍ.
وَخَصَّهَا الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ لاَ غَيْرَ، حَيْثُ قَال فِي حَدِّ الْعَزِيمَةِ: هِيَ طَلَبُ الْفِعْل الَّذِي لَمْ يَشْتَهِرْ فِيهِ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ
وَقَال: وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنَ الْعَزَائِمِ، فَإِنَّ الْعَزْمَ هُوَ الطَّلَبُ الْمُؤَكَّدُ فِيهِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير.
(2) المستصفى 1 / 98 ط. الأميرية 1322هـ.
(3) انظر شرح الإسنوي على منهاج الوصول 1 / 96 ط محمد صبيح، وفواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 116 ط الأميرية 1322.(30/92)
وَذَهَبَ الْبَيْضَاوِيُّ - صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ - إِلَى أَنَّ الْعَزِيمَةَ تَنْتَابُهَا الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ: الإِْيجَابُ، وَالنَّدْبُ، وَالتَّحْرِيمُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالإِْبَاحَةُ.
وَذَهَبَ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُول إِلَى اسْتِبْعَادِ التَّحْرِيمِ فِي تَقْسِيمِ الْبَيْضَاوِيِّ، حَيْثُ جَعَل مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ الْفِعْل الْجَائِزَ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ خَصَّ الْعَزِيمَةَ بِالْوَاجِبِ فَقَطْ، وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَالآْمِدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُنْتَهَى، حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَكَأَنَّهُمُ احْتَرَزُوا بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّذْرِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ:
4 - قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ: أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بَيْنَ الإِْتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لأَِنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ
__________
(1) كشف الأسرار 2 / 300، وفواتح الرحموت 1 / 119، والمستصفى 1 / 98، وشرح الأسنوي على منهاج الوصول 1 / 72.(30/92)
بِالإِْتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ، تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّل رَأْيَهُ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الموافقات 1 / 333، 344.(30/93)
عَسْبُ الْفَحْل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَسْبُ فِي اللُّغَةِ: طَرْقُ الْفَحْل، أَيْ: ضِرَابُهُ، يُقَال: عَسَبَ الْفَحْل النَّاقَةَ يَعْسِبُهَا.
وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَسْبُ: ضِرَابُ الْفَحْل أَوْ مَاؤُهُ أَوْ نَسْلُهُ، وَالْوَلَدُ، وَإِعْطَاءُ الْكِرَاءِ عَلَى الضِّرَابِ (1) .
وَالْفَحْل لُغَةً: الذَّكَرُ مِنْ كُل حَيَوَانٍ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الشِّرْبِينِيُّ: عَسْبُ الْفَحْل: ضِرَابُهُ، أَيْ طُرُوقُ الْفَحْل لِلأُْنْثَى، قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَصَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ عَسْبَ الْفَحْل مَاؤُهُ، وَقِيل أُجْرَةُ ضِرَابِهِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْكَافِي (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَضَامِينُ:
2 - اخْتَلَفَ اللُّغَوِيُّونَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) مغني المحتاج 2 / 30، وانظر الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 34، وكشاف القناع 3 / 166، 563.(30/93)
الْمَضَامِينِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَضَامِينَ: مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَضَامِينَ: مَا فِي بُطُونِ الإِْنَاثِ (1) .
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْمَضَامِينِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْمَضَامِينَ: مَا فِي بُطُونِ إِنَاثِ الدَّوَابِّ
(3) ب - الْمَلاَقِيحُ:
3 - اخْتَلَفَ اللُّغَوِيُّونَ فِي مَعْنَى الْمَلاَقِيحِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَلاَقِيحَ مَا فِي بُطُونِ الإِْنَاثِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَلاَقِيحَ مَا فِي بُطُونِ الإِْنَاثِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - غَيْرَ ابْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ الْمَلاَقِيحَ مَا فِي ظُهُورِ الْفُحُول.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عَسْبَ الْفَحْل فِي بَعْضِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) طلبة الطلبة 229 ط. دار القلم 1986م، مغني المحتاج 2 / 30.
(3) الخرشي على مختصر خليل 5 / 71.(30/94)
مَعَانِيهِ يُوَافِقُ الْمَضَامِينَ وَالْمَلاَقِيحَ فِي بَعْضِ الإِْطْلاَقَاتِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ عَسْبِ الْفَحْل، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْل (2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَعَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَعَنْ عَسْبِ الْفَحْل. (3)
وَعَلَّل الْكَاسَانِيُّ النَّهْيَ بِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْل ضِرَابُهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ (4) .
5 - أَمَّا الإِْجَارَةُ فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَصْل مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - عَدَمَ جَوَازِ إِجَارَةِ الْفَحْل لِلضِّرَابِ، لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ
قَال الْكَاسَانِيُّ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
__________
(1) انظر طلبة الطلبة ص 229، ومغني المحتاج 2 / 30، والخرشي على خليل 5 / 71، والإنصاف 4 / 300 - 301.
(2) حديث ابن عمر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 461) .
(3) حديث أبي هريرة: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام. . . ". أخرجه النسائي (7 / 311) .
(4) بدائع الصنائع 5 / 139، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 57، والخرشي على خليل 5 / 71، مغني المحتاج 2 / 30، كشاف القناع 3 / 166.(30/94)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْل (1) وَلاَ يُمْكِنُ حَمْل النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ، وَهُوَ الضِّرَابُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالإِْعَارَةِ، فَيُحْمَل عَلَى الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ وَأَضْمَرَهُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَل الْقَرْيَةَ} . (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَجُوزُ إِجَارَةُ الْفَحْل لِلضِّرَابِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَ الاِسْتِئْجَارُ لِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ لِمَرَّاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْل لِلضِّرَابِ إِلَى حَمْل الأُْنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ احْتَاجَ إِنْسَانٌ إِلَى اسْتِئْجَارِ الْفَحْل لِلضِّرَابِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُطْرِقُ لَهُ مَجَّانًا، جَازَ لَهُ أَنْ يَبْذُل الْكِرَاءَ؛ لأَِنَّهُ بَذْلٌ لِتَحْصِيل مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ تَدْعُوا الْحَاجَةُ إِلَيْهَا. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 101) .
عُسْر
انْظُرْ: تَيْسِير. وَرُخْصَة.
__________
(1) حديث: " نهى عن عسب الفحل ". تقدم تخريجه ف4.
(2) سورة يوسف / 82.
(3) بدائع الصنائع 5 / 139، والدسوقي 3 / 57 - 58، مغني المحتاج 2 / 30، كشاف القناع 3 / 563.(30/95)
عَسَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَسَل فِي اللُّغَةِ: لُعَابُ النَّحْل، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ شِفَاءً لِلنَّاسِ، وَالْعَرَبُ تُذَكِّرُ الْعَسَل وَتُؤَنِّثُهُ (1) .
وَكُنِّيَ عَنِ الْجِمَاعِ بِالْعُسَيْلَةِ (2) ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ (3) ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُل مَا تَسْتَحْلِيهِ عَسَلاً (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السُّكَّرُ:
2 - السُّكَّرُ - بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ -: مَادَّةٌ حُلْوَةٌ تُسْتَخْرَجُ غَالِبًا مِنْ عَصِيرِ الْقَصَبِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المفردات للراغب الأصفهاني.
(3) حديث: " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 361) ومسلم (2 / 1056) من حديث عائشة.
(4) المصباح المنير.(30/95)
أَوِ الْبَنْجَرِ، وَقَصَبُهُ يُعْرَفُ بِقَصَبِ السُّكَّرِ (1) .
قَال ابْنُ زُهَيْرٍ: الْعَسَل أَلْطَفُ مِنَ السُّكَّرِ نُفُوذًا (2) . الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَسَل:
أ - التَّدَاوِي بِالْعَسَل:
3 - يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْعَسَل قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (3) قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. أَيْ فِي الْعَسَل شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ كَيْسَانَ: الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ (4) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ - فَقَال: اسْقِهِ عَسَلاً، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَال: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، وَفِي لَفْظٍ: فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ اسْتِطْلاَقًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، كُل ذَلِكَ يَقُول لَهُ: اسْقِهِ عَسَلاً فَقَال لَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ. (5)
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 82 - 83.
(3) سورة النحل / 69.
(4) تفسير القرطبي 10 / 136، وزاد المعاد في هدى خير العباد بتحقيق الأرناؤوط 4 / 36.
(5) عمدة القاري 21 / 233، زاد المعاد 4 / 33. وحديث أبي سعيد الخدري: " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 139) ومسلم (4 / 1736 - 1737) والرواية الأخرى لمسلم.(30/96)
ب - زَكَاةُ الْعَسَل:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَل (1) ، قَال الأَْثْرَمُ: سُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنْتَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّ فِي الْعَسَل زَكَاةً؟ قَال نَعَمْ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ فِي الْعَسَل زَكَاةً؛ الْعُشْرَ، قَدْ أَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ قُلْتُ: ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَطَوَّعُوا بِهِ؟ قَال: لاَ، بَل أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ (2) . وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْعَسَل الْعُشْرُ (4) وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 5 - 6 ط. بولاق، والمبسوط 3 / 15، والمغني 2 / 713.
(2) المغني 2 / 713.
(3) نيل الأوطار 4 / 146
(4) حديث: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر ". أخرجه البيهقي (4 / 126) من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف، ولكن أورد له ابن حجر في التلخيص (2 / 167 - 168) شواهد تقويه.(30/96)
الْعَسَل الْعُشْرَ (1) وَبِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَال: قَدِمْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، اجْعَل لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَفَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَهْل السَّرَاةِ، قَال: فَكَلَّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَل، فَقُلْتُ لَهُمْ: زَكُّوهُ، فَإِنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لاَ تُزَكَّى، فَقَالُوا: كَمْ؟ قَال: فَقُلْتُ: الْعُشْرُ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمُ الْعُشْرَ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ، فَقَبَضَهُ عُمَرُ فَبَاعَهُ، ثُمَّ جَعَل ثَمَنَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ كَوْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَهُ مِنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ حِينَ أَتَاهُ بِعَيْنِ الْعَسَل، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ إِلاَّ عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ أَخَذَهَا مِنْهُمْ، يَدُل عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ.
كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ
__________
( x661 ;) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل العشر ". أخرجه ابن ماجه (1 / 584) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناده ضعيف، لكن أورد له ابن حجر في التلخيص (2 / 167 - 168) شواهد تقويه.
(2) حديث سعيد بن أبي ذياب الدوسي: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت. أخرجه الشافعي (1 / 230 - 231) وحسنه العيني في عمدة القاري (9 / 71) .(30/97)
الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ لِي نَحْلاً، قَال: أَدِّ الْعُشْرَ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ احْمِهَا لِي، فَحَمَاهَا لِي. (1) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: جَاءَ هِلاَلٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَال لَهُ سَلَبَةُ. فَحَمَى لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَادِيَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ أَدَّى إِلَيْكَ مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ، فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ. (2)
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَل كَوْنَ النَّحْل فِي أَرْضِ الْعُشْرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ: لاَ عُشْرَ وَلاَ خَرَاجَ (3)
__________
(1) حديث أبي سيارة المتعي: " يا رسول الله إن لي نحلاً. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 584) ، وحسنه العيني في عمدة القاري (9 / 71) .
(2) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 254 - 255) ، وحسنه ابن عبد البر في الاستذكار كما في إعلاء السنن (9 / 66) .
(3) فتح القدير والعناية بهامشه 2 / 5 - 6، والمبسوط للسرخسي 3 / 15.(30/97)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْعَسَل لاَ زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ الْعَسَل مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ حَيَوَانٍ أَشْبَهَ اللَّبَنَ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَسَل خَبَرٌ يَثْبُتُ وَلاَ إِجْمَاعٌ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ (1) .
ج - نِصَابُ الْعَسَل:
5 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالزُّهْرِيُّ أَنَّ نِصَابَ الْعَسَل عَشَرَةُ أَفْرَاقٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا سَأَلُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ لَنَا وَادِيًا بِالْيَمَنِ فِيهِ خَلاَيَا مِنْ نَحْلٍ، وَإِنَّا نَجِدُ نَاسًا يَسْرِقُونَهَا، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ أَدَّيْتُمْ صَدَقَتَهَا عَنْ كُل عَشَرَةِ أَفْرَاقٍ فَرْقًا حَمَيْنَاهَا لَكُمْ. (2) وَهَذَا تَقْدِيرٌ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ (3) . وَرَجَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْفَرْقَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً بِالْعِرَاقِيِّ فَيَكُونُ نِصَابُ الْعَسَل مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلاً (4) .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي قَلِيل
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 609، وأسنى المطالب 1 / 368.
(2) أثر عمر: " إن أديتم صدقتها عن كل عشرة أفراق. . . ". أورده ابن قدامة في المغني 2 / 714 وعزاه إلى الجوزجاني، وورى الشطر الموقوف منه عبد الرزاق في المصنف 4 / 63.
(3) المغني 2 / 714.
(4) المغني 2 / 714 - 715.(30/98)
الْعَسَل وَكَثِيرِهِ:؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ النِّصَابُ فِي الْعُشْرِ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ الْعَسَل الْعُشْرُ، قَال السَّرَخْسِيُّ: مُرَادُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُل تَحْتَ الْوَسْقِ، فَالْحَاصِل أَنَّ مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْوَسْقِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَالسُّكَّرِ وَالْعَسَل، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِيهِ (2) ؛ لأَِنَّ نَصْبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لاَ يَكُونُ، وَلَكِنْ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ يُعْتَبَرُ الْمَنْصُوصُ، وَمَا لاَ نَصَّ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ، كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ مَعَ السَّوَائِمِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ (3) .
__________
(1) المبسوط 3 / 15، وعمدة القاري 9 / 71.
(2) المبسوط 3 / 15.
(3) المبسوط 3 / 16.(30/98)
عُسَيْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُسَيْلَةُ فِي اللُّغَةِ: النُّطْفَةُ، أَوْ مَاءُ الرَّجُل، أَوْ حَلاَوَةُ الْجِمَاعِ، تَشْبِيهٌ بِالْعَسَل لِلَذَّتِهِ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُل شَيْءٍ تَسْتَلِذُّهُ عَسَلاً (1) .
وَالْعُسَيْلَةُ اصْطِلاَحًا: كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَامَعَةِ، وَهُوَ تَغَيُّبُ حَشَفَةِ الرَّجُل فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا لاَ تَحِل لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3)
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) طلبة الطلبة 115، والمغرب 315، والعناية على الهداية بهامش فتح القدير 3 / 176، (فتح الباري 9 / 466) .
(3) سورة البقرة / 230.(30/99)
وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النِّكَاحِ الثَّانِي الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ لِمَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لاَ يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْل هُدْبَةٍ، فَقَال: لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. (1)
وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْوَطْءَ، وَكَانَ يَقُول: يَقُول النَّاسُ لاَ تَحِل لِلأَْوَّل حَتَّى يُجَامِعَهَا الثَّانِي، وَأَنَا أَقُول إِذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لاَ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِحْلاَلَهَا لِلأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الأَْوَّل.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْمُنْيَةِ: أَنَّ سَعِيدًا رَجَعَ عَنْهُ إِلَى قَوْل الْجُمْهُورِ، فَمَنْ عَمِل بِهِ يُسَوَّدُ وَجْهُهُ، وَيُبْعَدُ، وَمَنْ أَفْتَى بِهِ يُعَزَّرُ، وَذَكَرَ فِي الْخُلاَصَةِ: أَنَّ مَنْ أَفْتَى بِهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ الإِْجْمَاعَ، وَلاَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ.
3 - وَأَدْنَى مَا يَكْفِي مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى تَحِل لِمُطَلِّقِهَا ثَلاَثًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُل مَعَ الاِنْتِشَارِ، وَاعْتَبَرَ كَوْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُل؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّوْجَةِ شَرْعًا لاَ
__________
(1) حديث عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة. (أخرجه البخاري فتح الباري 9 / 464) .(30/99)
يَكُونُ فِي غَيْرِ الْقُبُل؛ وَلأَِنَّ الْحِل مُتَعَلِّقٌ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ وَلاَ يَحْصُل بِغَيْرِهِ، وَاعْتُبِرَ الاِنْتِشَارُ لِعَدَمِ حُصُول الْعُسَيْلَةِ إِلاَّ بِهِ، لِقَوْل امْرَأَةِ رِفَاعَةَ (وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْل هُدْبَةٍ) قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَرَادَتْ أَنَّ ذَكَرَهُ يُشْبِهُ الْهُدْبَةَ فِي الاِسْتِرْخَاءِ وَعَدَمِ الاِنْتِشَارِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَوْعُ انْتِشَارٍ يَحْصُل بِهِ إِيلاَجٌ، كَيْ لاَ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ إِدْخَال خِرْقَةٍ فِي الْمَحَل.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الاِنْتِشَارِ تَامًّا.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَالْمُعْتَبَرُ الاِنْتِشَارُ بِالْفِعْل لاَ بِالْقُوَّةِ، حَتَّى لَوْ أَدْخَل السَّلِيمُ ذَكَرَهُ بِأُصْبُعِهِ بِلاَ انْتِشَارٍ لَمْ يَحِل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ ضَعُفَ الاِنْتِشَارُ وَاسْتَعَانَ بِأُصْبُعِهِ، أَوْ أُصْبُعِهَا لِيَحْصُل ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ كَفَى.
وَانْفَرَدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِاشْتِرَاطِ الإِْنْزَال أَيْضًا، قَال ابْنُ بَطَّالٍ: شَذَّ الْحَسَنُ فِي هَذَا وَخَالَفَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَيُحْصِنُ الشَّخْصَ وَيُوجِبُ كَمَال الصَّدَاقِ، وَيُفْسِدُ الْحَجَّ وَالصَّوْمَ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 176، ط الأميرية 1316هـ، حاشية ابن عابدين 2 / 537 وما بعدها، حاشية الدسوقي 3 / 258، جواهر الإكليل 1 / 291، مغني المحتاج 3 / 182، كشاف القناع 5 / 350، (فتح الباري 9 / 467 ط. السلفية) .(30/100)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَحْلِيل ف 9) .
عَشَاء
انْظُرْ: صَلاَةُ الْعِشَاءِ(30/100)
عُشْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُشْرُ لُغَةً: الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، وَيُجْمَعُ الْعُشْرُ عَلَى عُشُورٍ، وَأَعْشَارٍ (1) ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الْعُشْرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.
وَالثَّانِي: عُشْرُ الصَّدَقَاتِ، أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ (2) .
وَيُقْتَصَرُ هُنَا عَلَى بَحْثِ عُشْرِ التِّجَارَةِ. أَمَّا عُشْرُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ فَمَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ)
وَعُشْرُ التِّجَارَةِ: هُوَ مَا يُفْرَضُ عَلَى أَمْوَال أَهْل الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ دَاخِل بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، مادة: (عشر) .
(2) معالم السنن للخطابي 3 / 39، وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 2 / 171، وحاشية ابن عابدين 2 / 308، 309.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 518.(30/101)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الزَّكَاةُ:
2 - الزَّكَاةُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالرَّيْعُ وَالزِّيَادَةُ. وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْل وَالنِّصَابُ (1) ، وَتُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَال الْمُخَرَّجِ.
وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي مَال الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلتِّجَارَةِ أَمْ غَيْرِهَا، أَمَّا الْعُشْرُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ.
ب - الْجِزْيَةُ:
3 - الْجِزْيَةُ: مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لأَِمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ وَصَوْنِهِ (2) . وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْجِزْيَةِ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ
__________
(1) المصباح المنير، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 481، والدسوقي 1 / 431.
(2) جواهر الإكليل 1 / 266، ومنح الجليل لعليش 1 / 756.(30/101)
ج - الْخَرَاجُ:
4 - الْخَرَاجُ: مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا (1) ، وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (الْجِزْيَةَ الْعُشْرِيَّةَ (2)) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ، أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ.
د - الْخُمُسُ:
5 - الْخُمُسُ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ (3) ، وَالْخُمُسُ يَجِبُ فِي كُل مَالٍ فَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، أَمَّا الْعُشْرُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَنْتَقِل بِهَا التَّاجِرُ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُسْتَأْمَنُ. هـ الْفَيْءُ:
6 - الْفَيْءُ لُغَةً: الرُّجُوعُ (4) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص146، والأحكام السلطانية للفراء ص 162.
(2) القوانين لابن جزي ص176.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للأصفهاني مادة خمس، وحاشية الدسوقي 2 / 190.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: فاء.(30/102)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْل دِينِهِ مِنْ أَمْوَال مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ بِلاَ قِتَالٍ، إِمَّا بِالْجَلاَءِ، أَوْ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى جِزْيَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا (1) .
فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْعُشُورِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْعُشُورِ. حُكْمُ أَخْذِ الْعُشْرِ:
7 - يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِهِمْ بِهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل الْحُكْمِ سَيَأْتِي (2) أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ:
8 - اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول. أَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ (3)
فَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ مَالٌ سِوَى الزَّكَاةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني 148.
(2) الهداية 1 / 107، والفواكه الدواني 1 / 393 - 394، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، المغني 8 / 522، وكشاف القناع 3 / 138.
(3) حديث: " إنما العشور على اليهود والنصارى. . . ". أخرجه أبو داود 3 / 434، ونقل ابن القيم عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: في إسناده اختلاف، ولا أعلمه من طريق يحتج به. كذا في (تهذيب السنن 4 / 253 - بهامش مختصر المنذري) .(30/102)
وَالنَّصَارَى عُشْرُ التِّجَارَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعُشَّارَ لِيَأْخُذُوا الْعُشْرَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَالتَّاجِرُ الَّذِي يَنْتَقِل بِتِجَارَتِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ يَحْتَاجُ إِلَى الأَْمَانِ، وَالْحِمَايَةِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَالدَّوْلَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ تَتَكَفَّل بِتَأْمِينِ ذَلِكَ عَبْرَ طُرُقِهَا وَمَمَرَّاتِهَا التِّجَارِيَّةِ، فَالْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ هُوَ فِي مُقَابِل تِلْكَ الْحِمَايَةِ، وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ (2) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ:
9 - الْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، إِذْ بِدُخُولِهِمْ بَعْدَ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ لِلتِّجَارَةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الدُّخُول فِيهِ (3)
وَالْعُشْرُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 71.
(2) المبسوط 2 / 199، وتبيين الحقائق 1 / 282، والمنتقى 2 / 178، والمغني 8 / 522.
(3) البدائع 2 / 38.(30/103)
الإِْسْلاَمِيَّةُ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (1) .
وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ الْمَال وَنَمَائِهِ، إِذْ أَنَّ السَّمَاحَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ وَالتَّنَقُّل بِتِجَارَاتِهِمْ فِي مُقَابِل الْعُشْرِ يُؤَدِّي إِلَى تَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ وَزِيَادَتِهَا، كَمَا قَال الدَّهْلَوِيُّ؛ لأَِنَّ النُّمُوَّ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّرَدُّدِ خَارِجَ الْبِلاَدِ (2) .
وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ التَّبَادُل التِّجَارِيِّ بَيْنَ الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَالدُّوَل الأُْخْرَى.
قَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّا إِذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْل مَا يُعَامِلُونَنَا بِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصُودِ الأَْمَانِ وَاتِّصَال التِّجَارَاتِ (3) .
الأَْشْخَاصُ الَّذِينَ تُعَشَّرُ أَمْوَالُهُمْ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا بِهَا دَارَ الإِْسْلاَمِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوَّلاً: الْمُسْتَأْمَنُونَ:
11 - الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الَّذِي يَقْدَمُ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَهَؤُلاَءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: رُسُلٌ، تُجَّارٌ، وَمُسْتَجِيرُونَ حَتَّى يُعْرَضَ
__________
(1) البدائع 2 / 68.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 499، وانظر المقدمة لابن خلدون ص346.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 199، وحاشية الشلبي 1 / 285.(30/103)
عَلَيْهِمُ الإِْسْلاَمُ وَالْقُرْآنُ، وَطَالِبُو حَاجَةٍ مِنْ زِيَارَةٍ وَغَيْرِهَا (1) .
فَمَنْ دَخَل مِنْ هَؤُلاَءِ بِتِجَارَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُ مَذَاهِبَ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ بِمَال التِّجَارَةِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ مَالِهِ إِذَا بَلَغَ الْمَال نِصَابًا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَإِنْ عُلِمَ مِقْدَارُ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا أُخِذَ مِنْهُمْ مِثْلُهُ مُجَازَاةً، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَخْذُهُمُ الْكُل فَلاَ نَأْخُذُ مِنْهُمُ الْكُل بَل نَتْرُكُ لَهُمْ مَا يُبَلِّغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ إِبْقَاءً لِلأَْمَانِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ مِنَّا لاَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ لِيَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّنَا أَحَقُّ بِالْمَكَارِمِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَال صَبِيٍّ حَرْبِيٍّ إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَال صِبْيَانِنَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ بِمَال التِّجَارَةِ إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ عَلَى شَيْءٍ يُعْطِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْعُشْرِ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ تَعْيِينِ جُزْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ، إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّيَ الإِْمَامَ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَخْذِ أَقَل فَيَقْتَصِرَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ (3) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 476.
(2) الدر المختار مع ابن عابدين 2 / 41، 42.
(3) الفواكه الدواني 1 / 394.(30/104)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشَرَطَ الإِْمَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُشْرَ تِجَارَتِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل أَخَذَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ بَل عَقَدَ لَهُمُ الأَْمَانَ عَلَى دِمَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا إِنْ دَخَلُوا بِأَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ بِشَرْطٍ أَوْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَؤُلاَءِ الْمُسْتَأْمَنُونَ مِنْ قَوْمٍ يُعَشِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ دَخَلُوا بِلاَدَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل بِلاَدَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ وَاتَّجَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تِجَارَتِهِ الْعُشْرُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَعَشَّرُوا أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلَتْ إِلَيْهِمْ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ، وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، عَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَذَكَرَ الْمُوَفَّقُ أَنَّ لِلإِْمَامِ تَرْكَ الْعُشْرِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ (2) .
ثَانِيًا: أَهْل الذِّمَّةِ:
12 - أَهْل الذِّمَّةِ: هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ، وَالْمَجُوسِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِمُوجَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا انْتَقَل الذِّمِّيُّ
__________
(1) الأم 4 / 205.
(2) كشاف القناع 3 / 138.(30/104)
بِتِجَارَتِهِ إِلَى غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أُقِرَّ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ: كَالشَّامِيِّ يَنْتَقِل إِلَى مِصْرَ أَوِ الْعِرَاقِ أَوِ الْحِجَازِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ إِنِ اتَّجَرَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي تِجَارَتِهِ يُؤَدِّيهِ فِي الْعَامِ مَرَّةً، كَمَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُ زَكَاةَ تِجَارَتِهِ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي كُل عَامٍ، فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سِيَّانِ إِلاَّ فِي مِقْدَارِ الْعُشْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا يَدْفَعُهُ الذِّمِّيُّ هُوَ جِزْيَةٌ فِي مَالِهِ، كَمَا يُسَمَّى خَرَاجُ أَرْضِهِ جِزْيَةً، فَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ: جِزْيَةُ مَالٍ، وَجِزْيَةُ أَرْضٍ، وَجِزْيَةُ رَأْسٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ بَعْضِهَا سُقُوطُ بَاقِيهَا إِلاَّ فِي بَنِي تَغْلِبَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّينَ لِهَذَا الاِنْتِقَال؛ لأَِنَّهُمْ عُوهِدُوا عَلَى التِّجَارَةِ وَتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ بِآفَاقِهِمُ الَّتِي اسْتَوْطَنُوهَا، فَإِذَا طَلَبُوا تَنْمِيَةَ أَمْوَالِهِمْ بِالتِّجَارَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَقُّ غَيْرِ الْجِزْيَةِ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَجْلِبُونَهُ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَةِ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 40، والبدائع 2 / 37.
(2) بلغة المسالك لأقرب المسالك 1 / 371.(30/105)
شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ إِنِ اتَّجَرُوا فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ إِذَا شَرَطَ الإِْمَامُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْجِزْيَةِ شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمْ، فَإِنْ دَخَلُوا بِلاَدَ الْحِجَازِ فَيَنْظُرُ إِنْ كَانَ لِنَقْل طَعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْل الْحِجَازِ أَذِنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لاَ حَاجَةَ بِأَهْل الْحِجَازِ إِلَيْهَا كَالْعِطْرِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْتَرِطُ الْعُشْرَ فِي بَعْضِ الأَْمْتِعَةِ كَالْقَطِيفَةِ، وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَنْ دَخَل دَارَ الْحِجَازِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ يَجُزْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّنَةِ (2) .
تَعْشِيرُ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ:
13 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ عُرُوضِ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُشْرِ الْمُقَرَّرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ. (3)
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 320، ومغني المحتاج 4 / 247.
(2) المغني 8 / 517.
(3) حديث: " إنما العشور على. . . ". تقدم تخريجه ف 8.(30/105)
شُرُوطُ مَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ:
14 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لأَِخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَمِنَ الذِّمِّيِّينَ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ:
أ - الْبُلُوغُ:
15 - اشْتَرَطَ الْحَنِيفَةُ الْبُلُوغَ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالُوا: يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُل تَاجِرٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِزْيَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِمَال التِّجَارَةِ، لِتَوَسُّعِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ وَانْتِفَاعِهِ بِالتِّجَارَةِ بِهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَمُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِهِمْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَالْعُشُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَرْجِعُهَا إِلَى الشَّرْطِ وَالاِتِّفَاقِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الإِْمَامُ أَخْذَهَا مِنَ التُّجَّارِ أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ مَالِكُهَا صَغِيرًا، وَعِلَّةُ أَخْذِ الْعُشُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الاِنْتِفَاعُ بِبِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي أَمْوَال الصَّغِيرِ (2) .
__________
(1) الهداية 1 / 107، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، والمغني 8 / 522، والإِنصاف 4 / 245، وكشاف القناع 3 / 138.
(2) بلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247.(30/106)
ب - الْعَقْل:
16 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْل لِوُجُوبِ الْعُشْرِ، فَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنَ الْمَجْنُونِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ (1) .
وَمُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَال الْمَجْنُونِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال وَلَيْسَ بِالشَّخْصِ (2) .
ج - الذُّكُورَةُ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلاَقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِحَاجَةِ أَمْوَال الْمَرْأَةِ إِلَى الْحِمَايَةِ؛ وَلأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَاشْتَرَطَ أَبُو يَعْلَى لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَال غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الذُّكُورَةَ، فَلاَ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنَ الْمَرْأَةِ - ذِمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ حَرْبِيَّةً -؛ لأَِنَّهَا مَحْقُونَةُ الدَّمِ، وَلَهَا الْمُقَامُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَلَمْ تُعَشَّرْ تِجَارَتُهَا كَالْمُسْلِمِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَتُهَا بِالْحِجَازِ فَتُعَشَّرُ كَالرَّجُل؛ لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ
__________
(1) البدائع 2 / 38.
(2) بلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 167.(30/106)
مِنَ الإِْقَامَةِ بِالْحِجَازِ (1) .
الأَْمْوَال الَّتِي تَخْضَعُ لِلْعُشْرِ:
18 - لاَ يَجِبُ الْعُشْرُ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ: كَالأَْقْمِشَةِ وَالزَّيْتِ وَالْحُبُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا الأَْمْتِعَةُ الشَّخْصِيَّةُ وَمَا لَيْسَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ فَلاَ عُشْرَ فِيهِ، رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: كُنْتُ أُعَشِّرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عُشُورَ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا اتَّجَرُوا فِيهِ (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ:
19 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ:
أ - الاِنْتِقَال بِهَا:
20 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلاَّ إِذَا انْتَقَل بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 38، والهداية 1 / 107، والفواكه الدواني 1 / 394، روضة الطالبين 10 / 320، وأحكام أهل الذمة 1 / 167، والإنصاف 4 / 245، وكشاف القناع 3 / 138.
(2) الخراج ليحيى بن آدم ص 68.
(3) الخراج لأبي يوسف ص133، ومنح الجليل لعليش 1 / 760، والأم 4 / 281، والمغني 1 / 520.(30/107)
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَال مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً:
21 - اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَال التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالأَْقْمِشَةِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلاً فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ: كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَالِغَةً لِلنِّصَابِ؛ لأَِنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَيَّ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُل مَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لاَ يَبْقَى: كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحِمَايَةِ كَغَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَال التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لاَ عَيْنُهُ (1)
ج - النِّصَابُ:
22 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي تُعَشَّرُ النِّصَابَ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ بِالشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ لَهُ نِصَابٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي مِقْدَارِهِ:
__________
(1) البدائع 2 / 38.(30/107)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ؛ لأَِنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ وَمِنْهَا النِّصَابُ، وَمِقْدَارُ نِصَابِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ؛ فَلأَِنَّ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِيَصِل إِلَى مَأْمَنِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَخُذْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَ التَّاجِرُ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (2) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عِشْرُونَ دِينَارًا
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 38، وأحكام أهل الذمة 1 / 163، 170.
(2) الإنصاف 4 / 246.(30/108)
مِنْ ذَهَبٍ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الذِّمِّيُّ أَوِ الْحَرْبِيُّ، فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيل الأَْمْوَال وَكَثِيرِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَال: سُنَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ كُل عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَمِمَّنْ لاَ ذِمَّةَ لَهُ كُل عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمٌ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعُشْرَ حَقٌّ عَلَى الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ، فَوَجَبَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَنَصِيبِ الْمَالِكِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي عَامَلَهُ عَلَيْهَا، وَبِأَنَّ الْعُشْرَ الَّذِي يُؤْخَذُ فَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ (3) .
د - الْفَرَاغُ مِنَ الدَّيْنِ:
23 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ
__________
(1) المغني 8 / 519.
(2) الإنصاف 4 / 246.
(3) بداية المجتهد 1 / 406، والمغني 8 / 519 - 520.(30/108)
لأَِخْذِ الْعُشْرِ مِنَ التَّاجِرِ الذِّمِّيِّ أَلاَّ تَكُونَ أَمْوَالُهُ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يُعْتَبَرُ لَهُ النِّصَابُ وَالْحَوْل فَيَمْنَعُهُ الدَّيْنُ كَالزَّكَاةِ
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول قَوْل الذِّمِّيِّ إِذَا ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِنَا فَيُصَدَّقُ بِالْحَلِفِ كَمَا يُصَدَّقُ الْمُسْلِمُ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا التَّاجِرُ الْحَرْبِيُّ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَعْشِيرِ أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ هَذَا الشَّرْطُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْمِلْكِ وَمِلْكُ الْحَرْبِيِّ نَاقِصٌ وَلأَِنَّ دَيْنَهُ لاَ مُطَالِبَ لَهُ فِي دَارِنَا (1) .
مِقْدَارُ الْعُشْرِ:
24 - يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْعُشْرِ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ، فَهُوَ عَلَى الذِّمِّيِّ يُخَالِفُ مَا عَلَى الْحَرْبِيِّ.
أَوَّلاً: الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الذِّمِّيِّ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ
__________
(1) الاختيار 1 / 116، والمغني 8 / 521.(30/109)
فِي مَال الذِّمِّيِّ هُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ (1) ، لِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُؤْخَذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَال الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ كَامِلاً، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَجْلِبُهُ مِنْ طَعَامٍ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَال: كُنْتُ غُلاَمًا عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَخْضَعُ لِهَذَا التَّخْفِيفِ، فَقِيل: الْحِنْطَةُ وَالزَّيْتُ، وَلَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَالْحُبُوبِ وَالأَْدْهَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَشْرُوطِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ الْعُشُورِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الإِْمَامِ (2) .
ثَانِيًا: الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْحَرْبِيِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 314، وكشاف القناع 3 / 137.
(2) الموطأ شرح الزرقاني 2 / 143، وبلغة السالك 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247.(30/109)
مِثْل مَا يَأْخُذُهُ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمُ الْعُشْرَ، وَإِنْ أَخَذُوا نِصْفَ الْعُشْرِ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمْ مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الإِْسْلاَمِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِهِمُ الْعُشْرُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ إِذَا مَرُّوا بِتِجَارَةٍ عَلَى الْعَاشِرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا جَلَبُوا الطَّعَامَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا بِالنِّسْبَةِ لِتُجَّارِ أَهْل الْحَرْبِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْعُشْرِ إِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ مَتْرُوكٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ حَسَبَ مَا تَقْضِي بِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 314.
(2) بلغة السالك 1 / 371.(30/110)
الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَخْذَ الْعُشْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عَدَمُ أَخْذِ شَيْءٍ إِذَا جَلَبَ الْحَرْبِيُّ بِضَاعَةً يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ عَشَّرُوا أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلَتْ إِلَيْهِمْ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَمْ يُنْكَرْ وَعَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ (2) .
الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ:
27 - تَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ.
أَوَّلاً - الذِّمِّيُّ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الذِّمَّةِ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَهِيَ لاَ تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِئْصَال الْمَال (3) .
__________
(1) المدونة 1 / 241، وروضة الطالبين للنووي 10 / 319، ومغني المحتاج 4 / 247.
(2) كشاف القناع 3 / 138.
(3) البدائع 2 / 37، ومغني المحتاج 4 / 247، وكشاف القناع 3 / 138.(30/110)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْل الذِّمَّةِ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا إِلَى آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إِذَا كَانَ اخْتِلاَفُهُ مِنْ قِطَاعٍ إِلَى آخَرَ؛ لأَِنَّ عِلَّةَ الأَْخْذِ مِنْهُمُ الاِنْتِفَاعُ وَالْحِمَايَةُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي كُل حَالٍ يَخْتَلِفُونَ بِهِ (1) .
ثَانِيًا: الْحَرْبِيُّ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِعَقْدِ أَمَانٍ وَدَفَعَ عُشْرَ تِجَارَتِهِ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الأَْمَانِ الَّتِي تَقِل عَنْ سَنَةٍ؛ لأَِنَّ بِلاَدَ الإِْسْلاَمِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ بِمَالٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي عَشَرَهُ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَنْفُقْ تِجَارَتُهُ الَّتِي عَشَرَهَا ثُمَّ رَجَعَ بِهَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى بِهَا، هَل تُعَشَّرُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ عَادَ بِنَفْسِ الْمَال أَوْ بِمَالٍ آخَرَ سِوَاهُ؛ لأَِنَّ الأَْمَانَ الأَْوَّل قَدِ انْتَهَى بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَقَدْ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْعُشْرِ؛ وَلأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ بَعْدَ
__________
(1) منح الجليل لعليش 1 / 760، والمنتقى 2 / 178.(30/111)
دُخُول دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُفْضِي إِلَى اسْتِئْصَال الْمَال.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ سِوَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَوْ تَرَدَّدَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنَ التِّجَارَةِ فَلاَ يُؤْخَذُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ كَالزَّكَاةِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ (1) .
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
30 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الإِْسْلاَمِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِعَاشِرِ الإِْقْلِيمِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ، سَوَاءٌ بَاعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَبِعْ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ لَهُ حَقُّ الْوُصُول وَالْحِمَايَةِ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي يَنْتَقِل بِبِضَاعَتِهِ مِنْ أُفُقٍ إِلَى آخَرَ عِنْدَ بَيْعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ
__________
(1) البدائع 2 / 37، وتبيين الحقائق 1 / 285، وبلغة السالك 1 / 371، وروضة الطالبين 10 / 320، وكشاف القناع 3 / 138.(30/111)
مِنْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لِحَقِّ الاِنْتِفَاعِ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الإِْسْلاَمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ شَرْطِ الإِْمَامِ، فَإِنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبِضَاعَةِ، أَوْ عِنْدَ الدُّخُول كَانَ الْوَقْتُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِالْعَاشِرِ سَوَاءٌ بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ، وَإِنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ كَانَ وَقْتُ الاِسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ يَبِيعُوا الْبِضَاعَةَ فَإِنْ كَسَدَتْ وَلَمْ يَبِيعُوا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُحَصِّل الثَّمَنَ (1) .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الأَْئِمَّةُ وَالْوُلاَةُ؛ لأَِنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ بِالإِْمَامِ وَالْوُلاَةِ، فَصَارَ هَذَا الْمَال آمِنًا بِرِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ، فَثَبَتَ حَقُّ أَخْذِ الْعُشْرِ لَهُمْ (2) .
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ:
32 - إِذَا كَانَ الإِْمَامُ أَوِ الْوَالِي هُوَ صَاحِبَ
__________
(1) الاختيار 1 / 116، والشرح الصغير للدردير 1 / 371، ومغني المحتاج 4 / 247، وأحكام أهل الذمة 1 / 159.
(2) الجامع لأحكام القرآن 18 / 14، وشرح السير الكبير 5 / 2134، والأحكام السلطانية للماوردي ص 16.(30/112)
الْحَقِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ فَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي اسْتِيفَائِهَا، وَمِنَ الطُّرُقِ الْمُتَّبَعَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشُورِ، وَالْقُبَالَةُ (التَّضْمِينُ) .
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى: الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ:
33 - الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ وِلاَيَةٌ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الإِْمَامِ يَتِمُّ بِمُقْتَضَاهَا اسْتِيفَاءُ الْعُشْرِ وَقَبْضُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى عَامِل الْعُشْرِ الْعَاشِرُ وَهُوَ: مَنْ يُنَصِّبْهُ الإِْمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الْعُشْرَ الشَّامِل لِرُبُعِهِ وَنِصْفِهِ.
وَلِلْعَاشِرِ وَظِيفَتَانِ هُمَا: الْجِبَايَةُ وَالْحِمَايَةُ، فَهُوَ يَجْبِي الْعُشْرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ عُشْرًا لُغَوِيًّا أَوْ رُبُعَهُ أَوْ نِصْفَهُ، وَهُوَ يَحْمِي التُّجَّارَ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ (1) .
حُكْمُ الْعَمَل عَلَى الْعُشُورِ:
34 - الْعَمَل عَلَى الْعُشْرِ مِنَ الأَْعْمَال الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي عَمِل بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَحَرَّجَ مِنْهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْعَمَل، فَقَال لَهُ: أَتَسْتَعْمِلُنِي عَلَى الْمَكْسِ مِنْ
__________
(1) المراجع السابقة.(30/112)