عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، كَأَنْ قَال: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لاَ أَصُومُ حُبِسَ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا، لِيَحْصُل لَهُ صُورَةُ الصَّوْمِ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، لأَِنَّ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ مَعْلُومٌ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا صَارَ كَالضَّرُورِيِّ فِي عَدَمِ خَفَائِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَوْنُهُ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
سَادِسًا: قَطْعُ التَّتَابُعِ:
93 - التَّتَابُعُ هُوَ: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَيَّامِ الصِّيَامِ، بِحَيْثُ لاَ يُفْطِرُ فِيهَا وَلاَ يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ.
تَتَأَثَّرُ مُدَّةُ الصَّوْمِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّتَابُعُ نَصًّا، بِالْفِطْرِ الْمُتَعَمَّدِ، وَهِيَ - بِعَدِّ الْكَاسَانِيِّ -: صَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْل، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالإِْفْطَارُ الْعَامِدُ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ:
94 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنِ
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب بحاشية البجيرمي عليه 2 / 324.
(2) المغني مع الشرح الكبير 8 / 594، والبدائع 2 / 76.(28/84)
اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، بَل يَجِبُ لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
فَإِذَا أَخْبَرَهُ الثِّقَاتُ بِدُخُول شَهْرِ الصَّوْمِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَل بِخَبَرِهِمْ، وَإِنْ أَخْبَرُوهُ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَل بِذَلِكَ، بَل يَجْتَهِدُ بِنَفْسِهِ فِي مَعْرِفَةِ الشَّهْرِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَيَصُومُ مَعَ النِّيَّةِ وَلاَ يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مِثْلَهُ.
فَإِنْ صَامَ الْمَحْبُوسُ الْمُشْتَبَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحَرٍّ وَلاَ اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ الْوَقْتَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَتَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّوْمِ لِتَقْصِيرِهِ وَتَرْكِهِ الاِجْتِهَادَ الْوَاجِبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَصَامَ فَلاَ يَخْلُو الأَْمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: الْحَال الأُْولَى: اسْتِمْرَارُ الإِْشْكَال وَعَدَمُ انْكِشَافِهِ لَهُ، بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ صَوْمَهُ صَادَفَ رَمَضَانَ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ بَذَل وُسْعَهُ وَلاَ يُكَلَّفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالاِجْتِهَادِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِيهِ الصَّوْمُ؛ لاِحْتِمَال وُقُوعِهِ قَبْل وَقْتِ رَمَضَانَ.
الْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ(28/84)
الْفُقَهَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَنِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، وَوَافَقَهَا، وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِيهِ لِقِيَامِهِ عَلَى الشَّكِّ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الأَْوَّل (1) .
الْحَال الثَّالِثَةُ: إِذَا وَافَقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَيَجْزِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالإِْجْزَاءِ: هَل يَكُونُ صَوْمُهُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً؟ وَجْهَانِ، وَقَالُوا: إِنْ وَافَقَ بَعْضُ صَوْمِهِ أَيَّامًا يَحْرُمُ صَوْمُهَا كَالْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَقْضِيهَا.
الْحَال الرَّابِعَةُ: وَهِيَ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْل رَمَضَانَ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمَّا يَأْتِ رَمَضَانُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ إِذَا جَاءَ بِلاَ خِلاَفٍ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا وَافَقَ صَوْمُهُ مَا قَبْل رَمَضَانَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ بَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 418، وفتح القدير 5 / 471، وحاشية ابن عابدين 5 / 378، والمبسوط 3 / 59، وحاشية القليوبي 2 / 292، وحاشية الباجوري 1 / 212، والمجموع 5 / 315، والشرح الكبير للدردير 3 / 282، وجواهر الإكليل 1 / 148، وأسنى المطالب 1 / 413، والمغني 3 / 161.(28/85)
الْقَوْل الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْحُجَّاجِ يَوْمُ عَرَفَةَ فَوَقَفُوا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الْحَال الْخَامِسَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ بَعْضَ رَمَضَانَ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَا وَافَقَ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمَةُ.
وَالْمَحْبُوسُ إِذَا صَامَ تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ صَوْمُهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لاِنْعِدَامِ نِيَّةِ صَوْمِ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، لأَِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ ظَرْفٌ لاَ يَسَعُ غَيْرَ صَوْمِ فَرِيضَةِ رَمَضَانَ، فَلاَ يُزَاحِمُهَا التَّطَوُّعُ وَالنَّذْرُ (2) .
صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ نَهَارُ رَمَضَانَ بِلَيْلِهِ:
95 - إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الأَْسِيرُ أَوِ الْمَحْبُوسُ فِي رَمَضَانَ النَّهَارَ مِنَ اللَّيْل، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ، فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 1 / 519، المجموع 5 / 316، الإفصاح لابن هبيرة 1 / 250، والمغني 3 / 162، والمبسوط 3 / 59، وحاشية ابن عابدين 2 / 379، وأسنى المطالب 1 / 414.
(2) المغني 3 / 95 و 163، وأسنى المطالب 1 / 414، والشرح الكبير للدردير 1 / 541، والدر المختار 2 / 379.(28/85)
مُهِمَّةٌ قَل مَنْ ذَكَرَهَا، وَفِيهَا ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ لِلصَّوَابِ:
أَحَدُهَا: يَصُومُ وَيَقْضِي لأَِنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ.
الثَّانِي: لاَ يَصُومُ، لأَِنَّ الْجَزْمَ بِالنِّيَّةِ لاَ يَتَحَقَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْوَقْتِ.
الثَّالِثُ: يَتَحَرَّى وَيَصُومُ وَلاَ يَقْضِي إِذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.
وَنَقَل النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَحْبُوسِ الصَّائِمِ بِالاِجْتِهَادِ إِذَا صَادَفَ صَوْمُهُ اللَّيْل ثُمَّ عَرَفَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَال: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّ اللَّيْل لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ كَيَوْمِ الْعِيدِ (1) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 1 / 535، والدر المختار 6 / 338، المجموع 6 / 317، 319، ولسان الحكام لابن الشحنه ص 387، وأسنى المطالب 1 / 422، والمغني 3 / 148، والإنصاف 3 / 286، والاختيار 4 / 173.(28/86)
صَوْمُ التَّطَوُّعِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّوْمُ لُغَةً: مُطْلَقُ الإِْمْسَاكِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: إِمْسَاكٌ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ مَعَ النِّيَّةِ (2) .
وَالتَّطَوُّعُ اصْطِلاَحًا: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (3) .
وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ مِنَ الصَّوْمِ.
فَضْل صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
2 - وَرَدَ فِي فَضْل صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ سَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَال لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُل مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. فَيُقَال: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُل
__________
(1) المصباح المنير مادة (صوم) .
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 80.
(3) مغني المحتاج 1 / 445.(28/86)
مِنْهُ أَحَدٌ (1) .
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا (2) .
أَنْوَاعُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
3 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَ التَّطَوُّعِ إِلَى مَسْنُونٍ، وَمَنْدُوبٍ، وَنَفْلٍ.
فَالْمَسْنُونُ: عَاشُورَاءُ مَعَ تَاسُوعَاءَ. وَالْمَنْدُوبُ: صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَصَوْمُ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَصَوْمُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَكُل صَوْمٍ ثَبَتَ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ؛ كَصَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَحْوِهِ.
وَالنَّفَل: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ.
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - صَوْمَ التَّطَوُّعِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: سُنَّةٍ، وَمُسْتَحَبٍّ، وَنَافِلَةٍ.
فَالسُّنَّةُ: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَالْمُسْتَحَبُّ: صِيَامُ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، وَشَعْبَانَ، وَالْعَشْرِ الأُْوَل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَيَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.
__________
(1) حديث سهل بن سعد: " إن في الجنة بابا يقال له: الريان. . . ". أخرجه البخاري (4 / 111) ومسلم (2 / 808) .
(2) حديث: " من صام يوما في سبيل الله. . . ". أخرجه البخاري (6 / 47) ومسلم (2 / 808) .(28/87)
وَالنَّافِلَةُ: كُل صَوْمٍ لِغَيْرِ وَقْتٍ وَلاَ سَبَبٍ، فِي غَيْرِ الأَْيَّامِ الَّتِي يَجِبُ صَوْمُهَا أَوْ يُمْنَعُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: صَوْمُ التَّطَوُّعِ وَالصَّوْمُ الْمَسْنُونُ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
أَحْكَامُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
أ - وَقْتُ النِّيَّةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَال: هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لاَ، فَقَال: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ التَّبْيِيتُ كَالْفَرْضِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل فَلاَ صِيَامَ لَهُ (3) فَلاَ تَكْفِي النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَجْرِ، لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 2 / 45، الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 350، القوانين الفقهية ص 132، مغني المحتاج 1 / 445، وكشاف القناع 2 / 337.
(2) حديث عائشة: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 809) .
(3) حديث: " من لم يبيت الصيام. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 823 - 824) والطحطاوي في شرح المعاني (2 / 54) وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 188) ونقل عن غير واحد من العلماء أنهم أعلوه بالوقف.(28/87)
النِّيَّةَ الْقَصْدُ، وَقَصْدُ الْمَاضِي مُحَالٌ عَقْلاً.
5 - وَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي آخِرِ وَقْتِ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى.
وَالْمُرَادُ بِهَا: نِصْفُ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، وَالنَّهَارُ الشَّرْعِيُّ: مِنِ اسْتِطَارَةِ الضَّوْءِ فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِ النِّيَّةِ قَبْل الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، فَلاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ عِنْدَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى اعْتِبَارًا لأَِكْثَرِ الْيَوْمِ كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ قَبْل الزَّوَال، وَاخْتُصَّ بِمَا قَبْل الزَّوَال لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال لِعَائِشَةَ يَوْمًا: هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لاَ. قَال: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ (2) . إِذِ الْغَدَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَل قَبْل الزَّوَال، وَالْعَشَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَل بَعْدَهُ؛ وَلأَِنَّهُ مَضْبُوطٌ بَيِّنٌ، وَلإِِدْرَاكِ مُعْظَمِ النَّهَارِ بِهِ كَمَا فِي رَكْعَةِ الْمَسْبُوقِ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ صَوْمَ النَّفْل وَإِلاَّ فَلَوْ نَوَى قَبْل الزَّوَال - وَقَدْ مَضَى مُعْظَمُ النَّهَارِ - صَحَّ صَوْمُهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 85.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوما: هل عندكم شيء. . . " تقدم ف: 4.(28/88)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ - إِلَى امْتِدَادِ وَقْتِ النِّيَّةِ إِلَى مَا بَعْدَ الزَّوَال، قَالُوا: إِنَّهُ قَوْل مُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا يُخَالِفُهُ صَرِيحًا، وَلأَِنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ فِي جُزْءِ النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْل الزَّوَال بِلَحْظَةٍ.
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ نِيَّةِ النَّفْل فِي النَّهَارِ: أَنْ لاَ يَكُونَ فَعَل مَا يُفْطِرُهُ قَبْل النِّيَّةِ، فَإِنْ فَعَل فَلاَ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ (1) .
ب - تَعْيِينُ النِّيَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي نِيَّةِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ التَّعْيِينُ، فَيَصِحُّ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ التَّعْيِينُ فِي الصَّوْمِ الْمُرَتَّبِ، كَصَوْمِ عَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ، وَالأَْيَّامِ الْبِيضِ، وَالسِّتَّةِ مِنْ شَوَّالٍ، وَنَحْوِهَا، كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الرَّوَاتِبِ مِنْ نَوَافِل الصَّلاَةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلاَفُ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ، قَال الْمَحَلِّيُّ: وَيُجَابُ بِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الأَْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهَا، بَل لَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَهَا حَصَلَتْ أَيْضًا - كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ - لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 85، حاشية الدسوقي 1 / 530، شرح الخرشي على خليل 2 / 246، مغني المحتاج 1 / 424، كشاف القناع 2 / 317.(28/88)
الْمَقْصُودَ وُجُودُ الصَّوْمِ فِيهَا، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مُعْتَمَدٌ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ أَوْلَى مُطْلَقًا (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ صِيَامُهُ مِنَ الأَْيَّامِ:
أ - صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ:
7 - مِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَهُوَ أَفْضَل صِيَامِ التَّطَوُّعِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ: وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا (3) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَفْضَل الصِّيَامِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ (4) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لاَ يَضْعُفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 87، تبيين الحقائق (1 / 316، ومواهب الجليل 1 / 515 ط مكتبة النجاح - ليبيا) . المجموع 6 / 295، القليوبي وعميرة 2 / 53، الإنصاف 3 / 293.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 351، مغني المحتاج 1 / 448، كشاف القناع 2 / 337.
(3) حديث: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود. . . ". أخرجه البخاري (3 / 16) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4) حديث: " صم يوما وأفطر يوما. . . ". أخرجه البخاري (4 / 220) .(28/89)
الْبَدَنُ حَتَّى يَعْجَزَ عَمَّا هُوَ أَفْضَل مِنَ الصِّيَامِ، كَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ اللاَّزِمَةِ، وَإِلاَّ فَتَرْكُهُ أَفْضَل (1) .
ب - صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ - وَهُمَا: الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَالتَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (2) وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ (3) .
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأََصُومَنَّ التَّاسِعَ (4) .
وَقَدْ كَانَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَرْضًا فِي الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ نُسِخَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَخَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فِي صَوْمِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرِينَ وَاخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (5) ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الأُْصُولِيُّونَ.
__________
(1) الروض المربع 1 / 145.
(2) حديث: " احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله. . . ". أخرجه مسلم (2 / 819) من حديث أبي قتادة.
(3) حديث معاوية: " هذا يوم عاشوراء. . . ". أخرجه البخاري (4 / 244) .
(4) حديث: " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع. . . ". أخرجه مسلم (2 / 798) .
(5) كشاف القناع 2 / 339، والإنصاف 3 / 346.(28/89)
وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ - كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ - يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ مَاضِيَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ: الصَّغَائِرُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغَائِرَ، حُتَّتْ مِنْ كَبَائِرِ سَنَةٍ، وَذَلِكَ التَّحْتِيتُ مَوْكُولٌ لِفَضْل اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ كَفَّارَةُ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَغَائِرُ رُجِيَ التَّخْفِيفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مُنْفَرِدًا عَنِ التَّاسِعِ، أَوْ عَنِ الْحَادِيَ عَشَرَ.
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِفْرَادُ عَاشُورَاءَ بِالصَّوْمِ، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال الْحَطَّابُ: قَال الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ صَوْمَ يَوْمٍ قَبْلَهُ وَيَوْمٍ بَعْدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ غَرِيبٌ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صُومُوا يَوْمَ(28/90)
عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا (1) .
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ.
الثَّالِثُ: الاِحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلاَل وَوُقُوعِ الْغَلَطِ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ.
وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ، إِنْ لَمْ يَصُمِ التَّاسِعَ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: بَل نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ وَالإِْمْلاَءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الثَّلاَثَةِ (2) .
ج - صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ - وَهُوَ: الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ: سَنَةً مَاضِيَةً، وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً، رَوَى أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي
__________
(1) حديث: " صوموا يوم عاشوراء. . . ". أخرجه أحمد (1 / 241) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 188) وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (350 ط دار الإيمان) ، حاشية الدسوقي 1 / 516، مواهب الجليل 2 / 403، القليوبي وعميرة 2 / 273، المجموع (6 / 283 ط. المكتبة السلفية.) كشاف القناع 2 / 339.(28/90)
قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ (1) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ أَفْضَل الأَْيَّامِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ، وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا، وَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ لَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَخِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْفَضْل بِنْتُ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَ (3) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَصُمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (4) ، لأَِنَّهُ يُضْعِفُهُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَل، وَقِيل: لأَِنَّهُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ وَزُوَّارُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُسَنُّ فِطْرُهُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُطْلَقًا، وَقَالُوا: يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِل عَرَفَةَ إِلاَّ لَيْلاً؛ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ.
__________
(1) حديث أبي قتادة: " صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 819) .
(2) حديث: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه. . . ". أخرجه مسلم (2 / 983) من حديث عائشة.
(3) حديث أم الفضل: " أنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (4 / 237) ومسلم (2 / 791) .
(4) حديث: " ابن عمر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الترمذي (2 / 116) وقال: حديث حسن.(28/91)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ - أَيْضًا - إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَلاَ يُخِل بِالدَّعَوَاتِ، فَلَوْ أَضْعَفَهُ كُرِهَ لَهُ الصَّوْمُ (1) .
د - صَوْمُ الثَّمَانِيَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الأَْيَّامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّةِ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَل الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَْيَّامِ - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ - قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ (2) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَآكَدُهُ الثَّامِنُ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ هَذِهِ الأَْيَّامِ لِلْحَاجِّ أَيْضًا. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِلْحَاجِّ. قَال فِي الْمُتْيَطِيَّةِ: وَيُكْرَهُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَصُومَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ تَطَوُّعًا. قَال الْحَطَّابُ: بِمِنًى
__________
(1) ابن عابدين 2 / 83، حاشية الدسوقي 1 / 515، مواهب الجليل 2 / 403، القليوبي وعميرة 2 / 73، مغني المحتاج 1 / 446 كشاف القناع 2 / 339.
(2) حديث ابن عباس: " ما من أيام العمل الصالح فيهن. . . ". أخرجه البخاري (2 / 459) .(28/91)
يَعْنِي فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، يُسَمَّى عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ يَوْمَ مِنًى (1) .
هـ - صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ صَوْمِ رَمَضَانَ، لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (2) وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُنَّ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ (3) يَعْنِي: أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، الشَّهْرُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالأَْيَّامُ السِّتَّةُ بِسِتِّينَ يَوْمًا، فَذَلِكَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ صَوْمَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ - بَعْدَ رَمَضَانَ - يَعْدِل صِيَامَ سَنَةٍ فَرْضًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَخْتَصُّ ذَلِكَ
__________
(1) الفتاوى الهندية (1 / 201 ط. الأميرية 1310 هـ) حاشية الدسوقي 1 / 515، مغني المحتاج 1 / 446، القليوبي وعميرة 2 / 73، كشاف القناع 2 / 338.
(2) حديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال. . . ". أخرجه مسلم (2 / 822) .
(3) حديث ثوبان: " صيام شهر رمضان بعشرة أشهر. . . ". أخرجه الدارمي (2 / 21) ، وإسناده صحيح.(28/92)
بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، لأَِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا.
وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرَاهَةُ صَوْمِ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: كَرَاهَتُهُ مُتَتَابِعًا، لاَ مُتَفَرِّقًا. لَكِنَّ عَامَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ، نَقْلاً عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِهِ التَّجْنِيسِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونَ تَشَبُّهًا بِالنَّصَارَى، وَالآْنَ زَال ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاعْتَبَرَ الْكَاسَانِيُّ مَحَل الْكَرَاهَةِ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَأَمَّا إِذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ صَوْمَهَا لِمُقْتَدًى بِهِ، وَلِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا، إِنْ صَامَهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً وَأَظْهَرَهَا، أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ سُنِّيَّةَ اتِّصَالِهَا، فَإِنِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ اسْتُحِبَّ صِيَامُهَا.
قَال الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ أَهْل الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَأَمَّا الرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا.(28/92)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ تَحْصُل الْفَضِيلَةُ بِصِيَامِ السِّتَّةِ فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، وَتَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، لِظَاهِرِ الأَْخْبَارِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: اسْتِحْبَابُ صَوْمِهَا لِكُل أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَصَامَ رَمَضَانَ أَمْ لاَ، كَمَنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ أَوْ صِبًا أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ كَثِيرِينَ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَلَفْظِ الْحَدِيثِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا إِلاَّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ.
12 - كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ تَتَابُعِهَا عَقِبَ الْعِيدِ مُبَادَرَةً إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنَ الآْفَاتِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُسْتَحَبُّ السِّتَّةُ مُتَفَرِّقَةً، كُل أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً، وَنَصُّوا عَلَى حُصُول الْفَضِيلَةِ وَلَوْ صَامَهَا فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، بَل اسْتَحَبُّوا صِيَامَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ مَحَل تَعْيِينِهَا فِي الْحَدِيثِ فِي شَوَّالٍ عَلَى(28/93)
التَّخْفِيفِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، لاِعْتِيَادِهِ الصِّيَامَ، لاَ لِتَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِذَلِكَ.
قَال الْعَدَوِيُّ: إِنَّمَا قَال الشَّارِعُ: (مِنْ شَوَّالٍ) لِلتَّخْفِيفِ بِاعْتِبَارِ الصَّوْمِ، لاَ تَخْصِيصَ حُكْمِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلاَ جُرْمَ إِنْ فَعَلَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ مَا رُوِيَ فِي فَضْل الصِّيَامِ فِيهِ أَحْسَنُ، لِحُصُول الْمَقْصُودِ مَعَ حِيَازَةِ فَضْل الأَْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ. بَل فِعْلُهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَسَنٌ أَيْضًا، وَالْحَاصِل: أَنَّ كُلَّمَا بَعُدَ زَمَنُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ لِشِدَّةِ الْمَشَقَّةِ (1) .
و صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اسْتِحْبَابِ كَوْنِهَا الأَْيَّامَ الْبِيضَ - وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُل شَهْرٍ عَرَبِيٍّ - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَكَامُل ضَوْءِ الْهِلاَل وَشِدَّةِ الْبَيَاضِ فِيهَا، لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَصُمْ ثَلاَثَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 125، بدائع الصنائع 2 / 78 (دار الكتاب العربي 1974) الفتاوى الهندية (1 / 201 ط الأميرية 1310 هـ.) حاشية الدسوقي 1 / 517، الخرشي على خليل 2 / 243، ومواهب الجليل 2 / 414 (مكتبة النجاح - ليبيا.) ، مغني المحتاج 1 / 447، كشاف القناع 2 / 337 (مكتبة النصر الحديث - الرياض.) . (الإنصاف 3 / 343 ط دار إحياء التراث العربي 1980 م.) .(28/93)
عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالأَْحْوَطُ صَوْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ مَعَهَا - أَيْضًا - لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ قَال: إِنَّهُ أَوَّل الثَّلاَثَةِ، وَيُسْتَثْنَى ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ يَجُوزُ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَيُبَدَّل بِالسَّادِسِ عَشَرَ مِنْهُ كَمَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الأَْيَّامِ الْبِيضِ، فِرَارًا مِنَ التَّحْدِيدِ، وَمَخَافَةَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا. وَمَحَل الْكَرَاهَةِ: إِذَا قَصَدَ صَوْمَهَا بِعَيْنِهَا، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الثَّوَابَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِصَوْمِهَا خَاصَّةً. وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ صِيَامَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ فَلاَ كَرَاهَةَ.
قَال الْمَوَّاقُ: نَقْلاً عَنْ ابْنِ رُشْدٍ: إِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ صَوْمَهَا لِسُرْعَةِ أَخْذِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ، فَيَظُنُّ الْجَاهِل وُجُوبَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَصُومُهَا، وَحَضَّ مَالِكٌ - أَيْضًا - الرَّشِيدَ عَلَى صِيَامِهَا.
وَصَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُل بِصِيَامِهَا أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الأَْجْرِ، الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ
__________
(1) حديث أبي ذر: " يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 125) وقال: " حديث حسن ".
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج للمحلى 2 / 73.(28/94)
أَمْثَالِهَا؛ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. قَال: قَال: وَهُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ (1) أَيْ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (2) .
ز - صَوْمُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ (3) .
لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَال: إِنَّ أَعْمَال الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ (4) ، وَلِمَا
__________
(1) حديث قتادة بن ملحان: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 821) وفي إسناده اضطراب كما في مختصر السنن للمنذري (3 / 329 - 330) .
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 83، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 350، حاشية الدسوقي 1 / 517، مواهب الجليل 2 / 414.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 350، بدائع الصنائع 2 / 79، حاشية الدسوقي 1 / 517، مغني المحتاج 1 / 446، كشاف القناع 2 / 337.
(4) حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس أخرجه أبو داود (2 / 814) دون قوله: " وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " فأخرجه النسائي (4 / 202) وأعل المنذري في " مختصر السنن " (3 / 320) إسناد أبي داود، وحسن إسناد النسائي.(28/94)
وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ صَوْمِ الاِثْنَيْنِ فَقَال: فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِل عَلَيَّ (1) .
ح - صَوْمُ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَل الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ: الْمُحَرَّمُ، ثُمَّ رَجَبٌ، ثُمَّ بَاقِيهَا: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاَةُ فِي جَوْفِ اللَّيْل، وَأَفْضَل الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَصُومَ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ مِنْ كُل شَهْرٍ مِنْ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ مِنَ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِ الأَْشْهُرِ
__________
(1) حديث أبي قتادة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين. . . ". أخرجه مسلم (2 / 820) .
(2) حديث: " أفضل الصلاة بعد المكتوبة: جوف الليل ". أخرجه مسلم (2 / 821) من حديث أبي هريرة.(28/95)
الْحُرُمِ، لَكِنَّ الأَْكْثَرَ لَمْ يَذْكُرُوا اسْتِحْبَابَهُ، بَل نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ (1) . وَلأَِنَّ فِيهِ إِحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ. وَتَزُول الْكَرَاهَةُ بِفِطْرِهِ فِيهِ وَلَوْ يَوْمًا، أَوْ بِصَوْمِهِ شَهْرًا آخَرَ مِنَ السَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَل رَجَبًا (2) .
ط - صَوْمُ شَهْرِ شَعْبَانَ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ شَهْرِ شَعْبَانَ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ (3) . وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانَ، بَل كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ (4)
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب ". أخرجه ابن ماجه (1 / 554) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 307) " هذا إسناد فيه داود بن عطاء المدني، وهو متفق على تضعيفه ".
(2) الفتاوى الهندية (1 / 201 ط الأميرية 1310 هـ) حاشية الدسوقي 1 / 516، ومغني المحتاج 1 / 449، كشاف القناع 2 / 338، 340، الفروع 3 / 119.
(3) حديث عائشة: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان. . . ". أخرجه البخاري (4 / 213) ومسلم (2 / 810) .
(4) حديث عائشة: " كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ". أخرجه النسائي (4 / 199) بإسناد حسن.(28/95)
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (1) .
قَال الْعُلَمَاءُ: اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلأَْوَّل، فَالْمُرَادُ بِكُلِّهِ غَالِبُهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَل صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ (2) . قَال الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِل ذَلِكَ لِئَلاَّ يُظَنَّ وُجُوبُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ شَعْبَانَ، وَذَلِكَ فِي قَوْل الأَْكْثَرِ، وَاسْتَحَبَّهُ صَاحِبُ الإِْرْشَادِ (3) .
ى - صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ:
17 - لاَ بَأْسَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَلاَ يُفْطِرُ.
__________
(1) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله ". أخرجه مسلم (2 / 811) .
(2) حديث عائشة: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ". أخرجه البخاري (4 / 213) ومسلم (2 / 810) .
(3) الفتاوى الهندية 1 / 202، مواهب الجليل 2 / 407 مكتبة النجاح - ليبيا، حاشية الدسوقي 1 / 516، مغني المحتاج 1 / 449، كشاف القناع 2 / 340.(28/96)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: جَاءَ حَدِيثٌ فِي كَرَاهَتِهِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، وَالآْخَرُ مِنْهُمَا النَّهْيُ؛ لأَِنَّ فِيهِ وَظَائِفَ، فَلَعَلَّهُ إِذَا صَامَ ضَعُفَ عَنْ فِعْلِهَا.
وَمَحَل النَّهْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ مَخَافَةُ فَرْضِيَّتِهِ، وَقَدِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، لِحَدِيثِ: لاَ يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ (1) وَلِيَتَقَوَّى بِفِطْرِهِ عَلَى الْوَظَائِفِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، أَوْ لِئَلاَّ يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ، وَلِئَلاَّ يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ، وَلأَِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَطَعَامٍ (2) .
حُكْمُ الشُّرُوعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْمُتَطَوِّعِ إِتْمَامُهُ إِذَا بَدَأَ فِيهِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) حديث: " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله ". أخرجه البخاري (4 / 232) ومسلم (2 / 801) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) ابن عابدين 2 / 83، وحاشية الدسوقي 2 / 534، ومغني المحتاج 1 / 447، وكشاف القناع 2 / 340.(28/96)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَل، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (1) قَوْلُهُ " فَلْيُصَل " أَيْ فَلْيَدْعُ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ الْفِطْرُ جَائِزًا لَكَانَ الأَْفْضَل الْفِطْرَ، لإِِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ تَطَوُّعًا إِتْمَامُهُ إِذَا بَدَأَ فِيهِ، وَلَهُ قَطْعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ (2) ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَال: أَرِنِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَل، وَزَادَ النَّسَائِيُّ إِنَّمَا مِثْل صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِثْل الرَّجُل يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا (3) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا دعي أحدكم فليجب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1054) من حديث أبي هريرة.
(2) تبيين الحقائق 1 / 337، حاشية الدسوقي 1 / 527، مغني المحتاج 1 / 448، كشاف القناع 2 / 343.
(3) حديث عائشة: " يا رسول الله. أهدي لنا حيس. . . ". أخرجه مسلم (2 / 809) ، وزيادة النسائي هي في سننه (4 / 193 - 194) .
(4) حديث: " الصائم المتطوع أمين نفسه. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 100) والبيهقي (4 / 276) وقال ابن التركماني في هامش سنن البيهقي (4 / 278) : " هذا الحديث مضطرب إسنادا ومتنا ".(28/97)
إِفْسَادُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:
19 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ إِفْسَادِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ مَا نَصُّهُ: ذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الإِْفْطَارَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لاَ يَحِل، هَكَذَا فِي الْكَافِي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ قَطْعِهِ بِلاَ عُذْرٍ، وَاسْتِحْبَابِ إِتْمَامِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ.
وَمِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ الْفِطْرِ: الْحَلِفُ عَلَى الصَّائِمِ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ إِنْ لَمْ يُفْطِرْ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، بَل نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَدْبِ الْفِطْرِ دَفْعًا لِتَأَذِّي أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا جَوَازَ الْفِطْرِ إِلَى مَا قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ يَجُوزُ.
وَكَذَلِكَ مِنَ الأَْعْذَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الضِّيَافَةُ لِلضَّيْفِ وَالْمُضِيفِ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ لاَ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ، وَكَانَ الصَّائِمُ يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الإِْفْطَارِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ بِالْقَضَاءِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ الْفِطْرِ بِالْحَلِفِ بِالطَّلاَقِ بِتَعَلُّقِ قَلْبِ الْحَالِفِ بِمَنْ حَلَفَ
__________
(1) سورة محمد: 33.(28/97)
بِطَلاَقِهَا، بِحَيْثُ يَخْشَى أَنْ لاَ يَتْرُكَهَا إِنْ حَنِثَ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ الْفِطْرُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَمِنَ الأَْعْذَارِ - أَيْضًا -: أَمْرُ أَحَدِ أَبَوَيْهِ لَهُ بِالْفِطْرِ. وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الإِْفْطَارِ بِمَا إِذَا كَانَ أَمْرُ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْعَصْرِ لاَ بَعْدَهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَعَل وَجْهَهَا أَنَّ قُرْبَ وَقْتِ الإِْفْطَارِ يَرْفَعُ ضَرَرَ الاِنْتِظَارِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالأَْبَوَيْنِ الشَّيْخَ فِي السَّفَرِ، الَّذِي أَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَهْدَ أَنْ لاَ يُخَالِفَهُ، وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ: شَيْخُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ قَطْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ، كَمُسَاعَدَةِ ضَيْفٍ فِي الأَْكْل إِذَا عَزَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مُضِيفِهِ مِنْهُ، أَوْ عَكْسِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعِزَّ عَلَى أَحَدِهِمَا امْتِنَاعُ الآْخَرِ عَنْ ذَلِكَ فَالأَْفْضَل عَدَمُ خُرُوجِهِ مِنْهُ.
20 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ إِفْسَادِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ إِفْسَادِهِ. لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَةُ - وَكَانَتِ ابْنَةَ أَبِيهَا - فَقَالَتْ:(28/98)
يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَقَال: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ (1) .
وَلأَِنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةٌ، فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الْبُطْلاَنِ، وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِتْيَانِ الْبَاقِي، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ ضَرُورَةً، فَصَارَ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ التَّطَوُّعَيْنِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ عِنْدَ الإِْفْسَادِ مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ أُفْسِدَ عَنْ قَصْدٍ - وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ - أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ، بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ، وَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ: صَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلاَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، لاَ أَدَاءً وَلاَ قَضَاءً، إِذَا أُفْسِدَ، لاِرْتِكَابِهِ النَّهْيَ بِصِيَامِهَا، فَلاَ تَجِبُ صِيَانَتُهُ، بَل يَجِبُ إِبْطَالُهُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الصِّيَانَةِ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاءً، كَمَا لَمْ يَجِبْ أَدَاءً.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلاَ عُذْرٍ،
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أنا وحفصة صائمتين. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 103) وأعله بأن الصواب إرساله.
(2) سورة محمد / 33.(28/98)
قَال الْحَطَّابُ: احْتَرَزَ بِالْعَمْدِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالإِْكْرَاهِ، وَبِالْحَرَامِ عَمَّنْ أَفْطَرَ لِشِدَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ تَجَدُّدُ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَمَّنْ أَفْطَرَ لأَِمْرِ وَالِدَيْهِ وَشَيْخِهِ، وَعَدُّوا السَّفَرَ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرِ الْعَمْدِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، لَمْ يَكُنِ الْقَضَاءُ وَاجِبًا، لَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ أَفْسَدَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ قَضَاءَهُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ تَطَوُّعًا لَمْ يُثَبْ عَلَى مَا مَضَى، إِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ إِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ (1) .
الإِْذْنُ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ، إِلاَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 337، حاشية ابن عابدين 2 / 120، 121، حاشية الدسوقي 1 / 527، مواهب الجليل 2 / 430، الخرشي على خليل 2 / 251، مغني المحتاج 1 / 448، كشاف القناع 2 / 343، تصحيح الفروع مع الفروع 2 / 139.(28/99)
بِإِذْنِهِ (1) ، وَلأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِنَفْلٍ.
وَلَوْ صَامَتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا صَحَّ مَعَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ خَصُّوا الْحُرْمَةَ بِمَا يَتَكَرَّرُ صَوْمُهُ، أَمَّا مَا لاَ يَتَكَرَّرُ صَوْمُهُ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ فَلَهَا صَوْمُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِلاَّ إِنْ مَنَعَهَا.
وَلاَ تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجِ إِذَا كَانَ غَائِبًا، لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ وَلِزَوَال مَعْنَى النَّهْيِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَعِلْمُهَا بِرِضَاهُ كَإِذْنِهِ. وَمِثْل الْغَائِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - الْمَرِيضُ، وَالصَّائِمُ وَالْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا أَوْ صَائِمًا أَوْ مُحْرِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَهَا أَنْ تَصُومَ وَإِنْ نَهَاهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَصُومُ الأَْجِيرُ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ، إِنْ كَانَ صَوْمُهُ يَضُرُّ بِهِ فِي الْخِدْمَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
22 - وَإِذَا صَامَتِ الزَّوْجَةُ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فَلَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ تَفْطِيرِهَا بِالْجِمَاعِ فَقَطْ، أَمَّا بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ احْتِيَاجَهُ إِلَيْهَا الْمُوجِبَ
__________
(1) حديث: " لا تصم المرأة وبعلها شاهد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 711) من حديث أبي هريرة.(28/99)
لِتَفْطِيرِهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْوَطْءِ (1) .
التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِكَوْنِ الْقَضَاءِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ لَكُرِهَ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الضَّيِّقِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ، كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ. سَوَاءٌ كَانَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ، أَوْ كَانَ مُؤَكَّدًا، كَعَاشُورَاءَ وَتَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَعَدَمِ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ حِينَئِذٍ وَلَوِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَرْضِ حَتَّى يُقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ أَيْضًا، لِمَا رَوَى أَبُو
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 201، حاشية الدسوقي 1 / 541، الخرشي على خليل 2 / 465، البيان والتحصيل 2 / 310، القليوبي وعميرة 2 / 74، المجموع 6 / 392، حاشية الجمل 2 / 354، ومغني المحتاج 1 / 449، كشاف القناع 5 / 188.(28/100)
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُتَقَبَّل مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ (1) ، وَقِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ فِي عَدَمِ جَوَازِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ تَطَوُّعًا قَبْل حَجِّ الْفَرِيضَةِ (2)
وَمَسْأَلَةُ انْقِلاَبِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ إِلَى تَطَوُّعٍ، وَالنِّيَابَةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ - سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَطَوُّع ف 19، 27)
__________
(1) حديث: هريرة: " من صام تطوعا وعليه من رمضان. . . ". أخرجه أحمد (2 / 352) وفيه اضطراب كما في علل الحديث لابن أبي حاتم الرازي (1 / 259) .
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 117، الفتاوى الهندية 1 / 201، حاشية الدسوقي 1 / 518، مغني المحتاج 1 / 445، كشاف القناع 2 / 334.(28/100)
صَوْمَعَةٌ
انْظُرْ: مَعَابِد
صَوْمُ النَّذْرِ
انْظُرْ: نَذْر(28/101)
صِيَاغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّيَاغَةُ لُغَةً: مِنْ صَاغَ الرَّجُل الذَّهَبَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً جَعَلَهُ حُلِيًّا فَهُوَ صَائِغٌ وَصَوَّاغٌ، وَعَمَلُهُ الصِّيَاغَةُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - صِيَاغَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا حُلِيًّا مِنَ الْحِرَفِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْهَا صِيَاغَةُ الْحُلِيِّ الْمُحَرَّمَةِ، كَالْحُلِيِّ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الذَّهَبِ لِلرِّجَال.
وَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ احْتِرَافُ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ بِذَاتِهِ كَالاِتِّجَارِ بِالْخَمْرِ، وَاحْتِرَافِ الْكِهَانَةِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ إِعَانَةٌ عَلَى الْحَرَامِ كَالْكِتَابَةِ فِي الرِّبَا.
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: حُلِيّ، وَاحْتِرَاف، وَإِجَارَة) .
كَمَا يَحْرُمُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى صِيَاغَتِهِ لِلرِّجَال
__________
(1) المصباح المنير مادة صوغ، لسان العرب.(28/101)
أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ عَيْنَهَا تُمْلَكُ إِجْمَاعًا (1) .
3 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ صَاحِبِ الْحِرْفَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّيَا الرِّبَا.
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: حِرْفَة) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالصِّيَاغَةِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ:
4 - مِنْهَا: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الصِّيَاغَةِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا التَّمَاثُل فِي وَزْنِ الْمَصُوغِ فَيَجِبُ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَصُوغُ غَيْرَ الْمَصُوغِ فِي الْوَزْنِ.
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: صَرْف) .
5 - وَمِنْهَا: يَحِل لِلْمَرْأَةِ اتِّخَاذُ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْحُلِيُّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلاَّ التَّخَتُّمَ مِنَ الْفِضَّةِ بِمِقْدَارِ مِثْقَالٍ.
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حُلِيّ) .
6 - وَمِنْهَا: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَصُوغِ الْحُلِيِّ الْمُسْتَعْمَل اسْتِعْمَالاً مُحَرَّمًا كَحُلِيِّ الرَّجُل، وَاخْتَلَفُوا فِي زَكَاةِ مَا تَتَّخِذُهُ الْمَرْأَةُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُلِيّ) (وَزَكَاة) .
7 - وَمِنْهَا: أَنَّ تُرَابَ دَكَاكِينِ الصَّاغَةِ وَهُوَ مَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصِّيَاغَةِ مِنْ رَمَادٍ وَلاَ يُدْرَى
__________
(1) الحطاب 1 / 128، حاشية الدسوقي 1 / 64.(28/102)
مَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلاَّ بِالْفُلُوسِ أَوْ بِعِوَضٍ مِنْ غَيْرِ الْفُلُوسِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِذَهَبٍ أَوْ بِفِضَّةٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَيُؤَدِّي بَيْعُهُ بِهِمَا إِلَى الرِّبَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّمَاثُل (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تُرَابُ الصَّاغَةِ) .
8 - وَمِنْهَا: يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى الصَّاغَةِ فِي عَمَلِهِمْ، لأَِنَّ حِرْفَةَ الصِّيَاغَةِ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهَا التَّدْلِيسُ وَالْغِشُّ، وَذَلِكَ فِي الأُْمُورِ التَّالِيَةِ: -
1 - أَنْ يَبِيعُوا الْحُلِيَّ الْمَصُوغَةَ بِغَيْرِ جِنْسِهَا لِيَحِل فِيهَا التَّفَاضُل.
2 - أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارَ مَا فِي الْحُلِيِّ الْمَصُوغَةِ مِنْ غِشٍّ إِنْ وُجِدَ.
3 - إِذَا أَرَادَ صِيَاغَةَ شَيْءٍ مِنَ الْحُلِيِّ فَلاَ يَسْبِكَهُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ بَعْدَ تَحْقِيقِ وَزْنِهِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنْ سَبْكِهِ أَعَادَ الْوَزْنَ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى لِحَامٍ فَإِنَّهُ يَزِنُهُ قَبْل إِدْخَالِهِ فِيهِ وَلاَ يُرَكِّبُ شَيْئًا مِنَ الْفُصُوصِ وَالْجَوَاهِرِ عَلَى الْخَوَاتِمِ وَالْحُلِيِّ إِلاَّ بَعْدَ وَزْنِهِ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهَا (2) .
__________
(1) نهاية الرتبة 77 - 78، معالم القربة 134 - 137.
(2) المراجع السابقة.(28/102)
صِيَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّيَال فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَال يَصُول، إِذَا قَدِمَ بِجَرَاءَةٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ: الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ وَالاِسْتِعْلاَءُ عَلَى الْغَيْرِ.
وَيُقَال: صَاوَلَهُ مُصَاوَلَةً، وَصِيَالاً، وَصِيَالَةً، أَيْ: غَالَبَهُ وَنَافَسَهُ فِي الصَّوْل، وَصَال عَلَيْهِ، أَيْ: سَطَا عَلَيْهِ لِيَقْهَرَهُ، وَالصَّائِل: الظَّالِمُ، وَالصَّئُول: الشَّدِيدُ الصَّوْل، وَالصَّوْلَةُ: السَّطْوَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَصَؤُل الْبَعِيرُ: إِذَا صَارَ يَقْتُل النَّاسَ وَيَعْدُو عَلَيْهِمْ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّيَال الاِسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُغَاةُ:
2 - الْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَالاِعْتِدَاءُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.
وَالْبُغَاةُ هُمْ: قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، خَالَفُوا الإِْمَامَ الْحَقَّ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الاِنْقِيَادِ لَهُ، أَوْ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، مادة: (ص ي ل) ، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 256، ومغني المحتاج 4 / 194، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 165.(28/103)
مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ، بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ، وَتَأْوِيلٍ لاَ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ (1) .
ب - الْمُحَارِبُ.
3 - وَهُوَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ سُلُوكٍ، أَوْ أَخْذِ مَال مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ
وَالصَّائِل أَعَمُّ مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الصِّيَال حَرَامٌ، لأَِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) وَقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ (4) .
دَفْعُ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ
__________
(1) المصباح المنير وغريب القرآن مادة (بغى) ، والشرح الكبير على مختصر سيدي خليل مع حاشية الدسوقي 4 / 298، ومغني المحتاج 4 / 123.
(2) فتح القدير 5 / 422، والبدائع 7 / 90، والمغني 8 / 287، وتبصرة الحكام 2 / 271.
(3) سورة البقرة / 190.
(4) حديث: " كل المسلم على المسلم حرام. . . . ". أخرجه الترمذي (4 / 325) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: حديث حسن غريب.(28/103)
وَمَا دُونَهَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّائِل كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) فَالاِسْتِسْلاَمُ لِلصَّائِل إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (3) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - يُرِيدُ قَتْلَهُ - فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ (4) .
وَلأَِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ قَتْل نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا، وَلأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْل ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لأَِكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِل كَافِرًا، وَالْمَصُول عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ
__________
(1) سورة البقرة / 195
(2) سورة الأنفال / 39.
(3) حديث: " من قتل دون دمه فهو شهيد ". أخرجه الترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وقال حديث حسن صحيح.
(4) حديث: " من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين. . . ". أخرجه أحمد (6 / 266) وفي إسناده جهالة كما في المجمع للهيثمي 7 / 292.
(5) حاشية ابن عابدين 5 / 351، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 487، وجواهر الإكليل 2 / 297، ومواهب الجليل 6 / 323.(28/104)
سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ، إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لاَ حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِسْلاَمَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ، وَفِي حُكْمِهِ كُل مَهْدُورِ الدَّمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ.
كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ، لأَِنَّهَا تُذْبَحُ لاِسْتِبْقَاءِ الآْدَمِيِّ، فَلاَ وَجْهَ لِلاِسْتِسْلاَمِ لَهَا، مِثْلُهَا مَا لَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ وَنَحْوُهَا عَلَى إِنْسَانٍ وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إِلاَّ بِكَسْرِهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِل مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأَْظْهَرِ، بَل يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِل صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ، بَل قَال بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ كَابْنِ آدَمَ (1) يَعْنِي هَابِيل - وَلِمَا وَرَدَ عَنِ الأَْحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَال: خَرَجْتُ بِسِلاَحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَال: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْل النَّارِ، قِيل: فَهَذَا الْقَاتِل، فَمَا بَال الْمَقْتُول؟
__________
(1) حديث: " كن كابن آدم. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 486) من حديث ابن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن.(28/104)
قَال: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْل صَاحِبِهِ (1) وَلأَِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ الْقِتَال مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ - وَقَال: مَنْ أَلْقَى سِلاَحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِل مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) .
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِل مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا لاَ إِثْمَ عَلَيْهِمَا كَالْبَهِيمَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَسَائِل مِنْهَا:
أ - لَوْ كَانَ الْمَصُول عَلَيْهِ عَالِمًا تَوَحَّدَ فِي عَصْرِهِ، أَوْ خَلِيفَةً تَفَرَّدَ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الصَّائِل.
ب - لَوْ أَرَادَ الصَّائِل قَطْعَ عُضْوِ الْمَصُول عَلَيْهِ
__________
(1) حديث أبي بكرة: " إذا تواجه المسلمان. . . ". أخرجه البخاري (13 / 31 - 32) ومسلم (4 / 2213 - 2214) واللفظ للبخاري.
(2) سورة البقرة 195.(28/105)
فَيَجِبُ دَفْعُهُ لاِنْتِفَاءِ عِلَّةِ الشَّهَادَةِ.
قَال الأَْذْرَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ عُضْوٍ عِنْدَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، وَعَنْ نَفْسٍ ظَنَّ بِقَتْلِهَا مَفَاسِدَ فِي الْحَرِيمِ وَالْمَال وَالأَْوْلاَدِ.
ج - قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الصَّائِل بِغَيْرِ قَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَلأَِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْل نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.
أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ (2) وَلأَِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ الْقِتَال عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأََنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 188، ومغني المحتاج 4 / 195، وتحفة المحتاج 9 / 184، ونهاية المحتاج 8 / 23، وحاشية الجمل 5 / 166، وحاشية الباجوري 2 / 256.
(2) حديث أبي ذر رضي الله عنه عندما ذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا من الفتن، قال أبو ذر: " أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن. قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك. قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثو والحاكم 4 / 424، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) كشاف القناع 6 / 154، والمغني 8 / 331.(28/105)
قَتْل الصَّائِل وَضَمَانُهُ:
6 - إِنْ قَتَل الْمَصُول عَلَيْهِ الصَّائِل دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ الصَّائِل مِنْ قَتْل الْمَصُول عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ الصَّائِل، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْبَهِيمَةَ الصَّائِلَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَال غَيْرِهِ لإِِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ إِذَا أَكَلَهُ.
وَمِثْل الْبَهِيمَةِ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَضْمَنُهُمَا إِذَا قَتَلَهُمَا، لأَِنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ إِبَاحَةَ أَنْفُسِهِمَا، وَلِذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّا لَمْ يُقْتَلاَ. . لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ قَاتِل الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ الصَّائِلَيْنِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ؛ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي حَقِّ قَاتِل الْبَهِيمَةِ فَهُوَ الْقِيمَةُ (1) .
7 - وَيُدْفَعُ الصَّائِل بِالأَْخَفِّ فَالأَْخَفِّ إِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 351، وجواهر الإكليل 2 / 297، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 256، وكفاية الأخيار 2 / 120، ومغني المحتاج 4 / 194، والمغني لابن قدامة 8 / 328، وكشاف القناع 6 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 21، وحاشية الدسوقي 4 / 357.(28/106)
أَمْكَنَ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِكَلاَمٍ أَوِ اسْتِغَاثَةٍ بِالنَّاسِ حَرُمَ الضَّرْبُ، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ بِسَوْطٍ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ بِعَصًا، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ دَفْعُهُ بِقَتْلٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِي الأَْثْقَل مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيل الْمَقْصُودِ بِالأَْخَفِّ.
وَعَلَيْهِ فَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، أَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، أَوْ حَال بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَطَّلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ كُفَى شَرُّهُ وَلأَِنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْصُل بِهِ الدَّفْعُ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمَصُول عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِي تَوَهُّمُ الصِّيَال، أَوِ الشَّكُّ فِيهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ، وَعَدَل إِلَى رُتْبَةٍ - مَعَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ بِمَا دُونَهَا - ضَمِنَ، فَإِنْ وَلَّى الصَّائِل هَارِبًا فَاتَّبَعَهُ الْمَصُول عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ ضَمِنَ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ ثُمَّ وَلَّى هَارِبًا فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً وَقَطَعَ رِجْلَهُ مَثَلاً فَالرِّجْل مَضْمُونَةٌ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، فَإِنْ مَاتَ الصَّائِل مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ فَعَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا:(28/106)
أ - لَوْ كَانَ الصَّائِل يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، وَالْمَصُول عَلَيْهِ لاَ يَجِدُ إِلاَّ السَّيْفَ فَلَهُ الضَّرْبُ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلاَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ.
ب - لَوِ الْتَحَمَ الْقِتَال بَيْنَهُمَا، وَاشْتَدَّ الأَْمْرُ عَنِ الضَّبْطِ فَلَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَدَيْهِ، دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ.
ج - إِذَا ظَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ أَنَّ الصَّائِل لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْل فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إِنْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ هُوَ بِهِ فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ. وَيُصَدَّقُ الْمَصُول عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ، لِعُسْرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
د - إِذَا كَانَ الصَّائِل مُهْدَرَ الدَّمِ - كَمُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ - فَلاَ تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي حَقِّهِ بَل لَهُ الْعُدُول إِلَى قَتْلِهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ (1) .
الْهَرَبُ مِنَ الصَّائِل:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَرَبِ مِنَ الصَّائِل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.(28/107)
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَال، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالأَْهْوَنِ فَالأَْهْوَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِل إِلَى الأَْشَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الأَْسْهَل وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إِضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْهَرَبِ أَنْ يَكُونَ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فَلاَ يَجِبُ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الصَّائِل مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَوْ صَال عَلَيْهِ مُرْتَدٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ لَمْ يَجِبِ الْهَرَبُ وَنَحْوُهُ، بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ - حَيْثُ وَجَبَ الْهَرَبُ - فَقَاتَل وَقَتَل الصَّائِل، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الأَْوْجَهُ، وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ لَهُمْ أَيْضًا.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ إِقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ، فَلاَ يُكَلَّفُ الاِنْصِرَافُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ إِنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 351، وجواهر الإكليل 2 / 297، ومواهب الجليل 6 / 323، ومغني المحتاج 4 / 197، ونهاية المحتاج 8 / 25، وحاشية الجمل 5 / 168، وكفاية الأخيار 2 / 120، والمغني لابن قدامة 8 / 331، وكشاف القناع 6 / 154، تبصرة الحكام 2 / 303.(28/107)
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ:
9 - لاَ يَخْتَلِفُ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأَْطْرَافِ إِذَا صَال عَلَيْهَا صَائِلٌ - عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ إِذَا كَانَ الْمَصُول عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.
وَاسْتَدَلُّوا فِي وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَأَطْرَافِهِ بِنَفْسِ الأَْدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ - إِذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا - حُكْمُهُ كَحُكْمِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي، إِذْ لاَ يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَحَل الْوُجُوبِ - عِنْدَهُمْ - إِذَا أَمِنَ الْهَلاَكَ عَلَى نَفْسِهِ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَل رُوحَهُ بَدَلاً عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قِتَال الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ فَلاَ يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 488، والفتاوى الخانية 3 / 441، وحاشية ابن عابدين 5 / 351، وتبصرة الحكام 2 / 303، وجواهر الإكليل 2 / 297، ومواهب الجليل 6 / 323.(28/108)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَوَّلُهُمَا: يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأَْطْرَافِ قَطْعًا، لأَِنَّ لَهُ الإِْيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُذِل عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ - أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
ثَانِيهِمَا: لاَ يَجُوزُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ شَهْرَ السِّلاَحِ يُحَرِّكُ الْفِتَنَ، وَخَاصَّةً فِي مَجَال نُصْرَةِ الآْخَرِينَ، وَلَيْسَ الدِّفَاعُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الإِْمَامِ وَوُلاَةِ الأُْمُورِ.
وَيَجْرِي هَذَا الْخِلاَفُ فِي الْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لآِحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإِْمَامُ وَغَيْرُهُ - مِنَ الْوُلاَةِ - فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الصَّائِل عَلَى نَفْسِ الْغَيْرِ اتِّفَاقًا (2) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الأَْطْرَافِ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ، وَمَعَ
__________
(1) حديث: " من أذل عنده. . . ". أخرجه أحمد (3 / 487) من حديث سهل بن حنيف، أورده الهيثمي في المجمع (7 / 267) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
(2) مغني المحتاج 4 / 195، وروضة الطالبين 10 / 189، وتحفة المحتاج 9 / 185، ونهاية المحتاج 8 / 23.(28/108)
ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ عَنْهُ، وَإِلاَّ حَرُمَ الدِّفَاعُ (1) .
دَفْعُ الصَّائِل عَنِ الْعِرْضِ:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُل دَفْعُ الصَّائِل عَلَى بُضْعِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ أَهْلِهِ، لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَمِثْل الزِّنَا بِالْبُضْعِ فِي الْحَكَمِ مُقَدِّمَاتُهُ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى إِلَى قَتْل الصَّائِل فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. . . بَل إِنْ قُتِل الدَّافِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) .
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ مَنْعُ الْفَاحِشَةِ - وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (3) .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِوُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ عِرْضِهِ وَعِرْضِ غَيْرِهِ: أَنْ لاَ يَخَافَ الدَّافِعُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ أَعْضَائِهِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَصُول عَلَيْهَا مِنْ أَجْل الزِّنَا بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ، لأَِنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، وَفِي تَرْكِ
__________
(1) كشف المخدرات ص 478، وكشاف القناع 6 / 156.
(2) حديث: " من قتل دون أهله. . . ". سبق تخريجه - فقرة / 5.
(3) حديث: " انصر أخاك. . . ". أخرجه البخاري (12 / 323) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(28/109)
الدَّفْعِ نَوْعُ تَمْكِينٍ، فَإِذَا قَتَلَتِ الصَّائِل - وَلَمْ يَكُنْ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْل - فَلاَ تَضْمَنُهُ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَرَادَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَاللَّهِ لاَ يُودَى أَبَدًا وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ عِرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ رَأَى رَجُلاً يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ - أَوْ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ - وَهُوَ مُحْصَنٌ فَصَاحَ بِهِ، وَلَمْ يَهْرُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الزِّنَا حَل لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى يَوْمًا إِذْ أَقْبَل رَجُلٌ يَعْدُو وَمَعَهُ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ مَعَ عُمَرَ، فَجَعَل يَأْكُل وَأَقْبَل جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا قَتَل صَاحِبَنَا مَعَ امْرَأَتِهِ، فَقَال عُمَرُ: مَا يَقُول هَؤُلاَءِ؟ قَال: إِنَّهُ ضَرَبَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلَهُ، فَقَال لَهُمْ عُمَرُ: مَا يَقُول؟ قَالُوا: ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ فَأَصَابَ وَسَطَ الرَّجُل فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ، فَقَال عُمَرُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (2) .
__________
(1) المصادر السابقة، والمغني لابن قدامة (8 / 331) وكشاف القناع 6 / 156، وحديث: " من قتل دون عرضه فهو شهيد ". أخرجه الترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وقال حديث حسن صحيح.
(2) أثر عمر رضي الله عنه: " إن عادوا فعد. . . . ". المغني 8 / 331.(28/109)
11 - وَإِذَا قَتَل رَجُلاً، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُول فَالْقَوْل قَوْل الْوَلِيِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ دَخَل بَيْتَهُ، فَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلٌ، فَقَتَلَهَا وَقَتَلَهُ، قَال عَلِيٌّ: إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مَا يَدَّعِيهِ، فَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُ الْقَتْل بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيِّنَةِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، لِخَبَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعِهِ شُهَدَاءَ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. . . الْحَدِيثَ " (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَكْفِي شَاهِدَانِ، لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ عَلَى وُجُودِ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الزِّنَا (2) .
وَكَذَا لَوْ قَتَل رَجُلاً فِي دَارِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ عَلَى مَنْزِلِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُول، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْتُول مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ، قُتِل صَاحِبُ الدَّارِ
__________
(1) حديث سعد بن عبادة: " أيا رسول الله! أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1135) .
(2) مغني المحتاج 4 / 199، وروضة الطالبين 10 / 190، والمغني لابن قدامة 8 / 331، وحاشية الدسوقي 4 / 357.(28/110)
قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُول مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِل فِي الْقِيَاسِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُول فِي الاِسْتِحْسَانِ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْحَال أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ لاَ الْمَال (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ يَحْضُرُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَيَكْفِي فِي الْبَيِّنَةِ قَوْلُهَا: دَخَل دَارَهُ شَاهِرًا السِّلاَحَ، وَلاَ يَكْفِي قَوْلُهَا: دَخَل بِسِلاَحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيل عَدَاوَةٌ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُول يُعْرَفُ بِفَسَادٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ رَأَوْا هَذَا مُقْبِلاً إِلَى هَذَا بِالسِّلاَحِ الْمَشْهُورِ فَضَرَبَهُ هَذَا، فَقَدْ هُدِرَ دَمُهُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ دَاخِلاً دَارَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلاَحًا، أَوْ ذَكَرُوا سِلاَحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ قَدْ يَدْخُل لِحَاجَةٍ، وَمُجَرَّدُ الدُّخُول لاَ يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 351.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 357.
(3) مغني المحتاج 4 / 199، وروضة الطالبين 10 / 190.(28/110)
وَإِنْ تَجَارَحَ رَجُلاَنِ، وَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا قَائِلاً: إِنِّي جَرَحْتُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِي، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَال دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَرَحَهُ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الآْخَرِ مَا يُنْكِرُهُ، وَالأَْصْل عَدَمُهُ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، شَهَادَة) .
دَفْعُ الصَّائِل عَلَى الْمَال:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى الْمَال وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتِل دُونَ مَالِكَ (2) . وَاسْمُ الْمَال يَقَعُ عَلَى الْقَلِيل كَمَا يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ. فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى مَالِهِ إِلاَّ بِالْقَتْل فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (3) .
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِهِ وَمَال غَيْرِهِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَأَى رَجُلاً يَسْرِقُ مَالَهُ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ، أَوْ رَأَى رَجُلاً يَثْقُبُ حَائِطَهُ، أَوْ حَائِطَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 333.
(2) حديث: " قاتل دون مالك ". أخرجه النسائي 7 / 114، من حديث المخارق وإسناده صحيح.
(3) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد ". أخرجه البخاري (5 / 123) ومسلم (1 / 125) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.(28/111)
يَهْرُبْ حَل لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِلْوُجُوبِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِهِ هَلاَكٌ، أَوْ شِدَّةُ أَذًى، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ الدَّفْعُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَال، لأَِنَّهُ يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا رُوحٍ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَا إِنْ كَانَ مَال مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ مَالاً مُودَعًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عَلَى بُضْعٍ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى شَخْصًا يُتْلِفُ حَيَوَانَ نَفْسِهِ إِتْلاَفًا مُحَرَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، مِنْ بَابِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَل الصَّائِل عَلَى الْمَال فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ وَلاَ قِيمَةٍ، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ بِالْقِتَال وَالْقَتْل، وَبَيْنَ الأَْمْرِ بِالْقِتَال وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، قَال تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (3) وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 5 / 351، والفتاوى الخانية 3 / 441، وجواهر الإكليل 2 / 297، ومواهب الجليل 6 / 323، والدسوقي 4 / 357.
(2) سورة البقرة / 194.
(3) حديث: " انصر أخاك ظالما. . . ". سبق تخرجه فقرة 10.(28/111)
أَيْضًا: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.
وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ مِنْ جَوَازِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمَال صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَصَدَ مُضْطَرٌّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَالِكِهِ دَفْعُهُ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا مِثْلَهُ، فَإِنْ قَتَل الْمَالِكُ الصَّائِل الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَالأُْخْرَى: إِذَا كَانَ الصَّائِل مُكْرَهًا عَلَى إِتْلاَفِ مَال غَيْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْهُ، بَل يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ، كَمَا يَتَنَاوَل الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعُ الْمُكْرَهِ.
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَهَذَا فِي آحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الإِْمَامُ وَنُوَّابُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الدِّفَاعُ عَنْ أَمْوَال رَعَايَاهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلاَ مَال غَيْرِهِ، وَلاَ حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالْهَلاَكِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ بَذْلُهُ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُ ظُلْمًا. وَتَرْكُ الْقِتَال عَلَى مَالِهِ أَفْضَل مِنَ الْقِتَال عَلَيْهِ.
وَقِيل: يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ.
أَمَّا دَفْعُ الإِْنْسَانِ عَنْ مَال غَيْرِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الطَّالِبِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 195، وحاشية الباجوري 2 / 256، وروضة الطالبين 10 / 188، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 166.(28/112)
وَقَال جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَال الْغَيْرِ مَعَ ظَنِّ سَلاَمَةِ الدَّافِعِ وَالصَّائِل، وَإِلاَّ حُرِّمَ الدِّفَاعُ.
قَالُوا: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعُونَةُ غَيْرِهِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ مَعَ ظَنِّ السَّلاَمَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (1) ، وَلأَِنَّهُ لَوْلاَ التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَال النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ، لأَِنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إِذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَال إِنْسَانٍ - وَلَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ - فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَال الْكُل، وَاحِدًا وَاحِدًا (2) .
__________
(1) حديث: " انصر أخاك. . . ". تقدم ف 10.
(2) كشاف القناع 6 / 156، والمغني لابن قدامة 8 / 332، وكشف المخدرات ص 478، والإنصاف 10 / 304.(28/112)
صَيْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّيْدُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، أَيْ فِعْل الاِصْطِيَادِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ، يُقَال: صَيْدُ الأَْمِيرِ، وَصَيْدٌ كَثِيرٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْمِصْيَدُ، كَمَا يُقَال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (1) .
وَالصَّيْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصِيدِ: (2) يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْكَاسَانِيُّ عَلَى الإِْطْلاَقِ الثَّانِي (أَيِ الْمَصِيدِ) بِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ، وَلاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ، إِمَّا لِطَيَرَانِهِ أَوْ لِعَدْوِهِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الْبُهُوتِيُّ بِالإِْطْلاَقَيْنِ: (الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَالْمَصِيدِ) فَقَال: الصَّيْدُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ: اقْتِنَاصُ حَيَوَانٍ مُتَوَحِّشٍ طَبْعًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس، وانظر الاختيار لتعليل المختار للموصلي 5 / 2.
(2) حاشية الجمل 5 / 233، وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي 6 / 213، ومغني المحتاج 4 / 265.
(3) سورة المائدة 95.
(4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 35.
(5) كشاف القناع 6 / 213.(28/113)
أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي - أَيِ الْمَصِيدِ - فَعَرَّفَهُ بِقَوْلِهِ: الصَّيْدُ حَيَوَانٌ مُقْتَنَصٌ حَلاَلٌ مُتَوَحِّشٌ طَبْعًا، غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَخَرَجَ الْحَرَامُ كَالذِّئْبِ، وَالإِْنْسِيُّ كَالإِْبِل وَلَوْ تَوَحَّشَتِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الذَّبْحُ:
2 - الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مِنَ الْعُنُقِ (2) .
ب - النَّحْرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي النَّحْرِ فِي اللُّغَةِ: الطَّعْنُ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، لأَِنَّهَا مُسَامِتَةٌ لأَِعْلَى صَدْرِهِ، يُقَال: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ النَّحْرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْفُقَهَاءِ: يُسْتَحَبُّ فِي الإِْبِل النَّحْرُ (4) . (ر: نَحْر) .
ج - الْعَقْرُ:
4 - الْعَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لُغَةً: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ.
__________
(1) نفس المرجع.
(2) القاموس ولسان العرب والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة: (ذبح) .
(3) لسان العرب، والقاموس، وتاج العروس.
(4) بدائع الصنائع 5 / 60.(28/113)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى: الإِْصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالسَّهْمِ أَمْ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ (1) . (ر: عَقْر) .
أَقْسَامُ الصَّيْدِ:
5 - الصَّيْدُ نَوْعَانِ: بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ.
فَالصَّيْدُ الْبَرِّيُّ: مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْبَرِّ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ.
أَمَّا الصَّيْدُ الْبَحْرِيُّ: فَهُوَ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ، لأَِنَّ التَّوَالُدَ أَصْلٌ، وَالْكَيْنُونَةَ بَعْدَهُ عَارِضٌ.
فَكَلْبُ الْمَاءِ وَالضُّفْدَعُ، وَمِثْلُهُ السَّرَطَانُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ بَحْرِيٌّ يَحِل اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (3) .
وَأَمَّا الْبَرِّيُّ: فَحَرَامٌ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ. ر: (حَرَم، فِقْرَة: 13) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الأَْصْل فِي الصَّيْدِ الإِْبَاحَةُ، إِلاَّ لِمُحْرِمٍ أَوْ فِي الْحَرَمِ، يَدُل عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ، وَالْمَعْقُول.
__________
(1) لسان العرب، والبدائع 5 / 43.
(2) الاختيار 1 / 166، ابن عابدين 2 / 212.
(3) سورة المائدة / 96.(28/114)
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتٌ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ، مِنْهَا: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلاَبِ، فَمَا يَحِل لَنَا مِنْهَا؟ فَقَال: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُل الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُل (3) .
وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ، وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 96.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) حديث عدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلابك المعلمة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 612) .
(4) حديث أبي ثعلبة الخشني: " ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 612) ومسلم (3 / 1532) .(28/114)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَبَيَانُهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُمَارِسُونَ الصَّيْدَ فِي عَهْدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُهُودِ أَصْحَابِهِ وَتَابِعِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ أَنَّ الصَّيْدَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمُكَلَّفِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ إِقَامَةِ التَّكَالِيفِ، فَكَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ الاِحْتِطَابِ (1) . وَبِهَذَا تَتَبَيَّنُ حِكْمَةَ مَشْرُوعِيَّتِهِ.
7 - وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الأَْصْل فِي الصَّيْدِ الإِْبَاحَةُ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ بِأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
8 - أ - يَكُونُ الصَّيْدُ خِلاَفَ الأَْوْلَى إِذَا حَدَثَ لَيْلاً، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلاَفِهِ، فَفِي الْمُغْنِي: قَال أَحْمَدُ: " لاَ بَأْسَ بِصَيْدِ اللَّيْل " (2) .
9 - ب - وَيُكْرَهُ الصَّيْدُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّلَهِّيَ وَالْعَبَثَ (3) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (4) . أَيْ هَدَفًا.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 50.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 5 / 306، نقلا عن الخانية، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 11 / 11.
(3) ابن عابدين نقلا عن مجمع الفتاوى 5 / 297، والشرح الكبير للدردير 2 / 108، ومطالب أولي النهى 6 / 340.
(4) حديث: " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ". أخرجه مسلم (3 / 1549) من حديث ابن عباس.(28/115)
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا أُخْرَى لِلْكَرَاهَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَعْلِيمَ الْبَازِي بِالصُّيُودِ الْحَيَّةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ (1) .
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ حِرْفَةِ الاِصْطِيَادِ عُمُومًا، فَقَدْ رَدَّهُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: وَقَالُوا: إِنَّ التَّحْقِيقَ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِهِ حِرْفَةً، لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الاِكْتِسَابِ، وَكُل أَنْوَاعِ الْكَسْبِ فِي الإِْبَاحَةِ سَوَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْكَسْبُ بِالرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ، فَلاَ يُذَمُّ بَعْضُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِصْطِيَادُ فِي صُوَرٍ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَالْعَذِرَةِ، وَالْمَيْتَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَكْل الْمَصِيدِ لِلنَّجَاسَةِ.
ب - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِبَنَاتِ وَرْدَانَ، لأَِنَّ مَأْوَاهَا الْحُشُوشُ (3) .
ج - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِالضَّفَادِعِ، لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا.
__________
(1) الدر المختار على هامش ابن عابدين 5 / 306.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 297.
(3) بنات وردان مفرده بنت وردان، وهي دويبة نحو الخنفساء حمراء اللون، وأكثر ما تكون في الحمامات وفي الكنف، والحشوش بالضم (جمع حش بالضم والفتح وله معان منها الكنيف) (المعجم الوسيط مادتي " ورد، وحش ") .(28/115)
د - وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِالْخَرَاطِيمِ (1) ، وَكُل شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ (2) .
10 - وَيَحْرُمُ الصَّيْدُ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
وَالصَّيْدُ بَرِّيًّا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (3) وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ حَرَمِيًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّائِدُ مُحْرِمًا أَمْ حَلاَلاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} (4) الآْيَةَ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (5) ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا.
ج - أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّيْدِ أَثَرُ الْمِلْكِ، كَخَضْبٍ أَوْ قَصِّ جَنَاحٍ أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الشَّافِعِيَّةُ نَصًّا، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَمْلُوكٌ لِشَخْصٍ آخَرَ (6) . وَيُشْتَرَطُ
__________
(1) الخراطيم بالميم هكذا في المغني والشرح الكبير، ولعله: الخراطين بالنون وهي ديدان طوال تكون في طين الأنهار، كما في المعجم الوسيط وغيره، والظاهر أن المراد: الديدان التي فيها الروح، فإن قتله حل الاصطياد بها.
(2) المغني والشرح الكبير 11 / 32.
(3) سورة المائدة / 96.
(4) سورة العنكبوت / 67.
(5) حديث: " ولا ينفر صيدها. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46) ومسلم (2 / 988) من حديث ابن عباس.
(6) نهاية المحتاج 8 / 117.(28/116)
فِي الصَّيْدِ أَنْ لاَ يَكُونَ مَمْلُوكًا (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ صُورَةً أُخْرَى يَحْرُمُ فِيهَا الصَّيْدُ، وَهِيَ: خُلُوُّهُ عَنْ نِيَّةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَأَنْ يُصَادَ الْمَأْكُول أَوْ غَيْرُهُ لاَ بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ، بَل بِلاَ نِيَّةِ شَيْءٍ، أَوْ بِنِيَّةِ حَبْسِهِ، أَوِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ (2) .
لَكِنْ نَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ اصْطِيَادِ الصَّيْدِ بِنِيَّةِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ حَيْثُ لاَ تَعْذِيبَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذُوا الْجَوَازَ مِنْ حَدِيثِ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ (3) .
هَذَا، وَقَدْ لَخَّصَ الدَّرْدِيرُ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلصَّيْدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: كُرِهَ لِلَّهْوِ، وَجَازَ لِتَوْسِعَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَنُدِبَ لِتَوْسِعَةٍ مُعْتَادَةٍ أَوْ سَدِّ خُلَّةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ كَفِّ وَجْهٍ عَنْ سُؤَالٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، وَوَجَبَ لِسَدِّ خُلَّةٍ وَاجِبَةٍ، فَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ (4) .
أَرْكَانُ الصَّيْدِ:
11 - أَرْكَانُ الصَّيْدِ ثَلاَثَةٌ: صَائِدٌ وَمَصِيدٌ وَآلَةٌ (5) ، وَلِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) انظر الفقرة الأولى، تعريف الصيد.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 107 و 108.
(3) نفس المرجع. وحديث: " يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 582) من حديث أنس بن مالك.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 107 و 108.
(5) الخرشي 3 / 8.(28/116)
أَوَّلاً: مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ:
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ لِصِحَّةِ الصَّيْدِ الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:
12 - الشَّرْطُ الأَْوَّل -
أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، مُمَيِّزًا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1)) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْعَاقِل لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّذْكِيَةِ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَكُونُ أَهْلاً لِلاِصْطِيَادِ، وَلأَِنَّ الصَّيْدَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَهُمَا لاَ يَصِحَّانِ مِمَّنْ لاَ يَعْقِل، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ صَيْدُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، كَمَا لاَ تَجُوزُ ذَبِيحَتُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ ذَبْحَ وَصَيْدَ صَبِيٍّ - وَلَوْ غَيْرِ مُمَيِّزٍ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ - حَلاَلٌ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ لَهُمْ قَصْدًا وَإِرَادَةً فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ الذَّبْحَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحِل صَيْدُهُمْ وَلاَ ذَبْحُهُمْ، لِفَسَادِ قَصْدِهِمْ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 188، 297، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 181، والخرشي على خليل 2 / 301، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 106، ومغني المحتاج للخطيب 4 / 267، والمغني لابن قدامة 8 / 581، وانظر كذلك نتائج الأفكار على الهداية مع حاشية العناية 8 / 170، وما بعدها.
(2) مغني المحتاج للشربيني الخطيب 4 / 267.(28/117)
قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَمَحَل الْخِلاَفِ فِي الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَمْيِيزٌ أَصْلاً، فَإِنْ كَانَ لَهُمَا أَدْنَى تَمْيِيزٍ حَل قَطْعًا (1) .
وَلِتَفْصِيل هَذَا الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 21) .
13 - الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يُؤْكَل مَا صَادَهُ، بَل يَكُونُ مَيْتَةً (2) كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
14 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَحِل مَا صَادَهُ الْكِتَابِيُّ وَإِنْ حَل مَا ذَبَحَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ بِأَنَّ الصَّيْدَ رُخْصَةٌ، وَالْكَافِرُ وَلَوْ كِتَابِيًّا لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُعْتَبَرُ (هَذَا الشَّرْطُ) مِنْ حِينِ الإِْرْسَال إِلَى حِينِ الإِْصَابَةِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الإِْرْسَال فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ (4) .
__________
(1) نفس المرجع.
(2) انظر ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 5 / 188.
(3) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 102، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 161، 263، والدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 188، ومغني المحتاج 4 / 266، والمغني لابن قدامة 8 / 539.
(4) البدائع 5 / 49، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 106، نهاية المحتاج 8 / 106، مطالب أولي النهى 6 / 343.(28/117)
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَحِل صَيْدُ الْمُشْرِكِ أَوِ الْمُرْتَدِّ (1) ، وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لاَ يُخْلِصُ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، وَوَجْهُ حِل صَيْدِ وَذَبَائِحِ أَهْل الْكِتَابِ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) .
وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِيِّ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 23، 24) .
15 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الإِْرْسَال أَوِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الإِْرْسَال وَلَوْ حُكْمًا، فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ تَرْكِهَا عَمْدًا، فَلَوْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ وَلَمْ يَتَعَمَّدِ التَّرْكَ جَازَ.
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 188، 189، والمغني 8 / 539، 540، ومغني المحتاج 4 / 266.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) البدائع 5 / 45، والخرشي على مختصر خليل 2 / 301، والشرح الصغير للدردير 2 / 163.
(4) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 300، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 103، والمغني لابن قدامة 8 / 580، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 181.(28/118)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ إِذَا ذَكَرَ وَقَدِرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يُبَحْ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْتَرَطُ عَلَى إِرْسَال الْكَلْبِ، وَلاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إِرْسَال السَّهْمِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّكِّينِ، بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَفْعَل بِاخْتِيَارِهِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ التَّسْمِيَةُ بَل تُسَنُّ عِنْدَ إِرْسَال السَّهْمِ أَوِ الْجَارِحَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَل، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَرْكِهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 32 - 34) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَسْمِيَة ف 19) .
16 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ لاَ يُهِل الصَّائِدُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (4) .
__________
(1) ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 5 / 300، الشرح الكبير للدردير 2 / 106.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 540.
(3) مغني المحتاج 4 / 272.
(4) سورة البقرة / 173.(28/118)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 35) .
17 - الشَّرْطُ السَّادِسُ:
أَنْ يُرْسِل الآْلَةَ بِحَيْثُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الصَّيْدُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ إِرْسَال الْجَارِحَةِ مِنْ يَدِ الصَّائِدِ أَوْ يَدِ غُلاَمِهِ، قَال الصَّاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ حَقِيقَتُهَا، وَمِثْلُهَا إِرْسَالُهَا مِنْ حِزَامِهِ أَوْ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ، لاَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَوِ الْمِلْكُ فَقَطْ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَكْفِي نِيَّةُ الأَْمْرِ وَتَسْمِيَتُهُ وَإِسْلاَمُهُ (1) .
وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل (2) .
مِنْهَا:
أ - لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ السَّهْمَ فَقَتَلَتْ صَيْدًا أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا بِلاَ قَصْدٍ فَاحْتَكَّ بِهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِل، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
ب - لَوِ اسْتَرْسَلَتْ جَارِحَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُغْرِهَا أَحَدٌ فِي أَثْنَاءِ الاِسْتِرْسَال إِغْرَاءً يَزِيدُ مِنْ سُرْعَتِهَا حَرُمَ مَا قَتَلَتْهُ مِنَ الصَّيْدِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الإِْرْسَال (4) .
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 163.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 300 - 303، والهداية مع العناية وتكملة الفتح 8 / 181 وما بعدها، والشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي 2 / 162، والبجيرمي 4 / 287، ومطالب أولي النهى 6 / 351، وكشاف القناع 6 / 224.
(3) مغني المحتاج 4 / 276، ومطالب أولي النهى 6 / 351.
(4) ابن عابدين 5 / 300، ومغني المحتاج 4 / 276، ومطالب أولي النهى 6 / 351.(28/119)
ج - لَوِ اسْتَرْسَلَتْ جَارِحَةٌ بِنَفْسِهَا وَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ إِغْرَاءً يَزِيدُ مِنْ سُرْعَتِهَا لَمْ يَحِل مَا قَتَلَتْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ الإِْرْسَال مِنْ يَدِ الصَّائِدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعَلَّلُوا الْحُرْمَةَ بِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الاِسْتِرْسَال الْمَانِعُ وَالإِْغْرَاءُ الْمُبِيحُ، فَغَلَبَ جَانِبُ الْمَنْعِ، كَمَا يَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - فَقَالُوا بِالْحِل إِنِ اقْتُرِنَ بِالإِْغْرَاءِ التَّسْمِيَةُ لِظُهُورِ أَثَرِ الإِْغْرَاءِ بِزِيَادَةِ الْعَدْوِ (2) ، وَلأَِنَّ الإِْغْرَاءَ أَثَّرَ فِي عَدْوِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ، كَمَا يَقُول الرَّحِيبَانِيُّ (3) .
د - لَوْ أَرْسَل الْجَارِحَةَ وَهُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ، فَأَغْرَاهَا مَنْ لاَ يَحِل صَيْدُهُ لَمْ يَحْرُمْ مَا قَتَلَتْهُ، لأَِنَّ الإِْرْسَال السَّابِقَ عَلَى الإِْغْرَاءِ أَقْوَى مِنْهُ، فَلاَ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الإِْرْسَال بِالإِْغْرَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
هـ - لَوْ أَرْسَل الْجَارِحَةَ مَنْ لَيْسَ أَهْلاً لِلصَّيْدِ، فَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَمْ يُؤْكَل مَا قَتَلَتْهُ، لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ بِالإِْرْسَال الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الإِْغْرَاءِ (5) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 163، ومغني المحتاج 4 / 276.
(2) مغني المحتاج 4 / 276.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 351، والمغني لابن قدامة 8 / 541.
(4) مغني المحتاج 4 / 277، ومطالب أولي النهى 6 / 343.
(5) المراجع السابقة.(28/119)
و - لَوِ انْفَلَتَتِ الْجَارِحَةُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا غَيْرَ مُسْتَرْسِلَةٍ، فَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ حَل مَا قَتَلَتْهُ لأَِنَّ الإِْغْرَاءَ لَيْسَ مَسْبُوقًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ - صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَال مَالِكٌ أَوَّلاً بِالْحِل، ثُمَّ عَدَل إِلَى الْحُرْمَةِ، لأَِنَّ الاِصْطِيَادَ لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا أَرْسَل الْجَارِحَةَ مِنْ يَدِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْل بِالْحِل قَدْ أَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَاللَّخْمِيِّ وَأَيَّدَهُ الْبُنَانِيِّ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ مَعَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ (1) .
ز - لَوْ أَرْسَل الْجَارِحَةَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ، فَوَقَفَتْ فِي ذَهَابِهَا، فَأَغْرَاهَا مَنْ لَيْسَ أَهْلاً لَهُ حَرُمَ مَا قَتَلَتْهُ، لاِرْتِفَاعِ حُكْمِ الإِْرْسَال بِالْوُقُوفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
18 - الشَّرْطُ السَّابِعُ:
قَصْدُ مَا يُبَاحُ صَيْدُهُ.
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ صَيْدَ مَا يُبَاحُ صَيْدُهُ، فَلَوْ أَرْسَل سَهْمًا أَوْ جَارِحَةً عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُسْتَأْنَسٍ، أَوْ حَجَرٍ فَأَصَابَتْ صَيْدًا لَمْ يَحِل (3) .
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ
__________
(1) الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي 2 / 163، وابن عابدين 5 / 303.
(2) ابن عابدين 5 / 300، 301.
(3)) ابن عابدين 5 / 400 - 303، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 161، 164، ومغني المحتاج 4 / 277، والمغني لابن قدامة 8 / 542 - 545.(28/120)
هَذَا الشَّرْطِ، وَفِي الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا سَمِعَ الصَّائِدُ حِسَّ مَا لاَ يَحِل صَيْدُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَفَرَسٍ وَشَاةٍ وَطَيْرٍ مُسْتَأْنَسٍ وَخِنْزِيرٍ أَهْلِيٍّ، فَأَطْلَقَ سَهْمًا فَأَصَابَ مَا يَحِل صَيْدُهُ، لَمْ يَحِل لأَِنَّ الْفِعْل لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ.
بِخِلاَفِ مَا إِذَا سَمِعَ حِسَّ أَسَدٍ فَرَمَى إِلَيْهِ أَوْ أَرْسَل كَلْبَهُ، فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ حَلاَل الأَْكْل حَل، لأَِنَّهُ أَرَادَ صَيْدَ مَا يَحِل اصْطِيَادُهُ، كَمَا إِذَا رَمَى إِلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ (1) .
لأَِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُجِيزُونَ صَيْدَ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ، أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ، أَوْ لِدَفْعِ شَرِّهِ (2) ، كَمَا سَيَأْتِي فِي شُرُوطِ الْمِصْيَدِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ قَوْلَهُ: لاَ يَحِل الصَّيْدُ إِلاَّ بِوَجْهَيْنِ:
أَنْ يَرْمِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّيْدَ.
وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرَادَهُ، وَسَمِعَ حِسَّهُ، وَرَمَى إِلَيْهِ صَيْدًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُؤْكَل أَمْ لاَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ عِلْمُ الصَّائِدِ حِينَ إِرْسَال الْجَارِحِ عَلَى الْمِصْيَدِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ، كَالْغَزَال وَالْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ نَوْعَهُ، بِأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُبَاحٌ، لَكِنْ تَرَدَّدَ: هَل هُوَ حِمَارٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 306.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 305.
(3) ابن عابدين 5 / 306(28/120)
وَحْشِيٌّ أَوْ ظَبْيٌ؟ فَإِنَّهُ يُؤْكَل.
وَكَذَا إِنْ تَعَدَّدَ مِصْيَدُهُ وَنَوَى الْجَمِيعَ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْجَمِيعَ فَمَا نَوَاهُ يُؤْكَل إِنْ صَادَهُ أَوَّلاً قَبْل غَيْرِهِ، فَإِنْ صَادَ غَيْرَ الْمَنْوِيِّ قَبْل الْمَنْوِيِّ لَمْ يُؤْكَل وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلاَّ بِذَكَاةٍ، أَمَّا الْمَنْوِيُّ فَلِتَشَاغُلِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ الْمَنْوِيِّ عَنْهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْوِيِّ فَلِعَدَمِ نِيَّةِ اصْطِيَادِهِ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي وَاحِدٍ، وَلاَ فِي الْجَمْعِ، لَمْ يُؤْكَل شَيْءٌ، كَمَا نَقَلَهُ الصَّاوِيُّ عَنِ الأَُجْهُورِيُّ (2) .
وَلاَ يُؤْكَل الْمَصِيدُ إِنْ تَرَدَّدَ - بِأَنْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَهَّمَ - فِي حُرْمَتِهِ، كَخِنْزِيرٍ فَإِذَا هُوَ حَلاَلٌ كَظَبْيٍ، لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ (3) .
وَنَقَل الصَّاوِيُّ عَنْ جَدِّ الأَُجْهُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ نَوَى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ هُوَ، إِنْ عُرِفَ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدًا لاَ بِعَيْنِهِ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ الأَْوَّل، وَلَوْ شَكَّ فِي أَوَّلِيَّتِهِ لَمْ يُؤْكَل شَيْءٌ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرْسَل سَهْمًا مَثَلاً لاِخْتِبَارِ قُدْرَتِهِ، أَوْ إِلَى غَرَضٍ، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ حَرُمَ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدًا مُعَيَّنًا (5) .
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: لاَ يَحْرُمُ، نَظَرًا
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 164.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 164.
(3) الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي 2 / 165.
(4) حاشية الصاوي بذيل الشرح الصغير 2 / 164.
(5) مغني المحتاج 4 / 277.(28/121)
إِلَى قَصْدِ الْفِعْل، دُونَ مَوْرِدِهِ (1) .
وَإِذَا أَرْسَلَهُ عَلَى مَا لاَ يُؤْكَل، كَخِنْزِيرٍ، فَأَصَابَ صَيْدًا، فَإِنَّهُ لاَ يُؤْكَل عَلَى الأَْصَحِّ كَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَل الْكَلْبَ حَيْثُ لاَ صَيْدَ، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ، فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِل، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِ الاِصْطِيَادِ حِينَ الإِْرْسَال.
أَمَّا إِذَا رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا، أَوْ حَيَوَانًا لاَ يُؤْكَل، فَأَصَابَ صَيْدًا حَل، وَكَذَا إِذَا رَمَى سِرْبَ ظِبَاءٍ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْوُحُوشِ، فَأَصَابَ وَاحِدَةً مِنْ ذَلِكَ السِّرْبِ حَلَّتْ، أَمَّا فِي الأُْولَى؛ فَلأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِفِعْلِهِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِظَنِّهِ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ؛ فَلأَِنَّهُ قَصَدَ السِّرْبَ، وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ.
وَإِنْ قَصَدَ وَاحِدَةً مِنَ السِّرْبِ، فَأَصَابَ غَيْرَهَا مِنْهُ حَلَّتْ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْغَيْرُ عَلَى سَمْتِ الأُْولَى أَمْ لاَ، لِوُجُودِ قَصْدِ الصَّيْدِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ الْمَنْعُ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ.
وَلَوْ قَصَدَ، وَأَخْطَأَ فِي الظَّنِّ وَالإِْصَابَةِ مَعًا، كَمَنْ رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا، أَوْ خِنْزِيرًا ظَنَّهُ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا غَيْرَهُ حَرُمَ، لأَِنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا، فَلاَ يَسْتَفِيدُ الْحِل (2) .
__________
(1) نفس المرجع.
(2) مغني المحتاج 4 / 277، وشرح المحلي على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 246.(28/121)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَرْسَل كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ إِلَى هَدَفٍ فَقَتَل صَيْدًا، أَوْ أَرْسَلَهُ يُرِيدُ الصَّيْدَ وَلاَ يَرَى صَيْدًا، أَوْ قَصَدَ إِنْسَانًا أَوْ حَجَرًا، أَوْ رَمَى عَبَثًا غَيْرَ قَاصِدٍ صَيْدًا، أَوْ رَمَى حَجَرًا يَظُنُّهُ صَيْدًا، أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، أَوْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا أَوْ بَهِيمَةً فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِل فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، لأَِنَّ قَصْدَ الصَّيْدِ شَرْطٌ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَل جَمَاعَةً حَل الْجَمِيعُ، لأَِنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَحَل مَا صَادَهُ.
وَكَذَا إِذَا أَرْسَل سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَعَانَتْهُ الرِّيحُ فَقَتَلَهُ، وَلَوْلاَهَا مَا وَصَل السَّهْمُ حَل، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِسَهْمِهِ وَرَمْيِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَ سَهْمُهُ عَلَى حَجَرٍ فَرَدَّهُ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ. وَلأَِنَّ الإِْرْسَال لَهُ حُكْمُ الْحِل، وَالرِّيحُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا.
وَالْجَارِحُ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ، فَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَوْ عَلَى صَيْدٍ فَصَادَ عَدَدًا حَل الْجَمِيعُ (1) .
19 - الشَّرْطُ الثَّامِنُ:
أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ بَصِيرًا، وَهَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ صَيْدُ الأَْعْمَى بِرَمْيِ سَهْمٍ
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 224، 225، والمغني لابن قدامة 8 / 545.(28/122)
أَوْ إِرْسَال كَلْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي الأَْصَحِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ، فَأَشْبَهَ اسْتِرْسَال الْكَلْبِ بِنَفْسِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَحِل صَيْدُهُ، كَذَبْحِهِ (1) .
قَال الرَّمْلِيُّ: وَمَحَل الْخِلاَفِ مَا إِذَا دَلَّهُ بَصِيرٌ عَلَى الصَّيْدِ فَأَرْسَل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدُلَّهُ أَحَدٌ فَلاَ يَحِل قَطْعًا، نَعَمْ لَوْ أَحَسَّ الْبَصِيرُ بِصَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَرَمَاهُ حَل بِالإِْجْمَاعِ، فَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ هَذَا مُبْصِرٌ بِالْقُوَّةِ، فَلاَ يُعَدُّ عُرْفًا رَمْيُهُ عَبَثًا (2) .
ثَانِيًا: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
20 - الشَّرْطُ الأَْوَّل:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا مَأْكُول اللَّحْمِ أَيْ جَائِزَ الأَْكْل، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ لأَِجْل الأَْكْل.
أَمَّا مُطْلَقُ الصَّيْدِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مَأْكُول اللَّحْمِ، بَل يَجُوزُ عِنْدَهُمْ صَيْدُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني الخطيب 4 / 267، وحاشية البجيرمي على المنهج 4 / 287، 288.
(2) نهاية المحتاج 8 / 107، وانظر مطالب أولي النهى 6 / 242.(28/122)
لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ، أَوْ لِدَفْعِ شَرِّهِ، وَكُلٌّ مَشْرُوعٌ (1) .
وَيَقُول الأَْبِيُّ الأَْزْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الاِصْطِيَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِنَحْوِ خِنْزِيرٍ مِنْ كُل مُحَرَّمٍ يَجُوزُ بِنِيَّةِ قَتْلِهِ، وَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْعَبَثِ، وَأَمَّا بِنِيَّةِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ.
كَمَا يَجُوزُ ذَكَاةُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَخَيْلٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ إِنْ أَيِسَ مِنْهُ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلاَ يُجِيزُونَ صَيْدَ أَوْ ذَكَاةَ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَلِهَذَا ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِهِمُ الصَّيْدَ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ: بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُقْتَنَصٌ حَلاَلٌ مُتَوَحِّشٌ طَبْعًا غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (3) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ ذَبْحَ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ لِلإِْرَاحَةِ لاَ لِلتَّطْهِيرِ.
وَلَمْ يُجِزِ الشَّافِعِيَّةُ قَتْل أَوْ ذَبْحَ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ حَتَّى لِلإِْرَاحَةِ، فَصَيْدُهُ يُعْتَبَرُ مَيْتَةً عِنْدَهُمْ (4) .
21 - الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْمَصِيدُ حَيَوَانًا مُتَوَحِّشًا مُمْتَنِعًا عَنِ الآْدَمِيِّ بِقَوَائِمِهِ أَوْ
__________
(1) الدر المحتار بهامش رد المحتار 5 / 305.
(2) جواهر الإكليل 1 / 213، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه 2 / 108.
(3) انظر البجيرمي على الخطيب 4 / 248، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 292.
(4) الشرح الصغير 1 / 19، 321، والبجيرمي على الخطيب 4 / 248.(28/123)
بِجَنَاحَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوَحُّشِ - التَّوَحُّشُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، أَيْ: لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ.
فَخَرَجَ بِالْمُمْتَنِعِ مِثْل الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَقْدِرَانِ عَلَى الْفِرَارِ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَبِالْمُتَوَحِّشِ: مِثْل الْحَمَامِ، وَبِقَوْلِهِ " طَبْعًا " مَا يَتَوَحَّشُ مِنَ الأَْهْلِيَّاتِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِل بِالاِصْطِيَادِ وَتَحِل بِذَكَاةِ الضَّرُورَةِ بِشُرُوطِهَا.
وَدَخَل فِيهِ مِثْل الظَّبْيِ، لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْل الطَّبِيعَةِ، لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ، وَإِنْ أَلِفَ بَعْدَ الاِصْطِيَادِ (1) .
وَكَوْنُ الْمَصِيدِ حَيَوَانًا مُتَوَحِّشًا مُمْتَنِعًا بِالطَّبْعِ - مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، مِنْهَا:
أ - إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ أَوْ شَرَدَ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ، بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، أُلْحِقَ بِالصَّيْدِ (أَيِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ الْمُمْتَنِعُ) وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي قَلِيبٍ أَوْ بِئْرٍ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ وَلاَ تَذْكِيَتِهِ، وَكَذَا مَا صَال عَلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ، كُل ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّيْدِ يَحِل بِالْعَقْرِ وَالْجَرْحِ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسِيل بِهِ دَمُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ قُدِرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَرُوِيَ ذَلِكَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 297.(28/123)
عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَال مَسْرُوقٌ وَالأَْسْوَدُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، قَال: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجَّلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَّمَ، فَعَدَل عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَال: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا وَفِي لَفْظٍ: فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا (2) .
وَلأَِنَّ الْوَحْشِيَّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَكَذَلِكَ الأَْهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ (3) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرُ
__________
(1) البدائع 5 / 43، ونهاية المحتاج 8 / 108، والمغني لابن قدامة 8 / 566، 567، ومغني المحتاج 8 / 108.
(2) حديث رافع بن خديج: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 131) ومسلم (3 / 1558) والسياق للبخاري، واللفظ الآخر للبخاري كذلك (فتح الباري 9 / 623) .
(3) المغني 8 / 567.(28/124)
فِي الْمَدِينَةِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ لأَِنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَلاَ يُقْدَرُ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الشَّاةُ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ، فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ - أَيْ أَنَّهَا كَالصَّيْدِ - لأَِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا، وَذَبْحُهَا مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلاَ تَلْحَقُ بِالصَّيْدِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَأَنَّسَةِ إِذَا نَدَّتْ فَإِنَّهَا لاَ تُؤْكَل بِالْعَقْرِ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ يَكُونَ الْمَصِيدُ وَحْشِيًّا، وَمُقَابِلُهُ مَا لاِبْنِ حَبِيبٍ: أَنَّهُ إِنْ نَدَّ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَإِنْ نَدَّ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ، لأَِنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، لِشَبَهِهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ (2) .
وَإِذَا تَرَدَّى حَيَوَانٌ بِسَبَبِ إِدْخَال رَأْسِهِ بِكَوَّةٍ - أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَحْشِيًّا أَوْ غَيْرَ وَحْشِيٍّ - فَلاَ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، أَيْ بِالطَّعْنِ بِحَرْبَةٍ مَثَلاً فِي غَيْرِ مَحَل الذَّكَاةِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُنْحَرُ، وَهَذَا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يُؤْكَل بِالْعَقْرِ الْحَيَوَانُ الْمُتَرَدِّي الْمَعْجُوزُ عَنْ ذَكَاتِهِ مُطْلَقًا، بَقَرًا كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 43، 44.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 103، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 182.(28/124)
أَوْ غَيْرَهُ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال (1) .
ب - إِذَا تَأَنَّسَ وَحْشِيُّ الأَْصْل، كَالظَّبْيِ مَثَلاً، أَوْ قُدِرَ عَلَى الْمُتَوَحِّشِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، كَأَنْ وَقَعَ فِي حِبَالِهِ أَوْ شَبَكٍ مَثَلاً، لاَ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَإِنَّمَا بِالتَّذْكِيَةِ، لأَِنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا تَأَنَّسَ الْمُتَوَحِّشُ، ثُمَّ نَدَّ وَتَوَحَّشَ مَرَّةً أُخْرَى، فَأَصْبَحَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، فَيُؤْكَل بِالاِصْطِيَادِ (2) .
ج - مَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ حَتَّى صَارَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَل، لأَِنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ (3) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاتِل أَصَابَ مَذْبَحَهُ حَل، لأَِنَّهُ صَادَفَ مَحَل الذَّبْحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَرْشُ ذَبْحِهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ أَصَابَ غَيْرَ مَذْبَحِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لأَِنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لاَ يَحِل إِلاَّ بِالذَّبْحِ (4) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَيَاةُ الصَّيْدِ حَيَاةَ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 60، 61، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 103، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 182، 183، والبجيرمي على المنهج 4 / 291.
(3) الزيلعي على كنز الدقائق 6 / 60، حاشية الدسوقي 2 / 103، والمغني لابن قدامة 8 / 559، وانظر كذلك كشاف القناع 6 / 215.
(4) المغني لابن قدامة 8 / 559، 560.(28/125)
مَذْبُوحٍ، بَل كَانَتْ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِلاَّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ.
22 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ لاَ يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ - أَيْ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَتَنَاسُلُهُ فِي الْبَرِّ - سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ.
أَمَّا حُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ بَعْدِي، إِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (1) .
وَحُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ تَشْمَل الْمُحْرِمَ وَالْحَلاَل، كَمَا تَشْمَل إِيذَاءَ الصَّيْدِ وَتَنْفِيرَهُ وَالْمُسَاعَدَةَ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، مِثْل الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ أَوِ الأَْمْرِ بِقَتْلِهِ (2) .
أَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرَم ف 30) .
23 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لاَ يُدْرَكَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الإِْصَابَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَذْهَبَ
__________
(1) حديث: " إن الله حرم مكة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 46) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) البدائع 2 / 207، 209، وابن عابدين 2 / 212، والدسوقي 2 / 72، ومغني المحتاج 1 / 524، والمغني لابن قدامة 3 / 344، 345.(28/125)
الصَّائِدُ، أَوْ تَأْتِيَ بِهِ الْجَارِحَةُ فَيَجِدَهُ مَيِّتًا، أَوْ فِي حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، فَفِي
الْحَالَةِ الأُْولَى: وَهِيَ وُجُودُهُ مَيِّتًا يَحِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي
الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ - وَهِيَ وُجُودُهُ فِي حَيَاةٍ غَيْرِ مُسْتَقِرَّةٍ - إِذَا ذَبَحَهُ حَل، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَذْبَحْهُ وَمَاتَ، لأَِنَّ الذَّكَاةَ فِي مِثْل هَذَا لاَ تُفِيدُ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا وَجَدَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الإِْصَابَةِ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَذْبَحْهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَمَاتَ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ، لأَِنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ مِنَ الْجُرْحِ إِلَى الذَّبْحِ، فَإِذَا لَمْ يُذْبَحْ كَانَ مَيْتَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَدَّ عَلَيْكَ كَلْبُكَ الْمُكَلَّبُ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَلاَ تَأْكُل، وَمَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ (1) .
وَكَذَا إِذَا جَاءَ الصَّائِدُ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الذَّبْحِ، أَوْ تَرَاخَى فِي اتِّبَاعِ الصَّيْدِ، ثُمَّ وَجَدَهُ
__________
(1) حديث: " ما رد عليك كلبك المعلم. . . ". أورده بهذا اللفظ الشيرازي في المهذب (9 / 114 - بشرح النووي) . وقال النووي: " أخرجه البخاري ومسلم مختصرا ". وهو في البخاري (فتح الباري 9 / 612) ومسلم (3 / 1532) من حديث أبي ثعلبة.(28/126)
مَيِّتًا، أَوْ جَعَل الآْلَةَ مَعَ غُلاَمِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَسْبِقَ الْغُلاَمُ فَسَبَقَهُ، وَأَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا، وَلَمْ يَأْتِ الْغُلاَمُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ، أَوْ وَضْعِ الآْلَةِ فِي خُرْجِهِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَدْعِي طُول زَمَنٍ فِي إِخْرَاجِهَا مِنْهُ، فَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَلَمْ يَتِمَّ إِخْرَاجُ الآْلَةِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ أَوْ تَشَبَّثَتِ الآْلَةُ فِي الْغِمْدِ وَكَانَ ضَيِّقًا، أَوْ سَقَطَتْ مِنْهُ، أَوْ ضَاعَتْ فَمَاتَ الصَّيْدُ حَرُمَ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَكَذَا كُل صُورَةٍ لاَ يُتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِدُونِ تَقْصِيرٍ مِنْ صَائِدِهِ، كَأَنْ سَل السِّكِّينَ فَمَاتَ قَبْل إِمْكَانِ ذَبْحِهِ، أَوِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ، وَمَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَاشْتَغَل الصَّائِدُ بِطَلَبِ الْمَذْبَحِ، أَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ مُنَكَّسًا فَاحْتَاجَ إِلَى قَلْبِهِ فَقَلَبَهُ، أَوِ اشْتَغَل بِتَوْجِيهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ تَشَبَّثَتِ السِّكِّينُ فِي الْغِمْدِ لِعَارِضٍ وَلَمْ يَكُنْ ضَيِّقًا، أَوْ حَال بَيْنَ الصَّيْدِ وَصَائِدِهِ سَبُعٌ فَمَاتَ الصَّيْدُ الْمُصَابُ حَل أَكْلُهُ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَشَى الصَّائِدُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ عَدْوًا فَوَجَدَهُ مَيِّتًا بِسَبَبِ الإِْصَابَةِ حَل عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي: يُشْتَرَطُ الْعَدْوُ إِلَى الصَّيْدِ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِذَا أَدْرَكَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ وَفِيهِ حَيَاةٌ(28/126)
مُسْتَقِرَّةٌ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ بِهِ، وَكَانَتْ مَعَهُ جَارِحَةٌ، وَجَبَ أَنْ يُرْسِلَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَقْتُلَهُ فَيَحِل أَكْلُهُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَحِل مُطْلَقًا، وَقَال الْقَاضِي: يَحِل إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ وَلاَ إِرْسَال جَارِحَةٍ عَلَيْهِ (1) .
24 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ لاَ يَغِيبَ عَنِ الصَّائِدِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَهُوَ قَاعِدٌ عَنْ طَلَبِهِ، فَإِنْ تَوَارَى الصَّيْدُ عَنْهُ، وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يُؤْكَل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَوَارَ، أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ أُكِل، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ وَآرَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَالْغَرَضُ مِنِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ حُصُول التَّيَقُّنِ أَوِ الظَّنِّ، أَيِ الاِعْتِقَادِ الرَّاجِحِ، بِأَنَّ مَا وَجَدَهُ قَبْل الْغِيَابِ، أَوْ بَعْدَهُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الطَّلَبِ هُوَ صَيْدُهُ، وَمَا أَرْسَلَهُ مِنَ السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الآْلَةِ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ وَأَمَاتَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
فَإِنْ شَكَّ فِي صَيْدِهِ، هَل هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؟ أَوْ شَكَّ فِي الآْلَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا هَل هِيَ قَتَلَتْهُ؟ أَوْ غَيْرُهَا فَلاَ يُؤْكَل (2) .
__________
(1)) البدائع 5 / 51، وجواهر الإكليل 1 / 212، المجموع للنووي 9 / 114، مغني المحتاج 4 / 269، المغني لابن قدامة 8 / 547 - 548، كشاف القناع 6 / 216، حاشية ابن عابدين 5 / 302، الزيلعي 6 / 253، نهاية المحتاج 8 / 109، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 107.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 301، 302، نقلا عن الهداية والزيلعي، والقوانين الفقهية ص 182، 183، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 117، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 220، 221.(28/127)
وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُرُوعًا، مِنْهَا:
25 - أ - إِذَا غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ إِرْسَال السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا وَفِيهِ جُرْحٌ آخَرُ غَيْرُ سَهْمِهِ، لَمْ يُؤْكَل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ هَل قُتِل بِسَهْمِهِ أَوْ بِسَهْمٍ آخَرَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَال: مَا رَدَّ عَلَيْكَ سَهْمُكَ فَكُل. قَال: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيَّ؟ قَال: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيْكَ، مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَهْمٍ غَيْرَ سَهْمِكَ (1) .
26 - ب - إِنْ أَرْسَل سَهْمًا أَوْ كَلْبًا إِلَى الصَّيْدِ وَغَابَ عَنْهُ، فَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ غَيْرَ مُتَحَامِلٍ عَلَى الْمَشْيِ (2) ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لاَ يَحِل مَا لَمْ يَعْلَمْ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ يَقِينًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (3) .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الْقُعُودِ عَنِ الطَّلَبِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ:
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) التحامل على المشي هو أن يتكلفه على مشقة وإعياء (ابن عابدين 5 / 301) .
(3) ابن عابدين 5 / 301، وانظر كشاف القناع 6 / 218. 128(28/127)
لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْل أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ عَلَى الصَّحِيحِ، لاِحْتِمَال مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ بِسَهْمٍ وَغَابَ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ فِي الأَْظْهَرِ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ (1) ، قَال ابْنُ جُزَيٍّ: لَوْ فَاتَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِل لَمْ يُؤْكَل فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيل: يُؤْكَل، وَقِيل: يُكْرَهُ (2) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَعَل هَوَامَّ الأَْرْضِ قَتَلَتْهُ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَى صَيْدًا، وَلَوْ لَيْلاً، فَجَرَحَهُ وَلَوْ جُرْحًا غَيْرَ مُوحٍ (4) ، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، بَعْدَ مَوْتِهِ الَّذِي رَمَاهُ فِيهِ وَسَهْمُهُ فَقَطْ فِيهِ، أَوْ أَثَرُ السَّهْمِ وَلاَ أَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ حَل ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ السَّابِقِ (5) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعَنْهُ: إِنْ غَابَ نَهَارًا فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلاً لَمْ يَأْكُلْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 117.
(2) القوانين الفقهية ص 183.
(3) حديث: " لعل هوام الأرض قتلته. . . ". أورد النووي في المجموع (9 / 114، 115) أحاديث بهذا المعنى، وأعل أسانيدها كلها.
(4) غير موح: غير مسرع به إلى الموت.
(5) كشاف القناع 6 / 220، وانظر فقرة (25) .(28/128)
غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً أُبِيحَ لَهُ، لأَِنَّهُ قِيل لَهُ: إِنْ غَابَ يَوْمًا؟ قَال: يَوْمٌ كَثِيرٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا رَمَيْتَ فَأَقْعَصْتَ (1) فَكُل، وَإِنْ رَمَيْتَ فَوَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ مِنْ يَوْمِكَ أَوْ لَيْلَتِكَ فَكُل، وَإِنْ بَاتَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلاَ تَأْكُل، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
تَحْدِيدُ مُدَّةِ الْغِيَابِ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِغِيَابِ الصَّيْدِ لِيَحْرُمَ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِشَرْطِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَبْل أَنْ يُنْتِنَ حَل، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُل (3) وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَأَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ وَسَهْمُكَ فِيهِ فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ (4) . وَلأَِنَّ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ
__________
(1) أقعصت: القعص الموت الموحى أي: السريع.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 553، 554.
(3) حديث عدي بن حاتم: " وإن رميت الصيد فوجدته. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 610) .
(4) حديث أبي ثعلبة: " إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1532) .(28/128)
سَبَبُ إِبَاحَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ يَقِينًا، وَالْمُعَارِضُ لَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ نُزُول عَنِ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ (1) .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي أَكْلِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَل هَوَامَّ الأَْرْضِ قَتَلَتْهُ (2) فَيُحْمَل هَذَا عَلَى مَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، وَالأَْوَّل عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْعُدْ (3) ،.
وَلأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيُعْتَبَرَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، لأَِنَّ الْمَوْهُومَ فِي الْحُرُمَاتِ كَالْمُتَحَقَّقِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، لأَِنَّ اعْتِبَارَهُ فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى سَدِّ بَابِ الاِصْطِيَادِ، وَهَذَا لأَِنَّ الاِصْطِيَادَ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ الأَْشْجَارِ عَادَةً، وَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَتَوَارٍ عَنْ عَيْنِهِ غَالِبًا، فَيُعْذَرُ - مَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ - لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَلاَ يُعْذَرُ فِيمَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِهِ مُمْكِنٌ فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فَيَحْرُمُ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ بِأَقَل مِنْ يَوْمٍ حَيْثُ قَالُوا: (لَوْ مَاتَ مِنْهُ صَيْدٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 554، وابن عابدين 5 / 302، والزيلعي 5 / 57.
(2) حديث: " لعل هوام الأرض قتلته. . . ". تقدم في فقرة 26.
(3) الزيلعي 5 / 57.
(4) نفس المرجع، وانظر ابن عابدين 5 / 302.(28/129)
ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِل لَمْ يُؤْكَل فِي الْمَشْهُورِ) (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْغِيَابِ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْل أَنْ يَجْرَحَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا يَحْرُمُ فِي الأَْظْهَرِ لاِحْتِمَال مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَالتَّحْرِيمُ يُحْتَاطُ لَهُ (2) .
28 - ج لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الأَْرْضِ حَرُمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُتِل فَكُل، إِلاَّ أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ (4) وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً أَوْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 183.
(2) نهاية المحتاج 8 / 117.
(3) سورة المائدة: 3.
(4) حديث: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1531) .
(5) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 58، والقوانين الفقهية ص 183، ومغني المحتاج 4 / 274، والمغني لابن قدامة 8 / 555، 556.(28/129)
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ وَإِسْحَاقَ. وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً كَأَنْ ذَبَحَهُ أَوْ أَبَانَ حَشْوَتَهُ لَمْ يَضُرَّ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ، وَلاَ تَرَدِّيهِ، لأَِنَّ هَذَا صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ بِالذَّبْحِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَصَابَهُ (1) .
وَلَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ فِي الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقْتُلُهُ، مِثْل أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ خَارِجًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يَكُونَ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ الَّذِي لاَ يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، أَوْ كَانَ التَّرَدِّي لاَ يَقْتُل مِثْل ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَلاَ خِلاَفَ فِي إِبَاحَتِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُل (2) ، وَلأَِنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي إِنَّمَا حُرِّمَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً أَوْ مُعِينًا عَلَى الْقَتْل، وَهَذَا مُنْتَفٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ (3) .
وَكَذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الأَْرْضِ ابْتِدَاءً، بَعْدَ أَنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَمَاتَ حَل؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ كَيْ لاَ يَنْسَدَّ بَابُ الاِصْطِيَادِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، لأَِنَّ اعْتِبَارَهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى سَدِّ بَابِهِ، وَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ، فَأَمْكَنَ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى مَا هُوَ الأَْصْل فِي الشَّرْعِ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 555، والمراجع السابقة.
(2) حديث: " وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1531) .
(3) المراجع السابقة.
(4) الزيلعي 6 / 58، ومغني المحتاج 4 / 374.(28/130)
هَذَا، وَإِذَا أَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا غَيْرَ مَنْفُوذِ مَقْتَلٍ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ بِذَكَاةٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
حُكْمُ جُزْءِ الْمَصِيدِ:
29 - إِذَا رَمَى صَيْدًا فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا، وَبَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً يَحْرُمُ الْعُضْوُ الْمُبَانُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ (2) .
أَمَّا الْمَقْطُوعُ مِنْهُ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْحَيُّ، فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ، وَإِلاَّ يَحْرُمُ - أَيْضًا - بِاتِّفَاقٍ.
وَإِذَا رَمَاهُ فَقَطَعَ رَأْسَهُ، أَوْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلاَثًا - وَالأَْكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ - حَل كُلُّهُ، لأَِنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لاَ حُكْمًا، إِذْ لاَ يُتَوَهَّمُ سَلاَمَتُهُ وَبَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ، فَوَقَعَ ذَكَاةً فِي الْحَال فَحَل كُلُّهُ (3) .
أَمَّا إِذَا قَطَعَ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلاً أَوْ فَخِذًا، أَوْ نَحْوَهَا وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَفِيهِ التَّفْصِيل الآْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلاً أَوْ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 169، والقوانين الفقهية ص 183، والزيلعي 6 / 57، ومغني المحتاج 4 / 374، وما بعدها، والمغني لابن قدامة 8 / 447.
(2) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 74) من حديث أبي واقد الليثي، وقال: " حديث حسن ".
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 59، والقوانين الفقهية ص 183، ومغني المحتاج 4 / 270، والمغني لابن قدامة 8 / 556.(28/130)
فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَل مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي (1) .
وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ وَلَمْ يَنْفَصِل، ثُمَّ مَاتَ، إِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الْتِئَامُهُ وَانْدِمَالُهُ حَل أَكْلُهُ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُتَوَهَّمُ، بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدٍ حَل مَا سِوَاهُ دُونَهُ، لِوُجُودِ الإِْبَانَةِ مَعْنًى، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ جَازَ أَكْل الْجَمِيعِ، وَلَوْ قَطَعَ الْجَارِحُ دُونَ النِّصْفِ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ مَيْتَةٌ، وَيُؤْكَل مَا سِوَاهُ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُل بِالْقَطْعِ إِنْفَاذُ مَقْتَلٍ كَالرَّأْسِ فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ فَيُؤْكَل كَالْبَاقِي (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَوْ أَبَانَ مِنَ الصَّيْدِ عُضْوًا كَيَدِهِ بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ (أَيْ مُسْرِعٍ لِلْقَتْل) فَمَاتَ حَل الْعُضْوُ وَالْبَدَنُ كُلُّهُ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُمَا.
قَال أَحْمَدُ: إِنَّمَا حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَطَعْتَ مِنَ الْحَيِّ مَيْتَةٌ (5) . إِذَا قَطَعْتَ
__________
(1) الزيلعي 6 / 59.
(2) الزيلعي 6 / 59، 60.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي 183، والشرح الصغير 1 / 317.
(4) مغني المحتاج 4 / 170.
(5) حديث: " ما قطعت من الحي ميتة "، تقدم ذكر لفظه الثابت.(28/131)
وَهِيَ حَيَّةٌ تَمْشِي وَتَذْهَبُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ وَالْمَوْتُ جَمِيعًا أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إِذَا كَانَ فِي عِلاَجِ الْمَوْتِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، أَلاَ تَرَى الَّذِي يَذْبَحُ رُبَّمَا مَكَثَ سَاعَةً، وَرُبَّمَا مَشَى حَتَّى يَمُوتَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يُبَاحُ مَا بَانَ مِنْهُ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ (1) .
وَلأَِنَّ هَذِهِ الْبَيْنُونَةَ لاَ تَمْنَعُ بَقَاءَ الْحَيَوَانِ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يُبَحْ أَكْل الْبَائِنِ (2) .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ الْبَرِّيِّ، إِذَا عَقَرَتْهُ الْجَوَارِحُ أَوِ السِّلاَحُ أَوْ أَنْفَذَتْ مَقَاتِلَهُ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِل ذُكِّيَ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الذَّبْحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح ف 16 - 39) .
30 - أَمَّا الْمَصِيدُ الْبَحْرِيُّ فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) صَيْدُ وَأَكْل جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَمَكًا أَمْ غَيْرَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (3) أَيْ مَصِيدُهُ
__________
(1) حديث: " ما أبين من حي. . . " تقدم كذلك ذكر لفظه الثابت: وأخرجه الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 317 مطولا) .
(2) المغني لابن قدامة 8 / 557.
(3) سورة المائدة / 96.(28/131)
وَمَطْعُومُهُ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مِيتَتُهُ (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحِل مَا لَيْسَ عَلَى صُورَةِ السَّمَكِ الْمَشْهُورَةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: إِنْ أُكِل مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَل، وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنَ الْحِل الضُّفْدَعَ، وَالتِّمْسَاحَ، وَالْحَيَّةَ؛ وَذَلِكَ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل الضُّفْدَعِ وَلاِسْتِخْبَاثِ النَّاسِ التِّمْسَاحَ، وَلأَِكْلِهِ النَّاسَ، وَلِلسُّمِّيَّةِ فِي الْحَيَّةِ (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يُؤْكَل مَائِيٌّ إِلاَّ السَّمَكُ غَيْرَ طَافٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4) وَمَا سِوَى السَّمَكِ خَبِيثٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (5) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 5 / 115، ومغني المحتاج 4 / 297، وكشاف القناع 6 / 193، والقوانين الفقهية ص 184. وحديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 101) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) مغني المحتاج 4 / 297.
(3) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع. . . ". أخرجه النسائي (7 / 210) والحاكم (4 / 411) من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) سورة الأعراف / 157.
(5) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1073) من حديث ابن عمرو في إسناده ضعف، والصواب أنه موقوف، وله حكم الرفع، كذا في التلخيص الجيد لابن حجر 1 / 26.(28/132)
وَأَمَّا الطَّافِي فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ (1) لِقَوْل جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلُوا، وَمَا طَفَا فَلاَ تَأْكُلُوا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة ف 6 ج 5) .
شُرُوطُ آلَةِ الصَّيْدِ:
آلَةُ الصَّيْدِ نَوْعَانِ: أَدَاةٌ جَامِدَةٌ، أَوْ حَيَوَانٌ.
أَوَّلاً - الأَْدَاةُ الْجَامِدَةُ:
31 - الأَْدَاةُ الْجَامِدَةُ: مِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَمِنْهَا مَا يَنْطَلِقُ مِنْ آلَةٍ أُخْرَى وَلَهُ رَأْسٌ مُحَدَّدٌ يَصْلُحُ لِلْخَزْقِ (3) كَالسَّهْمِ، وَمِنْهَا مَا لَهُ رَأْسٌ مُحَدَّدٌ لاَ يَنْطَلِقُ مِنْ آلَةٍ أُخْرَى كَالْحَدِيدَةِ الْمُثَبَّتَةِ فِي رَأْسِ الْعَصَا، أَوِ الْعَصَا الَّتِي بُرِيَ رَأْسُهَا حَتَّى صَارَ مُحَدَّدًا يُمْكِنُ الْقَتْل بِهِ طَعْنًا.
__________
(1) تبيين الحقائق شرح الكنز 5 / 296، 297.
(2) حديث: " ما نضب عنه الماء فكلوا. . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 202) بلفظ: " ما نضب عنه الماء فكلوا وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا "، وقال: غريب بهذا اللفظ، وذكر أن أبا داود وابن ماجه أخرجا من حديث جابر مرفوعا: " ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا، فلا تأكلوه "، وأشار إلى تضعيفه.
(3) الخزق: النفوذ في الجسم، يقال: خزق السهم القرطاس: نفذ منه (المصباح المنير في المادة) .(28/132)
وَهَذِهِ الأَْدَوَاتُ وَنَحْوُهَا يَجُوزُ الاِصْطِيَادُ بِهَا إِذَا قَتَلَتِ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا أَوْ رَأْسِهَا وَحَصَل الْجُرْحُ بِالْمَصِيدِ بِلاَ خِلاَفٍ.
أَمَّا الآْلاَتُ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلْقَتْل بِحَدِّهَا وَلاَ بِرَأْسِهَا الْمُحَدَّدِ، وَإِنَّمَا تَقْتُل بِالثِّقَل كَالْحَجَرِ الَّذِي لَمْ يُرَقَّقْ، أَوِ الْعَمُودِ وَالْعَصَا غَيْرِ مُحَدَّدَةِ الرَّأْسِ، أَوِ الْمِعْرَاضِ (1) بِعَرْضِهِ وَنَحْوِهَا، فَلاَ يَجُوزُ بِهَا الاِصْطِيَادُ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فَلاَ بُدَّ فِي الْمَرْمِيِّ مِنَ التَّذْكِيَةِ، وَإِلاَّ لاَ يَحِل أَكْلُهُ.
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الآْلاَتِ الْمُحَدَّدَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ وَأَصَابَتْ بِعَرْضِهَا غَيْرِ الْمُحَدَّدِ لاَ يَحِل الْمَرْمِيُّ بِهَا إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ (2) .
وَيُمْكِنُ أَنْ تُخْتَصَرَ شُرُوطُ الآْلَةِ فِيمَا يَلِي:
32 - الشَّرْطُ الأَْوَّل:
أَنْ تَكُونَ الآْلَةُ مُحَدَّدَةً تَجْرَحُ وَتُؤَثِّرُ فِي اللَّحْمِ بِالْقَطْعِ أَوِ الْخَزْقِ، وَإِلاَّ لاَ يَحِل بِغَيْرِ الذَّبْحِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْحَدِيدِ، فَيَصِحُّ الاِصْطِيَادُ بِكُل آلَةٍ حَادَّةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدِيدَةً، أَمْ خَشَبَةً حَادَّةً، أَمْ حِجَارَةً
__________
(1) المعراض: عود محدد ربما جعل في رأسه حديدة يشبه السهم، ويحذف به الصيد (المغني 8 / 558) .
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 59، والقوانين الفقهية ص 181، ومغني المحتاج 4 / 274، وحاشية البجيرمي على المنهج 4 / 290، وكشاف القناع 6 / 219، والمغني لابن قدامة 8 / 559.(28/133)
مُرَقَّقَةَ الرَّأْسِ، أَمْ نَحْوَهَا تَنْفُذُ دَاخِل الْجِسْمِ (1) .
33 - الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ تُصِيبَ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا فَتَجْرَحَهُ، وَيُتَيَقَّنَ كَوْنُ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، وَإِلاَّ لاَ يَحِل أَكْلُهُ؛ لأَِنَّ مَا يُقْتَل بِعَرْضِ الآْلَةِ أَوْ بِثِقَلِهِ يُعْتَبَرُ مَوْقُوذَةً (2) . وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمَوْقُوذَةُ} (3) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ بِالْمِعْرَاضِ فَأُصِيبُ، فَقَال: إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْهُ (4) . وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَمَيْتَ فَسَمَّيْتَ فَخَزَقْتَ فَكُل، فَإِنْ لَمْ يَتَخَزَّقْ فَلاَ تَأْكُل، وَلاَ تَأْكُل مِنَ الْمِعْرَاضِ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتَ، وَلاَ تَأْكُل مِنَ الْبُنْدُقَةِ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتَ (5) وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَال: إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ (6) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تبيين الحقائق 6 / 58، 59، ومغني المحتاج 4 / 274، وكشاف القناع 6 / 219.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) حديث عدي بن حاتم: " إذا رميت بالمعراض. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1529) .
(5) حديث: " إذا رميت فسميت فخزقت. . . ". أخرجه أحمد (4 / 380) من حديث عدي بن حاتم.
(6) حديث: " نهى عن الحذف. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 599) ومسلم (3 / 1548) من حديث عبد الله بن مغفل، واللفظ لمسلم.(28/133)
34 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يُصِيبَ الرَّمْيُ الصَّيْدَ مُبَاشَرَةً، وَلاَ يَعْدِل عَنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا رَدَّ السَّهْمَ رِيحٌ إِلَى وَرَائِهِ، أَوْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، فَأَصَابَ صَيْدًا لاَ يَحِل، وَكَذَا لَوْ رَدَّهُ حَائِطٌ أَوْ شَجَرَةٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِعَانَةِ الرِّيحِ لِلسَّهْمِ: لَوْ قَتَل الصَّيْدَ بِإِعَانَةِ الرِّيحِ لِلسَّهْمِ لَمْ يَحْرُمْ (2) .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَوْ رَدَّ السَّهْمَ حَجَرٌ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ، لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ (3) .
مَسَائِل وَفُرُوعٌ فِي الآْلَةِ الْجَامِدَةِ:
تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِ الآْلَةِ الْجَامِدَةِ لِمَسَائِل بَيَّنُوا أَحْكَامَهَا، وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْمَسَائِل مَا يَلِي:
أ - الاِصْطِيَادُ بِالشَّبَكَةِ وَالأُْحْبُولَةِ:
35 - لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ أُحْبُولَةً، وَسَمَّى، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَمَاتَ مَجْرُوحًا لَمْ يَحِل إِذَا لَمْ تَكُنْ بِهَا آلَةٌ جَارِحَةٌ، وَلَوْ كَانَ بِهَا آلَةٌ جَارِحَةٌ كَمِنْجَلٍ، أَوْ نَصَبَ سَكَاكِينَ وَسَمَّى حَل،
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 300، 301.
(2) حاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 290، ومطالب أولي النهى 6 / 352.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 352.(28/134)
كَمَا لَوْ رَمَاهُ بِهَا، صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَحِل، وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ نَاصِبِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ النَّصْبِ، لأَِنَّهُ كَالرَّمْيِ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ النَّصْبَ جَرَى مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ فِي الضَّمَانِ، فَكَذَا فِي الإِْبَاحَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَا رَدَّتْ إِلَيْكَ يَدُكَ (3) . وَلأَِنَّهُ قَتَل الصَّيْدَ بِمَا لَهُ حَدٌّ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالصَّيْدِ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَاهُ (4) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْرَحْهُ مَا نَصَبَهُ مِنْ مَنَاجِل أَوْ سَكَاكِينَ - كَالْمُنْخَنِقَةِ بِالأُْحْبُولَةِ - فَلاَ يُبَاحُ الصَّيْدُ لِعَدَمِ الْجُرْحِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (5) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا قَتَلَتِ الْحِبَالاَتُ مِنَ الصَّيْدِ، أَيُؤْكَل أَمْ لاَ؟ قَال مَالِكٌ: لاَ يُؤْكَل إِلاَّ مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ، قَال: فَقُلْتُ لِمَالِكٍ: فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِبَالاَتِ حَدِيدَةٌ فَأَنْفَذَتِ الْحَدِيدَةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 302، وكشاف القناع 6 / 219، 220، وانظر مغني المحتاج 4 / 274، والبجيرمي على شرح المنهج 4 / 290.
(2) كشاف القناع 6 / 219.
(3) حديث: " كل ما ردت إليك يدك. . . ". أخرجه أحمد (4 / 195) من حديث أبي ثعلبة.
(4) كشاف القناع 6 / 219.
(5) سورة المائدة / 3.(28/134)
مَقَاتِل الصَّيْدِ؟ قَال: قَال مَالِكٌ: لاَ يُؤْكَل إِلاَّ مَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ (1) .
ب - الاِصْطِيَادُ بِالْبُنْدُقِ:
36 - يُطْلَقُ الْبُنْدُقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: مَا يُؤْكَل، وَمِنْهَا: مَا يُصْنَعُ مِنْ طِينَةٍ مُدَوَّرَةٍ أَوْ رَصَاصَةٍ يُرْمَى بِهَا الصَّيْدُ. وَالْوَاحِدَةُ بُنْدُقَةٌ، وَالْجَمْعُ بَنَادِقُ (2) .
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: مَا يُرْمَى بِهِ الصَّيْدُ (3) .
أَمَّا مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا قُتِل بِبُنْدُقَةِ الطِّينِ الثَّقِيلَةِ لاَ يَحِل أَكْلُهُ، لأَِنَّهَا تَقْتُل بِالثِّقَل لاَ بِالْحَدِّ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ قَاضِي خَانْ: لاَ يَحِل صَيْدُ الْبُنْدُقَةِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ وَالْعَصَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِنْ جَرَحَ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْزِقُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَدْ حَدَّدَهُ وَطَوَّلَهُ، كَالسَّهْمِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَخَزَقَهُ بِحَدِّهِ حَل أَكْلُهُ، فَأَمَّا الْجُرْحُ الَّذِي يَدُقُّ فِي الْبَاطِنِ وَلاَ يَخْزِقُ فِي الظَّاهِرِ لاَ يَحِل، لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِهِ إِنْهَارُ الدَّمِ، وَمُثَقَّل الْحَدِيدِ وَغَيْرِ الْحَدِيدِ سَوَاءٌ، إِنْ خَزَقَ حَل وَإِلاَّ فَلاَ (5) .
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 57.
(2) متن اللغة ولسان العرب والصحاح.
(3) ابن عابدين 5 / 304، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 103، ومغني المحتاج 4 / 274.
(4) نفس المراجع، وانظر كشاف القناع 6 / 219.
(5) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 304.(28/135)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَحِل مَا صِيدَ بِبُنْدُقِ الطِّينِ لأَِنَّهُ لاَ يَجْرَحُ، وَإِنَّمَا يَرُضُّ وَيَكْسِرُ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: فَلَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ، أَوْ ثِقَلٍ مُحَدَّدٍ، كَبُنْدُقَةٍ وَسَوْطٍ - حَرُمَ، (2) أَيِ الأَْكْل مِنْهُ.
وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ: وَأَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِحُرْمَةِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الذَّخَائِرِ، وَلَكِنْ أَفْتَى النَّوَوِيُّ بِجَوَازِهِ، أَيِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الصَّيْدُ لاَ يَمُوتُ فِيهِ غَالِبًا، كَالإِْوَزِّ، فَإِنْ مَاتَ كَالْعَصَافِيرِ فَيَحْرُمُ، فَلَوْ أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَذَبَحَتْهُ بِقُوَّتِهَا، أَوْ قَطَعَتْ رَقَبَتَهُ حَرُمَ، وَهَذَا التَّفْصِيل هُوَ الْمُعْتَمَدُ (3) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَعِبَارَتُهُ: فَإِنْ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، كَالْعَصَافِيرِ وَصِغَارِ الْوَحْشِ حَرُمَ، كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَإِنِ احْتَمَل وَاحْتَمَل يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ (4) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلاَ بُدَّ مِنْ جُرْحِهِ، أَيِ الصَّيْدِ بِالْمُحَدَّدِ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يُبَحْ، كَشَبَكَةٍ، وَفَخٍّ، وَبُنْدُقَةٍ، وَعَصَا، وَحَجَرٍ لاَ حَدَّ لَهُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَوْ شَدَخَهُ أَوْ حَرَّقَهُ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 103.
(2) مغني المحتاج 4 / 274.
(3) البجيرمي على شرح المنهج 4 / 290.
(4) مغني المحتاج 4 / 174.(28/135)
أَوْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ وَمَرِيئَهُ (1) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبُنْدُقِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الطِّينِ أَوِ الرَّصَاصِ مِنْ غَيْرِ نَارٍ، أَمَّا مَا صُنِعَ مِنَ الْحَدِيدِ وَيُرْمَى بِالنَّارِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالْحُرْمَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْجُرْحَ بِالرَّصَاصِ إِنَّمَا هُوَ بِالإِْحْرَاقِ وَالثِّقَل بِوَاسِطَةِ انْدِفَاعِهِ الْعَنِيفِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ نُجَيْمٍ (2) ، وَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: الْجُرْحُ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَالْبُنْدُقَةُ لاَ تَجْرَحُ (3) .
وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ: أَمَّا مَا يُصْنَعُ مِنَ الْحَدِيدِ وَيُرْمَى بِالنَّارِ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا، مَا لَمْ يَكُنِ الرَّامِي حَاذِقًا، وَقَصَدَ جَنَاحَهُ لإِِزْمَانِهِ، وَأَصَابَهُ (4) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ بِحُرْمَةِ الاِصْطِيَادِ بِالْبُنْدُقَةِ فِيمَا يَمُوتُ بِهَا كَالْعَصَافِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِصْطِيَادُ بِالْبُنْدُقَةِ بِوَاسِطَةِ نَارٍ أَمْ لاَ (5) .
وَصَرَّحَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْجَوَازِ حَيْثُ قَال: وَأَمَّا الرَّصَاصُ فَيُؤْكَل بِهِ لأَِنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّلاَحِ، كَذَا اعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ (6) .
__________
(1) كشاف القناع 6 / 219.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 304.
(3) تبيين الحقائق 6 / 59.
(4) البجيرمي على شرح المنهج 4 / 290.
(5) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 244.
(6) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 103.(28/136)
ثُمَّ فَصَّل الدُّسُوقِيُّ فَقَال: الْحَاصِل أَنَّ الصَّيْدَ بِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، لِحُدُوثِ الرَّمْيِ بِهِ بِحُدُوثِ الْبَارُودِ فِي وَسَطِ الْمِائَةِ الثَّامِنَةِ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْمَنْعِ، قِيَاسًا عَلَى بُنْدُقِ الطِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْجَوَازِ. . . . لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْنْهَارِ وَالإِْجْهَازِ بِسُرْعَةٍ، الَّذِي شُرِعَتِ الذَّكَاةُ لأَِجْلِهِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بُنْدُقِ الطِّينِ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَهُوَ وُجُودُ الْخَزْقِ وَالنُّفُوذِ فِي الرَّصَاصِ تَحْقِيقًا، وَعَدَمُ ذَلِكَ فِي بُنْدُقِ الطِّينِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ الرَّضُّ وَالْكَسْرُ (1) .
ج - الاِصْطِيَادُ بِالسَّهْمِ الْمَسْمُومِ:
37 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِصْطِيَادِ بِالسَّهْمِ الْمَسْمُومِ إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى قَتْل الصَّيْدِ أَوِ احْتُمِل ذَلِكَ، لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُبِيحٌ وَمُحَرَّمٌ، فَغَلَبَ الْمُحَرَّمُ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ سَهْمُ مَجُوسِيٍّ وَمُسْلِمٍ فِي قَتْل الْحَيَوَانِ. فَإِنْ لَمْ يُحْتَمَل ذَلِكَ فَلاَ يَحْرُمُ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: مَا مَاتَ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 103، 104.
(2) المواق بهامش الحطاب 3 / 217، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 241، ومطالب أولي النهى 6 / 345، وكشاف القناع 6 / 220.(28/136)
بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلَهُ وَلاَ أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ طُرِحَ، فَإِنْ أَنْفَذَ السَّهْمُ مَقَاتِلَهُ قَبْل أَنْ يَسْرِيَ السُّمُّ فِيهِ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ، خَوْفًا مِنْ أَذَى السُّمِّ، قَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ الْبَاجِيِّ: فَإِنْ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ فَقَدْ ذَهَبَتْ عِلَّةُ الْخَوْفِ مِنْ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِهِ السُّمُّ، وَبَقِيَتْ عِلَّةُ الْخَوْفِ مِنْ أَكْلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ السُّمُومِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَى أَكْلِهَا كَالْبَقْلَةِ فَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْعِلَّتَانِ، وَجَازَ أَكْلُهُ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَإِذَا رَمَى بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقَاتِلَهُ، وَأُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لاَ يُؤْكَل، وَنَحْوَهُ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَال سَحْنُونٌ: إِنَّهُ يُؤْكَل، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، لأَِنَّهُ قَدْ ذُكِيَ وَحَيَاتُهُ فِيهِ مُجْتَمِعَةٌ قَبْل أَنْ يُنْفِذَ مَقَاتِلَهُ (1) .
ثَانِيًا - الْحَيَوَانُ:
38 - يَجُوزُ الاِصْطِيَادُ بِالْحَيَوَانِ الْمُعَلَّمِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْجَوَارِحِ، مِنَ الْكِلاَبِ وَالسِّبَاعِ وَالطُّيُورِ مِمَّا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَالْفَهْدُ وَالنَّمِرُ وَالأَْسَدُ وَالْبَازِي وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ، كَالشَّاهِينِ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا.
فَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُل مَا يَقْبَل التَّعْلِيمَ وَعُلِّمَ
__________
(1) التاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 217.(28/137)
يَجُوزُ الاِصْطِيَادُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ (1) وَسَيَأْتِي مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) .
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ، فَلاَ يَحِل الاِصْطِيَادُ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ الْكَلْبَ الأَْسْوَدَ، وَالْبَهِيمَ الأَْسْوَدَ، وَهُوَ مَا لاَ بَيَاضَ فِيهِ، أَوْ كَانَ أَسْوَدَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ (4) .
وَوَجْهُ الاِسْتِثْنَاءِ: مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: عَلَيْكُمْ بِالأَْسْوَدِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 50 - 51، وابن عابدين على الدر المختار 5 / 298، والقوانين الفقهية ص 181، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 2 / 104، 105، ومغني المحتاج 4 / 275، وكشاف القناع 6 / 222، 225.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) الزيلعي 6 / 51، وكشاف القناع 6 / 223، وانظر الشبراملسي بذيل نهاية المحتاج 8 / 114.
(4) كشاف القناع 6 / 222.(28/137)
الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ (1) فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ (2) قَالُوا: فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
وَاسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْجَوَارِحِ الأَْسَدَ وَالدُّبَّ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَعْمَلاَنِ لِغَيْرِهِمَا، أَمَّا الأَْسَدُ فَلِعُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَأَمَّا الدُّبُّ فَلِخَسَاسَتِهِ، وَلأَِنَّهُمَا لاَ يَتَعَلَّمَانِ عَادَةً.
وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْحِدَأَةَ بِهِمَا لِخَسَاسَتِهَا (3) .
وَاسْتَثْنَى ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ النِّمْسَ، فَلاَ يُؤْكَل مَا قَتَل، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى كَوْنِهِ عُلِّمَ بِالْفِعْل، وَلَوْ فِي نَوْعِ مَا لاَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ، كَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَنِمْسٍ، كَمَا قَال الْعَدَوِيُّ (4) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْحَيَوَانِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
39 - الشَّرْطُ الأَْوَّل:
يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (5) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل، وَمَا صِدْتَ
__________
(1) الطفية: خوصة المقل (المصباح المنير) ، وكشاف القناع 6 / 222.
(2) حديث: " عليكم بالأسود البهيم ". أخرجه مسلم (3 / 1200) .
(3) كشاف القناع 6 / 222، والزيلعي 6 / 70، 71.
(4) القوانين الفقهية ص 181، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 520.
(5) سورة المائدة / 4.(28/138)
بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ أَنَّهُ إِذَا أُرْسِل أَطَاعَ وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ (2) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُل، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ أَنْ يَأْكُل الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ (3) .
وَيُشْتَرَطُ هَذَا فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ - أَيْضًا - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى جَارِحَةِ السِّبَاعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَحْتَمِل الضَّرْبَ لِتَتَعَلَّمَ تَرْكَ الأَْكْل، بِخِلاَفِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَلِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِذَا أَكَل الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُل، وَإِنْ أَكَل الصَّقْرُ فَكُل (4) .
وَإِنْ شَرِبَ الْكَلْبُ وَنَحْوُهُ دَمَ الصَّيْدِ وَلَمْ
__________
(1) حديث: أبي ثعلبة: " ما صدت بكلبك المعلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 605) ومسلم (3 / 1532) واللفظ للبخاري.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 103، 104، ومغني المحتاج 4 / 275، وكشاف القناع 6 / 223.
(3) مغني المحتاج 4 / 275، وكشاف القناع 6 / 223. وحديث: " إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 612) .
(4) مغني المحتاج 4 / 275، وكشاف القناع 6 / 223، 224.(28/138)
يَأْكُل مِنْهُ لَمْ يَحْرُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَكَرُّرُ هَذِهِ الأُْمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّعْلِيمِ بِحَيْثُ يُظَنُّ تَأَدُّبُ الْجَارِحَةِ، وَلاَ يَنْضَبِطُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ، بَل الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ بِالْجَوَارِحِ.
وَلَوْ ظَهَرَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الشُّرُوطِ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا، ثُمَّ أَكَل مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ لَمْ يَحِل ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، فَيُشْتَرَطُ تَعْلِيمٌ جَدِيدٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْتَبَرُ تَكْرَارُ تَرْكِ الأَْكْل، بَل يَحْصُل التَّعْلِيمُ بِتَرْكِ الأَْكْل مَرَّةً، لأَِنَّهُ تَعَلَّمَ صَنْعَةً أَشْبَهَ سَائِرَ الصَّنَائِعِ، فَإِنْ أَكَل بَعْدَ تَعْلِيمِهِ لَمْ يَحْرُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيْدِهِ، لِعُمُومِ الآْيَةِ وَالأَْخْبَارِ، وَلَمْ يُبَحْ مَا أَكَل مِنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِالأَْكْل عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، فَيُبَاحُ مَا صَادَهُ بَعْدَ الَّذِي أَكَل مِنْهُ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عِصْيَانُ الْمُعَلَّمِ مَرَّةً لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا، كَمَا لاَ يَكُونُ مُعَلَّمًا بِطَاعَتِهِ مَرَّةً، بَل الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ كَافٍ (4) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ شَرْطَ الاِنْزِجَارِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَازِي، لأَِنَّهُ لاَ يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ بَل
__________
(1) المرجعين السابقين، ومطالب أولي النهى 6 / 350، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 290.
(2) مغني المحتاج 4 / 275، 276.
(3) كشاف القناع 6 / 223، 224.
(4) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 520، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 104.(28/139)
رَجَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ اعْتِبَارِ الاِنْزِجَارِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْجَارِحَ لاَ يَرْجِعُ بَعْدَ اسْتِيلاَئِهِ (1) .
وَقَال الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ يَكُونُ بِتَرْكِ الأَْكْل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَفِي الْبَازِي وَنَحْوِهِ مِنَ الطُّيُورِ بِالرُّجُوعِ إِذَا دُعِيَ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. . . وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ الأَْكْل ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. . . لأَِنَّ تَعَلُّمَهُ يُعْرَفُ بِتَكْرَارِ التَّجَارِبِ وَالاِمْتِحَانِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَثْبُتُ التَّعَلُّمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ قَدْ تَعَلَّمَ، وَلاَ يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ لاَ بِالاِجْتِهَادِ. وَلاَ نَصَّ هُنَا، فَيُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ، وَلأَِنَّ مُدَّةَ التَّعَلُّمِ تَخْتَلِفُ بِالْحَذَاقَةِ وَالْبَلاَدَةِ، فَلاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُ الْمُلْتَقَى تَرْجِيحُ عَدَمِ التَّقْدِيرِ (3) .
أَمَّا شُرْبُ الْجَارِحِ دَمَ الْمَصِيدِ فَلاَ يَضُرُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ (4) .
40 - الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَجْرَحَ الْحَيَوَانُ الصَّيْدَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 104.
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6 / 51.
(3) ابن عابدين 5 / 299.
(4) نفس المرجع.(28/139)
الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
فَلَوْ قَتَلَهُ الْجَارِحُ بِصَدْمٍ، أَوْ عَضٍّ بِلاَ جُرْحٍ لَمْ يُبَحْ، كَالْمِعْرَاضِ إِذَا قَتَل بِعَرْضِهِ أَوْ ثِقَلِهِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَل الْكَلْبَ فَأَصَابَ الصَّيْدَ وَكَسَرَ عُنُقَهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ، أَوْ جَثَمَ عَلَى صَدْرِهِ وَخَنَقَهُ (1) .
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، أَيِ الْجُرْحِ، هُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (2) وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَهُوَ يَخْرُجُ بِالْجُرْحِ عَادَةً، وَلاَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ إِلاَّ نَادِرًا، فَأُقِيمَ الْجُرْحُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ، وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْرَحْهُ صَارَ مَوْقُوذَةً، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ، كَمَا عَلَّلَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْحَيَوَانِ أَنْ يَجْرَحَ الصَّيْدَ، فَلَوْ تَحَامَلَتِ الْجَارِحَةُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَتْهُ بِثِقَلِهَا، أَوْ مَاتَ بِصَدْمَتِهَا، أَوْ بِعَضِّهَا، أَوْ بِقُوَّةِ إِمْسَاكِهَا مِنْ غَيْرِ عَقْرٍ حَل؛
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 5 / 299، والقوانين الفقهية ص 182، 183، والفواكه الدواني 1 / 458، ومطالب أولي النهى 6 / 351، ومغني المحتاج 4 / 276، والمغني لابن قدامة 8 / 545.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) تبيين الحقائق شرح الكنز 6 / 51، 52.(28/140)
وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (1) وَلأَِنَّهُ يَعْسُرُ تَعْلِيمُهُ أَنْ لاَ يَقْتُل إِلاَّ بِجُرْحٍ (2) .
41 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مُرْسَلاً مِنْ قِبَل مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ مَقْرُونًا بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَوِ انْبَعَثَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوِ انْفَلَتَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، أَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الإِْرْسَال فَأَخَذَ صَيْدًا وَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَل (3) ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيل هَذَا الشَّرْطِ فِي شُرُوطِ الصَّائِدِ.
42 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لاَ يَشْتَغِل الْحَيَوَانُ بِعَمَلٍ آخَرَ بَعْدَ الإِْرْسَال، وَذَلِكَ لِيَكُونَ الاِصْطِيَادُ مَنْسُوبًا لِلإِْرْسَال، وَهَذَا الشَّرْطُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَكَل خُبْزًا بَعْدَ الإِْرْسَال أَوْ بَال لَمْ يُؤْكَل، وَلَوْ عَدَل عَنِ الصَّيْدِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، أَوْ تَشَاغَل فِي غَيْرِ طَلَبِ الصَّيْدِ، وَفَتَرَ عَنْ سَنَنِهِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ، لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ بِإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ، أَوْ أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ وَيُسَمِّيَ فِيمَا يَحْتَمِل الزَّجْرَ فَيَنْزَجِرُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَمَنَ وَاسْتَخْفَى، كَمَا يَكْمُنُ الْفَهْدُ عَلَى
__________
(1) سورة المائدة / 4.
(2) مغني المحتاج 4 / 276.
(3) ابن عابدين 5 / 399 - 402، والقوانين الفقهية ص 182، ومغني المحتاج 4 / 275، وكشاف القناع 6 / 224.(28/140)
وَجْهِ الْحِيلَةِ، لاَ لِلاِسْتِرَاحَةِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا فِي شُرُوطِ الْجَارِحِ: أَنْ لاَ يَرْجِعَ عَنِ الصَّيْدِ، فَإِنْ رَجَعَ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يُؤْكَل، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَغَل بِصَيْدٍ آخَرَ، أَوْ بِأَكْلِهِ (2) .
وَفَصَّل الْمَوَّاقُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَال: مَنْ أَرْسَل كَلْبَهُ أَوْ بَازَهُ عَلَى صَيْدٍ فَطَلَبَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الطَّلَبِ، ثُمَّ عَادَ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ كَالطَّالِبِ لَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً، وَهُوَ عَلَى طَلَبِهِ فَهُوَ عَلَى إِرْسَالِهِ الأَْوَّل، وَإِنْ وَقَفَ لأَِجْل الْجِيفَةِ أَوْ شَمَّ كَلْبًا أَوْ سَقَطَ الْبَازِي عَجْزًا عَنْهُ، ثُمَّ رَأَيَاهُ فَاصْطَادَهُ، فَلاَ يُؤْكَل إِلاَّ بِإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرْسَل كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَعَدَل إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ إِلَى جِهَةِ غَيْرِ الإِْرْسَال فَأَصَابَهُ وَمَاتَ حَل، لأَِنَّهُ يَعْسُرُ تَكْلِيفُهُ تَرْكَ الْعُدُول (4) .
اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ:
43 - لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 399.
(2) القوانين الفقهية ص 182.
(3) المواق بهامش الحطاب 3 / 216.
(4) مغني المحتاج 4 / 277.(28/141)
وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الاِسْتِيفَاءِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْكَلْبِ عَلَى الصَّيْدِ، فَلَمْ تَكُنِ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا مَقْدُورَةَ الاِسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ قِيمَةَ لِعَيْنِ الْكَلْبِ، فَكَذَا لِمَنْفَعَتِهِ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْكَلْبَ حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ لِخُبْثِهِ، فَحُرِّمَتْ إِجَارَتُهُ، وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ لَمْ تُبِحْ بَيْعَهُ، فَكَذَلِكَ إِجَارَتُهُ، وَلأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ لاَ تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الإِْجَارَةِ (1) .
حُكْمُ مَعَضِّ الْكَلْبِ وَأَثَرِ فَمِهِ فِي الصَّيْدِ:
44 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - بِأَنَّ مَعَضَّ الْكَلْبِ نَجَسٌ (2) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ كَوُلُوغِهِ. وَالثَّانِي: يُعْفَى عَنْهُ لِلْحَاجَةِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالأَْصَحُّ عَلَى الأَْوَّل أَنَّهُ يَكْفِي غَسْل الْمَعَضِّ سَبْعًا بِمَاءٍ وَتُرَابٍ فِي إِحْدَاهُنَّ، كَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَنْ يُقَوَّرَ الْمَعَضُّ وَيُطْرَحَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ ذَلِكَ، وَلاَ يَكْفِي الْغُسْل؛
__________
(1) البدائع 4 / 189، وبداية المجتهد 2 / 245، ومغني المحتاج 2 / 235، والمغني 4 / 279 - 280: ط. الرياض.
(2) مغني المحتاج 4 / 267، والمغني لابن قدامة 8 / 546.(28/141)
لأَِنَّ الْمَوْضِعَ تَشَرَّبَ لُعَابَهُ، فَلاَ يَتَخَلَّلُهُ الْمَاءُ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَجِبُ غَسْل أَثَرِ فَمِ الْكَلْبِ، لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَجَاسَتُهُ، فَيَجِبُ غَسْل مَا أَصَابَهُ كَبَوْلِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى طَهَارَةِ مَعَضِّ الْكَلْبِ، وَعَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِهِ. قَال ابْنُ جُزَيٍّ: مَوْضِعُ نَابِ الْكَلْبِ يُؤْكَل، لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْمَذْهَبِ (3) .
وَعَلَّل ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ وُجُوبِ غَسْل الْمَعَضِّ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَا بِأَكْلِهِ، وَلَمْ يَأْمُرَا بِغَسْلِهِ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.
لَكِنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا نَجَاسَتُهُ بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلاَ يَظْهَرُ حُكْمُهَا وَهُوَ حَيٌّ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ (5) .
الاِشْتِرَاكُ فِي الصَّيْدِ:
45 - الاِشْتِرَاكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّائِدِينَ: بِأَنْ يَجْتَمِعَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي الرَّمْيِ، أَوْ إِرْسَال الْجَارِحِ عَلَى الصَّيْدِ، أَوْ يَكُونَ فِي آلَةِ الصَّيْدِ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 267.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 546.
(3) القوانين الفقهية ص 184.
(4) المغني لابن قدامة 8 / 546.
(5) ابن عابدين والدر المختار 1 / 139.(28/142)
بِأَنْ يُصْطَادَ الْمَصِيدُ بِسَهْمٍ وَبُنْدُقَةٍ مَثَلاً، أَوْ بِكَلْبَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَبَيَانُ كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - اشْتِرَاكُ الصَّائِدِينَ:
أ - اشْتِرَاكُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ مَعَ مَنْ لَيْسَ أَهْلاً لَهُ:
46 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ فِي الصَّيْدِ مَنْ يَحِل صَيْدُهُ كَمُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ مَعَ مَنْ لاَ يَحِل صَيْدُهُ، كَمَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ فَإِنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ لاَ يُؤْكَل، وَذَلِكَ عَمَلاً بِقَاعِدَةِ تَغْلِيبِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ عَلَى جَانِبِ الْحِل (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ شَارَكَ مَجُوسِيٌّ مُسْلِمًا، كَأَنْ رَمَيَا صَيْدًا أَوْ أَرْسَلاَ عَلَيْهِ جَارِحًا يَحْرُمُ الصَّيْدُ، لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُبِيحٌ وَمُحَرِّمٌ، فَغَلَّبْنَا التَّحْرِيمَ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ مَا يُؤْكَل وَمَا لاَ يُؤْكَل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعَ الْحَلاَل وَالْحَرَامُ إِلاَّ وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلاَل (2) . وَلأَِنَّ الْحَرَامَ وَاجِبُ التَّرْكِ، وَالْحَلاَل جَائِزُ التَّرْكِ؛ فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ فِي التَّرْكِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 56، وجواهر الإكليل 1 / 211، ومغني المحتاج 4 / 266، وكشاف القناع 6 / 217، 218.
(2) حديث: " ما اجتمع الحلال والحرام. . . ". أورده العجلوني في كشف الخفاء (2 / 236) ، وقال: قال ابن السبكي في الأشباه والنظائر نقلا عن البيهقي: رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود، وفيه ضعف وانقطاع. وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول: لا أصل له، وأدرجه ابن مفلح في أول كتابه في الأصول فيما لا أصل له.
(3) نفس المرجع، وانظر في التعليل الزيلعي 6 / 74.(28/142)
وَهَذَا إِذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِسَهْمَيْهِمَا أَوْ بِكَلْبَيْهِمَا، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا وَقَعَ سَهْمَاهُمَا فِيهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ وَقَعَ سَهْمُ أَحَدِهِمَا قَبْل الآْخَرِ.
أَمَّا إِذَا أَرْسَلاَ كَلْبَيْنِ أَوْ سَهْمَيْنِ عَلَى صَيْدٍ فَسَبَقَتْ آلَةُ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَتْهُ أَوْ أَنْهَتْهُ إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ (1) ، ثُمَّ أَصَابَ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ أَوْ سَهْمُهُ حَل، وَلاَ يَقْدَحُ مَا وُجِدَ مِنَ الْمَجُوسِيِّ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ الثَّانِي (أَيْ مِنَ الْمَجُوسِيِّ) مُوحِيًا أَيْضًا؛ لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ حَصَلَتْ بِالأَْوَّل، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الثَّانِي (3) .
وَإِذَا رَدَّهُ كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ عَلَى كَلْبِ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ حَل كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِذَا رَمَى الْمَجُوسِيُّ سَهْمَهُ فَرَدَّ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَأَصَابَهُ سَهْمُ الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحِل، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَصَفُوا الْحِل فِي صُورَةِ رَدِّ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ بِالْكَرَاهَةِ (4) .
أَمَّا إِذَا سَبَقَتْ آلَةُ الْمَجُوسِيِّ فَقَتَلَتْهُ، أَوْ أَنْهَتْهُ إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ، أَوْ لَمْ يَسْبِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
__________
(1) وقد عبر عنه الحنابلة بالجرح الموحى (كشاف القناع 6 / 217) .
(2) مغني المحتاج 4 / 266.
(3) كشاف القناع 6 / 217.
(4) تبيين الحقائق 6 / 54، وكشاف القناع 6 / 217.(28/143)
وَجَرَحَاهُ مَعًا، وَحَصَل الْهَلاَكُ بِهِمَا، أَوْ جُهِل ذَلِكَ، أَوْ جَرَحَاهُ مُرَتَّبًا وَلَكِنْ لَمْ يُذَفِّفْ (1) أَحَدُهُمَا فَهَلَكَ بِهِمَا - حَرُمَ الصَّيْدُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ (2) .
ب - اشْتِرَاكُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ مَعَ مِثْلِهِ:
47 - إِنِ اشْتَرَكَ فِي الرَّمْيِ أَوِ الإِْصَابَةِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ مَعَ مِثْلِهِ، كَمُسْلِمَيْنِ أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ، فَلَهُ صُوَرٌ:
الأُْولَى: إِنْ رَمَيَا مَعًا وَأَصَابَاهُ وَقَتَلاَهُ كَانَ الصَّيْدُ حَلاَلاً، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي ذَبْحِهِ، وَيَكُونُ الصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) .
الثَّانِيَةُ: إِنْ جَرَحَاهُ مَعًا، وَأَزْمَنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ جُرْحُ أَحَدِهِمَا مُذَفِّفًا، ثُمَّ مَاتَ الصَّيْدُ بِسَبَبِ جُرْحِ الاِثْنَيْنِ، حَل وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا.
الثَّالِثَةُ: إِنْ كَانَ جُرْحُ أَحَدِهِمَا مُوحِيًا (مُذَفِّفًا) ، وَالآْخَرُ غَيْرَ مُوحٍ، وَلاَ يُثْبِتُهُ مِثْلُهُ، فَالصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْجُرْحِ الْمُوحِي، لاِنْفِرَادِهِ بِذَلِكَ.
__________
(1) التذفيف هو إسراع القتل بقطع حلقوم ومريء أو أحدهما أو إخراج حشوه أو نحو ذلك.
(2) البدائع 5 / 56، والزيلعي 6 / 54، ومغني المحتاج 4 / 266، وجواهر الإكليل 1 / 211 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 217.
(3) الزيلعي 6 / 61، ومغني المحتاج 4 / 281، وكشاف القناع 6 / 215، وجواهر الإكليل 1 / 212.(28/143)
الرَّابِعَةُ: إِذَا رَمَيَا وَأَصَابَا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَذَفَّفَ الثَّانِي، أَوْ أَزْمَنَ دُونَ الأَْوَّل مِنْهُمَا، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَذْفِيفٌ وَلاَ إِزْمَانٌ حَل، وَالصَّيْدُ لِلثَّانِي، لأَِنَّ جُرْحَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي امْتِنَاعِهِ أَوْ قَتْلِهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الأَْوَّل بِجُرْحِهِ، لأَِنَّهُ كَانَ مُبَاحًا حِينَئِذٍ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ (1) .
الْخَامِسَةُ: إِذَا رَمَيَا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَأَثْخَنَهُ الأَْوَّل، ثُمَّ رَمَاهُ الثَّانِي وَقَتَلَهُ يَحْرُمُ، وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلأَْوَّل قِيمَتَهُ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَةُ الأَْوَّل، أَمَّا الْحُرْمَةُ فَلأَِنَّهُ لَمَّا أَثْخَنَهُ الأَْوَّل فَقَدْ خَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الاِمْتِنَاعِ، وَصَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَكَاتِهِ الاِخْتِيَارِيَّةِ، وَلَمْ يُذَكَّ، وَصَارَ الثَّانِي قَاتِلاً لَهُ، فَيَحْرُمُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ بِحَالٍ يَسْلَمُ مِنَ الْجُرْحِ الأَْوَّل، لأَِنَّ مَوْتَهُ يُضَافُ إِلَى الثَّانِي.
أَمَّا إِذَا كَانَ حَيًّا حَيَاةَ مَذْبُوحٍ فَيَحِل وَالْمِلْكُ لِلأَْوَّل، لأَِنَّ مَوْتَهُ لاَ يُضَافُ إِلَى الرَّمْيِ الثَّانِي، فَلاَ اعْتِبَارَ بِوُجُودِهِ.
وَأَمَّا ضَمَانُ الثَّانِي لِلأَْوَّل فِي حَالَةِ الْحُرْمَةِ، فَلأَِنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ، لأَِنَّهُ مَلَكَهُ بِالإِْثْخَانِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6 / 60، 61، ومغني المحتاج 4 / 281، 282، وكشاف القناع 6 / 215، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 103.
(2) المراجع السابقة.(28/144)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَزْمَنَ الأَْوَّل، ثُمَّ ذَفَّفَ الثَّانِي بِقَطْعِ حُلْقُومٍ وَمَرِيءٍ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَإِنْ ذَفَّفَ لاَ بِقَطْعِهِمَا، أَوْ لَمْ يُذَفِّفْ أَصْلاً، وَمَاتَ بِالْجُرْحَيْنِ فَحَرَامٌ، أَمَّا الأَْوَّل فَلأَِنَّ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لاَ يَحِل إِلاَّ بِذَبْحِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلاِجْتِمَاعِ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَكَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ، وَفِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ يَضْمَنُهُ الثَّانِي لِلأَْوَّل، لأَِنَّهُ أَفْسَدَ مِلْكَهُ (1) .
وَالاِعْتِبَارُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَعِيَّةِ بِالإِْصَابَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - لاَ بِابْتِدَاءِ الرَّمْيِ، كَمَا أَنَّ الاِعْتِبَارَ فِي كَوْنِهِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِحَالَةِ الإِْصَابَةِ، فَلَوْ رَمَى غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ أَرْسَل عَلَيْهِ الْكَلْبَ فَأَصَابَهُ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، لَمْ يَحِل إِلاَّ بِإِصَابَتِهِ فِي الْمَذْبَحِ، وَإِنْ رَمَاهُ وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَأَصَابَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ حَل مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرَ - إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْحِل وَالضَّمَانِ وَقْتُ الرَّمْيِ، لأَِنَّ الرَّمْيَ إِلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ، فَلاَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلاَ يَنْقَلِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مُوجِبًا، وَالْحِل يَحْصُل بِفِعْلِهِ وَهُوَ الرَّمْيُ وَالإِْرْسَال، فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهُ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمِلْكِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الإِْثْخَانِ، لأَِنَّ بِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 281.
(2) مغني المحتاج 4 / 282، وانظر كشاف القناع 6 / 219، والزيلعي 6 / 61.(28/144)
يَثْبُتُ الْمِلْكُ (1) ، وَعَلَى ذَلِكَ يَحِل الصَّيْدُ وَيَكُونُ مِلْكًا لِلأَْوَّل عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الصُّوَرِ التَّالِيَةِ: - إِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا قَبْل الآْخَرِ فَأَثْخَنَهُ، ثُمَّ أَصَابَهُ الآْخَرُ وَمَاتَ.
رَمَاهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلاً، ثُمَّ رَمَاهُ الثَّانِي قَبْل أَنْ يُصِيبَهُ الأَْوَّل، أَوْ بَعْدَمَا أَصَابَهُ قَبْل أَنْ يُثْخِنَهُ، فَأَصَابَهُ الأَْوَّل وَأَثْخَنَهُ.
رَمَيَا مَعًا فَأَثْخَنَهُ الأَْوَّل ثُمَّ أَصَابَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ.
فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ يَحِل الصَّيْدُ وَيَكُونُ مِلْكًا لِلأَْوَّل، أَمَّا الْحِل فَلأَِنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لَمْ يَكُنِ الصَّيْدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلأَِنَّ الإِْثْخَانَ بِفِعْل الأَْوَّل.
وَقَال زُفَرُ - وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: لاَ يَحِل أَكْلُهُ لأَِنَّ الصَّيْدَ حَالَةَ إِصَابَةِ الثَّانِي غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، فَلاَ يَحِل بِذَكَاةِ الاِضْطِرَارِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا رَمَاهُ الثَّانِي بَعْدَ مَا أَثْخَنَهُ الأَْوَّل (2) .
48 - وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا:
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ جَهِل كَوْنَ التَّذْفِيفِ أَوِ الإِْزْمَانِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُمَا، لِعَدَمِ
__________
(1) تبيين الحقائق شرح الكنز 6 / 61.
(2) الزيلعي 6 / 61.(28/145)
التَّرْجِيحِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَحِل كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ تَوَرُّعًا مِنْ مَظِنَّةِ الشُّبْهَةِ (1) .
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ مَعَ اخْتِلاَفِ الْعِبَارَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صَاحِبِهِ فَوَجَدَاهُ مَيِّتًا، وَلَمْ يَعْلَمْ هَل صَارَ بِالْجُرْحِ الأَْوَّل مُمْتَنِعًا أَوْ لاَ؟ حَل، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ امْتِنَاعِهِ، وَيَكُونُ مِلْكُهُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِهِ تَرْجِيحٌ بِلاَ مُرَجِّحٍ (2) .
ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا أَثَبْتُهُ، ثُمَّ قَتَلْتَهُ أَنْتَ وَلَمْ يَكُنِ التَّذْفِيفُ وَالإِْزْمَانُ مَعْلُومَيْنِ حَرُمَ، لإِِقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِتَحْرِيمِهِ، وَيَتَحَالَفَانِ لأَِجْل الضَّمَانِ (3) .
ثَانِيًا - الاِشْتِرَاكُ فِي آلَةِ الصَّيْدِ:
49 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ فِي الصَّيْدِ آلَتَانِ أَوْ سَبَبَانِ يُبَاحُ بِأَحَدِهِمَا الصَّيْدُ، وَيَحْرُمُ بِالآْخَرِ - يَحْرُمُ الصَّيْدُ، فَالأَْصْل أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْحِل وَالْحُرْمَةُ يُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ، عَمَلاً بِقَوْلِهِ: مَا اجْتَمَعَ الْحَلاَل وَالْحَرَامُ إِلاَّ وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلاَل (4) أَوِ احْتِيَاطًا، كَمَا قَال الْفُقَهَاءُ.
فَلَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُ أَوْ الْكِتَابِيُّ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 181.
(2) كشاف القناع 6 / 215.
(3) نفس المرجع.
(4) حديث: " ما اجتمع الحلال والحرام. . . ". تقدم تخريجه في فقرة رقم 46.(28/145)
آخَرَ جَهِل، هَل سُمِّيَ عَلَيْهِ أَمْ لاَ؟ وَهَل اسْتَرْسَل بِنَفْسِهِ أَمْ أَرْسَلَهُ شَخْصٌ؟ وَهَل مُرْسِلُهُ مِنْ أَهْل الصَّيْدِ أَمْ لاَ؟ لَمْ يُبَحْ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ الْكَلْبَيْنِ قَتَلاَهُ مَعًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاتِل، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمَجْهُول هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلاَبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَقَدْ قَتَلَهُ فَلاَ تَأْكُل، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
وَلِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الإِْبَاحَةِ.
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الصَّيْدِ:
50 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الاِصْطِيَادَ إِذَا تَمَّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَمَلُّكِ الصَّائِدِ لِلْمَصِيدِ، وَذَلِكَ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ أَوْ بِجُرْحٍ مُذَفِّفٍ، أَوْ بِإِزْمَانٍ وَكَسْرِ جُنَاحٍ، بِحَيْثُ يَعْجَزُ عَنِ الطَّيَرَانِ وَالْعَدْوِ جَمِيعًا، إِنْ كَانَ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا، وَإِلاَّ فَبِإِبْطَال مَا يَمْتَنِعُ بِهِ، أَوْ بِوُقُوعِهِ فِي شَبَكَةٍ نَصَبَهَا لِلصَّيْدِ، أَوْ بِإِلْجَائِهِ إِلَى مَضِيقٍ لاَ يَفْلِتُ مِنْهُ، كَإِدْخَال صَيْدٍ بَرِّيٍّ إِلَى بَيْتٍ؛ أَوِ اضْطِرَارِ سَمَكَةٍ إِلَى بِرْكَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ حَوْضٍ صَغِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) الحطاب 3 / 218، والقوانين الفقهية ص 182، ومغني المحتاج 4 / 277، 278، وكشاف القناع 6 / 218، وحديث: " إن وجدت مع كلبك أو كلابك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 599) ، ومسلم (3 / 1530) واللفظ للبخاري.(28/146)
أ - وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ:
51 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَصِيدَ غَيْرُ الْحَرَمِيِّ يَمْلِكُهُ الصَّائِدُ بِضَبْطِهِ بِيَدِهِ، كَمَا عَبَّرَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَوْ بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرُ مِلْكٍ لآِخَرَ، كَخَضْبٍ أَوْ قَصِّ جَنَاحٍ أَوْ قُرْطٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي وَضْعِ الْيَدِ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مَلَكَهُ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ، فَيُمْلَكُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَلاَ يُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِلَفْظِ (الْمُبَادِرِ) ، حَيْثُ قَالُوا: وَمَلَكَ الصَّيْدَ الْمُبَادِرُ (2) .
ب - الْجُرْحُ الْمُذَفِّفُ:
52 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا جَرَحَ الصَّائِدُ جُرْحًا مُذَفِّفًا بِإِرْسَال سَهْمٍ، أَوْ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا يَمْلِكُهُ وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 56، ورد المحتار مع الدر المختار 5 / 298، والقوانين الفقهية ص 183، 184، وجواهر الإكليل 1 / 214، ومغني المحتاج 4 / 278، والمجموع شرح المهذب 9 / 129 - 131، وكشاف القناع 6 / 223 - 225، والمغني لابن قدامة 8 / 562، 564.
(2) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 298، 299، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 214، ومواهب الجليل 3 / 223، ومغني المحتاج 4 / 278، وكشاف القناع 6 / 225، والمغني لابن قدامة 8 / 563، 564.(28/146)
لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ اسْتِيلاَءً حُكْمِيًّا (1) ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّائِدُ بِفِعْلِهِ الاِصْطِيَادَ، فَلَوْ أَرْسَل سَهْمًا أَوْ جَارِحَةً لَهْوًا، أَوْ عَلَى حَيَوَانٍ مُسْتَأْنَسٍ مَثَلاً فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَفَّفَهُ لَمْ يَحِل، وَلاَ يُمْلَكُ (2) .
ج - الْجُرْحُ الْمُثْخِنُ:
53 - وَالْمُرَادُ بِهِ الْجُرْحُ الَّذِي يُثْبِتُ الصَّيْدَ وَيُبْطِل امْتِنَاعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْرِعًا لِقَتْلِهِ
. فَإِذَا أَثْخَنَ صَيْدًا، أَوْ كَسَرَ جَنَاحَ الطَّيْرِ، أَوْ رِجْل الظَّبْيِ مَثَلاً، بِحَيْثُ يَعْجَزُ عَنِ الطَّيَرَانِ أَوِ الْعَدْوِ يَمْلِكُهُ، فَإِذَا تَحَامَل الصَّيْدُ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، وَمَشَى غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَأَخَذَهُ غَيْرُ مُثْخِنِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ (3) .
د - نَصْبُ الْحِبَالَةِ أَوِ الشَّبَكَةِ:
54 - إِذَا نَصَبَ حِبَالَةً أَوْ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ اسْتِيلاَءٌ حُكْمِيٌّ، وَلأَِنَّهُ أَثْبَتَهُ بِآلَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا أَثْبَتَهُ بِسَهْمِهِ.
فَإِنْ لَمْ تُمْسِكْهُ الشَّبَكَةُ، بَل انْفَلَتَ مِنْهَا فِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 298، وجواهر الإكليل 1 / 214، ومغني المحتاج 4 / 278، وكشاف القناع 6 / 225.
(2) ابن عابدين 5 / 300، 303، والشرح الصغير 2 / 161، 164، ومغني المحتاج 4 / 277، وكشاف القناع 6 / 225، والمغني 8 / 542 - 545.
(3) المراجع السابقة، وانظر الزيلعي 6 / 61، والمغني لابن قدامة 8 / 563.(28/147)
الْحَال أَوْ بَعْدَ حِينٍ لَمْ يَمْلِكْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهُ، وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بِالشَّبَكَةِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ بِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَزَل عَلَى امْتِنَاعِهِ فَلِمَنْ أَخَذَهُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّمَلُّكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَصْدِ الاِصْطِيَادِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ نَصْبِ الشَّبَكَةِ أَوِ الْحِبَالَةِ لاَ يَكْفِي، حَتَّى يَقْصِدَ نَصْبَهَا لِلصَّيْدِ (1) .
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِلاِصْطِيَادِ كَالشَّبَكَةِ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِلاِصْطِيَادِ كَالْفُسْطَاطِ مَثَلاً، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الأَْوَّل الْقَصْدَ وَاشْتَرَطُوهُ فِي الثَّانِي، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الاِسْتِيلاَءُ الْحُكْمِيُّ بِاسْتِعْمَال مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلاِصْطِيَادِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ، قَصَدَ بِهَا الاِصْطِيَادَ أَوْ لاَ، فَلَوْ نَصَبَهَا لِتَجْفِيفِهَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَإِنْ نَصَبَ فُسْطَاطًا، إِنْ قَصَدَ الصَّيْدَ يَمْلِكُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلصَّيْدِ (2) .
هـ - إِلْجَاءُ الصَّيْدِ إِلَى مَضِيقٍ لاَ يَفْلِتُ مِنْهُ:
55 - إِذَا أَلْجَأَ الصَّائِدُ الْمَصِيدَ إِلَى مَضِيقٍ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 298، وجواهر الإكليل 1 / 214، ومغني المحتاج 4 / 278، 279، والمغني لابن قدامة 8 / 563، وكشاف القناع 6 / 225.
(2) ابن عابدين 5 / 298.(28/147)
لاَ يَقْدِرُ عَلَى الاِنْفِلاَتِ مِنْهُ، كَبَيْتٍ سُدَّتْ مَنَافِذُهُ، أَوْ أَدْخَل السَّمَكَةَ حَوْضًا صَغِيرًا فَسَدَ مَنْفَذُهُ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَنَاوُل مَا فِيهِ بِالْيَدِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى شَبَكَةٍ أَوْ سَهْمٍ مَلَكَهُ، لِحُصُول الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ كَبِيرًا لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَنَاوَل مَا فِيهِ إِلاَّ بِجَهْدٍ وَتَعَبٍ، أَوْ إِلْقَاءِ شَبَكَةٍ فِي الْمَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِهِ (1) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِيدُهُ غَيْرُهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) .
و وُقُوعُ الصَّيْدِ فِي مِلْكِ غَيْرِ الصَّائِدِ:
56 - لَوْ رَمَى طَائِرًا عَلَى شَجَرَةٍ فِي دَارِ قَوْمٍ فَطَرَحَهُ فِي دَارِهِمْ، أَوْ طَرَدَ الصَّيْدَ لِدَارِ قَوْمٍ، فَأَخَذُوهُ فِيهِ فَإِنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّامِي وَالطَّارِدِ، دُونَ مَالِكِي الدَّارِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ، وَبَقِيَ عَلَى امْتِنَاعِهِ حَتَّى دَخَل دَارَ إِنْسَانٍ فَأَخَذَهُ، فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ لأَِنَّ الأَْوَّل لَمْ يَمْلِكْهُ، لِكَوْنِهِ مُمْتَنِعًا، فَمَلَكَهُ الثَّانِي بِأَخْذِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِوُقُوعِهِ فِي
__________
(1) ابن عابين 5 / 298، وجواهر الإكليل 1 / 214، ومغني المحتاج 4 / 279، وكشاف القناع 6 / 225.
(2) مغني المحتاج 4 / 279.
(3) الحطاب وبهامشه المواق 3 / 223، وجواهر الإكليل 1 / 214، والمغني لابن قدامة 8 / 563.(28/148)
شَبَكَةٍ نَصَبَهَا لِلصَّيْدِ. . طَرَدَهُ إِلَيْهَا طَارِدٌ أَمْ لاَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اشْتَرَكَ فِي الصَّيْدِ طَارِدٌ مَعَ ذِي حِبَالَةٍ وَقَصَدَ الطَّارِدُ إِيقَاعَهُ فِيهَا، وَلَوْلاَهُمَا لَمْ يَقَعِ الصَّيْدُ فِي الْحِبَالَةِ، فَعَلَى حَسَبِ فِعْلَيْهِمَا، أَيْ نَصْبِ الْحِبَالَةِ وَطَرْدِ الطَّارِدِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الطَّارِدِ دِرْهَمَيْنِ وَأُجْرَةُ الْحِبَالَةِ دِرْهَمًا، كَانَ لِلطَّارِدِ الثُّلُثَانِ، وَلِصَاحِبِ الْحِبَالَةِ الثُّلُثُ.
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الطَّارِدُ إِيقَاعَ الصَّيْدِ فِي الْحِبَالَةِ، وَأَيِسَ مِنَ الصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا، يَمْلِكُهُ رَبُّ الْحِبَالَةِ وَلاَ شَيْءَ لِلطَّارِدِ، وَإِنْ كَانَ الطَّارِدُ عَلَى تَحَقُّقٍ مِنْ أَخْذِهِ بِغَيْرِ الْحِبَالَةِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا - بِقَصْدِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدِهِ - فَهُوَ لِلطَّارِدِ خَاصَّةً، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْحِبَالَةِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: نَعَمْ إِذَا قَصَدَ الطَّارِدُ إِيقَاعَهُ فِيهَا لأَِجْل إِرَاحَةِ نَفْسِهِ مِنَ التَّعَبِ، لَزِمَهُ أُجْرَةُ الْحِبَالَةِ لِصَاحِبِهَا (2) .
فُرُوعٌ فِي تَمَلُّكِ الصَّيْدِ:
57 - الأَْوَّل:
السَّفِينَةُ إِذَا وَثَبَتَ فِيهَا سَمَكَةٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 278، وحاشية القليوبي مع شرح المحلي 4 / 246.
(2) انظر الزيلعي 6 / 60، 61، ومغني المحتاج 4 / 281، وجواهر الإكليل 1 / 212 - 214، وكشاف القناع 6 / 215، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 110.(28/148)
فَوَقَعَتْ فِي حِجْرِ إِنْسَانٍ فَهِيَ لَهُ، دُونَ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، لأَِنَّ حَوْزَهُ أَخَصُّ بِالسَّمَكَةِ مِنْ حَوْزِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، لأَِنَّ حَوْزَ السَّفِينَةِ شَمِل هَذَا الرَّجُل وَغَيْرَهُ، وَحَوْزُ هَذَا الرَّجُل لاَ يَتَعَدَّاهُ. . . وَالأَْخَصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْعَمِّ (1) .
وَإِذَا وَقَعَتْ فِي السَّفِينَةِ فَهِيَ لِصَاحِبِهَا، لأَِنَّ السَّفِينَةَ مِلْكُهُ، وَيَدُهُ عَلَيْهَا، فَمَا حَصَل مِنَ الْمُبَاحِ فِيهَا كَانَ أَحَقَّ بِهِ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ السَّمَكَةُ وَثَبَتَ بِفِعْل إِنْسَانٍ بِقَصْدِ الصَّيْدِ، كَالصَّائِدِ الَّذِي يَجْعَل فِي السَّفِينَةِ ضَوْءًا بِاللَّيْل وَيَدُقُّ بِشَيْءٍ كَالْجَرَسِ لِيَثِبَ السَّمَكُ فِي السَّفِينَةِ فَهَذَا لِلصَّائِدِ، دُونَ مَنْ وَقَعَ فِي حِجْرِهِ، لأَِنَّهُ أَثْبَتَهَا بِذَلِكَ (2) .
58 - الثَّانِي:
إِذَا أَمْسَكَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ، وَثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُزَل مِلْكُهُ عَنْهُ بِانْفِلاَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) كَمَا لَوْ شَرَدَتْ فَرَسُهُ أَوْ نَدَّ بَعِيرُهُ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ يَدُورُ فِي الْبَلَدِ أَمِ الْتَحَقَ بِالْوُحُوشِ فِي الْبَرِّيَّةِ (3) .
__________
(1) الحطاب نقلا عن القرافي 3 / 223، والقليوبي 4 / 247، والمغني لابن قدامة 8 / 563، 564، وكشاف القناع 6 / 225، 226.
(2) كشاف القناع 6 / 226، والمغني لابن قدامة 8 / 564.
(3) مغني المحتاج 4 / 279، والمغني لابن قدامة 8 / 563، 564، وكشاف القناع 6 / 226.(28/149)
وَكَذَا لاَ يَزُول مِلْكُهُ بِإِرْسَال الْمَالِكِ لَهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لَوْ أَرْسَل بَعِيرَهُ، لأَِنَّ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهُ لاَ يَقْتَضِي زَوَال الْمِلْكِ عَنْهُ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَزُول مِلْكُهُ عَنِ الْمُرْسِل، فَيَجُوزُ اصْطِيَادُهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ، وَالإِْرْسَال يَرُدُّهُ إِلَى أَصْلِهِ (1) .
وَالثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: إِنْ قَصَدَ بِإِرْسَالِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زَال مِلْكُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَزُول مِلْكُهُ بِالإِْرْسَال (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّيْدَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ بِالإِْرْسَال أَوِ الإِْعْتَاقِ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْل أَنْ يَأْخُذَهُ أَحَدٌ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدٌ بَعْدَ الإِْبَاحَةِ مَلَكَهُ، كَمَا تُفِيدُهُ عِبَارَةُ مُخْتَارَاتِ النَّوَازِل: سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَأَخَذَهَا آخَرُ وَأَصْلَحَهَا فَلاَ سَبِيل لِلْمَالِكِ عَلَيْهَا إِنْ قَال عِنْدَ تَسْيِيبِهَا: هِيَ لِمَنْ أَخَذَهَا (4) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ مُطْلَقًا،
__________
(1) نفس المراجع.
(2) مغني المحتاج 4 / 279.
(3) حاشية ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 2 / 221، وفتح القدير 3 / 30، 31.
(4) الدر المختار 2 / 221.(28/149)
لأَِنَّ التَّمْلِيكَ لِمَجْهُولٍ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا، أَوْ إِلاَّ لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ. . . وَتَكُونُ فَائِدَةُ الإِْبَاحَةِ حِل الاِنْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ كَمَا يَقُول الْحَطَّابُ: إِنْ نَدَّ صَيْدٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَصَادَهُ غَيْرُهُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: إِنْ صِيدَ قَبْل تَوَحُّشِهِ، وَبَعْدَ تَأَنُّسِهِ فَهُوَ لِلأَْوَّل اتِّفَاقًا، وَإِنْ صَادَهُ بَعْدَ تَوَحُّشِهِ، فَقَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ لِلثَّانِي، وَإِنْ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ فَهَل يَكُونُ كَالأَْوَّل أَمْ لاَ؟ قَال ابْنُ الْمَوَّازِ: هُوَ كَالأَْوَّل، وَقَال ابْنُ الْكَاتِبِ: هُوَ لِلأَْوَّل عَلَى كُل حَالٍ (2) .
59 - الثَّالِثُ:
مَنْ أَحْرَمَ وَفِي حِيَازَتِهِ صَيْدٌ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ التَّفْصِيل التَّالِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَل الْحَرَمَ أَوْ أَحْرَمَ فِي حِلٍّ، وَفِي يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ صَيْدٌ وَجَبَ إِطْلاَقُهُ، أَوْ إِرْسَالُهُ لِلْحِل وَدِيعَةً عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُضَيِّعٍ لَهُ، لأَِنَّ تَضْيِيعَ الدَّابَّةِ حَرَامٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الصَّيْدُ عَنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الإِْرْسَال، فَلَهُ إِمْسَاكُهُ فِي الْحِل، وَلَهُ أَخْذُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَخَذَهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُرْسِل الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وُجُوبًا إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْل الإِْحْرَامِ، وَكَانَ فِي
__________
(1) ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 221.
(2) مواهب الجليل للحطاب 3 / 223.
(3) حاشية ابن عابدين وبهامشه الدر المختار للحصكفي 2 / 220 - 222.(28/150)
قَفَصٍ أَوْ نَحْوِهِ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ رُفْقَتِهِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ وَتَلِفَ ضَمِنَهُ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ زَال مِلْكُهُ عَنْهُ حَالاً وَمَآلاً، فَلَوْ أَخَذَهُ أَحَدٌ قَبْل لُحُوقِهِ بِالْوَحْشِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الأَْصْلِيِّ أَخْذُهُ مِنْهُ.
وَلاَ يَجِبُ إِرْسَالُهُ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ حَال إِحْرَامِهِ بِبَيْتِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ وَفِيهِ صَيْدٌ فَفِيهِ تَأْوِيلاَنِ: وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ وُجُوبِ الإِْرْسَال، وَعَدَمُ زَوَال الْمِلْكِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ صَيْدٌ فَأَحْرَمَ زَال مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ إِرْسَالُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُرَادُ لِلدَّوَامِ، فَتَحْرُمُ اسْتِدَامَتُهُ، فَلَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى تَحَلَّل لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ - أَيْضًا - إِذْ لاَ يَرْتَفِعُ اللُّزُومُ بِالتَّعَدِّي، وَمَنْ أَخَذَهُ وَلَوْ قَبْل إِرْسَالِهِ وَلَيْسَ مُحْرِمًا مَلَكَهُ؛ لأَِنَّهُ بَعْدَ لُزُومِ الإِْرْسَال صَارَ مُبَاحًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَمْ يَزُل مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلاَ يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ، مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ نَائِبٍ لَهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِذَا كَانَ فِي قَبْضَتِهِ أَوْ خَيْمَتِهِ أَوْ رَحْلِهِ أَوْ قَفَصٍ مَعَهُ أَوْ مَرْبُوطًا بِحَبْلٍ مَعَهُ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ لَمْ يَزُل مِلْكُهُ عَنْهُ، فَمَنْ أَخَذَهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ إِذَا
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 72.
(2) مغني المحتاج 1 / 525، ونهاية المحتاج 3 / 334، 335.(28/150)
حَل. وَمَنْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ لَهُ، لأَِنَّ مِلْكَهُ كَانَ عَلَيْهِ، وَإِزَالَةُ يَدِهِ لاَ تُزِيل الْمِلْكَ بِدَلِيل الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ (1) .
دُخُول مَالِكِ الصَّيْدِ الْحَرَمَ:
60 - لاَ يَخْتَلِفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حُكْمُ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الإِْرْسَال وَالْمِلْكِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا لِمَنْ دَخَل الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عَنْ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ، فَمَا قَالُوهُ هُنَاكَ نَصُّوا عَلَيْهِ هُنَا أَيْضًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ دُخُول مَالِكِ الصَّيْدِ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ لاَ يَزُول بِهِ مِلْكُ الصَّيْدِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ، لأَِنَّ صَيْدَ الْحِل إِذَا مَلَكَهُ إِنْسَانٌ لاَ يَصِيرُ صَيْدَ حَرَمٍ (3) .
ضَمَانُ الصَّيْدِ:
61 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِبَيَانِ حُكْمِ ضَمَانِ الصَّيْدِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا:
الأُْولَى: ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل التَّعَرُّضُ لِصَيْدٍ فِي الْحَرَمِ بِالْقَتْل وَالْجَرْحِ وَالإِْيذَاءِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، وَكَذَا التَّنْفِيرُ
__________
(1) الشرح الكبير بذيل المغني 3 / 297، 298.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 220 - 222، وفتح القدير مع الهداية 3 / 30، 31، والشرح الصغير للدردير 1 / 294، والشرح الكبير بذيل المغني 3 / 298، 299.
(3) شرح المنهج بحاشية البجيرمي 2 / 153، ونهاية المحتاج 3 / 334 وما بعدها.(28/151)
وَالْمُسَاعَدَةُ فِي اصْطِيَادِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَالدَّلاَلَةِ وَالإِْشَارَةِ وَالأَْمْرِ وَنَحْوِهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى ضَمَانِ قَتْلِهِ وَإِصَابَتِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ بِالْمِثْل، أَوْ تَقْوِيمُهُ بِنَقْدٍ يَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، أَوْ مَا يَعْدِل ذَلِكَ مِنَ الصِّيَامِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ مِثْل لَهُ فَقِيمَتُهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا} (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 160 - 164) .
الثَّانِيَةُ: ضَمَانُ صَيْدِ الْحِل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل بِهِ الْحَرَمَ، فَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِل، وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُل بِهِ الْحَرَمَ لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ وَإِرْسَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ وَتَلِفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْمُعْتَدِيَةِ.
__________
(1) سورة المائدة / 95.(28/151)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَدْخَل الْحَلاَل مَعَهُ صَيْدًا إِلَى الْحَرَمِ لاَ يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ صَيْدُ حِلٍّ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرَم 13) .
صِيغَةٌ(28/152)
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّيغَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ الشَّيْءَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً، وَصُغْتُهُ أَصُوغُهُ صِيَاغَةً وَصِيغَةً، وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنُ الصِّيغَةِ، أَيْ حَسَنُ الْعَمَل. وَصِيغَةُ الأَْمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا. وَصِيغَةُ الْكَلِمَةِ: هَيْئَتُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ تَرْتِيبِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا، وَالْجَمْعُ صِيَغٌ، قَالُوا: اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْكَلاَمِ، أَيْ: تَرَاكِيبُهُ وَعِبَارَاتُهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: لَمْ نَعْرِفْ لِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفًا جَامِعًا لِلصِّيغَةِ يَشْمَل صِيَغَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ وَمِنْ كَلاَمِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الأَْلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي تُعْرِبُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ تَصَرُّفِهِ
، يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ،
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط.(28/152)
فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِبَارَةُ:
2 - فِي اللُّغَةِ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَالاِسْمُ الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلاَنٍ تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ أَيْ يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ أَيِ الْبَيَانِ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عِبَارَةٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) :
ب - اللَّفْظُ:
3 - فِي اللُّغَةِ: اللَّفْظُ أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، وَلَفَظَ بِالشَّيْءِ يَلْفِظُ: تَكَلَّمَ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (3) .
__________
(1) الحطاب 3 / 419، والمواق بهامشه 4 / 228، والبدائع 2 / 229 - 231، وأسنى المطالب 2 / 3، 3 / 118، وإعلام الموقعين 3 / 105، 119، مجلة الأحكام العدلية مادة 168، إلى 174 - الموسوعة 6 / 151، فقرة 17 - 18.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والبدائع 2 / 233، والمجموع 9 / 143 ط. المطيعي.
(3) سورة ق / 18.(28/153)
وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الصِّيغَةُ: رُكْنٌ فِي كُل الاِلْتِزَامَاتِ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا فِي إِنْشَائِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ أَحْكَامِ
تَنَوُّعِ الصِّيغَةِ بِتَنَوُّعِ الاِلْتِزَامَاتِ
5 - لَمَّا كَانَتِ الصِّيغَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى نَوْعِ الاِلْتِزَامِ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الاِلْتِزَامَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - بَعْضُ الاِلْتِزَامَاتِ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ لاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِثْبَات 10) مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا صِيَغُ الأَْيْمَانِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان) ، وَمُصْطَلَحَ: (لِعَان) . (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير وأعلام الموقعين 3 / 105، والبدائع 3 / 91.
(2) البدائع 6 / 273، والهداية 3 / 118، ومغني المحتاج 4 / 453، وشرح منتهى الإرادات 3 / 566، والمغني 9 / 216.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 207، ومغني المحتاج 3 / 375، والفواكه الدواني 2 / 85، والاختيار 3 / 169.(28/153)
وَمِنْ ذَلِكَ صِيغَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ لاَ بُدَّ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول مِنْ لَفْظِ الإِْنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ السَّلَمَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إِلاَّ شَيْئَيْنِ: النِّكَاحَ وَالسَّلَمَ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَوَاج (نِكَاح) (وَسَلَم) .
6 - ب - هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ لاَ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَل تَصِحُّ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْعَارَةِ (1) .
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ - غَيْرُ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ - لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَل كُل لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْتِزَامِ الدَّيْنِ ضَمَانٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَقْلِهِ حَوَالَةٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُل عَنْهُ إِبْرَاءٌ (2) وَهَكَذَا.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 3، والاختيار 2 / 4، وجواهر الإكليل 2 / 2.
(2) كشاف القناع 3 / 38، والحطاب 4 / 224.(28/154)
وَمِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَابِ الْبَيْعِ: لَوْ قَال الْبَائِعُ: رَضِيتُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَا لَوْ قَال: وَهَبْتُكَ أَوْ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِثَوْبِكَ هَذَا، فَرَضِيَ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالإِْجْمَاعِ (1) .
وَفِي الْحَطَّابِ: لَيْسَ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَكُل لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الإِْيجَابُ وَالْقَبُول لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ (2) .
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ (3) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ بَل هِيَ كُل مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ، لأَِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاوَل كُل مَا أَدَّى مَعْنَاهُ (4) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 458 نشر دار إحياء التراث.
(2) الحطاب 4 / 230.
(3) نهاية المحتاج 4 / 179، والمنثور في القواعد 2 / 412.
(4) كشاف القناع 3 / 146، 147.(28/154)
دَلاَلَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَال فِي عُرْفِ أَهْل اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ (1) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَال أَوِ الاِسْتِقْبَال، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لأَِنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تَحْتَمِل الْحَال وَالاِسْتِقْبَال، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لَكِنْ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّيَّةِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَال فَهِيَ أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الإِْيجَابَ، فَقَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَال الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَال الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الإِْيجَابَ، فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَل لِلْحَال - هُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلاِسْتِقْبَال، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
__________
(1) البدائع 5 / 133، والحطاب 4 / 229 - 230، والدسوقي 3 / 3 - 4، ومغني المحتاج 2 / 5، والمغني 3 / 561.(28/155)
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْحَطَّابِ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلاَمُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (1) .
وَلاَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ وَعْدًا (2) .
وَأَمَّا صِيغَةُ الأَْمْرِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ لِدَلاَلَةِ (بِعْنِي) عَلَى الرِّضَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلاِسْتِقْبَال، وَهِيَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلاَ تَكُونُ إِيجَابًا وَقَبُولاً حَقِيقَةً، بَل هِيَ طَلَبُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَلاَ بُدَّ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَدُل عَلَيْهِمَا.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُول: إِنْ تَقَدَّمَ الإِْيجَابُ بِلَفْظِ الطَّلَبِ فَقَال بِعْنِي ثَوْبَكَ فَقَال بِعْتُكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ لاَ يَصِحُّ (3) .
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد) .
__________
(1) البدائع 5 / 133، ونهاية المحتاج 3 / 387، والحطاب 4 / 232.
(2) كشاف القناع 3 / 147.
(3) البدائع 5 / 133 - 134، ومغني المحتاج 2 / 5، والدسوقي 3 / 3 - 4، والمغني 3 / 561.(28/155)
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ:
8 - مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، لأَِنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ
وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: أَنَّهُ لاَ يَدُل عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ، لأَِنَّهُ كَمَا يَقُول الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: يَحْتَمِل الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الاِعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ (1) .
وَاسْتِعْمَال الْكِنَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالأَْيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الاِلْتِزَامَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَقْد) .
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
9 - أ - أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ (2) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ، إِذْ مِنَ
__________
(1) البدائع 3 / 15، 101 و 4 / 46 و 5 / 84، وجواهر الإكليل 2 / 231، والأشباه للسيوطي ص 318، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 84، والمنثور 2 / 310 و 3 / 101، 118، ومنتهى الإرادات 3 / 427.
(2) البدائع 4 / 176 و 5 / 135 و 6 / 118 - 207 و 7 / 171 - 222، والدسوقي 3 / 5 - 6، 294 - 397، ونهاية المحتاج 3 / 373 - 375، 4 / 343 - 419 و 5 / 464 والمجموع 9 / 142 - 126 تحقيق المطيعي، وكشاف القناع 3 / 151، 362، 442 و 6 / 229 - 454 ومنتهى الإرادات 2 / 539.(28/156)
الْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيل وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
وَيَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَصِحُّ إِيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ب - أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَل فِيهِ اللَّفْظُ، إِذِ الْجَهْل بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ، فَفِي قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الأَْعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُل عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الإِْرَادَةَ لاَ تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 150، وأشباه ابن نجيم ص 306، ومغني المحتاج 1 / 137، والمغني 1 / 413.
(2) قواعد الأحكام 2 / 102.(28/156)
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلاَقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لاَغٍ، وَلاَ يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ. وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلاَقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِل فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (2) .
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لاَ شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ (3) .
وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ خِلاَفًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لاَ لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ (4) .
أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِل وَاللاَّعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلاَقٍ هَازِلاً أَوْ لاَعِبًا فَإِنَّ طَلاَقَهُ يَقَعُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 142، ونهاية المحتاج 6 / 431، 432، والمغني 7 / 122، 135.
(2) أشباه ابن نجيم ص 303، وابن عابدين 3 / 49، والبدائع 3 / 100.
(3) البدائع 3 / 8، والدسوقي 2 / 129، ونهاية المحتاج 8 / 169 - 170، ومنتهى الإرادات 3 / 424.
(4) المراجع السابقة.(28/157)
وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ (1) ".
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُل حَالٍ: الْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ (2) وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ (3) ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِل أَتَى بِالْقَوْل غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الأَْحْكَامِ عَلَى الأَْسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لاَ لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ إِنَّ الْهَازِل قَاصِدٌ لِلْقَوْل مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلاَزُمِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْل فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْل وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلاَفِ جَانِبِ الْعِبَادِ (4) .
أَمَّا عُقُودُ الْهَازِل كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلاَ تَصِحُّ
__________
(1) حديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد ". أخرجه الترمذي (3 / 481) من حديث أبي هريرة، وجهل ابن القطان أحد رواته، كذا في نصب الراية للزيلعي (3 / 294) ، والرواية الأخرى أخرجها ابن عدي في الكامل (6 / 2033) ضمن منكرات أحد رواته بعدما نقل تضعيفه عن ابن معين وغيره.
(2) أثر عمر بن الخطاب: " أربع جائزات ". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5 / 105) .
(3) البدائع 3 / 100، والشرح الصغير 1 / 380 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 433، ومنتهى الإرادات 3 / 127.
(4) أعلام الموقعين 3 / 124 - 125.(28/157)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِل غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (عَقْد - هَزْل) .
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَال عَقْلُهُ فَطَلاَقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الْكَاسَانِيُّ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلأَِنَّ عَقْلَهُ زَال بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَيَنْزِل كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ، عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الرِّدَّةِ وَالإِْقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالإِْشْهَادِ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 82، والبدائع 7 / 184، ومغني المحتاج 3 / 288، والجمل 4 / 338، وكشاف القناع 3 / 150.
(2) سورة البقرة / 229، 230.(28/158)
نَفْسِهِ (1) . وَالْقَوْل بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَل السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ قَوْل الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلاَ يَصِحُّ مَا لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَلاَ يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إِسْلاَمِهِ.
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِل بِهِ مِثْل عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ مِثْل بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَال عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ، فَمَنْ زَال عَقْلُهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلاً، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قَال ابْنُ نَافِعٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ كُل مَا فَعَل مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ وَالْحُدُودُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الإِْقْرَارُ وَالْعُقُودُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
أَمَّا مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ
__________
(1) البدائع 3 / 9 والأشباه لابن نجيم ص 310.(28/158)
شَرِبَ الْبَنْجَ أَوِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَال عَقْلُهُ فَلاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ وَلاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لأَِنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (عَقْد - سُكْر) .
ج - أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، وَهُوَ الطَّلاَقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالظِّهَارُ، وَالإِْيلاَءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الإِْكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَإِطْلاَقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ (2) .
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِل الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالإِْكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الإِْجَازَةِ (3) .
وَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ الْكَافِرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى
__________
(1) البدائع 3 / 99 - 100، والشرح الصغير 3 / 17 ط. دار المعارف، والدسوقي 3 / 5 - 6، ومغني المحتاج 3 / 290 - 291، والمجموع 9 / 142 تحقيق المطيعي، وأسنى المطالب 2 / 6، وكشاف القناع 5 / 234.
(2) البدائع 7 / 182.
(3) البدائع 7 / 186.(28/159)
إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الإِْكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ خَشْيَةَ الْقَتْل (2) .
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الإِْكْرَاهِ؛ عَمَلاً بِحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) .
وَحَدِيثِ: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (4) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ (5) .
__________
(1) البدائع 3 / 100.
(2) جواهر الإكليل 1 / 340.
(3) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. . ". أخرجه الطبراني عن ثوبان، وفي إسناده يزيد بن ربيعة الرحبي، وهو ضعيف كذا قال الهيثمي كما في فيض القدير للمناوي (4 / 35) ، ولفظه الصحيح " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". أخرجه أبو داود (2 / 642 - 643) من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في التلخيص (3 / 210) وذكر في إسناده راويا ضعيفا.
(5) القليوبي 2 / 156، والمنثور 1 / 188، والمجموع 9 / 146 ط. المطيعي، وكشاف القناع 3 / 150، ومنتهى الإرادات 3 / 120 - 121، والمغني 7 / 119 - 120، والإنصاف 8 / 439.(28/159)
مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ
10 - حِينَ تُطْلَقُ الصِّيغَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الأَْلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْل هُوَ الأَْصْل فِي التَّعْبِيرِ عَمَّا يُرِيدُهُ الإِْنْسَانُ، إِذْ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلاَلاَتِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ (1) .
وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ الْكِتَابَةُ أَوِ الإِْشَارَةُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالاً فِيمَا يَلِي:
أ - الْكِتَابَةُ:
11 - الْكِتَابَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ هِيَ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْحَائِطِ أَوِ الأَْرْضِ، أَمَّا الْكِتَابَةُ الَّتِي لاَ تُقْرَأُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَا أَيْ تَصَرُّفٍ (2) .
وَإِنَّمَا تَصِحُّ التَّصَرُّفَاتُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ لأَِنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ فَنَزَلَتِ الْكِتَابَةُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 3، وأعلام الموقعين 3 / 105، والمبسوط 13 / 46.
(2) مغني المحتاج 2 / 5، والبدائع 4 / 55، وابن عابدين 4 / 455 - 456.(28/160)
بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْل وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى مُلُوكِ الأَْطْرَافِ (1) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ (2) .
وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِتَابَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَل إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ مُطْلَقًا، قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَال، كَمَا لَوِ اخْتَل رُكْنٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ بَل بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ (3) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّكَاحَ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ (4) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 348، وشرح منتهى الإرادات 3 / 129 - 130، والمغني 7 / 239 - 241، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 40.
(2) مغني المحتاج 2 / 5 و 3 / 284.
(3) مغني المحتاج 3 / 141، والشرح الصغير 1 / 393 ط. الحلبي، وشرح منتهى الإرادات 3 / 12، والبدائع 2 / 231.
(4) الشرح الصغير 1 / 380، ومنتهى الإرادات 3 / 12.(28/160)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (تَعْبِير، وَخَرَس) .
ب - الإِْشَارَةُ:
12 - مِمَّا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الإِْشَارَةُ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُول وَالدَّعَاوَى وَالأَْقَارِيرِ وَغَيْرِهَا كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ، قَال الإِْمَامُ عَنْهُ فِي (الأَْسَالِيبِ) وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الإِْشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعُ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الأَْخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ أَشَارَ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا خَرِسَ اعْتَدَّ بِهِ فَدَل عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي قِيَامِ الإِْشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ الضَّرُورَةُ، وَأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ (1) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُول الإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الأَْخْرَسِ وَهَل تُقْبَل كَنُطْقِهِ أَمْ لاَ؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ (إِشَارَة - ف 5)
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 164.(28/161)
ج - الْفِعْل:
13 - قَدْ يَقُومُ الْفِعْل مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعَاطِي فِي الْعُقُودِ فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الإِْقَالَةَ وَالإِْجَارَةَ بِالتَّعَاطِي (1) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَعَاطِي - ف 3.)
أَثَرُ الْعُرْفِ فِي دَلاَلَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ:
14 - لِلْعُرْفِ أَثَرٌ فِي دَلاَلَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَمُرَاعَاةُ حَمْل الصِّيغَةِ عَلَى الْعُرْفِ لَهُ أَثَرٌ فِي الأَْحْكَامِ الاِجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لاَ نَصَّ فِيهَا وَالَّتِي بُنِيَتْ أَسَاسًا عَلَى الأَْعْرَافِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً.
يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، مِثْل: مُوجَبَاتِ الأَْيْمَانِ وَالإِْقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَلَفَ: لاَ رَكِبْتُ دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلاَ الْجَمَل، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ
__________
(1) ينظر المنثور 3 / 55.(28/161)
الْفَرَسُ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدَّوَابِّ كَالأُْمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ، وَيُفْتَى كُل بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتَى كُل أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لاَ أَكَلْتُ رَأْسًا فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْل رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْل رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا. وَإِذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْل الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّل، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِل مِنْهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فَصْلاً كَامِلاً فِي كِتَابِهِ قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الأَْنَامِ تَحْتَ عِنْوَانٍ: " فَصْلٌ فِي تَنْزِيل دَلاَلَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الأَْحْوَال مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الأَْقْوَال فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا "، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُل عَاقِدٍ يُحْمَل عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، وَافَقَتْ لُغَةَ
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 50، وقواعد الأحكام 2 / 107.(28/162)
الْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لاَ (1)
وَيَقُول الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: ". . . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَعَادَةُ النَّاسِ تُؤَثِّرُ فِي تَعْرِيفِ مُرَادِهِمْ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ (2) ".
وَنَظِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ.
أَثَرُ الصِّيغَةِ:
15 - أَثَرُ الصِّيغَةِ: هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الأَْصْلِيُّ لِلصِّيغَةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الصِّيغَةِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعَ الْغَيْرِ (3) ، كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَصُلْحٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ ارْتِبَاطٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ كَالنَّذْرِ وَالذِّكْرِ، أَوِ التَّعْبِيرِ عَمَّا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لَدَى الْغَيْرِ مِنْ حُقُوقٍ كَالإِْقْرَارَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصِّيغَةُ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ لِلْحَال مَعَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ (4) .
وَفِي الإِْجَارَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 48.
(2) المستصفى 2 / 111، وانظر - أيضا - الفروق 1 / 44، 45، 3 / 35.
(3) أعلام الموقعين 3 / 105.
(4) البدائع 5 / 233.(28/162)
وَفِي الأُْجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلآْجِرِ (1) . وَفِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (2) . وَفِي النِّكَاحِ يَثْبُتُ حِل الاِسْتِمْتَاعِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ وَحِل النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ (3) ،.
كَمَا يَجِبُ فِي النُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ الْوَفَاءُ وَالْبِرُّ. . وَهَكَذَا.
وَالصِّيغَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الإِْنْسَانِ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا كَانَتْ هِيَ الأَْسَاسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي صُدُورِ الأَْحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلاَنِيِّ لَمَّا وَضَعَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ الأَْيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ (4) يَعْنِي: لَوْلاَ مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلاَّ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشَرِيكِ وَلاَ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ (5) .
__________
(1) البدائع 4 / 201.
(2) البدائع 6 / 127.
(3) البدائع 2 / 331، وينظر الأشباه للسيوطي ص 318 - 320 - 324، 538 نشر دار الكتب العلمية ببيروت.
(4) حديث: " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ". أخرجه أبو داود (2 / 691) وهو في البخاري (8 / 449) وأبي داود كذلك (2 / 688) بلفظ: " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ".
(5) فتح الباري 13 / 175، وأعلام الموقعين 3 / 101، والبدائع 3 / 242، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 63 - 64 ط. المكتبة التجارية بمصر.(28/163)
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا (1)
قَال الشَّافِعِيُّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، مِثْل هَذَا قَضَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ (2) ، فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَال: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ (3) .
وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: الْحَاكِمُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، وَلاَ يَنْقُل الْبَاطِنَ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيل
__________
(1) حديث أم سلمة: " إنما أنا بشر، وأنه يأتيني الخصم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 172) .
(2) فتح الباري 13 / 175 وانظر الأم 6 / 199، وأعلام الموقعين 3 / 100.
(3) حديث: " احتجبي منه يا سودة ". أخرجه البخاري (13 / 172) .(28/163)
وَالتَّحْرِيمِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ (1) .
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ فِي الأَْمْوَال، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حِل عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلاَفُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الأَْمْوَال وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّهَا حُقُوقٌ، كُلُّهَا تَدْخُل تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ. فَلاَ يُحِل مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الأَْمْوَال خَاصَّةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِل الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلَطَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُل وَامْرَأَتِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لأَِحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي. . . ". أخرجه البخاري (12 / 339) ومسلم (3 / 1337) من حديث أم سلمة.(28/164)
لأَِنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ (1) وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا التَّفْصِيل (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الأَْلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
16 - أَنْ تَظْهَرَ مُطَابَقَةُ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ الْكَلاَمِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَال الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
17 - مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لاَ يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، هَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ، وَلاَ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَالسَّكْرَانِ.
__________
(1) التبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك 1 / 63 - 74 ط. المكتبة التجارية بمصر.
(2) فتح الباري 13 / 175.(28/164)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنًى يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّل.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
18 - مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِل إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، وَيَحْتَمِل إِرَادَةَ غَيْرِهِ وَلاَ دَلاَلَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا (1) .
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا يُحْمَل عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الأَْقْسَامِ، وَمَا لاَ يُحْمَل عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا يُحْمَل عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَال: إِذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلاَمِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلاَمَهُ وَجَبَ حَمْل كَلاَمِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا حَقٌّ لاَ يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْل كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْل كَلاَمِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلاَ يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْل عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِل بِخِلاَفِ مَا أَظْهَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 107 - 108.(28/165)
وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَل الاِعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الأَْلْفَاظِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلاَفِهَا؟ أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الاِلْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَحُرْمَتِهِ، بَل أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْل الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلاً وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلاَلاً تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً أُخْرَى بِاخْتِلاَفِ النِّيَّةِ، وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً، وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلاَفِهَا، وَهَذَا كَالرَّجُل يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتَحْرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَنْوِيَ أَنَّهَا لَهُ فَتَحِل لَهُ (1) .
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُوَضِّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ الْقَصْدُ دُونَ اللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ يَقُول:
وَهَذِهِ الأَْقْوَال إِنَّمَا تُفِيدُ الأَْحْكَامَ إِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالأَْمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلاَّ لَمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلاَ تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَال: بِعْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 108 - 109 - 110.(28/165)
بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِنْ كَانَ هَازِلاً، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ، وَلِهَذَا يُصَارُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلاَمِ (1) .
ضَأْنٌ
انْظُرْ: غَنَم
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 120.(28/166)
ضَائِعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّائِعُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ ضَاعَ الشَّيْءُ يَضِيعُ ضَيْعًا وَضِيَعًا وَضِيَاعًا وَضَيَاعًا - بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا فِيهِمَا - إِذَا فُقِدَ وَهَلَكَ وَتَلِفَ وَصَارَ مُهْمَلاً. وَالضَّيْعَةُ: الْعَقَارُ، وَالْجَمْعُ ضِيَاعٌ وَضِيَعٌ. خَصَّ أَهْل اللُّغَةِ لَفْظَ " ضَائِعٍ " بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالْعِيَال وَالْمَال، يُقَال: أَضَاعَ الرَّجُل عِيَالَهُ وَمَالَهُ، وَضَيَّعَهُمْ إِضَاعَةً فَهُوَ مُضِيعٌ وَمُضَيِّعٌ بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّالَّةُ:
2 - فِي اللُّغَةِ: الضَّالَّةُ الْحَيَوَانُ الضَّائِعُ، وَعَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّالَّةَ بِأَنَّهَا: نَعَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمٍ (2) .
__________
(1) الصحاح ولسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس والمعجم الوسيط.
(2) التاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 69.(28/166)
ب - اللُّقَطَةُ
3 - اللُّقَطَةُ: الْمَال الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَرْءُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَال الْمَلْقُوطِ وَالْمَال الضَّائِعِ: أَنَّ الأَْوَّل يُعْرَفُ مَالِكُهُ، أَمَّا الثَّانِي فَلاَ، كَمَا أَنَّ اللُّقَطَةَ يَخُصُّ إِطْلاَقُهَا بِالْمَال أَوِ الاِخْتِصَاصِ الْمُحْتَرَمِ، أَمَّا الضَّائِعُ فَيُطْلَقُ عَلَى الأَْمْوَال وَالأَْشْخَاصِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِالضَّائِعِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ، وَمِنْهَا:
أ - ضَيَاعُ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
4 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى ضَاعَ الْمَال فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِنْ كَانَ ضَيَاعُهُ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ فَرَّطَ فِي الإِْخْرَاجِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (زَكَاة ف 139) .
ب - مَا يُجْمَعُ فِي بَيْتِ الضَّوَائِعِ:
5 - مِنْ أَقْسَامِ بَيْتِ الْمَال بَيْتُ الضَّوَائِعِ، وَتُجْمَعُ فِيهِ الأَْمْوَال الضَّائِعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ لُقَطَةٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهَا أَوْ مَسْرُوقٍ لاَ يُعْلَمُ
__________
(1) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 115.(28/167)
صَاحِبُهُ، فَتُحْفَظُ مُحْرَزَةً لأَِصْحَابِهَا، فَإِنْ حَصَل الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صُرِفَ فِي وَجْهِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْتُ الْمَال ف 10) .
ج - ضَمَانُ الْمَال الضَّائِعِ:
6 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ إِضَاعَةَ الْمَال صُورَةً مِنْ صُوَرِ الإِْتْلاَفِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْجُهِ الْمُعَامَلاَتِ، كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ وَاللُّقَطَةِ مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي التَّفْصِيل، وَذَلِكَ لأَِنَّ إِضَاعَةَ الْمَال نَوْعٌ مِنَ الإِْهْمَال الْمُفْضِي إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ عَلَى أَصْحَابِهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ التَّالِيَةَ: (إِتْلاَف ف 28 وَ 53 وَإِعَارَة ف 15، وَضَمَان، وَلُقَطَة) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 68.(28/167)
ضَالَّةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الضَّالَّةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ ضَل الشَّيْءُ، خَفِيَ وَغَابَ، وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ - بِالأَْلِفِ - إِذَا ضَاعَ مِنْكَ، فَلَمْ تَعْرِفْ مَوْضِعَهُ، كَالدَّابَّةِ وَالنَّاقَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَوْضِعَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ كَالدَّارِ قُلْتَ: ضَلَلْتُهُ وَضَلَّلْتُهُ، وَلاَ تَقُل: أَضْلَلْتُهُ بِالأَْلِفِ.
وَالضَّالَّةُ بِالتَّاءِ: الْحَيَوَانُ الضَّائِعُ، يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَتَجْمَعُ عَلَى ضَوَال، مِثْل: دَابَّةٍ وَدَوَابَّ، وَيُقَال لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ: ضَائِعٌ، وَلُقَطَةٌ، وَالضَّال بِدُونِ التَّاءِ: الإِْنْسَانُ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الضَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي، وَمِنْهُ حَدِيثُ: الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ (1) أَيْ لاَ يَزَال يَتَطَلَّبُهَا كَمَا يَتَطَلَّبُ الرَّجُل ضَالَّتَهُ (2) .
__________
(1) حديث: " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن ". أخرجه الترمذي (5 / 51) من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، وهامش المهذب 1 / 438.(28/168)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الضَّالَّةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَفِي الاِخْتِيَارِ: الضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ تَضِل الطَّرِيقَ إِلَى مَرْبِطِهَا، وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الضَّالَّةُ: اسْمُ حَيَوَانٍ خَاصَّةً، وَفِي الْمَوَّاقِ بِهَامِشِ الْحَطَّابِ: الضَّالَّةُ: نَعَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمًا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّقَطَةُ
2 - فِي اللُّغَةِ: يُقَال: لَقَطْتُ الشَّيْءَ لَقْطًا مِنْ بَابِ قَتَل: أَخَذْتُهُ (2) .
وَاللُّقَطَةُ شَرْعًا - كَمَا عَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ -: مَا يُوجَدُ مَطْرُوحًا عَلَى الأَْرْضِ مِمَّا سِوَى الْحَيَوَانِ مِنَ الأَْمْوَال لاَ حَافِظَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ تَعْرِيفُ الْمَوْصِلِيِّ.
وَمِثْلُهُ تَعْرِيفُ ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قَال: اللُّقَطَةُ: مَالٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمًا، لَيْسَ حَيَوَانًا نَاطِقًا وَلاَ نَعَمًا. (3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ اللُّقَطَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ الْحَيَوَانِ (4) .
__________
(1) الاختيار 3 / 32، وكشاف القناع 4 / 210، والمواق بهامش الحطاب 6 / 69.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة (لقط) .
(3) الاختيار 3 / 32، والحطاب 6 / 69.
(4) نهاية المحتاج 5 / 422، وكشاف القناع 4 / 209.(28/168)
وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ؛ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللُّقَطَةَ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَالضَّالَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُ لَفْظَ اللُّقَطَةِ عَلَى الْجَمِيعِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الضَّوَال الَّتِي تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ لِقُوَّتِهَا وَكِبَرِ جُثَّتِهَا - كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْخَيْل وَالْبِغَال - أَوْ تَمْتَنِعُ لِسُرْعَةِ عَدْوِهَا كَالظِّبَاءِ أَوْ تَمْتَنِعُ لِطَيَرَانِهَا، هَذِهِ الضَّوَال إِنْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَخْذُهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَالَّةِ الإِْبِل فَقَال: مَا لَكَ وَلَهَا، دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا (2) .
إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَخْذُهَا عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لِرَبِّهَا، لاَ عَلَى أَنَّهَا لُقَطَةٌ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَمَى مَوْضِعًا يُقَال لَهُ: النَّقِيعُ لِخَيْل الْمُجَاهِدِينَ وَالضَّوَال، وَلأَِنَّ لِلإِْمَامِ نَظَرًا فِي حِفْظِ مَال الْغَائِبِ، وَفِي أَخْذِ
__________
(1) البدائع 6 / 200.
(2) حديث زيد بن خالد: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل. . . ". أخرجه البخاري (5 / 84) ومسلم (3 / 1349) واللفظ لمسلم.(28/169)
الضَّوَال حِفْظٌ لَهَا عَنِ الْهَلاَكِ، وَلاَ يَلْزَمُ الإِْمَامَ تَعْرِيفُهَا، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يُعَرِّفُ الضَّوَال، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَالَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِيءُ إِلَى مَوْضِعِ الضَّوَال، فَإِذَا عَرَفَ ضَالَّتَهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَخَذَهَا، لَكِنْ قَال السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُخْشَ عَلَى الضَّالَّةِ الضَّيَاعُ فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا وَلِيُّ الأَْمْرِ، بَل جَزَمَ الأَْذْرَعِيُّ بِتَرْكِهَا عِنْدَ اكْتِفَائِهَا بِالرَّعْيِ وَالأَْمْنِ عَلَيْهَا.
كَمَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ لِغَيْرِ وَلِيِّ الأَْمْرِ أَخْذَهَا لِلْحِفْظِ لِرَبِّهَا إِذَا خَشَى عَلَيْهَا مِنْ أَخْذِ خَائِنٍ، فَإِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا امْتَنَعَ أَخْذُهَا قَطْعًا، فَإِذَا أَخَذَهَا ضَمِنَهَا لِرَبِّهَا، وَلاَ يَبْرَأُ إِلاَّ بِرَدِّهَا لِلْحَاكِمِ، لَكِنْ هَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا، وَإِلاَّ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا، وَتَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ.
أَمَّا زَمَنُ النَّهْبِ وَالْفَسَادِ فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ فِي الصَّحْرَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَيَضْمَنُ كَذَلِكَ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - مَنْ أَخَذَ مَا حُرِّمَ الْتِقَاطُهُ مِنَ الضَّوَال إِنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ، لِعَدَمِ إِذْنِ الشَّارِعِ فِيهِ، فَإِنْ كَتَمَهُ عَنْ رَبِّهِ ثُمَّ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَتَلِفَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ لِرَبِّهِ نَصًّا، لِحَدِيثِ: وَفِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ غَرَامَتُهَا وَمِثْلُهَا مَعَهَا (1)
__________
( x661 ;) حديث: " في الضالة المكتوبة. . . ". أخرجه الأثرم كما في كشاف القناع (4 / 210) .(28/169)
وَهَذَا حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُرَدُّ (1) .
وَيَزُول الضَّمَانُ بِرَدِّ الضَّالَّةِ إِلَى رَبِّهَا إِنْ وَجَدَهُ، أَوْ دَفَعَهَا إِلَى الإِْمَامِ إِنْ لَمْ يَجِدْ رَبَّهَا، أَوْ رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا إِنْ أَمَرَهُ الإِْمَامُ بِذَلِكَ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلضَّوَال الَّتِي بِالصَّحْرَاءِ وَالْمُمْتَنِعَةِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَتْ بِقَرْيَةٍ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ، لأَِنَّ فِي الْعُمْرَانِ يَضِيعُ بِامْتِدَادِ الْيَدِ الْخَائِنَةِ إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْمَفَازَةِ فَإِنَّ طُرُوقَهَا لاَ يَعُمُّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: الْمَنْعُ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الصَّحْرَاءِ وَغَيْرِهَا.
4 - أَمَّا الضَّوَال الَّتِي لاَ تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ - كَالشَّاةِ وَالْفَصِيل - فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْعُمْرَانِ، وَذَلِكَ صَوْنًا لَهَا عَنِ الْخَوَنَةِ وَالسِّبَاعِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا وَجَدَ الشَّاةَ بِمِصْرٍ أَوْ بِمَهْلَكَةٍ فَإِنَّهُ يُبَاحُ أَخْذُهَا وَالْتِقَاطُهَا، هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا لَهُ أَكْلُهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُل مَا لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 210.(28/170)
السِّبَاعِ، كَفُصْلاَنِ الإِْبِل وَعُجُول الْبَقَرِ وَأَفْلاَءِ الْخَيْل، وَالدَّجَاجِ وَالإِْوَزِّ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنِ الشَّاةِ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (1) وَلأَِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ فَأَشْبَهَ لُقَطَةَ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِدَهَا فِي مِصْرٍ أَوْ مَهْلَكَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلَمْ يَسْتَفْصِل، وَلَوِ افْتَرَقَ الْحَال لَسَأَل وَاسْتَفْصَل، وَلأَِنَّهَا لُقَطَةٌ فَاسْتَوَى فِيهَا الْمِصْرُ وَالصَّحْرَاءُ، كَسَائِرِ اللُّقَطَاتِ.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ الْتِقَاطُهَا، وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لاَ أُحِبُّ أَنْ يَقْرَبَهَا إِلاَّ أَنْ يُحْرِزَهَا لِصَاحِبِهَا لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ أَشْبَهَ الإِْبِل، إِلاَّ أَنَّ جَوَازَ الأَْخْذِ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِمَا إِذَا أَمِنَ نَفْسَهُ عَلَى اللُّقَطَةِ، وَقَوِيَ عَلَى تَعْرِيفِهَا، أَمَّا مَنْ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ عَلَيْهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا.
وَيَتَخَيَّرُ أَخْذُ هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ.
أ - أَنْ يَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ، وَيُعَرِّفَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ، وَيَتَمَلَّكَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ إِنْ لَمْ يَجِدْ رَبَّهُ.
__________
(1) حديث: " خذها فإنما هي لك أو لأخيك ". أخرجه البخاري (5 / 83) ومسلم (3 / 1348) .(28/170)
ب - أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحْفَظَ الثَّمَنَ لِرَبِّهِ، ثُمَّ يُعَرِّفَ الضَّالَّةَ الَّتِي بَاعَهَا، وَيَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ إِنْ لَمْ يَجِدْ رَبَّ الضَّالَّةِ.
ج - أَنْ يَأْكُلَهُ وَيَغْرَمَ قِيمَتَهُ إِنْ ظَهَرَ مَالِكُهُ، لِحَدِيثِ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (1) .
لَكِنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَال إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّوَال الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ أُخِذَتْ مِنَ الْعُمْرَانِ فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْخُصْلَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ، أَيِ: الْحِفْظِ أَوِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لَهُ الأَْكْل فِي الأَْظْهَرِ. وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: لَهُ الأَْكْل، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الْتِقَاطُ الْبَهِيمَةِ الضَّالَّةِ لِلْحِفْظِ لِرَبِّهَا، لأَِنَّهَا لُقَطَةٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا، فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً لأَِمْوَال النَّاسِ، كَالشَّاةِ، وَأَمَّا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الإِْبِل: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا (3) فَقَدْ قَال
__________
(1) حديث: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". تقدم تخريجه ف 4.
(2) مغني المحتاج 2 / 409 - 410، ونهاية المحتاج 5 / من 429 إلى 433، والمغني 5 / من 735 إلى 739، وكشاف القناع 4 / 210، 211، 212.
(3) حديث: " ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها. . . ". أخرجه البخاري (5 / 84) ومسلم (3 / 1349) واللفظ للبخاري.(28/171)
السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْل الصَّلاَحِ وَالأَْمَانَةِ لاَ تَصِل إِلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلاَ يَأْمَنُ وُصُول يَدٍ خَائِنَةٍ إِلَيْهَا بَعْدَهُ، فَفِي أَخْذِهَا إِحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهَا وَجَبَ الْتِقَاطُهَا، وَهَذَا حَقٌّ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وُصُولُهَا إِلَى رَبِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ الْوُصُول، لأَِنَّ الزَّمَانَ إِذَا تَغَيَّرَ وَصَارَ طَرِيقَ التَّلَفِ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِلاَ شَكٍّ، وَهُوَ الاِلْتِقَاطُ لِلْحِفْظِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي اللُّقَطَةِ: فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَال اللَّهِ عَزَّ وَجَل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (1)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا فِي الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّحْرَاءِ وَالْعُمْرَانِ (2) .
6 - وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: الضَّالَّةُ إِذَا كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ:
أ - ضَالَّةُ الإِْبِل فِي الصَّحْرَاءِ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حديث عياض بن حمار: " فإن وجد صاحبها. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 335) وإسناده صحيح.
(2) ابن عابدين 3 / 321 - 322، وفتح القدير 5 / 354، نشر دار إحياء التراث، والاختيار 3 / 32.(28/171)
أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ (1) فَإِنْ تَعَدَّى وَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ثُمَّ يَتْرُكُهَا بِمَحَلِّهَا، لَكِنْ إِذَا خَافَ عَلَيْهَا مِنْ خَائِنٍ وَجَبَ الْتِقَاطُهَا وَتَعْرِيفُهَا.
ب - ضَالَّةُ الْبَقَرِ فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا كَانَ لاَ يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَوِ السَّارِقِ فَإِنَّهَا تُتْرَكُ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا.
وَإِنْ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ السَّارِقِ فَقَطْ وَجَبَ الْتِقَاطُهَا، وَإِنْ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ وَجَبَ سَوْقُهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ جَازَ لَهُ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فَالإِْبِل وَالْبَقَرُ عِنْدَ خَوْفِ السَّارِقِ سِيَّانِ فِي وُجُوبِ الاِلْتِقَاطِ، أَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْجُوعِ أَوِ السِّبَاعِ فَإِنَّ الإِْبِل تُتْرَكُ، وَالْبَقَرَ يَجُوزُ أَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ إِنْ تَعَذَّرَ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ.
ج - الشَّاةُ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَأَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ حَمْلُهَا أَوْ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقِيل بِجَوَازِ أَكْلِهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَوْ
__________
(1) حديث: " دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر ". أخرجه مسلم (3 / 1349) .(28/172)
مَعَ تَيَسُّرِ سَوْقِهَا لِلْعُمْرَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَإِنْ أَتَى بِهَا حَيَّةً لِلْعُمْرَانِ وَجَبَ تَعْرِيفُهَا لأَِنَّهَا صَارَتْ كَاللُّقَطَةِ، وَلَوْ ذَبَحَهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْهَا حَتَّى دَخَل الْعُمْرَانَ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ رَبَّهَا، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ بَيْعُهَا.
ثَانِيًا: الضَّالَّةُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ:
إِذَا كَانَتِ الضَّالَّةُ فِي الْعُمْرَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْتِقَاطُهَا عِنْدَ خَوْفِ الْخَائِنِ، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ إِبِلٍ وَخَيْلٍ وَبَقَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (لُقَطَة)
ضَبٌّ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 242 - 243، والدسوقي 4 / 122.(28/172)
ضَبَّةٌ
انْظُرْ: آنِيَة
ضَبُعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
ضُحًى
انْظُرْ: صَلاَةُ الضُّحَى(28/173)
ضَحِكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّحِكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ضَحِكَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالضَّحِكُ: انْبِسَاطُ الْوَجْهِ وَبُدُوُّ الأَْسْنَانِ مِنَ السُّرُورِ (1) ، وَالتَّبَسُّمُ مَبَادِئُ الضَّحِكِ، وَيُسْتَعْمَل فِي السُّرُورِ الْمُجَرَّدِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} (2) ، وَاسْتُعْمِل لِلتَّعَجُّبِ الْمُجَرَّدِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ لاَ لِجِيرَانِهِ (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَهْقَهَةُ:
2 - فِي اللُّغَةِ: قَهْقَهَ: أَيْ رَجَّعَ فِي ضَحِكِهِ،
__________
(1) المغرب للمطرزي (ص: 28) ط. دار الكتاب العربي.
(2) سورة عبس / 38، 39.
(3) تاج العروس 7 / 155 ط. دار البيان. بنغازي.
(4) التعريفات ص 179 ط دار الكتاب العربي.(28/173)
أَوِ اشْتَدَّ ضَحِكُهُ (1) . وَحَدَّهُ الْجُرْجَانِيُّ: بِمَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ (2) .
ب - التَّبَسُّمُ:
3 - هُوَ مَا عَرَى عَنِ الصَّوْتِ، وَهُوَ مَبَادِئُ الضَّحِكِ، وَتَبْدُو فِيهِ الأَْسْنَانُ فَقَطْ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الضَّحِكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَسُّمًا أَوْ قَهْقَهَةً، وَالأَْصْل فِيهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَبَسُّمًا جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَل كَانَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا كَانَ ضَحِكُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ تَبَسُّمًا (4) وَقَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ (5) وَأَمَّا الضَّحِكُ قَهْقَهَةً فَقَدْ كَرِهَهُ الْفُقَهَاءُ وَنَهَوْا عَنْ كَثْرَتِهِ، فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ (6) وَقَال ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: ضَحِكُ
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط 4 / 708 ط. الدار العربية للكتاب.
(2) التعريفات للجرجاني (ص 230) ط دار الكتاب العربي.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 98.
(4) حديث: " ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسما ". أخرجه الترمذي (5 / 601) وقال: (حديث صحيح غريب) .
(5) حديث: " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ". أخرجه الترمذي (4 / 340) وقال: حديث حسن غريب.
(6) حديث: " لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1403) من حديث أبي هريرة، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 336) .(28/174)
الْمُؤْمِنِ مِنْ غَفْلَتِهِ - يَعْنِي: غَفْلَتَهُ عَنْ أَمْرِ الآْخِرَةِ - وَلَوْلاَ غَفْلَتُهُ لَمَا ضَحِكَ (1) .
الضَّحِكُ دَاخِل الصَّلاَةِ
5 - الضَّحِكُ بِصَوْتٍ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ مِنَ الْمُصَلِّي، فَالْبُطْلاَنُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْكَلاَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ، وَالْكَلاَمُ فِي الصَّلاَةِ مُبْطِلٌ لَهَا (2) .
وَالْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِذَلِكَ مُطْلَقًا، لِكَوْنِهِ لاَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلاَمًا، وَلاَ يَتَبَيَّنُ مِنْهُ حَرْفٌ مُحَقَّقٌ، فَكَانَ شَبِيهًا بِالصَّوْتِ الْغُفْل (3) .
أَمَّا الضَّحِكُ بِغَيْرِ صَوْتٍ وَهُوَ التَّبَسُّمُ، فَلاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا كَلاَمٌ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ إِذْ تَبَسَّمَ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ، قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَبَسَّمْتَ. قَال: مَرَّ بِي مِيكَائِيل وَعَلَى
__________
(1) تنبيه الغافلين للسمرقنيدي (1 / 216 ط. دار الشروق) .
(2) ابن عابدين 1 / 97 - 98 ط. بولاق. مواهب الجليل 2 / 34، نهاية المحتاج 2 / 34، المغني 2 / 51.
(3) نهاية المحتاج 2 / 34، والمغني 2 / 51.
(4) رد المحتار على الدر المختار 1 / 98، مواهب الجليل 2 / 33، نهاية المحتاج 2 / 34.(28/174)
جَنَاحِهِ أَثَرُ غُبَارٍ وَهُوَ رَاجِعٌ مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، فَضَحِكَ إِلَيَّ، فَتَبَسَّمْتُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَ الأَْقْفَهْسِيُّ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الضَّحِكَ إِلَى وَجْهَيْنِ: بِغَيْرِ صَوْتٍ وَهُوَ التَّبَسُّمُ، وَبِصَوْتٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْل الرِّسَالَةِ: وَمَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَال أَصْبَغُ كَذَلِكَ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي التَّبَسُّمِ، إِلاَّ الْفَاحِشُ مِنْهُ شَبِيهٌ بِالضَّحِكِ، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعِيدَ فِي عَمْدِهِ، وَيَسْجُدَ فِي سَهْوِهِ (2) .
ضِرَابُ الْفَحْل
انْظُرْ: عَسْبُ الْفَحْل
ضِرَارٌ
انْظُرْ: ضَرَر
__________
(1) حديث: " بينما كان يصلي العصر في غزوة بدر إذ تبسم ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 83) وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه الوازع بن نافع وهو متروك) .
(2) مواهب الجليل 2 / 33.(28/175)
ضَرْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الضَّرْبُ لُغَةً عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الإِْصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، يُقَال: ضَرَبَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِالسَّوْطِ يَضْرِبُهُ ضَرْبًا: عَلاَهُ بِهِ، وَالسَّيْرُ فِي الأَْرْضِ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ أَوِ الْغَزْوِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَصِيَاغَةُ النُّقُودِ، وَطَبْعُهَا، وَتَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِالآْخَرِ (1) ، وَمَعَانٍ أُخْرَى، مِنْهَا ضَرْبُ الدُّفِّ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلضَّرْبِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْدِيبُ:
2 - التَّأْدِيبُ مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالضَّرْبِ، أَوْ بِغَيْرِهِ.
ب - التَّعْزِيرُ:
3 - التَّعْزِيرُ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ غَالِبًا (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المبسوط 9 / 36، والقليوبي 4 / 205، وكشاف القناع 4 / 205.(28/175)
ج - الْقَتْل:
4 - الْقَتْل إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِالضَّرْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الضَّرْبِ بِاخْتِلاَفِ الْمَعَانِي الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا:
فَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْيَدِ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، وَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ التَّالِيَةُ: فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا، كَضَرْبِ الْبَرِيءِ، وَتَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا، كَضَرْبِ شَارِبِ الْمُسْكِرِ، وَالزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَضَرْبِ الْقَاذِفِ بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَبِدُونِ طَلَبِهِ - أَيْضًا - عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَضَرْبِ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ، وَنَحْوِهَا.
وَتَارَةً يَكُونُ جَائِزًا كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لِحَقِّهِ، كَالنُّشُوزِ وَغَيْرِهِ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ لِلتَّعْلِيمِ، وَضَرْبِ السُّلْطَانَ مَنِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لاَ حَدَّ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حُدُود ف 31، تَأْدِيب ف 8 تَعْزِير ف 14) .(28/176)
أَدَاةُ الضَّرْبِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْحُدُودِ يَكُونُ بِالسَّوْطِ إِلاَّ حَدَّ الشُّرْبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ، كَمَا يُضْرَبُ أَيْضًا بِالنِّعَال وَالأَْيْدِي وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ (1) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ السَّوْطُ، وَقَالُوا: يُفْهَمُ مِنْ إِطْلاَقِ الْجَلْدِ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلْدٌ فِي الْخَمْرِ (2) . كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِجَلْدِ الزَّانِي، فَكَانَ بِالسَّوْطِ مِثْلَهُ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ضَرَبُوا بِالسَّوْطِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
أَمَّا الضَّرْبُ لِلتَّعْزِيرِ، أَوِ التَّأْدِيبِ فَيَكُونُ بِالسَّوْطِ وَالْيَدِ، وَأَمَّا ضَرْبُ الصَّبِيِّ فِي التَّأْدِيبِ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِيَدٍ، وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثًا، وَكَذَا: الْمُعَلِّمُ وَالْوَصِيُّ (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَوْقَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران. . . ". أخرجه البخاري (12 / 75) .
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ". أخرجه البخاري (12 / 66) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 235، والرهوني 8 / 164، والمغني 8 / 319.(28/176)
ثَلاَثٍ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُرْب، وَحُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14 وَتَأْدِيب ف 8) .
صِفَةُ سَوْطِ الضَّرْبِ:
7 - يَكُونُ سَوْطُ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَسَطًا بَيْنَ قَضِيبٍ، وَعَصًا، وَرَطْبٍ، وَيَابِسٍ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَال: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَال: دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رَكِبَ بِهِ وَلاَنَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ (2) .
وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَكُونُ وَسَطًا، لاَ شَدِيدًا فَيَقْتُل، وَلاَ ضَعِيفًا فَلاَ يَرْدَعُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ، لاَ قَتْلُهُ (3) .
__________
(1) حديث: " إياك أن تضرب فوق الثلاث ". أورده ابن عابدين في الحاشية (1 / 235) وعزاه إلى أحكام الصفار للاستروشيني ولم نهتد إليه في أي مصدر من المصادر الحديثية لدينا.
(2) حديث: " أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 825) من حديث زيد بن أسلم مرسلا.
(3) ابن عابدين 3 / 181، حاشية الدسوقي 4 / 354 - 355، والقليوبي 4 / 202 - 203.(28/177)
كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ:
8 - يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى الأَْعْضَاءِ، فَلاَ يُجْمَعُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِل، كَالْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ، وَالنَّحْرِ، وَالْفَرْجِ.
وَأَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ: ضَرْبُ الزَّانِي، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الشُّرْبِ، ثُمَّ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أَشَدُّ الضَّرْبِ: ضَرْبُ التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ خُفِّفَ عَدَدًا فَلاَ يُخَفَّفُ وَصْفًا، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الزِّنَا لِثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ لِثُبُوتِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ لِضَعْفِ سَبَبِهِ لاِحْتِمَال صِدْقِ الْقَاذِفِ (1) ، وَقَال مَالِكٌ: كُلُّهَا وَاحِدٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَأْنُهُ أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَالْقَاذِفِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الزَّجْرُ فَيَجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الصِّفَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14) .
ضَرْبُ الزَّوْجَةِ:
9 - يَجِبُ فِي ضَرْبِ الزَّوْجَةِ لِلنُّشُوزِ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلاَ مُدْمٍ، وَأَنْ يَتَوَقَّى الْوَجْهَ، وَالأَْمَاكِنَ الْمُخِيفَةَ، وَلاَ يَضْرِبَهَا
__________
(1) المصادر السابقة.(28/177)
إِلاَّ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ كَالنُّشُوزِ، فَلاَ يَضْرِبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ.
(ر: نُشُوز) .
ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ:
10 - ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ فَلَيْسَ لِلأَْفْرَادِ ضَرْبُهَا، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَخَاطِرِ الْغِشِّ، وَمَنَعَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ مِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَرَاهِم ف 7) .
ضَرْبُ الدُّفِّ:
11 - يَجُوزُ ضَرْبُ الدُّفِّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٍ وَعِيدٍ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لإِِظْهَارِ الْفَرَحِ (1) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ الدُّفُوفَ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني 7 / 10، فتح القدير 2 / 343، شرح مختصر الخليل 1 / 326 و 103، والقليوبي 4 / 320.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 389 - 390) وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (9 / 226) .(28/178)
: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ ، فَإِنَّ الأَْنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ (1) وَحَدِيثُ: فَصْل مَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَل عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى: تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَال: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (لَهْو، وَلِيمَة، عُرْس) .
__________
(1) حديث عائشة " أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار. . ". أخرجه البخاري (9 / 225) .
(2) حديث: " فصل ما بين الحرام والحلال. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 389) من حديث محمد بن حاطب، وحسنه الترمذي.
(3) حديث عائشة: " أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان. . . ". أخرجه البخاري (2 / 474) ومسلم (2 / 608) .(28/178)
ضَرَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرَرُ: اسْمٌ مِنَ الضَّرِّ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى كُل نَقْصٍ يَدْخُل الأَْعْيَانَ، وَالضَّرُّ - بِفَتْحِ الضَّادِ - لُغَةً: ضِدُّ النَّفْعِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ، يُقَال: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ إِذَا فَعَل بِهِ مَكْرُوهًا وَأَضَرَّ بِهِ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ثُلاَثِيًّا وَبِالْبَاءِ رُبَاعِيًّا. قَال الأَْزْهَرِيُّ: كُل مَا كَانَ سُوءَ حَالٍ وَفَقْرٍ وَشِدَّةٍ فِي بَدَنٍ فَهُوَ ضُرٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ ضِدَّ النَّفْعِ فَهُوَ بِفَتْحِهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْتْلاَفُ:
2 - الإِْتْلاَفُ فِي اللُّغَةِ: الإِْفْنَاءُ، يُقَال: تَلِفَ الْمَال يَتْلَفُ إِذَا هَلَكَ، وَأَتْلَفَهُ: أَفْنَاهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً (3) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير وقواعد الفقه للمجددي البركتي، والكليات للكفوي 3 / 147.
(2) حاشية الجمل 5 / 206.
(3) القاموس، المصباح المنير، البدائع 7 / 164، وانظر الموسوعة الفقهية 1 / 216.(28/179)
فَهُوَ فِي اللُّغَةِ لاَ يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَا أَصَابَهُ الْعَدَمُ، فَإِذَا تَعَطَّل الشَّيْءُ وَلَمْ يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَادَةً كَانَ تَالِفًا لَدَى الْفُقَهَاءِ دُونَ اللُّغَوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَالإِْتْلاَفُ نَوْعٌ مِنَ الضَّرَرِ وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
ب - الاِعْتِدَاءُ:
3 - الاِعْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، يُقَال: اعْتَدَى عَلَيْهِ إِذَا ظَلَمَهُ، وَاعْتَدَى عَلَى حَقِّهِ أَيْ جَاوَزَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالاِعْتِدَاءُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ وَفَرْعٌ عَنْهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ (2) ، وَتَزْدَادُ حُرْمَتُهُ كُلَّمَا زَادَتْ شِدَّتُهُ، وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (3) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (4) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية 5 / 202.
(2) فيض القدير للمناوي 6 / 431.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة البقرة / 231(28/179)
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْمَل كُل أَنْوَاعِ الضَّرَرِ لأَِنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَصْلُهُ لاَ لُحُوقَ أَوْ إِلْحَاقَ، أَوْ لاَ فِعْل ضَرَرٍ أَوْ ضِرَارٍ بِأَحَدٍ فِي دِينِنَا، أَيْ: لاَ يَجُوزُ شَرْعًا إِلاَّ لِمُوجِبٍ خَاصٍّ (2) .
أَمَّا إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ يَسْتَحِقُّهُ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْل، فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحَدِيثِ قَطْعًا (3) .
كَمَا أَنَّ الضَّرَرَ يُبَاحُ اسْتِثْنَاءً فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ضَبَطَتْهَا بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَمْثَال قَاعِدَةِ " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ " وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الضَّابِطَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرَرِ:
5 - لَقَدْ عَنَى الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا بِدِرَاسَةِ مَوْضُوعِ الضَّرَرِ وَمُعَالَجَةِ آثَارِهِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ بَالِغَةٍ فِي اسْتِقْرَارِ الْعَلاَقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ،
__________
(1) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745) من حديث يحيى المازني مرسلا، ولكن له شواهد موصولة يتقوى بها، ذكرها ابن رجب في جامع العلوم والحكم. (ص 286 - 287) وحسنه النووي
(2) فيض القدير 6 / 431.
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 288.(28/180)
وَقَعَّدُوا لِذَلِكَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ تَضْبِطُهُ، وَتُوَضِّحُ مَعَالِمَهُ الْعَامَّةَ وَتُنَظِّمُ آثَارَهُ، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:
الضَّرَرُ يُزَال:
6 - أَصْل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) وَيُبْتَنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ، وَالْحَجْرُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، وَالشُّفْعَةُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ (2) .
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوَاعِدُ:
7 - الأُْولَى: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ: وَمِنْ ثَمَّ جَازَ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَإِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " بِشَرْطِ عَدَمِ نُقْصَانِهَا عَنْهَا " (3) .
8 - الثَّانِيَةُ: " مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " وَمِنْ فُرُوعِهَا: الْمُضْطَرُّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَالطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيل الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، قَال فِي الْكَنْزِ: وَيَنْتَفِعُ فِيهَا بِعَلَفٍ وَطَعَامٍ وَحَطَبٍ وَسِلاَحٍ وَدُهْنٍ بِلاَ قِسْمَةٍ،
__________
(1) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". سبق تخريجه ف 4
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94 (نشر دار الفكر بدمشق) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94، والأشباه للسيوطي ص 84.(28/180)
وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لاَ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَمَا فَضَل رُدَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: ضَرُورَة) .
الضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ.
9 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ يُزَال " بِمَعْنَى أَنَّ الضَّرَرَ مَهْمَا كَانَ وَاجِبَ الإِْزَالَةِ، فَإِزَالَتُهُ إِمَّا بِلاَ ضَرَرٍ أَصْلاً أَوْ بِضَرَرٍ أَخَفَّ مِنْهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالأَْخَفِّ " وَأَمَّا إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ فَلاَ يَجُوزُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلاً - أَيْضًا - لأَِنَّ السَّعْيَ فِي إِزَالَتِهِ بِمِثْلِهِ عَبَثٌ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْقَتْل مَثَلاً لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ هَذَا إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ، بِخِلاَفِ أَكْل مَالِهِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِمَا هُوَ أَخَفُّ.
وَمِنْهَا لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، أَوْ أَدْخَل الْبَقَرُ رَأْسَهُ فِي قِدْرٍ، أَوْ أَوْدَعَ فَصِيلاً فَكَبِرَ فِي بَيْتِ الْمُودَعِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلاَّ بِهَدْمِ الْجِدَارِ، أَوْ كَسْرِ الْقِدْرِ، أَوْ ذَبْحِ الدَّجَاجَةِ، يَضْمَنُ صَاحِبُ الأَْكْثَرِ قِيمَةَ الأَْقَل؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ الضَّرَرَ الأَْشَدَّ يُزَال بِالأَْخَفِّ (2) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 34 (ط: المطبعة الحسينية المصرية) ، والأشباه للسيوطي 84.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 63 - 64 المادة (25) و (906) .(28/181)
يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ:
10 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ " أَيْ لاَ يُزَال الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآْخَرُ خَاصًّا، فَيُتَحَمَّل حِينَئِذٍ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ.
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ اسْتَخْرَجَهَا الْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الإِْجْمَاعِ وَمَعْقُول النُّصُوصِ، قَال الأَْتَاسِيُّ نَقْلاً عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ لِيَحْفَظَ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَعُقُولَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَكُل مَا يَكُونُ بِعَكْسِ هَذَا فَهُوَ مَضَرَّةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا مَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ فَتَأْيِيدًا لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ يُدْفَعُ فِي هَذَا السَّبِيل الضَّرَرُ الأَْعَمُّ بِالضَّرَرِ الأَْخَصِّ (1)
إِذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا:
11 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَقَاعِدَةُ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالأَْخَفِّ " وَقَاعِدَةُ " يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ " مُتَّحِدَاتٌ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ. وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أُخْتَيْهَا.
وَمِنْ فُرُوعِهَا جَوَازُ شَقِّ بَطْنِ الْمَيْتَةِ لإِِخْرَاجِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ تُرْجَى حَيَاتُهُ (2) .
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 1 / 66 المادة (26) .
(2) الأشباه لابن نجيم ص 35، (ط: المطبعة الحسينية) ، وشرح المجلة للآتاسي 1 / 69.(28/181)
اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَئُول إِلَيْهِ مِنْ أَضْرَارٍ:
12 - يَقُول الشَّاطِبِيُّ: جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَلْزَمَ عَنْهُ إِضْرَارُ الْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَلْزَمَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَقْصِدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ ذَلِكَ الإِْضْرَارَ كَالْمُرَخِّصِ فِي سِلْعَتِهِ قَصْدًا لِطَلَبِ مَعَاشِهِ، وَصَحِبَهُ قَصْدَ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِضْرَارًا بِأَحَدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الإِْضْرَارُ عَامًّا كَتَلَقِّي السِّلَعِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ بَيْعِ دَارِهِ أَوْ فَدَّانِهِ، وَقَدِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَسْجِدٍ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى فِعْلِهِ، كَالدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ مَظْلِمَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا تَقَعُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ، أَوْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى صَيْدٍ أَوْ حَطَبٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ عَالِمًا أَنَّهُ إِذَا حَازَهُ تَضَرَّرَ غَيْرُهُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ تَضَرَّرَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَلْحَقَهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:(28/182)
الأَْوَّل: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، أَعْنِي الْقَطْعَ الْعَادِيَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ خَلْفَ الدَّارِ فِي الظَّلاَمِ، بِحَيْثُ يَقَعُ الدَّاخِل فِيهِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ بِمَوْضِعٍ لاَ يُؤَدِّي غَالِبًا إِلَى وُقُوعِ أَحَدٍ فِيهِ، وَأَكْل الأَْغْذِيَةِ الَّتِي غَالِبًا لاَ تَضُرُّ أَحَدًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ نَادِرًا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبًا كَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَالْعِنَبِ مِنَ الْخَمَّارِ، وَمَا يُغَشُّ بِهِ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْغِشُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لاَ غَالِبًا كَمَسَائِل بُيُوعِ الآْجَال. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِحَيْثُ لاَ يَلْزَمُ عَنْهُ مَضَرَّةٌ:
اسْتِعْمَال الْحَقِّ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ - حُكْمُهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ وَلاَ إِشْكَال فِيهِ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الدَّلِيل عَلَى الإِْذْنِ ابْتِدَاءً.
الْقِسْمُ الثَّانِي: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِقَصْدِ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ:
لاَ إِشْكَال فِي مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى الإِْضْرَارِ مِنْ(28/182)
حَيْثُ هُوَ إِضْرَارٌ لِثُبُوتِ الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ (1) .
وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ فِي اسْتِعْمَال الْحَقِّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ يَقُول: أَنْ لاَ يُحِبَّ لأَِخِيهِ إِلاَّ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكُل مَا لَوْ عُومِل بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَثَقُل عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُعَامِل بِهِ غَيْرَهُ (2) .
وَجَاءَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا الإِْضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَا ذَلِكَ جَمِيعًا (3) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ تَطْبِيقًا لِهَذَا النَّوْعِ مِنِ اسْتِعْمَال الْحَقِّ:
الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ:
13 - رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (4) وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الرَّجُل لَيَعْمَل وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 348 وما بعدها (نشر المكتبة التجارية الكبرى) .
(2) إحياء علوم الدين 2 / 76.
(3) معين الحكام ص 244 (ط. الميمنية) .
(4) تفسير القرطبي 2 / 252، وحديث: " الإضرار في الوصية من الكبائر ". أخرجه الدارقطني (4 / 151) والبيهقي (6 / 271) وصوب البيهقي وقفه على ابن عباس.(28/183)
يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ (1) قَال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ (2) (رَاوِي الْحَدِيثِ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} إِلَى قَوْلِهِ {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3)
وَالإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُ فَيَتَضَرَّرَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (4) وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُنْقِصَ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (5) وَمَتَى أَوْصَى لِوَارِثٍ أَوْ لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَنْفُذْ مَا أَوْصَى بِهِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (6) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي رَدِّ وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِذَا قَصَدَ بِوَصِيَّتِهِ الْمُضَارَّةَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
__________
(1) حديث: " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة. . ". أخرجه الترمذي (4 / 431) وأشار المناوي إلى تضعيفه في فيض القدير (2 / 335) .
(2) تفسير الجصاص 1 / 201 (المطبعة البهية المصرية) .
(3) سورة النساء / 12 - 13.
(4) حديث: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 433) من حديث أبي أمامة، وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 92) .
(5) حديث: " الثلث والثلث كثير ". أخرجه البخاري (7 / 269) ومسلم (3 / 1250) .
(6) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 288.(28/183)
الإِْضْرَارُ بِالرَّجْعَةِ:
14 - مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَانَ قَصْدُهُ بِالرَّجْعَةِ الْمُضَارَّةَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ هَذَا التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) يَقُول الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: وَلاَ تُرَاجِعُوهُنَّ إِنْ رَاجَعْتُمُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ مُضَارَّةً لَهُنَّ لِتُطَوِّلُوا عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ، أَوْ لِتَأْخُذُوا مِنْهُنَّ بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ بِطَلَبِهِنَّ الْخُلْعَ مِنْكُمْ لِمُضَارَّتِكُمْ إِيَّاهُنَّ، بِإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُنَّ وَمُرَاجَعَتِكُمُوهُنَّ ضِرَارًا وَاعْتِدَاءً (2) .
@ @ @ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى الأَْزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، أَوْ أَخْذِ بَعْضِ مَالِهِنَّ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي حُكْمِ الرَّجْعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَة ف 4) .
15 - وَمِنْ صُوَرِ الإِْضْرَارِ: الإِْيلاَءُ، وَغَيْبَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 231.
(2) تفسير الطبري 5 / 7 - 8 (نشر دار المعارف) .
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 288.(28/184)
الزَّوْجِ، وَالْحَبْسُ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، بِشُرُوطِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِيهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيلاَء، وَطَلاَقٌ، وَفَسْخٌ، وَغَيْبَةٌ، وَمَفْقُودٌ) .
الإِْضْرَارُ فِي الرَّضَاعِ:
16 - إِنْ رَغِبَتْ الأُْمُّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا أُجِيبَتْ وُجُوبًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَمْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ عَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (1) وَالْمَنْعُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مُضَارَّةٌ لَهَا (2) .
وَقِيل: إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ فِي حِبَال الزَّوْجِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ ارْتِضَاعُهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدُ الزَّوْجِ بِهِ تَوْفِيرَ الزَّوْجَةِ لِلاِسْتِمْتَاعِ، لاَ مُجَرَّدَ إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَيْهَا (3) ، وَيَلْزَمُ الأَْبَ إِجَابَةُ طَلَبِ الْمُطَلَّقَةِ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مَا لَمْ تَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهَا، أَمَّا إِنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهَا زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ يَرْضِعُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَمْ يَلْزَمِ الأَْبَ إِجَابَتُهَا إِلَى مَا طَلَبَتْ، لأَِنَّهَا تَقْصِدُ الْمُضَارَّةَ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627، وأسنى المطالب 3 / 445، والدسوقي 2 / 526، وابن عابدين 2 / 675 - 676، وجامع العلوم والحكم ص 289.
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 289.
(4) نفس المرجع.(28/184)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رَضَاعٌ) .
الإِْضْرَارُ فِي الْبَيْعِ:
17 - مِنْ أَمْثِلَةِ الضَّرَرِ فِي الْبُيُوعِ بَيْعُ الرَّجُل عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالسَّوْمُ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَالنَّجْشُ وَتَلَقِّي الْجَلْبَ أَوِ الرُّكْبَانِ، وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَبَيْعُ الْمُضْطَرِّ (1) وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ هَذِهِ الْبُيُوعِ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ: ف 100 - 132) .
18 - وَمِمَّا يَنْدَرِجُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَسَبَ تَقْسِيمَاتِ الشَّاطِبِيِّ: اسْتِعْمَال صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعَةٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي الْعَمَل الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْدُ نَفْعِ النَّفْسِ، وَقَصْدُ إِضْرَارِ الْغَيْرِ هَل يُمْنَعُ مِنْهُ فَيَصِيرُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَمْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ مِنَ الإِْذْنِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُ مَا قَصَدَ؟ هَذَا مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخِلاَفُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلاَةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَل الاِجْتِهَادُ فِيهِ.
وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا رَفَعَ ذَلِكَ الْعَمَل وَانْتَقَل إِلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي اسْتِجْلاَبِ تِلْكَ
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 289 - 290.(28/185)
الْمَصْلَحَةِ، أَوْ دَرْءِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ جُعِل لَهُ مَا أَرَادَ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ إِشْكَال فِي مَنْعِهِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ الإِْضْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِيصٌ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ مِنْهَا الْغَيْرُ، فَحَقُّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ، وَلاَ يُقَال: إِنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لاَ يُطَاقُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِنَفْيِ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَسْبِ لاَ بِنَفْيِ الإِْضْرَارِ بِعَيْنِهِ (1) .
19 - وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ التَّسَوُّلِيُّ، فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَيَضُرَّ بِجِدَارِ جَارِهِ: وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَرْكِ حَفْرِهِ فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ حَفْرِهِ لِتَمَحُّضِ إِضْرَارِهِ بِجَارِهِ حِينَئِذٍ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الصَّدَدِ، إِذْ هُمْ يُقَيِّدُونَ حَقَّ الْمَالِكِ فِي التَّصَرُّفِ بِمِلْكِهِ بِمَا يَمْنَعُ الإِْضْرَارَ الْفَاحِشَ عَنْ جَارِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: لَيْسَ لِلْجَارِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُضِرُّ بِجَارِهِ، نَحْوَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ الْعَطَّارِينَ (3) .
وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَقُول: إِنَّ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ
__________
(1) الموافقات 2 / 349.
(2) البهجة في شرح التحفة 2 / 336.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 572.(28/185)
مَا شَاءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَمْ يُضِرَّ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا. . . وَلَوْ أَرَادَ بِنَاءَ تَنُّورٍ فِي دَارِهِ لِلْخَبْزِ الدَّائِمِ، كَمَا يَكُونُ فِي الدَّكَاكِينِ، أَوْ رَحًا لِلطَّحْنِ، أَوْ مِدَقَّاتٍ لِلْقَصَّارِينَ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُضِرُّ بِالْجِيرَانِ ضَرَرًا ظَاهِرًا فَاحِشًا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَتُرِكَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لأَِجْل الْمَصْلَحَةِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: لُحُوقُ الضَّرَرِ بِجَالِبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَافِعِ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ مَنْعِهِ مِنَ اسْتِعْمَال حَقِّهِ:
20 - هَذَا لاَ يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الإِْضْرَارُ بِهِ بِحَيْثُ لاَ يَنْجَبِرُ أَوَّلاً، فَإِنْ لَزِمَ قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ (2) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّتْ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ وَأَصَابَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْهُ لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِ وَلاَ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْل مَا مَعَهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، لأَِنَّ الْبَذْل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 196.
(2) الموافقات 2 / 349.(28/186)
نَفْسِهِ وَهَلاَكِ عِيَالِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ إِنْجَاءُ الْغَرِيقِ بِتَغْرِيقِ نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ فِي بَذْلِهِ إِلْقَاءً بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (1) .
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ انْجِبَارُ الإِْضْرَارِ وَرَفْعُهُ جُمْلَةً فَاعْتِبَارُ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوْلَى فَيُمْنَعُ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ مِمَّا هَمَّ بِهِ، لأَِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِدَلِيل النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَعَ أَنَّ الأَْصْل فِيهِمُ الأَْمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لاَ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ (لاَ تَنْجَبِرُ) (2) وَهُوَ مُفَادُ قَاعِدَةِ " يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ " (3) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: دَفْعُ الضَّرَرِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ:
21 - فَمِنْ ذَلِكَ الرِّشْوَةُ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِعْطَاءُ الْمَال لِلْمُحَارِبِينَ وَلِلْكُفَّارِ فِي فِدَاءِ الأَْسْرَى،
__________
(1) المغني 8 / 603.
(2) الموافقات 2 / 250 والذي بين القوسين من التعليقات على الموافقات.
(3) مجلة الأحكام العدلية المادة (26) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 96 نشر دار الفكر بدمشق.(28/186)
وَلِمَانِعِي الْحَاجِّ حَتَّى يُؤَدُّوا خَرَاجًا، كُل ذَلِكَ انْتِفَاعٌ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ بِتَمْكِينٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِمَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَتْل الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ، بَل قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَل فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَل (1) وَلاَزِمُ ذَلِكَ دُخُول قَاتِلِهِ النَّارَ، وَقَوْل أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} (2) بَل الْعُقُوبَاتُ كُلُّهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ يَلْزَمُ عَنْهَا إِضْرَارُ الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلْغَاءٌ لِجَانِبِ الْمَفْسَدَةِ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ هَذِهِ الأَْحْكَامِ، وَلأَِنَّ جَانِبَ الْجَالِبِ وَالدَّافِعِ أَوْلَى (3) .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعًا:
22 - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ لاَ يَلْحَقَ الْجَالِبَ لِلْمَصْلَحَةِ أَوِ الدَّافِعَ لِلْمَفْسَدَةِ ضَرَرٌ، وَلَكِنَّ أَدَاءَهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيٌّ عَادَةً فَلَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده لوددت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 16 ط. السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة المائدة / 29.
(3) الموافقات 2 / 350 وما بعدها.(28/187)
يُقْصَدَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ، فَهَذَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَائِزٌ لاَ مَحْظُورَ فِيهِ.
وَنَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِلُزُومِ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِهَذَا الْعَمَل الْمَقْصُودِ مَعَ عَدَمِ اسْتِضْرَارِهِ بِتَرْكِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةٌ لِقَصْدِ الإِْضْرَارِ، لأَِنَّهُ فِي فِعْلِهِ إِمَّا فَاعِلٌ لِمُبَاحٍ صِرْفٍ لاَ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مَقْصِدٌ ضَرُورِيٌّ وَلاَ حَاجِيٌّ وَلاَ تَكْمِيلِيٌّ فَلاَ قَصْدَ لِلشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ مِنْ حَيْثُ يُوقَعُ، وَإِمَّا فَاعِلٌ لِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَلْحَقُ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ دُونَ الآْخَرِ.
وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فَتَوَخِّيهِ لِذَلِكَ الْفِعْل عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَضَرَّةِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ فِي النَّظَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَإِمَّا قَصْدٌ إِلَى نَفْسِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ - أَيْضًا - فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْل، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ يُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِ وَيَضْمَنُ ضَمَانَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْجُمْلَةِ (1) .
الْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا:
23 - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْجَالِبَ أَوْ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 350، 357، 358.(28/187)
الدَّافِعَ لاَ يَقْصِدُ الإِْضْرَارَ بِأَحَدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَنْ فِعْلِهِ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ نَادِرًا، هُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً فَلاَ اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا، إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ جُمْلَةً، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُدُورَ الْمَفْسَدَةِ إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ، وَلاَ يُعَدُّ - هُنَا - قَصْدُ الْقَاصِدِ إِلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ - مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِنُدُورِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ - تَقْصِيرًا فِي النَّظَرِ وَلاَ قَصْدًا إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ، فَالْعَمَل إِذَنْ بَاقٍ عَلَى أَصْل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ضَوَابِطَ الْمُشَرِّعَاتِ هَكَذَا وَجَدْنَاهَا: كَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الدِّمَاءِ وَالأَْمْوَال وَالْفُرُوجِ مَعَ إِمْكَانِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَكَذَلِكَ إِعْمَال الْخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالأَْقْيِسَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ مَعَ إِمْكَانِ إِخْلاَفِهَا وَالْخَطَأِ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَاعْتُبِرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ (1) .
الْقِسْمُ السَّابِعُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ ظَنًّا:
24 - قَدْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ وَسِيلَةً مَوْضُوعَةً لِلْمُبَاحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُظَنُّ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ فَيَحْتَمِل
__________
(1) الموافقات 2 / 358.(28/188)
الْخِلاَفَ، أَمَّا أَنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ وَالإِْذْنُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّ الضَّرَرَ وَالْمَفْسَدَةَ تَلْحَقُ ظَنًّا فَهَل يَجْرِي الظَّنُّ مَجْرَى الْعِلْمِ فَيَمْنَعُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمْ لاَ؛ لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِمَا وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ نَادِرًا؟ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الظَّنِّ هُوَ الأَْرْجَحُ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى أَصْل الإِْذْنِ وَالإِْبَاحَةِ لأُِمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ فَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُ هُنَا (1) .
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لآِلِهَتِهِمْ، لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إِلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لآِلِهَتِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَل كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْجَائِزِ لِئَلاَّ يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْل مَا لاَ يَجُوزُ (3) .
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا:
25 - إِذَا كَانَ أَدَاءُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ غَالِبًا وَلاَ نَادِرًا، فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ
__________
(1) الموافقات 2 / 359، وإعلام الموقعين لابن القيم 3 / 136.
(2) سورة الأنعام / 108.
(3) إعلام الموقعين لابن القيم 3 / 137.(28/188)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَيَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَمْل عَلَى الأَْصْل مِنْ صِحَّةِ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ، إِذْ لَيْسَ - هُنَا - إِلاَّ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلاَ قَرِينَةَ تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَاحْتِمَال الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ، وَالإِْضْرَارِ لاَ يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلاَ يَقْتَضِيهِ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الآْخَرُ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ لاَ يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ - هُنَا - وَهُوَ كَثْرَةُ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ، فَكَمَا اعْتُبِرَتِ الْمَظِنَّةُ وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ، كَذَلِكَ نَعْتَبِرُ الْكَثْرَةَ لأَِنَّهَا مَجَال الْقَصْدِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَدُّ الذَّرَائِعِ) .
دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ:
26 - الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، وَتَرْكِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الصَّلاَةِ لِدَفْعِ ضَرُورَةِ السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَل الْمُحَرَّمُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّلَفِ، وَتُسَاغُ الْغُصَّةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِتَعَيُّنِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُحَرَّمِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 361.(28/189)
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيل الْوَاجِبِ، أَوْ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمَكْرُوهَاتِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلاَ فِعْل الْمُحَرَّمِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ الْغُسْل بِالْمَاءِ، وَلاَ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ السُّجُودُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالأَْلَمِ وَالْمَرَضِ، إِلاَّ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ (1) .
وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ:
27 - قَال الْحَصْكَفِيُّ: يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَغَرِيقٍ وَحَرِيقٍ (2) وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُصَلِّي مَتَى سَمِعَ أَحَدًا يَسْتَغِيثُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالنِّدَاءِ، أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حَل بِهِ، أَوْ عَلِمَ وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِغَاثَتِهِ قَطَعَ الصَّلاَةَ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ (3) .
وَفِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ إِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ بِإِنْقَاذِهِ مِنْ كُل مَا يُعَرِّضُهُ لِلْهَلاَكِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَجَبَتِ الإِْعَانَةُ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ، فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا (4)
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 123.
(2) الدر المختار 1 / 440.
(3) ابن عابدين 1 / 478.
(4) الموسوعة الفقهية إعانة ف 5.(28/189)
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُضْطَرِّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُل مَنْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، وَقَدْ أَسَاءَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي هَلاَكِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَعَ الْقُدْرَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَيَضْمَنُهُ كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (ضَمَانٌ) .
الْحَجْرُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ:
28 - يُحْجَرُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ تَكُونُ مَضَرَّتُهُمْ عَامَّةً، كَالطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، لأَِنَّ الطَّبِيبَ الْجَاهِل يَسْقِي النَّاسَ فِي أَمْرَاضِهِمْ دَوَاءً مُخَالِفًا يُفْسِدُ أَبْدَانَهُمْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَهُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ لِتَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ، ثُمَّ تُسْلِمَ، وَكَالَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ، وَكَذَا الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ، لأَِنَّهُ يَأْخُذُ
__________
(1) المغني 8 / 834 - 835، والدسوقي 4 / 242 و 2 / 112، ومغني المحتاج 4 / 5، والاختيار 4 / 175، وبدائع الصنائع 7 / 234، 235.(28/190)
الْكِرَاءَ أَوَّلاً لِيَشْتَرِيَ بِهَا الْجِمَال وَالظَّهْرَ وَيَدْفَعَهُ إِلَى بَعْضِ دُيُونِهِ مَثَلاً، فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ مُضِرٌّ بِالْعَامَّةِ، الطَّبِيبُ الْجَاهِل يُهْلِكُ أَبْدَانَهُمْ، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَدْيَانَهُمْ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ يُتْلِفُ أَمْوَالَهُمْ فَيُحْجَرُ عَلَى هَؤُلاَءِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَجْرِ الْمَنْعُ مِنْ إِجْرَاءِ الْعَمَل لاَ مَنْعُ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، وَالْمَنْعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
(ر: حَجْرٌ ف 22) .
التَّفْرِيقُ لِضَرَرِ عَدَمِ الاِتِّفَاقِ.
29 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَأَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِهَا أَوْ مِمَّا اقْتَرَضَتْهُ، وَإِنْ شَاءَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي وَطَلَبَتْ فَسْخَ نِكَاحِهَا (2) .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 3 / 522، المادة (964) ، وابن عابدين 5 / 93.
(2) الدسوقي 2 / 518، ومغني المحتاج 3 / 442، والمغني 7 / 573.(28/190)
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ أَنَّ مَنْ أَعْسَر بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَيُقَال لَهَا: اسْتَدِينِي.
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ ضَرَرِ فَقْدِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْبَتِهِ (ر: مَفْقُودٌ، غَيْبَةٌ، وَفَسْخٌ، وَطَلاَقٌ) .
ضَرَّةٌ
انْظُرْ: قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
ضِرْسٌ
.
انْظُرْ: سِنٌّ
__________
(1) المغني 7 / 573.(28/191)
ضَرُورَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرُورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ، وَالاِضْطِرَارُ: الاِحْتِيَاجُ الشَّدِيدُ (1) . تَقُول: حَمَلَتْنِي الضَّرُورَةُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَقَدِ اضْطُرَّ فُلاَنٌ إِلَى كَذَا وَكَذَا.
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيِّ: بِأَنَّهَا النَّازِل مِمَّا لاَ مَدْفَعَ لَهُ (2) .
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ، كَالْمُضْطَرِّ لِلأَْكْل وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ، أَوْ تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ، وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاجَةُ:
2 - الْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ: تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر (1 / 277 ط. دار الكتب العلمية) والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 319.(28/191)
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي - فِي الْغَالِبِ - إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَاجَةُ كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُل لَمْ يَهْلَكْ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ وَهَذَا لاَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ، وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ (3) .
ب - الْحَرَجُ:
3 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى كُل مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ أَمْ عَلَى النَّفْسِ أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الضَّرُورَةَ
__________
(1) الموافقات 2 / 10 - 11، والموسوعة الفقهية 16 / 247.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 319، وغمز عيون البصائر 1 / 277.
(3) الموسوعة الفقهية 16 / 247.
(4) الموسوعة الفقهية 17 / 268.(28/192)
هِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ (1) .
ج - الْعُذْرُ:
4 - الْعُذْرُ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ. وَالْعُذْرُ الْعَامُّ: هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّخْصُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَفَقْدِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ، فَيَسْقُطُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ، وَقَدْ يَكُونُ نَادِرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَدُومَ كَالْحَدَثِ الدَّائِمِ وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالسَّلَسِ وَنَحْوِهِ، فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ أَيْضًا، أَمَّا النَّادِرُ الَّذِي لاَ يَدُومُ وَلاَ بَدَل مَعَهُ كَفَقْدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ، فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْعُذْرُ الْخَاصُّ: فَهُوَ مَا يَطْرَأُ لِلإِْنْسَانِ أَحْيَانًا، كَالاِنْشِغَال بِأَمْرٍ مَا عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَبَيْنَ الْعُذْرِ أَنَّ الْعُذْرَ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُخَفَّفَةِ لِلأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.
د - الْجَائِحَةُ.
5 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ، تَجْتَاحُ الْمَال مِنْ سَنَةً أَوْ فِتْنَةٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَوْحِ بِمَعْنَى الاِسْتِئْصَال وَالْهَلاَكِ، يُقَال: جَاحَتْهُمْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 17 / 170.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 375 - 376(28/192)
الْجَائِحَةُ وَاجْتَاحَتْهُمْ، وَجَاحَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى: أَيْ أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ (1) .
وَالْجَائِحَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلضَّرُورَةِ.
هـ - الإِْكْرَاهُ:
6 - الإِْكْرَاهُ لُغَةً: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى شَيْءٍ لاَ يَرْضَاهُ، يُقَال: أَكْرَهْتُ فُلاَنًا إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَى مَا لاَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ.
(ر: إِكْرَاهٌ ف 1) .
وَقَدْ يُؤَدِّي الإِْكْرَاهُ إِلَى الضَّرُورَةِ كَالإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ.
الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي الأَْحْكَامِ:
7 - الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ نَوْعَانِ: أَحْكَامٌ كُلِّيَّةٌ شُرِعَتِ ابْتِدَاءً، وَلاَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ دُونَ بَعْضٍ، وَلاَ بِبَعْضِ الأَْحْوَال دُونَ بَعْضٍ.
وَأَحْكَامٌ شُرِعَتْ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَعَ الاِقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ (2) .
__________
(1) الصحاح والقاموس ولسان العرب والمصباح المنير مادة (جوح) والموسوعة الفقهية (مصطلح: جائحة ف 1) .
(2) الموافقات للشاطبي 1 / 300 - 301.(28/193)
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِالأَْحْكَامِ الاِسْتِثْنَائِيَّةِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَبْدَأَيِ الْيُسْرِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ اللَّذَيْنِ هُمَا صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَانِ فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ وَشَرِيعَتِهِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَفِيهِ عِدَّةُ آيَاتٍ تَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الأَْحْكَامِ.
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) .
فَهَاتَانِ الآْيَتَانِ، وَغَيْرُهُمَا تُبَيِّنُ تَحْرِيمَ تَنَاوُل مَطْعُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ اسْتِثْنَاءَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ حِفَاظًا عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْهَلاَكِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ - كَمَا قَال الْبَزْدَوِيُّ - إِبَاحَةٌ، إِذِ الْكَلاَمُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْل التَّحْرِيمِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) سورة الأنعام / 119
(3) كشف الأستار 4 / 1518.(28/193)
وَأَمَّا الأَْحَادِيثُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا.
مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى يَحِل لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَال: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تَحْتَفِئُوا، فَشَأْنُكُمْ بِهَا (1) .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ أَهْل بَيْتٍ كَانُوا بِالْحَرَّةِ مُحْتَاجِينَ قَال: فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ نَاقَةٌ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِهَا، قَال: فَعَصَمَتْهُمْ بَقِيَّةَ شِتَائِهِمْ أَوْ سَنَتِهِمْ (2) .
وَقَدْ دَل الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَتَنَاوَل مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَكْفِيهِ.
8 - شُرُوطُ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ:
يُشْتَرَطُ لِلأَْخْذِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً لاَ مُنْتَظَرَةً، وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ
__________
(1) حديث أبي واقد الليثي: " يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ". أخرجه أمد (5 / 218) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 165) : " رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح ". والمعنى: لم تجدوا ألبتة تصطحبونها، أو شربا تغتبقونه ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة. نيل الأوطار: (4 / 151 ط: دار القلم.) .
(2) نيل الأوطار (8 / 156، 158 الحلبي.) . وحديث جابر بن سمرة: " أن أهل بيت كانوا بالحرة ". أخرجه أحمد (5 / 87) .(28/194)
عَلَى الرُّخَصِ مِنْهَا:
يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَحَقُّقِ الإِْكْرَاهِ خَوْفَ الْمُكْرَهِ إِيقَاعَ مَا هُدِّدَ بِهِ فِي الْحَال بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ (1) ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَوْل الْمُكْرِهِ " لأََقْتُلَنَّكَ غَدًا " لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ (2) .
قَال الشَّيْخُ عَمِيرَةُ: لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ غَيْرَ نَاجِزَةٍ فَهَل يَجُوزُ الأَْخْذُ لِمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ؟ الظَّاهِرُ لاَ، كَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِمَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنَ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ (3) .
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: الصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْل الْعَزِيمَةِ، إِلاَّ فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَوْلَى، مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْل الإِْنْسَانِ أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلاَّ مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لاَ يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا، بَل حُكْمُهَا أَخَفُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال فَإِذًا: لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لاَزِمٍ (4) .
ب - أَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى إِلاَّ مُخَالَفَةُ الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ قَال
__________
(1) الدر المختار 5 / 80، ومغني المحتاج 3 / 289.
(2) مغني المحتاج 3 / 290.
(3) حاشية عميرة 2 / 142.
(4) الموافقات 1 / 336.(28/194)
أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) . مَعْنَى الضَّرُورَةِ - هُنَا -: هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الأَْكْل وَقَدِ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُل فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَكِلاَ الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالآْيَةِ عِنْدَنَا (2) .
ج - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مُرَاعَاةُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَتَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الأَْصْل قَرَّرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ (3) .
د - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ مَبْدَأَ دَرْءِ الأَْفْسَدِ فَالأَْفْسَدِ، وَالأَْرْذَل فَالأَْرْذَل، فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل مُسْلِمٍ بِحَيْثُ لَوِ امْتَنَعَ مِنْهُ قُتِل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْرَأَ مَفْسَدَةَ الْقَتْل بِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْل، لأَِنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْقَتْل أَقَل
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 150 ط. البهية.
(3) غمز عيون البصائر 1 / 276 - 277 نشر دار الكتب العلمية - بيروت.(28/195)
مَفْسَدَةً مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ دَرْءُ الْقَتْل بِالصَّبْرِ، لإِِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْل، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الاِسْتِسْلاَمِ لِلْقَتْل فَوَجَبَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى وُجُوبِ دَرْئِهَا عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُوبِ دَرْئِهَا (1) .
هـ - أَلاَّ يَقْدَمَ الْمُضْطَرُّ عَلَى فِعْلٍ لاَ يَحْتَمِل الرُّخْصَةَ بِحَالٍ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الإِْكْرَاهُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنْوَاعٌ:
نَوْعٌ يُرَخَّصُ لَهُ فِعْلُهُ وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَشَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ الصَّلاَةِ، وَكُل مَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ.
وَنَوْعٌ يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِإِتْيَانِهِ كَالزِّنَى وَقَتْل مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوِهِ، أَوْ ضَرْبِهِ ضَرْبًا مُتْلِفًا، أَوْ شَتْمِهِ أَوْ أَذِيَّتِهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وَالأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا (ر: مُصْطَلَح: رُخْصَة) .
9 - حَالاَتُ الضَّرُورَةِ:
بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 79.
(2) بدائع الصنائع 7 / 177.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 83.(28/195)
أَهَمَّ حَالاَتِ الضَّرُورَةِ عِبَارَةٌ عَنِ: -
1 - الاِضْطِرَارِ إِلَى تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.
2 - الاِضْطِرَارِ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي.
3 - الاِضْطِرَارِ إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ فِعْل فَاحِشَةٍ.
4 - الاِضْطِرَارِ إِلَى أَخْذِ مَال الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ.
5 - الاِضْطِرَارِ إِلَى قَوْل الْبَاطِل (1) .
10 - الْحَالَةُ الأُْولَى:
الاِضْطِرَارُ إِلَى تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ (2) . لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ، وَمِقْدَارِ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا،
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2 / 225، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55 ط. عيسى الحلبي. هذا وقد ذكر بعض المعاصرين المرض، والسفر، والنسيان والجهل، والعسر وعموم البلوى والنقص ضمن حالات الضرورة، والواقع أن هذه الحالات وما شابهها وإن كانت من الأعذار التي جعلت سببا للتخفيف عن العباد إلا أنها ل
(2) المغني لابن قدامة 8 / 595، والقوانين الفقهية ص 178 نشر الدار العربية للكتاب، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، ومغني المحتاج 4 / 306، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 147 ط. البهية.(28/196)
وَتَفْصِيل الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي تُبِيحُهَا الضَّرُورَةُ وَتَرْتِيبِهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ، وَأَثَرِ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ:
أ - الْمَيْتَةُ:
إِذَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الاِضْطِرَارُ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فِي مَخْمَصَةٍ، أَوْ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ، فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا أَمْ يَجُوزُ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الأَْكْل حَتَّى يَمُوتَ؟ .
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْل الْمَيْتَةِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلاَكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا فَلَمْ يَأْكُل وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا (2) ، قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلاً لِنَفْسِهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 215، والدسوقي 2 / 115، والمغني 8 / 596، واختيارات ابن تيمية ص 321، والمقنع 3 / 531، والمهذب 1 / 250
(2) المبسوط للسرخسي 24 / 151، وابن عابدين 5 / 215.
(3) سورة البقرة / 195.(28/196)
مُلْقِيًا بِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ، لأَِنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُل فِعْلٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الإِْنْسَانِ، وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلاَلٌ (1) .
وَقَال كُلٌّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي وَجْهٍ - وَأَبُو يُوسُفَ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - إِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ، فَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنَاوُل فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَمَاتَ. " فَلاَ إِثْمَ وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بِيَعٍ، وَجَعَل مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُل وَلَمْ يَشْرَبْ، حَتَّى مَال رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشُوا مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَال: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي لأَِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأُِشْمِتَكَ بِدِينِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الأَْكْل رُخْصَةٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ الرُّخَصِ، وَلأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلاَل فِي الأَْصْل مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ (3) .
__________
(1) المغني 8 / 596.
(2) قصة عبد الله بن حذافة السهمي. أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (ترجمة عبد الله بن حذافة ص 134 - 135 ط. دار الفكر) ، وفي إسنادها انقطاع بين عبد الله بن حذافة والراوي عنه وهو الزهري.
(3) تبيين الحقائق 5 / 185 والمغني 8 / 596 ط الرياض والمهذب 1 / 250.(28/197)
مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْل مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ (1) . وَاخْتَلَفُوا فِي الشِّبَعِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ - وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَلاَ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ، لأَِنَّ آيَةَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتَثْنَتْ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ لَمْ يَحِل لَهُ الأَْكْل لِلآْيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَحَالِهِ قَبْل أَنْ يُضْطَرَّ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الأَْكْل كَذَا هَاهُنَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ لإِِطْلاَقِ الآْيَةِ، وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً نَزَل الْحَرَّةَ فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ:
__________
(1) المغني 8 / 595، ومغني المحتاج 4 / 307.
(2) سورة البقرة / 173.
(3) غمز عيون البصائر 1 / 277، ومغني المحتاج 4 / 307، والأشباه للسيوطي ص 84، والمغني 8 / 595، والقرطبي 2 / 228، والدسوقي 2 / 115.(28/197)
اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَال: هَل عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قَال: لاَ، قَال: فَكُلُوهَا (1) وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلأَِنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، وَلأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَال، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ الشِّبَعُ، لأَِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ، بِخِلاَفِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِل (3) .
ب - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول لِلضَّرُورَةِ:
كُل حَيَوَانٍ حَيٍّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " أن رجلا نزل الحرة. . ". أخرجه أبو داود (4 / 166 - 167) .
(2) حاشية الدسوقي 2 / 115، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55 - 56، ومغني المحتاج 4 / 307، والمغني 8 / 595.
(3) المغني 8 / 595.(28/198)
لاَ تُؤْكَل يَحِل لِلْمُضْطَرِّ قَتْلُهُ بِذَبْحٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَبْحٍ، لِلتَّوَصُّل إِلَى أَكْلِهِ.
قَال الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لآِيَاتِ الضَّرُورَةِ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الآْيَاتِ، وَأَطْلَقَ الإِْبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا، لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلاَ صِفَةٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ الإِْبَاحَةِ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِي كُل حَالٍ وُجِدَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا (2) .
ج - تَنَاوُل مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ:
تَنَاوُل مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ يَقْتُل الإِْنْسَانَ إِذَا تَنَاوَلَهُ كَالسُّمُومِ، فَإِنَّهُ لاَ تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، لأَِنَّ تَنَاوُلَهُ اسْتِعْجَالٌ لِلْمَوْتِ، وَقَتْلٌ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَالآْخَرُ: مَا حُرِّمَ لِنَجَاسَتِهِ وَيُمَثِّل لَهُ الْفُقَهَاءُ بِالتِّرْيَاقِ الْمُشْتَمِل عَلَى خَمْرٍ وَلُحُومِ حَيَّاتٍ: (ر: سُمٌّ) .
د - شُرْبُ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ وَالْغَصَصِ:
يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ شُرْبُ الْخَمْرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 147 ط. المطبعة البهية، والمجموع 1 / 43 - 44.(28/198)
غَيْرَهَا لإِِسَاغَةِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ ضَرُورَةَ الْغَصَصِ تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلاَ تَمْنَعُ الْحُرْمَةَ (1) .
وَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعَطَشِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ شُرْبِ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ تَرُدُّ ذَلِكَ الْعَطَشَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ (3) .
هـ - تَنَاوُل الْمُضْطَرِّ لَحْمَ إِنْسَانٍ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ آدَمِيًّا حَيًّا مَحْقُونَ الدَّمِ لَمْ يُبَحْ لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ إِتْلاَفُ عُضْوٍ مِنْهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لأَِنَّهُ مِثْلُهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ نَفْسَهُ بِإِتْلاَفِهِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 412، والدسوقي 4 / 352، والفواكه الدواني 2 / 289، وكشاف القناع 6 / 117، ومغني المحتاج 4 / 188.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 412 ومغني المحتاج 4 / 188.
(3) الدسوقي 4 / 353، والفواكه الدواني 2 / 289، وتفسير ابن العربي 1 / 56، ومغني المحتاج 4 / 22، والأم 2 / 253، وحلية العلماء 3 / 416.
(4) والمغني 8 / 601، المجموع 9 / 44.(28/199)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَجَدَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، مَيِّتًا فَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَأَشْهَرِهِمَا أَكْلَهُ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ - أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ لَهُ أَكْل ابْنِ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا (3) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ جَوَّزْنَا الأَْكْل مِنَ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ بِلاَ خِلاَفٍ، حِفْظًا لِلْحُرْمَتَيْنِ.
قَال: لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ طَبْخُهُ وَشَيُّهُ، بَل يَأْكُلُهُ نِيئًا، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَفِي طَبْخِهِ هَتْكٌ لِحُرْمَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَيْتَاتِ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَهَا نِيِّئَةً وَمَطْبُوخَةً (4) .
11 - تَرْتِيبُ الْمُحَرَّمَاتِ:
إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً - وَنَحْوَهَا - مِنْ مَحْظُورَاتِ الأَْطْعِمَةِ وَالأَْشْرِبَةِ وَوَجَدَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لِلْغَيْرِ فَأَيُّهُمَا يَأْخُذُهُ؟
__________
(1) المجموع 9 / 44، والمغني 8 / 602.
(2) المجموع 9 / 44، وتفسير القرطبي 2 / 229، والمغني 8 / 602.
(3) حديث: " كسر عظم الميت ككسره حيا. ". أخرجه أبو داود (3 / 544) من حديث عائشة، وحسنه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 54) .
(4) المجموع 9 / 44.(28/199)
ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُل طَعَامِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، لأَِنَّ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ، وَإِبَاحَةَ مَال الْغَيْرِ بِالاِجْتِهَادِ، وَالنَّصُّ أَقْوَى، وَلأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَحُقُوقَ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ، وَلأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتُهُ وَحَقَّ اللَّهِ لاَ عِوَضَ لَهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ مَنْ وَجَدَ طَعَامَ الْغَيْرِ لاَ تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَل، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ تَقْدِيمَ طَعَامِ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ نَدْبًا إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ أَوِ الضَّرْبَ أَوِ الأَْذَى وَإِلاَّ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ (3) .
وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُل الْمَيْتَةَ وَلاَ يَقْرَبُ ضَوَال الإِْبِل - وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ - وَيَشْرَبُ الْبَوْل وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، لأَِنَّ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 288، ومغني المحتاج 4 / 309، والمجموع 9 / 53، والمغني 8 / 600.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 288 - 289، والمغني 8 / 600، والمجموع 9 / 53.
(3) الدسوقي 2 / 116، والقرطبي 2 / 229.(28/200)
الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ أَغْلَظُ (1) .
وَالْمُضْطَرُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَوَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا صَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ أَعَانَ عَلَى صَيْدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ الْحَيِّ الَّذِي صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ يَأْكُل الصَّيْدَ وَيَفْدِيهِ، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُهُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لاَ تَحِل الْمَيْتَةُ لِغِنَاهُ عَنْهَا (3) .
12 - أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:
قَال شَارِحُ أُصُول الْبَزْدَوِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ، فَهَل تَصِيرُ مُبَاحَةً، أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الإِْثْمُ؟
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِل لَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْل إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
__________
(1) القرطبي 2 / 288.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 289، والدسوقي 2 / 116، ومغني المحتاج 4 / 309، والمغني 8 / 601.
(3) مغني المحتاج 4 / 309، والمغني 8 / 601، وغمز عيون البصائر 1 / 289.(28/200)
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا (الْحَنَفِيَّةُ) إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (1) .
ثُمَّ ذَكَرَ لِلْخِلاَفِ فَائِدَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى الأَْوَّل بِخِلاَفِهِ عَلَى الآْخَرِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل حَرَامًا فَتَنَاوَلَهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأَْوَّل وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ، وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
13 - تَنَاوُل الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الأَْكْل مِنَ الْمَيْتَةِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} قَال مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَادٍ عَلَيْهِمْ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ حَل لَهُ الأَْكْل (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ -
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 642 ط الصنايع 1307 هـ.
(2) كشف الأسرار 1 / 662، وسلم الأصول لشرح نهاية السول 1 / 121 - 122 ط. عالم الكتب.
(3) المغني 8 / 597، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 58، والقوانين الفقهية ص 178 نشر الدار العربية للكتاب.(28/201)
وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِأَكْل الْمَيْتَةِ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ حَوْل اسْتِبَاحَةِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ (1) .
رُخَصُ السَّفَرِ يُنْظَرُ فِي: (سَفَرٌ) .
14 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي:
يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا لِضَرُورَةِ التَّدَاوِي (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ (3) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلأَِنَّ فِي التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُل مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَةٌ) .
__________
(1) تفسير الجصاص 1 / 147، والقوانين الفقهية ص 178، وتفسير القرطبي 2 / 232، ومغني المحتاج 1 / 268.
(2) المبسوط للسرخسي 10 / 156 وبدائع الصنائع 5 / 124، ومغني المحتاج 3 / 133، والمغني 6 / 558، وكشاف القناع 1 / 265.
(3) المغني 6 / 558.
(4) مغني المحتاج 3 / 133.(28/201)
15 - الاِضْطِرَارُ إِلَى الْعِلاَجِ بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ - إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الاِسْتِشْفَاءِ بِالْحَرَامِ عِنْدَ تَيَقُّنِ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، وَلاَ يُجِيزُونَ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لاَ يُتَيَقَّنُ حُصُول الشِّفَاءِ بِهِ (3) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ تَيَقُّنَ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ وَعَدَمَ وُجُودِ دَوَاءٍ غَيْرِهِ (4) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْمُسْكِرِ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 441، والفروع 2 / 165، وكشاف القناع 6 / 116، والمجموع 9 / 50.
(2) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البخاري (10 / 78) معلقا، ووصله الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفا عليه في كتاب الأشربة (ص 63) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 79) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 61.
(4) ابن عابدين 4 / 113، 215.
(5) المجموع 9 / 50.(28/202)
وَالنَّجِسِ وَحُكْمِ التَّدَاوِي بِهِ لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ: (ر: تَدَاوِي) .
16 - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى إِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوِ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ:
الْقَتْل تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ،
وَالأُْخْرَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلاَ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلاَءِ الَّذِي نَزَل بِهِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَل اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) .
قَال الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَوْ قَال لَكَ ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ تَقْتُل فُلاَنًا أَوْ تَقْطَعْهُ قَتَلْتُكَ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قِيل لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَرْضَى بِقَتْل نَفْسِهِ وَيَصْبِرَ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَتْل، أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 183، وانظر تبيين الحقائق 5 / 186، ومجمع الأنهر 2 / 417، والشرح الصغير 2 / 549، وشرح الزرقاني 4 / 88، والمغني 7 / 645، ونهاية المحتاج 7 / 245، و 248.
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 549.(28/202)
تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَقِصَاصٌ) .
الْقَتْل لِضَرُورَةِ الدِّفَاعِ:
إِذَا صَال صَائِلٌ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا وُجُوبَ دَفْعِ الصَّائِل بِمَا إِذَا كَانَ الصَّائِل كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - أَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: صِيَالٌ) .
الزِّنَى تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الزِّنَى لاَ يُبَاحُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 92 - 93، ومغني المحتاج 4 / 194، ومواهب الجليل 6 / 323، والمغني 8 / 329 - 330، والإنصاف 10 / 303 مطبعة السنة المحمدية وكشاف القناع 6 / 154 نشر عالم الكتب.
(2) مغني المحتاج 4 / 195، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 242، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 487 - 488 ومواهب الجليل 6 / 323، والإنصاف 10 / 304.
(3) مواهب الجليل 6 / 323، والإنصاف 10 / 304.(28/203)
وَلاَ يُرَخَّصُ لِلرَّجُل بِالإِْكْرَاهِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا، وَلَوْ فَعَل يَأْثَمُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه وَزِنًى) .
17 - الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى أَخْذِ مَال الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ:
إِذَا اضْطُرَّ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَال الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَاتَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بِذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْل مَنَافِعِهِ وَإِنْجَاؤُهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ عَنْ بَذْلِهِ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْل الْمُضْطَرِّ (1) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 250، ومغني المحتاج 4 / 308، وتفسير الجصاص 1 / 153، والقواعد لابن رجب ص 228، والدسوقي 4 / 242، والمغني 6 / 602.
(2) حديث: " من أعان على قتل مؤمن. . . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 83) .(28/203)
فَإِنْ لَمْ يَبْذُل فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ كَغَيْرِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى قِتَالٍ فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ آل أَخْذُهُ إِلَى قَتْل صَاحِبِهِ فَهُوَ هَدْرٌ، لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ فَأَشْبَهَ الصَّائِل، إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِشِرَاءٍ أَوِ اسْتِرْضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، لإِِمْكَانِ الْوُصُول إِلَيْهِ دُونَهَا (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ الاِضْطِرَارِ فِي إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ يُنْظَرُ فِي: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ لِضَرُورَةِ إِنْقَاذِ السَّفِينَةِ:
إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الإِْلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ، لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ أُلْقِيَتْ لإِِنْقَاذِ الآْدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ، وَلاَ سَبِيل لِطَرْحِ الآْدَمِيِّ بِحَالٍ
__________
(1) المغني 8 / 602، والمبسوط 24 / 73، والفروق للقرافي 1 / 196، ومغني المحتاج 4 / 308.(28/204)
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (1) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى إِتْلاَفِ مَال مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَضَمَانٌ) .
18 - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَوْل الْبَاطِل:
النُّطْقُ بِالْكُفْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشَى عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْل لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، وَلاَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ، وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِل كَانَ شَهِيدًا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ ف 13، وَإِكْرَاهٌ ف 24)
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 338، ومطالب أولي النهى 4 / 95، وحاشية الدسوقي 4 / 27، وابن عابدين 5 / 172.
(2) مجمع الضمانات ص 205، والقواعد لابن رجب ص 286.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 115، وروضة الطالبين 10 / 72، وكشاف القناع 6 / 185، والإقناع 4 / 306، وجواهر الإكليل 1 / 340 - 341.(28/204)
الاِضْطِرَارُ إِلَى الْكَذِبِ:
يَحِل الْكَذِبُ فِي أُمُورٍ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُول خَيْرًا وَيُنْمِي خَيْرًا. (1)
قَال ابْنُ شِهَابٍ - أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ -: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُول النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الْحَرْبُ وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُل امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَذِبَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوُجُوبِ فِي حِفْظِ الأَْمْوَال وَالأَْبْضَاعِ وَالأَْرْوَاحِ (2) .
الاِضْطِرَارُ إِلَى التَّقِيَّةِ:
تَجُوزُ التَّقِيَّةُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهَا دَفْعًا لِتَلَفِ النَّفْسِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال التَّقِيَّةِ
__________
(1) حديث أم كلثوم: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس. ". أخرجه مسلم (4 / 2011) .
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1 / 96 - 97 ط. دار الكتب العلمية) .(28/205)
وَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ: (ر: تَقِيَّةٌ فِقْرَةُ 5) .
19 - الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ النَّاظِمَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرُورَةِ:
وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الضَّرُورَةِ، وَتَوْضِيحِ مَعَالِمِهَا الْعَامَّةِ وَتَنْظِيمِ آثَارِهَا، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:
الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ (2) .
الأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.
هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى (5) . قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ
__________
(1) المبسوط 24 / 47، وتفسير القرطبي 4 / 57.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 245 وما بعدها والأشباه للسيوطي ص 76 - 80.
(3) سورة البقرة / 185.
(4) سورة الحج / 78.
(5) شرح المجلة للآتاسي 1 / 50.(28/205)
النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الأَْسْبَابِ وَضَوَابِطِ الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ: (ر: تَيْسِيرٌ. فِقْرَةُ 32 - 41) .
إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ:
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَآل، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أ - شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَال دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
ب - قَبُول شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ.
ح - إِبَاحَةُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ بَيْتِهَا أَيَّامَ عِدَّتِهَا إِذَا اضْطُرَّتْ لِلاِكْتِسَابِ (2) .
الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ:
قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (3) وَالاِضْطِرَارُ: الْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمَحْظُورُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 271.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 51، وغمز عيون البصائر 1 / 273.
(3) سورة الأنعام / 119.(28/206)
الْمَنْهِيُّ عَنْ فِعْلِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (1) .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَعَلَّقُ أَصْلاً بِقَاعِدَةِ (الضَّرَرُ يُزَال) وَمِنْ فُرُوعِهَا: جَوَازُ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا:
مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُل فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ فَالتَّجْوِيزُ عَلَى قَدْرِهَا وَلاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهَا (2) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ حَال الْحَرْبِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَال الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِالرَّمْيِ عَلَيْهِمْ لِضَرُورَةِ إِقَامَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الأَْطْفَال، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ: (ر: دِيَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ) .
مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَل بِزَوَالِهِ:
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، فَالْقَاعِدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ يُعْمَل بِهَا أَثْنَاءَ قِيَامِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُبَيِّنُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ بَعْدَ زَوَال حَال الضَّرُورَةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا جَازَ فِعْلُهُ بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، أَوْ عَارِضٍ طَارِئٍ مِنَ الْعَوَارِضِ فَإِنَّهُ تَزُول مَشْرُوعِيَّتُهُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 275 - 276، والأشباه للسيوطي.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 56، والأشباه للسيوطي ص 84.(28/206)
بِزَوَال حَال الْعُذْرِ، لأَِنَّ جَوَازَهُ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الْعُذْرِ فَهُوَ خَلَفٌ عَنْ الأَْصْل الْمُتَعَذِّرِ، فَإِذَا زَال الْعُذْرُ أَمْكَنَ الْعَمَل بِالأَْصْل، فَلَوْ جَازَ الْعَمَل بِالْخَلَفِ - أَيْضًا - لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالأَْصْل فَلاَ يَجُوزُ كَمَا لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ (1) .
الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ:
الاِضْطِرَارُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقْتَضِي تَغْيِيرَ الْحُكْمِ مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الإِْبَاحَةِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّرْخِيصُ فِي فِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ - كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ - إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى كُل حَالٍ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ لَكَانَ مِنْ قَبِيل إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ بِسَبَبِ الْجُوعِ فَأَكَل طَعَامَ آخَرَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فِي الْقِيمِيَّاتِ وَمِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: إِتْلاَفٌ وَضَمَانٌ) .
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 1 / 59 - 60.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 76 - 77، والفروق للقرافي 1 / 196، والقواعد لابن رجب الحنبلي ص 286.(28/207)
ضَرُورِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرُورِيَّاتُ: جَمْعُ ضَرُورِيٍّ وَالضَّرُورِيَّاتُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هِيَ: الأُْمُورُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ، وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ (1) وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْل، وَالنَّسَبِ، وَالْمَال، وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنَ الْعَالِي إِلَى النَّازِل هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ (2) . وَهُوَ - أَيْضًا - مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى مَعَ اسْتِبْدَال لَفْظِ النَّسْل بِلَفْظِ النَّسَبِ (3) .
وَرَتَّبَهَا الشَّاطِبِيُّ تَرْتِيبًا آخَرَ فَقَال: مَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْل، وَالْمَال، وَالْعَقْل، فَأَخَّرَ الْعَقْل عَنِ النَّسْل وَالْمَال (4) .
__________
(1) الموافقات 2 / 8.
(2) فواتح الرحموت 2 / 262.
(3) المستصفى 1 / 286.
(4) الموافقات 2 / 10.(28/207)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاجِيَّاتُ:
2 - الْحَاجِيُّ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى الْحَاجَةِ وَهِيَ: الاِحْتِيَاجُ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ (1) .
وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ وَلَكِنَّهُ لاَ يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَهِيَ لاَ تَصِل إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ.
ب - التَّحْسِينِيَّاتُ:
3 - التَّحْسِينِيَّاتُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ الْحُسْنِ، وَالْحُسْنُ لُغَةً: الْجَمَال، أَوْ هُوَ ضِدُّ الْقُبْحِ، وَالتَّحْسِينُ: التَّزْيِينُ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هِيَ الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الأَْحْوَال الْمُدَنَّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُول الرَّاجِحَاتُ،
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والكليات للكفوي مادة (حوج) .
(2) الموافقات 2 / 10.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.(28/208)
وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (1) .
أَوْ هِيَ: مَا لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ وَلاَ حَاجَةٌ، وَلَكِنْ تَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّيْسِيرِ، وَرِعَايَةُ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ التَّحْسِينِيَّاتُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ.
ج - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ:
4 - فِي اللُّغَةِ: صَلَحَ الشَّيْءُ صُلُوحًا وَصَلاَحًا، خِلاَفُ فَسَدَ، وَفِي الأَْمْرِ مَصْلَحَةٌ، أَيْ: خَيْرٌ، وَالْجَمْعُ: الْمَصَالِحُ (3) .
وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا لاَ يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّارِعِ لاَ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ (4) .
وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، لأَِنَّهَا تَشْمَل الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ والتَّحْسِينِيَّاتِ.
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
أ - الْمُحَافَظَةُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ:
5 - الضَّرُورِيَّاتُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي
__________
(1) الموافقات 2 / 11.
(2) المستصفى 1 / 286 - 290، والإحكام للآمدي (3 / 49 ط. صبيح) .
(3) المصباح المنير.
(4) جمع الجوامع 2 / 284 وإرشاد الفحول / 218.(28/208)
قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
قَال الشَّاطِبِيُّ: وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ.
وَالثَّانِي: مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الاِخْتِلاَل الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.
فَأُصُول الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، كَالإِْيمَانِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ - أَيْضًا - كَتَنَاوُل الْمَأْكُولاَتِ، وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْمُعَامَلاَتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْل وَالْمَال مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل - أَيْضًا - لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَادَاتِ.
وَالْجِنَايَاتُ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.
وَقَدْ سَبَقَتِ الأَْمْثِلَةُ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ: فَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ الإِْنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ كَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ الأَْبْضَاعِ.(28/209)
وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالإِْبْطَال، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ الإِْبْطَال وَيَتَلاَفَى تِلْكَ الْمَصَالِحَ كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ لِلْعَقْل وَالنَّسْل، وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ لِلْمَال (1) .
ب - رُتْبَةُ الضَّرُورِيَّاتِ:
6 - الضَّرُورِيَّاتُ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ قَسَّمَ الْغَزَالِيُّ الْمَصْلَحَةَ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي ذَاتِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ.
ب - رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ.
ج - رُتْبَةِ التَّحْسِينِيَّاتِ.
ثُمَّ قَال: وَالْمَقْصُودُ بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ - وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ، وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ.
هَذِهِ الأُْصُول الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ.
وَيَلِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْحَاجِيَّاتُ ثُمَّ التَّحْسِينِيَّاتُ (2) .
__________
(1) الموافقات 2 / 8 - 10، والمستصفى 1 / 286 - 287، وفواتح الرحموت 2 / 262.
(2) المستصفى 1 / 286، وفواتح الرحموت 2 / 262.(28/209)
ج - الاِحْتِجَاجُ بِالضَّرُورِيَّاتِ:
7 - الضَّرُورِيَّاتُ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي الاِحْتِجَاجِ بِهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ.
فَقَال الْغَزَالِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَمِثَال ذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا تَتَرَّسُوا بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ لَصَدَمُونَا، وَغَلَبُوا عَلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَقَتَلُوا كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا مَعْصُومًا لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَهَذَا لاَ عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَفَفْنَا لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ يَقْتُلُونَ الأَْسَارَى أَيْضًا.
لَكِنْ الْغَزَالِيُّ إِنَّمَا يَعْتَبِرُهَا بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ قَال: وَانْقَدَحَ اعْتِبَارُهَا بِاعْتِبَارِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ: أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً (1) .
وَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُل لِتَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَمَلاً بِالاِسْتِقْرَاءِ، فَمَهْمَا وَجَدْنَا مَصْلَحَةً غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ: فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى 1 / 294 - 296، والذخيرة / 142.
(2) الذخيرة / 142، وهامش الفروق 4 / 70.(28/210)
د - الضَّرُورِيَّاتُ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ:
8 - الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ. وَالتَّحْسِينِيَّة فَلَوْ فُرِضَ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِإِطْلاَقٍ لاَخْتَل الْحَاجِيُّ وَالتَّحْسِينِيُّ بِإِطْلاَقٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِإِطْلاَقٍ - وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ بِإِطْلاَقٍ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ - فَالْحَاجِيُّ يَخْدُمُ الضَّرُورِيَّ، وَالضَّرُورِيُّ هُوَ الْمَطْلُوبُ لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَإِذَا اعْتُبِرَ قِيَامُ هَذَا الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا انْخَرَمَتْ لَمْ يَبْقَ لِلدُّنْيَا وُجُودٌ، (أَيْ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكْلِيفِ) .
وَكَذَلِكَ الأُْمُورُ الأُْخْرَوِيَّةُ لاَ قِيَامَ لَهَا إِلاَّ بِذَلِكَ، فَلَوْ عُدِمَ الدِّينُ عُدِمَ تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ الْمُرْتَجَى، وَلَوْ عُدِمَ الْمُكَلَّفُ لَعُدِمَ مَنْ يَتَدَيَّنُ، وَلَوْ عُدِمَ الْعَقْل لاَرْتَفَعَ التَّدَيُّنُ، وَلَوْ عُدِمَ النَّسْل لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ، وَلَوْ عُدِمَ الْمَال لَمْ يَبْقَ عَيْشٌ، فَلَوِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَقَاءٌ، وَهَذَا(28/210)
كُلُّهُ مَعْلُومٌ لاَ يَرْتَابُ فِيهِ مَنْ عَرَفَ تَرْتِيبَ أَحْوَال الدُّنْيَا وَأَنَّهَا زَادٌ لِلآْخِرَةِ (1) .
هـ - اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ:
9 - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِلْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ وَأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِهِ، أَوْ فَرْعَيْنِ مِنْ فُرُوعِهِ، لَزِمَ مِنَ اخْتِلاَلِهِ اخْتِلاَلُهُمَا؛ لأَِنَّ الأَْصْل إِذَا اخْتَل اخْتَل الْفَرْعُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَ أَصْل الْبَيْعِ مِنَ الشَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، وَلَوِ ارْتَفَعَ أَصْل الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَهَكَذَا (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ: (فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.)
__________
(1) الموافقات 2 / 16 - 17.
(2) الموافقات 2 / 17.(28/211)
ضِفْدَعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
ضَفَائِرُ
انْظُرْ: شَعْرٌ، غَسْلٌ(28/211)
ضِلْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضِّلْعُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِهَا - لُغَتَانِ بِمَعْنَى: مَحْنِيَّةِ الْجَنْبِ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا: أَضْلُعٌ وَأَضَالِعُ وَأَضْلاَعٌ وَضُلُوعٌ وَهِيَ عِظَامُ الْجَنْبَيْنِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالضِّلْعِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى الضِّلْعِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ - بِمَا فِيهَا الضِّلْعُ - لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ (2) وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي (3) .
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة والمصباح المنير مادة (ضلع) .
(2) حديث: " لا قصاص في العظم ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 350) وقال: (غريب) يعني أنه لا أصل له كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه، ثم ذكر أن ابن أبي شيبة أسند عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنا لا نقيد من العظام، وعن ابن عباس أنه قال: ليس في العظام قصاص.
(3) ابن عابدين 5 / 254، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 485، وروضة الطالبين 9 / 183، والدسوقي 4 / 253.(28/212)
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 31) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ كَسْرِ الضِّلْعِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ - إِلَى أَنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْل، لأَِنَّهُ كَسْرُ عَظْمٍ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَكَسْرِ عَظْمِ السَّاقِ (1) .
وَقَدْ قَيَّدَ الإِْمَامُ مَالِكٌ وُجُوبَ حُكُومَةِ الْعَدْل فِي كَسْرِ الضِّلْعِ إِذَا بَرَأَ عَلَى عَثَلٍ (2) وَإِذَا بَرَأَ عَلَى غَيْرِ عَثَلٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ كَمَا قَال السُّيُوطِيُّ - أَنَّهُ يَجِبُ فِي كَسْرِ الضِّلْعِ جَمَلٌ (4) ، لِمَا رَوَى أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ وَفِي الضِّلْعِ بِجَمَلٍ (5) .
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 394، والمدونة 6 / 322، والشرح الصغير 4 / 381، والمهذب 2 / 208 - 209، والإنصاف (10 / 114 نشر دار إحياء التراث العربي) والإفصاح لابن هبيرة (2 / 207 نشر المؤسسة السعيدية بالرياض) .
(2) أي جبرت على غير استواء - لسان العرب مادة (عثل) .
(3) المدونة (6 / 322 ط السعادة) .
(4) المهذب 2 / 208 - 209.
(5) أثر أسلم (أن عمر قضى في الترقوة بجمل. . .) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9 / 362، 367) .(28/212)
وَلِلتَّفْصِيل فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْل وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .(28/213)
ضِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ (الضِّمَارِ) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى: كُل شَيْءٍ لَسْتَ مِنْهُ عَلَى ثِقَةٍ (1) .
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الضِّمَارُ مَا لاَ يُرْجَى مِنَ الدَّيْنِ وَالْوَعْدِ، وَكُل مَا لاَ تَكُونُ مِنْهُ عَلَى ثِقَةٍ (2) .
كَذَلِكَ يُطْلَقُ الضِّمَارُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: خِلاَفِ الْعِيَانِ، وَعَلَى: النَّسِيئَةِ أَيْضًا (3) ، وَقِيل: أَصْل الضِّمَارِ مَا حُبِسَ عَنْ صَاحِبِهِ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ (4) .
وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الإِْضْمَارِ، وَهُوَ التَّغَيُّبُ وَالاِخْتِفَاءُ، وَمِنْهُ أَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا (5) .
أَمَّا الضِّمَارُ مِنَ الْمَال: فَهُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ، فَإِذَا رُجِيَ فَلَيْسَ بِضِمَارٍ (6) .
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 129، المغرب للمطرزي 2 / 12.
(2) الصحاح (مادة: ضمر) 2 / 722، وانظر لسان العرب (مادة: ضمر) .
(3) مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 58، وانظر لسان العرب.
(4) مشارق الأنوار 2 / 58.
(5) المغرب 2 / 12.
(6) المصباح المنير 2 / 430، لسان العرب، مشارق الأنوار 2 / 58، المغرب 2 / 12، غريب الحديث لأبي عبيد 4 / 417.(28/213)
2 - وَاصْطِلاَحًا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ (الْمَال الضِّمَارَ) عَلَى الْمَال الَّذِي لاَ يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنَ اسْتِنْمَائِهِ، لِزَوَال يَدِهِ عَنْهُ، وَانْقِطَاعِ أَمَلِهِ فِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ (1) .
وَعَلَى هَذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ (الْمُحِيطِ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: هُوَ كُل مَا بَقِيَ أَصْلُهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَكِنْ زَال عَنْ يَدِهِ زَوَالاً لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ فِي الْغَالِبِ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: هُوَ كُل مَالٍ غَيْرِ مَقْدُورِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْل الْمِلْكِ (3) وَفِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: هُوَ: مَالٌ زَائِلٌ عَنِ الْيَدِ، غَيْرُ مَرْجُوِّ الْوُصُول غَالِبًا (4) .
3 - وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلْمَال الضِّمَارِ صُوَرًا عَدِيدَةً أَهَمُّهَا:
(أ) الْمَال الْمَغْصُوبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْغَاصِبِ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ بِضِمَارٍ (5) .
(ب) الْمَال الْمَفْقُودُ، كَبَعِيرٍ مَفْقُودٍ، إِذْ هُوَ
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 2 / 106.
(2) انظر الفتاوى الهندية 1 / 174.
(3) بدائع الصنائع 2 / 9، وانظر البحر الرائق 2 / 222، رد المحتار 2 / 9.
(4) مجمع الأنهر 1 / 194.
(5) البناية على الهداية 3 / 25، رد المحتار 2 / 9، شرح الوقاية لصدر الشريعة 1 / 98، الفتاوى الهندية 1 / 174، مجمع الأنهر 1 / 194، البحر الرائق 2 / 223، الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 2 / 122 ط (الميمنية 1319 هـ) .(28/214)
كَالْهَالِكِ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ (1) .
(ج) الْمَال السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ (2) .
(د) الْمَال الْمَدْفُونُ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ صَحْرَاءَ إِذَا نَسِيَ صَاحِبُهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ زَمَانٍ (3) .
(هـ) الْمَال الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً ظُلْمًا، ثُمَّ وَصَل إِلَيْهِ بَعْدَ سِنِينَ (4) .
(و) الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ الَّذِي جَحَدَهُ الْمَدِينُ سِنِينَ عَلاَنِيَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، ثُمَّ صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بَعْدَ سِنِينَ، بِأَنْ أَقَرَّ الْجَاحِدُ عِنْدَ قَوْمٍ بِهِ (5) .
(ز) الْمَال الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ (6) .
(ح) الْمَال الْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ إِذَا نَسِيَ شَخْصَهُ سِنِينَ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ (7) .
4 - وَيُلاَحَظُ بِالتَّأَمُّل فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.
(4) الفرق بين المصادرة والغصب كما قال ابن عابدين في رد المحتار 2 / 9 أن المصادرة: أن يأمره بأن يأتي بالمال، والغصب: أخذ المال مباشرة على وجه القهر.
(5) مجمع الأنهر 1 / 194، الفتاوى الهندية 1 / 174، رد المحتار 2 / 9، البناية على الهداية 3 / 25، الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 2 / 121، شرح الوقاية لصدر الشريعة 1 / 98.
(6) المراجع السابقة.
(7) فتح القدير 2 / 121 (الميمنية 1319 هـ) .(28/214)
ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَال الضِّمَارَ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا يَئِسَ صَاحِبُهَا مِنَ الْوُصُول إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا لاَ يُرْجَى لِجُحُودِ الْمَدِينِ وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ فِي الدُّيُونِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَال: أَخَذَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَال رَجُلٍ مِنْ أَهْل الرَّقَّةِ يُقَال لَهُ أَبُو عَائِشَةَ، عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ الْمَال، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ وَلَدُهُ، فَرَفَعُوا مَظْلِمَتَهُمْ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى مَيْمُونٍ أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَخُذُوا زَكَاةَ عَامِهِمْ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مَالاً ضِمَارًا أَخَذْنَا مِنْهُ زَكَاةَ مَا مَضَى (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَال: إِذَا حَضَرَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤَدِّي الرَّجُل فِيهِ زَكَاتَهُ أَدَّى عَنْ كُل مَالٍ وَعَنْ كُل دَيْنٍ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْهُ ضِمَارًا لاَ يَرْجُوهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّيْنُ:
5 - هُوَ: كُل مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 3 / 202، الأموال لابن زنجويه، 3 / 957، الأموال لأبي عبيد ص 590، الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر 1 / 249، غريب الحديث لأبي عبيد 4 / 417، فتح القدير 2 / 123.
(2) الدراية لابن حجر 1 / 250، البناية على الهداية 3 / 26، فتح القدير 2 / 123، وانظر الأموال لابن زنجويه 3 / 956، الأموال لأبي عبيد ص 590.(28/215)
بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ (1) . (ر: دَيْنٌ) .
ب - الْعَيْنُ:
6 - هِيَ: الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ، كَبَيْتٍ وَسَيَّارَةٍ، وَحِصَانٍ، وَكُرْسِيٍّ، وَصُبْرَةِ حِنْطَةٍ، وَصُبْرَةِ دَرَاهِمَ حَاضِرَتَيْنِ (2) . (ر: دَيْنٌ) .
ج - الْمِلْكُ:
7 - الْمِلْكُ: هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، وَيَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ، وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ (3) . (ر: مِلْكِيَّةٌ) .
د - التَّوَى:
8 - التَّوَى مَعْنَاهُ: الْهَلاَكُ، وَالْمَال التَّاوِي: هُوَ الذَّاهِبُ الَّذِي لاَ يُرْجَى (4) . (ر: تَوًى) .
هـ - الْجُحُودُ:
9 - الْجُحُودُ: هُوَ نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ ثَبَاتُهُ، وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ، وَلَيْسَ بِمُرَادِفٍ لِلنَّفْيِ مِنْ كُل وَجْهٍ (5) . (ر: إِنْكَارٌ) .
و الْبَيِّنَةُ:
10 - الْبَيِّنَةُ: هِيَ اسْمٌ لِكُل مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ
__________
(1) انظر نهاية المحتاج 3 / 131، أسنى المطالب 1 / 356، شرح منتهى الإرادات 1 / 368.
(2) انظر مادة: 158، 159 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) الفروق للقرافي: 23.
(4) الأموال لابن زنجويه 3 / 957.
(5) الكليات لأبي البقاء 2 / 178.(28/215)
وَيُظْهِرُهُ. فَكُل مَا يَقَعُ الْبَيَانُ بِهِ، وَيَرْتَفِعُ الإِْشْكَال بِوُجُودِهِ فَهُوَ بَيِّنَةٌ (1) . (ر: شَهَادَةٌ وَإِثْبَاتٌ) .
ز - الْغَصْبُ:
11 - الْغَصْبُ هُوَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا (2) . (ر: غَصْبٌ) .
حُكْمُ الْمَال الضِّمَارِ:
12 - لَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَال الضِّمَارِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ إِذَا وَصَل إِلَى يَدِ مَالِكِهِ بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنَ الْحُصُول عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَالثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ ضِمَارٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُهُ (3) .
__________
(1) معين الحكام ص 68، الطرق الحكمية لابن القيم ص 14، تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 202، (بهامش فتاوى عليش) .
(2) الموسوعة جـ 24 / مصطلح (سرقة ف 5) .
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 365، والمغني 3 / 48 (ط. مكتبة الرياض الحديثة) ، البناية على الهداية 3 / 24، المهذب 1 / 149، روضة الطالبين 2 / 192، 194، الأم 2 / 51 (ط. محمد زهري النجار) المجموع للنووي 5 / 341 (ط. التضامن الأخوي) ، بدائع الصنائع 2 / 9.(28/216)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْل الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَيْثُ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ (الأَْمْوَال) بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُزَكِّهِ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى (1) ، وَرُوِيَ - أَيْضًا - بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: إِذَا لَمْ تَرْجُ أَخْذَهُ فَلاَ تُزَكِّهِ حَتَّى تَأْخُذَهُ، فَإِذَا أَخَذْتَهُ فَزَكِّ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ (2) .
(ثَانِيًا) بِأَنَّ السَّبَبَ - وَهُوَ الْمِلْكُ - قَدْ تَحَقَّقَ. . وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَال ابْنِ السَّبِيل، قَال الْكَاسَانِيُّ. لأَِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ، بِدَلِيل: ابْنِ السَّبِيل، فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً، لِقِيَامِ مِلْكِهِ. . فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُخَاطَبُ بِالأَْدَاءِ لِلْحَال، لِعَجْزِهِ عَنِ الأَْدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ، وَهَذَا لاَ يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي: ابْنِ السَّبِيل (3) .
وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الْمَال - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ غَيْرَ رَاجٍ لَهُ وَلاَ طَامِعٍ فِيهِ - فَإِنَّهُ مَالُهُ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 589 (ط. مكتبة الكليات الأزهرية 1388 هـ) .
(2) الأموال لأبي عبيد ص 590.
(3) البدائع 2 / 9.(28/216)
وَمِلْكُ يَمِينِهِ، فَمَتَى ثَبَّتَهُ عَلَى غَرِيمِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يَسُرَ بَعْدَ إِعْدَامٍ، كَانَ حَقُّهُ جَدِيدًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الضَّيَاعِ كَانَ لَهُ دُونَ النَّاسِ، فَلاَ أَرَى مِلْكَهُ زَال عَنْهُ عَلَى حَالٍ، وَلَوْ كَانَ زَال عَنْهُ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ الْوِجْدَانِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّ اللَّهِ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَال، وَمِلْكُهُ لَمْ يَزُل عَنْهُ؟ ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لَهُ (1) ؟ .
الْقَوْل الثَّانِي:
14 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَالشَّافِعِيُّ - فِي الْقَدِيمِ - وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَقَتَادَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَال الضِّمَارِ، وَيَسْتَقْبِل مَالِكُهُ حَوْلاً مُسْتَأْنَفًا مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ (2) ، وَنَقَلَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ الإِْمَامِ مَالِكٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 594، وانظر الأموال لابن زنجويه 3 / 962.
(2) البحر الرائق 2 / 222، مجمع الأنهر 194، الفتاوى الهندية 1 / 174، بدائع الصنائع 2 / 9، شرح الوقاية لصدر الشريعة 1 / 98، الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 2 / 121، المغني لابن قدامة 2 / 46، 48، المهذب 1 / 149، المجموع للنووي 5 / 341، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166.
(3) الزرقاني على الموطأ 2 / 106، المقدمات الممهدات ص 229.(28/217)
عَنْهُمْ، حَيْثُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ زَكَاةَ فِي مَال الضِّمَارِ (1) .
(ثَانِيًا) بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَال: الْمِلْكَ التَّامَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِيهِ، إِذْ هُوَ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً لاَ يَدًا، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ، كَالْمَال الَّذِي فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ (2) .
(ثَالِثًا) وَبِأَنَّ الْمَال الضِّمَارَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، لِعَدَمِ وُصُول يَدِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَال إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لاَ يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغَنِيِّ لِلْحَدِيثِ (3) .
(رَابِعًا) وَلأَِنَّ السَّبَبَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَال النَّامِي، وَلاَ نَمَاءَ إِلاَّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ فِي الضِّمَارِ، فَلاَ زَكَاةَ، قَال الْعَيْنِيُّ: وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّمَاءَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ النَّمَاءُ تَحْقِيقًا كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ، وَالْمَال الَّذِي لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ لاَ يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُ الاِسْتِنْمَاءِ فِيهِ، فَلاَ يُقَدَّرُ الاِسْتِنْمَاءُ - أَيْضًا (4) -
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في (الدراية) (1 / 249) لم أجده عن علي ا. هـ. وقال العيني في البناية (3 / 26) : وقال الزيلعي: هذا غريب. قلت: أراد أنه لم يثبت مطلقا.
(2) انظر المهذب للشيرازي 1 / 149.
(3) بدائع الصنائع 2 / 9.
(4) البناية على الهداية 3 / 26.(28/217)
(خَامِسًا) وَلأَِنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَال النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِالاِتِّفَاقِ، لِلاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا تُسَاوِي آلاَفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَلَمْ يَنْوِ فِيهَا التِّجَارَةَ، لاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَوِلاَيَةُ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ التِّجَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِذَا فَاتَتِ انْتَفَى تَصَوُّرُ الاِسْتِنْمَاءِ تَحْقِيقًا، فَانْتَفَى تَقْدِيرًا، لأَِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إِذَا تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا، وَعَلَى هَذَا انْتَفَى فِي النَّقْدَيْنِ - أَيْضًا - لاِنْتِفَاءِ نَمَائِهِمَا التَّقْدِيرِيِّ بِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ التَّحْقِيقِيِّ بِانْتِفَاءِ الْيَدِ، فَصَارَ بِانْتِفَائِهِمَا كَالتَّاوِي، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنِ الآْبِقِ، وَإِنَّمَا جَازَ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ مُجَرَّدَ الْمِلْكِ، وَبِالإِْبَاقِ وَالْكِتَابَةِ لاَ يُنْتَقَصُ الْمِلْكُ أَصْلاً، بِخِلاَفِ مَال ابْنِ السَّبِيل لِثُبُوتِ التَّقْدِيرِيِّ فِيهِ، لإِِمْكَانِ التَّحْقِيقِيِّ إِذَا وَجَدَ نَائِبًا (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ:
15 - ذَهَبَ مَالِكٌ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ عَلَى مَالِكِهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا قَبَضَهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير (الميمينة 1319 هـ) 2 / 123.
(2) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166، منح الجليل 1 / 356، شرح الزرقاني على خليل 2 / 158، المقدمات الممهدات لابن رشد ص 229، المنتقى للباجي 2 / 113، القوانين الفقهية ص 110 (ط. الدار العربية للكتاب) شرح الموطأ للزرقاني 2 / 106، المغني 3 / 47، الأموال لأبي عبيد ص 590، الأموال لابن زنجويه 3 / 956، المصنف لابن أبي شيبة 3 / 202.(28/218)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلاَةِ ظُلْمًا، يَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ مِنْهُ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا (1) .
قَال الْبَاجِيُّ: قَوْلُهُ أَوَّلاً أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَزُل عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً عِنْدَهُ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لِسَائِرِ الأَْعْوَامِ، ثُمَّ نَظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَرَأَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ، بِأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَنْمِيَتِهِ، وَلاَ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَالٌ قَدْ زَال عَنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَمَنَعَ هَذَا عَنْ تَنْمِيَتِهِ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ (2) .
(ثَانِيًا) قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّهُ حَصَل فِي يَدِهِ فِي طَرَفِ الْحَوْل عَيْنُ نِصَابٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ يُرَاعَى تَضَاعِيفُ الْحَوْل،
__________
(1) انظر الموطأ مع المنتقى 2 / 113، مصنف ابن أبي شيبة 3 / 202، الأموال لأبي عبيد ص 590، الأموال لابن زنجويه 3 / 957.
(2) المنتقى للباجي 2 / 113.(28/218)
بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ فِي أَوَّل الْحَوْل نِصَابٌ، فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً ثُمَّ بَاعَهَا فِي آخِرِ الْحَوْل بِنِصَابٍ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، لِكَوْنِهَا عَيْنَا طَرَفَيِ الْحَوْل مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِوَسَطِهِ (1) .
صِيَامٌ
انْظُرْ: صَوْمٌ
ضَمَانَةٌ
انْظُرْ: كَفَالَةٌ
__________
(1) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166.(28/219)
ضَمَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ:
أ - مِنْهَا الاِلْتِزَامُ، تَقُول: ضَمِنْتُ الْمَال، إِذَا الْتَزَمْتَهُ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُول: ضَمَّنْتُهُ الْمَال، إِذَا أَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ.
ب - وَمِنْهَا: الْكَفَالَةُ، تَقُول: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ ضَمَانًا، فَهُوَ ضَامِنٌ وَضَمِينٌ، إِذَا كَفَلَهُ.
ج - وَمِنْهَا التَّغْرِيمُ، تَقُول: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ تَضْمِينًا، إِذَا غَرَّمْتَهُ، فَالْتَزَمَهُ (1)
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:
أ - يُطْلَقُ عَلَى كَفَالَةِ النَّفْسِ وَكَفَالَةِ الْمَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْوَنُوا لِلْكَفَالَةِ بِالضَّمَانِ.
ب - وَيُطْلَقُ عَلَى غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْغُصُوبِ وَالتَّعْيِيبَاتِ وَالتَّغْيِيرَاتِ الطَّارِئَةِ.
ج - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ضَمَانِ الْمَال، وَالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ وَبِغَيْرِ عَقْدٍ.
__________
(1) المصباح المنير للفيومي، والقاموس المحيط للفيروزآبادي مادة: (ضمن) .(28/219)
د - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَال، بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ عَلَى الْعُمُومِ.
هـ - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ، بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءَاتِ: كَالدِّيَاتِ ضَمَانًا لِلأَْنْفُسِ، وَالأُْرُوشِ ضَمَانًا لِمَا دُونَهَا، وَكَضَمَانِ قِيمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الإِْفْطَارِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ.
وَقَدْ وُضِعَتْ لَهُ تَعَارِيفُ شَتَّى، تَتَنَاوَل هَذِهِ الإِْطْلاَقَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ تَتَنَاوَل بَعْضَهَا، مِنْهَا:
أ - أَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْل الْهَالِكِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا) (1) .
ب - وَأَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ) (2) .
ج - وَبِالْمَعْنَى الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ - كَمَا يَقُول الْقَلْيُوبِيُّ -: إِنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ (3) .
د - وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ إِعْطَاءُ مِثْل الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ (4) .
__________
(1) غمز عيون البصائر للحموي شرح الأشباه والنظائر، لابن نجيم الحنفي 4 / 6 ط. دار الكتب العلمية في بيروت.
(2) نيل الأوطار للشوكاني، شرح منتقى الأخبار، لابن تيمية الجد 5 / 299.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 323.
(4) المادة: 416.(28/220)
هـ - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: (شَغْل ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ) (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - الاِلْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ. الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: إِلْزَامُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهَا (2) .
ب - الْعَقْدُ:
3 - الْعَقْدُ: ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (3) ، وَفِي الْمَجَلَّةِ (4) : ارْتِبَاطُ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَوَّجْتُ، وَقَال: قَبِلْتُ، وُجِدَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، وَهُوَ النِّكَاحُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ: مِلْكُ الْمُتْعَةِ.
ج - الْعُهْدَةُ:
4 - الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: وَثِيقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، لأَِنَّهُ
__________
(1) جواهر الإكليل للآبي، شرح مختصر سيدي خليل 2 / 109 ط: دار المعرفة في بيروت.
(2) غمز عيون البصائر على محاسن الأشباه والنظائر للحموي 2 / 611 ط: الآستانة سنة 1290 هـ، والتعريفات للجرجاني.
(3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام لملا خسرو 1 / 326 ط: الآستانة - 1329 - 1330 هـ. أول كتاب النكاح، والتعريفات للجرجاني.
(4) المادة: 103 و 104.(28/220)
يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الاِلْتِبَاسِ (1) . وَهِيَ كِتَابُ الشِّرَاءِ، أَوْ هِيَ الدَّرَكُ (2) أَيْ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: الْوَثِيقَةِ وَالدَّرَكِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ بِالْبَائِعِ أَيْ كَوْنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ فِي مُدَّةٍ خَاصَّةٍ (4) .
وَالضَّمَانُ أَعَمُّ، وَالْعُهْدَةُ أَخَصُّ.
د - التَّصَرُّفُ:
5 - التَّصَرُّفُ هُوَ التَّقْلِيبُ، تَقُول: صَرَّفْتُهُ فِي الأَْمْرِ تَصْرِيفًا فَتَصَرَّفَ، أَيْ قَلَّبْتُهُ فَتَقَلَّبَ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الشَّخْصِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ حُكْمًا، كَالْعَقْدِ وَالطَّلاَقِ وَالإِْبْرَاءِ وَالإِْتْلاَفِ.
__________
(1) المصباح المنير. مادة (عهد) .
(2) مختار الصحاح. مادة (عهد) وانظر حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 325.
(3) رد المحتار 4 / 281 وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 325، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب وحاشية البيجيرمي عليه 2 / 101.
(4) شرح كفاية الطالب لرسالة ابن أبي زيد القيرواني وحاشية العدوي عليها 2 / 160.
(5) القاموس المحيط، مادة: (صرف) .(28/221)
(ر: تَصَرُّفٌ ف 1) وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الضَّمَانِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الضَّمَانِ:
6 - شُرِعَ الضَّمَانُ، حِفْظًا لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةً لِلْعُهُودِ، وَجَبْرًا لِلأَْضْرَارِ، وَزَجْرًا لِلْجُنَاةِ، وَحَدًّا لِلاِعْتِدَاءِ، فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - فِيمَا يَتَّصِل بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) أَيْ كَفِيلٌ ضَامِنٌ، فَقَدْ ضَمِنَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ جَاءَ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ - وَهُوَ إِنَاؤُهُ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ بِهِ - قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ الْبَعِيرُ مِنَ الطَّعَامِ.
ب - وَفِيمَا يَتَّصِل بِالإِْتْلاَفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا، بِحَدِيثِ: أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ (2) .
ج - وَفِيمَا يَتَّصِل بِضَمَانِ وَضْعِ الْيَدِ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) سورة يوسف: 72.
(2) حديث أنس: " أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 631) وأصله في البخاري (5 / 124) .(28/221)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) أَيْ ضَمَانَهُ.
د - وَفِيمَا يَتَّصِل بِالْجِنَايَاتِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ وَنَحْوِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) .
هـ - وَفِيمَا يَتَّصِل بِجِنَايَاتِ الْبَهَائِمِ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْل عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْل فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا (3) .
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُل الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ (4) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ وَالأَْمْوَال
__________
(1) حديث سمرة بن جندب: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه الترمذي (3 / 557) وأشار ابن حجر في التلخيص (3 / 53) إلى إعلاله.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث البراء بن عازب " أنه كانت له ناقة ضارية. . . ". أخرجه أحمد (4 / 295) والحاكم (2 / 48) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث النعمان: " من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 179) والبيهقي (8 / 344) وضعف البيهقي رجلين في إسناده.(28/222)
مَصُونَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ الأَْصْل فِيهَا الْحَظْرُ، وَأَنَّهُ لاَ يَحِل دَمُ الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِل مَالُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الضَّمَانُ:
7 - لاَ يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الأُْمُورُ: التَّعَدِّي، وَالضَّرَرُ، وَالإِْفْضَاءُ.
أَوَّلاً: التَّعَدِّي:
8 - التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ، التَّجَاوُزُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: مُجَاوَزَةُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ عَادَةً (1) . وَضَابِطُ التَّعَدِّي هُوَ: مُخَالَفَةُ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ أَوْ الْعُرْفُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ (أَنَّ كُل مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلاَ ضَابِطَ لَهُ فِيهِ، وَلاَ فِي اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ) (2) .
وَذَلِكَ مِثْل: الْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ، وَالإِْحْيَاءِ فِي الْمَوَاتِ، وَالاِسْتِيلاَءِ فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي فِي الضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ التَّعَدِّي مُجَاوَزَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، رَجَعَ فِي ضَابِطِهِ
__________
(1) تفسير الرازي: (مفاتيح الغيب) 2 / 121 ط: الآستانة، دار الطباعة العامرة: 1307 و 1308 هـ، وتفسير الآلوسي 2 / 510 ط: المطبعة المنيرية في القاهرة.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي ص 98 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.(28/222)
إِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مُجَاوَزَةً وَتَعَدِّيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عُرْفًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا.
وَيَشْمَل التَّعَدِّي: الْمُجَاوَزَةَ وَالتَّقْصِيرَ، وَالإِْهْمَال، وَقِلَّةَ الاِحْتِرَازِ، كَمَا يَشْتَمِل الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ (1) .
ثَانِيًا: الضَّرَرُ:
9 - الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ يَدْخُل عَلَى الأَْعْيَانِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ (3) ، وَهَذَا يَشْمَل الإِْتْلاَفَ وَالإِْفْسَادَ وَغَيْرَهُمَا.
وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، كَرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا، بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْضِ الْمُدَّعِي الْمَال، فَلاَ يُفْسَخُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا أَمْ عَيْنًا (4) .
وَقَدْ يَنْشَأُ الضَّرَرُ عَنِ الْفِعْل كَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَقَطْعِ الأَْشْجَارِ، وَحَرْقِ الْحَصَائِدِ.
__________
(1) راجع فروعا كثيرة في هذا: جامع الفصولين 2 / 122 وما بعدها، ومجمع الضمانات للبغدادي ص 40 وما بعدها ط. الأولى، بالمطبعة الخيرية في مصر: 1308 هـ، وتكملة فتح القدير 9 / 245 ط: دار إحياء التراث العربي.
(2) المصباح المنير، مادة: ضرر.
(3) فتح المبين لشرح الأربعين (النووية) لابن حجر الهيثمي (211) ط: العامرة الشرقية في القاهرة: 1322 هـ.
(4) تبيين الحقائق 4 / 244.(28/223)
وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل وَالْفِعْل كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّرْكِ، وَمِثَالُهُ: امْرَأَةٌ تُصْرَعُ أَحْيَانًا فَتَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ عِنْدَ الصَّرْعِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا (1) .
وَدَابَّةٌ غُصِبَتْ فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ فِيهِ فِعْلاً (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرَر) .
ثَالِثًا: الإِْفْضَاءُ:
10 - مِنْ مَعَانِي الإِْفْضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْوُصُول يُقَال: أَفْضَيْتُ إِلَى الشَّيْءِ: وَصَلْتُ إِلَيْهِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَيُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الإِْفْضَاءِ فِي الضَّمَانِ مَا يَلِي:
أَنْ لاَ يُوجَدَ لِلضَّرَرِ أَوِ الإِْتْلاَفِ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مُبَاشَرَةً أَمْ تَسْبِيبًا.
وَأَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَ السَّبَبِ وَبَيْنَ الضَّرَرِ،
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 81 نقلا عن نوازل أبي الليث.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 127، 113.
(3) المصباح المنير.(28/223)
فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَإِلاَّ أُضِيفَ الضَّمَانُ إِلَيْهِ، لاَ إِلَى السَّبَبِ، وَذَلِكَ لِمُبَاشَرَتِهِ (1) .
تَعَدُّدُ مُحْدِثِي الضَّرَرِ:
إِذَا اعْتَدَى جَمْعٌ مِنَ الأَْشْخَاصِ، وَأَحْدَثُوا ضَرَرًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِدَاؤُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُتَسَبِّبِينَ أَوْ مُبَاشِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُبَاشِرًا، وَالآْخَرُ مُتَسَبِّبًا، فَهَاتَانِ حَالاَنِ:
الْحَال الأُْولَى:
11 - أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ: فَإِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ عَمَلُهُمْ فِي النَّوْعِ، أَوْ يَخْتَلِفَ.
أ - فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى، أَيْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَمَاعَةٌ إِطْلاَقَ النَّارِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ تُعْلَمْ إِصَابَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا مَحْمَل قَوْل سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَهْل صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا (2) .
ب - وَإِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ، وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ قُوَّةً وَضَعْفًا، كَمَا لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي
__________
(1) مجمع الضمانات (146) .
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 357.(28/224)
الطَّرِيقِ، وَجَاءَ آخَرُ فَوَسَّعَ رَأْسَهَا، أَوْ حَفَرَ الأَْوَّل حُفْرَةً وَعَمَّقَ الآْخَرُ أَسْفَلَهَا، فَتَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، فَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الاِعْتِدَادُ بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ، لأَِنَّهُ كَالْعِلَّةِ، عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ السَّبَبِ، وَهَذَا رَأْيُ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ.
وَالاِسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ، هُوَ الاِعْتِدَادُ بِالأَْسْبَابِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى الضَّرَرِ جَمِيعًا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَتَوْزِيعُ الضَّمَانِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَثْلاَثًا، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (1) وَآخَرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَاعْتَبَرُوا الاِشْتِرَاكَ (2) وَرُبَّمَا رَجَّحَ بَعْضُهُمُ السَّبَبَ الأَْوَّل (3) . كَحَافِرِ الْحُفْرَةِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ فِيهَا.
الْحَال الثَّانِيَةُ:
12 - أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدُونَ مُخْتَلِفِينَ، بَعْضُهُمْ مُبَاشِرٌ، وَبَعْضُهُمْ مُتَسَبِّبٌ:
وَالأَْصْل - عِنْدَئِذٍ - تَقْدِيمُ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي التَّضْمِينِ (4) وَذَلِكَ لِلْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ
__________
(1) تكملة البحر الرائق للطوري 8 / 397 ط: المطبعة العلمية في القاهرة 1311 هـ، ومجمع الضمانات ص 180.
(2) كشاف القناع 6 / 7.
(3) شرح المحلي على المنهاج 4 / 149.
(4) مجمع الضمانات (203) والأشباه والنظائر لابن نجيم (القاعدة: 19 ص 163) وجواهر الإكليل 2 / 148، والأشباه والنظائر (القاعدة: 40 ص 162) ، والقواعد لابن رجب الحنبلي (القاعدة: 127 صـ 285) والمغني 8 / 564، 565.(28/224)
الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ: (إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ، يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَلِي:
أ - لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَأَلْقَى آخَرُ نَفْسَهُ، أَوْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِيهَا عَمْدًا، لاَ يَضْمَنُ الْحَافِرُ، بَل الْمُلْقِي وَحْدَهُ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (1) .
ب - لَوْ دَل سَارِقًا عَلَى مَال إِنْسَانٍ، فَسَرَقَهُ، لاَ ضَمَانَ عَلَى الدَّال (2) .
13 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسْبِيبِ صُوَرٌ، يُقَدَّمُ فِيهَا السَّبَبُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُبَاشِرَةِ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَتْ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْمُبَاشِرِ بِالْكُلِّيَّةِ (3) فَيُضَافُ الْحُكْمُ - وَهُوَ الضَّمَانُ هُنَا - إِلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ، كَمَا إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ، فَجَرَحَهُ، ضَمِنَ الدَّافِعُ، لأَِنَّ
__________
(1) مجمع الضمانات ص 180 وجواهر الإكليل 2 / 148، والقواعد لابن رجب ص 285.
(2) مجمع الضمانات ص (203) والتاج والإكليل لمختصر خليل للمواق 5 / 278.
(3) كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري، شرح أصول فخر الإسلام البزدوي (4 / 1302 ط: الآستانة) .(28/225)
السَّبَبَ هُنَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (1) .
تَتَابُعُ الأَْضْرَارِ:
14 - إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَضْرَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ الْمُتَسَبِّبَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الأَْضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَسَبُّبِهِ، مَا دَامَ أَثَرُ تَسَبُّبِهِ بَاقِيًا لَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنِ انْقَطَعَ بِتَسَبُّبٍ آخَرَ لَمْ يَضْمَنْ.
فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أ - سَقَطَ حَائِطُ إِنْسَانٍ عَلَى حَائِطِ إِنْسَانٍ آخَرَ، وَسَقَطَ الْحَائِطُ الثَّانِي عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ: كَانَ ضَمَانُ الْحَائِطِ الثَّانِيَ وَالْقَتِيل عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الأَْوَّل (2) لأَِنَّ تَسَبُّبَ حَائِطِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ.
فَإِنْ عَثَرَ إِنْسَانٌ بِأَنْقَاضِ الْحَائِطِ الثَّانِي، فَانْكَسَرَ، لَمْ يَضْمَنِ الأَْوَّل، لأَِنَّ التَّفْرِيغَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الثَّانِي إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِسُقُوطِ حَائِطِهِ، وَلَمْ يَنْقُل تُرَابَهُ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ النَّقْل.
ب - لَوْ أُشْهِدَ عَلَى حَائِطِهِ بِالْمَيْل، فَلَمْ يَنْقُضْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى سَقَطَ، فَقَتَل إِنْسَانًا، وَعَثَرَ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1301، والتوضيح على التنقيح لصدر الشريعة، مع شرح التلويح للتفتازاني 2 / 138 ط: دار الكتب العلمية في بيروت. والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 163 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.
(2) مجمع الضمانات ص 185.(28/225)
بِالأَْنْقَاضِ شَخْصٌ فَعَطِبَ، وَعَطِبَ آخَرُ بِالْقَتِيل، كَانَ ضَمَانُ الْقَتِيل الأَْوَّل وَعَطَبُ الثَّانِي عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الأَْوَّل، لأَِنَّ الْحَائِطَ وَأَنْقَاضَهُ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ، أَمَّا التَّلَفُ الْحَاصِل بِالْقَتِيل الأَْوَّل، فَلَيْسَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ نَقْلَهُ لَيْسَ مَطْلُوبًا مِنْهُ، بَل هُوَ لأَِوْلِيَاءِ الْقَتِيل (1) .
إِثْبَاتُ السَّبَبِيَّةِ:
15 - الأَْصْل فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، أَوْ وَلِيُّهُ إِنْ قُتِل، هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَإِثْبَاتِ تَعَدِّي مَنْ أُلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ، وَأَنَّ تَعَدِّيَهُ كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي الضَّرَرِ.
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَال قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) .
وَتَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ بِإِقْرَارِ الْمُعْتَدِي، كَمَا تَثْبُتُ
__________
(1) الدر المختار 5 / 386 ومجمع الضمانات ص 185 وتكملة البحر الرائق للطوري 8 / 404.
(2) حديث ابن عباس: " لو يعطى الناس بدعواهم. . . . ". أخرجه البخاري (8 / 213) ومسلم (3 / 1336) دون قوله: (لكن البينة على المدعي) إلخ، وفيها: (اليمين على المدعى عليه) وأخرج البيهقي (10 / 252) من حديث ابن عباس مرفوعا كذلك: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ".(28/226)
بِالْبَيِّنَةِ إِذَا أَنْكَرَ وَتَثْبُتُ بِالْقَرَائِنِ، وَبِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ - عَلَى الْجُمْلَةِ - وَنَحْوِهَا مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ (1) .
(ر: إِثْبَات) .
شُرُوطُ الضَّمَانِ:
16 - يُمْكِنُ تَقْسِيمُ شُرُوطِ الضَّمَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَشُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَال.
أَوَّلاً: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَكَانَ الْجَانِي مُكَلَّفًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (دِيَات) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَال:
تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي أَنْ يَكُونَ الاِعْتِدَاءُ، وَاقِعًا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، مَمْلُوكٍ، مُحْتَرَمٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الضَّرَرُ الْحَادِثُ دَائِمًا (فَلَوْ نَبَتَتْ سِنُّ الْحَيَوَانِ لَمْ تُضْمَنِ الْمَكْسُورَةُ) ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدِي مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ، فَلاَ تَضْمَنُ الْبَهِيمَةُ، وَلاَ مَالِكُهَا
__________
(1) انظر الطرق الحكمية لابن القيم ص 66 وما بعدها ط: دار الكتب العلمية في بيروت.(28/226)
إِذَا أَتْلَفَتْ مَال إِنْسَانٍ وَهِيَ مُسَيَّبَةٌ، لأَِنَّهُ جُبَارٌ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَانِي عَلَى الْمَال مُكَلَّفًا، فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالٍ عَلَى الآْخَرِينَ، وَلاَ عَدَمُ اضْطِرَارِهِ، وَالْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ ضَامِنٌ، لأَِنَّ الاِضْطِرَارَ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ (1) .
أَسْبَابُ الضَّمَانِ:
17 - مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا يَلِي:
1 - الْعَقْدُ، كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْل الْقَبْضِ وَالسَّلَمِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ.
2 - الْيَدُ، مُؤْتَمَنَةٌ كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ إِذَا حَصَل التَّعَدِّي، أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا.
ج - الإِْتْلاَفُ، نَفْسًا أَوْ مَالاً (2) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَيْلُولَةَ، كَمَا لَوْ نَقَل الْمَغْصُوبَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَأَبْعَدَهُ، فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَال، لِلْحَيْلُولَةِ قَطْعًا، فَإِذَا رَدَّهُ رَدَّهَا (3) .
وَجَعَل الْمَالِكِيَّةُ أَسْبَابَ الضَّمَانِ ثَلاَثَةً:
__________
(1) راجع في هذه الشروط - البدائع 7 / 167 و 168، وتبيين الحقائق 6 / 137، والقوانين الفقهية 216 - 218، وكشاف القناع 4 / 116.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 362، والقواعد لابن رجب ص 204.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 362 و 363.(28/227)
أَحَدُهَا: الإِْتْلاَفُ مُبَاشَرَةً، كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ.
وَثَانِيَهَا: التَّسَبُّبُ لِلإِْتْلاَفِ، كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلإِْتْلاَفِ.
وَثَالِثُهَا: وَضْعُ الْيَدِ غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانِ الإِْتْلاَفِ:
18 - ضَمَانُ الْعَقْدِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِعَقْدٍ.
وَضَمَانُ الإِْتْلاَفِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ لَمْ تَقْتَرِنْ بِعَقْدٍ.
وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ تَبْدُو فِيمَا يَلِي:
أ - مِنْ حَيْثُ الأَْهْلِيَّةُ، فَفِي الْعُقُودِ: الأَْهْلِيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (وَالأَْهْلِيَّةُ - هُنَا - هِيَ: أَهْلِيَّةُ أَدَاءً، وَهِيَ: صَلاَحِيَةُ الشَّخْصِ لِمُمَارَسَةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْعَقْل) لأَِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالإِْدْرَاكِ وَالْعَقْل، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقَا لاَ يُعْتَدُّ بِهَا (2) .
أَمَّا الإِْتْلاَفَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُؤَنُ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 27، الفرق 217 و 2 / 206 الفرق / 111.
(2) التوضيح والتلويح 2 / 164 وما بعدها، والبدائع 5 / 135.(28/227)
وَالصِّلاَتُ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ، فَالأَْهْلِيَّةُ الْمُجْتَزَأُ بِهَا هِيَ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَهِيَ صَلاَحِيَتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَحُكْمُ الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِيهَا كَحُكْمِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الضَّمَانُ وَنَحْوُهُ - لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ حَيٌّ عَنْ آخَرَ، وَأَدَاءُ الصَّغِيرِ يَحْتَمِل النِّيَابَةَ (1) .
ب - مِنْ حَيْثُ التَّعْوِيضُ، فَفِي ضَمَانِ الْعَقْدِ، لاَ يَقُومُ التَّعْوِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَيَكُونُ التَّعْوِيضُ بِنَاءً عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.
أَمَّا الإِْتْلاَفَاتُ الْمَالِيَّةُ فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِيهَا يَقُومُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ فِيهَا دَفْعُ الضَّرَرِ، وَإِزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ، وَالضَّرَرُ مَحْظُورٌ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ (2) ، وَذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (3) .
ج - مِنْ حَيْثُ الأَْوْصَافُ وَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعُقُودِ وَفِي الإِْتْلاَفَاتِ، وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْوْصَافَ لاَ تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، وَتُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْغَصْبَ قَبْضٌ، وَالأَْوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْل، وَهُوَ الْقَبْضُ، أَمَّا الْعَقْدُ فَيَرِدُ عَلَى
__________
(1) التوضيح 2 / 163.
(2) المبسوط 11 / 80.
(3) سورة الشورى / 40.(28/228)
الأَْعْيَانِ، لاَ عَلَى الأَْوْصَافِ، وَالْغَصْبِ (وَكَذَا الإِْتْلاَفُ) فِعْلٌ يَحُل بِالذَّاتِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً (1) .
مَحَل الضَّمَانِ:
19 - مَحَل الضَّمَانِ هُوَ: مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ (2) ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ نَاشِئًا عَنْ عَقْدٍ، أَمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ إِتْلاَفٍ وَيَدٍ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: فَهُوَ كُل مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَيْنُهُ، بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتِ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمَلِّكَ (3) . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَحَل الضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ يَقْبَل الْمُعَاوَضَةَ (4) .
وَيُمْكِنُ التَّوَسُّعُ فِي مَحَل الضَّمَانِ، بِحَيْثُ يَشْمَل جَمِيعَ الْمَضْمُونَاتِ، بِأَنْ يُقَسَّمَ الْفِعْل الضَّارُّ، بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى الإِْنْسَانِ، وَفِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الأَْمْوَال، كَالْحَيَوَانِ وَالأَْشْيَاءِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الاِعْتِدَاءَ عَلَى الْمَال وَالْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنَ الْجِنَايَاتِ، فَقَال الْكَاسَانِيُّ: " الْجِنَايَةُ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ
__________
(1) الهداية بشروحها 8 / 254 و 255.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد 2 / 387 ط: الثانية. دار التوفيق النموذجية في القاهرة: 1403 هـ.
(3) المرجع السابق.
(4) الطرق الحكمية ص 252.(28/228)
عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَجِنَايَةٌ عَلَى الآْدَمِيِّ (1) فَهَذِهِ مَحَال الضَّمَانِ، فَالآْدَمِيُّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فِي النَّفْسِ، أَوِ الأَْطْرَافِ.
وَأَمَّا الأَْمْوَال فَتُقْسَمُ إِلَى: أَعْيَانٍ، وَمَنَافِعَ، وَزَوَائِدَ، وَنَوَاقِصَ، وَأَوْصَافٍ (2) . وَنَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الأَْعْيَانُ:
20 - وَهِيَ نَوْعَانِ: أَمَانَاتٌ، وَمَضْمُونَاتٌ (3) .
فَالأَْمَانَاتُ: يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِذَاتِهَا، وَأَدَاؤُهَا فَوْرَ طَلَبِهَا، بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) ، وَتُضْمَنُ حَال التَّعَدِّي، وَإِلاَّ فَلاَ ضَمَانَ فِيهَا، وَمِنَ التَّعَدِّي الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ لَهَا، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ (5) .
وَالْمَضْمُونَاتُ، تُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، وَبِالتَّلَفِ وَلَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا (6) .
__________
(1) البدائع 7 / 233.
(2) فتح العزيز شرح الوجيز - بهامش المجموع شرح المهذب 11 / 256، وقواعد الأحكام 1 / 152 وما بعدها.
(3) البدائع 6 / 7.
(4) سورة النساء / 58.
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم (273) وابن عابدين 4 / 494، وجواهر الإكليل 2 / 140، والمهذب 1 / 366، والمغني 6 / 382 - 383.
(6) بداية المجتهد 2 / 387.(28/229)
وَالأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلاَكِهَا ضَمَانُ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَبَدَل الْخُلْعِ - إِذَا كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً - وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، إِذَا كَانَ عَيْنًا.
الثَّانِي: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلاَكِهَا الثَّمَنُ أَوِ الدَّيْنُ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْل الْقَبْضِ، سَقَطَ الثَّمَنُ، وَالرَّهْنِ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ الْعُدْوَانِ، كَالْمَغْصُوبَاتِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ قَبْضٍ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، بَل بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهِ انْتِقَال تَمَلُّكِهِ إِلَيْهِ، بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ قَرْضٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ - أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، أَمْ كَانَ فَاسِدًا (2) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ عَرَّفُوا الأَْعْيَانَ الْمَضْمُونَةَ، بِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَالإِْتْلاَفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حُصُولُهَا بِيَدِ الضَّامِنِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ، كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ مَحْظُورٍ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَنَحْوِهِمَا (3) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 268.
(2) القوانين الفقهية ص 220 وانظر الفروق للقرافي 4 / 106، (ط: الأولى 1344 هـ) .
(3) القواعد لابن رجب ص 54 و 308.(28/229)
وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ الْمَضْمُونَاتِ، وَأَوْصَلَهَا إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ، وَمِنْهَا: الْغَصْبُ، وَالإِْتْلاَفُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقَرْضُ، وَالْعَارِيَّةُ، وَالْمَقْبُوضُ بِسَوْمٍ. . . (1)
21 - وَهَل تَشْمَل الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ الْعَقَارَاتِ؟
مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، وَذَلِكَ بِغَصْبِهِ، وَغَصْبُهُ مُتَصَوَّرٌ، لأَِنَّ الْغَصْبَ هُوَ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، أَوْ هُوَ: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا، أَوْ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ - كَمَا يَقُول مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْفِعْل فِي الْمَال لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَْرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ (2) .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَال، وَلِهَذَا عَرَّفَهُ فِي الْكَنْزِ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 356 - 360.
(2) حديث: " من ظلم قيد شبر من الأرض. . . ". أخرجه البخاري (5 / 103) ومسلم (3 / 1232) من حديث عائشة رضي الله عنها.(28/230)
الْمُبْطِلَةِ، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل النَّقْل وَالتَّحْوِيل، فَلَمْ يُوجَدِ الإِْتْلاَفُ حَقِيقَةً وَلاَ تَقْدِيرًا.
فَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالأَْشْجَارِ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الأَْرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ غَصَبَ عَقَارًا، فَجَاءَ آخَرُ فَأَتْلَفَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتْلِفِ (1) .
وَقَالُوا: لَوْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِسُكْنَاهُ، يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ، كَمَا إِذَا نَقَل تُرَابَهُ (2) .
ثَانِيًا: الْمَنَافِعُ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ فِي ذَاتِهَا فَتُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، كَمَا تُضْمَنُ الأَْعْيَانُ، وَذَلِكَ:
__________
(1) البدائع 7 / 146، وتبيين الحقائق 5 / 222، و 224 وجامع الفصولين 2 / 85، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 442 و 443، والقوانين الفقهية ص 217 والإقناع للخطيب الشربيني بحاشية البجيرمي 3 / 137 وما بعدها، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 27، وكشاف القناع 4 / 77.
(2) مجمع الضمانات (126) في فروع أخرى.(28/230)
أ - لأَِنَّهَا الْغَرَضُ الأَْظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الأَْمْوَال (1) .
ب - وَلأَِنَّ الشَّارِعَ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، فِي قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مَعَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَهْرِ فِيهِ مَالاً بِالنَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) .
ج - وَلأَِنَّ الْمَال اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ، أَوْ هُوَ - كَمَا يَقُول الشَّاطِبِيُّ - مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّل وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّل الْمَنَافِعِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ، وَرَأْسُ مَالِهِمُ الْمَنْفَعَةُ (3) .
د - وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ - كَمَا قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ - مُبَاحَةٌ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ، وَبِالْفَوَاتِ تَحْتَ الأَْيْدِي الْمُبْطِلَةِ، وَالتَّفْوِيتِ بِالاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَوَّمَهَا، وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الأَْمْوَال، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ جَبْرِهَا بِالْعُقُودِ وَبَيْنَ جَبْرِهَا بِالتَّفْوِيتِ وَالإِْتْلاَفِ (4) .
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 172.
(2) سورة النساء / 24.
(3) المبسوط 11 / 78، والموافقات 2 / 17، وانظر بالشرح الكبير 5 / 435 و 436.
(4) القواعد 1 / 171 و 172.(28/231)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهَا أَمْ عَطَّلَهَا أَمِ اسْتَغَلَّهَا، وَلاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ:
أ - لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَلاَ يُمْكِنُ ادِّخَارُهَا لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلاَشَى فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّل (1) . وَفِي ذَلِكَ يَقُول السَّرَخْسِيُّ: الْمَنَافِعُ لاَ تُضْمَنُ بِإِتْلاَفٍ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ شُبْهَةٍ (2) .
ب - وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا وَرَدَ تَقْوِيمُهَا فِي الشَّرْعِ - مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِيمَةٍ فِي نَفْسِهَا - بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ، اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، لِلْحَاجَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ (3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُضَمِّنُونَ الْغَاصِبَ إِذَا غَصَبَ لِغَرَضِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّعَدِّي، كَمَا لَوْ غَصَبَ دَابَّةً أَوْ دَارًا لِلرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى فَقَطْ، فَيَضْمَنُهَا بِالاِسْتِعْمَال، وَلَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَسِيرًا.
__________
(1) المبسوط 11 / 79.
(2) المرجع السابق 11 / 78.
(3) تبيين الحقائق 5 / 234، والاختيار 3 / 64 و 65، والمبسوط 11 / 78 و 80، وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 284، 285.(28/231)
وَلاَ يَضْمَنُ الذَّاتَ فِي هَذِهِ الْحَال لَوْ تَلِفَتْ بِسَمَاوِيٍّ (1) .
ثَالِثًا: الزَّوَائِدُ:
23 - وَتَتَمَثَّل فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَائِهِ.
أ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ الْغَصْبِ، لأَِنَّهَا مَال الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ، فَيَضْمَنُهَا بِالتَّلَفِ كَالأَْصْل الَّذِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُ (2) .
ب - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، أَمْ مُنْفَصِلَةً كَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ، وَصُوفِ الْغَنَمِ - أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا، بِالأَْكْل أَوِ الإِْتْلاَفِ، أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الزَّوَائِدِ، لأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ (3) .
ج
__________
(1) الشرح الكبير للدرير 3 / 452 - 455، وجواهر الإكليل 2 / 151، والقوانين الفقهية ص 219.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31 و 32، والمغني 5 / 399 و 400، وكشاف القناع 4 / 87 وما بعدها، والروض المربع بشرح زاد المستقنع مختصر المقنع، 1 / 249 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.
(3) تبيين الحقائق 5 / 232، والبدائع 7 / 160، وانظر بداية المجتهد 2 / 391، والقوانين الفقهية ص 217.(28/232)
- وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل:
أَوَّلاً:
مَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الأَْصْل وَعَلَى خِلْقَتِهِ، كَالْوَلَدِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ مَعَ الأَْصْل.
ثَانِيًا:
وَمَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الأَْصْل، عَلَى غَيْرِ خِلْقَتِهِ مِثْل الثَّمَرِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ، وَالآْخَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ قَائِمًا، وَقِيمَتُهُ تَالِفًا.
ثَالِثًا
وَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ، فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
1 - قِيل: يَرُدُّ الزَّوَائِدَ مُطْلَقًا، لِتَعَدِّيهِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
2 - وَقِيل: لاَ يَرُدُّهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، لأَِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ الَّذِي عَلَيْهِ.
3 - وَقِيل: يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الأُْصُول وَالْعَقَارِ، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ وَلاَ يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ فِيهِ، وَلاَ يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ وَشَبَهُهُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّمَانُ.
4 - وَقِيل: يَرُدُّهَا إِنِ انْتَفَعَ بِهَا، وَلاَ يَرُدُّهَا إِنْ عَطَّلَهَا.
5 - وَقِيل: يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ خَاصَّةً، وَلاَ يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ وَالرِّقَابَ (1) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 391 و 392، والقوانين الفقهية ص 324.(28/232)
رَابِعًا: النَّوَاقِصُ:
24 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ نَقْصِ الأَْمْوَال بِسَبَبِ الْغَصْبِ، أَوِ الْفِعْل الضَّارِّ، أَوْ الإِْتْلاَفِ أَوْ نَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ النَّقْصُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ تَقْصِيرًا، لأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ (1) .
فَمَنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:
أ - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّقْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ - كَمَا قَال الزَّيْلَعِيُّ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لاَ يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، بَل يَدْخُل فِيهِ نُقْصَانٌ فِي الْمَنْفَعَةِ، كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ (2) .
وَالْفَاحِشُ: مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ.
وَقِيل الْيَسِيرُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ رُبُعَ الْقِيمَةِ، وَالْفَاحِشُ مَا يُسَاوِي رُبُعَ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا، وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ (900) .
فَفِي النُّقْصَانِ الْيَسِيرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ إِلاَّ أَخْذُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ مِنْ كُل
__________
(1) البدائع 7 / 155.
(2) تبيين الحقائق 5 / 229.(28/233)
وَجْهٍ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ.
وَفِي النَّقْصِ الْفَاحِشِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ، وَتَضْمِينِ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْعَيْنِ لِلْغَاصِبِ وَتَضْمِينِهِ قِيمَةَ الْعَيْنِ (1) .
فَلَوْ ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ مَأْكُول اللَّحْمِ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ، كَانَ ذَلِكَ إِتْلاَفًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَقْصًا فَاحِشًا، فَيُخَيَّرُ فِيهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ، ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْجَمِيعَ، لأَِنَّهُ اسْتِهْلاَكٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَإِتْلاَفٌ لِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَلَوْ غَصَبَ الْعَقَارَ، فَانْهَدَمَ أَوْ نَقَصَ بِسُكْنَاهُ، ضَمِنَهُ، لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ بِفِعْلِهِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِضَمَانِ الإِْتْلاَفِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ هَلَكَ الْعَقَارُ، بَعْدَ أَنْ غَصَبَهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، لأَِنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَتْ مَالاً، وَلأَِنَّهُ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنِ الاِنْتِفَاعِ وَلاَ يَضْمَنُ عَيْنَهُ (3) .
__________
(1) المرجع السابق، والدر المختار 5 / 123.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 62 و 63 (ط: دار المعرفة في بيروت) ، وتبيين الحقائق 5 / 226 و 227، والدر المختار 5 / 125، والهداية وشروحها 8 / 259 وما بعدها، والبدائع 7 / 160 وما بعدها.
(3) تبيين الحقائق 5 / 224 و 225 ومجمع الضمانات ص 126، وجامع الفصولين 2 / 92 وفيه دليل نفيس وجيه.(28/233)
ب - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي النَّقْصِ، أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَل الْخَالِقِ، أَوْ مِنْ قِبَل الْمَخْلُوقِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْخَالِقِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا - كَمَا يَقُول ابْنُ جِنِّيٍّ - أَوْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَقِيل: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَيْبِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمَخْلُوقِ وَبِجِنَايَتِهِ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُخَيَّرٌ:
1 - بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَيَتْرُكَهُ لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ قِيمَةَ النَّقْصِ، يَوْمَ الْجِنَايَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ يَوْمَ الْغَصْبِ، عِنْدَ سَحْنُونٍ.
2 - وَعِنْدَ أَشْهَبَ وَابْنِ الْمَوَّازِ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا، وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، كَالَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ (1) .
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الْعَقَارِ، نَذْكُرُهُ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ الْخَاصَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 388، والقوانين الفقهية ص 217 وانظر جواهر الإكليل 2 / 151، والشرح الكبير للدردير 3 / 453 و 454، ومنح الجليل على مختصر سيدي خليل للشيخ محمد عليش بحاشيته تسهيل منح الجليل 3 / 537، 538 ط: دار صادر في بيروت.(28/234)
ج - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ كُل عَيْنٍ مَغْصُوبَةٍ، عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِهَا، إِذَا كَانَ نَقْصًا مُسْتَقِرًّا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ، سَوَاءٌ كَانَ بِاسْتِعْمَالِهِ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَرَضِ الْحَيَوَانِ، وَكَثَوْبٍ تَخَرَّقَ، وَإِنَاءٍ تَكَسَّرَ، وَطَعَامٍ سَوَّسَ، وَبِنَاءٍ تَخَرَّبَ، وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا، وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ النَّقْصِ - مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْل، كَمَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ - لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ (1) .
خَامِسًا: الأَْوْصَافُ وَضَمَانُهَا:
25 - إِذَا نَقَصَتْ السِّلْعَةُ، عِنْدَ الْغَاصِبِ، بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ هُبُوطِ الأَْسْعَارِ فِي السُّوقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ هُبُوطِ الأَْسْعَارِ فِي الأَْسْوَاقِ، فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتَعَدِّي ضَمَانُ نَقْصِ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ، بَل لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، لاَ صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ
__________
(1) شرح المحلي مع حاشية القليوبي 3 / 39 وشرح الشربيني الخطيب على الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 140، 141، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحصني 1 / 183 ط: دار المعرفة في بيروت. والمغني بالشرح الكبير 5 / 385، وكشاف القناع 3 / 91 وما بعدها.(28/234)
مَضْمُونًا وَهَذَا مَا أَخَذَتْ بِهِ الْمَجَلَّةُ (الْمَادَّةُ: 900) ، وَلأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْقِيمَةِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْعَيْنِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، كَمَا كَانَتْ، وَلأَِنَّ الْغَاصِبَ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا غَصَبَ، وَالْقِيمَةُ لاَ تَدْخُل فِي الْغَصْبِ.
ب - وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَوْ سَقَطَ عُضْوُ الْحَيَوَانِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ حَدَثَ لَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَرَجٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ عَمًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِكَ يَأْخُذُ الْمَغْصُوبَ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ: لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا؛ وَلأَِنَّهُ دَخَلَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ، يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا، وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا (1) .
تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ:
26 - يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) البدائع 7 / 155، ومجمع الضمانات ص 133 والشرح الكبير للدردير 3 / 452 و 453 و 454، ومنح الجليل 3 / 537، والإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 140 - 141، وكشاف القناع 4 / 91، 92، 93، والمغني بالشرح الكبير 5 / 400 - 402.(28/235)
أَوَّلاً: فَهُنَاكَ عَقْدٌ شُرِعَ لِلضَّمَانِ، أَوْ هُوَ الضَّمَانُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ: الْكَفَالَةُ - كَمَا يُسَمِّيهَا الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ - أَيْضًا -: الضَّمَانُ كَمَا يُسَمِّيهَا الْجُمْهُورُ.
ثَانِيًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ، بَل شُرِعَتْ لِلْمِلْكِ وَالرِّبْحِ وَنَحْوِهِمَا، لَكِنِ الضَّمَانُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهِ أَثَرًا لاَزِمًا لأَِحْكَامِهَا، وَتُسَمَّى: عُقُودَ ضَمَانٍ، وَيَكُونُ الْمَال الْمَقْبُوضُ فِيهَا مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ، بِأَيِّ سَبَبٍ هَلَكَ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمُخَارَجَةِ، وَالْقَرْضِ، وَكَعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَالْمُخَالَعَةِ.
ثَالِثًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ يَتَجَلَّى فِيهَا طَابَعُ الْحِفْظِ وَالأَْمَانَةِ، وَالرِّبْحِ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ، وَتُسَمَّى عُقُودَ أَمَانَةٍ، وَيَكُونُ الْمَال الْمَقْبُوضُ فِيهَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْقَابِضِ، لاَ يَضْمَنُهُ إِلاَّ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِهِ، كَعَقْدِ الإِْيدَاعِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ.
رَابِعًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، تُنْشِئُ الضَّمَانَ مِنْ وَجْهٍ، وَالأَْمَانَةَ مِنْ وَجْهٍ، وَتُسَمَّى لِهَذَا، عُقُودٌ مُزْدَوَجَةُ الأَْثَرِ، كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ وَالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ.
27 - وَمَنَاطُ التَّمْيِيزِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - بَيْنَ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَبَيْنَ عُقُودِ الأَْمَانَةِ، يَدُورُ مَعَ(28/235)
الْمُعَاوَضَةِ: فَكُلَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مُعَاوَضَةٌ، كَانَ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَصْدُ مِنَ الْعَقْدِ غَيْرَ الْمُعَاوَضَةِ، كَالْحِفْظِ وَنَحْوِهِ، كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ أَمَانَةٍ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الضَّابِطُ الْمُمَيَّزُ، إِلَى قَوْل الْمَرْغِينَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعْلِيل كَوْنِ يَدِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَال الشَّرِكَةِ، يَدَ أَمَانَةٍ: لأَِنَّهُ قَبَضَ الْمَال بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْوَثِيقَةِ، فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (1) .
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، هُوَ: مَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَمَا كَانَ بِسَبِيل الْمُبَادَلَةِ، أَيِ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيل التَّوْثِيقِ، كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ.
وَالرَّهْنُ - فِي الْوَاقِعِ - يُؤَوَّل إِلَى الْمُعَاوَضَةِ، لأَِنَّهُ تَوْثِيقٌ لِلْبَدَل، وَكَذَا الْكَفَالَةُ، فَكَانَ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ، هُوَ الْمُبَادَلَةَ، وَفِي غَيْرِ الْعُقُودِ، هُوَ عَدَمَ الإِْذْنِ، وَمَا الْمُبَادَلَةُ إِلاَّ الْمُعَاوَضَةُ، فَهِيَ مَنْشَأُ التَّمْيِيزِ، بَيْنَ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَبَيْنَ عُقُودِ الْحِفْظِ وَالأَْمَانَةِ.
وَبَيَانُ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) الهداية بشروحها 5 / 404، وانظر أيضا في التعليل نفسه، تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه 3 / 320 نقلا عن الإتقاني.(28/236)
أَوَّلاً: الضَّمَانُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلضَّمَانِ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
28 - إِذَا صَحَّ الضَّمَانُ - أَوِ الْكَفَالَةُ بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهَا - لَزِمَ الضَّامِنَ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ، وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ (الدَّائِنِ) مُطَالَبَتُهُ، وَلاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ، وَهُوَ فَائِدَةُ الضَّمَانِ (1) ثُمَّ:
إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، وَهُوَ الْمَكْفُول عَنْهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ الْكَفِيل بِمَا أَدَّى عَنْهُ بِالاِتِّفَاقِ - عَلَى مَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَكْفُول عَنْهُ، فَفِي الرُّجُوعِ خِلاَفٌ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، إِذِ اعْتُبِرَ مُتَبَرِّعًا فِي هَذِهِ الْحَال (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَرَّرُوا الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْحَال إِنْ ثَبَتَ دَفْعُ الْكَفِيل بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعَلَّلُوهُ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ بِذَلِكَ (3) .
وَالشَّافِعِيَّةُ فَصَّلُوا، وَقَالُوا:
إِنْ أَذِنَ الْمَكْفُول عَنْهُ، فِي الضَّمَانِ
__________
(1) المغني - بالشرح الكبير - 5 / 73.
(2) الدر المختار 4 / 271 و 272، والهداية بشروحها 6 / 304 و 305.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 335 و 336، والقوانين الفقهية ص 214.(28/236)
وَالأَْدَاءِ فَأَدَّى الْكَفِيل، رَجَعَ.
وَإِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا فَلاَ رُجُوعَ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الأَْدَاءِ، رَجَعَ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الأَْدَاءِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، لاَ يَرْجِعُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْغُرْمَ فِي الضَّمَانِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ (1) .
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ نِيَّةَ الرُّجُوعِ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَكْفُول عَنْهُ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:
إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ مُتَبَرِّعًا، لاَ يَرْجِعُ، سَوَاءٌ أَضَمِنَهُ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِذَلِكَ.
وَإِنْ قَضَاهُ نَاوِيًا الرُّجُوعَ، يَرْجِعُ لأَِنَّهُ قَضَاهُ مُبْرِئًا مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ.
وَلَوْ قَضَاهُ ذَاهِلاً عَنْ قَصْدِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ، لاَ يَرْجِعُ، لِعَدَمِ قَصْدِ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الأَْدَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، أَمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ رُبَاعِيٌّ فِي نِيَّةِ الرُّجُوعِ يَقْرُبُ مِنْ تَفْصِيل الشَّافِعِيَّةِ (3) . (يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَح: كَفَالَة) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 331.
(2) كشاف القناع 3 / 371.
(3) المغني - بالشرح الكبير 5 / 86 - 89.(28/237)
29 - إِذَا مَاتَ الْكَفِيل قَبْل حُلُول أَجَل الدَّيْنِ، فَفِي حُلُول الدَّيْنِ وَمُطَالَبَةِ الْوَرَثَةَ بِهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي: (مُصْطَلَحِ: كَفَالَة) .
ضَمَانُ الدَّرَكِ:
30 - قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَمَانَ الدَّرَكِ، عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (1) ، وَقَالُوا:
هُوَ: الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (2) .
وَالدَّرَكُ هُوَ: الْمُطَالَبَةُ وَالتَّبَعَةُ وَالْمُؤَاخَذَةُ (3) . وَيُقَال لَهُ: ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، إِنْ ظَهَرَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا، بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ (5) وَضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ (6) :.
أ - لأَِنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ (7) ، وَالْمَضْمُونُ - كَمَا يَقُول الْعَدَوِيُّ - فِي الْمَعِيبِ قِيمَةُ الْعَيْبِ، وَفِي الْمُسْتَحَقِّ
__________
(1) رد المحتار 4 / 281.
(2) المرجع السابق 4 / 264.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 379.
(4) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 325، وانظر كشاف القناع 3 / 369.
(5) المرجعان السابقان.
(6) كشاف القناع 3 / 369.
(7) الهداية بشروحها 6 / 298، وما بعدها و 9 / 86 وما بعدها.(28/237)
الثَّمَنُ (1) ، وَهُوَ جَائِزٌ بِلاَ نِزَاعٍ (2) .
ب - وَلأَِنَّ الضَّمَانَ هُنَا، كَفَالَةٌ، وَالْكَفَالَةُ لاِلْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ، وَالْتِزَامُ الأَْفْعَال يَصِحُّ مُضَافًا إِلَى الْمَآل، كَمَا فِي الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ بِالنَّذْرِ (3) .
ج - وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْلِيل جَوَازِهِ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى الْوَثِيقَةِ، وَهِيَ: ثَلاَثَةٌ: الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ، فَالأُْولَى لاَ يَسْتَوْفِي مِنْهَا الْحَقَّ، وَالثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُ حَبْسُ الرَّهْنِ إِلَى أَنْ يُؤَدَّى، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيُؤَدِّي إِلَى حَبْسِهِ أَبَدًا، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الضَّمَانِ.
د - وَقَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لاَمْتَنَعَتِ الْمُعَامَلاَتُ مَعَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، رَافِعٌ لأَِصْل الْحِكْمَةِ، الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا الْبَيْعُ (4) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ ضَمَانِ الدَّرَكِ ثُبُوتُ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقَضَاءِ (5) ، فَلَوِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَضَاءِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، لاَ يُؤْخَذُ ضَامِنُ الدَّرَكِ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ قَبْل الْفَسْخِ جَازَ وَلَوْ بَعْدَ
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي 6 / 24.
(2) المرجع السابق والهداية - بشروحها 6 / 298.
(3) الهداية وشروحها في الموضع نفسه.
(4) كشاف القناع 3 / 369.
(5) رد المحتار 4 / 264.(28/238)
قَبْضِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَمَا لَمْ يُقْضَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لاَ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الأَْصِيل، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيل (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَقِيل: يَصِحُّ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، بِأَنْ لاَ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَهُ (2) .
ثَانِيًا: الْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الضَّمَانُ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، مَعَ رِوَايَةِ تَفْرِقَةِ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ غَيْرِهَا (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي - كَمَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - بِنَفْسِ الْعَقْدِ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: مَا بِيعَ عَلَى الْخِيَارِ، وَمَا بِيعَ مِنَ الثِّمَارِ قَبْل كَمَال طِيبِهِ (4) . . .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 282.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 326.
(3) البدائع 5 / 238، وروضة الطالبين 3 / 499، والشرح الكبير مع المغني 4 / 116 و 117.
(4) القوانين الفقهية ص 164.(28/238)
وَأَهَمُّ مَا يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ: هَلاَكُ الْمَبِيعِ، وَهَلاَكُ الثَّمَنِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ، وَظُهُورُ عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ.
وَيُلْحَقُ بِهِ: ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ، وَضَمَانُ الدَّرَكِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَلِي:
هَلاَكُ الْمَبِيعِ:
32 - يُفَرَّقُ فِي الْحُكْمِ فِيهِ، تَبَعًا لأَِحْوَال هَلاَكِهِ: هَلاَكُ كُلِّهِ، وَهَلاَكُ بَعْضِهِ، وَهَلاَكُ نَمَائِهِ، وَهَلاَكُهُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ، وَالْبَاطِل، وَهَلاَكُهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ: أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (بَيْع ف 59 وَمُصْطَلَحِ: هَلاَك)
هَلاَكُ نَمَاءِ الْمَبِيعِ:
33 - الأَْصْل الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الأَْصْل، كَغَلَّةِ الْمَبَانِي وَالْعَقَارَاتِ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَهُ:
أ - فَقَبْل الْقَبْضِ، إِذَا أَتْلَفَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ يَضْمَنُهَا، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ، وَكَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ.(28/239)
وَإِذَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، كَمَا لَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ، فَلاَ تُضْمَنُ، لأَِنَّهَا كَالأَْوْصَافِ، لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً، لَكِنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لاَ قَصْدًا.
ب - أَمَّا لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا. الْمُشْتَرِي، أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ، فَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِقَبْضِهِ، وَلَهَا حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ، فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الأَْصْل يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ (1) . وَلَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، ضَمِنَهَا بِلاَ خِلاَفٍ، لَكِنِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ:
إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ.
وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الأَْصْل (2) .
الضَّمَانُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل:
34 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي قَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْحَنَفِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا.
وَالْبَيْعُ الْبَاطِل لاَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ أَصْلاً، وَلاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ.
__________
(1) البدائع 5 / 256.
(2) البدائع 5 / 256، 257.(28/239)
وَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (بُطْلاَن ف 26، 27 وَالْبَيْعُ الْبَاطِل ف 11) .
ضَمَانُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
35 - كُل بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ (1) كَأَنْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ جَهَالَةٌ، كَبَيْعِ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، أَوْ غَرَرٌ كَبَيْعِ بَقَرَةٍ عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا فِي الْيَوْمِ، أَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ.
وَمَعَ الاِتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِهِ، وَخُبْثِ الرِّبْحِ النَّاشِئِ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ضَمَانِ الْمَبِيعِ فِيهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، وَمِلْكِهِ:
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَلاَ يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلاَ هِبَةٍ، لَكِنَّهُ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَزَوَائِدُهُ مَضْمُونَةٌ، وَفِي تَعَيُّبِهِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَفِي تَلَفِهِ وَإِتْلاَفِهِ الضَّمَانُ.
وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَالْمَيْتَةِ، فَكَانَ مَضْمُونًا فِي جُمْلَتِهِ، فَأَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةٌ أَيْضًا (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ
__________
(1) البدائع 5 / 299.
(2) روضة الطالبين 3 / 408 وما بعدها، وحاشية القليوبي 2 / 276، والمغني 4 / 56، وكشاف القناع 3 / 188.(28/240)
خِيَارُ شَرْطٍ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمَعْرُوفِ (1) وَلِصُدُورِ الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِهِ وَوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّهِ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ حَرَامٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ (2) .
وَيَكُونُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَعْدَ هَلاَكِهِ أَوْ تَعَذُّرِ رَدِّهِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، دَخَل فِي ضَمَانِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى جِهَةِ الأَْمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ، بِحَسَبِ زَعْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِل إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِحَسَبِ الأَْمْرِ نَفْسِهِ (4) .
وَنَصَّ الأُْبِّيُّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْفَاسِدِ لاَ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ فَوَاتِهِ (5) (سَوَاءٌ أَنْقَدَ الثَّمَنَ أَمْ لاَ) قَال ابْنُ الْحَاجِبِ:
لاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَالْفَوَاتِ (6) .
وَالْفَوَاتُ - كَمَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، ذَكَرَ مِنْهَا تَغَيُّرَ الذَّاتِ
__________
(1) حديث بريرة أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 313) ومسلم (2 / 1141) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الدر المختار 4 / 124، والاختيار 2 / 22.
(3) مجمع الضمانات (216) والهداية وشروحها 6 / 45 و 96، والدر المختار 4 / 125.
(4) كفاية الطالب وحاشية العدوي 2 / 148.
(5) جواهر الإكليل 2 / 27.
(6) نفسه. وانظر القوانين الفقهية ص 172 وشرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 5 / 93 - 96(28/240)
وَالتَّعَيُّبَ وَتَعَلُّقَ حَقِّ الآْخَرِينَ. . . .
(1) 36 - وَفِي وَقْتِ تَقْدِيرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بِهِ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، لاَ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ مَا يُضْمَنُ يَوْمَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الإِْتْلاَفِ أَوِ الْهَلاَكِ، لأَِنَّ بِهِمَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ كَمَا يَقُول مُحَمَّدٌ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ (3) وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ أَقْصَى الْقِيمَةِ، فِي الْمُتَقَوِّمِ، مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ (4) .
وَهَذَا - أَيْضًا - وَجْهٌ ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الْغَصْبِ، وَهُوَ هَاهُنَا كَذَلِكَ، كَمَا يَقُول الْمَقْدِسِيُّ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة وانظر كفاية الطالب 2 / 148.
(2) الدر المختار 4 / 125، ومجمع الضمانات ص 124، وكفاية الطالب 2 / 148.
(3) رد المحتار 4 / 125، وتبيين الحقائق 4 / 62، ومجمع الضمانات ص 214، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 560، وانظر كشاف القناع 3 / 198.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، وروضة الطالبين 3 / 409.
(5) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.(28/241)
37 - وَلَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ النَّقْصَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ:
أ - لِلتَّعَيُّبِ (1) .
ب - وَلأَِنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَضْمُونَةٌ، فَتَكُونُ أَجْزَاؤُهَا مَضْمُونَةً أَيْضًا (2) .
38 - وَلَوْ زَادَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا بَعْدَ قَبْضِهِ، زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي - كَزَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (3) .
وَعَدَمُ ضَمَانِ الزِّيَادَةِ هُوَ - أَيْضًا - وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَضَمِنَهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ الْقِيمَةِ حِينَ التَّلَفِ (4) .
وَذَكَرَ الْمَقْدِسِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ:
أ - أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، فَأَشْبَهَتِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْصُوبِ.
ب - وَالآْخَرُ: عَدَمُ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ عِوَضٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ: إِنْ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 84.
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.
(3) روضة الطالبين 3 / 409، وانظر حاشية الجمل 3 / 84، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56، وكشاف القناع 3 / 198.
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 57 و 58.(28/241)
هَلَكَتْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ عُدْوَانِهِ، ضَمِنَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل، كَالْوَلَدِ، فَهَذِهِ يَضْمَنُهَا بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
ب - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، كَالْكَسْبِ، لاَ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ، عِنْدَ الإِْمَامِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ، لاَ بِالْهَلاَكِ، كَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ.
ح - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل، كَالسَّمْنِ، يَضْمَنُهَا بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
د - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ، (فَإِنَّهَا مِلْكُ الْمُشْتَرِي. وَهَلاَكُهَا أَوِ اسْتِهْلاَكُهَا مِنْ حِسَابِهِ) وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ الْفَسْخُ:
- فَعِنْدَ الإِْمَامِ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ فِيهَا، وَتَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتُهَا.
وَعِنْدَهُمَا: يَنْقُضُهَا الْبَائِعُ، وَيَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ.
وَمَا سِوَاهَا لاَ يَمْنَعُ الْفَسْخَ.(28/242)
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَأَخْذُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْكَسْبِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهَا مَعَ تَضْمِينِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ لاَ تَطِيبُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا (1) .
39 - إِذَا اسْتَغَل الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ، لاَ يَرُدُّ غَلَّتَهُ، لأَِنَّ ضَمَانَهُ مِنْهُ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَالْخَرَاجُ هُوَ: الْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَبِيعِ، كَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ، وَكُل مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ خَرَاجُهُ، فَخَرَاجُ الشَّجَرِ ثَمَرُهُ، وَخَرَاجُ الْحَيَوَانِ دَرُّهُ وَنَسْلُهُ (3) .
وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ لاَ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِنَفَقَتِهِ، لأَِنَّ مَنْ لَهُ الْغَلَّةُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالنَّفَقَةِ.
وَإِذَا أَحْدَث فِيهِ، مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، كَبِنَاءٍ وَصَبْغٍ، رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ، مَعَ كَوْنِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131 بتصرف، وانظر مجمع الضمانات ص 216.
(2) جواهر الإكليل 2 / 27. وحديث: " الخراج بالضمان " أخرجه أبو داود (3 / 780) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 22) قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلة العبد، وقال ابن نجيم في أشباهه: إن هذا الحديث من جوامع الكلم لا يجوز نقله بالمعنى. انظر عمز عيون البصائر، في شرح الأشباه والنظائر للحموي 1 / 431 و 432 ط: دار الكتب العلمية بيروت.
(3) الفائق (مادة: خرج) .(28/242)
الْغَلَّةِ لَهُ، كَسُكْنَاهُ وَلُبْسِهِ (1) .
وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، كَالْكَسْبِ، لاَ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ كَمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِحَدِيثِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ غَلاَّتِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، كَمَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهَا، وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حُكِمَ بِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلدَّارِ أَوْ لِبَعْضِهَا ضَمِنَ الأُْجْرَةَ (2) .
وَنَصَّ الْمَقْدِسِيُّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ مِثْل الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ تَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ رَدُّهَا (3) .
ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ:
40 - الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ: هُوَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسَاوِمُ الْمَبِيعَ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ الشِّرَاءِ، فَيَقُول لِلْبَائِعِ: هَاتِهِ، فَإِنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 27، وانظر شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 5 / 93.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 28، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، وإعانة الطالبين 3 / 408.
(3) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.(28/243)
رَضِيتُهُ اشْتَرَيْتُهُ.
وَلاَ بُدَّ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ تَوَافُرِ شَرْطَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.
ب - وَأَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِقَصْدِ الشِّرَاءِ، لاَ لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ (1) .
وَيَضْمَنُهُ الْقَابِضُ فِي هَذِهِ الْحَال، إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ، بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، خِلاَفًا لِلطَّرَسُوسِيِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُزَادَ بِهَا عَلَى الْمُسَمَّى، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَجِبُ فِيهِ الثَّمَنُ لاَ الْقِيمَةُ، لأَِنَّهُ بِالاِسْتِهْلاَكِ يُعْتَبَرُ رَاضِيًا بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ بِثَمَنِهِ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَأْخُوذُ بِالسَّوْمِ مَضْمُونٌ كُلُّهُ إِنْ أَخَذَهُ لِشِرَاءِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَقَدْرُ مَا يُرِيدُ شِرَاءَهُ (3) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ مَضْمُونٌ إِذَا تَلِفَ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْعِوَضِ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50 و 51، وانظر مجمع الضمانات 213، 214.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 51، وقارن بحاشية القليوبي 2 / 214، وكشاف القناع 3 / 370.
(3) القليوبي 2 / 214.
(4) كشاف القناع 3 / 370.(28/243)
41 - أَمَّا الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ، فَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُسَاوِمُ: هَاتِهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، أَوْ حَتَّى أُرِيَهُ غَيْرِي، وَلاَ يَقُول: فَإِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ فَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ مُطْلَقًا بَل هُوَ أَمَانَةٌ، ذَكَرَ الثَّمَنَ أَوْ لاَ، وَيَضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ -:
أ - أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ، أَمَّا الآْخَرُ فَلاَ يُذْكَرُ فِيهِ ثَمَنٌ.
ب - وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: إِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ. فَلَوْ قَال: حَتَّى أَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَإِنْ صَرَّحَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ أَخَذَ إِنْسَانٌ شَيْئًا بِإِذْنِ رَبِّهِ لِيُرِيَهُ الآْخِذُ أَهْلَهُ فَإِنْ رَضُوهُ أَخَذَهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ مِنْ غَيْرِ مُسَاوَمَةٍ وَلاَ قَطْعِ ثَمَنٍ فَلاَ يَضْمَنُهُ إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ (3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ:
42 - تَشْتَمِل الْقِسْمَةُ عَلَى الإِْفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ.
وَالإِْفْرَازُ: أَخْذُ الشَّرِيكِ عَيْنَ حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمِثْلِيَّاتِ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50، 51 وانظر كشاف القناع 3 / 370.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50 و 51.
(3) كشاف القناع 3 / 370.(28/244)
وَالْمُبَادَلَةُ: أَخْذُهُ عِوَضَ حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ (1) .
وَلِوُجُودِ وَصْفِ الْمُبَادَلَةِ فِيهَا، كَانَتْ عَقْدَ ضَمَانٍ.
وَيَدُ كُل شَرِيكٍ عَلَى الْمُشْتَرَكِ قَبْل الْقِسْمَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ، وَبَعْدَهَا يَدُ ضَمَانٍ.
وَإِذَا قَبَضَ كُل شَرِيكٍ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَقِلًّا، يُخَوِّلُهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِيهِ، وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِهِ هُوَ فَقَطْ (2) .
(انْظُرْ: قِسْمَة) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَال بِمَالٍ:
43 - يُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ بِمَثَابَةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّهُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ (3) ، وَلِهَذَا قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ فَلاَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى (بِهِ) بَيْعٌ (5) فَتُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطَ الْبَيْعِ (6) وَالْبَيْعُ أَبْرَزُ عُقُودِ الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنِ الْمَال بِمَالٍ.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 264، والدر المختار ورد المحتار 5 / 161.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 499.
(3) الاختيار 3 / 5.
(4) البدائع 6 / 48.
(5) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 309.
(6) المرجع السابق.(28/244)
فَإِذَا قَبَضَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَل الصُّلْحِ، وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، هَلَكَ مِنْ ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. (انْظُرْ: صُلْح) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ التَّخَارُجِ:
44 - التَّخَارُجُ: اصْطِلاَحُ الْوَرَثَةِ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ، بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَيُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَنَازُل أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ، فِي مُقَابِل مَا يَتَسَلَّمُهُ مِنَ الْمَال، عَقَارًا كَانَ أَوْ عُرُوضًا أَوْ نُقُودًا، فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَإِذَا قَبَضَ الْمُخْرِجُ مِنَ التَّرِكَةِ بَدَل الْمُخَارَجَةِ أَخَذَ حُكْمَ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ، تَمَلُّكًا وَتَصَرُّفًا وَاسْتِحْقَاقًا، فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ حِسَابِهِ الْخَاصِّ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لأَِنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَكَانَ مَضْمُونًا كَضَمَانِ الْمَبِيعِ. (انْظُرْ: تَخَارُج) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ:
45 - يُشْبِهُ الْقَرْضُ الْعَارِيَّةَ فِي الاِبْتِدَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّلَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الاِنْتِهَاءِ، لِوُجُودِ رَدِّ الْمِثْل، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، لِمَكَانِ الْعِوَضِ، وَلَيْسَ جَارِيًا عَلَى حَقِيقَةِ
__________
(1) الكفاية للكولاني بهامش تكملة القدير شرح الهداية 7 / 52 الطبعة الأولى.(28/245)
الْمُعَاوَضَاتِ، بِدَلِيل الرُّجُوعِ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا (1) .
وَيُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ، كَالْمَوْهُوبِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - لأَِنَّهُ لاَ يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، بِالتَّصَرُّفِ وَالْعَقْدِ (2) .
فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُقْتَرِضُ، ضَمِنَهُ، كُلَّمَا هَلَكَ، بِآفَةٍ أَوْ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، لأَِنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ، لاَ قَبْضُ حِفْظٍ وَأَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ.
46 - وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِقَرْضٍ فَاسِدٍ كَالْمَقْبُوضِ، بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ الْمُقْتَرِضُ فَيَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ بَيْعُهُ، لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لاَ يَحِل، لأَِنَّ الْفَاسِدَ يَجِبُ فَسْخُهُ، وَالْبَيْعُ مَانِعٌ مِنَ الْفَسْخِ، فَلاَ يَحِل، كَمَا لاَ تَحِل سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَسْخِ (3) .
وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ يُمْلَكُ بِقَبْضِهِ، وَيُضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، كَبَيْعٍ فَسَدَ (4) .
وَلَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا، فَهَلَكَ الْقَرْضُ فِي يَدِهِ،
__________
(1) حاشية عميرة على شرح المحلي على المنهاج 2 / 260.
(2) الدر المختار 4 / 173 وقد صحح القولين. وانظر جواهر الإكليل 2 / 76، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 260، والشرح الكبير مع المغني 4 / 357.
(3) الدر المختار ورد المحتار 4 / 172.
(4) جامع الفصولين 2 / 58.(28/245)
لاَ يَضْمَنُ بِالاِتِّفَاقِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ بِالتَّعَمُّدِ وَالاِسْتِهْلاَكِ. قَال فِي الْخَانِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالْبَيْعِ، كَانَ كَالْبَائِعِ، يَضْمَنُ الْقَرْضَ، بِالْهَلاَكِ وَالاِسْتِهْلاَكِ (1) .
(انْظُرْ: قَرْض) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
47 - لاَ بُدَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ، فَيَجْرِي فِيهِ الضَّمَانُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا، ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسَلِّمَهَا الْعَيْنَ، وَلَوْ لَمْ تَتَسَلَّمْهَا بَقِيَتْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا، لأَِنَّهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِمَالٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْل تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجَةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَضْمُونَ فِي هَذِهِ الْحَال، هُوَ قِيمَةُ الْعَيْنِ أَوْ مِثْلُهَا، كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا: كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمٍ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 174، وانظر الفتاوى الهندية 3 / 206.(28/246)
وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. . . وَلاَ يَبْطُل الزَّوَاجُ بِهَلاَكِ بَدَل الْمَهْرِ (1) .
وَالْمَنْصُوصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَ عَيْنًا، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِ قَبْل قَبْضِهَا، ضَمَانَ عَقْدٍ، لاَ ضَمَانَ يَدٍ، وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ، وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ الصَّدَاقِ بِالتَّلَفِ (2) . (انْظُرْ: مَهْر) .
48 - وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الضَّمَانُ، فَلَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَلَكَتِ الْعَيْنُ قَبْل الدَّفْعِ إِلَى الزَّوْجِ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهَا مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُهُ (يَعْنِي بَدَل الْخُلْعِ) فِي يَدِهَا، قَبْل الدَّفْعِ، أَوِ اسْتُحِقَّ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَوِ الْبَدَل قِيَمِيًّا، وَمِثْلُهُ لَوْ مِثْلِيًّا، لأَِنَّ الْخُلْعَ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا. (انْظُرْ: خُلْع) .
ثَالِثًا: الضَّمَانُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَةِ:
ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ:
49 - تُعْتَبَرُ الْوَدِيعَةُ مِنْ عُقُودِ الأَْمَانَةِ، وَهِيَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 268.
(2) شرح المنهج بحاشية الجمل 4 / 237، 238.
(3) الدر المختار 2 / 561.(28/246)
أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ (أَوِ الْوَدِيعِ) فَهُوَ أَمِينٌ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يُصِيبُ الْوَدِيعَةَ، مِنْ تَلَفٍ جُزْئِيٍّ أَوْ كُلِّيٍّ، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ التَّلَفُ بِتَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (1) .
وَالْمُغِل هُوَ: الْخَائِنُ، فِي الْمَغْنَمِ وَغَيْرِهِ (2) .
وَمَا رُوِيَ - أَيْضًا - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (3) .
وَمِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ التَّعَدِّي أَوْ التَّقْصِيرُ أَوِ الإِْهْمَال، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَة) .
ضَمَانُ الْعَارِيَّةِ:
50 - مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ - كَمَا نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ - وَقَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْعَارِيَّةَ
__________
(1) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان. . . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 41) ثم ضعف راويين في إسناده وقال: (وإنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع) .
(2) المصباح المنير. مادة: (غلل) .
(3) حديث: " من أودع فلا ضمان عليه ". أخرجه ابن ماجه (2 / 802) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 42) .(28/247)
مَضْمُونَةٌ، سَوَاءٌ أُتْلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ تَلِفَتْ بِفِعْل الْمُسْتَعِيرِ، بِتَقْصِيرٍ أَوْ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ (1) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتَدَلُّوا: بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرُعًا، يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَال: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَال: بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةً وَفِي رِوَايَةٍ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَعَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ، قَال: نَعَمْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ (2) .
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
وَلأَِنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ، لِنَفْعِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا بِنَفْعِهِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَلاَ إِذْنٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا، كَالْغَاصِبِ، وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 382 (ط: الثانية. دار الكتب الإسلامية. القاهرة: 1403 هـ. 1983) م. والقوانين الفقهية ص 245 وروضة الطالبين 4 / 431 والمغني مع الشرح الكبير 5 / 355.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان ابن أمية أدرعا. . . . ". أخرجه الحاكم 3 / 49، وصححه ووافقه الذهبي، والرواية الأخرى أخرجها أبو داود (3 / 826) من حديث صفوان بن أمية، وقال ابن حزم في المحلي (9 / 173) حديث حسن.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". تقدم تخريجه ف 6.(28/247)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ، فَلاَ تُضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (2) .
وَلأَِنَّ عَقْدَ الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكٌ أَوْ إِبَاحَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلاَ تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِي قَبْضِهَا تَعَدٍّ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَانْتَفَى سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ حَال الْعَارِيَّةِ مِنَ الأَْمَانَةِ إِلَى الضَّمَانِ، بِمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حَال الْوَدِيعَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَضْمِينِ الْمُسْتَعِيرِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ: مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُتُبِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلاَكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ فَلاَ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، خِلاَفًا لأَِشْهَبَ الْقَائِل: إِنَّ ضَمَانَ الْعَوَارِيِّ ضَمَانُ عَدَاءٍ، لاَ يَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ الْمُسْتَعِيرُ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْمُعِيرُ الضَّمَانَ، وَلَوْ كَانَ لأَِمْرٍ خَافَهُ، مِنْ طَرِيقٍ
__________
(1) الدر المختار 4 / 503، والاختيار 3 / 56، وانظر حاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 20، وإعانة الطالبين 4 / 431.
(2) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان ". تقدم تخريجه ف (49) .
(3) العناية والكفاية على الهداية 7 / 469، وانظر بدائع الصنائع 6 / 217.(28/248)
مَخُوفٍ أَوْ لُصُوصٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَرَّرَهُ الدُّسُوقِيُّ.
أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلَهُمْ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِالشُّرُوطِ، وَيَضْمَنُ، لأَِنَّ الشَّرْطَ يَزِيدُهُ تُهْمَةً، وَلأَِنَّهُ مِنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ.
الآْخَرُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ، وَلاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَالْعَارِيَّةُ مَعْرُوفٌ، وَإِسْقَاطُ الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ آخَرُ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (1) كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (2) .
وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَوَقْتِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (إِعَارَة ف 17) .
الضَّمَانُ فِي الشَّرِكَةِ:
51 - الشَّرِكَةُ قِسْمَانِ - كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ - شَرِكَةُ أَمْلاَكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ (3) .
فَالأُْولَى يُعْتَبَرُ فِيهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ، كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 436، وانظر جواهر الإكليل 2 / 145 و 146 وقارن بكفاية الطالب 2 / 252.
(2) حديث: " المسلمون عند شروطهم ". أخرجه الدارقطني في سننه (3 / 27) من حديث عمرو بن عوف، وفي إسناده ضعف، ولكن ذكر ابن حجر في التعليق (3 / 281 - 282) شواهد قواه بها.
(3) كشاف القناع 3 / 496.(28/248)
فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَل ضَمِنَ (1) .
وَالثَّانِيَةُ شَرِكَةُ أَمْوَالٍ، وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ يَدَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَال الشَّرِكَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلاَ عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ (2) .
فَإِنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ أَوْ تَعَدَّى، فَهُوَ ضَامِنٌ (3) .
وَكَذَلِكَ كُل مَا كَانَ إِتْلاَفًا لِلْمَال، أَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَال بِغَيْرِ عِوَضٍ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ - كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ - وُضِعَتْ لِلاِسْتِرْبَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يَنْتَظِمُهُ عَقْدُهَا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا (4) .
وَكَذَا إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً نَصِيبَ صَاحِبِهِ، إِذَا كَانَ مَال الشَّرِكَةِ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، كَمَا يَضْمَنُ لَوْ مَاتَ مُجْهِلاً عَيْنَ مَال الشَّرِكَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الأَْمَانَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَلاَ يَضْمَنُ (5) .
وَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَال الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ
__________
(1) البدائع بتصرف 6 / 65، والدر المختار ورد المحتار 3 / 333.
(2) تبيين الحقائق 3 / 320، والاختيار 3 / 17، وبداية المجتهد 2 / 309 والإقناع بحاشية البجيرمي عليه 3 / 110، وكشاف القناع 3 / 500
(3) الدر المختار 3 / 346، وبداية المجتهد 2 / 309.
(4) الدر المختار 3 / 345 بتصرف.
(5) الدر المختار مع رد المحتار 3 / 346.(28/249)
مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ، لاَ يَضْمَنُهُ لأَِنَّهُ أَمِينٌ.
أَمَّا لَوْ هَلَكَ مَال الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ مَال أَحَدِهِمَا قَبْل التَّصَرُّفِ فَتَبْطُل الشَّرِكَةُ، لأَِنَّ الْمَال هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا (1) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ:
52 - يُعْتَبَرُ الْمُضَارِبُ أَمِينًا فِي مَال الْمُضَارَبَةِ وَأَعْيَانِهَا، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيل، وَفَارَقَ الْمُسْتَعِيرَ، لأَِنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِ الْعَارِيَّةِ (2) .
وَهَذَا مَا لَمْ يُخَالِفْ مَا قَيَّدَهُ بِهِ رَبُّ الْمَال، فَيُصْبِحُ عِنْدَئِذٍ غَاصِبًا (3) .
وَمَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْيِيدِ الْمُضَارِبِ بِبَعْضِ الْقُيُودِ، لأَِنَّهُ مُفِيدٌ، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ، وَفِي عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَّةِ الْقِرَاضِ (4) كَمَا يَقُول الدَّرْدِيرُ، كَالاِتِّجَارِ بِالدَّيْنِ، وَالإِْيدَاعِ، لَكِنْ هُنَاكَ قُيُودًا، لاَ تَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهَا، مِنْهَا:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 343، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه، نقلا عن الإتقاني 3 / 319، وبداية المجتهد 2 / 309، وانظر الشرح الكبير للدردير 3 / 350.
(2) كشاف القناع 3 / 522 و 423.
(3) الدر المختار 4 / 484، وانظر كشاف القناع 3 / 508.
(4) بدائع الصنائع 6 / 100، وانظر المغني 5 / 184، 185، والشرح الكبير للدردير 3 / 519، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 53.(28/249)
أ - السَّفَرُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّ الْمَال، وَهَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَالتَّعْرِيضِ لِلتَّلَفِ، فَلَوْ سَافَرَ بِالْمَال بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ضَمِنَهُ (1) .
ب - إِذَا قَيَّدَهُ بِأَنْ لاَ يُسَافِرَ بِبَحْرٍ، أَوْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ، فَخَالَفَهُ، ضَمِنَ (2) .
ج - وَإِذَا دَفَعَ مَال الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا (أَيْ ضَارَبَ فِيهِ) بِغَيْرِ إِذْنٍ، ضَمِنَ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ (3) .
ضَمَانُ الْمُضَارِبِ فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ:
53 - الْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، لَكِنَّهُ يَضْمَنُ - فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ - فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا بَاعَ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل، أَوِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ (4) ، ضَمِنَ.
ب - إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَال الْقِرَاضِ، أَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي الْحَضَرِ، عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَنْ يُمَوِّلُهُ، ضَمِنَ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الاِحْتِبَاسِ، فَإِذَا كَانَ فِي مِصْرِهِ لاَ يَكُونُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 524، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 57.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 526، وانظر فيه وفي الدسوقي تفصيل الضمان في الأخيرة على التخصيص.
(3) الدر المختار 4 / 485 والقوانين الفقهية ص 186 وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 516، وكشاف القناع 3 / 515، وبداية المجتهد 2 / 292.
(4) المغني 5 / 153.(28/250)
مُحْتَبِسًا. أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَأَوْجُهٌ وَشُرُوطٌ فِي انْتِفَاءِ ضَمَانِهِ (1) . تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة) .
ج - إِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ، بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ وَالضَّيَاعُ عَلَى رَبِّ الْمَال، دُونَ الْعَامِل، لأَِنَّهُ أَمِينٌ، كَالْوَدِيعِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لاَ يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ (2) .
د - إِذَا أَتْلَفَ الْعَامِل مَال الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ضَمِنَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لأَِنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ لاَ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْمَالِكِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ (3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
54 - الْوَكِيل أَمِينٌ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّل، فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ، وَالْهَلاَكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، كَالْوَدِيعِ.
__________
(1) البدائع 6 / 106، والاختيار 3 / 23، وتبيين الحقائق 5 / 70 والشرح الكبير للدردير 3 / 530 و 531، والقوانين الفقهية ص 186 وشرح المحلي على المنهاج 3 / 57، وروضة الطالبين 5 / 135، وكشاف القناع 3 / 516.
(2) القوانين الفقهية (186) وكشاف القناع 3 / 522، 523.
(3) روضة الطالبين 5 / 139.(28/250)
وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِنْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ (1) .
وَعَلَى هَذَا لاَ يَضْمَنُ الْوَكِيل مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلاَ تَعَدٍّ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَكُل مَا يَتَعَدَّى فِيهِ الْوَكِيل مَضْمُونٌ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى - كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ رُشْدٍ (2) -.
55 - الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ شِرَاؤُهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ وَغَبْنٍ يَسِيرٍ - وَهُوَ مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ - إِذَا لَمْ يَكُنْ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، فَإِنْ كَانَ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ، (فَيَضْمَنُهَا الْوَكِيل) وَهَذَا لأَِنَّ التُّهْمَةَ فِي الأَْكْثَرِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ (3) .
وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ، إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، إِلاَّ بِمِثْل الْقِيمَةِ، عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلاَ بِأَقَل مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ الْمُوَكِّل، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا، وَيَتَقَيَّدُ مُطْلَقُ الْوَكَالَةِ بِالْمُتَعَارَفِ (4) .
__________
(1) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 416، وانظر كشاف القناع 3 / 484.
(2) بداية المجتهد (2 / 369) وانظر روضة الطالبين 4 / 325 و 326.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 408، وتبيين الحقائق 4 / 271 و 272 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 382، وكشاف القناع 3 / 477.
(4) تبيين الحقائق 4 / 271.(28/251)
وَمِمَّا يَضْمَنُهُ الْوَكِيل قَبْضُ الدَّيْنِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ.
وَالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لأَِنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَهِيَ لإِِظْهَارِ الْحَقِّ.
وَيُعْتَبَرُ قَبْضُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لِلدَّيْنِ تَعَدِّيًا، فَيَضْمَنُهُ إِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ كُل مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيل، يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
56 - وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ مِنْهَا:
1 - إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل شَيْئًا، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ (2) .
2 - إِذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُوَكِّل، فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ (3) .
3 - إِذَا دَفَعَ الْوَكِيل دَيْنًا عَنْ الْمُوَكِّل، وَلَمْ يُشْهِدْ، فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ، ضَمِنَ الْوَكِيل لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الإِْشْهَادِ (4)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 278، والدر المختار 4 / 412، وانظر روضة الطالبين 4 / 320، وكشاف القناع 3 / 483، والمغني بالشرح الكبير 5 / 218، 219، وبداية المجتهد 2 / 369.
(2) المغني 5 / 220، وكشاف القناع 3 / 482.
(3) المغني 5 / 229.
(4) الشرح الكبير للدردير 3 / 390، وبداية المجتهد 2 / 369.(28/251)
وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّل قَال لَهُ: لاَ تَدْفَعْ إِلاَّ بِشُهُودٍ، فَدَفَعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ (1) .
4 - إِذَا سَلَّمَ الْوَكِيل الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِ ثَمَنِهِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُوَكِّل (2) .
وَكَذَا إِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ، أَوْ قَبْضِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الْمَبِيعَ. فَلَوْ سَلَّمَ الثَّمَنَ قَبْل تَسَلُّمِ الْمَبِيعِ، وَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل تَسَلُّمِهِ ضَمِنَهُ لِلْمُوَكِّل، إِلاَّ بِعُذْرٍ (3) .
57 - لِلْوَكِيل بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ:
أ - إِنْ " هَلَكَ قَبْل الْحَبْسِ، يَهْلَكُ عَلَى الْمُوَكِّل، وَلاَ يَضْمَنُ الْوَكِيل.
ب - وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
1 - يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ، هَلاَكَ الْمَبِيعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُوَكِّل فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
2 - وَيَهْلِكُ بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الثَّمَنِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ رَجَعَ الْوَكِيل بِذَلِكَ الْفَضْل عَلَى مُوَكِّلِهِ.
3 - وَقَال: زُفَرُ يَهْلِكُ عَلَى الْوَكِيل هَلاَكَ الْمَغْصُوبِ، لأَِنَّ الْوَكِيل عِنْدَهُ لاَ يَمْلِكُ الْحَبْسَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 627.
(2) روضة الطالبين 4 / 309، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 342، وكشاف القناع 3 / 481.
(3) كشاف القناع 3 / 481، 482 بتصرف.(28/252)
مِنْ الْمُوَكِّل، فَيَصِيرُ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْوَكِيل إِذَا بَاعَ إِلَى أَجَلٍ، أَنْ يُشْهِدَ، وَإِلاَّ ضَمِنَ. وَتَرَدَّدَتِ النُّقُول، فِي أَنَّ عَدَمَ الإِْشْهَادِ، شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطٌ لِلضَّمَانِ.
وَنَقَل الْجَمَل أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُوَكِّل عَنِ الإِْشْهَادِ، أَوْ قَال: بِعْ وَأَشْهِدْ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل الضَّمَانُ (2) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَة) .
ضَمَانُ الْوَصِيِّ فِي عَقْدِ الْوِصَايَةِ (أَوِ الإِْيصَاءِ) :
58 - الإِْيصَاءُ: تَفْوِيضُ الشَّخْصِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَمَصَالِحِ أَطْفَالِهِ، إِلَى غَيْرِهِ، بَعْدَ مَوْتِهِ (3) .
وَيُعْتَبَرُ الْوَصِيُّ نَائِبًا عَنِ الْمُوصِي، وَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ، وَيَدُهُ عَلَى مَال الْمُتَوَفَّى يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنَ الْمَال بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَيَضْمَنُ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
أ - إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ: الَّذِي لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُتَقَوِّمِينَ، لأَِنَّ
__________
(1) فتاوى قاضي خان - بهامش الفتاوى الهندية 3 / 37.
(2) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 409، 410، وانظر شرح المحلي على المنهاج، وحاشية القليوبي عليه 2 / 342.
(3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام 2 / 427 (ط: دار الخلافة العلية الآستانة سنة: 1330 هـ) .(28/252)
وِلاَيَتَهُ لِلنَّظَرِ، وَلاَ نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ (1) .
ب - كَمَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ إِذَا دَفَعَ الْمَال إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ الإِْدْرَاكِ، قَبْل ظُهُورِ رُشْدِهِ، لأَِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.
وَقَال الإِْمَامُ: بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لأَِنَّ لَهُ وِلاَيَةَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ (2) .
ج - لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الاِتِّجَارُ فِي مَال الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَل:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ رَأْسَ الْمَال، وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ لَهُ الرِّبْحَ، وَلاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ (3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ:
59 - لَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ لَمْ تُضْمَنْ، لأَِنَّهُ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - لاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 453 وانظر تبيين الحقائق 6 / 211.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 454.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 455، وانظر حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 6 / 212.(28/253)
لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ لاِنْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا (1) .
وَتُضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ فَقَطْ:
أ - حَال مَا إِذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ رَدَّهَا - لأَِمْرٍ مَا - وَحَكَمَ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ، وَامْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنَ الرَّدِّ، ثُمَّ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ، لأَِنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَالأَْمَانَةُ تُضْمَنُ بِالْمَنْعِ وَالْجَحْدِ بِالطَّلَبِ، لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ (2) .
ب - حَال مَا إِذَا وَهَبَهُ مُشَاعًا قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ كَالأَْرْضِ الْكَبِيرَةِ، وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهَا هِبَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْمَحَل قَابِلٌ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ (3) لَكِنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمُشَاعِ، وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ فِيهَا (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 128 و 129.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 519، وتبيين الحقائق 5 / 101، وانظر درر الحكام في شرحه غرر الأحكام لملا خسرو 2 / 223.
(3) القوانين الفقهية ص 241 وروضة الطالبين 5 / 376، وكشاف القناع 4 / 305.
(4) الاختيار 3 / 50، وتبيين الحقائق 5 / 93 و 94، ومجمع الضمانات ص 335.(28/253)
رَابِعًا: الْعُقُودُ الْمُزْدَوَجَةُ الأَْثَرِ:
ضَمَانُ الإِْجَارَةِ:
60 - إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ: تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ ضَرْبَانِ:
أ - فَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ بِمُجَرَّدِهَا هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَتَتَحَدَّدُ بِالْمُدَّةِ، كَإِجَارَةِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَالْحَوَانِيتِ لِلتِّجَارَةِ، وَالسَّيَّارَاتِ لِلنَّقْل، وَالأَْوَانِي لِلاِسْتِعْمَال.
ب - وَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا عَمَلاً مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ الْعَامِل، كَبِنَاءِ الدَّارِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَإِصْلاَحِ الأَْجْهِزَةِ الآْلِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ج - فَإِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُجَرَّدُ السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، يُفَرَّقُ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:
أ - فَتُعْتَبَرُ الدَّارُ الْمَأْجُورَةُ، وَالسَّيَّارَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ - مَثَلاً - أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ عَطِبَتِ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ فِي يَدِهِ، بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ قَبْضَ الإِْجَارَةِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ مَضْمُونًا، كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 210، وانظر القوانين الفقهية ص 183 وكفاية الطالب بحاشية العدوي 2 / 182، ومغني المحتاج 2 / 351، وكشاف القناع 3 / 546.(28/254)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ، بَعْدَ انْتِهَاءِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فِي الأَْصَحِّ، اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ، كَالْمُودَعِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ: يَدُ ضَمَانٍ.
قَال السُّبْكِيُّ: فَإِنْ تَلِفَتْ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ إِعْلاَمِهِ، فَلاَ ضَمَانَ جَزْمًا، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا قَطْعًا (1) .
فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِي فَسَادِ الإِْجَارَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ بَاطِلٌ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: " مَا لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ، لاَ يُصَيِّرُهُ الشَّرْطُ مَضْمُونًا، وَمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِ نَفْيِهِ ".
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَوُجُوبِهِ بِشَرْطِهِ (3) ، اسْتَدَلاَّ بِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 351.
(2) الدر المختار 5 / 40.
(3) المغني 6 / 118.
(4) حديث: " المسلمون عند شروطهم ". تقدم تخريجه ف (50) .(28/254)
ب - أَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ: السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبُ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، بِضَمَانِ بَدَلِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِهِ مِنِ اسْتِيفَائِهَا، إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً، بِلاَ خِلاَفٍ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعْ، وَهَذَا مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (470) مِنَ الْمَجَلَّةِ، وَفِيهَا: تَلْزَمُ الأُْجْرَةُ فِي الإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ - أَيْضًا - بِالاِقْتِدَارِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، مَثَلاً: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ دَارًا بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ، فَبَعْدَ قَبْضِهَا يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ فَاسِدَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا:
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رَجَبٍ - أَنَّهَا كَالصَّحِيحَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الضَّمَانِ أَجْرُ الْمِثْل، بَالِغًا مَا بَلَغَ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَالإِْجَارَةُ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، فَتُعْتَبَرُ بِبَيْعِ الأَْعْيَانِ، وَفِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ إِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، فَكَذَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، يَرَوْنَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ:
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 121 و 122، والهداية وشروحها 8 / 35، وانظر القوانين الفقهية ص 184.(28/255)
فَفِي الصَّحِيحَةِ: يَضْمَنُ الأُْجْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، مَهْمَا بَلَغَتْ.
أَمَّا فِي الْفَاسِدَةِ، فَضَمَانُ الأُْجْرَةِ مَنُوطٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ تَجِبُ الأُْجْرَةُ إِلاَّ بِالاِنْتِفَاعِ، وَيَقُول ابْنُ رَجَبٍ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَعَلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ بِالاِنْتِفَاعِ، وَهُوَ الأَْشْبَهُ (1) .
61 - أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ إِنْجَازُ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال، كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ صِفَةِ الْعَامِل، وَهُوَ الأَْجِيرُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا خَاصًّا، أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْ عَامًّا.
وَالأَْجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ يَعْمَل لِوَاحِدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَيَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْعَمَل.
وَالأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ حَتَّى يَعْمَل، وَالضَّابِطُ: أَنَّ: كُل مَنْ يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ (أَيْ خَاصٌّ) وَكُل مَنْ لاَ يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ (2) ".
__________
(1) القواعد الفقهية ص 67.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 134.(28/255)
وَفِي ضَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة) . .
ضَمَانُ الرَّهْنِ:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ، إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، بَعْدَ قَبْضِهَا وَبَعْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِ الرَّهْنِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى فِيهِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ بِهَلاَكِهِ (أَيِ الرَّهْنِ) مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ (1) ، وَذَلِكَ:
لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، كَانَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً، أَمَّا عَيْنُهُ فَأَمَانَةٌ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ رَجُلاً رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 96، وشرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 275 و 276، والمغني - مع الشرح الكبير - 4 / 442، وكشاف القناع 3 / 341.
(2) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه ". أخرجه الشافعي في المسند (2 / 164 - ترتيبه) ، وأعله غير واحد بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (3 / 36) .(28/256)
لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ (1) .
وَلِحَدِيثِ عَطَاءٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ (2) (وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي وُضِعَ فِي مُقَابِلِهِ) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ بِشُرُوطٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لاَ فِي يَدِ غَيْرِهِ، كَالْعَدْل.
ب - أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالْحُلِيِّ وَالسِّلاَحِ وَالْكُتُبِ وَالثِّيَابِ.
ج - أَنْ لاَ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلاَكِهِ أَوْ تَلَفِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَغَارَاتِ الأَْعْدَاءِ، وَمُصَادَرَةِ الْبُغَاةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ الْبَرَاءَةَ وَعَدَمَ ضَمَانِهِ، لأَِنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلشَّيْءِ قَبْل وُجُوبِهِ، وَالتُّهْمَةُ مَوْجُودَةٌ، خِلاَفًا لأَِشْهَبَ، الْقَائِل بِعَدَمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّرْطِ (3) .
__________
(1) حديث عطاء أنه حدث: " أن رجلا رهن فرسا. . . . . ". أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 172) ، وقال عبد الحق الإشبيلي: " هو مرسل وضعيف " نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (4 / 321) .
(2) حديث عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرهن بما فيه ". أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 173) ، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 322) عن ابن القطان أنه قال: (مرسل صحيح) .
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 254 و 255، وانظر جواهر الإكليل 2 / 84 و 85 والقوانين الفقهية (213) .(28/256)
63 - وَفِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ الْمَضْمُونِ، بَعْضُ الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل:
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا هَلَكَ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ يَوْمئِذٍ دَخَل فِي ضَمَانِهِ، وَفِيهِ يَثْبُتُ الاِسْتِيفَاءُ يَدًا، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلاَكِ (1) .
أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ، لِوُرُودِهِ عَلَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَهُ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ - فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ التَّالِفِ - ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، كُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ:
الأَْوَّل: يَوْمُ التَّلَفِ، لأَِنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ كَانَتْ قَائِمَةً، فَلَمَّا تَلِفَتْ قَامَتْ قِيمَتُهَا مَقَامَهَا.
الثَّانِي: يَوْمُ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ كَشَاهِدٍ، وَضَعَ خَطَّهُ وَمَاتَ، فَيُعْتَبَرُ خَطُّهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ يَوْمَ كَتْبِهِ.
الثَّالِثُ: يَوْمُ عَقْدِ الرَّهْنِ، قَال الْبَاجِيُّ: وَهُوَ أَقْرَبُ، لأَِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَرْهَنُونَ مَا يُسَاوِي الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ فِيهِ غَالِبًا (3) .
ضَمَانُ الرَّهْنِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِ الْعَدْل:
64 - يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ عَدْلٍ ثَالِثٍ، غَيْرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَتِمُّ وَيَلْزَمُ بِقَبْضِ
__________
(1) الاختيار 2 / 65.
(2) رد المحتار 5 / 309.
(3) جواهر الإكليل 2 / 87 وانظر - أيضا - الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 260.(28/257)
الْعَدْل، لأَِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ.
وَلاَ يَأْخُذُهُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ اسْتِيفَاءً، فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إِبْطَال حَقِّ الآْخَرِ.
وَلَوْ دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى أَحَدِهِمَا ضَمِنَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ، لأَِنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، وَمُودَعُ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ، وَكِلاَهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمُودَعُ يُضْمَنُ بِالدَّفْعِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْل: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَهْلَكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ، وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ، فَإِذَا هَلَكَ، هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ (2) .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الأَْمِينِ، هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ الأَْمِينَ إِذَا دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَتَلِفَ:
فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، أَوْ ضَمِنَ لَهُ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ هُوَ فِيهِ، فَيَضْمَنُ أَقَلَّهُمَا.
__________
(1) الهداية بشروحها 9 / 105، وتبيين الحقائق 6 / 80، وانظر المغني 4 / 390.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223 و 224.
(3) الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 253.(28/257)
وَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ (1) .
الضَّمَانُ فِي الصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ:
65 - إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، كَسُكْنَى دَارٍ، وَرُكُوبِ سَيَّارَةٍ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، اعْتُبِرَ هَذَا الصُّلْحُ بِمَثَابَةِ عَقْدِ إِجَارَةٍ، وَعِبَارَةِ التَّنْوِيرِ: وَكَإِجَارَةٍ إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ (2) .
كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِينَارٍ، فَصَالَحَهُ الْمَدِينُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهِ، أَوْ رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ هَذَا الصُّلْحُ (3) .
وَتَثْبُتُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ شُرُوطُ الإِْجَارَةِ، مِنْهَا التَّوْقِيتُ - إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ (4) - وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا - كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ (5) - وَمِنْ أَهَمُّهَا: اعْتِبَارُ الْعَيْنِ الْمُتَصَالَحِ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَالدَّارِ وَالسَّيَّارَةِ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، أَمَّا الْمَنْفَعَةُ ذَاتُهَا فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُصَالِحِ، بِمُجَرَّدِ تَسَلُّمِ الْعَيْنِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 81.
(2) الدر المختار 4 / 474.
(3) انظر بدائع الصنائع 6 / 47، والدر المختار 4 / 474، والهداية وشروحها 7 / 31 (ط: الأولى، بولاق: 1317) ، وشرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 6 / 2 و 3، والشرح الكبير للدردير 3 / 310، وروضة الطالبين 4 / 193 والمغني 5 / 16، 19.
(4) الدر المختار 4 / 474.
(5) روضة الطالبين 4 / 193.(28/258)
فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الصُّلْحِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، اعْتُبِرَ الْمُصَالِحُ مُسْتَوْفِيًا لِبَدَل الصُّلْحِ حُكْمًا، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فِعْلاً أَوْ عَطَّلَهَا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الإِْجَارَةِ.
يَدُ الأَْمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:
66 - الْمَشْهُورُ تَقْسِيمُ الْيَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: يَدِ أَمَانَةٍ، وَيَدِ ضَمَانٍ.
وَيَدُ الأَْمَانَةِ، حِيَازَةُ الشَّيْءِ أَوِ الْمَال، نِيَابَةً لاَ تَمَلُّكًا، كَيَدِ الْوَدِيعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيِّ.
وَيَدُ الضَّمَانِ، حِيَازَةُ الْمَال لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْحَائِزِ، كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَالِكِ، وَالْمُقْتَرِضِ.
وَحُكْمُ يَدِ الأَْمَانَةِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ أَمَانَةً، لاَ يَضْمَنُ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، كَالْوَدِيعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ مَنْ لاَ يُودَعُ مِثْلُهَا عِنْدَ مِثْلِهِ يَضْمَنُهَا.
وَحُكْمُ يَدِ الضَّمَانِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الْمَال، عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، يَضْمَنُهُ فِي كُل حَالٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ وَالإِْتْلاَفِ.
فَالْمَالِكُ ضَامِنٌ لِمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ،(28/258)
فَإِذَا انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ.
وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ، بِعَقْدِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَالضَّمَانُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَالِكِ (1) .
أَهَمُّ الأَْحْكَامِ وَالْفَوَارِقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ:
أ - تَأْثِيرُ السَّبَبِ السَّمَاوِيِّ:
67 - إِذَا هَلَكَ الشَّيْءُ بِسَبَبٍ لاَ دَخْل لِلْحَائِزِ فِيهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ، انْتَفَى الضَّمَانُ فِي يَدِ الأَْمَانَةِ، لاَ فِي يَدِ الضَّمَانِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِسَبَبِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ، لاَ يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ، لأَِنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ.
بِخِلاَفِ يَدِ الْبَائِعِ قَبْل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِي الضَّمَانُ بِهَلاَكِهِ بِذَلِكَ، بَل يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ بَقَائِهِ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كُلَّمَا طَالَبَ بِالثَّمَنِ، فَامْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مَالِكٍ، انْتِقَال الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 248، والقوانين الفقهية (220) والمحلي على المنهاج 3 / 29، والقواعد لابن رجب (53 و 308 و 309) بتصرف فيها. وانظر الفروق 2 / 207.
(2) البدائع 5 / 238، وانظر الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 268، وانظر روضة الطالبين 3 / 499.
(3) القوانين الفقهية ص 164 وانظر جواهر الإكليل لمختصر سيدي خليل 2 / 27 والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 70 و 71.(28/259)
ب - تَغَيُّرُ صِفَةِ وَضْعِ الْيَدِ:
68 - تَتَغَيَّرُ صِفَةُ يَدِ الأَْمِينِ وَتُصْبِحُ يَدَ ضَمَانٍ بِالتَّعَدِّي، فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ، وَلَوْ سَمَاوِيًّا.
أ - فَفِي الإِْجَارَةِ، يُعْتَبَرُ الأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَمِينًا - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، لاَ يُضْمَنُ إِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، إِلاَّ إِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، كَالْوَدِيعِ إِذَا قَصَّرَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ (1) ، أَوْ تَعَمَّدَ الإِْتْلاَفَ، أَوْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِفِعْلِهِ، كَتَمَزُّقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ (2) .
ب - وَفِي الْوَدِيعَةِ، يَضْمَنُ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ، كَأَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَنْعِ، أَوْ خَالَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ لاَ تُودَعُ عِنْدَ مِثْلِهِ، أَوْ سَافَرَ بِهَا، أَوْ جَحَدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَدِيعَة) .
ج - وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا عَدَا الْحَنَابِلَةَ، لاَ تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِالاِنْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ، وَتُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، كَأَنْ يَدُل عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ يُتْلِفَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا
__________
(1) مجمع الضمانات ص 27.
(2) مجمع الضمانات ص 28 والدر المختار 5 / 41.(28/259)
مِنَ الْمُعِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ وَمَا لاَ يُغَابُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
ج - الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ:
69 - مَعْنَى التَّجْهِيل: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ حَالَهَا، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ (2) ، فَالْوَدِيعُ إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً حَال الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَوَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ حَالَهَا، يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ.
وَمَعْنَى ضَمَانِهَا - كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ - صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ (3) .
وَكَذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً لِحَال بَدَل الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.
وَكَذَا كُل شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ (4) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الإِْيصَاءِ فِي الْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَقَالُوا: إِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِيُقْتَل لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ،
__________
(1) مجمع الضمانات (55 و 56) والدر المختار 4 / 503 وما بعدها، والقوانين الفقهية (245 و 246) وشرح المنهج وحاشية الجمل 3 / 458 و 459 والمغني بالشرح الكبير 5 / 355 و 358.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم (273) ، وانظر مجمع الضمانات ص 87.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 274.
(4) مجمع الضمانات ص 88 وانظر الأمثلة الفرعية في الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 3 / 425 و 426، والأشباه والنظائر لابن نجيم (273) .(28/260)
لأَِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَلاَ بُدَّ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ بَيَانِ الْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ قَال: عِنْدِي لِفُلاَنٍ ثَوْبٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، ضَمِنَ لِعَدَمِ بَيَانِهِ (1) . (ر: تَجْهِيل) .
د - الشَّرْطُ:
70 - لاَ أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي صِفَةِ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ.
قَال الْبَغْدَادِيُّ: اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَاطِلٌ، وَقِيل: تَصِيرُ مَضْمُونَةً (2) .
وَقَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ بَاطِلٌ، بِهِ يُفْتَى (3) ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.
وَلَوْ شَرَطَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الأَْمَانَاتِ (4) .
وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، بِأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ قَال الْوَدِيعُ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا لَمْ
__________
(1) كفاية الأخيار للحصني 2 / 8 (ط: دار المعرفة في بيروت) .
(2) مجمع الضمانات (55) .
(3) الدر المختار 4 / 494.
(4) مجمع الضمانات (55) .
(5) الشرح الكبير للدردير 3 / 423.(28/260)
يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ، لأَِنَّ ضَمَانَ الأَْمَانَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ (1) .
وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأَْمَانَةِ فِي الْعَارِيَّةِ - وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الاِسْتِعْمَال - هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَشَرْطُ أَنْ لاَ ضَمَانَ فِيهَا فَاسِدٌ لاَ مُفْسِدٌ (2) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ: كُل مَا كَانَ أَمَانَةً لاَ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ، فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ. وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لاَ يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَهَذَا يَدُل عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالأَْوَّل ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ (3) .
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ:
الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ، نُشِيرُ إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 4 / 168.
(2) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 3 / 20.
(3) الشرح الكبير في ذيل المغني 5 / 366 و 367.(28/261)
أَهَمِّهَا، بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا، وَالتَّمْثِيل لَهَا، كُلَّمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ أَوَائِل حُرُوفِهَا:
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: " الأَْجْرُ وَالضَّمَانُ لاَ يَجْتَمِعَانِ (1) ":
71 - الأَْجْرُ هُوَ: بَدَل الْمَنْفَعَةِ. وَالضَّمَانُ - هُنَا - هُوَ: الاِلْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، هَلَكَتْ أَوْ لَمْ تَهْلَكْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ.
فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً، لِحَمْل شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَل مِنْهُ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، كَأَنْ حَمَل مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلاَ أَجْرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا، لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلاَ أَجْرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْجْرَ وَالضَّمَانَ لاَ يَجْتَمِعَانِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
لَكِنِ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ، بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الأَْجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ - مَثَلاً - فِعْلاً، ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا، وَضَمِنَ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى
__________
(1) المادة ص 85 من المجلة.
(2) تبيين الحقائق 5 / 118، والبدائع 4 / 213.(28/261)
عِنْدَهُمْ، إِذَا سَلِمَتِ الدَّابَّةُ وَلَمْ تَهْلَكْ (1) .
وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الأَْجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالأَْعْيَانِ، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالأَْعْيَانِ (2) وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَجَبَ مَعَ الأُْجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لاِنْفِرَادِ كُلٍّ بِإِيجَابٍ (3) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ: وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا (4) .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: " إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ (5) .
72 - الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْل: هُوَ الْفَاعِل لَهُ بِالذَّاتِ، وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّل إِلَى وُقُوعِهِ، وَيَتَخَلَّل بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُل الأَْثَرُ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّل فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ لإِِضَافَةِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 117.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 33، والمغني 5 / 435، وكشاف القناع 4 / 111.
(3) كشاف القناع 4 / 111 بتصرف.
(4) القوانين الفقهية (217) .
(5) المادة (89) من المجلة.(28/262)
الْحُكْمِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَسَبِّبِ، قَال خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي (1) فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ، فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ، لأَِنَّهُ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ، لأَِنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُل بِفِعْلِهِ.
وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْل أَحَدٍ، ضَمِنَ الْحَافِرُ، لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَل سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ الْمَدْلُول، ضَمِنَ السَّارِقُ لاَ الدَّال.
وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ، لاَ يَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِتَخَلُّل فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَلَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى رِجْل الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ (2) .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: " الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ (3) ".
73 - تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِضْطِرَارُ فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ، أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالإِْكْرَاهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإِْثْمُ، وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ، أَمَّا حَقُّ الآْخَرِينَ فَلاَ يَتَأَثَّرُ بِالاِضْطِرَارِ، وَيَبْقَى الْمَال
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 444.
(2) جامع الفصولين 2 / 81 ومجمع الضمانات (136) .
(3) المادة (33) من المجلة.(28/262)
مَضْمُونًا بِالْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. فَلَوِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ إِلَى أَكْل طَعَامِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَضَمِنَ قِيمَتَهُ، لِعَدَمِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ إِذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ (1) .
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: " الأَْمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ (2) ".
74 - الأَْمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْل جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَال شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلاَفِهِ عَلَيْهِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَذَا الأَْمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِل.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:
بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلاً بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ. وَأَنْ لاَ يَكُونَ الآْمِرُ ذَا وِلاَيَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.
فَلَوْ كَانَ الآْمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا (3) .
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: " جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ ".
75 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا
__________
(1) البدائع 7 / 179، وشرح الزرقاني 3 / 29، والقواعد لابن رجب (36 و 286) .
(2) المادة (95) من المجلة.
(3) جامع الفصولين 2 / 78.(28/263)
جُبَارٌ (1) وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، لأَِنَّهَا لاَ تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ الْحَيَوَانَاتُ، وَلاَ يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: " الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ (3) ".
76 - يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْل الْجَائِزِ الْمُبَاحِ شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلآْخَرِينَ، لاَ يُضْمَنُ الضَّرَرُ. فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لاَ يَضْمَنُ الْحَافِرُ شَيْئًا. وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، فَيَضْمَنُ - مَثَلاً - رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ (4) .
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلاَفُ الآْخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ مَضْمُونًا.
__________
(1) حديث: " العجماء جرحها جبار ". أخرجه البخاري (12 / 254) ومسلم (3 / 1334) .
(2) مجمع الضانات (185) وجامع الفصولين 2 / 85.
(3) المادة (90) من المجلة.
(4) الدر المختار 5 / 386.(28/263)
فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَال غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لأَِجْلِهَا جَائِزٌ، بَل وَاجِبٌ (1) .
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2)
77 - الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ. كَسُكْنَى الدَّارِ، وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.
وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِل تَحَمُّل خَسَارَةِ هَلاَكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ لاَ يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ (3) وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (4) .
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ (5) .
78 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَال ذَلِكَ:
__________
(1) درر الحكام 2 / 109 - 111، ومجمع الضمانات (149) وجامع الفصولين 2 / 88.
(2) المادة (85) من المجلة.
(3) القوانين الفقهية، ص 217 (والأشباه والنظائر لابن نجيم 151، 152، وانظر فروعا أخرى مماثلة في جامع الفصولين 2 / 118 - 120) .
(4) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ". أخرجه أحمد (2 / 174 - 175) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(5) المادة (87) من المجلة.(28/264)
1 - نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.
2 - وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.
3 - وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهَا تَوْثِيقٌ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: " لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَخْذُ مَال أَحَدٍ بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ (1) ".
79 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (2) .
فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَال الآْخَرِينَ بِالْبَاطِل كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.
أَحْكَامُ الضَّمَانِ:
أَحْكَامُ الضَّمَانِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ الأَْقْسَامِ.
1 - ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الأَْنْفُسِ وَالْجِرَاحِ) .
2 - ضَمَانُ الْعُقُودِ.
3 - ضَمَانُ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال، كَالإِْتْلاَفَاتِ، وَالْغُصُوبِ.
وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْل عَلَى
__________
(1) المادة (87) من المجلة.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ". تقدم تخريجه في 6.(28/264)
ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال.
ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الأَْنْفُسِ وَالْجِرَاحِ)
80 - ضَمَانُ الدِّمَاءِ أَوِ الأَْنْفُسِ هُوَ: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَشْمَل الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا يَشْمَل التَّعْزِيرُ حُكُومَةَ الْعَدْل وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ.
وَيُقَسَّمُ الضَّمَانُ - بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ - إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
1 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
2 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الأَْطْرَافِ وَالْجِرَاحِ.
3 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهِيَ: الإِْجْهَاضُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
يَتَمَثَّل فِيمَا يَلِي، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا:
الْقَتْل الْعَمْدُ:
81 - الْقَتْل الْعَمْدُ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، فَضَمَانُهُ بِالْقِصَاصِ.
(ر: مُصْطَلَح: قَتْل، قِصَاص) .(28/265)
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَآخَرُونَ الْكَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا (1) .
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، أَوْ تَعَذَّرَ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ أَوْ بِمَا صُولِحَ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَح: دِيَات) .
وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ حِينَئِذٍ التَّعْزِيرَ، كَمَا يُوجِبُونَ فِي الْقَتْل غِيلَةً - الْقَتْل عَلَى وَجْهِ الْمُخَادِعَةِ وَالْحِيلَةِ - قَتْل الْقَاتِل تَعْزِيرًا، إِنْ عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول (2) .
كَمَا يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُول وَوَصِيَّتِهِ.
الْقَتْل الشَّبِيهُ بِالْعَمْدِ:
82 - هُوَ: الْقَتْل بِمَا لاَ يَقْتُل فِي الْغَالِبِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَبِالْمُثْقَلاَتِ كَذَلِكَ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْحَدِيدِ وَالْمَعْدِنِ - وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ هَذَا مِنَ الْعَمْدِ (3) .
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي الْحَدِيثِ: أَلاَ وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا (4) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 162.
(2) القوانين الفقهية ص 227.
(3) الهداية وشروحها 8 / 144 و 145، وشرح الخرشي 8 / 7 - (ط: دار صادر في بيروت) ، والقوانين الفقهية ص 226 وكفاية الأخيار 2 / 98، وكشاف القناع 5 / 512.
(4) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد ". أخرجه النسائي (8 / 41) من حديث ابن مسعود، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15)(28/265)
الْقَتْل الْخَطَأُ:
83 - وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا بِالنَّصِّ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَهَذَا لِعُمُومِ النَّصِّ (1) .
وَالضَّمَانُ كَذَلِكَ فِي الْقَتْل الشَّبِيهِ بِالْخَطَأِ فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَمَثَّل بِانْقِلاَبِ النَّائِمِ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلُهُ، أَوِ انْقِلاَبِ الأُْمِّ عَلَى رَضِيعِهَا فَيَمُوتُ بِذَلِكَ.
الْقَتْل بِسَبَبٍ:
84 - قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَتَمَثَّل بِمَا لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ فَقَطْ، عِنْدَهُمْ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ حِرْمَانَ، لاِنْعِدَامِ الْقَتْل فِيهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا الدِّيَةَ صَوْنًا لِلدِّمَاءِ عَنِ الْهَدَرِ (2) .
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يُلْحِقُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقَتْل بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، دِيَةً،
__________
(1) الهداية وشرح الكفاية 9 / 148 والدر المختار ورد المحتار 5 / 342، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 8 / 49، وانظر في هذه الأحكام: القوانين الفقهية (228) وبداية المجتهد 2 / 511، وكفاية الطالب شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، بحاشية العدوي 2 / 286، وكفاية الأخيار 2 / 97، 98، والروض المربع (375) .
(2) الكفاية شرح الهداية 9 / 148، والدر المختار ورد المحتار 5 / 342، البدائع 7 / 274.(28/266)
وَكَفَّارَةً، وَحِرْمَانًا، لأَِنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِل (1) .
(وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَح: قَتْل وَدِيَات وَجِنَايَة) .
ثَانِيًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
وَتَتَحَقَّقُ فِي الأَْطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي الشِّجَاجِ.
85 - أ - أَمَّا الأَْطْرَافُ:
فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ (2) } .
وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى النَّاسُ (3) .
فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالأَْرْشِ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَال فِيمَا دُونَ النَّفْسِ (4) .
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
__________
(1) القوانين الفقهية (228) وشرح الخرشي 8 / 49، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 102 وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 162، والمغني بالشرح الكبير 10 / 37 و 7 / 161 و 162، والروض المربع (382) .
(2) سورة المائدة / 45.
(3) مواهب الجليل 6 / 247.
(4) الدر المختار 5 / 368.(28/266)
86 - ب - وَأَمَّا الْجِرَاحُ
فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً، أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ الْمَوْتِ.
وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ (1) .
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:
فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الْعَقْل (2) .
وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الأَْدْوِيَةِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ) .
87 - ج - وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ (4) فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 296، والدر المختار 5 / 376، وتبيين الحقائق 6 / 117 والقوانين الفقهية (230) وجواهر الإكليل 2 / 259، الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 112، والوجيز 2 / 141، والمغني بالشرح الكبير 9 / 410، 411.
(2) حديث: " في الجائفة ثلث العقل ". أخرجه أحمد (2 / 217) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(3) الدر المختار 5 / 376.
(4) الدر المختار 5 / 372.(28/267)
فَفِيهِ الأَْرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ (2) . فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَل بِهِ (3) .
لِلتَّفْصِيل: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
88 - وَهِيَ الإِْجْهَاضُ، فَإِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بِشُرُوطِهِ، فَضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ اتِّفَاقًا، لِحَدِيثِ
__________
(1) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضحة خمس من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) ضمن حديث طويل، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جمع من العلماء.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء ". أخرجه عبد الرزاق (9 / 306) من حديث عمر بن عبد العزيز مرسلا.
(3) البدائع 7 / 309، والدر المختار ورد المحتار 5 / 372، وتبيين الحقائق 6 / 132، 133، والقوانين الفقهية (230) وبداية المجتهد 2 / 512، 514، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 133 وما بعدها والشرح الكبير مع المغني 9 / 461 وما بعدها و 621 وما بعدها.(28/267)
أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ (1) .
وَتَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي مَال الْعَاقِلَةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا فِي مَال الْجَانِي.
وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْدَبُ، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ الْجَنِينَ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الرَّقَبَةُ، انْتَقَلَتِ الْعُقُوبَةُ إِلَى بَدَلِهَا مَالاً، وَهُوَ: نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُل، وَعُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ (2) .
(ر: جَنِين، غُرَّة) .
ضَمَانُ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال:
89 - تَتَمَثَّل الأَْفْعَال الضَّارَّةُ بِالأَْمْوَال فِي الإِْتْلاَفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْغُصُوبِ، وَنَحْوِهَا.
وَلِضَمَانِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ، أَحْكَامٌ عَامَّةٌ، وَأَحْكَامٌ خَاصَّةٌ:
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة ". أخرجه البخاري (12 / 252) ومسلم (3 / 1309) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 326 و 327، والدر المختار ورد المحتار 5 / 377 و 378، والقوانين الفقهية (228) وبداية المجتهد 2 / 508، 509 وجواهر الإكليل 2 / 266 و 272، وشرح ابن أبي زيد القيرواني بحاشية العدوي 2 / 286، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 99 وما بعدها، وشرح المحلي بحاشية القليوبي 4 / 159 وما بعدها. والمغني بالشرح الكبير 9 / 550 وما بعدها.(28/268)
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الْعَامَّةُ فِي ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال:
90 - تَقُومُ فِكْرَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الضَّمَانِ - خِلاَفًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْنْفُسِ - عَلَى مَبْدَأِ جَبْرِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ الْحَائِقِ بِالآْخَرِينَ، أَمَّا فِي تِلْكَ فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَبْدَأِ زَجْرِ الْجُنَاةِ، وَرَدْعِ غَيْرِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالضَّمَانِ عَنْ جَبْرِ الضَّرَرِ وَإِزَالَتِهِ، هُوَ التَّعْبِيرُ الشَّائِعُ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّعْوِيضِ، كَمَا فَعَل ابْنُ عَابِدِينَ (1) .
وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ، حَتَّى أَفْرَدَهُ الْبَغْدَادِيُّ بِالتَّصْنِيفِ فِي كِتَابِهِ: (مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ) .
وَمِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الضَّمَانِ قَاعِدَةُ: " الضَّرَرُ يُزَال ". وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى الأَْمْوَال يَتَحَقَّقُ بِالتَّعْوِيضِ الَّذِي يُجْبَرُ فِيهِ الضَّرَرُ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّمَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّهُ: رَدُّ مِثْل الْهَالِكِ أَوْ قِيمَتِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ (3) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 177 (ط: الآستانة) .
(2) غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر للحموي 4 / 6.
(3) نيل الأوطار 5 / 299 في شرح أحاديث الوديعة والأمانة وضمان اليد، نقلا عن ضوء النهار.(28/268)
وَكِلاَ التَّعْرِيفَيْنِ يَسْتَهْدِفُ إِزَالَةَ الضَّرَرِ، وَإِصْلاَحَ الْخَلَل الَّذِي طَرَأَ عَلَى الْمَضْرُورِ، وَإِعَادَةَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْل وُقُوعِ الضَّرَرِ.
طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ:
91 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِيَّاتِ، هِيَ: مُرَاعَاةُ الْمِثْلِيَّةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الضَّرَرِ، وَبَيْنَ الْعِوَضِ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: " ضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْل بِالنَّصِّ (1) " يُشِيرُ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ (2) } .
وَالْمِثْل وَإِنْ كَانَ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْعَدْل، لَكِنَّ الأَْصْل أَنْ يَرُدَّ الشَّيْءَ الْمَالِيَّ الْمُعْتَدَى فِيهِ نَفْسَهُ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، مَا دَامَ قَائِمًا مَوْجُودًا، لَمْ يَدْخُلْهُ عَيْبٌ يُنْقِصُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
بَل هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ فِي الْغَصْبِ، الَّذِي هُوَ أَوَّل صُوَرِ الضَّرَرِ وَأَهَمُّهَا.
فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، لِهَلاَكِهِ أَوِ اسْتِهْلاَكِهِ أَوْ فَقْدِهِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ رَدُّ مِثْلِهِ،
__________
(1) المبسوط 11 / 79.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " تقدم تخريجه ف 6.(28/269)
إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا.
وَالْمِثْلِيُّ هُوَ: مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ نَظِيرٌ، بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَالْقِيمِيُّ هُوَ: مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ هُوَ مَا تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ، كَالْكُتُبِ الْمَخْطُوطَةِ، وَالثِّيَابِ الْمُفَصَّلَةِ الْمَخِيطَةِ لأَِشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَالْمِثْل أَعْدَل فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْمِثْل، فِي الْمَعْنَى وَالاِعْتِبَارِ الْمَالِيِّ (1) .
وَقْتُ تَقْدِيرِ التَّضْمِينِ:
92 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فِي الْمَغْصُوبِ - عَلَى التَّخْصِيصِ - إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَفُقِدَ مِنَ السُّوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُهُمْ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ، لأَِنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ مِنَ السُّوقِ الْتَحَقَ بِمَا لاَ مِثْل لَهُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ،
__________
(1) الهداية بشروحها 8 / 246 وما بعدها، ومجمع الأنهر 2 / 456 و 457، والقوانين الفقهية 216 و 217 والشرح الكبير للدردير 3 / 445 وما بعدها، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 259 وما بعدها. والمغني بالشرح الكبير 5 / 376 و 377.(28/269)
وَهُوَ الْغَصْبُ، كَمَا أَنَّ الْقِيمِيَّ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الاِنْقِطَاعِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِل إِلَى الْقِيمَةِ بِالاِنْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الاِنْقِطَاعِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الْقِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الاِنْقِطَاعِ، لأَِنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْل، بَل إِنَّمَا يَنْتَقِل بِالْقَضَاءِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَضَاءِ (1) .
أَمَّا الْقِيمِيُّ إِذَا تَلِفَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ اتِّفَاقًا (2) .
أَمَّا فِي الاِسْتِهْلاَكِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ الإِْمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقَارًا، أَمْ غَيْرَهُ، لاَ يَوْمَ حُصُول الْمُفَوِّتِ، وَلاَ يَوْمَ الرَّدِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِسَمَاوِيٍّ أَمْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 246 و 247، وتبيين الحقائق 5 / 223 و 224، وبدائع الصنائع 7 / 151.
(2) جامع الفصولين 2 / 93 رامزا إلى فتاوى ظهير الدين المرغيناني والدر المختار 5 / 116.
(3) رد المحتار 5 / 116.
(4) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 443، والقوانين الفقهية 217.(28/270)
وَفِي الإِْتْلاَفِ وَالاِسْتِهْلاَكِ - فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ - كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ وَالإِْتْلاَفِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ، فِي بَلَدِهِ وَحَوَالَيْهِ تُعْتَبَرُ أَقْصَى قِيمَةٍ، مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى تَعَذُّرِ الْمِثْل، وَفِي قَوْلٍ إِلَى التَّلَفِ، وَفِي قَوْلٍ إِلَى الْمُطَالَبَةِ (2) .
وَإِذَا كَانَ الْمِثْل مَفْقُودًا عِنْدَ التَّلَفِ، فَالأَْصَحُّ وُجُوبُ أَكْثَرِ الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، لاَ إِلَى وَقْتِ الْفَقْدِ (3) . وَأَمَّا الْمُتَقَوِّمُ فَيُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ (4) .
وَأَمَّا الإِْتْلاَفُ بِلاَ غَصْبٍ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ قَبْل ذَلِكَ، وَتُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ الإِْتْلاَفِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَالْمَفَازَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي أَقْرَبِ الْبِلاَدِ (5) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، يَوْمَ تَلَفِهِ فِي بَلَدِ غَصْبِهِ مِنْ نَقْدِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ زَمَنُ الضَّمَانِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 387 وفيه الأدلة.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31 و 32، وانظر الوجيز 1 / 208.
(3) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 143.
(4) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 143 و 144، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 31، 32، والوجيز 1 / 209.
(5) شرح المحلي على المنهاج 3 / 32، والإقناع 3 / 144.(28/270)
وَمَوْضِعُ الضَّمَانِ وَمُنْصَرَفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ (كَالدِّينَارِ) كَمَا يَقُول الْبُهُوتِيُّ (1) إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ التَّالِفِ، مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ.
فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِمَعْنًى فِي التَّالِفِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ - وَنَحْوِهَا - مِمَّا يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ وَيَنْقُصُ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ رَدُّ أَكْثَرِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ، لأَِنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَال الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ لِمَالِكِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْل، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْل، لأَِنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْل، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ.
وَقَال الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَل، لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل، إِلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَل، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْل بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْل دُونَ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ الأَْصْل، قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْل أَدَاءِ الْبَدَل، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ (2) .
تَقَادُمُ الْحَقِّ فِي التَّضْمِينِ:
93 - التَّقَادُمُ - أَوْ مُرُورُ الزَّمَانِ - هُوَ: مُضِيُّ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 108.
(2) المغني بالشرح الكبير 5 / 420 - 422.(28/271)
زَمَنٍ طَوِيلٍ، عَلَى حَقٍّ أَوْ عَيْنٍ فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، لِغَيْرِهِ دُونَ مُطَالَبَةٍ بِهِمَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.
وَالشَّرِيعَةُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - اعْتَبَرَتِ التَّقَادُمَ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فِي الْمِلْكِ وَفِي الْحَقِّ، مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ مَكْسَبًا لِمِلْكِيَّةٍ أَوْ قَاطِعًا لِحَقٍّ.
فَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لاَ مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الأَْشْبَاهِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ (2) .
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَال: إِذَا لَمْ يَرْفَعْ الشَّخْصُ الْمَضْرُورُ دَعْوَى، يُطَالِبُ فِيهَا بِالضَّمَانِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، مِمَّنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، سَقَطَ حَقُّهُ، قَضَاءً فَقَطْ لاَ دِيَانَةً، فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى مِنْ جَدِيدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْرُورُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاكِمًا جَائِرًا، أَوْ كَانَ ثَابِتَ الإِْعْسَارِ خِلاَل هَذِهِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَيْسَر بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حَقُّهُ فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى قَائِمًا، مَهْمَا طَال الزَّمَنُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، الَّذِي يَنْفِي شُبْهَةَ التَّزْوِيرِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 343.
(2) رد المحتار 4 / 343.(28/271)
وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْعَادِل نَفْسَهُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ سَمِعَهَا بِنَفْسِهِ - كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ (1) - حِفْظًا لِحَقِّ الْمَضْرُورِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ بِحَقِّ الْمَضْرُورِ فِي الضَّمَانِ، وَالتَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَتَلاَشَى بِذَلِكَ مُضِيُّ الزَّمَنِ وَيَسْقُطُ لِظُهُورِ الْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ فِي ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال:
94 - قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الضَّمَانِ، هِيَ رَدُّ الْعَيْنِ أَصْلاً، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ الضَّمَانُ بِرَدِّ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيمِيَّاتِ.
وَنَذْكُرُ - هُنَا - التَّضْمِينَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ مُسْتَثْنَاةٍ مِنَ الأَْصْل، إِذْ يُحْكَمُ فِيهَا بِالتَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ أَحْيَانًا، وَبِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمِثْل فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى، وَهِيَ: قَطْعُ الشَّجَرِ، وَهَدْمُ الْمَبَانِي، وَالْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا، وَقَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَتَفْصِيل الْقَوْل فِيهَا كَمَا يَلِي:
__________
(1) رد المحتار 5 / 343.(28/272)
أ - قَطْعُ الشَّجَرِ:
95 - لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ لآِخَرَ، شَجَرَ حَدِيقَتِهِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الشَّجَرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ: أَنْ تُقَوَّمُ الْحَدِيقَةُ مَعَ الشَّجَرِ الْقَائِمِ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِهِ فَالْفَضْل هُوَ قِيمَتُهُ، فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعَ لَهُ الأَْشْجَارَ الْمَقْطُوعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيُضَمِّنَهُ نُقْصَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ (1) .
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الأَْشْجَارِ مَقْطُوعَةً وَغَيْرَ مَقْطُوعَةٍ سَوَاءً، بَرِئَ (2) .
وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً مِنْ ضَيْعَةٍ، وَلَمْ يَتْلَفْ بِهِ شَيْءٌ، قِيل: تَجِبُ قِيمَةُ الشَّجَرَةِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقِيل تَجِبُ قِيمَتُهَا نَابِتَةً (3) ، وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً، قُوِّمَتْ مَغْرُوسَةً وَقُوِّمَتْ مَقْطُوعَةً، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ أَتْلَفَ ثِمَارَهَا، أَوْ نَفَضَهَا لَمَّا نَوَّرَتْ، حَتَّى تَنَاثَرَ نَوْرُهَا، قُوِّمَتِ الشَّجَرَةُ مَعَ ذَلِكَ، وَقُوِّمَتْ بِدُونِهَا فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الزَّرْعُ (4) .
ب - هَدْمُ الْمَبَانِي:
96 - إِذَا هَدَمَ إِنْسَانٌ بِنَاءً أَوْ جِدَارًا لِغَيْرِهِ،
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 91 رامز إلى أبي الليث.
(2) جامع الفصولين 2 / 91.
(3) جامع الفصولين 2 / 91 رامزا إلى جامع الفتاوى.
(4) جامع الفصولين 2 / 91 رامزا إلى فتاوى القاضي ظهير الدين. وانظر مجمع الضمانات (152) .(28/272)
يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءُ مِثْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْمُمَاثَلَةُ رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ (1) ، لِحَدِيثِ: " أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيل يُقَال لَهُ: جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَال: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأََفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى. فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا. فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ كَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَال: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَال: الرَّاعِي. قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَال: لاَ، إِلاَّ مِنْ طِينٍ (2) .
وَالأَْصْل: أَنَّ الْحَائِطَ وَالْبِنَاءَ مِنْ الْقِيمِيَّاتِ، فَتُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَدْ نَقَل الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، تُقَوَّمُ دَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا، وَتُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (3) .
__________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 13 / 38 (ط: المطبعة المنيرية في القاهرة: 1348 هـ) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج ". أخرجه البخاري (5 / 126 - 127) .
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 96.(28/273)
وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْل: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا مُتَّخَذًا مِنْ رَهْصٍ (طِينٍ (1)) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ (2) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نُقْصَانَهَا (أَيْ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً (3)) وَلاَ يُؤْمَرُ بِعِمَارَتِهَا، إِلاَّ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي كَرَاهَةِ الْخَانِيَّةِ (4) .
لَكِنَّ الْمَذْهَبَ، مَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِهِ لِلنُّقَايَةِ: وَإِذَا هَدَمَ الرَّجُل حَائِطَ جَارِهِ فَلِلْجَارِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَالنَّقْضُ لِلضَّامِنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، لأَِنَّ الْحَائِطَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ شَاءَ مَال إِلَى جِهَةِ الْقِيَامِ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَإِنْ شَاءَ مَال إِلَى جِهَةِ الْهَلاَكِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا كَانَ، لأَِنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال.
وَطَرِيقُ تَقْوِيمِ النُّقْصَانِ: أَنْ تُقَوَّمَ الدَّارُ مَعَ حِيطَانِهَا، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ هَذَا الْحَائِطِ
__________
(1) الرَّهص: هو الطين الذي يبنى به، يجعل بعضه على بعض، القاموس المحيط. مادة: (رهص) .
(2) حاشية الحموي على الأشباه 3 / 208، وحاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 96 وانظر عمدة القاري 13 / 39.
(3) انظر حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 90 و 92.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي 3 / 208، وانظر الدر المختار 5 / 115 ولابن عابدين كلام في التفرقة بين الحائطين في الموضع نفسه.(28/273)
فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَالضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَال مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَدْمُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْعِ سَرَيَانِ الْحَرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، ضَمِنَ الْهَادِمُ قِيمَتَهَا مُعَرَّضَةً لِلْحَرِيقِ.
ج - الْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا:
97 - إِذَا غَرَسَ شَخْصٌ شَجَرًا، أَوْ أَقَامَ بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ غَصَبَهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ الشَّجَرِ، وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَتَفْرِيغِ الأَْرْضِ مِنْ كُل مَا أَنْشَأَ فِيهَا، وَإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (3) وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ " عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ، قَال: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، {أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلاً فِي أَرْضِ الآْخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْل أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَال:
__________
(1) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم، غمز عيون البصائر 3 / 208 ورد المحتار 5 / 115.
(2) مجمع الأنهر 2 / 462.
(3) المغني بالشرح الكبير 5 / 379.(28/274)
فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عَمٌّ (1) أَيْ طَوِيلَةٌ (2) .
وَلأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، دَفْعًا لِلظُّلْمِ، وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ (3) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ كَانَ، وَتَسْوِيَتُهَا، لأَِنَّهُ ضَرَرٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْل إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ (4) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُمَا قَهْرًا عَلَى الْمَالِكِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ الْمَالِكِ لَوْ طَلَبَ الإِْبْقَاءَ بِالأَْجْرِ، أَوِ التَّمَلُّكَ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُمَا جَبْرًا عَلَى الْغَاصِبِ، بِلاَ أَرْشٍ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمَا عَلَيْهِ (5) .
وَالْمَالِكِيَّةُ خَيَّرُوا الْمَالِكَ بَيْنَ قَلْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمَا، عَلَى أَنْ يُعْطَى الْمَالِكُ الْغَاصِبُ، قِيمَةَ أَنْقَاضِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، مَقْلُوعًا، بَعْدَ طَرْحِ أُجْرَةِ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا قَلْعَ الزَّرْعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ، أَيْ لَمْ يَمْضِ وَقْتٌ مَا تُرَادُ الأَْرْضُ لَهُ فَلَهُ عِنْدَئِذٍ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا مَطْرُوحًا مِنْهُ أُجْرَةُ
__________
(1) حديث: عروة بن الزبير: من أحيا أرضا ميتة فهي له. أخرجه أبو داود (3 / 454 - 455) وفي إسناده انقطاع.
(2) بفتح العين من (عم) وضمها، جمع عميمة. كما في نيل الأوطار 5 / 321.
(3) الاختيار 3 / 63، والمغني بالشرح الكبير 5 / 380.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 39، والروض المربع 2 / 249، والمغني بالشرح الكبير 5 / 378.
(5) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 39، والمغني 5 / 379 و 380، والروض المربع 2 / 249.(28/274)
الْقَلْعِ. فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ، وَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ إِلَى انْتِهَائِهِ (1) .
وَنَصَّ عَلَى مِثْل هَذَا الْحَنَفِيَّةُ (2) .
(ر: غَرْس - غَصْب) .
د - قَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ:
98 - الْحَيَوَانُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْمْوَال، وَيَنْبَغِي أَنْ تُطَبَّقَ فِي إِتْلاَفِهِ - كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا - الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمْعِ تَضْمِينُ رُبُعِ قِيمَتِهِ، بِقَلْعِ عَيْنِهِ:
فَفِي الْحَدِيثِ: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبُعَ ثَمَنِهَا (3)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: " إِنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ الآْدَمِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبُعُ الثَّمَنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إِجْمَاعٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ (4) .
وَهَذَا مِمَّا جَعَل الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) القوانين الفقهية (217) وجواهر الإكليل 2 / 154، والشرح الكبير للدردير 3 / 461 و 462.
(2) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 124، وتبيين الحقائق 5 / 229، والهداية وشروحها 8 / 269 و 270.
(3) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين الدابة ربع ثمنها ". أخرجه الطبراني في الكبير (5 / 153) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 298) وقال: (فيه أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف) .
(4) المغني بالشرح الكبير 5 / 386 و 387.(28/275)
الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ - يَعْدِلُونَ عَنِ الْقِيَاسِ، بِالنَّظَرِ إِلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ فَقَطْ (1) .
فَعَمِلُوا بِالْحَدِيثِ، وَتَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ، لَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يُقْصَدُ لِلَّحْمِ، كَمَا يُقْصَدُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْل وَالزِّينَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي عَيْنِ الْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ.
أَمَّا غَيْرُهُ، كَشَاةِ الْقَصَّابِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ فَقَطْ، فَيُعْتَبَرُ مَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ (2) .
وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقِيَاسَ، فَضَمَّنُوا مَا يَتْلَفُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِمَا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ، بِفَقْدِ عَيْنِهِ وَغَيْرِهَا، بَالِغًا مَا بَلَغَ النَّقْصُ بِلاَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ (3) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَ مِنْ أَجْزَائِهِ بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ (4) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَجِبُ فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ إِلاَّ أَرْشُ النَّقْصِ (5) .
وَعَلَّل ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ، بِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ،
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 87.
(2) رد المحتار 5 / 123، ودرر الحكام 2 / 114.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 454، والقوانين الفقهية (218) والمهذب 2 / 201.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31.
(5) الوجيز 1 / 208.(28/275)
كَالثَّوْبِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ (1) .
ضَمَانُ الشَّخْصِ الضَّرَرَ النَّاشِئَ عَنْ فِعْل غَيْرِهِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهِ:
99 - الأَْصْل أَنَّ الشَّخْصَ مَسْئُولٌ عَنْ ضَمَانِ الضَّرَرِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ لاَ عَنْ فِعْل غَيْرِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْل ضَمَانَ أَفْعَال الْقُصَّرِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ، وَضَمَانَ أَفْعَال تَابِعِيهِ: كَالْخَدَمِ وَالْعُمَّال وَكَالْمُوَظِّفِينَ، وَضَمَانَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيَوَانُ، وَضَمَانَ الضَّرَرِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ سُقُوطِ الأَْبْنِيَةِ، وَضَمَانَ التَّلَفِ الْحَادِثِ بِالأَْشْيَاءِ الأُْخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: ضَمَانُ الإِْنْسَانِ لأَِفْعَال الأَْشْخَاصِ الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ:
100 - وَيَتَمَثَّل هَذَا النَّوْعُ مِنَ الضَّمَانِ، فِي الأَْفْعَال الضَّارَّةِ، الصَّادِرَةِ مِنَ الصِّغَارِ الْقُصَّرِ، الَّذِينَ هُمْ فِي وِلاَيَةِ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ، وَالتَّلاَمِيذِ حِينَمَا يَكُونُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ، تَحْتَ رَقَابَةِ النَّاظِرِ وَالْمُعَلِّمِ، أَوْ فِي رِعَايَةِ أَيِّ رَقِيبٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَمِثْلُهُمْ الْمَجَانِينُ وَالْمَعَاتِيهُ.
وَلَمَّا كَانَ الأَْصْل الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 5 / 387.(28/276)
تَقَدَّمَ آنِفًا، هُوَ ضَمَانُ الإِْنْسَانِ لأَِفْعَالِهِ كُلِّهَا، دُونَ تَحَمُّل غَيْرِهِ عَنْهُ لِشَيْءٍ مِنْ تَبَعَاتِهَا، مَهْمَا كَانَ مِنَ الأَْمْرِ (1) .
فَقَدْ طَرَدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةَ تَضْمِينِ الصِّغَارِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِمُ الضَّمَانَ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَالأَْوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ، إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُسْتَثْنَاةٍ، مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ إِتْلاَفُ الصِّغَارِ لِلْمَال، نَاشِئًا مِنْ تَقْصِيرِ الأَْوْلِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ، فِي حِفْظِهِمْ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَوَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ عَثَرَ بِهِ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَضْمَنُ (2) .
ب - إِذَا كَانَ بِسَبَبِ إِغْرَاءِ الآْبَاءِ وَالأَْوْصِيَاءِ الصِّغَارِ بِإِتْلاَفِ الْمَال، كَمَا لَوْ أَمَرَ الأَْبُ ابْنَهُ بِإِتْلاَفِ مَالٍ أَوْ إِيقَادِ نَارٍ، فَأَوْقَدَهَا، وَتَعَدَّتْ النَّارُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، يَضْمَنُ الأَْبُ، لأَِنَّ الأَْمْرَ صَحَّ، فَانْتَقَل الْفِعْل إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الأَْبُ (3) .
فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ صَبِيًّا بِإِتْلاَفِ مَال آخَرَ، ضَمِنَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى آمِرِهِ (4) .
ج - إِذَا كَانَ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْمَال، كَمَا
__________
(1) تغيير التنقيح لابن كمال باشا (257) ط: (الآستانة: 1308 هـ) . والتوضيح مع التلويح 2 / 163.
(2) يؤخذ من جامع الفصولين 2 / 81.
(3) الدر المختار ورد المحتار بتصرف 5 / 136.
(4) جامع الفصولين 2 / 80.(28/276)
لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ، وَمَا اقْتَرَضَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلاَ إِذْنٍ، لِلتَّسْلِيطِ مِنْ مَالِكِهَا (1) .
ثَانِيًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ لأَِفْعَال التَّابِعِينَ لَهُ:
101 - وَيَتَمَثَّل هَذَا فِي الْخَادِمِ فِي الْمَنْزِل، وَالطَّاهِي فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمُسْتَخْدَمِ فِي الْمَحَل، وَالْعَامِل فِي الْمَصْنَعِ، وَالْمُوَظَّفِ فِي الْحُكُومَةِ، وَفِي سَائِقِ السَّيَّارَةِ لِمَالِكِهَا كُلٌّ فِي دَائِرَةِ عَمَلِهِ.
وَالْعَلاَقَةُ هُنَا عَقَدِيَّةٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّقَابَةِ عَلَى عَدِيمِي التَّمْيِيزِ: هِيَ: دِينِيَّةٌ أَوْ أَدَبِيَّةٌ.
وَالْفُقَهَاءُ بَحَثُوا هَذَا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ، فِي أَحْكَامِ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ، وَفِي تِلْمِيذِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل لِوَاحِدٍ عَمَلاً مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل.
وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَتُهُ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، لأَِنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، صَحَّ، وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولاً إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لاَ
__________
(1) مجمع الضمانات (423) والدر المختار ورد المحتار 5 / 92، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 296.(28/277)
يَضْمَنُهُ وَإِنَّمَا الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَخْدُومِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِجَارَة) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ فِعْل الْحَيَوَانِ:
هُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، وَالآْخَرُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، وَفِي تَضْمِينِ جِنَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَنُوَضِّحُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْخَطِرِ:
102 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، غَيْرُ الْخَطِرِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى ضَمَانِ مَا تُفْسِدُهُ الدَّابَّةُ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، إِذَا وَقَعَ فِي اللَّيْل، وَكَانَتْ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ لأَِحَدٍ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ تَكُنْ يَدٌ لأَِحَدٍ عَلَيْهَا - أَيِ الدَّابَّةِ - فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْل عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ
__________
(1) الدر المختار 5 / 43 و 44، وجواهر الإكليل 2 / 191، وانظر شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 3 / 81.(28/277)
مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْل فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْل الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا فِي النَّهَارِ لِلرَّعْيِ، وَحِفْظُهَا لَيْلاً، وَعَادَةُ أَهْل الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْل، فَإِذَا ذَهَبَتْ لَيْلاً كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِهَا، بِتَرْكِهِمْ حِفْظَهَا فِي وَقْتِ عَادَةِ الْحِفْظِ.
وَإِنْ أَتْلَفَتْ نَهَارًا، كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْل الزَّرْعِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى عَلَى كُل إِنْسَانٍ بِالْحِفْظِ فِي وَقْتِ عَادَتِهِ.
وَقَال - أَيْضًا -: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلاً، إِذَا فَرَّطَ بِإِرْسَالِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا أَوْ لَمْ يَضُمَّهَا بِاللَّيْل، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ، أَمَّا لَوْ ضَمَّهَا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا، أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا، لأَِنَّهُ الْمُتْلِفُ (2) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ ضَمَانِ الإِْتْلاَفِ نَهَارًا بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ.
وَالآْخَرُ: أَنْ تَسْرَحَ بَعِيدًا عَنِ الْمَزَارِعِ، وَإِلاَّ
__________
(1) حديث البراء بن عازب تقدم تخريجه ف 6.
(2) الشرح الكبير مع المغني في ذيله 5 / 454 و 455، وانظر القوانين الفقهية (219) .(28/278)
فَعَلَى الرَّاعِي الضَّمَانُ (1) .
وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ مِنَ الأَْنْفُسِ وَالأَْمْوَال، لَمْ يَضْمَنْهُ مَالِكُهَا، لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَارًا، مَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَيُرْوَى الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ (3) وَمَعْنَى جُبَارٌ: هَدْرٌ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ، عَدَمَ ضَمَانِ ذَلِكَ لَيْلاً، بِمَا إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي حِفْظِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْل مَنْ مَعَهَا، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ، فِي أَوَّل الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، وَإِنْ نَفَحَتْ رَجُلاً بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، لَمْ يَضْمَنِ الْقَائِدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا أَتْلَفَ مَالاً أَوْ نَفْسًا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَوَقَعَ ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَمْ فِي نَهَارٍ (5) .
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 8 / 119، والشرح الكبير للدردير 4 / 358، وقارن بالقوانين الفقهية (219) .
(2) الشرح الكبير للمقدسي 5 / 455، والقوانين الفقهية (219) وحاشية البجيرمي على شرح الشربيني الخطيب 3 / 145.
(3) حديث: " العجماء جبار " أخرجه البخاري (3 / 364) وحديث " العجماء جرحها جبار " أخرجه البخاري (12 / 254) ومسلم (3 / 1334) تقدم تخريجه ف (75) .
(4) شرح الزرقاني 8 / 119، والقطار من الإبل: عدد على نسق واحد. . المصباح المنير.
(5) الدر المختار 5 / 390، وانظر الاختيار 5 / 47.(28/278)
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
لَكِنْ قَيَّدَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، بِالْمُنْفَلِتَةِ الْمُسَيَّبَةِ حَيْثُ تُسَيَّبُ الأَْنْعَامُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبَرَارِيِ، فَهَذِهِ الَّتِي جُرْحُهَا هَدْرٌ وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ فَيَضْمَنُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَافِظٌ، فَلاَ يَضْمَنُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ آثَارًا (1) .
وَلأَِنَّهُ لاَ صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلاَتِهَا، وَلاَ يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا (2) .
وَأَثَارَ الْمَالِكِيَّةُ - هُنَا - مَسْأَلَةَ مَا لَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلاَ حِرَاسَتُهُ كَحَمَامٍ، وَنَحْلٍ، وَدَجَاجٍ يَطِيرُ.
فَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ - وَهُوَ رَوِايَةُ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ - إِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَرْبَابُهَا مِنِ اتِّخَاذِهِ، إِنْ آذَى النَّاسَ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَصْبَغُ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُمْنَعُونَ مِنِ اتِّخَاذِهِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتْلَفَتْهُ مِنَ الزَّرْعِ، عَلَى أَرْبَابِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حِفْظُهَا.
وَصَوَّبَ ابْنُ عَرَفَةَ الأَْوَّل، لإِِمْكَانِ اسْتِغْنَاءِ
__________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي 3 / 204 و 205 (ط: بيروت) .
(2) البدائع 7 / 273.(28/279)
رَبِّهَا عَنْهَا، وَضَرُورَةِ النَّاسِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ.
وَيُؤَيِّدُهُ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - قَاعِدَةُ ارْتِكَابِ، أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُل، لَكِنْ قَال: وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ - كَمَا قَال شَيْخُنَا - قَوْل ابْنِ قَاسِمٍ.
وَالاِتِّجَاهَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
شُرُوطُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ:
بَدَا مِمَّا تَقَدَّمَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضْمِينِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، كُلَّمَا كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ حَافِظٌ، أَوْ ذُو يَدٍ، وَلاَ بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطِ الضَّمَانِ الْعَامَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الضَّرَرِ وَالتَّعَدِّي وَالإِْفْضَاءِ.
103 - فَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاقِعُ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ الأَْمْوَال (2) ، وَصَرَّحَ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ الْمُتَقَدِّمَ، مُحْتَمِلٌ لأََنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْبْدَانِ أَوِ الأَْمْوَال، وَذَكَرَ أَنَّ الأَْوَّل أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ (3) ، لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 358، قبيل باب العتق، وانظر - أيضا - شرح الزرقاني 8 / 119، والدر المختار 5 / 392، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 4 / 213.
(2) رد المحتار 5 / 386.
(3) عمدة القاري 9 / 102.
(4) الحديث تقدم في ف (102) .(28/279)
104 - وَالتَّعَدِّي بِمُجَاوَزَةِ ذِي الْيَدِ فِي اسْتِعْمَال الدَّابَّةِ، فَحَيْثُ اسْتَعْمَلَهَا فِي حُدُودِ حَقِّهِ، فِي مِلْكِهِ، أَوِ الْمَحَل الْمُعَدِّ لِلدَّوَابِّ أَوْ أَدْخَلَهَا مِلْكَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَأَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ مَالاً، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذْ لاَ ضَمَانَ مَعَ الإِْذْنِ بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي مَحَلٍّ لَمْ يُعَدَّ لِوُقُوفِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تُتْلِفُهُ حِينَئِذٍ إِذْ كُل مَنْ فَعَل فِعْلاً لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ (1) .
وَالأَْصْل فِي هَذَا حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُل الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ (2) .
وَنَصَّتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ 930 عَلَى أَنَّهُ " لاَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ الَّتِي أَضَرَّتْ بِيَدِهَا أَوْ ذَيْلِهَا أَوْ رِجْلِهَا، حَال كَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، رَاكِبًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ "، كَمَا نَصَّتْ (الْمَادَّةُ: 931) عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَل أَحَدٌ دَابَّتَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لاَ يَضْمَنُ جِنَايَتَهَا، فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَادَّةِ آنِفًا حَيْثُ إِنَّهَا تُعَدُّ كَالْكَائِنَةِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَدْخَلَهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) حديث: تقدم في ف (6) .(28/280)
يَضْمَنُ ضَرَرَ تِلْكَ الدَّابَّةِ وَخَسَارَهَا عَلَى كُل حَالٍ.
- كَمَا نَصَّتْ فِي (الْمَادَّةِ: 939) عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَبَطَ شَخْصَانِ دَابَّتَيْهِمَا فِي مَحَلٍّ لَهُمَا حَقُّ الرَّبْطِ فِيهِ، فَأَتْلَفَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ الأُْخْرَى، لاَ يَلْزَمُ الضَّمَانُ.
وَفِي النُّصُوصِ: " لَوْ أَوْقَفَهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الأَْعْظَمِ، أَوْ مَسْجِدٍ آخَرَ، يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا جَعَل الإِْمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا يُوقِفُونَ دَوَابَّهُمْ فَلاَ يَضْمَنُ (1) ".
وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي مَكَان، ثُمَّ رَبَطَ آخَرُ فِيهِ دَابَّتَهُ، فَعَضَّتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى، لاَ ضَمَانَ لَوْ كَانَ لَهُمَا فِي الْمَرْبِطِ وِلاَيَةُ الرَّبْطِ (2) .
وَعَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ، نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي، بِأَنَّ الرَّبْطَ جِنَايَةٌ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ضَمِنَهُ (3) .
105 - وَأَمَّا الإِْفْضَاءُ، وَهُوَ وُصُول الضَّرَرِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا، فَإِنَّ فِعْل الْحَيَوَانِ لاَ يُوصَفُ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسْبِيبٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ الْمُبَاشِرَ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، وَالْمُتَسَبِّبُ لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي (4) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 86.
(2) جامع الفصولين 2 / 87.
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 87.
(4) مجمع الضمانات (165) .(28/280)
وَيُعْتَبَرُ ذُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَصَاحِبُهُ مُبَاشِرًا إِذَا كَانَ رَاكِبًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ مَا يُحْدِثُهُ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ.
فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا، أَوْ يَدِهَا - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - أَيْ وَمَاتَ لِوُجُودِ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْقَتْل، وَحُصُولُهُ عَلَى سَبِيل الْمُبَاشَرَةِ لأَِنَّ ثِقَل الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَتْل الْحَاصِل بِثِقَلِهَا مُضَافًا إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَيُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا، فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ (1) .
وَلَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ حِرْمَانَ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ.
وَلَوْ أَصَابَتْ وَمَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ، فَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ حِرْمَانَ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ تَسْبِيبًا لاَ مُبَاشَرَةً، بِخِلاَفِ الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ (2) .
وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي مِلْكِهِ لاَ يَضْمَنُ شَيْئًا، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ لِلتَّعَدِّي (3) .
وَمِثَال مَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِتَسْبِيبِ
__________
(1) البدائع 7 / 272.
(2) البدائع 7 / 272.
(3) مجمع الأنهر 2 / 659، وانظر الدر المختار ورد المحتار 5 / 387.(28/281)
صَاحِبِهَا: مَا لَوْ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا، حَيْثُ طَال الرَّسَنُ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ، لأَِنَّهُ مُمْسِكُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ ذَهَبَتْ، مَا دَامَتْ فِي مَوْضِعِ رِبَاطِهَا (1) .
فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الضَّمَانِ بِالتَّسْبِيبِ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ الرَّبْطُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَمِثَال اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ، حَيْثُ تُقَدَّمُ الْمُبَاشَرَةُ، مَا لَوْ رَبَطَ بَعِيرًا إِلَى قِطَارٍ، وَالْقَائِدُ لاَ يَعْلَمُ، فَوَطِئَ الْبَعِيرُ الْمَرْبُوطُ إِنْسَانًا، فَقَتَلَهُ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ، لِعَدَمِ صِيَانَةِ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا (مُقَصِّرًا) لَكِنْ يُرْجَعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبٌ، لأَِنَّ الرَّبْطَ، مِنَ الْقَوَدِ، بِمَنْزِلَةِ التَّسْبِيبِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لاِتِّصَال التَّلَفِ بِالْقَوَدِ دُونَ الرَّبْطِ (2) .
وَمِثَال مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا وَلاَ مُتَسَبِّبًا، حَيْثُ لاَ يَضْمَنُ، مَا إِذَا قَتَل سِنَّوْرُهُ حَمَامَةً فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لِحَدِيثِ: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا (3) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 86، وانظر حاشية الرملي في الموضع نفسه، والرَّسَن: الحبل. . المصباح المنير.
(2) الهداية وشروحها 9 / 263.
(3) جامع الفصولين 2 / 85.(28/281)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْهِرَّةَ إِنْ أَتْلَفَتْ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا لَيْلاً أَوَنَهَارًا ضَمِنَ مَالِكُهَا إِنْ عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يَضْمَنُ فِي الأَْصَحِّ (1) .
106 - وَمِنْ مَشْمُولاَتِ الإِْفْضَاءِ: التَّعَمُّدُ، كَمَا لَوْ أَلْقَى هِرَّةً عَلَى حَمَامَةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، فَأَكَلَتْهَا ضَمِنَ لَوْ أَخَذَتْهَا بِرَمْيِهِ وَإِلْقَائِهِ، لاَ لَوْ بَعْدَهُ. . . وَيَضْمَنُ بِإِشْلاَءِ كَلْبِهِ، لأَِنَّهُ بِإِغْرَائِهِ يَصِيرُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ (2) .
وَمِنْ مَشْمُولاَتِهِ التَّسَبُّبُ بِعَدَمِ الاِحْتِرَازِ: فَالأَْصْل: أَنَّ الْمُرُورَ بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، لاَ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ (3) :
فَلَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ مَا نَفَحَتْهُ، لأَِنَّ بِإِمْكَانِهِ الاِحْتِرَازَ مِنَ الإِْيقَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِحْتِرَازُ مِنَ النَّفْحَةِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالإِْيقَافِ وَشَغْل الطَّرِيقِ بِهِ (4) .
بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً، أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا، فَفَقَأَتْ الْحَصَاةُ عَيْنَ إِنْسَانٍ، أَوْ أَفْسَدَ الْغُبَارُ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، لأَِنَّ سَيْرَ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 213.
(2) جامع الفصولين 2 / 85، وانظر الهداية وشروحها 9 / 264 و 265، والمبسوط 27 / 5.
(3) الهداية وشروحها 9 / 258 و 259، ودرر الحكام 2 / 111.
(4) الهداية بشروحها 9 / 259.(28/282)
الدَّوَابِّ لاَ يَخْلُو عَنْهُ (1) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ (الْمَادَّةِ: 934) : لَيْسَ لأَِحَدٍ حَقُّ تَوْقِيفِ دَابَّتِهِ أَوْ رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.
وَمِنْ مَشْمُولاَتِهِ التَّسَبُّبُ بِالتَّقْصِيرِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ: مَا لَوْ رَأَى دَابَّتَهُ تَأْكُل حِنْطَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا، حَتَّى أَكَلَتْهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ (3) .
وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ، حَيْثُ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ " لَوْ اسْتَهْلَكَ حَيَوَانٌ مَال أَحَدٍ، وَرَآهُ صَاحِبُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ يَضْمَنُ ". (الْمَادَّةُ: 929) .
107 - وَالضَّامِنُ لِجِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، لَمْ يُقَيَّدْ فِي النُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ، بِكَوْنِهِ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ، بَل هُوَ ذُو الْيَدِ، الْقَابِضُ عَلَى زِمَامِهِ، الْقَائِمُ عَلَى تَصْرِيفِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا، وَلَوْ لَمْ يَحِل لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَيَشْمَل هَذَا السَّائِسَ وَالْخَادِمَ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي مَال الَّذِي هُوَ مَعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا
__________
(1) نفسه، ومجمع الضمانات (185) .
(2) المغني 10 / 359.
(3) الدر المختار 5 / 392.(28/282)
أَوْ مُسْتَعِيرًا، أَوْ غَاصِبًا أَوْ مُودِعًا، أَوْ وَكِيلاً أَوْ غَيْرَهُ (1) .
وَيَقُول الشَّرْقَاوِيُّ فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ: لاَ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا، بَل بِذِي الْيَدِ عَلَيْهَا (2) .
108 - وَلَوْ تَعَدَّدَ وَاضِعُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَالضَّمَانُ - فِيمَا يَبْدُو مِنَ النُّصُوصِ - عَلَى الأَْقْوَى يَدًا، وَالأَْكْثَرِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَ الاِسْتِوَاءِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا، وَالآْخَرُ قَائِدًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لأَِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيبِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالآْخَرُ رَاكِبًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالآْخَرُ رَاكِبًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ، فِيمَا لَوْ وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إِنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ، لِوُجُودِ الْقَتْل مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً (3) ، وَإِنْ كَانَ الْحَصْكَفِيُّ صَحَّحَ عَدَمَ تَضْمِينِ السَّائِقِ، لأَِنَّ الإِْضَافَةَ إِلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، لَكِنَّ السَّبَبَ - هُنَا - مِمَّا يَعْمَل بِانْفِرَادِهِ، فَيَشْتَرِكَانِ كَمَا حَقَّقَهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (4) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 225 (ط: المطبعة المصرية في القاهرة: 1349 هـ.) .
(2) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 459.
(3) البدائع 7 / 280.
(4) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 388.(28/283)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الأَْوَّل مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَى كَفِّهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الأَْوَّل مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَيَكُونُ الثَّانِي الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ضَمِنَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ضَمِنَا: وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا رَاكِبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِذَلِكَ.
وَالآْخَرُ: أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ، لأَِنَّهُ أَقْوَى يَدًا وَتَصَرُّفًا.
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَائِدِ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْقَائِدِ (1) .
ب - ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْخَطِرِ:
109 - وَيَتَمَثَّل فِي الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْجَمَل الْعَضُوضِ، وَالْفَرَسِ الْكَدُومِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، كَمَا يَتَمَثَّل فِي الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ لِلْفُقَهَاءِ:
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 359.(28/283)
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ ضَمَانُ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ إِذَا وُجِدَ مِنْ مَالِكِهِ إِشْلاَءٌ أَوْ إِغْرَاءٌ أَوْ إِرْسَالٌ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، الَّذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ، احْتِيَاطًا لأَِمْوَال النَّاسِ (1) خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (2) ، وَالَّذِي أَفْتَوْا بِهِ هُوَ: الضَّمَانُ بَعْدَ الإِْشْلاَءِ كَالْحَائِطِ الْمَائِل، فِي النَّفْسِ وَالْمَال (3) كَمَا فِي الإِْغْرَاءِ (4) .
وَعَلَّل الضَّمَانَ بِالإِْشْلاَءِ، بِأَنَّهُ بِالإِْغْرَاءِ. يَصِيرُ الْكَلْبُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِحَدِّ سَيْفِهِ (5) .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ، وَهُوَ:
إِذَا اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، بِقَصْدِ قَتْل إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَتَلَهُ فَالْقَوَدُ، أُنْذِرَ عَنِ اتِّخَاذِهِ أَوْ لاَ.
وَإِنْ قَتَل غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَالدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ إِنِ اتَّخَذَهُ لِقَتْل غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَتَل شَخْصًا فَالدِّيَةُ، أُنْذِرَ أَمْ لاَ.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لِوَجْهٍ جَائِزٍ فَالدِّيَةُ إِنْ تَقَدَّمَ
__________
(1) الهداية بشروحها والعناية منها 9 / 264، والدر المنتقى بهامش مجمع الأنهر 2 / 662.
(2) البدائع 7 / 273.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 392، وانظر مجمع الضمانات (190) وجامع الفصولين 2 / 85.
(4) جامع الفصولين 2 / 85.
(5) جامع الفصولين 2 / 85، عن فوائد الرستغني.(28/284)
لَهُ إِنْذَارٌ قَبْل الْقَتْل، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لاَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، تَقَدَّمَ لَهُ فِيهِ إِنْذَارٌ أَمْ لاَ، حَيْثُ عَرَفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ، لأَِنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْل الْعَجْمَاءِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْخَطِرَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهُ، كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَكَالسِّنَّوْرِ إِذَا عُهِدَ مِنْهُ إِتْلاَفُ الطَّيْرِ أَوِ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَوِ السِّنَّوْرَ، فَعَقَرَ إِنْسَانًا، أَوْ أَتْلَفَ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِاقْتِنَائِهِ وَإِطْلاَقِهِ إِلاَّ إِذَا دَخَل دَارَهُ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَعَقَرَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُول، مُتَسَبِّبٌ بِعَدَمِ الاِسْتِئْذَانِ لِعَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ، فَإِنْ دَخَل بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى إِتْلاَفِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَنَى سِنَّوْرًا، يَأْكُل أَفْرَاخَ النَّاسِ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ (2) ، وَهَذَا - هُوَ الأَْصَحُّ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كُلَّمَا عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، قَال الْمَحَلِّيُّ: لأَِنَّ هَذِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 244 و 357، وعلله هنا بأنه فرط في حفظها، وانظر جواهر الإكليل 2 / 257، والعقد المنظم للأحكام لابن سلمون الكناني بهامش تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 87 (ط: المطبعة البهية في القاهرة: 1302 هـ.) .
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 358، وكشاف القناع 4 / 119 و 120.(28/284)
الْهِرَّةَ) يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا (1) .
أَمَّا مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ لِغَيْرِ الْعَقْرِ، كَمَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ، أَوْ بَال، فَلاَ يُضْمَنُ، لأَِنَّ هَذَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ (2) .
رَابِعًا: ضَمَانُ سُقُوطِ الْمَبَانِي:
110 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ سُقُوطِ الْمَبَانِي وَضَمَانَهَا بِعِنْوَانِ: الْحَائِطِ الْمَائِل. وَيَتَنَاوَل الْقَوْل فِي ضَمَانِ الْحَائِطِ، مَا يَلْحَقُ بِهِ، مِنَ الشُّرُفَاتِ وَالْمَصَاعِدِ وَالْمَيَازِيبِ وَالأَْجْنِحَةِ، إِذَا شُيِّدَتْ مُطِلَّةً عَلَى مِلْكِ الآْخَرِينَ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَمَا يَتَّصِل بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ.
وَقَدْ مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ، أَوِ الْحَائِطُ أَوْ نَحْوُهُ، مَبْنِيًّا مِنَ الأَْصْل مُتَدَاعِيًا ذَا خَلَلٍ، أَوْ مَائِلاً، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْخَلَل طَارِئًا، فَهُمَا حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْخَلَل الأَْصْلِيُّ فِي الْبِنَاءِ:
111 - هُوَ الْخَلَل الْمَوْجُودُ فِي الْبِنَاءِ، مُنْذُ الإِْنْشَاءِ، كَأَنْ أُنْشِئَ مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ أُشْرِعَ الْجَنَاحُ أَوِ الْمِيزَابُ أَوِ الشُّرْفَةُ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ أَشْرَعَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَقَطَ الْبِنَاءُ فِي
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 213، وانظر فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، وحاشية البجيرمي عليه المسماة: التجريد لنفع العبيد 4 / 226 (ط: بولاق: 1309 هـ) . وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 191.
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 358، وكشاف القناع 4 / 120.(28/285)
هَذِهِ الْحَال، فَأَتْلَفَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَالاً، كَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ، مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ (1) ، وَمِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَلاَ طَلَبٍ، لأَِنَّ فِي الْبِنَاءِ تَعَدِّيًا ظَاهِرًا ثَابِتًا مُنْذُ الاِبْتِدَاءِ وَذَلِكَ بِشَغْل هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِالْبِنَاءِ، وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْل الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ، فَمَنْ أَحْدَث فِيهِ شَيْئًا، كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الإِْمَامُ فِي الإِْشْرَاعِ أَوْ لاَ، لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالشَّارِعِ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ لاَ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَإِنْ كَانَ إِشْرَاعًا جَائِزًا.
لَكِنْ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الْجَنَاحِ، فِي دَرْبٍ مُنْسَدٍّ، بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، مَضْمُونٌ، وَبِإِذْنِهِمْ لاَ ضَمَانَ فِيهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 297، وشرح الزرقاني 8 / 117، والشرح الكبير للدردير 4 / 356، ومنح الجليل 4 / 559.
(2) المبسوط 27 / 9، والهداية بشروحها 9 / 254، ومجمع الضمانات 183، ودرر الحكام 2 / 111، والدر المختار 5 / 385، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 2 / 460، وروضة الطالبين 9 / 321.
(3) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 148، وروضة الطالبين 9 / 319.(28/285)
بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءٍ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ، وَلأَِنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلاً يَصِيدُ بِهِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَلَل الطَّارِئُ:
112 - إِذَا أُنْشِئَ الْبِنَاءُ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَال، أَوْ سَلِيمًا ثُمَّ تَشَقَّقَ وَوَقَعَ، وَحَدَثَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ تَلَفٌ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - اسْتِحْسَانًا - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ (3) إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ مَالٍ، إِذَا طُولِبَ صَاحِبُهُ بِالنَّقْضِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَمَضَتْ مُدَّةٌ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلاَلَهَا، وَلَمْ يَفْعَل.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنْ أَمْكَنَهُ هَدْمُهُ أَوْ إِصْلاَحُهُ، ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ النَّقْضِ وَالإِْصْلاَحِ (4) .
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَالِكِ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ، لأَِنَّ الْبِنَاءَ كَانَ فِي مِلْكِهِ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَيَلاَنُ وَشَغْل الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلاَ يَضْمَنُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَشْهَدْ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 9 / 571، 572.
(2) المغني 9 / 572، والشرح الكبير معه 5 / 450، والدسوقي 4 / 356.
(3) المبسوط 27 / 5، وتبيين الحقائق 6 / 147.
(4) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 148.(28/286)
عَلَيْهِ (1) ، وَلِمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ الْحَجَرُ، بِغَيْرِ فِعْل الْبَشَرِ، فَهُوَ بِالإِْجْمَاعِ هَدْرٌ (2) .
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ الأَْئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَال فَقَدْ شَغَل هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِمِلْكِهِ، وَرَفْعُهُ بِقُدْرَةِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مَعَ تَمَكُّنِهِ صَارَ مُتَعَدِّيًا.
وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَضْمَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْهَدْمِ، فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنَ الْوَاجِبِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّل لِدَفْعِ الْعَامِّ (3) .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّقَدُّمُ، دُونَ الإِْشْهَادِ، لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ تَتَحَقَّقُ، وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْجَهْل بِمَيْل الْحَائِطِ (4) .
أَمَّا الإِْشْهَادُ فَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الإِْنْكَارِ، فَكَانَ مِنْ بَابِ الاِحْتِيَاطِ (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 147، والفتاوى الخيرية لنفع البرية، لخير الدين الأيوبي العليمي 2 / 183 (ط بولاق 1273 هـ) .
(2) تبيين الحقائق 6 / 147.
(3) الهداية بشروحها 9 / 253، وتكملة البحر الرائق للطوري 8 / 403، والمبسوط 27 / 12، وانظر الدر المختار ورد المحتار 5 / 384، 385.
(4) المبسوط 27 / 9.
(5) البدائع 7 / 286، والهداية بشروحها 9 / 254، ودرر الحكام 2 / 110.(28/286)
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ الإِْشْهَادَ مَعَ الإِْنْذَارِ، فَإِذَا انْتَفَى الإِْنْذَارُ وَالإِْشْهَادُ فَلاَ ضَمَانَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فَيَضْمَنَ (1) ، كَمَا أَنَّ الإِْشْهَادَ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ مَعَ إِمْكَانِ الإِْشْهَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ (2) .
113 - وَشُرُوطُ التَّقَدُّمِ أَوِ الإِْنْذَارِ هِيَ: وَمَعْنَى التَّقَدُّمِ: طَلَبُ النَّقْضِ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ (3) ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول الْمُتَقَدِّمُ: إِنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَخُوفٌ، أَوْ يَقُول: مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوِ اهْدِمْهُ، حَتَّى لاَ يَسْقُطَ وَلاَ يُتْلِفَ شَيْئًا، وَلَوْ قَال: يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ، فَذَلِكَ مَشُورَةٌ (4) .
أ - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ مَصْلَحَةٍ فِي الطَّلَبِ.
وَفَرَّقُوا فِي هَذَا: بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَائِطُ مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَائِلاً إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ:
فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى: يَصِحُّ التَّقَدُّمُ مِنْ كُل مُكَلَّفٍ، مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَلاَ لِلْقَاضِي حَقُّ إِبْرَاءِ صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَلاَ تَأْخِيرُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ،
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 356.
(2) المرجع السابق، وانظر منح الجليل 4 / 559.
(3) رد المحتار 5 / 385، وتكملة البحر الرائق للطوري 8 / 403.
(4) رد المحتار 5 / 384.(28/287)
وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ نَافِذٌ - كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الذَّخِيرَةِ - فِيمَا يَنْفَعُهُمْ، لاَ فِيمَا يَضُرُّهُمْ (1) .
وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: لاَ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إِلاَّ مِنَ الْمَالِكِ الَّذِي شَغَل الْحَائِطُ هَوَاءَ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ حَقَّ الإِْبْرَاءِ وَالتَّأْخِيرِ (2) .
بَل نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ (فِي الْمَادَّةِ: 928) عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ الْخَاصِّ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ قَبْل السُّقُوطِ بِمُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلاَلَهَا، لأَِنَّ مُدَّةَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْضَارِ الأُْجَرَاءِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ (3) .
ج - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ بَعْدَ مَيْل الْحَائِطِ، فَلَوْ طَلَبَ قَبْل الْمَيْل لَمْ يَصِحَّ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي.
د - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ النَّقْضَ، كَالْمَالِكِ وَوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَوَصِيِّهِ وَوَصِيِّ الْمَجْنُونِ، وَالرَّاهِنِ، وَكَذَا الْوَاقِفِ وَالْقَيِّمِ عَلَى الْوَقْفِ وَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ (4) ، بِخِلاَفِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودِعِ، لأَِنَّهُمْ
__________
(1) الدر المختار 5 / 385.
(2) المبسوط 27 / 13 وتكملة البحر الرائق 8 / 404، ومجمع الأنهر 2 / 658، 659، وانظر المغني بالشرح الكبير 9 / 573، 574.
(3) رد المحتار 5 / 384 نقلاً عن القهستاني.
(4) الدر المختار 5 / 384، ومجمع الأنهر 2 / 658 ومجمع الضمانات ص 182.(28/287)
لَيْسَتْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلاَ يُفِيدُ طَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الإِْنْذَارُ كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ (1) ، وَلِهَذَا لاَ يَضْمَنُونَ مَا تَلِفَ مِنْ سُقُوطِهِ، بَل قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ ضَمَانَ أَصْلاً عَلَى سَاكِنٍ وَلاَ مَالِكٍ (2) .
وَمَحَل هَذِهِ الشُّرُوطِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ. إِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمَيَلاَنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ (3) .
114 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا بِسُقُوطِ الْبِنَاءِ، إِذَا مَال بَعْدَ بِنَائِهِ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ وَإِصْلاَحِهِ، فَلاَ ضَمَانَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ تَمَكَّنَ عَلَى الأَْصَحِّ. . وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ بِالنَّقْضِ، وَبَيْنَ أَنْ لاَ يُطَالِبَ (4) ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ، وَالْهَلاَكُ حَصَل بِغَيْرِ فِعْلِهِ (5) ، وَأَنَّ الْمَيْل نَفْسَهُ لَمْ يَحْصُل بِفِعْلِهِ (6) ، وَأَنَّ مَا كَانَ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 356.
(2) الدر المختار 5 / 385.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 356.
(4) روضة الطالبين 9 / 321.
(5) روضة الطالبين 9 / 321.
(6) شرح المحلي على المنهاج 4 / 148، وشرح التحرير وحاشية الشرقاوي عليه 2 / 459.(28/288)
أَوَّلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ، لاَ يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغْيِيرِ الْحَال (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ، إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِالنَّقْضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلاً، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلاً إِلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلأَِنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَل ضَمِنَ مَا تَلِفَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلاً، أَوْ كَانَ مَائِلاً إِلَى مِلْكِهِ (2) .
لَكِنَّ نَصَّ أَحْمَدَ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ - كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ - أَمَّا لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الأَْصْحَابِ إِلَى الضَّمَانِ فِيهِ (3) .
أَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسُقُوطِ الأَْبْنِيَةِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، فَهُوَ:
أ - أَنَّ مَا تَلِفَ بِهِ مِنَ النُّفُوسِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ مَالِكِ الْبِنَاءِ.
ب - وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الأَْمْوَال فَعَلَى مَالِكِ الْبِنَاءِ، لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَعْقِل الْمَال (4) .
__________
(1) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 459.
(2) المغني 9 / 572، والشرح الكبير مع المغني 5 / 451.
(3) المغني بالشرح الكبير 9 / 572.
(4) الدر المختار ورد المحتار 5 / 385.(28/288)
ج - وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ الْكَفَّارَةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَلاَ يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُبَاشِرِ فِي الضَّمَانِ، صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنِ الْهَدْرِ، عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل، فَبَقِيَ فِي الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى الأَْصْل (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، إِذْ لاَ قَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَهُمْ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِيهِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِل (2) .
خَامِسًا: ضَمَانُ التَّلَفِ بِالأَْشْيَاءِ:
115 - أَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ التَّلَفُ بِالأَْشْيَاءِ، بِسَبَبِ إِلْقَائِهَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ، أَوْ بِسَبَبِ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا الْمُخَصَّصَةِ لَهَا.
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الأَْشْيَاءِ إِلَى خَطِرَةٍ، وَغَيْرِ خَطِرَةٍ، أَيْ عَادِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
ضَمَانُ التَّلَفِ الْحَاصِل بِالأَْشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ غَيْرِ الْخَطِرَةِ:
116 - يَرُدُّ الْفُقَهَاءُ مَسَائِل التَّلَفِ الْحَاصِل
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 342 ر 381 وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 6 / 143، 144، والكفاية شرح الهداية بتصرف 9 / 148، وبدائع الصنائع 7 / 274.
(2) الهداية بشروحها 9 / 148، والقوانين الفقهية 288، وشرح الخرشي 8 / 49، وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 102، وشرح المحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 162، والمغني بالشرح الكبير 10 / 37، 7 / 161، 162.(28/289)
بِالأَْشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ، غَيْرِ الْخَطِرَةِ، إِلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالأُْصُول:
الأَْوَّل: كُل مَوْضِعٍ يَجُوزُ لِلْوَاضِعِ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ لاَ يَضْمَنُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ، لأَِنَّ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ يُنَافِي الضَّمَانَ.
الثَّانِي: كُل مَوْضِعٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ يَضْمَنُ مَا يَنْشَأُ عَنْ وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ أَضْرَارٍ، مَا دَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْ (1) .
الثَّالِثُ: كُل مَنْ فَعَل فِعْلاً لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنْ ضَرَرٍ (2) .
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ (3) .
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ ضَامِنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَإِلاَّ لاَ يَضْمَنُ، وَالْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُطْلَقًا (4) .
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي انْبَثَقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الأُْصُول:
أ - مَنْ وَضَعَ جَرَّةً أَوْ شَيْئًا فِي طَرِيقٍ لاَ يَمْلِكُهُ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، وَلَوْ زَال
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88، نقلاً عن فتاوى القاضي ظهير الدين، ببعض تصرف.
(2) نفسه، بتصرف.
(3) الدر المختار 5 / 386، وانظر شرح المحلي على المنهاج بحاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 148.
(4) رد المحتار 5 / 386.(28/289)
ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ أَوَّلاً إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، (غَيْرِ الطَّرِيقِ) فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، بَرِئَ وَاضِعُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ (1) .
ب - لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَبِيعَ، فَتَلِفَ بِقَعْدَتِهِ شَيْءٌ: فَإِنْ كَانَ قَعَدَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ لاَ يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُهُ (2) وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ فِي الضَّمَانِ (3) .
ج - وَلَوْ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى حَائِطٍ، فَأَهْوَتْ بِهَا الرِّيحُ، وَتَلِفَ بِوُقُوعِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْ، إِذِ انْقَطَعَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْوَضْعِ بِأَنْ وُضِعَتِ الْجَرَّةُ وَضْعًا مَأْمُونًا، فَلاَ يُضَافُ إِلَيْهِ التَّلَفُ (4) .
د - لَوْ حَمَل فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ سَيَّارَتِهِ، فَسَقَطَ الْمَحْمُول عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ أَوِ اصْطَدَمَ بِشَيْءٍ فَكَسَرَهُ، ضَمِنَ الْحَامِل، لأَِنَّ الْحَمْل فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، وَلأَِنَّهُ أَثَرُ فِعْلِهِ.
وَلَوْ عَثَرَ أَحَدٌ بِالْحَمْل ضَمِنَ، لأَِنَّهُ هُوَ الْوَاضِعُ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ أَثَرُ فِعْلِهِ (5) .
هـ - لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قِشْرًا، فَزَلَقَتْ بِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) جامع الفصولين 2 / 88.
(3) الشرح الكبير مع المغني 5 / 449.
(4) جامع الفصولين 2 / 88 رامزًا إلى الزيادات. وانظر الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 / 458 (ط دار إحياء التراث العربي في بيروت) .
(5) مجمع الأنهر والدر المنتقى بهامشه 2 / 653، والدر المختار 5 / 382، والفتاوى الخانية 3 / 458.(28/290)
دَابَّةٌ، ضَمِنَ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ (1) ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالْمُسَامَحَةِ فِي طَرْحِ مَا ذُكِرَ (2) .
وَكَذَا لَوْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً، فَتَلِفَتْ بِهِ دَابَّةٌ، ضَمِنَ (3) ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاشِّ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (4) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
ضَمَانُ التَّلَفِ بِالأَْشْيَاءِ الْخَطِرَةِ:
117 - رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا - أَوْ قَال: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ - أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ (5) .
وَفِي الْفُرُوعِ: لَوْ انْفَلَتَتْ فَأْسٌ مِنْ يَدِ قَصَّابٍ، كَانَ يَكْسِرُ الْعَظْمَ، فَأَتْلَفَ عُضْوَ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 149، وروضة الطالبين 9 / 322.
(3) رد المحتار 5 / 381، وقارن بالفتاوى الخانية 3 / 458 فقد فصل القول فيها بعض الشيء.
(4) حاشية القليوبي على شرح المحلي 4 / 149، وروضة الطالبين 9 / 323.
(5) حديث: " إذا مر أحدكم في مسجدنا ". أخرجه البخاري والفتح 12 / 24، ومسلم 4 / 2019.(28/290)
إِنْسَانٍ، يَضْمَنُ، وَهُوَ خَطَأٌ (1) . وَلاَ تَعْلِيل لِلضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ التَّقْصِيرُ فِي رِعَايَةِ هَذِهِ الآْلَةِ الْحَادَّةِ، وَعَدَمِ الاِحْتِرَازِ أَثْنَاءَ الاِسْتِعْمَال، فَاسْتُدِل بِوُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى التَّعَدِّي، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَا الْيَدِ عَلَى الأَْشْيَاءِ الْخَطِرَةِ يَضْمَنُ مِنَ الأَْضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مَا كَانَ بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. وَمِنْ نُصُوصِهِمْ:
أ - لَوْ خَرَجَ الْبَارُودُ مِنَ الْبُنْدُقِيَّةِ بِفِعْلِهِ، فَأَصَابَ آدَمِيًّا أَوْ مَالاً ضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ طَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ ضَرْبِ الْحَدَّادِ، فَأَصَابَتْ ثَوْبَ مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ، ضَمِنَ الْحَدَّادُ (2) .
ب - وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ نَارًا، وَأَلْقَتْهَا عَلَى الْبُنْدُقِيَّةِ، فَخَرَجَ الْبَارُودُ، لاَ ضَمَانَ (3) .
ج - وَلَوْ وَقَعَ الزَّنْدُ الْمُتَّصِل بِالْبُنْدُقِيَّةِ الْمُجَرَّبَةِ، الَّتِي تُسْتَعْمَل فِي زَمَانِنَا، عَلَى الْبَارُودِ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَتْ رَصَاصَتُهَا، أَوْ مَا بِجَوْفِهَا، فَأَتْلَفَ مَالاً أَوْ آدَمِيًّا، فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ (4) .
__________
(1) واقعات المفتين لقدري أفندي الشيخ عبد القادر بن يوسف ص 64 (ط الأولى، في بولاق: 1300 هـ) وانظر فروعًا أخرى في مجمع الأنهر 2 / 661 ولسان الحكام لابن الشحنة ص 108.
(2) جامع الفصولين وحاشية خير الدين الرملي عليه 2 / 49، 90.
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 89 السطر الأخير.
(4) الحاشية نفسها 2 / 90.(28/291)
ضَمَانُ الاِصْطِدَامِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ حَوَادِثَ الاِصْطِدَامِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ اصْطِدَامِ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَبَيْنَ اصْطِدَامِ الأَْشْيَاءِ كَالسُّفُنِ وَنَحْوِهَا.
أَوَّلاً: اصْطِدَامُ الإِْنْسَانِ:
118 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ خَطَأً وَمَاتَا مِنْهُ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ كُل فَارِسٍ دِيَةَ الآْخَرِ إِذَا وَقَعَا عَلَى الْقَفَا، وَإِذَا وَقَعَا عَلَى وُجُوهِهِمَا يُهْدَرُ دَمُهُمَا.
وَلَوْ كَانَا عَامِدَيْنِ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِهِ هُدِرَ دَمُهُ فَقَطْ.
وَإِذَا تَجَاذَبَ رَجُلاَنِ حَبْلاً فَانْقَطَعَ الْحَبْل، فَسَقَطَا عَلَى الْقَفَا وَمَاتَا هُدِرَ دَمُهُمَا، لِمَوْتِ كُلٍّ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ وَقَعَا عَلَى الْوَجْهِ وَجَبَ دِيَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، لِمَوْتِهِ بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ تَصَادَمَ مُكَلَّفَانِ عَمْدًا، أَوْ تَجَاذَبَا حَبْلاً فَمَاتَا مَعًا، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَالْقَوَدُ.
وَإِنْ تَصَادَمَا خَطَأً فَمَاتَا، فَدِيَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الآْخَرِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَدِيَتُهُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهَا.
__________
(1) ابن عابدين والدر المختار 5 / 388 - 389.(28/291)
وَإِنْ كَانَ التَّجَاذُبُ لِمَصْلَحَةٍ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا يَقَعُ بَيْنَ صُنَّاعِ الْحِبَال فَإِذَا تَجَاذَبَ صَانِعَانِ حَبْلاً لإِِصْلاَحِهِ فَمَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ هَدْرٌ.
وَلَوْ تَصَادَمَ الصَّبِيَّانِ فَمَاتَا، فَدِيَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ حَصَل التَّصَادُمُ أَوِ التَّجَاذُبُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، لأَِنَّ فِعْل الصِّبْيَانِ عَمْدًا حُكْمُهُ كَالْخَطَأِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ شَخْصَانِ - رَاكِبَانِ أَوْ مَاشِيَانِ، أَوْ رَاكِبٌ وَمَاشٍ طَوِيلٌ - بِلاَ قَصْدٍ، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ، وَفِعْل صَاحِبِهِ، فَيُهْدَرُ النِّصْفُ، وَلأَِنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَا مُنْكَبَّيْنِ أَوْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا وَالآْخَرُ مُسْتَلْقِيًا.
وَإِنْ قَصَدَا الاِصْطِدَامَ فَنِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةٌ عَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِوَرَثَةِ الآْخَرِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ وَفِعْل صَاحِبِهِ، فَيُهْدَرُ النِّصْفُ، وَلأَِنَّ الْقَتْل حِينَئِذٍ شِبْهُ عَمْدٍ فَتَكُونُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، وَلاَ قِصَاصَ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الاِصْطِدَامَ لاَ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَرِكَتِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 247.(28/292)
كَفَّارَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا لِقَتْل نَفْسِهِ، وَالأُْخْرَى لِقَتْل صَاحِبِهِ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي إِهْلاَكِ نَفْسَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ.
وَفِي تَرِكَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ دِيَةِ الآْخَرِ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الإِْتْلاَفِ، مَعَ هَدْرِ فِعْل كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَلَوْ تَجَاذَبَا حَبْلاً فَانْقَطَعَ وَسَقَطَا وَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ أَسَقَطَا مُنْكَبَّيْنِ أَمْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَمْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا وَالآْخَرُ مُسْتَلْقِيًا، وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُهُمَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُصْطَدِمَيْنِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنَ الآْخَرِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَا مُقْبِلَيْنِ أَمْ مُدْبِرَيْنِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ صَدْمَةِ صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَرَّبَهَا إِلَى مَحَل الْجِنَايَةِ، فَلَزِمَ الآْخَرَ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ وَاقِفَةً إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ قِيمَةَ الدَّابَّتَيْنِ إِنْ تَسَاوَتَا تَقَاصَّا وَسَقَطَتَا، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الأُْخْرَى فَلِصَاحِبِهَا الزِّيَادَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ فَعَلَى الآْخَرِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيْهِ نَقْصُهَا.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيِ الآْخَرِ، فَأَدْرَكَهُ الثَّانِي فَصَدَمَهُ فَمَاتَتِ الدَّابَّتَانِ، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 89 - 90.(28/292)
إِحْدَاهُمَا فَالضَّمَانُ عَلَى اللاَّحِقِ، لأَِنَّهُ الصَّادِمُ وَالآْخَرُ مَصْدُومٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ وَالآْخَرُ وَاقِفًا، فَعَلَى السَّائِرِ قِيمَةُ دَابَّةِ الْوَاقِفِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا لأَِنَّ السَّائِرَ هُوَ الصَّادِمُ الْمُتْلِفُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ هُوَ أَوْ دَابَّتُهُ فَهُوَ هَدْرٌ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَدَابَّتَهُ، وَإِنِ انْحَرَفَ الْوَاقِفُ فَصَادَفَتِ الصَّدْمَةُ انْحِرَافَهُ فَهُمَا كَالسَّائِرَيْنِ، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل مِنْ فِعْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُتَعَدِّيًا بِوُقُوفِهِ، مِثْل أَنْ يَقِفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ السَّائِرِ، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل بِتَعَدِّيهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ جَلَسَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ.
وَإِنْ تَصَادَمَ نَفْسَانِ يَمْشِيَانِ فَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الآْخَرِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْخِلاَفُ - هَاهُنَا - فِي الضَّمَانِ كَالْخِلاَفِ فِيمَا إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَقَاصَّ - هَاهُنَا - فِي الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، لِكَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنِ اتُّفِقَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِثْل أَنْ تَكُونَ الْعَاقِلَةُ هِيَ الْوَارِثَةُ، أَوْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَصَادِمَيْنِ تَقَاصَّا، وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَ اصْطِدَامُهُمَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لأَِنَّ(28/293)
الصَّدْمَةَ لاَ تَقْتُل غَالِبًا، فَالْقَتْل الْحَاصِل بِهَا مَعَ الْعَمْدِ عَمْدُ الْخَطَأِ (1) .
ثَانِيًا: اصْطِدَامُ الأَْشْيَاءِ: السُّفُنِ وَالسَّيَّارَاتِ:
119 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ الاِصْطِدَامُ بِسَبَبٍ قَاهِرٍ أَوْ مُفَاجِئٍ، كَهُبُوبِ الرِّيحِ أَوِ الْعَوَاصِفِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ.
وَإِذَا كَانَ الاِصْطِدَامُ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ أَحَدِ رُبَّانَيِ السَّفِينَتَيْنِ - أَوْ قَائِدَيِ السَّيَّارَتَيْنِ - كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ.
وَمِعْيَارُ التَّفْرِيطِ - كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ - أَنْ يَكُونَ الرُّبَّانِ - وَكَذَلِكَ الْقَائِدُ - قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ سَفِينَتِهِ - أَوْ سَيَّارَتِهِ - أَوْ رَدِّهَا عَنِ الأُْخْرَى، فَلَمْ يَفْعَل، أَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْدِلَهَا إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَفْعَل، أَوْ لَمْ يُكْمِل آلَتَهَا مِنَ الْحِبَال وَالرِّجَال وَغَيْرِهَا (2) .
وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ وَاقِفَةً، وَالأُْخْرَى سَائِرَةً، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَاقِفَةِ، وَعَلَى السَّائِرَةِ ضَمَانُ الْوَاقِفَةِ، إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ مُفَرِّطًا.
وَإِذَا كَانَتَا مَاشِيَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتَا فِي بَحْرٍ أَوْ مَاءٍ رَاكِدٍ، ضَمِنَ الْمُفَرِّطُ سَفِينَةَ الآْخَرِ، بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَتَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 359 - 360.
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 361.(28/293)
إِحْدَاهُمَا مُنْحَدِرَةً، وَالأُْخْرَى صَاعِدَةً فَعَلَى الْمُنْحَدِرِ ضَمَانُ الصَّاعِدَةِ، لأَِنَّهَا تَنْحَدِرُ عَلَيْهَا مِنْ عُلُوٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي غَرَقِهَا، فَتَنْزِل الْمُنْحَدِرَةُ مَنْزِلَةَ السَّائِرَةِ، وَالصَّاعِدَةُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِفَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيطُ مِنَ الْمُصْعِدِ فَيَكُونُ، الضَّمَانُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ الْمُفَرِّطُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي اصْطِدَامِ السُّفُنِ: السَّفِينَتَانِ كَالدَّابَّتَيْنِ، وَالْمَلاَّحَانِ كَالرَّاكِبَيْنِ إِنْ كَانَتَا لَهُمَا (2) .
وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ قَوْلَهُ: إِذَا اصْطَدَمَ مَرْكَبَانِ فِي جَرْيِهِمَا، فَانْكَسَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فَلاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ (3) .
انْتِفَاءُ الضَّمَانِ:
يَنْتَفِي الضَّمَانُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا
أ - دَفْعُ الصَّائِل:
120 - يُشْتَرَطُ فِي دَفْعِ الصَّائِل، لاِنْتِفَاءِ الإِْثْمِ وَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ الصَّوْل حَالًّا، وَالصَّائِل شَاهِرًا سِلاَحَهُ أَوْ سَيْفَهُ، وَيَخَافُ مِنْهُ الْهَلاَكَ (4) ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ الْمَصُول عَلَيْهِ،
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 5 / 456، 457.
(2) شرح المحلي على المنهاج بحاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 151، 152.
(3) القوانين الفقهية 218.
(4) الوجيز 2 / 185.(28/294)
أَنْ يَلْجَأَ إِلَى السُّلْطَةِ لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ (1) .
2 - أَنْ يَسْبِقَهُ إِنْذَارٌ وَإِعْلاَمٌ لِلصَّائِل، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ الْخِطَابَ كَالآْدَمِيِّ (2) ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنَاشِدَهُ اللَّهَ، فَيَقُول: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ سَبِيلِي، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، أَوْ يَعِظَهُ، أَوْ يَزْجُرَهُ لَعَلَّهُ يَنْكَفَّ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ - وَفِي حُكْمِهِمَا الْبَهِيمَةُ - فَإِنَّ إِنْذَارَهُمْ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يُعَاجِل بِالْقِتَال، وَإِلاَّ فَلاَ إِنْذَارَ، قَال الْخَرَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإِْنْذَارَ مُسْتَحَبٌّ (3) ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الدَّرْدِيرُ: بَعْدَ الإِْنْذَارِ نَدْبًا (4) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الإِْنْذَارِ، فِي كُل دَفْعٍ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ النَّظَرِ إِلَى حَرَمِ الإِْنْسَانِ مِنْ كَوَّةٍ (5) .
3 - كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ عَلَى سَبِيل التَّدَرُّجِ: فَمَا أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِالْقَوْل لاَ يُدْفَعُ بِالضَّرْبِ، وَمَا أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِالضَّرْبِ لاَ يُدْفَعُ بِالْقَتْل (6) ، وَذَلِكَ تَطْبِيقًا لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي نَحْوِ هَذَا:
__________
(1) الدر المختار 5 / 351.
(2) جواهر الإكليل 2 / 297.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل 8 / 112.
(4) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي عليه 4 / 357.
(5) الوجيز 2 / 185 بتصرف.
(6) انظر الدر المختار 5 / 351، ومنح الجليل 4 / 569.(28/294)
كَقَاعِدَةِ: الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ.
4 - وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَقْدِرَ الْمَصُول عَلَيْهِ عَلَى الْهُرُوبِ، مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَحْصُل لَهُ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِلاَ مَضَرَّةٍ وَلاَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ قَتْل الصَّائِل، بَل وَلاَ جُرْحُهُ (1) ، وَيَجِبُ هَرَبُهُ مِنْهُ ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ (2) .
الضَّمَانُ فِي دَفْعِ الصَّائِل:
121 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّى دَفْعُ الصَّائِل إِلَى قَتْلِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل. ر. مُصْطَلَحَ: (صِيَال) .
ب - حَال الضَّرُورَةِ:
122 - الضَّرُورَةُ: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا، أَوْ كَمَا يَقُول أَهْل الأُْصُول: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا إِلاَّ بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ يُبَاحُ فِعْلُهُ لأَِجْلِهَا.
وَمِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْوَال الضَّرُورَةِ:
1 - حَرِيقٌ وَقَعَ فِي مَحَلَّةٍ، فَهَدَمَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ، بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، وَبِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ السُّلْطَانِ، حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْ دَارِهِ، ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأَمْرِ
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 112.
(2) جواهر الإكليل 2 / 297، ومنح الجليل 4 / 562.
(3) شرح المحلي على المنهاج 4 / 206، وانظر جواهر الإكليل 2 / 297، والمغني بالشرح الكبير 10 / 351.(28/295)
السُّلْطَانِ لاَ يَضْمَنُ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ لَهُ وِلاَيَةً عَامَّةً، يَصِحُّ أَمْرُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ. وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخَانِيَّةِ (1) .
2 - يَجُوزُ أَكْل الْمَيْتَةِ كَمَا يَجُوزُ أَكْل مَال الْغَيْرِ مَعَ ضَمَانِ الْبَدَل إِذَا اضْطُرَّ (2) .
3 - لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، يُنْظَرُ إِلَى أَكْثَرِهِمَا قِيمَةً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الأَْكْثَرِ قِيمَةَ الأَْقَل (3) .
4 - إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، لَمْ يُحْصَدْ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يُتْرَكُ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَى، بِأَجْرِ الْمِثْل إِلَى إِدْرَاكِهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، لأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً (4) .
ج - حَال تَنْفِيذِ الأَْمْرِ:
123 - يُشْتَرَطُ لاِنْتِفَاءِ الضَّمَانِ عَنِ الْمَأْمُورِ وَثُبُوتِهِ عَلَى الآْمِرِ، مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ جَائِزَ الْفِعْل، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِعْلُهُ ضَمِنَ الْفَاعِل لاَ الآْمِرُ، فَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِتَخْرِيقِ ثَوْبِ ثَالِثٍ ضَمِنَ الْمُخَرِّقُ لاَ الآْمِرُ (5) .
2 - أَنْ تَكُونَ لِلآْمِرِ وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 49، عن التتارخانية.
(2) الأشباه للسيوطي ص 84 وما بعدها، ومنافع الرقائق للكوز الحصاري مصطفى بن محمد، شرح مجامع الحقائق للخادمي ص 312. (ط الآستانة: 1308 هـ) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 88.
(4) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 21.
(5) جامع الفصولين 2 / 78 رامزًا إلى عدة المفتين للنسفي.(28/295)
تَكُنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ مَال غَيْرِهِ فَأَخَذَهُ، ضَمِنَ الآْخِذُ لاَ الآْمِرُ، لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِ أَصْلاً (1) ، فَلَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ، وَفِي كُل مَوْضِعٍ لَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَمْ يَضْمَنِ الآْمِرُ (2) .
وَإِذَا صَحَّ الأَْمْرُ بِالشَّرْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَقَعَ الضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ، وَانْتَفَى عَنِ الْمَأْمُورِ وَلَوْ كَانَ مُبَاشِرًا. لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ لِمَنْ هُوَ فِي وِلاَيَتِهِ، كَالْوَلَدِ إِذَا أَمَرَهُ أَبُوهُ، وَالْمُوَظَّفِ إِذَا أَمَرَهُ رَئِيسُهُ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: الآْمِرُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالأَْمْرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الآْمِرُ سُلْطَانًا أَوْ أَبًا أَوْ سَيِّدًا، أَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا (3) .
وَكَذَا إِذَا كَانَ مَجْنُونًا، أَوْ كَانَ أَجِيرًا لِلآْمِرِ (4) .
د - حَال تَنْفِيذِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَغَيْرِهِ:
124 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ وَتَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْل الْمَأْذُونِ بِهِ ضَرَرٌ انْتَفَى الضَّمَانُ، لَكِنْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ: بِأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَأْذُونُ
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 78.
(2) جامع الفصولين في الموضع نفسه، رامزًا إلى الفتاوى الصغرى للصدر الشهيد.
(3) الدر المختار 5 / 136.
(4) رد المحتار 5 / 136، وجامع الفصولين 2 / 78، ومجمع الضمانات ص 157.(28/296)
بِإِتْلاَفِهِ مَمْلُوكًا لِلآْذِنِ، أَوْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَيْهِ.
وَأَنْ يَكُونَ الآْذِنُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ هُوَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَإِتْلاَفَهُ، لِكَوْنِهِ مُبَاحًا لَهُ.
وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الإِْذْنُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّنْ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ (2) ، فَلَوِ انْتَفَى الإِْذْنُ أَصْلاً، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ سَيَّارَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ قَادَ دَابَّتَهُ، أَوْ سَاقَهَا، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا شَيْئًا، أَوْ رَكِبَهَا فَعَطِبَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ (3) .
أَوِ انْتَفَى الْمِلْكُ - كَمَا لَوْ أَذِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ بِفِعْلٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلاَفُ مِلْكِ غَيْرِهِ - ضَمِنَ الْمَأْذُونُ لَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَال غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنِهِ وَلاَ وِلاَيَتِهِ (4) .
وَلَوْ أَذِنَ الآْخَرُ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ؛ فَأَتْلَفَهُ فَلاَ ضَمَانَ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَحْرِقْ ثَوْبِي فَفَعَل، فَلاَ يَغْرَمُ (5) ، إِلاَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِإِتْلاَفِهَا يَضْمَنُهَا، لاِلْتِزَامِهِ حِفْظَهَا (6) ، وَلَوْ دَاوَى الطَّبِيبُ صَبِيًّا بِإِذْنٍ مِنَ الصَّبِيِّ نَفْسِهِ، فَمَاتَ أَوْ عَطِبَ، ضَمِنَ الطَّبِيبُ، وَلَوْ كَانَ الطَّبِيبُ عَالِمًا، وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرْ، وَلَوْ أَصَابَ وَجْهَ الْعِلْمِ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 4 / 355.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 210.
(3) مجمع الضمانات 145 و 146.
(4) الدر المختار 5 / 127، وانظر جامع الفصولين 2 / 78.
(5) منح الجليل 4 / 347.
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 355.(28/296)
وَالصَّنْعَةِ لأَِنَّ إِذْنَ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (1) .
وَكَذَا لَوْ أَذِنَ الرَّشِيدُ لِطَبِيبٍ فِي قَتْلِهِ فَفَعَل، لأَِنَّ هَذَا الإِْذْنَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال لَهُ اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ، ضَمِنَ دِيَتَهُ، لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ لاَ تَجْرِي فِي النَّفْسِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَمْلِكُ إِتْلاَفَ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، لَكِنْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، لِشُبْهَةِ الإِْذْنِ، كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ أَيْضًا (5) ، وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (6) ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ هَدْرٌ لِلإِْذْنِ (7) ، وَفِي قَوْل ابْنِ قَاسِمٍ: يُقْتَل (8) ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (9) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 355، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 8 / 111.
(2) يؤخذ من حاشية الدسوقي بتصرف 4 / 355.
(3) الدر المختار 5 / 352، وانظر البدائع 7 / 236.
(4) مغني المحتاج 4 / 50، وانظر كشاف القناع 6 / 5.
(5) الدر المختار 5 / 352، والبدائع 7 / 236.
(6) منح الجليل 4 / 346.
(7) مغني المحتاج 4 / 50.
(8) منح الجليل 4 / 346، وانظر جواهر الإكليل 2 / 255، والقوانين الفقهية ص 266.
(9) مجمع الضمانات 160.(28/297)
هـ - حَال تَنْفِيذِ أَمْرِ الْحَاكِمِ أَوْ إِذْنِهِ:
125 - إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، أَوْ إِذْنِهِ بِالْفِعْل ضَرَرٌ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامِّ، أَوْ فِي مَكَان عَامٍّ لَهُمْ، كَالسُّوقِ وَالْمُنْتَدَى وَالْمُحْتَطَبِ وَالْمَقْبَرَةِ، أَوْ أَنْشَأَ بِنَاءً، أَوْ شَقَّ تُرْعَةً، أَوْ نَصَبَ خَيْمَةً، فَعَطِبَ بِهَا رَجُلٌ، أَوْ تَلِفَ بِهَا إِنْسَانٌ، فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ، وَإِنْ تَلِفَ بِهَا حَيَوَانٌ، فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَعَدٍّ وَتَجَاوُزٌ، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْعَامَّةِ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ أَوْ أَمْرِهِ أَوْ أَمْرِ نَائِبِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَامَّةً عَلَى الطَّرِيقِ، إِذْ نَابَ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَلِفَ فِيهَا آدَمِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ ضَمِنَ الْحَافِرُ لِتَسَبُّبِهِ فِي تَلَفِهِ، أَذِنَ السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَفَرَ بِطَرِيقٍ ضَيِّقٍ
__________
(1) الهداية بشروحها 9 / 246، والمبسوط 27 / 25، والبدائع 7 / 278، ومجمع الأنهر 2 / 651 و 652، ومجمع الضمانات ص 178، والدر المختار 5 / 380، 381.
(2) جواهر الإكليل 2 / 148، والدسوقي 3 / 444، والقوانين الفقهية ص 224.(28/297)
يَضُرُّ الْمَارَّةَ فَهُوَ مَضْمُونٌ وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الإِْمَامُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ الإِْذْنُ فِيمَا يَضُرُّ، وَلَوْ حَفَرَ فِي طَرِيقٍ لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ وَأَذِنَ فِيهِ الإِْمَامُ فَلاَ ضَمَانَ، سَوَاءٌ حَفَرَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَإِنْ حَفَرَ لِمَصْلَحَتِهِ فَقَطْ فَالضَّمَانُ فِيهِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَلاَ ضَمَانَ فِي الأَْظْهَرِ لِجَوَازِهِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: فِيهِ الضَّمَانُ، لأَِنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ نَاظِرِينَ إِلَى الطَّرِيقِ: -
فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَنْ هَلَكَ بِهِ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ، سَوَاءٌ أَذِنَ الإِْمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ الإِْذْنُ فِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ الإِْمَامُ، يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، التَّعْدِيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، فَحَفَرَ فِي مَكَانٍ يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ حَفَرَ فِي مَكَانٍ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، نَظَرْنَا: فَإِنْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا، سَوَاءٌ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الإِْمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا لَوْ حَفَرَهَا لِيَنْزِل فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، أَوْ لِتَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ - فَلاَ يَضْمَنُ، إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:.
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 82 وما بعدها. وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 147 و 148.(28/298)
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
وَالأُْخْرَى: أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ افْتَاتَ عَلَى الإِْمَامِ (1) .
الضَّمَانُ فِي الزَّكَاةِ:
فِي ضَمَانِ زَكَاةِ الْمَال، إِذَا هَلَكَ النِّصَابُ حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
126 - لَوْ هَلَكَ الْمَال بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تُضْمَنُ بِالتَّأْخِيرِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْحَال، لأَِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى التَّرَاخِي، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَمُطْلَقُ الأَْمْرِ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ، كَمَا يَقُول الْكَمَال (3) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
127 - لَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل، قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 9 / 566 و 567 وانظر كشاف القناع 6 / 6 و 8.
(2) الدر المختار بهامش رد المحتار عليه 2 / 12 و 13، والقوانين الفقهية ص 68 وروضة الطالبين 2 / 223، وكشاف القناع 2 / 182، وانظر المغني مع الشرح الكبير 2 / 542 و 543.
(3) فتح القدير 2 / 114. ن 2.(28/298)
الْجُمْهُورِ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَهُ النَّوَوِيُّ (1) ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، لأَِنَّهَا كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ اسْتَقَرَّتْ بِمُضِيِّ الْحَوْل (3) ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ (4) .
128 - لَوْ دَفَعَ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ بِتَحَرٍّ، إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَصْرِفُهَا، فَبَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَفِي الإِْجْزَاءِ أَوْ عَدَمِهِ أَيِ الضَّمَانِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاة) .
الضَّمَانُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
129 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ (5) ، وَفِي تَضْمِينِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - إِذَا أَفْسَدَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ حَجَّهُ مُتَعَمِّدًا، بِأَنْ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْ جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَال، لإِِفْسَادِهِ الْحَجَّ، وَيُعِيدُهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 223.
(2) رد المحتار 2 / 21.
(3) كشاف القناع 2 / 182.
(4) الدر المختار ورد المحتار 2 / 21، وانظر بدائع الصنائع 2 / 63، ومجمع الضمانات ص 7.
(5) القوانين الفقهية ص 87، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 388 والمغني 3 / 180.
(6) الدر المختار 2 / 247، ومجمع الضمانات ص 8.(28/299)
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا جَامَعَ الأَْجِيرُ فَسَدَ حَجُّهُ، وَانْقَلَبَ لَهُ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَصَرَّحَ الْجَمَل بِأَنَّهُ لاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَهُ، وَأَنَّهُ مُقَصِّرٌ.
وَقَال الْمَقْدِسِيُّ: وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ مِنَ الْمَال، لأَِنَّ الْحِجَّةَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ، لِتَفْرِيطِهِ وَجَنَابَتِهِ (1) .
ب - إِذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَهُ التَّحَلُّل (2) وَفِي دَمِ الإِْحْصَارِ خِلاَفٌ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ عَلَى الآْمِرِ، لأَِنَّهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَهُوَ كَنَفَقَةِ الرُّجُوعِ وَلِوُقُوعِ النُّسُكِ لَهُ، مَعَ عَدَمِ إِسَاءَةِ الأَْجِيرِ (3) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ فِي ضَمَانِ الأَْجِيرِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ (4) .
ج - إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ بِنَوْمٍ،
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 29، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 395، والمغني - بالشرح الكبير - 3 / 182 و 183 وكشاف القناع 2 / 398.
(2) روضة الطالبين 3 / 32.
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 246، وحاشية الجمل 3 / 395، والمغني 3 / 182.
(4) روضة الطالبين 3 / 32، والمغني 3 / 182 وانظر رد المحتار 2 / 246.(28/299)
أَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقَافِلَةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا، مِنْ غَيْرِ إِحْصَارٍ، بَل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ - لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ النَّفَقَةَ، لأَِنَّهُ فَاتَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، لأَِنَّ الْحَجَّةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ شَيْءَ لِلأَْجِيرِ فِي الْمَذْهَبِ (2) .
دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ:
130 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ عَلَى الْحَاجِّ - أَيِ الْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ - إِنْ أَذِنَ لَهُ الآْمِرُ بِالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَإِلاَّ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا، فَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ (3) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِقَةٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ أَوِ الْعَيْنِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ، فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: دَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ، إِنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ فَعَلَيْهِ (5) (ر: قِرَان وَتَمَتُّع) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 246، وروضة الطالبين 3 / 32.
(2) روضة الطالبين 3 / 32.
(3) الدر المختار 2 / 247.
(4) روضة الطالبين 3 / 28.
(5) المغني مع الشرح الكبير 3 / 182، والإنصاف 3 / 420، وكشاف القناع 2 / 398.(28/300)
131 - أَمَّا مَا يَلْزَمُ مِنَ الدِّمَاءِ بِفِعْل الْمَحْظُورَاتِ فَعَلَى الْحَاجِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ لأَِنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، فَكَانَ مُوجِبُهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا (1) .
وَكُل مَا لَزِمَهُ بِمُخَالَفَتِهِ، فَضَمَانُهُ مِنْهُ كَمَا يَقُول الْبُهُوتِيُّ (2) .
الضَّمَانُ فِي الأُْضْحِيَةِ:
132 - لَوْ مَضَتْ أَيَّامُ الأُْضْحِيَةِ، وَلَمْ يَذْبَحْ أَوْ ذَبَحَ شَخْصٌ أُضْحِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (أُضْحِيَة) .
ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ:
133 - نَهَى الشَّارِعُ عَنْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، حَيَوَانًا بَرِّيًّا، إِذَا كَانَ مَأْكُول اللَّحْمِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - مِنْ طَيْرٍ أَوْ دَابَّةٍ، سَوَاءٌ أَصِيدَ مِنْ حَرَمٍ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا (3) } .
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ قَتْل شَيْءٍ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، مَا أُكِل لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَل، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا - كَالْجُمْهُورِ - قَتْل الْحَيَوَانَاتِ الْمُضِرَّةِ: كَالأَْسَدِ، وَالذِّئْبِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَأْرَةِ،
__________
(1) الدر المختار 2 / 247، وروضة الطالبين 3 / 29، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 182.
(2) كشاف القناع 2 / 398.
(3) سورة المائدة / 96.(28/300)
وَالْعَقْرَبِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ (1) ، بَل اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ قَتْلَهَا (2) ، وَلاَ يُقْتَل ضَبٌّ وَلاَ خِنْزِيرٌ وَلاَ قِرْدٌ، إِلاَّ أَنْ يُخَافَ مِنْ عَادِيَتِهِ (3) .
وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الصَّيْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْحَرَمِ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ ضَمَانَ مِثْل الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ مِنَ الأَْنْعَامِ، فَيَذْبَحُهُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ ضَمَانَ قِيمَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ - فَيَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ (4) ، أَوْ صِيَامِ يَوْمٍ عَنْ طَعَامِ كُل مِسْكِينٍ، وَهُوَ الْمُدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنِصْفُ الصَّاعِ مِنَ الْبُرِّ، أَوِ الصَّاعُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) .
وَهَذَا التَّخْيِيرُ فِي الْجَزَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} . . . الآْيَةَ (6) .
ضَمَانُ الطَّبِيبِ وَنَحْوِهِ:
134 - مِثْل الطَّبِيبِ: الْحَجَّامُ، وَالْخَتَّانُ، وَالْبَيْطَارُ، وَفِي ضَمَانِهِمْ خِلاَفٌ:
يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: فِي الطَّبِيبِ إِذَا أَجْرَى
__________
(1) القوانين الفقهية ص 92، وجواهر الإكليل 1 / 194، وكشاف القناع 2 / 438 و 439.
(2) كشاف القناع 2 / 439.
(3) القوانين الفقهية ص 92.
(4) الدر المختار 2 / 215، وجواهر الإكليل 1 / 198 و 199، والقوانين الفقهية ص 93، وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 144.
(5) الدر المختار 2 / 215.
(6) سورة المائدة / 95.(28/301)
جِرَاحَةً لِشَخْصٍ فَمَاتَ، إِذَا كَانَ الشَّقُّ بِإِذْنٍ، وَكَانَ مُعْتَادًا، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ الرَّسْمِ، لاَ يَضْمَنُ. وَقَالُوا: لَوْ قَال الطَّبِيبُ: أَنَا ضَامِنٌ إِنْ مَاتَ لاَ يَضْمَنُ دِيَتَهُ لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ بَاطِلٌ، أَوْ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ شَرْطُ الْمَكْفُول بِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَطَعَ الْحَجَّامُ لَحْمًا مِنْ عَيْنِهِ، وَكَانَ غَيْرَ حَاذِقٍ، فَعَمِيَتْ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ وَالْحَجَّامِ، يَخْتِنُ الصَّبِيَّ، وَيَقْلَعُ الضِّرْسَ، فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى هَؤُلاَءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ عَارِفًا فَلاَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ، وَغَرَّ مِنْ نَفْسِهِ، فَيُؤَدَّبُ بِالضَّرْبِ وَالسَّجْنِ (3) ، وَقَالُوا: الطَّبِيبُ إِذَا جَهِل أَوْ قَصَّرَ ضَمِنَ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَا إِذَا دَاوَى بِلاَ إِذْنٍ، أَوْ بِلاَ إِذْنٍ مُعْتَبَرٍ، كَالصَّبِيِّ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 364.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 290 وراجع مسائل نحو هذا في الفتاوى الخيرية للعليمي 2 / 176، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 235 (ط. بولاق: 1270 هـ) .
(3) القوانين الفقهية ص 221، وانظر جواهر الإكليل 2 / 296.
(4) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 4 / 355.(28/301)
وَقَال الشَّافِعِيُّ: فِي الْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ وَنَحْوِهِمَا: إِنْ كَانَ فَعَل مَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ، مِمَّا فِيهِ الصَّلاَحُ لِلْمَفْعُول بِهِ عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ بِتِلْكَ الصِّنَاعَةِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَجْرُهُ.
وَإِنْ كَانَ فَعَل مَا لاَ يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ، كَانَ ضَامِنًا، وَلاَ أَجْرَ لَهُ فِي الأَْصَحِّ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْخِتَانِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَغَيْرِهِ: فَمَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لاَ يَحْتَمِلُهُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، إِلاَّ الْوَالِدَ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ، وَخَتَنَهُ وَلِيُّ خِتَانٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
ضَمَانُ الْمُعَزَّرِ:
135 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ فَهَلَكَ، فَدَمُهُ هَدْرٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّعْزِيرِ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِي التَّعْزِيرِ الْوَاجِبِ (3) ، وَقَيَّدَهُ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَظُنَّ الإِْمَامُ سَلاَمَتَهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ (4) ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ التَّعْزِيرَ مُقَيَّدًا بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (5) .
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ إِذَا أَفْضَى إِلَى
__________
(1) الأم - بتصرف - 6 / 166 (ط. بولاق: 1321 هـ) .
(2) شرح المحلي بحاشية القليوبي عليه 4 / 211 وقارن بالمغني بالشرح الكبير 10 / 349 و 350.
(3) الدر المختار ورد المحتار 3 / 189.
(4) جواهر الإكليل 2 / 296، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 4 / 355، ومنح الجليل 4 / 556، 557.
(5) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 4 / 209.(28/302)
التَّلَفِ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِشَرْطِ ظَنِّ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلاَ يَضْمَنُ، كَالْحُدُودِ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْرِفْ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يُجَاوِزَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ، أَوْ يَضْرِبُ مَنْ لاَ عَقْل لَهُ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مَعْتُوهٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِذَلِكَ شَرْعًا (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير) .
ضَمَانُ الْمُؤَدِّبِ وَالْمُعَلِّمِ:
136 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَنْعِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ بِقَصْدِ الإِْتْلاَفِ وَتَرَتُّبِ الْمَسْئُولِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْهَلاَكِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ، وَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَأْدِيب ف 11، وَتَعْلِيم ف 14) .
ضَمَانُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ:
137 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الأَْمْوَال أَثْنَاءَ الْحِرَابَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَضْمِينِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حِرَابَة ف 22) .
ضَمَانُ الْبُغَاةِ:
138 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْعَادِل إِذَا أَصَابَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 16، وقارن بالمغني بالشرح الكبير 10 / 349.(28/302)
مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، مِنْ دَمٍ أَوْ جِرَاحَةٍ، أَوْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَال الْحَرْبِ وَحَال الْخُرُوجِ، لأَِنَّهُ ضَرُورَةٌ، وَلأَِنَّا مَأْمُورُونَ بِقِتَالِهِمْ، فَلاَ نَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ (1) .
أَمَّا إِذَا أَصَابَ الْبَاغِي مِنْ أَهْل الْعَدْل شَيْئًا مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ، يَقُول الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَتْلَفُوا عَلَيْنَا نَفْسًا أَوْ مَالاً ضَمِنُوهُ، وَعَلَّقَ عَلَيْهِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ بِقَوْلِهِ: أَيْ بِغَيْرِ الْقِصَاصِ (2) ، وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ بِأَنَّهُمَا فِرْقَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مُحِقَّةٌ وَمُبْطِلَةٌ، فَلاَ يَسْتَوِيَانِ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ، كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، لِشُبْهَةِ تَأْوِيلِهَا (3) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَال: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُل دَمٍ اسْتُحِل بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُل مَالٍ اسْتُحِل بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ (4) .
__________
(1) البدائع 7 / 141، ومغني المحتاج 4 / 125، ونهاية المحتاج 7 / 407، وكشاف القناع 6 / 165.
(2) نهاية المحتاج 7 / 408.
(3) مغني المحتاج 4 / 125.
(4) البدائع 7 / 141، وكشاف القناع 6 / 165، فقد أورده بصيغة أخرى، وقال: ذكره أحمد في رواية الأثرم، واحتج به، رواه الخلال.(28/303)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْلُهُ لاَ يَكْذِبُ، فَوَقَعَ الإِْجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ (1) .
وَلأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ، لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الضَّمَانِ مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمْ يَجِبْ (2) . وَلأَِنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ فَسَقَطَ، كَأَهْل الْحَرْبِ، أَوْ كَأَهْل الْعَدْل.
هَذَا الْحُكْمُ فِي حَال الْحَرْبِ، أَمَّا فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ، فَمَضْمُونٌ (3) .
ضَمَانُ السَّارِقِ لِلْمَسْرُوقِ:
139 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَسْرُوقَ إِنْ كَانَ قَائِمًا فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ.
فَإِنْ تَلِفَ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة ف 79، 80 ج 24) .
ضَمَانُ إِتْلاَفِ آلاَتِ اللَّهْوِ:
140 - آلَةُ اللَّهْوِ: كَالْمِزْمَارِ، وَالدُّفِّ، وَالْبَرْبَطِ، وَالطَّبْل، وَالطُّنْبُورِ، وَفِي ضَمَانِهَا بَعْضُ الْخِلاَفِ:
__________
(1) البدائع 7 / 141.
(2) نفس المرجع.
(3) كشاف القناع 5 / 165.(28/303)
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ وَذَلِكَ: لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلاَ تَمَلُّكُهَا (1) ، وَلأَِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الاِسْتِعْمَال، وَلاَ حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا (2) .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِكَسْرِهَا قِيمَتَهَا خَشَبًا مَنْحُوتًا صَالِحًا لِغَيْرِ اللَّهْوِ لاَ مِثْلَهَا، فَفِي الدُّفِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ دُفًّا يُوضَعُ فِيهِ الْقُطْنُ، وَفِي الْبَرْبَطِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ.
وَيَصِحُّ بَيْعُهَا، لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ لِصَلاَحِيَّتِهَا بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ اللَّهْوِ، فَلَمْ تُنَافِ الضَّمَانَ، كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ (3) ، بِخِلاَفِ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ لِعَيْنِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ، أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُهَا، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهَا (4) .
قَالُوا: وَأَمَّا طَبْل الْغُزَاةِ وَالصَّيَّادِينَ وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ، فَمَضْمُونٌ اتِّفَاقًا (5) ، كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ، وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ، وَالدِّيكِ الْمُقَاتِل.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336، والمغني بالشرح الكبير 5 / 445 و 446.
(2) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 33.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 134.
(4) الدر المختار 5 / 135.
(5) نفس المرجع.(28/304)
حَيْثُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِهَذَا الأَْمْرِ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، أَنَّ هَذَا الاِخْتِلاَفَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ إِنَّمَا هُوَ: فِي الضَّمَانِ، دُونَ إِبَاحَةِ إِتْلاَفِ الْمَعَازِفِ، وَفِيمَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا اتِّفَاقًا، وَفِيمَا إِذَا فَعَل بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنِ اتِّفَاقًا. وَفِي غَيْرِ عُودِ الْمُغَنِّي وَخَابِيَةِ الْخَمَّارِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْسِرْهَا لَعَادَ لِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَلَوْ لِذِمِّيٍّ ضَمِنَ اتِّفَاقًا قِيمَتَهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَكَذَا لَوْ كَسَرَ صَلِيبَهُ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ (2) .
ضَمَانُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْل:
141 - لِمَال الْمُسْلِمِ حُرْمَةٌ كَمَا لِنَفْسِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ مَنْ يَتْرُكُ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ إِنْقَاذُ مَال الْمُسْلِمِ مِنَ الضَّيَاعِ، أَوْ نَفْسِهِ مِنَ الْهَلاَكِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ تَرْك (ف 12 - 14) .
تَرْكُ الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا:
142 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) رد المحتار 5 / 135.(28/304)
الشَّهَادَةَ بَعْدَ طَلَبِهَا مِنْهُ وَعِلْمِهِ أَنَّ تَرْكَهَا يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ الَّذِي طُلِبَتْ مِنْ أَجَلِهِ آثِمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (1) } .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ طَلَبِهَا مِنْهُ وَعِلْمِهِ أَنَّ تَرْكَهَا يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ يَضْمَنُ (2) .
وَفِي الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا وَضَمَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 36، 37) .
قَطْعُ الْوَثَائِقِ:
143 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ وَثِيقَةً، فَضَاعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ، فَهُوَ ضَامِنٌ، لِتَسَبُّبِهِ فِي الإِْتْلاَفِ وَضَيَاعِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَفَعَل ذَلِكَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، لأَِنَّ الْعَمْدَ أَوِ الْخَطَأَ فِي أَمْوَال النَّاسِ سَوَاءٌ - كَمَا يَقُول الدُّسُوقِيُّ - وَكَذَا إِذَا أَمْسَكَ الْوَثِيقَةَ بِمَالٍ، أَوْ عَفْوٍ عَنْ دَمٍ.
وَلَوْ قَتَل شَاهِدَيِ الْحَقِّ، أَوْ قَتَل أَحَدَهُمَا وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَتِهِمَا، فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَغْرَمُ جَمِيعَ الْحَقِّ، وَجَمِيعَ الْمَال وَفِي قَتْلِهِ تَرَدُّدٌ (3) .
__________
(1) سورة البقرة 283.
(2) جواهر الإكليل 1 / 215، وحاشية الدسوقي 2 / 112.
(3) القوانين الفقهية ص 218، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 111.(28/305)
تَضْمِينُ السُّعَاةِ:
144 - إِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ لِدَفْعِ أَذَاهُ عَنْهُ، وَلاَ يَرْتَفِعُ أَذَاهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، أَوْ سَعَى بِمَنْ يُبَاشِرُ الْفِسْقَ وَلاَ يَمْتَنِعُ بِنَهْيِهِ فَلاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ، وَقَال: إِنَّ فُلاَنًا وَجَدَ كَنْزًا، فَغَرَّمَهُ السُّلْطَانُ، فَظَهَرَ كَذِبُهُ، ضَمِنَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ عَدْلاً، أَوْ قَدْ يَغْرَمُ أَوْ لاَ يَغْرَمُ، لَكِنَّ الْفَتْوَى الْيَوْمَ - كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمِنَحِ - بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى السَّاعِي مُطْلَقًا.
وَالسِّعَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَذِبٍ يَكُونُ سَبَبًا لأَِخْذِ الْمَال مِنْ شَخْصٍ، أَوْ كَانَ صَادِقًا لَكِنْ لاَ يَكُونُ قَصْدُهُ إِقَامَةَ الْحِسْبَةِ كَمَا لَوْ قَال: وَجَدَ مَالاً وَقَدْ وُجِدَ الْمَال، فَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَال بِهَذَا السَّبَبِ.
وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ يَغْرَمُ أَلْبَتَّةَ بِمِثْل هَذِهِ السِّعَايَةِ، ضَمِنَ (1) .
وَكَذَا يَضْمَنُ لَوْ سَعَى بِغَيْرِ حَقٍّ - عِنْدَ مُحَمَّدٍ - زَجْرًا لِلسَّاعِي، وَبِهِ يُفْتَى وَيُعَزَّرُ وَلَوْ مَاتَ السَّاعِي فَلِلْمُسْعَى بِهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْخُسْرَانِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (2) ،
__________
(1) رد المحتار 5 / 135، وجامع الفصولين 2 / 79.
(2) الدر المختار 5 / 135.(28/305)
وَذَلِكَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَزَجْرًا لِلسَّاعِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ، فَإِنَّ السَّعْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ لإِِهْلاَكِ الْمَال، وَالسُّلْطَانُ يُغَرِّمُهُ اخْتِيَارًا لاَ طَبْعًا (1) .
وَنَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقِنْيَةِ: شَكَا عِنْدَ الْوَالِي بِغَيْرِ حَقٍّ، فَضَرَبَ الْمَشْكُوَّ عَلَيْهِ، فَكَسَرَ سِنَّهُ أَوْ يَدَهُ، يَضْمَنُ الشَّاكِي أَرْشَهُ، كَالْمَال (2) .
وَتَعَرَّضَ الْمَالِكِيَّةُ لِمَسْأَلَةِ الشَّاكِي لِلْحَاكِمِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، كَالْغَاصِبِ وَقَالُوا: إِذَا شَكَاهُ إِلَى حَاكِمٍ ظَالِمٍ، مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مُنْصِفٍ، فَغَرَّمَهُ الْحَاكِمُ زَائِدًا عَمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا، بِأَنْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ، قَالُوا: يَغْرَمُ.
وَفِي فَتْوَى: أَنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاكِي جَمِيعَ مَا غَرَّمَهُ السُّلْطَانُ الظَّالِمُ لِلْمَشْكُوِّ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الشَّاكِي شَيْئًا مُطْلَقًا، وَإِنْ ظَلَمَ فِي شَكْوَاهُ، وَإِنْ أَثِمَ وَأُدِّبَ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَرِمَ إِنْسَانٌ، بِسَبَبِ كَذِبٍ عَلَيْهِ عِنْدَ وَلِيِّ الأَْمْرِ، فَلِلْغَارِمِ تَغْرِيمُ الْكَاذِبِ عَلَيْهِ لِتَسَبُّبِهِ فِي ظُلْمِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الآْخِذِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (4) .
إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنْ السَّفِينَةِ:
145 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى
__________
(1) رد المحتار 5 / 360.
(2) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 79.
(3) جواهر الإكليل 2 / 152.
(4) كشاف القناع 4 / 116.(28/306)
الْغَرَقِ، فَأَلْقَى بَعْضُهُمْ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى خَفَّتْ السَّفِينَةُ، يَضْمَنُ قِيمَتَهَا فِي تِلْكَ الْحَال، أَيْ مُشْرِفَةً عَلَى الْغَرَقِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْغَائِبِ الَّذِي لَهُ مَالٌ فِيهَا، وَلَمْ يَأْذَنْ بِالإِْلْقَاءِ، فَلَوْ أَذِنَ بِالإِْلْقَاءِ، بِأَنْ قَال: إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْحَال فَأَلْقُوا، اعْتُبِرَ إِذْنُهُ (1) .
وَقَالُوا: إِذَا خَشَى عَلَى الأَْنْفُسِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِلْقَاءِ الأَْمْتِعَةِ فَالْغُرْمُ بِعَدَدِ الرُّءُوسِ إِذَا قَصَدَ حِفْظَ الأَْنْفُسِ خَاصَّةً - كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ - لأَِنَّهَا لِحِفْظِ الأَْنْفُسِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَصْكَفِيِّ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ، ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى الأَْمْلاَكِ مُطْلَقًا، ثَالِثُهَا عَكْسُهُ (2) .
وَلَوْ خَشَى عَلَى الأَْمْتِعَةِ فَقَطْ - بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لاَ تَغْرَقُ فِيهِ الأَْنْفُسُ - فَهِيَ عَلَى قَدْرِ الأَْمْوَال، وَإِذَا خَشَى عَلَيْهِمَا، فَهِيَ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَمَنْ كَانَ غَائِبًا، وَأَذِنَ بِالإِْلْقَاءِ، اعْتُبِرَ مَالُهُ، لاَ نَفْسُهُ.
وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا بِمَالِهِ اعْتُبِرَ مَالُهُ وَنَفْسُهُ فَقَطْ.
وَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ فَقَطِ اعْتُبِرَ نَفْسُهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خِيفَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَرَقُ، جَازَ طَرْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ، أَذِنَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا، إِذَا رَجَا بِذَلِكَ نَجَاتَهُ،
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.
(2) رد المحتار في الموضع نفسه.
(3) نفس المرجع.(28/306)
وَكَانَ الْمَطْرُوحُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ غُرْمَ عَلَى مَنْ طَرَحَهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ فِيهَا مَتَاعٌ وَرِكَابٌ عَلَى غَرَقٍ، وَخِيفَ هَلاَكُ الرُّكَّابِ، جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ، لِسَلاَمَةِ الْبَعْضِ الآْخَرِ: أَيْ لِرَجَائِهَا، وَقَال الْبُلْقِينِيُّ: بِشَرْطِ إِذْنِ الْمَالِكِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَيَجِبُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ (3) .
وَقَالُوا - أَيْضًا - وَيَجِبُ إِلْقَاؤُهُ - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ مَالِكُهُ - إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ لِسَلاَمَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ، كَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ. وَيَجِبُ بِإِلْقَاءِ حَيَوَانٍ، وَلَوْ مُحْتَرَمًا، لِسَلاَمَةِ آدَمِيٍّ مُحْتَرَمٍ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ إِلْقَائِهِ.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ فِي الإِْلْقَاءِ تَقْدِيمَ الأَْخَسِّ فَالأَْخَسِّ قِيمَةً مِنَ الْمَتَاعِ إِنْ أَمْكَنَ، حِفْظًا لِلْمَال مَا أَمْكَنَ، قَالُوا: وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُلْقِي غَيْرَ الْمَالِكِ (4) .
وَقَالُوا: يَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي رُوحٍ، وَإِلْقَاءُ الدَّوَابِّ لإِِبْقَاءِ الآْدَمِيِّينَ. وَإِذَا انْدَفَعَ الْغَرَقُ بِطَرْحِ بَعْضِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 218.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 90.
(3) منهاج الطالبين، مع مغني المحتاج 4 / 92 (ط. دار الفكر في بيروت) .
(4) حاشية الجمل 5 / 90.(28/307)
الْمَتَاعِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ: فَإِنْ طَرَحَ مَال غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنٍ ضَمِنَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (2) ، كَأَكْل الْمُضْطَرِّ طَعَامَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (3) .
قَالُوا: وَلَوْ قَال: أَلْقِ مَتَاعَكَ عَلَيَّ ضَمَانُهُ، أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ ضَمِنَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى: أَلْقِ، فَلاَ، عَلَى الْمَذْهَبِ (4) - لِعَدَمِ الاِلْتِزَامِ -
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِهَذِهِ الْفُرُوعِ:
أ - إِذَا أَلْقَى بَعْضُ الرُّكْبَانِ مَتَاعَهُ، لِتَخِفَّ السَّفِينَةُ وَتَسْلَمَ مِنَ الْغَرَقِ، لَمْ يُضَمِّنْهُ أَحَدٌ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَتَاعَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، لِصَلاَحِهِ وَصَلاَحِ غَيْرِهِ.
ب - وَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضَمِنَهُ وَحْدَهُ.
ج - وَإِنْ قَال لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فَقَبِل مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ لَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ.
د - وَإِنْ قَال: أَلْقِ وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، أَوْ: وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِعِوَضٍ لِمَصْلَحَتِهِ، فَوَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ. . .
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 90.
(2) منهاج الطالبين مع مغني المحتاج 4 / 93.
(3) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 90.
(4) المنهاج مع مغني المحتاج 4 / 93.(28/307)
هـ - وَإِنْ قَال: أَلْقِهِ وَعَلَيَّ وَعَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَحْدَهُ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ ضَمَانَهُ جَمِيعَهُ، فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَقَال الْقَاضِي: إِنْ كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ، مِثْل أَنْ يَقُول: نَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَوْ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُ قِسْطِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الضَّمَانِ لأَِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ حِصَّتَهُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْبَاقِينَ بِالضَّمَانِ، فَسَكَتُوا وَسُكُوتُهُمْ لَيْسَ بِضَمَانٍ. وَإِنِ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْجَمِيعِ، وَأَخْبَرَ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْل ذَلِكَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ الْكُل (1) .
مَنْعُ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ:
146 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ، وَإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنْ أَمْوَالِهِ حَتَّى هَلَكَتْ، يَأْثَمُ، وَلاَ يَضْمَنُ.
نَقَل هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ (2) عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهَلاَكَ لَمْ يَحْصُل بِنَفْسِ فِعْلِهِ، كَمَا لَوْ فَتَحَ الْقَفَصَ فَطَارَ الْعُصْفُورُ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّ الطَّيَرَانَ بِفِعْل الْعُصْفُورِ،
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 363.
(2) رد المحتار 3 / 319.(28/308)
لاَ بِنَفْسِ فَتْحِ الْبَابِ. وَالْمَنْصُوصُ فِي مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْقَفَصِ، أَنَّهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْل مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ. وَاسْتَدَل بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ الْبَحْرِ، عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الإِْثْمِ الضَّمَانُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَبَسَ الْمَالِكَ عَنْ الْمَاشِيَةِ لاَ ضَمَانَ فِيهِ (2) ، وَكَذَا لَوْ مَنَعَ مَالِكَ زَرْعٍ أَوْ دَابَّةٍ مِنَ السَّقْيِ، فَهَلَكَ لاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ (3) .
وَيَبْدُو أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ الْمَالِكِ، هُوَ الضَّمَانُ، لِلتَّسَبُّبِ فِي الإِْتْلاَفِ (4) .
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ عَلَّلُوا الضَّمَانَ بِأَنَّهُ لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ (5) .
وَمِنْ فُرُوعِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ أَزَال يَدَ إِنْسَانٍ عَنْ حَيَوَانٍ فَهَرَبَ يَضْمَنُهُ، لِتَسَبُّبِهِ فِي فَوَاتِهِ، أَوْ أَزَال يَدَهُ الْحَافِظَةَ لِمَتَاعِهِ حَتَّى نَهَبَهُ النَّاسُ، أَوْ أَفْسَدَتْهُ النَّارُ، أَوِ الْمَاءُ، يَضْمَنُهُ.
وَقَالُوا: لِرَبِّ الْمَال تَضْمِينُ فَاتِحِ الْبَابِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 84، ورد المحتار 3 / 319.
(2) الوجيز 1 / 206.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 26.
(4) القوانين الفقهية ص 218، وجواهر الإكليل 1، 215.
(5) كشاف القناع 4 / 116 و 117.(28/308)
لِتَسَبُّبِهِ فِي الإِْضَاعَةِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الآْخِذِ لِمُبَاشَرَتِهِ.
فَإِنْ ضَمَّنَ رَبُّ الْمَال الآْخِذَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْفَاتِحَ رَجَعَ عَلَى الآْخِذِ (1) .
تَضْمِينُ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُفْتِي:
147 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ شَيْءَ عَلَى مُجْتَهِدٍ أَتْلَفَ شَيْئًا بِفَتْوَاهُ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، فَيَضْمَنُ إِنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْفَتْوَى، لأَِنَّهَا كَوَظِيفَةِ عَمَلٍ قَصَّرَ فِيهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا لِلْفَتْوَى، وَهُوَ مُقَلِّدٌ، فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْغُرُورِ الْقَوْلِيِّ: هَل يُوجِبُ الضَّمَانَ، أَوْ لاَ؟ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الضَّمَانِ.
وَالظَّاهِرُ - كَمَا نَقَل الدُّسُوقِيُّ - أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ فِي مُرَاجَعَةِ النُّقُول، ضَمِنَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ صَادَفَ خَطَؤُهُ، لأَِنَّهُ فَعَل مَقْدُورَهُ، وَلأَِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ الضَّمَانِ بِالْغُرُورِ الْقَوْلِيِّ (2) .
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي
__________
(1) نفس المرجع 4 / 117 و 118، وانظر الروض المربع 2 / 252.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 444.(28/309)
إِنْسَانًا بِإِتْلاَفٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُفْتِي (1) .
تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ وَتَعْطِيلُهَا:
148 - تَعْطِيل الْمَنْفَعَةِ: إِمْسَاكُهَا بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ، أَمَّا اسْتِيفَاؤُهَا فَيَكُونُ بِاسْتِعْمَالِهَا (2) ، وَالتَّفْوِيتُ تَعْطِيلٌ، وَيُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ، وَبَيْنَ تَفْوِيتِهَا، بِوَجْهٍ عَامٍّ فِي تَفْصِيلٍ:
فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَعْطِيل مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ وَتَفْوِيتَهَا، لاَ ضَمَانَ فِيهِ، كَمَا لَوْ حَبَسَ امْرَأَةً حَتَّى مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوِ الْحَمْل مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ حَبَسَ الْحُرَّ حَتَّى فَاتَهُ عَمَلٌ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، كَمَا لَوْ وَطِئَ الْبُضْعَ أَوِ اسْتَخْدَمَ الْحُرَّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الأَْمَةِ مَا نَقَصَهَا (3) ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّفْوِيتِ بِالْوَطْءِ، وَتُضْمَنُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَلاَ تُضْمَنُ بِفَوَاتٍ، لأَِنَّ الْيَدَ لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهَا، إِذِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 145 (ط. مصطفى محمد. القاهرة: 1359 هـ) .
(2) رد المحتار 5 / 135 نقلاً عن الدرر.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه، بتصرف 3 / 454.(28/309)
الْيَدُ فِي بُضْعِ الْمَرْأَةِ لَهَا، وَكَذَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْحُرِّ لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ فِي الأَْصَحِّ، كَأَنْ قَهَرَهُ عَلَى عَمَلٍ. وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُمْ: تُضْمَنُ بِالْفَوَاتِ أَيْضًا، لأَِنَّهَا لِتَقَوِّيهَا فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ تُشْبِهُ مَنْفَعَةَ الْمَال.
وَدَلِيل الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ، فَمَنْفَعَتُهُ تَفُوتُ تَحْتَ يَدِهِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَيَضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، فَلَوْ أَخَذَ حُرًّا فَحَبَسَهُ، فَمَاتَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، وَهِيَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَلَوْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لأَِنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ، وَهِيَ مَالٌ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: لاَ يَلْزَمُهُ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لاَ يَصِحُّ غَصْبُهُ.
وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَل مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ وَجْهًا وَاحِدًا (2) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 3 / 33 و 34.
(2) المغني بالشرح الكبير 5 / 448.(28/310)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَقُولُونَ بِالضَّمَانِ بِتَفْوِيتِ مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ، فَلَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ تُضْمَنُ مَنَافِعُ بَدَنِهِ (1) .
__________
(1) انظر الدر المختار 5 / 131 و 132، ومجمع الضمانات ص 126، وجامع الفصولين 2 / 92.(28/310)
ضَمَانُ الدَّرَكِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّرَكُ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ لُغَةً، اسْمٌ مِنْ أَدْرَكْتُ الرَّجُل أَيْ لَحِقْتُهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ (1) أَيْ مِنْ لِحَاقِ الشَّقَاءِ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الدَّرَكُ التَّبَعَةُ، قَال أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: سُمِّيَ ضَمَانَ الدَّرَكِ لاِلْتِزَامِهِ الْغَرَامَةَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْمُسْتَحِقِّ عَيْنَ مَالِهِ (2)
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى التَّبَعَةِ أَيِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ (3) .
فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ ضَمَانَ الدَّرَكِ: بِأَنَّهُ الْتِزَامُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من جهد البلاء. . . ". أخرجه البخاري (11 / 148) من حديث أبي هريرة.
(2) المصباح المنير مادة (درك) وتهذيب الأسماء واللغات 3 / 104 نشر دار الكتب العلمية، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624.
(3) العناية بهامش فتح القدير 5 / 403 (ط. الأميرية) ، ومغني المحتاج 2 / 201 (نشر دار إحياء التراث العربي) ، والشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(4) الاختيار 2 / 172، 173، وبدائع الصنائع 6 / 9، ابن عابدين 4 / 264، والبناية 6 / 744، وفتح القدير 5 / 403.(28/311)
شَخْصٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَا بَذَلَهُ لِلآْخَرِ إِنْ خَرَجَ مُقَابِلُهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا لِنَقْصِ الصَّنْجَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا أَمْ فِي الذِّمَّةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ تَعْرِيفُ الْفُقَهَاءِ الآْخَرِينَ لِضَمَانِ الدَّرَكِ عَمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَعْرِيفِهِ (2) . وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ بِضَمَانِ الْعُهْدَةِ، كَمَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَالِبِ بِالْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُهْدَةُ:
2 - الْعُهْدَةُ: هِيَ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ (4) .
وَالْعُهْدَةُ أَعَمُّ مِنَ الدَّرَكِ، لأَِنَّ الْعُهْدَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى حُقُوقِهِ، وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ، بِخِلاَفِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَل فِي ضَمَانِ الاِسْتِحْقَاقِ عُرْفًا (5) .
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(2) كشاف القناع 3 / 369، والمغني 4 / 596، منح الجليل 3 / 249.
(3) كشاف القناع 3 / 369، والمغني 4 / 596، والبناية 6 / 744، وفتح القدير 5 / 403، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) البناية 6 / 791، 792، وفتح القدير 5 / 435.(28/311)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ضَمَانُ الدَّرَكِ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ضَمَانَ الدَّرَكِ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ (1) .
أَلْفَاظُ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
4 - مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الضَّمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُول الضَّامِنُ: ضَمِنْتُ عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرْكَهُ، أَوْ يَقُول لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْتُ خَلاَصَكَ مِنْهُ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنِ الدَّرَكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ، وَالْكَلاَمُ الْمُطْلَقُ يُحْمَل عَلَى الأَْسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ بَاطِلٌ لاِشْتِبَاهِ الْمُرَادِ بِهَا، لإِِطْلاَقِهَا عَلَى الصَّكِّ وَعَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ، فَبَطَل لِلْجَهَالَةِ، بِخِلاَفِ ضَمَانِ الدَّرَكِ (4) ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلاَ يُقَال يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ إِلَى مَا يَجُوزُ
__________
(1) البناية 6 / 744، وفتح القدير 5 / 403، ومجمع الضمانات ص 275، والاختيار 2 / 172، والمغني 4 / 596، ومنح الجليل 3 / 249، ومغني المحتاج 2 / 201، وروضة الطالبين 4 / 246.
(2) المغني 4 / 597، وروضة الطالبين 4 / 247.
(3) المغني 4 / 596.
(4) مجمع الأنهر 2 / 135، وابن عابدين 4 / 271، والبناية 6 / 791، والبحر الرائق 6 / 254.(28/312)
الضَّمَانُ بِهِ وَهُوَ الدَّرَكُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الضَّامِنِ لأَِنَّا نَقُول: فَرَاغُ الذِّمَّةِ أَصْلٌ فَلاَ يَثْبُتُ الشَّغْل بِالشَّكِّ وَالاِحْتِمَال (1) .
كَمَا أَنَّ ضَمَانَ الْخَلاَصِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ يُفَسِّرُهُ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ لاَ مَحَالَةَ وَلاَ قُدْرَةَ لِلضَّامِنِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لاَ يُمَكِّنُهُ مِنْهُ، وَلَوْ ضَمِنَ تَخْلِيصَ الْمَبِيعِ أَوْ رَدَّ الثَّمَنِ جَازَ، لإِِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ وَهُوَ تَسْلِيمُهُ إِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ، أَوْ رَدَّهُ إِنْ لَمْ يُجِزْ، فَالْخِلاَفُ رَاجِعٌ إِلَى التَّفْسِيرِ (2) .
وَيَرَى الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ ضَمَانَ الْخَلاَصِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، وَفَسَّرُوا ضَمَانَ الْخَلاَصِ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَرَدِّ الثَّمَنِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرَكِ فِي الْمَعْنَى، فَالْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ فَقَطْ (3) .
أَمَّا ضَمَانُ خَلاَصِ الْمَبِيعِ بِمَعْنَى أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْمَبِيعَ إِنِ اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ يُخَلِّصُهُ وَيُسَلِّمُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ إِذِ الْمُسْتَحِقُّ رُبَّمَا لاَ يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) البحر الرائق 6 / 254.
(2) مجمع الأنهر 2 / 135، والبحر الرائق 6 / 254، وابن عابدين 4 / 271، والبناية 4 / 792.
(3) البحر الرائق 6 / 254، ومجمع الأنهر 2 / 135، والبناية 6 / 792، وروضة الطالبين 4 / 247.
(4) البناية 6 / 792، وروضة الطالبين 4 / 247، والمغني 4 / 597.(28/312)
مُتَعَلَّقُ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
5 - يَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ هُوَ عَيْنُ الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ إِنْ بَقِيَ وَسَهُل رَدُّهُ، وَبَدَلُهُ أَيْ قِيمَتُهُ إِنْ عَسُرَ رَدُّهُ، وَمِثْل الْمِثْلِيِّ وَقِيمَةُ الْمُتَقَوِّمِ إِنْ تَلِفَ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْبَدَل أَظْهَرُ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ (ضَمَانُ الْعُهْدَةِ) هُوَ الثَّمَنُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الضَّمَانُ عَنِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، حَيْثُ يَقُولُونَ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي وَعَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، فَضَمَانُهُ عَنِ الْمُشْتَرِي: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ قَبْل تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوِ اسْتُحِقَّ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ، وَضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ، فَضَمَانُ الْعُهْدَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّمَنُ أَيْضًا (3) ، إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْحَنَابِلَةَ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 379.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 596.
(3) البناية 6 / 744، ومنح الجليل 3 / 249.(28/313)
يَعْتَبِرُونَ ضَمَانَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ مِنْ قَبِيل ضَمَانِ الدَّرَكِ (ضَمَانِ الْعُهْدَةِ) فِي حِينِ يَخْتَصُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالْكَفَالَةِ بِأَدَاءِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ وَضُبِطَ مِنْ يَدِهِ (1) ، أَمَّا ضَمَانُ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ فَهُوَ يَتَحَقَّقُ ضِمْنَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال بِشُرُوطِهَا.
شُرُوطُ صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
6 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ دَيْنًا صَحِيحًا، وَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، فَلاَ يَصِحُّ بِغَيْرِهِ كَبَدَل الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّعْجِيزِ (2) .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ قَبْضَ الثَّمَنِ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَهُمْ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ، لأَِنَّ الضَّامِنَ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُل الثَّمَنُ فِي ضَمَانِهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624، ومنح الجليل 3 / 249، والمغني 4 / 596، وكشاف القناع 3 / 369.
(2) البناية 6 / 745، والأشباه والنظائر مع شرحه غمز عيون الأبصار 1 / 336، وابن عابدين 4 / 263، وانظر مغني المحتاج 2 / 201، 202، ومنح الجليل 3 / 249.
(3) مغني المحتاج 2 / 201، وحاشية الجمل 3 / 379، 380، والمغني 4 / 596.(28/313)
حُكْمُ ضَمَانِ الدَّرَكِ فِي حَالَتَيِ الإِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ:
7 - إِذَا أُطْلِقَ ضَمَانُ الدَّرَكِ أَوِ الْعُهْدَةِ اخْتَصَّ بِمَا إِذَا خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا إِذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ، لاَ مَا خَرَجَ فَاسِدًا بِغَيْرِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَلَوِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِمَا سِوَى الاِسْتِحْقَاقِ مِثْل الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لاَ يُؤَاخَذُ بِهِ الضَّامِنُ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الدَّرَكِ (1) .
أَمَّا إِذَا قَيَّدَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ كَخَوْفِ الْمُشْتَرِي فَسَادَ الْبَيْعِ بِدَعْوَى الْبَائِعِ صِغَرًا أَوْ إِكْرَاهًا، أَوْ خَافَ أَحَدُهُمَا كَوْنَ الْعِوَضِ مَعِيبًا، أَوْ شَكَّ الْمُشْتَرِي فِي كَمَال الصَّنْجَةِ الَّتِي تَسَلَّمَ بِهَا الْمَبِيعَ، أَوْ شَكَّ الْبَائِعُ فِي جَوْدَةِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَضَمِنَ الضَّامِنُ ذَلِكَ صَرِيحًا صَحَّ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ (2) .
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِالدَّرَكِ يَضْمَنُ الْمَكْفُول بِهِ فَقَطْ، وَلاَ يَضْمَنُ مَعَ الْمَكْفُول بِهِ ضَرَرَ التَّغْرِيرِ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلْكَفِيل كَفَالَةٌ بِذَلِكَ (3) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ:
أ - حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ:
8 - يَتَرَتَّبُ عَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 380، وبدائع الصنائع 6 / 9، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 665.
(2) كشاف القناع 3 / 369، والشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 665، 698 وما بعدها.(28/314)
الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَيَحِقُّ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ وَالأَْصِيل بِهِ (1) . إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِالثَّمَنِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَضَاءِ بِالاِسْتِحْقَاقِ يَكْفِي لِمُؤَاخَذَةِ ضَامِنِ الدَّرَكِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ ضَامِنُ الدَّرَكِ إِنِ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مَا لَمْ يَقْضِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يُنْتَقَضُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ قَبْل الْفَسْخِ جَازَ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَمَا لَمْ يَقْضِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لاَ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الأَْصِيل فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيل (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَغْرَمُ الثَّمَنَ حِينَ الدَّرَكِ فِي غَيْبَةِ الْبَائِعِ وَعَدَمِهِ (3) .
ب - مَنْعُ دَعْوَى التَّمَلُّكِ وَالشُّفْعَةِ:
9 - ضَمَانُ الدَّرَكِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ تَسْلِيمٌ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 296، وابن عابدين 4 / 264، وبدائع الصنائع 6 / 10، والشرقاوي على التحرير 2 / 122.
(2) مجمع الأنهر 2 / 135، ودرر الحكام 1 / 663، 664، وابن عابدين 4 / 282.
(3) منح الجليل 3 / 249، وانظر بداية المجتهد 2 / 296 (نشر دار المعرفة) .(28/314)
مِنَ الضَّامِنِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَيَكُونُ مَانِعًا لِدَعْوَى التَّمَلُّكِ وَالشُّفْعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُول الضَّامِنِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَالْمُرَادُ بِهِ إِحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِي الاِبْتِيَاعِ، إِذْ لاَ يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الضَّمَانِ فَنَزَل التَّرْغِيبُ مَنْزِلَةَ الإِْقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَلاَ تَصِحُّ دَعْوَى الضَّامِنِ الْمِلْكِيَّةَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّنَاقُضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ضَمِنَ الشَّفِيعُ الْعُهْدَةَ لِلْمُشْتَرِي لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ، لأَِنَّ هَذَا سَبَبٌ سَبَقَ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالإِْذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْل تَمَامِ الْبَيْعِ (2) .
الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ:
10 - الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ هُوَ: أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي فَيَخَافُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ، فَيَأْخُذُ مِنَ الْبَائِعِ رَهْنًا بِالثَّمَنِ لَوِ اسْتَحَقَّهُ أَحَدٌ، وَالرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ، حَتَّى إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لاَ يَمْلِكُ حَبْسَ الرَّهْنِ إِنْ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 133، والبحر الرائق 6 / 258، 259، ودرر الحكام 1 / 665.
(2) المغني 5 / 381.(28/315)
قَبَضَهُ قَبْل الْوُجُوبِ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أَوْ لاَ، لأَِنَّ الرَّهْنَ جُعِل مَشْرُوعًا لأَِجْل الاِسْتِيفَاءِ وَلاَ اسْتِيفَاءَ قَبْل الْوُجُوبِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَبْقَى الرَّهْنُ مَرْهُونًا أَبَدًا (2) .
__________
(1) العناية بهامش تكملة الفتح 8 / 206، وبدائع الصنائع 6 / 143، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 2 / 82، والمغني لابن قدامة 4 / 346، وروضة الطالبين 10 / 361.
(2) المغني 4 / 596.(28/315)
ضِيَافَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضِّيَافَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ ضَافَ، يُقَال: ضَافَ الرَّجُل يُضِيفُهُ ضَيْفًا، وَضِيَافَةً: مَال إِلَيْهِ وَنَزَل بِهِ ضَيْفًا وَضِيَافَةً، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ ضَيْفًا، وَضِيَافَةً (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اسْمٌ لإِِكْرَامِ الضَّيْفِ - وَهُوَ النَّازِل بِغَيْرِهِ لِطَلَبِ الإِْكْرَامِ - وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِرَاءُ:
2 - الْقِرَاءُ مِنْ قَرَى الضَّيْفِ قِرَاءً وَقِرًى: أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَأَطْعَمَهُ.
ب - الْخَفَرُ:
3 - يُقَال: خَفَرَ بِالْعَهْدِ يَخْفِرُ إِذَا وَفَّى بِهِ، وَخَفَرْتُ الرَّجُل حَمَيْتُهُ وَأَجَرْتُهُ مِنْ طَالِبِهِ، وَخَفَرَ بِالرَّجُل إِذَا غَدَرَ بِهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، ابن عابدين 2 / 121.
(2) القليوبي 3 / 298، حاشية ابن عابدين 2 / 121، وحاشية البجيرمي 3 / 392.
(3) المصباح المنير.(28/316)
ج - الإِْجَارَةُ:
4 - الإِْجَارَةُ مِنْ أَجَارَ الرَّجُل إِجَارَةً: إِذَا أَمَّنَهُ وَخَفَرَ بِهِ، وَعَلَيْهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - تُعْتَبَرُ الضِّيَافَةُ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَسُنَّةِ الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالأَْنْبِيَاءِ بَعْدَهُ، وَقَدْ رَغَّبَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ، وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ الإِْيمَانِ (1) .
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ (2) ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يُضِيفُ (3) ، وَقَال عَلَيْهِ السَّلَامُ: الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤَثِّمَهُ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ يُؤَثِّمُهُ؟ قَال: يُقِيمُ عِنْدَهُ لاَ شَيْءَ لَهُ يُقْرِيهِ بِهِ (4) .
وَهِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 12، ابن عابدين 5 / 196.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ". أخرجه البخاري 10 / 532، ومسلم 1 / 68، من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " لا خير فيمن لا يضيف ". أخرجه أحمد 4 / 155، من حديث عقبة بن عامر، وأشار العراقي إلى تضعيفه في تخريجه لإحياء علوم الدين 2 / 12.
(4) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام ". أخرجه مسلم 3 / 1353 من حديث أبي شريح الخزاعي.(28/316)
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ، وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ، وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ فِي حَالَةِ الْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلاَكَ.
وَالضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْحَضَرِ، إِلاَّ مَا جَاءَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ، وَقَال سَحْنُونٌ: الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى، وَأَمَّا أَهْل الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ نُزُلاً - وَهُوَ الْفُنْدُقُ - فَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ إِلَيْهَا وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ تَعَيُّنَهَا عَلَى أَهْل الْقُرَى لَمَعَانٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ، فَلَوِ الْتَزَمَ أَهْل الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا، وَأَهْل الْقُرَى يَنْدُرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ.
ثَانِيهَا:
أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ الْمَسْكَنَ وَالطَّعَامَ، فَلاَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ، وَحُكْمُ الْقُرَى الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ(28/317)
النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ، وَهَذَا فِيمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ الإِْنْسَانُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ أَوْ صِلَةٌ وَمُكَارَمَةٌ، فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ (1) .
آدَابُ الضِّيَافَةِ:
آدَابُ الْمُضِيفِ:
6 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُضِيفِ إِينَاسُ الضَّيْفِ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ وَالْقَصَصِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَال، لأَِنَّ مِنْ تَمَامِ الإِْكْرَامِ طَلاَقَةَ الْوَجْهِ وَطِيبَ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُول لِيَحْصُل لَهُ الاِنْبِسَاطُ، وَلاَ يَتَكَلَّفُ مَا لاَ يُطِيقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَأَتْقِيَاءُ أُمَّتِي بُرَآءُ مِنَ التَّكَلُّفِ (2) وَأَنْ يَقُول لِلضَّيْفِ أَحْيَانًا: " كُل " مِنْ غَيْرِ إِلْحَاحٍ، وَأَلاَّ يُكْثِرَ السُّكُوتَ عِنْدَ الضَّيْفِ، وَأَنْ لاَ يَغِيبَ عَنْهُ، وَلاَ يَنْهَرَ خَادِمَهُ بِحَضْرَتِهِ، وَأَنْ يَخْدُمَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَلاَّ يُجْلِسَهُ مَعَ مَنْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ أَوْ لاَ يَلِيقُ لَهُ الْجُلُوسُ مَعَهُ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ وَأَنْ
__________
(1) عمدة القاري 22 / 111، 173، 13 / 8، وفتح الباري 5 / 108، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 401، والمنتقى للباجي 7 / 242، 243، نهاية المحتاج 6 / 376، الإنافة في الصدقة والضيافة لابن حجر الهيثمي ص 87، المغني 8 / 603 (ط. الرياض) ، أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 783 وما بعدها.
(2) حديث: " أنا وأتقياء أمتي. . . . ". أورده الشوكاني في الفوائد المجموعة ص 86، وقال: قال النووي: ليس بثابت، وقال في المقاصد: روى معناه بسند ضعيف.(28/317)
يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى بَابِ الدَّارِ تَتْمِيمًا لإِِكْرَامِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ بِرِكَابِ ضَيْفِهِ إِذَا أَرَادَ الرُّكُوبَ.
آدَابُ الضَّيْفِ:
7 - مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ يُجْلَسُ، وَأَنْ يَرْضَى بِمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ، وَأَلاَّ يَقُومَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لِلْمُضِيفِ بِدُعَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُول: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَل طَعَامَكُمُ الأَْبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ (1) .
مَقَامُ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمُضِيفِ:
8 - مَنْ نَزَل ضَيْفًا فَلاَ يَزِيدُ مُقَامَهُ عِنْدَ الْمُضِيفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَصَدَقَةٌ (2) لِئَلاَّ يَتَبَرَّمَ بِهِ وَيَضْطَرَّ لإِِخْرَاجِهِ، إِلاَّ إِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَنْزِل بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ فَلَهُ الْمُقَامُ.
أَكْل طَعَامِ الضِّيَافَةِ:
9 - يَأْكُل الْمُضِيفُ مِمَّا قُدِّمَ لَهُ بِلاَ لَفْظٍ اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُضِيفُ يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ مِنَ
__________
(1) حديث: " أفطر عندكم الصائمون. . . ". أخرجه أبو داود 4 / 189 من حديث أنس، وصححه ابن حجر كما في الفتوحات لابن علان 4 / 343.
(2) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام. . . ". أخرجه البخاري 10 / 531، ومسلم 3 / 1353 من حديث أبي شريح.(28/318)
الضُّيُوفِ، فَلاَ يَجُوزُ حِينَئِذٍ الأَْكْل إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ، وَلاَ يَأْكُل مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا الْمُضِيفِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ بِهِ إِلاَّ بِأَكْلٍ، لأَِنَّهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهِ، فَلاَ يُطْعِمُ سَائِلاً، وَلاَ هِرَّةً، وَلَهُ أَخْذُ مَا يَعْلَمُ رِضَاهُ، لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى طِيبِ نَفْسِ الْمَالِكِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ حَل.
وَتَخْتَلِفُ قَرَائِنُ الرِّضَى فِي ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْوَال، وَمَقَادِيرِهَا (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الضَّيْفَ لاَ يَضْمَنُ مَا قُدِّمَ لَهُ مِنْ طَعَامٍ إِنْ تَلِفَ بِلاَ تَعَدٍّ مِنْهُ، كَمَا لاَ يَضْمَنُ إِنَاءَهُ وَحَصِيرًا يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ، سَوَاءٌ قَبْل الأَْكْل، أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ دَفْعُ هِرَّةٍ عَنْهُ، وَيَضْمَنُ إِنَاءً حَمَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ:
10 - يَجُوزُ بَل يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَشْتَرِطَ الإِْمَامُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ زَائِدًا عَلَى أَقَل الْجِزْيَةِ إِذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ، وَيَجْعَل الضِّيَافَةَ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ، لاَ الْفَقِيرِ، وَيَذْكُرُ وُجُوبًا فِي الْعَقْدِ: عَدَدَ الضِّيفَانِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 344، إحياء علوم الدين 2 / 12 وما بعده، حاشية البجيرمي 3 / 393، نهاية المحتاج 6 / 376، القليوبي 3 / 298، كشاف القناع 5 / 180، مواهب الجليل 4 / 5.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 393 - 394.(28/318)
وَعَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ، وَقَدْرَ الإِْقَامَةِ فِيهِمْ، وَجِنْسَ الطَّعَامِ، وَالأُْدْمِ، وَقَدْرَهُمَا، وَعَلَفَ الدَّوَابِّ إِنْ كَانُوا فُرْسَانًا، وَمَنْزِل الضُّيُوفِ مِنْ كَنِيسِهِ، وَفَاضِل مَسْكَنٍ، وَلاَ يَزِيدُ مُقَامُهُمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْل أَيْلَةَ عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَعَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا عَلَيْهِمْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ (2) .
__________
(1) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صالح أهل أيلة. . . ". أخرجه البيهقي 9 / 195 من حديث ابن الحويرث مرسلاً.
(2) جواهر الإكليل 1 / 267، البجيرمي 4 / 236، نهاية المحتاج 8 / 94 - 95، القليوبي 4 / 233، المغني 8 / 505.(28/319)
طَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ، يُقَال: أَطَاعَهُ إِطَاعَةً أَيْ: انْقَادَ لَهُ، وَالاِسْمُ طَاعَةٌ، وَأَنَا طَوْعُ يَدِكَ: أَيْ مُنْقَادٌ لَكَ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: قَالُوا: وَلاَ تَكُونُ الطَّاعَةُ إِلاَّ عَنْ أَمْرٍ، كَمَا أَنَّ الْجَوَابَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ قَوْلٍ، يُقَال: أَمَرَهُ فَأَطَاعَ.
وَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ: رَخَّصَتْ وَسَهَّلَتْ (1) .
وَاتَّفَقَتْ تَعَارِيفُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ.
فَعَرَّفَ الْجُرْجَانِيِّ وَالْكَفَوِيُّ وَصَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ الطَّاعَةَ بِأَنَّهَا: مُوَافَقَةُ الأَْمْرِ طَوْعًا.
قَال الْكَفَوِيُّ: هِيَ فِعْل الْمَأْمُورَاتِ وَلَوْ نَدْبًا، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ كَرَاهَةً (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، مادة: (طوع) .
(2) التعريفات للجرجاني ص 182، والكليات 3 / 155، 156، ودستور العلماء 2 / 271.(28/319)
وَقَال الشَّرْقَاوِيُّ: الطَّاعَةُ امْتِثَال الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الطَّاعَةُ هِيَ الإِْتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالاِنْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْعِصْيَانُ بِخِلاَفِهِ
(2) وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ تَعْرِيفَ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ زَكَرِيَّا لِلطَّاعَةِ، وَهُوَ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لاَ عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ أَوْ لاَ.
قَال: وَقَوَاعِدُ مَذْهَبِنَا لاَ تَأْبَاهُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِبَادَةُ:
2 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ وَالطَّاعَةُ: قَال الزَّجَّاجُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (4) : أَيْ نُطِيعُ الطَّاعَةَ الَّتِي يُخْضَعُ مَعَهَا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، وَمِنْهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلاً.
قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ: فُلاَنٌ عَابِدٌ وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لأَِمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (5) أَيْ: أَطِيعُوا رَبَّكُمْ.
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 1 / 158 (ط. عيسى الحلبي) .
(2) فتح الباري 13 / 12.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 71.
(4) سورة الفاتحة / 4.
(5) سورة البقرة / 21.(28/320)
وَتَعَبَّدَ الرَّجُل: تَنَسَّكَ (1) .
وَالْعِبَادَةُ اصْطِلاَحًا، قَال صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: هِيَ فِعْل الْمُكَلَّفِ عَلَى خِلاَفِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ زَكَرِيَّا: الْعِبَادَةُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ (3) .
فَالطَّاعَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ.
ب - الْقُرْبَةُ:
3 - عَرَّفَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ الْقُرْبَةَ بِأَنَّهَا: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةٍ غَالِبًا قَال: وَقَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ بِالذَّاتِ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ زَكَرِيَّا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ: الْقُرْبَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ، وَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ، وَالطَّاعَةُ: فِعْل مَا يُثَابُ عَلَيْهِ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لاَ، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ أَوْ لاَ، فَنَحْوُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (عبد) .
(2) التعريفات للجرجاني ص 189.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(4) الكليات 4 / 41.(28/320)
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، مِنْ كُل مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْوَقْفُ وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ، قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لاَ عِبَادَةٌ. وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ لاَ قُرْبَةٌ وَلاَ عِبَادَةٌ (1) .
فَالطَّاعَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْقُرْبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَادَةِ.
ج - الْمَعْصِيَةُ:
4 - الْمَعْصِيَةُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الطَّاعَةِ، يُقَال عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ: إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلاَنٌ أَمِيرَهُ يَعْصِيهِ عَصِيًّا وَعِصْيَانًا وَمَعْصِيَةً: إِذَا لَمْ يُطِعْهُ (2) .
وَالْمَعْصِيَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ مُخَالَفَةُ الأَْمْرِ قَصْدًا (3) فَالْمَعْصِيَةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّاعَةِ:
أ - طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل:
5 - طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فَرْضٌ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ. قَال تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(2) لسان العرب، مادة: (عصا) .
(3) التعريفات للجرجاني 283.
(4) سورة محمد / 33.(28/321)
وَمِنْ حَقِّ الْبَارِي - جَل ثَنَاؤُهُ - عَلَى مَنْ أَبْدَعَهُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ نَافِذًا، وَطَاعَتُهُ لَهُ لاَزِمَةً.
قَال الطَّبَرِيُّ فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) : يَعْنِي وَمَا أُمِرَ هَؤُلاَءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى - الَّذِينَ اتَّخَذُوا الأَْحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ أَرْبَابًا - إِلاَّ أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودًا وَاحِدًا، وَأَنْ لاَ يُطِيعُوا إِلاَّ رَبًّا وَاحِدًا، دُونَ أَرْبَابٍ شَتَّى، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُل شَيْءٍ وَطَاعَةُ كُل خَلْقٍ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الدَّيْنُونَةَ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: وَلاَ تَنْبَغِي الأُْلُوهِيَّةُ إِلاَّ لِوَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ الْخَلْقَ بِعِبَادَتِهِ وَلَزِمَتْ جَمِيعَ الْعِبَادِ طَاعَتُهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الأَْحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَال: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ،
__________
(1) سورة التوبة / 31.(28/321)
وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ (1) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَأْمُرُوهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُمْ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَرْبَابًا، وَقَال الْحَسَنُ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا فِي الطَّاعَةِ (2) .
ب - طَاعَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
6 - إِذَا وَجَبَ الإِْيمَانُ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى بِهِ، وَقَدْ تَضَافَرَتِ الأَْدِلَّةُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (3) وَقَال تَعَالَى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وَقَال تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (5) .
وَقَال تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) فَجَعَل اللَّهُ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ، وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ.
__________
(1) حديث عدي بن حاتم " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في سورة براءة ". أخرجه الترمذي 5 / 278، وقال: هذا حديث غريب، وغطيف بن أعين - يعني أحد رواته - ليس بمعروف في الحديث.
(2) تفسير الطبري 10 / 80 وما بعدها (ط الأميرية 1327 هـ) ، تفسير القرطبي 5 / 259 (ط دار الكتب المصرية 1958 م) . المنهاج في شعب الإيمان 1 / 192 (ط. دار الفكر 1979 م) .
(3) سورة الأنفال / 20.
(4) سورة آل عمران / 132.
(5) سورة النور / 54.
(6) سورة النساء / 80.(28/322)
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَال الْمُفَسِّرُونَ وَالأَْئِمَّةُ: طَاعَةُ الرَّسُول الْتِزَامُ سُنَّتِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا أَرْسَل اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} (1) فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لاَ يَنْفَعُهُمُ التَّمَنِّي.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَل مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، كَمَثَل رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَال: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ (4) فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ
__________
(1) سورة الأحزاب / 66.
(2) حديث أبي هريرة: " من أطاعني فقد أطاع الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 111) ، ومسلم 3 / 1466.
(3) حديث: " إذا نهيتكم عن شيء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ، ومسلم 4 / 1831 من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(4) النذير العريان: ضرب به المثل في تحقق الخبر، قال ابن حجر: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلاً بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على القطع بصدقه، تقريبًا للإهام المخاطبين بما يألفون ويعرفونه. (فتح الباري 11 / 316 - 317) .(28/322)
فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَل مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَل مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ (1) .
قَال الْجَصَّاصُ: فِي قَوْله تَعَالَى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) . دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُول وَالاِمْتِنَاعِ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ (3) .
__________
(1) حديث: " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 250) من حديث أبي موسى.
(2) سورة النساء / 65.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 260 (ط المطبعة البهية 1347 هـ) ، تفسير الرازي 8 / 20 (ط. المطبعة البهية 1938 م) ، تفسير القرطبي 5 / 259 (ط دار الكتب المصرية) ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 542 وما بعدها (ط دار الكتاب العربي 1984 م) .(28/323)
ج - طَاعَةُ أُولِي الأَْمْرِ:
7 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ أُولِي الأَْمْرِ مِنَ الأُْمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَقَدْ نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ هَذَا الإِْجْمَاعَ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (1) وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأُولِي الأَْمْرِ فِي الآْيَةِ: الأُْمَرَاءُ وَأَهْل السُّلْطَةِ وَالْحُكْمِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِأُولِي الأَْمْرِ فِي الآْيَةِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، قَال الطَّبَرِيُّ: وَأَوْلَى الأَْقْوَال فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْل مَنْ قَال: هُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْوُلاَةُ، لِصِحَّةِ الأَْخْبَارِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ بِطَاعَةِ الأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ فِيمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةً، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلاَةٌ، فَيَلِيكُمُ الْبَرُّ بِبِرِّهِ وَالْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُل مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ (2) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا
__________
(1) سورة النساء / 59.
(2) حديث أبي هريرة: " سيليكم بعدي ولاة. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5 / 218، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، وهو ضعيف جدًّا.(28/323)
أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً (2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ (3) قَال النَّوَوِيُّ قَال الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ تَجِبُ طَاعَةُ وُلاَةِ الأُْمُورِ فِيمَا يَشُقُّ وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَغَيْرُهُ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ.
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ فِي الْحَثِّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال وَسَبَبُهَا اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْخِلاَفَ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قَامَ الإِْمَامُ بِحُقُوقِ الأُْمَّةِ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ:
__________
(1) حديث: " السمع والطاعة على المرء المسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 121 - 122) من حديث ابن عمر.
(2) حديث ابن عباس: " من رأى من أميره شيئًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 121) ، ومسلم (3 / 1477) .
(3) حديث أبي هريرة: " عليك السمع والطاعة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1467) .(28/324)
الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ (1) .
طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ:
8 - طَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَاجِبَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (2) حَيْثُ ذَهَبَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي رِوَايَةٍ - وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأُولِي الأَْمْرِ فِي الآْيَةِ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ، وَبِهِ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ قَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَسْلَمَةَ: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُول: هُمُ الْعُلَمَاءُ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: طَاعَةُ الْفُقَهَاءِ أَفْرَضُ عَلَى النَّاسِ مِنْ طَاعَةِ الأُْمَّهَاتِ وَالآْبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (3) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
__________
(1) تفسير الطبري 5 / 93 وما بعدها ط الأميرية 1325 هـ، تفسير القرطبي 5 / 259 (ط دار الكتب المصرية 1958 م) ، صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 222، وما بعدها (ط. المطبعة المصرية) ، الأحكام السلطانية للماوردي ص 17 (ط مصطفى الحلبي 1960) ، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 28 (ط دار الكتب العلمية 1983 م) .
(2) سورة النساء / 59.
(3) سورة النساء / 59.(28/324)
وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَدُل هَذَا عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ سُؤَال الْعُلَمَاءِ وَاجِبًا، وَامْتِثَال فَتْوَاهُمْ لاَزِمًا (1) .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِأُولِي الأَْمْرِ هُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا، وَبِهِ أَخَذَ الْجَصَّاصُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ قَال الْجَصَّاصُ: وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِطَاعَةِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ وَهُمْ أُمَرَاءُ السَّرَايَا وَالْعُلَمَاءُ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا، أَمَّا الأُْمَرَاءُ فَلأَِنَّ أَصْل الأَْمْرِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلأَِنَّ سُؤَالَهُمْ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْخَلْقِ، وَجَوَابُهُمْ لاَزِمٌ، وَامْتِثَال فَتْوَاهُمْ وَاجِبٌ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُل أُولِي الأَْمْرِ مِنَ الأُْمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ (2) وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ بِأُولِي الأَْمْرِ مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ مِنَ الْوُلاَةِ وَالأُْمَرَاءِ، هَذَا قَوْل جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 260.
(2) تفسير الطبري 5 / 93 وما بعدها (ط الأميرية 1325 هـ) تفسير القرطبي 5 / 259 (ط دار الكتب المصرية 1958) ، أحكام القرآن للجصاص 2 / 256 (ط المطبعة البهية 1347 هـ) ، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 452 (ط عيسى الحلبي 1957 م) ، تفسير ابن كثير 1 / 518 (ط عيسى الحلبي) ، أعلام الموقعين 1 / 9 (ط مطبعة السعادة 1955 م) ، الحسبة في الإسلام لابن تيمية 103، 104 (ط. المكتبة العلمية) .(28/325)
وَغَيْرِهِمْ، وَقِيل: هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَقِيل: الْعُلَمَاءُ وَالأُْمَرَاءُ (1) .
هـ - طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ:
9 - طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِمَا فَرْضٌ عَلَى الْوَلَدِ، قَال تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَل بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وَقَال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ( x663 ;) . وَقَال الْجَصَّاصُ (4) : وَقَضَى رَبُّكَ مَعْنَاهُ:
أَمَرَ رَبُّكَ، وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَقِيل مَعْنَاهُ: وَأَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أَمْرٌ، وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَقَال {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (5)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 223 (ط المطبعة المصرية) .
(2) سورة الإسراء / 23، 24.
(3) القرطبي 10 / 238، والآية / 14 من سورة لقمان.
(4) أحكام القرآن للجصاص 3 / 242.
(5) سورة الأحقاف / 15.(28/325)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَضَى هَاهُنَا إِلاَّ أَمَرَ (1) .
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (2) .
وَقَال هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ} : لاَ تَمْنَعْهُمَا شَيْئًا يُرِيدَانِهِ (3) .
وَحَقُّ الطَّاعَةِ لِلْوَالِدَيْنِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، بَل هُوَ مَكْفُولٌ - أَيْضًا - لِلْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ، قَال الْجَصَّاصُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (4) . أَمَرَ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِي الشِّرْكِ، لأَِنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (5) وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1185.
(2) حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 405) .
(3) تفسير الطبري 15 / 46.
(4) سورة لقمان / 14، 15.
(5) أحكام القرآن للجصاص 3 / 242.(28/326)
تُطِعْهُمَا} (1) اقْتَضَتِ الآْيَةُ الْوَصِيَّةَ بِالْوَالِدَيْنِ وَالأَْمْرَ بِطَاعَتِهِمَا وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، إِلاَّ إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ فَتَجِبُ مَعْصِيَتُهُمَا فِي ذَلِكَ (2) .
و طَاعَةُ الزَّوْجِ:
10 - طَاعَةُ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قِيَامُ الرِّجَال عَلَى النِّسَاءِ هُوَ أَنْ يَقُومَ بِتَدْبِيرِهَا وَتَأْدِيبِهَا، وَإِمْسَاكِهَا فِي بَيْتِهَا وَمَنْعِهَا مِنَ الْبُرُوزِ (أَيِ الْخُرُوجِ) ، وَأَنَّ عَلَيْهَا طَاعَتَهُ وَقَبُول أَمْرِهِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً (4) .
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً انْطَلَقَ غَازِيًا وَأَوْصَى امْرَأَتَهُ: أَنْ لاَ تَنْزِل مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ، وَكَانَ وَالِدُهَا فِي أَسْفَل الْبَيْتِ، فَاشْتَكَى أَبُوهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُهُ وَتَسْتَأْمِرُهُ فَأَرْسَل إِلَيْهَا: اتَّقِي اللَّهَ وَأَطِيعِي زَوْجَكِ ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهَا تُوُفِّيَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَأْمِرُهُ، فَأَرْسَل إِلَيْهَا مِثْل ذَلِكَ، وَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَل إِلَيْهَا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكِ بِطَوَاعِيَتِكِ لِزَوْجِكِ (5) .
__________
(1) سورة العنكبوت / 8.
(2) فتح الباري 10 / 401.
(3) سورة النساء / 34.
(4) تفسير القرطبي 5 / 169 (ط دار الكتب المصرية 1937 م) .
(5) حديث أنس: " أن رجلاً انطلق غازيًا. . . ". أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص 176.(28/326)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: طَاعَةُ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ: قَال أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا (1) .
حُدُودُ الطَّاعَةِ:
11 - طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهَا حُدُودٌ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ طَاعَتُهُمَا مُطْلَقًا فِي كُل مَا أَمَرَا بِهِ وَنَهَيَا عَنْهُ (2) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِقَيْدٍ فَقَال تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} (3) وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: بَايَعْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ (4) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5) .
أَمَّا طَاعَةُ الْمَخْلُوقِينَ - مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ -
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 20.
(2) تفسير الطبري 5 / 147 (ط مصطفى الحلبي 1954) ، فتح الباري 13 / 111.
(3) سورة محمد / 33.
(4) حديث عبادة بن الصامت: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. . . ". أخرجه مسلم 3 / 1470.
(5) حديث: " إذا نهيتكم عن شيء. . . " تقدم ف 6.(28/327)
كَالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَوُلاَةِ الأَْمْرِ، فَإِنَّ وُجُوبَ طَاعَتِهِمْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِذْ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (1) .
قَال تَعَالَى فِي الْوَالِدَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (2) .
وَفِي طَاعَةِ الزَّوْجِ رَوَتْ صَفِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعْرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِل فِي شَعْرِهَا فَقَال: لاَ، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاَتُ (3) قَال ابْنُ حَجَرٍ: لَوْ دَعَاهَا الزَّوْجُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ، فَإِنْ أَدَّبَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الإِْثْمُ عَلَيْهِ (4) .
وَفِي طَاعَةِ وُلاَةِ الأَْمْرِ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ (5) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 242.
(2) سورة لقمان / 15، وانظر فتح الباري 10 / 401.
(3) حديث عائشة: " إن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 304) .
(4) فتح الباري 9 / 304.
(5) حديث ابن عمر: " السمع والطاعة. . . " تقدم ف 7، وانظر فتح الباري 13 / 121.(28/327)
الْخُرُوجُ عَلَى الطَّاعَةِ:
12 - سَبَقَ أَنَّ حُكْمَ الطَّاعَةِ هُوَ الْوُجُوبُ بِمُخْتَلَفِ أَحْوَالِهَا، وَمِنْ ثَمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى الطَّاعَةِ الإِْثْمُ وَالْمَعْصِيَةُ وَالْعِقَابُ قَال تَعَالَى مُحَذِّرًا عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الآْيَةِ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَوَجْهُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَيَجِبُ امْتِثَال أَمْرِهِ (2) .
وَفِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِْثْمُ وَالْعِقَابُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَال: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَل الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى (3) .
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول
__________
(1) سورة النور / 63.
(2) تفسير القرطبي 12 / 322 (ط دار الكتب المصرية 1964 م) .
(3) حديث أبي هريرة: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 249) .(28/328)
اللَّهِ. قَال. ثَلاَثٌ: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَال يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ف 15) .
وَفِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ الزَّوْجِ وَالْخُرُوجِ عَلَى طَاعَتِهِ الإِْثْمُ الْعَظِيمُ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ يَقْبَل اللَّهُ لَهُمْ صَلاَةً، وَلاَ تُرْفَعُ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ حَسَنَةٌ: الْعَبْدُ الآْبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَوَالِيهِ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا حَتَّى يَرْضَى، وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ (3) .
وَفِي مُخَالَفَةِ الأَْمِيرِ وَالْخُرُوجِ عَلَى طَاعَتِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا السَّابِقُ، فِي طَاعَةِ أُولِي الأَْمْرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاة ف 4) .
__________
(1) حديث أبي بكرة: " ألا أنبئكم. . . . " تقدم ف 9.
(2) حديث: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه. . . ". أخرجه النسائي 5 / 80 - 81 من حديث ابن عمر، وإسناده صحيح.
(3) حديث جابر: " ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة. . . ". أخرجه ابن عدي في الكامل 3 / 1074، واستنكر الذهبي هذا الحديث كما في فيض القدير للمناوي 3 / 329.(28/328)
طَاعُونٌ
التَّعْرِيفُ
1 - قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الطَّاعُونُ لُغَةً: الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ فَتَفْسُدُ لَهُ الأَْمْزِجَةُ وَالأَْبْدَانُ (1) .
وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الطَّاعُونُ دَاءٌ وَرَمِيٌّ وَبَائِيٌّ سَبَبُهُ مَكْرُوبٌ يُصِيبُ الْفِئْرَانَ، وَتَنْقُلُهُ الْبَرَاغِيثُ إِلَى فِئْرَانٍ أُخْرَى وَإِلَى الإِْنْسَانِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال النَّوَوِيُّ: الطَّاعُونُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَسَدِ فَتَكُونُ فِي الآْبَاطِ أَوِ الْمَرَافِقِ أَوِ الأَْيْدِي أَوِ الأَْصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَكُونُ مَعَهُ وَرَمٌ وَأَلَمٌ شَدِيدٌ، وَتَخْرُجُ تِلْكَ الْقُرُوحُ مَعَ لَهِيبٍ وَيَسْوَدُّ مَا حَوَالَيْهِ أَوْ يَخْضَرُّ أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً وَيَحْصُل مَعَهُ خَفَقَانُ الْقَلْبِ وَالْقَيْءُ (3) ، وَفِي أَثَرٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَال: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ يَخْرُجُ فِي الْمُرَاقِ وَالإِْبِطِ (4) .
__________
(1) لسان العرب. مادة (طعن) .
(2) المعجم الوسيط.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (14 / 204) ، وانظر عمدة القاري (21 / 256) ، والمنتقى (7 / 198) ، وفتح الباري (10 / 180) .
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد (4 / 38) (بتحقيق الأرناؤوط) . وحديث عائشة: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: " الطعن قد عرفناه فما الطاعون ". أخرجه أحمد (6 / 145) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 314) ، وقال: رجال أحمد ثقات.(28/329)
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ - بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ (1) - هَذِهِ الْقُرُوحُ وَالأَْوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ، هِيَ آثَارُ الطَّاعُونِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَهُ وَلَكِنِ الأَْطِبَّاءُ لَمَّا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إِلاَّ الأَْثَرَ الظَّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطَّاعُونِ.
وَالطَّاعُونُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: هَذَا الأَْثَرُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الأَْطِبَّاءُ.
وَالثَّانِي: الْمَوْتُ الْحَادِثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ (2) .
وَالثَّالِثُ: السَّبَبُ الْفَاعِل لِهَذَا الدَّاءِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أُرْسِل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل (3) . وَوَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ (4) وَجَاءَ أَنَّهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ (5) .
__________
(1) يرى ابن القيم أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا؛ فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون؛ فإنه واحد منها. (زاد المعاد 4 / 38) .
(2) حديث: " الطاعون شهادة لكل مسلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 180) ، ومسلم (3 / 1522) من حديث أنس.
(3) حديث: " أنه رجز أرسل على بني إسرائيل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 513) ، ومسلم (4 / 1737) من حديث أسامة بن زيد.
(4) حديث: " أنه وخز أعدائكم من الجن ". أخرجه أحمد (4 / 395) ، والحاكم (1 / 50) ، من حديث أبي موسى الأشعري وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(5) خبر: " أن الطاعون دعوة نبي " ورد من حديث أبي منيب الأحدب قال: " خطب معاذ بالشام فذكر الطاعون، فقال: إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم ". أخرجه أحمد (5 / 240) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 311) ، وعزاه لأحمد وغيره ثم قال: رجال أحمد ثقات وسنده متصل.(28/329)
الْقُنُوتُ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ اسْتِحْبَابَ الْقُنُوتِ فِي الصَّلاَةِ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَشَدِّ النَّوَازِل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ لِرَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَقْنُتُوا لَهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ الصَّلاَةِ لِدَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لأَِنَّهُ عُقُوبَةٌ مِنْ أَجْل الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً لِغَيْرِهِمْ (3) .
وَفِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُقْنَتُ فِيهَا لِلنَّوَازِل وَفِي الإِْسْرَارِ أَوِ الْجَهْرِ بِهِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قُنُوت) .
الْقُدُومُ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَنْعَ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَمَنْعَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِهِ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 451 وتحفة المحتاج 2 / 68، ونهاية المحتاج 1 / 487 (نشر المكتبة الإسلامية) .
(2) كشاف القناع 1 / 421، ونهاية المحتاج 1 / 487.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 308 (نشر دار الفكر) .(28/330)
بِهِ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَفِرُّوا مِنْهُ (1) .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَل سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَال أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْهُ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا (2) .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَال: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الإِْبِل، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ (3) .
4 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَفِي الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُول إِلَى الأَْرْضِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ عِدَّةُ حِكَمٍ:
إِحْدَاهَا: تَجَنُّبُ الأَْسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْبُعْدُ مِنْهَا.
__________
(1) حديث: " الطاعون آية الرجز. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 179) ، ومسلم (4 / 1738) من حديث أسامة بن زيد واللفظ لمسلم.
(2) حديث أسامة بن زيد: " هو عذاب أو رجز. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 513) ، ومسلم (4 / 1738) ، واللفظ لمسلم.
(3) حديث عائشة: " قلت: يا رسول الله، فما الطاعون. . . " أخرجه أحمد (6 / 145) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 314) ، وقال: رجال أحمد ثقات.(28/330)
الثَّانِيَةُ: الأَْخْذُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لاَ يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الَّذِي قَدْ عَفَنَ وَفَسَدَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ لاَ يُجَاوِرُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُل لَهُمْ بِمُجَاوِرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ.
الْخَامِسَةُ: حَمَايَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعَدْوَى؛ فَإِنَّهَا تَتَأَثَّرُ بِهِمَا، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ بِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُول فِي أَرْضِهِ الأَْمْرُ بِالْحَذَرِ وَالْحَمِيَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لأَِسْبَابِ التَّلَفِ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ الأَْمْرُ بِالتَّوَكُّل وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، فَالأَْوَّل: تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالثَّانِي تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَبُو عَبِيدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَقَال لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ، قَال: فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَال لَهُ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأَِمْرٍ، فَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَال آخَرُونَ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ،(28/331)
فَقَال عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَال: ادْعُ لِيَ الأَْنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيل الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَال: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَال: ادْعُ لِي مَنْ هَاهذُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلاَنِ، قَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقَدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَأَذَّنَ عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَال: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهَا خِصْبَةٌ، وَالأُْخْرَى جَدْبَةٌ أَلَسْتَ إِنْ رَعَيْتَهَا الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ رَعَيْتَهَا الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَال: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَقَال: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ (1) .
5 - وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ
__________
(1) زاد المعاد (4 / 44 - 45) . وحديث: " أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 179) ، ومسلم (4 / 1740) .(28/331)
الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ حِكَمًا: مِنْهَا: أَنَّ الطَّاعُونَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَامًّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ فَإِذَا وَقَعَ فَالظَّاهِرُ مُدَاخَلَةُ سَبَبِهِ لِمَنْ بِهَا، فَلاَ يُفِيدُهُ الْفِرَارُ، لأَِنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ - حَتَّى لاَ يَقَعَ الاِنْفِكَاكُ عَنْهَا - كَانَ الْفِرَارُ عَبَثًا فَلاَ يَلِيقُ بِالْعَاقِل.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَوَارَدُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَصَارَ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ - بِالْمَرَضِ الْمَذْكُورِ أَوْ بِغَيْرِهِ - ضَائِعَ الْمَصْلَحَةِ لِفَقْدِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَأَيْضًا فَلَوْ شُرِعَ الْخُرُوجُ فَخَرَجَ الأَْقْوِيَاءُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ كَسْرُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ حِكْمَةَ الْوَعِيدِ فِي الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ مَنْ لَمْ يَفِرَّ وَإِدْخَال الرُّعْبِ عَلَيْهِ بِخِذْلاَنِهِ (1) .
وَمِنْهَا: حَمْل النُّفُوسِ عَلَى الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَالرِّضَا بِهَا (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ) وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا، قَال الْقَاضِي: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغَ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالأَْسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ أَنَّهُمْ فَرُّوا
__________
(1) فتح الباري (10 / 189) .
(2) زاد المعاد (4 / 43) .(28/332)
مِنَ الطَّاعُونِ، وَقَال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالأَْوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَال فَقَال مُعَاذٌ: بَل هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَيَتَأَوَّل هَؤُلاَءِ النَّهْيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُول عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ، لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ، لِئَلاَّ يَظُنُّوا أَنَّ هَلاَكَ الْقَادِمِ إِنَّمَا حَصَل بِقُدُومِهِ، وَسَلاَمَةُ الْفَارِّ إِنَّمَا كَانَتْ بِفِرَارِهِ، وَقَالُوا: وَهُوَ مِنْ نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَجْذُومِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ، أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُول: فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُول: أَقَمْتُ فَمُتُّ، وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ لِظَاهِرِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ (1) . قَال الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا (2) .
هَذَا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِشُغْلٍ وَغَرَضٍ غَيْرِ الْفِرَارِ، وَدَلِيلُهُ صَرِيحُ الأَْحَادِيثِ (3) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (14 / 205 - 207) .
(2) حديث: " لا تتمنوا لقاء العدو. . . " أخرجه البخاري (6 / 156) ، ومسلم (3 / 1362) ، واللفظ لمسلم.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (14 / 207) ، وعمدة القاري (21 / 259) .(28/332)
أَجْرُ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ:
6 - جَاءَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رَفْعَهُ يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفُّونَ بِالطَّاعُونِ، فَيَقُول أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ الشُّهَدَاءُ، فَيُقَال: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيل دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ (1) .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِ الشَّهِيدِ (2) . وَيُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُصُول أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَلِي:
أ - أَنْ يَمْكُثَ صَابِرًا غَيْرَ مُنْزَعِجٍ بِالْمَكَانِ
__________
(1) حديث عتبة بن عبد السلمي: " يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون. . . " أخرجه أحمد (4 / 185) ، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (10 / 194) .
(2) حديث عائشة: " أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون. . . ". أخرجه البخاري (10 / 192) .(28/333)
الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّاعُونُ فَلاَ يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ.
ب - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.
فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِقٌ أَوْ نَادِمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلاً وَرَأْسًا، وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَعُ بِهِ، فَهَذَا لاَ يَحْصُل لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُل لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِي الآْخِرَةِ ثَوَابُ الشَّهِيدِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ (2) .
قَال الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعِ الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِل فِي سَبِيل اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ، لاَ فِي جُمْلَةِ الأَْحْكَامِ وَالْفَضَائِل (3) .
__________
(1) فتح الباري (10 / 193 - 194) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (13 / 63) .
(3) عمدة القاري (21 / 261) .(28/333)
طَالِبُ الْعِلْمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّالِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الطَّلَبِ، وَالطَّلَبُ لُغَةً: مُحَاوَلَةُ وُجْدَانِ الشَّيْءِ وَأَخْذِهِ (1) .
وَالْعِلْمُ لُغَةً: نَقِيضُ الْجَهْل، وَالْمَعْرِفَةُ، وَالْيَقِينُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ.
وَقَال صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: هُوَ الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.
وَقَال الْحُكَمَاءُ: هُوَ حُصُول صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْل (2) .
فَضْل طَالِبِ الْعِلْمِ:
2 - لِطَالِبِ الْعِلْمِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَمِيزَةٌ خَاصَّةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْخَلاَئِقِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْدِلَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ بِذَلِكَ.
فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) لسان العرب، مادة (طلب) ، والكليات 3 / 153.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، مادة (علم) ، والتعريفات 199، والكليات 3 / 207.(28/334)
قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْل الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْل الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ أَوْ عَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا (2) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ (3) .
__________
(1) حديث أبي الدرداء: " من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 48 - 49) ، وقال: ليس هو عندي بمتصل. وأخرجه مسلم (4 / 2074) ، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة ".
(2) حديث أبي هريرة: " الدنيا ملعونة ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1377) ، والترمذي (4 / 561) ، وحسنه.
(3) المجموع 1 / 81 (ط. المكتبة السلفية المدينة المنورة) ، إحياء علوم الدين 1 / 11، 15، (ط. مصطفى الحلبي 1939) ، جامع بيان العلم وفضله 1 / 55 (ط. المنيرية) ، الآداب الشرعية 2 / 39 (ط. مكتبة الرياض) . وحديث أنس بن مالك: " من خرج في طلب العلم ". أخرجه الترمذي (5 / 29) ، وأعله المناوي براو متكلم فيه، كما في فيض القدير (6 / 124) .(28/334)
آدَابُ طَالِبِ الْعِلْمِ:
3 - لِطَالِبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي: - أ - يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الأَْدْنَاسِ، لِيَصْلُحَ لِقَبُول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (1) .
ب - يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَقْطَعَ الْعَلاَئِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَال الاِجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيل وَيَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ، وَيَصْبِرَ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْعِلْمِ وَالْمُعَلِّمِ، فَبِتَوَاضُعِهِ يَنَال الْعِلْمَ، قَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَطْلُبُ أَحَدٌ هَذَا الْعِلْمَ بِالْمُلْكِ وَعِزِّ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ، وَلَكِنْ مَنْ طَلَبَهُ بِذُل النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعُلَمَاءِ أَفْلَحَ.
ج - أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ وَيُشَاوِرَهُ فِي أُمُورِهِ وَيَأْتَمِرَ بِأَمْرِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِمُعَلِّمِهِ بِعَيْنِ الاِحْتِرَامِ، وَيَعْتَقِدَ كَمَال أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهِ عَلَى
__________
(1) حديث: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت. . . ". أخرجه البخاري (1 / 126) ، ومسلم (3 / 1220) ، من حديث النعمان بن بشير.(28/335)
أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.
د - أَنْ يَتَحَرَّى رِضَا الْمُعَلِّمِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ نَفْسِهِ، وَلاَ يَغْتَابَ عِنْدَهُ، وَلاَ يُفْشِيَ لَهُ سِرًّا، وَأَنْ يَرُدَّ غَيْبَتَهُ إِذَا سَمِعَهَا، فَإِنْ عَجَزَ فَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَأَلاَّ يَدْخُل عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَأَنْ يَدْخُل كَامِل الأَْهْلِيَّةِ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنَ الشَّوَاغِل مُتَطَهِّرًا مُتَنَظِّفًا، وَيُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ كُلِّهِمْ، يَخُصُّ الْمُعَلِّمَ بِزِيَادَةِ إِكْرَامٍ.
هـ - أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ إِذَا حَضَرَ إِلَى الدَّرْسِ، وَلاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ لَهُ الشَّيْخُ أَوِ الْحَاضِرُونَ بِالتَّقَدُّمِ، وَلاَ يَجْلِسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلاَ بَيْنَ صَاحِبَيْنِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى الْقُرْبِ مِنَ الشَّيْخِ لِيَفْهَمَ كَلاَمَهُ فَهْمًا كَامِلاً بِلاَ مَشَقَّةٍ.
و أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ رُفْقَتِهِ وَحَاضِرِي الدَّرْسِ، وَلاَ يَرْفَعَ صَوْتَهُ رَفْعًا بَلِيغًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلاَ يَضْحَكَ وَلاَ يُكْثِرَ الْكَلاَمَ بِلاَ حَاجَةٍ، وَلاَ يَعْبَثَ بِيَدِهِ وَلاَ غَيْرِهَا، وَلاَ يَلْتَفِتَ بِلاَ حَاجَةٍ، وَلاَ يَسْبِقَ الشَّيْخَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابِ سُؤَالٍ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ حَال الشَّيْخِ إِيثَارَ ذَلِكَ.
ز - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ(28/335)
مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، وَلاَ يُضَيِّعَ مِنْ أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلاَّ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً فَلاَ يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ الْكَثِيرِ، وَأَنْ لاَ يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ، وَلاَ يُؤَخِّرَ تَحْصِيل فَائِدَةٍ، لَكِنْ لاَ يُحَمِّل نَفْسَهُ مَا لاَ تُطِيقُ مَخَافَةَ الْمَلَل، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ.
ح - أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَصْحِيحِ دَرْسِهِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ يَحْفَظَ حِفْظًا مُحْكَمًا، وَيَبْدَأَ دَرْسَهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَشَايِخِهِ، وَيُدَاوِمَ عَلَى تَكْرَارِ مَحْفُوظَاتِهِ (1) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي (طَلَبُ الْعِلْمِ) .
اسْتِحْقَاقُ طَالِبِ الْعِلْمِ لِلزَّكَاةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، إِذْ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ إِعْطَاءَ الزَّكَاةِ لِلصَّحِيحِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُهُ التَّكَسُّبَ اخْتِيَارًا عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ طَالِبِ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 35 وما بعدها (ط. المكتبة السلفية المدينة المنورة) تذكرة السامع والمتكلم 67 وما بعدها (ط. جمعية دائرة المعارف العثمانية 1353 هـ) ، إحياء علوم الدين 1 / 55 (ط. مصطفى الحلبي 1939 م) .(28/336)
الْعِلْمِ الزَّكَاةَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لإِِفَادَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ، لِعَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ.
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمَبْسُوطِ قَوْلَهُ: لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا إِلاَّ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، وَالْغَازِي، وَمُنْقَطِعِ الْحَجِّ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالأَْوْجَهُ تَقْيِيدُهُ بِالْفَقِيرِ وَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ مُرَخِّصًا لِجَوَازِ سُؤَالِهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ إِذْ بِدُونِهِ لاَ يَحِل لَهُ السُّؤَال.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَحِل لِطَالِبِ الْعِلْمِ الزَّكَاةُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّكَسُّبِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْبَل عَلَى الْكَسْبِ لاَنْقَطَعَ عَنِ التَّحْصِيل.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ قَدَرَ عَلَى كَسْبٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِتَحْصِيل بَعْضِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْبَل عَلَى الْكَسْبِ لاَنْقَطَعَ مِنَ التَّحْصِيل حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ، لأَِنَّ تَحْصِيل الْعِلْمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّحْصِيل لاَ تَحِل لَهُ الزَّكَاةُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدْرَسَةِ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ تَفَرَّغَ قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ - وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّكَسُّبِ أُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ.
وَسُئِل ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ كُتُبًا يَشْتَغِل فِيهَا، فَقَال: يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنَ(28/336)
الزَّكَاةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الَّتِي لاَ بُدَّ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنْهَا.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَعَل ذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ الأَْصْنَافِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْتَاجُهُ طَالِبُ الْعِلْمِ فَهُوَ كَنَفَقَتِهِ.
وَخَصَّ الْفُقَهَاءُ جَوَازَ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَقَطْ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِجَوَازِ نَقْل الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ (1) .
وَأَمَّا حَقُّهُ فِي طَلَبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فَيُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .
طَاوُوسٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 58، 59، حاشية الدسوقي 1 / 494، المجموع 6 / 190، كشاف القناع 2 / 271، 273.(28/337)
طِبٌّ
انْظُرْ: تَطْبِيبٌ
طِحَالٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ، جِنَايَاتٌ(28/337)
طَرَّارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّرَّارُ فَعَّالٌ مِنْ طَرَّ، يُقَال: طَرَّ الثَّوْبَ يَطُرُّ طَرًّا أَيْ شَقَّهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ أَوِ الْجَيْبَ أَوِ الصُّرَّةَ وَيَقْطَعُهَا وَيَسُل مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ (2) .
قَال الْفَيُّومِيُّ: الطَّرَّارُ وَهُوَ الَّذِي يَقْطَعُ النَّفَقَاتِ وَيَأْخُذُهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْهِمْيَانُ كِيسٌ تُجْعَل فِيهِ النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ، وَمِثْلُهُ الصُّرَّةُ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الصُّرَّةُ هِيَ الْهِمْيَانُ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الْمَوْضِعُ الْمَشْدُودُ فِيهِ دَرَاهِمُ مِنَ الْكُمِّ (3) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّرَّارَ هُوَ: الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُل أَوْ كُمِّهِ أَوْ صَفَنِهِ (يَعْنِي الْخَرِيطَةَ يَكُونُ فِيهَا الْمَتَاعُ وَالزَّادُ) .
وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الطَّرَّارِ النَّشَّال، مِنْ نَشَل
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، ولسان العرب مادة (طرر) .
(2) فتح القدير 5 / 150، والمغني لابن قدامة 8 / 256، والمطلع ص 375.
(3) المصباح المنير وفتح القدير 5 / 150.(28/338)
الشَّيْءَ نَشْلاً أَيْ أَسْرَعَ نَزْعَهُ، وَالنَّشَّال كَثِيرُ النَّشْل وَالْخَفِيفُ الْيَدِ مِنَ اللُّصُوصِ السَّارِقُ عَلَى غِرَّةٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.
أ - السَّارِقُ.
2 - السَّارِقُ فَاعِلٌ مِنَ السَّرِقَةِ، وَهِيَ: أَخْذُ مَال الْغَيْرِ خُفْيَةً مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ بِلاَ شُبْهَةٍ (2) .
وَالسَّارِقُ أَعَمُّ مِنَ الطَّرَّارِ، لأَِنَّ الطَّرَّارَ يَسْرِقُ مِنْ جَيْبِ الإِْنْسَانِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
ب - النَّبَّاشُ:
3 - النَّبَّاشُ مُبَالَغَةٌ مِنَ النَّبْشِ أَيِ الْكَشْفِ، يُقَال: نَبَشَ الْقَبْرَ أَيْ كَشَفَهُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ. هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّرَّارَ يُعْتَبَرُ سَارِقًا تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِ الْقَطْعِ (5) . لَكِنَّهُمُ
__________
(1) المعجم الوسيط مادة: (نشل) .
(2) فتح القدير 5 / 121، والخرشي 8 / 91، والمهذب 2 / 277، وكشاف القناع 6 / 129.
(3) المصباح المنير (نبش) .
(4) ابن عابدين 3 / 200، الدسوقي 4 / 240، والمهذب 2 / 279، وكشاف القناع 6 / 138.
(5) فتح القدير 4 / 245، والبدائع 7 / 76، وابن عابدين 3 / 204، وبداية المجتهد 2 / 445، والفواكه الدواني 2 / 296، والمغني لابن قدامة 8 / 256، وكشاف القناع 1 / 130، ومسلم الثبوت 2 / 20.(28/338)
اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيل الْحُكْمِ فِيهِ فَذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّ الطَّرَّارَ تُقْطَعُ يَدُهُ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِاسْمٍ آخَرَ غَيْرِ السَّارِقِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ مَعْنَى السَّرِقَةِ، فَهُوَ مُبَالِغٌ فِي السَّرِقَةِ بِزِيَادَةِ حِذْقٍ مِنْهُ فِي فِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ الْقَطْعُ، قَال النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ: إِنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) ظَاهِرَةٌ فِي كُل سَارِقٍ لَمْ يُعْرَفْ بِاسْمٍ آخَرَ، خَفِيَّةٌ فِي حَقِّ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ، لاِخْتِصَاصِهِمَا بِاسْمٍ آخَرَ يُعْرَفَانِ بِهِ، وَتَغَايُرُ الأَْسْمَاءِ يَدُل عَلَى تَغَايُرِ الْمُسَمَّيَاتِ فَالأَْصْل أَنَّ كُل اسْمٍ لَهُ مُسَمًّى عَلَى حِدَةٍ، فَاشْتَبَهَ الأَْمْرَانِ: اخْتِصَاصُهُمَا بِاسْمٍ آخَرَ لِنُقْصَانٍ فِي مَعْنَى السَّرِقَةِ، أَوْ لِزِيَادَةٍ فِيهَا، فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا الاِخْتِصَاصَ فِي الطَّرَّارِ لِلزِّيَادَةِ فَقُلْنَا: إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَفِي النَّبَّاشِ لِلنُّقْصَانِ فَقُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا (2) .
أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَيُعَلِّلُونَ الْقَطْعَ فِي الطَّرَّارِ بِأَنَّهُ سَارِقٌ مِنَ الْحِرْزِ، لأَِنَّ كُل شَيْءٍ سُرِقَ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ، لأَِنَّ صَاحِبَهُ حِرْزٌ لَهُ وَلَوْ
__________
(1) سورة المائدة (38) .
(2) كشف الأسرار على المنار 1 / 147، 148، ومسلم الثبوت 2 / 20، 21، والتوضيح مع التلويح 10 / 412.(28/339)
كَانَ فِي فَلاَةٍ (1) قَال النَّفْرَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِصَاحِبِهِ الْحَافِظُ لَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا أَمْ غَيْرَهُ (2) .
5 - وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ الطَّرَّارِ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الطَّرُّ بِالْقَطْعِ، وَالدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ، لأَِنَّ الْحِرْزَ هُوَ الْكُمُّ، وَالدَّرَاهِمُ بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ، فَلَمْ يُوجَدِ الأَْخْذُ مِنَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي دَاخِل الْكُمِّ يُقْطَعُ، لأَِنَّهَا تَقَعُ بَعْدَ قَطْعِ الصُّرَّةِ فِي دَاخِل الْكُمِّ فَكَانَ الطَّرُّ أَخْذًا مِنَ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ (3) .
وَإِنْ كَانَ الطَّرُّ بِحَل الرِّبَاطِ، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حَل الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ، بِأَنْ كَانَتِ الْعُقْدَةُ مَشْدُودَةً مِنْ دَاخِل الْكُمِّ لاَ يُقْطَعُ، لأَِنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَإِنْ كَانَ إِذَا حَل الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ فِي دَاخِل الْكُمِّ وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى إِدْخَال يَدِهِ فِي الْكُمِّ لِلأَْخْذِ يُقْطَعُ، لِوُجُودِ الأَْخْذِ مِنَ الْحِرْزِ (4) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَال: أَسْتَحْسِنُ أَنْ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 5 / 151، والفواكه الدواني 2 / 296، والمهذب 2 / 279، وكشاف القناع 6 / 130.
(2) الفواكه الدواني 2 / 296.
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7 / 76.
(4) البدائع 7 / 76، وفتح القدير مع الهداية 5 / 150، 151، وابن عابدين 3 / 204.(28/339)
أَقْطَعَهُ فِي الأَْحْوَال كُلِّهَا، لأَِنَّ الْمَال مُحْرَزٌ بِصَاحِبِهِ وَالْكُمُّ تَبَعٌ لَهُ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ جَيْبِ الرَّجُل وَكُمِّهِ لاَ قَطْعَ عَلَيْهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي بَحْثِ (سَرِقَة) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 / 160، 161.
(2) المغني 8 / 256.(28/340)
طَرْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّرْدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الإِْبْعَادُ، وَالطَّرَدُ بِالتَّحْرِيكِ الاِسْمُ كَمَا قَال الْفَيُّومِيُّ يُقَال: فُلاَنٌ أَطْرَدَهُ السُّلْطَانُ إِذْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ بَلَدِهِ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: أَطْرَدَهُ السُّلْطَانُ وَطَرَدَهُ أَخْرَجَهُ عَنْ بَلَدِهِ، وَطَرَدْتُ الرَّجُل إِذَا نَحَّيْتَهُ، وَأَطْرَدَ الرَّجُل جَعَلَهُ طَرِيدًا وَنَفَاهُ، وَاطَّرَدَ الشَّيْءُ: تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَجَرَى (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَهُوَ أَيْضًا مُصْطَلَحٌ أُصُولِيٌّ وَيَذْكُرُهُ الأَْصْلِيُّونَ فِي مَبَاحِثِ الْحَدِّ وَالْعِلَّةِ، فَالطَّرَدُ فِي الْحَدِّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ، فَبِالاِطِّرَادِ يَصِيرُ الْحَدُّ مَانِعًا عَنْ دُخُول غَيْرِ الْمَحْدُودِ، فَلاَ يَدْخُل فِيهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (طرد) .
(2) التلويح على التوضيح 1 / 10.(28/340)
وَالطَّرَدُ فِي الْعِلَّةِ مَعْنَاهُ: أَنْ تَكُونَ كُلَّمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْحُكْمُ (1) ، وَيُرَاجَعُ تَمَامُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَكْسُ:
2 - الْعَكْسُ فِي اللُّغَةِ: رَدُّ أَوَّل الشَّيْءِ عَلَى آخِرِهِ، يُقَال: عَكَسْتُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، رَدَدْتُهُ عَلَيْهِ، وَعَكَسْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ مَنَعْتُهُ، وَكَلاَمٌ مَعْكُوسٌ: مَقْلُوبٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِي التَّرْتِيبِ أَوْ فِي الْمَعْنَى.
وَالْعَكْسُ اصْطِلاَحًا: هُوَ تَرَتُّبُ عَدَمِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ غَيْرِهِ.
وَهُوَ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ: انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِقَاءِ الْعِلَّةِ (2) .
فَالْعَكْسُ ضِدُّ الطَّرْدِ.
ب - النَّقْضُ:
3 - النَّقْضُ فِي اللُّغَةِ: إِفْسَادُ مَا أُبْرِمَ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ عَهْدٍ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْهَدْمِ، يُقَال: نَقَضَ الْبِنَاءَ أَيْ هَدَمَهُ.
وَالنَّقْضُ اصْطِلاَحًا: أَنْ يُوجَدَ الْوَصْفُ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ وَيَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ، وَمِثَالُهُ
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 365، مختصر المنتهى 2 / 218، المحصول ج 2 ق 2 / 305، كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 904، الإبهاج 3 / 76.
(2) المصباح المنير مادة (عكس) ، الإبهاج 3 / 76، كشف الأسرار 4 / 59، تيسير التحرير 4 / 22.(28/341)
قَوْلُنَا: مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ تَعَرَّى أَوَّل صَوْمِهِ عَنْهَا فَلاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْسَاكِ النَّهَارِ جَمِيعِهِ مَعَ النِّيَّةِ، فَيُجْعَل الْعَرَاءُ عَنِ النِّيَّةِ فِي أَوَّل الصَّوْمِ عِلَّةَ بُطْلاَنِهَا، فَيَقُول الْخَصْمُ: مَا ذَكَرْتَ مَنْقُوضٌ بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَبْيِيتٍ (1) .
ج - الدَّوَرَانُ:
4 - الدَّوَرَانُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ دَارَ الشَّيْءُ يَدُورُ دَوْرًا وَدَوَرَانًا بِمَعْنَى طَافَ.
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ وَيَنْعَدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ.
فَذَلِكَ الْوَصْفُ يُسَمَّى مَدَارًا، وَالْحُكْمُ دَائِرًا، وَسَمَّى بَعْضُهُمُ الدَّوَرَانَ بِالدَّوَرَانِ الْوُجُودِيِّ وَالْعَدَمِيِّ أَوِ الدَّوَرَانِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُوجَدُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ فَإِنَّ هَذَا يُسَمَّى بِالدَّوَرَانِ الْوُجُودِيِّ أَوِ الطَّرْدِ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَهَذَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الدَّوَرَانُ الْعَدَمِيُّ أَوِ الْعَكْسُ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً أَيْ: كُلَّمَا وُجِدَتْ
__________
(1) لسان العرب مادة (نقض) ، البحر المحيط 5 / 135 (ط وزارة الأوقاف - الكويت 1988 م) ، الإبهاج 3 / 84.(28/341)
الْعِلَّةُ وُجِدَ الْحُكْمُ دُونَ أَنْ يُعَارِضَهَا نَقْضٌ وَإِلاَّ بَطَلَتِ الْعِلَّةُ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ سَرْدِهِ لِشُرُوطِ الْعِلَّةِ: السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً أَيْ كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ لِتَسْلَمَ مِنَ النَّقْصِ وَالْكَسْرِ.
وَقَال الْعَضُدُ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْمُنْتَهَى: قَدْ يُعَدُّ مِنْ شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً أَيْ كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَعَدَمُهُ يُسَمَّى نَقْضًا، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْوَصْفُ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي مَحَلٍّ مَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِيهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهَا (1) .
6 - وَاخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي كَوْنِ الطَّرْدِ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ - أَيِ اعْتِبَارِهِ مَسْلَكًا مِنْ مَسَالِكِهَا - فَذَهَبَ أَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ وَلاَ يَكُونُ حُجَّةً مُسْتَدِلِّينَ بِفِعْل الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حَيْثُ إِنَّهُمْ مَتَى مَا عَدِمُوا الدَّلِيل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتَنَدُوا فِي أَقْيِسَتِهِمْ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَفْقًا لِلْمَصَالِحِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ، وَلَمْ نَجِدْهُمْ بِحَالٍ يَحْتَكِمُونَ بِطَرْدٍ لاَ يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلاَ يُثِيرُ شُبَهًا وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ فِي
__________
(1) البحر المحيط 5 / 135 (ط وزارة الأوقاف - الكويت 1988 م) ، العضد على ابن الحاجب 2 / 218، التبصرة في أصول الفقه 460 بتحقيق د. محمد حسن هيتو - (ط. دار الفكر 1980 م) .(28/342)
شَيْءٍ، وَقَدْ دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَنَّ الطَّرَدَ لاَ يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ، بَل الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْبَوْنَهُ وَلاَ يَرَوْنَهُ، وَمِمَّا لاَ شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا فِي الطَّرَدِ مَنَاطًا لأَِحْكَامِ اللَّهِ لَمَا أَهْمَلُوهُ وَعَطَّلُوهُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ مُفِيدٌ لِلْعِلِّيَّةِ وَمُحْتَجٌّ بِهِ فِيهَا، وَجِهَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ مَا عَدَا صُورَةَ النِّزَاعِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ عِلَّةً، لأَِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ غَيْرُهُ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَل هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لَخَلاَ الْحُكْمُ عَنِ الْعِلَّةِ فَيَخْلُو عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا خِلاَفُ مَا ثَبَتَ بِالاِسْتِقْرَاءِ مِنْ أَنَّ كُل حُكْمٍ لاَ يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَحَيْثُ ثَبَتَتْ عِلِّيَّتُهُ فِي غَيْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثَبَتَتِ الْعِلِّيَّةُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَذَلِكَ إِلْحَاقًا بِالْكَثِيرِ الْغَالِبِ فَيَكُونُ الظَّنُّ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ وَهُوَ الْمُدَّعَى (1) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) البرهان 2 / 788، الإبهاج 3 / 78، والمستصفى 2 / 307 (ط. دار صادر) ، نهاية السول في شرح منهاج الوصول 4 / 135 (ط. عالم الكتب) .(28/342)
طَرَفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّرَفُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةً: جُزْءٌ مِنَ الشَّيْءِ وَجَانِبُهُ وَنِهَايَتُهُ (1) .
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الطَّرَفَ عَلَى كُل عُضْوٍ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ. فَالأَْطْرَافُ هِيَ النِّهَايَاتُ فِي الْبَدَنِ كَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ.
(ر: أَعْضَاء ف 2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُضْوُ:
2 - الْعُضْوُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ كُل عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمِهِ سَوَاءٌ: أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ، أَمْ حَيَوَانٍ.
وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الْعُضْوَ عَلَى الْجُزْءِ الْمُتَمَيِّزِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَدَنِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَاللِّسَانِ، وَالأَْنْفِ، وَالإِْصْبَعِ.
فَالْعُضْوُ أَعَمُّ مِنَ الطَّرَفِ، إِذْ كُل طَرَفٍ عُضْوٌ وَلَيْسَ كُل عُضْوٍ طَرَفًا.
(ر: أَعْضَاء ف 1)
__________
(1) الكليات للكفوي 3 / 160، ودستور العلماء 2 / 275.(28/343)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرَفِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى الطَّرَفِ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمَشْهُورِ، وَإِسْحَاقُ) : أَنَّ كُل شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الأَْطْرَافِ السَّلِيمَةِ: كَالرَّجُلَيْنِ، وَالرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرَّيْنِ، وَالْعَبْدَيْنِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ بَيْنَ طَرَفَيْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، أَوْ فِي طَرَفَيْ عَبْدَيْنِ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْل وَنَحْوِهِمَا، لاِنْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الأَْطْرَافِ، لأَِنَّهَا يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الأَْمْوَال فَيَثْبُتُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ (2) .
وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الأَْطْرَافِ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَلاَ قَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَلاَ فِي الْخَطَأِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
أَمَّا إِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.
__________
(1) حلية لعلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 7 / 472، وكشاف القناع 5 / 547، والدر المنتقى بهامش مجمع الأنهر 2 / 626.
(2) مجمع الأنهر 2 / 625 - 626.(28/343)
4 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مُحَدَّدَةٍ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَوْزِيعِهَا عَلَى الأَْطْرَافِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - مَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْ شَيْئَيْنِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ كَأَجْفَانِ الْعَيْنَيْنِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ.
وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ.
وَفِي كُل مَفْصِلٍ مِنَ الأَْصَابِعِ مِمَّا فِيهِ مَفْصِلاَنِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَمِمَّا فِيهِ ثَلاَثَةُ مَفَاصِل ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ: أَيْ يَنْقَسِمُ عُشْرُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَفَاصِل، كَانْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الأَْصَابِعِ (1) .
(ر: دِيَاتُ فِقَرِهِ 34) .
ب - الدِّيَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ وَإِتْلاَفِ الأَْطْرَافِ إِذَا لَمْ تُفِضْ إِلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مَعًا - وَلَمْ يَمُتْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ - تَجِبُ دِيَتَانِ.
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 640 - 642، وتحفة الفقهاء 3 / 158، والشرح الصغير 4 / 387، والمغني والشرح الكبير 9 / 378، ونيل المآرب 2 / 339 - 340، ومطالب أولي النهى 6 / 112 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 62.(28/344)
أَمَّا إِذَا أَفْضَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْمَوْتِ فَتَتَدَاخَل دِيَاتُ الأَْطْرَافِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
(ر: دِيَات ف 70، وَتَدَاخُل ف 19) .
بَيْعُ أَطْرَافِ الآْدَمِيِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ الآْدَمِيِّ الْحُرِّ وَبُطْلاَنِهِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَقَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ يَصِحُّ (1) ، لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَالاً، وَالْمَال اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِنَا مِمَّا هُوَ غَيْرُنَا، فَالآْدَمِيُّ خُلِقَ مَالِكًا لِلْمَال، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالاً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَال مُنَافَاةٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} (2) قَال السَّرْخَسِيُّ: ثُمَّ لأَِجْزَاءِ الآْدَمِيِّ مِنَ الْحُكْمِ مَا لِعَيْنِهِ (3) .
فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَطْرَافَ الآْدَمِيِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ بَيْعِ أَجْزَاءِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 140، والإجماع لابن المنذر ص 114، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 318 (نشر المؤسسة السعيدية بالرياض) .
(2) سورة البقرة - الآية 29.
(3) المبسوط للسرخسي 15 / 125.(28/344)
الآْدَمِيِّ، إِلاَّ فِي لَبَنِ الْمَرْأَةِ إِذَا حُلِبَ، فَأَجَازَ بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، قَال الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: إِنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنَ الآْدَمِيِّ وَالآْدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ وَمُكَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالاِحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (1) .
الاِنْتِفَاعُ بِأَطْرَافِ الْمَيِّتِ:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِأَطْرَافِ الْمَيِّتِ، وَأَجَازُوا التَّدَاوِي بِأَطْرَافِ مَا سِوَى الْخِنْزِيرِ وَالآْدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُطْلَقًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفِي مَذْهَبِهِمْ بَعْضُ السِّعَةِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الآْدَمِيِّ وَأَطْرَافِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا، فَأَجَازُوا لِلْمُضْطَرِّ أَكْل لَحْمِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلاَّ مَيِّتًا مَعْصُومًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: يَجُوزُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ (الشِّيرَازِيُّ) وَالْجُمْهُورُ، وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ،
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لاَ لِوُجُوبِ صِيَانَتِهِ، قَال النَّوَوِيُّ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ (3) .
__________
(1) الكاساني 5 / 145، والمبسوط للسرخسي 15 / 125، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 304، والفروق للقرافي 3 / 237، ومواهب الخليل 4 / 263، وروضة الطالبين 3 / 353.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 354.
(3) المجموع 9 / 44.(28/345)
طَرِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّرِيقُ فِي اللُّغَةِ: السَّبِيل - يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ. بِالتَّذْكِيرِ جَاءَ الْقُرْآنُ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} (1) ، وَيُقَال: الطَّرِيقُ الأَْعْظَمُ كَمَا يُقَال: كَمَا يُقَال الطَّرِيقُ الْعُظْمَى (2) .
وَفِي الإِْصْلاَحِ: لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّافِذِ، وَغَيْرِ النَّافِذِ، وَالْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّارِعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الشَّارِعِ: الطَّرِيقُ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالشَّارِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالطَّرِيقُ عَامٌّ فِي الصَّحَارِيِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالنَّافِذِ وَغَيْرِ النَّافِذِ، أَمَّا الشَّارِعُ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبُنْيَانِ النَّافِذِ (3) .
ب - السِّكَّةُ:
3 - السِّكَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ
__________
(1) سورة طه / 77.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) نهاية المحتاج 4 / 392، وأسنى المطالب 2 / 223.(28/345)
النَّخِيل (1) . وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ السِّكَّةِ.
ج - الزُّقَاقُ:
4 - الزُّقَاقُ طَرِيقٌ ضَيِّقٌ دُونَ السِّكَّةِ، وَيَكُونُ نَافِذًا وَغَيْرَ نَافِذٍ (2) وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ الزُّقَاقِ.
د - الدَّرْبُ:
5 - الدَّرْبُ: بَابُ السِّكَّةِ الْوَاسِعُ، وَأَصْل الدَّرْبِ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ فِي الْجَبَل، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَل الضَّيِّقِ (3) .
هـ - الْفِنَاءُ:
6 - الْفِنَاءُ فِي اللُّغَةِ: سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيل: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَيُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فَضَل مِنْ حَاجَةِ الْمَارَّةِ مِنْ طَرِيقٍ نَافِذٍ (4) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرِيقِ:
7 - الطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا: فَالطَّرِيقُ الْعَامُّ: مَا يَسْلُكُهُ قَوْمٌ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، أَوْ مَا جُعِل طَرِيقًا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ وَقَفَهُ مَالِكُ الأَْرْضِ لِيَكُونَ طَرِيقًا، وَلَوْ بِغَيْرِ إِحْيَاءٍ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) المصادر السابقة.
(4) لسان العرب والمصباح المنير، حاشية الدسوقي 3 / 368.(28/346)
وَإِنْ وُجِدَ سَبِيلٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، اعْتُمِدَ فِيهِ الظَّاهِرُ وَاعْتُبِرَ طَرِيقًا عَامًّا، وَلاَ يَبْحَثُ عَنْ أَصْلِهِ.
أَمَّا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ - وَهِيَ الْمَمَرَّاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ - فَلاَ تَكُونُ بِذَلِكَ طَرِيقًا (1) .
قَدْرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ:
8 - إِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا مَالِكُهَا فَتَقْدِيرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَالأَْفْضَل تَوْسِيعُهُ، وَعِنْدَ الإِْحْيَاءِ: إِلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُحْيُونَ، فَإِنْ تَنَازَعُوا جُعِل سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَضَى النَّبِيُّ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِل عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ (2) .
وَنَازَعَ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلأَْذْرَعِيِّ: تَابَعَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ إِفْتَاءَ ابْنِ الصَّلاَحِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي قَدْرِ الطَّرِيقِ، زَادَ عَنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 396، وأسنى المطالب 2 / 220، وحاشية ابن عابدين 5 / 380.
(2) حديث أبي هريرة: " قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا. . . ". أخرجه البخاري (5 / 118) ، ورواية مسلم (3 / 1232) .(28/346)
عُرْفَ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَوْ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُغَيَّرْ، لأَِنَّ الطُّرُقَ وَالأَْفْنِيَةَ كَالإِْحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ يَقْتَطِعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لاَ يَتَضَرَّرُ الْمَارَّةُ بِالْجُزْءِ الْمُقْتَطَعِ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شِبْرًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ (2) ، وَيُهْدَمُ إِنِ اسْتَوْلَى شَخْصٌ أَوِ اقْتَطَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ (3) وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُهْدَمُ عَلَيْهِ مَا اقْتَطَعَ مِنْهَا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لِسِعَتِهِ (4) .
الاِنْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
9 - الطَّرِيقُ النَّافِذَةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ " الشَّارِعِ "
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 396، أسنى المطالب 2 / 220، كشاف القناع 3 / 188، مواهب الجليل 5 / 166، حاشية الزرقاني 6 / 64.
(2) حديث الحكم بن الحارث السلمي: " من أخذ من طريق المسلمين. . ". أخرجه الطبراني في الصغير (2 / 297) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 176) ، وقال: فيه محمد بن عقبة السدوسي، وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم وتركه أبو زرعة.
(3) أسنى المطالب 3 / 220، وكشاف القناع 3 / 188، ومواهب الجليل 5 / 152 وما بعده، والمغني 4 / 552.
(4)) مواهب الجليل 5 / 156.(28/347)
مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، لِلْجَمِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لاَ يَضُرُّ الآْخَرِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْفَعَتُهَا الأَْصْلِيَّةُ: الْمُرُورُ فِيهَا، لأَِنَّهَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، فَيُبَاحُ لَهُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْمُرُورُ بِلاَ خِلاَفٍ (1) ، وَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِلْجَمِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِغَيْرِ الْمُرُورِ مِمَّا لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ، كَالْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ لاِنْتِظَارِ رَفِيقٍ أَوْ سُؤَالٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ بِذَلِكَ لاِتِّفَاقِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الأَْزْمَانِ وَالأَْعْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) ، فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِخَبَرِ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ لِلْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ وَالصِّنَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ طَال عَهْدُهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ، كَمَا لاَ يَحْتَاجُ فِي الإِْحْيَاءِ إِلَى إِذْنِهِ، لاِتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 342، أسنى المطالب 2 / 449، كشاف القناع 4 / 168، ابن عابدين 5 / 380، فتح القدير 9 / 240، حاشية الدسوقي 3 / 368.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745) من حديث عمرو المازني مرسلاً، ولكن له طرقًا أخرى موصولة يتقوى بها، ذكرها ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 286 - 287) .
(4) نهاية المحتاج 5 / 342، أسنى المطالب 2 / 449، حاشية ابن عابدين 5 / 380.(28/347)
وَلاَ يُزْعَجُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ طَال مُقَامُهُ فِيهِ، لِخَبَرِ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ (1) ، وَلأَِنَّهُ أَحَدُ الْمُرْتَفِقِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ بِالْيَدِ فَصَارَ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطُول الْجُلُوسُ أَوِ الْبَيْعُ، فَإِنْ طَال أُخْرِجَ عَنْهُ. لأَِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ إِنْ طَال الْجُلُوسُ لِلْمُعَامَلَةِ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ (3) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لاِسْتِرَاحَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْحَدِيثِ، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (4) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلاِسْتِرَاحَةِ، لِحَدِيثِ (5) الأَْمْرِ بِإِعْطَاءِ الطَّرِيقِ حَقَّهُ: مِنْ: غَضٍّ لِلْبَصَرِ،
__________
(1) حديث: " من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له ". أخرجه أبو داود (3 / 453) ، من حديث أسمر بن مضرس، واستغربه المنذري في مختصر السنن (4 / 264) .
(2) نهاية المحتاج 5 / 342، أسنى المطالب 2 / 451، ابن عابدين 5 / 380.
(3) كشاف القناع 4 / 196، حاشية الدسوقي 3 / 368.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 368.
(5) حديث: " الأمر بإعطاء الطريق حقها ". أخرجه البخاري (11 / 8) ، ومسلم (3 / 1675) ، من حديث أبي سعيد الخدري، ونصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول ال(28/348)
وَكَفٍّ لِلأَْذَى، وَرَدٍّ لِلسَّلاَمِ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، مَا لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ كُرِهَ (1) .
إِذْنُ الإِْمَامِ فِي الاِرْتِفَاقِ بِالطَّرِيقِ:
10 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ إِذْنُ الإِْمَامِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ وَلاَ لأَِحَدٍ مِنَ الْوُلاَةِ أَخْذُ عِوَضٍ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَلاَ أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ فَضَل الْجُزْءُ الْمُبَاعُ عَنْ حَاجَةِ الطَّرِيقِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ وَلاَ قَائِل بِهِ، وَلأَِنَّ الطُّرُقَ كَالأَْحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُغَيِّرُ وَضْعَهَا (2) .
وَلِلإِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَ بُقْعَةً مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا لِلْمُعَامَلَةِ ارْتِفَاقًا، لاَ تَمْلِيكًا، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ لَهُ نَظَرًا وَاجْتِهَادًا فِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْمَقْطُوعُ لَهُ الْبُقْعَةَ، إِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا كَالسَّابِقِ إِلَيْهَا (3) .
التَّزَاحُمُ فِي الاِرْتِفَاقِ:
11 - لِلْجَالِسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 449، نهاية المحتاج 5 / 345.
(2) نهاية المحتاج 5 / 343، حاشية الجمل 3 / 570، أسنى المطالب 2 / 450، مواهب الجليل 5 / 156 وما بعده.
(3) المصادر السابقة، وكشاف القناع 4 / 196.(28/348)
تَظْلِيل مَوْضِعِ جُلُوسِهِ بِمَا لاَ ثَبَاتَ لَهُ مِنْ حَصِيرٍ، أَوْ عَبَاءَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَحَل جُلُوسِهِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ وَالأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلاَ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْضِعِ أَمْتِعَتِهِ وَمَوْقِفِ مُعَامِلِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْوُقُوفَ بِقُرْبِهِ إِنْ كَانَ الْوُقُوفُ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ بِضَاعَتِهِ، أَوْ وُصُول الْقَاصِدِينَ إِلَيْهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَمَامِ الاِنْتِفَاعِ بِمَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنَ الْجُلُوسِ بِقُرْبِهِ لِبَيْعِ مِثْل بِضَاعَتِهِ، إِنْ لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ (1) .
وَمَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِلْمُعَامَلَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ، وَتَنَازَعَا فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُمَا مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، لاِنْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ (2) .
تَرْكُ صَاحِبِ الاِخْتِصَاصِ مَوْضِعًا اخْتَصَّ بِهِ:
12 - إِنْ تَرَكَ الْجَالِسُ مَوْضِعَ اخْتِصَاصِهِ، وَانْتَقَل إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الَّتِي كَانَ يُزَاوِلُهَا فِيهِ بَطَل حَقُّهُ فِيهِ، سَوَاءٌ أَأَقْطَعُهُ الإِْمَامُ لَهُ، أَمْ
__________
(1) المصادر السابقة، ومواهب الجليل 5 / 158.
(2) نهاية المحتاج 5 / 344، وأسنى المطالب 2 / 450، وكشاف القناع 4 / 196، ومواهب الجليل 5 / 158، وحاشية الدسوقي 3 / 368.(28/349)
سَبَقَ إِلَيْهِ بِلاَ إِقْطَاعٍ مِنَ الإِْمَامِ. وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ لَمْ يَبْطُل حَقُّهُ إِلاَّ أَنْ يَطُول غِيَابُهُ عَنْهُ، لِحَدِيثِ: مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (1) فَإِنْ طَال غِيَابُهُ عَنْهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ يَبْطُل حَقُّهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فَارَقَهُ لِعُذْرٍ أَوْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ أَوْ كَانَ بِإِقْطَاعِ الإِْمَامِ لَهُ إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَقَل مَتَاعَهُ عَنْ مَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، بَطَل حَقُّهُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ، أَوْ أَجْلَسَ شَخْصًا فِيهِ لِيَحْفَظَ لَهُ الْمَكَانَ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَةُ مَتَاعِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَامَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ وُضُوءٍ لَمْ يَبْطُل حَقُّهُ.
وَكِلاَ الْمَذْهَبَيْنِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لاَ يُجِيزُ إِطَالَةَ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ أَطَال أُزِيل عَنْهُ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، يَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، وَحَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طُول الْمُقَامِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ (3) .
وَإِنْ جَلَسَ لاِسْتِرَاحَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ، وَنَحْوِ
__________
(1) حديث: " من قام من مجلسه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1715) من حديث أبي هريرة.
(2) نهاية المحتاج 5 / 341، أسنى المطالب 2 / 450، حاشية الجمل 3 / 570.
(3) كشاف القناع 4 / 166، حاشية الدسوقي 3 / 368.(28/349)
ذَلِكَ بَطَل حَقُّهُ فِيهِ بِمُفَارَقَتِهِ، بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
الاِنْتِفَاعُ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ الْمُرُورِ، وَالْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى حُرْمَةِ التَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ (الشَّارِعِ) بِمَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ فِي مُرُورِهِمْ، لأَِنَّ الْحَقَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُضَارَّهُمْ فِي حَقِّهِمْ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءُ دِكَّةٍ - وَهِيَ الَّتِي تُبْنَى لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهَا - فِي الطَّرِيقِ النَّافِدَةِ وَغَرْسُ شَجَرَةٍ فِيهَا وَإِنِ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ، وَأَذِنَ الإِْمَامُ، وَانْتَفَى الضَّرَرُ، وَبُنِيَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْعِهِمَا الطُّرُوقَ فِي مَحَلِّهِمَا، وَلأَِنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُؤْذِي الْمَارَّةَ فِيمَا بَعْدُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثِرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلأَِنَّهُ إِذَا طَال الزَّمَنُ أَشْبَهَ مَوْضِعُهُمَا الأَْمْلاَكَ الْخَاصَّةَ، وَانْقَطَعَ اسْتِحْقَاقُ الطُّرُوقِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بِنَاءُ دِكَّةٍ، وَغَرْسُ أَشْجَارٍ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ كَإِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ، وَالأَْجْنِحَةِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) أسنى المطالب 2 / 219، والمحلي على حاشية القليوبي 2 / 310، ونهاية المحتاج 5 / 397، والمغني لابن قدامة 4 / 552، وكشاف القناع 3 / 406، وحاشية الدسوقي 3 / 368.(28/350)
الْمُرُورِ فِيهَا، فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ مَنَعَ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْل الْخُصُومَةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِهَا ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ، سَوَاءٌ أَضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.
هَذَا إِذَا بَنَاهَا لِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنْ بَنَاهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَإِنْ بَنَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُنْقَضْ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ (1) .
وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ الْعَامَّةَ لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُهُ، أَذِنَ الإِْمَامُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) .
الاِرْتِفَاقُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامَّةِ الاِنْتِفَاعُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِإِخْرَاجِ جَنَاحٍ إِلَيْهَا أَوْ رَوْشَنٍ أَوْ سَابَاطٍ، وَهُوَ سَقِيفَةٌ عَلَى حَائِطَيْنِ وَيَمُرُّ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالْمِيزَابِ، إِنْ رَفَعَهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهُ الْمَاشِي مُنْتَصِبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى طَأْطَأَةِ رَأْسِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْحُمُولَةُ الْمُعْتَادَةُ، وَلَمْ
__________
(1) فتح القدير 9 / 240، وابن عابدين 5 / 380.
(2) رد المحتار على الدر المختار على حاشية ابن عابدين 5 / 380.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". تقدم ف 9.(28/350)
يَسُدَّ الضَّوْءَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَمَرًّا لِلْقَوَافِل يُرْفَعُ الْمِيزَابُ وَالْجَنَاحُ وَنَحْوُهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهَا الْمَحْمَل عَلَى الْبَعِيرِ، وَالْمِظَلَّةُ فَوْقَ الْمَحْمَل، فَإِنْ أَخَل بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدَمَهُ الْحَاكِمُ، وَلِكُلٍّ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، لأَِنَّهُ إِزَالَةٌ لِلْمُنْكَرِ
(1) وَالأَْصْل فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مَا صَحَّ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَصَبَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ مِيزَابًا فِي دَارِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ شَارِعًا إِلَى مَسْجِدِهِ (2) وَقِيسَ عَلَيْهِ الْجَنَاحُ وَنَحْوُهُ، وَلإِِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى فِعْل ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
(3) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، لِكُلٍّ مِنْ أَهْل الْخُصُومَةِ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ ضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ.
(4) وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ أَذِنَ الإِْمَامُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَقَالُوا: لأَِنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 219، وحاشية القليوبي 2 / 310، وحاشية الدسوقي 3 / 368، وفتح القدير 9 / 240.
(2) حديث: " نصب النبي صلى الله عليه وسلم ميزابًا في دار عمه العباس ". أخرجه أحمد (1 / 210) ، من حديث عبيد الله بن عباس، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 206 - 207) ، وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات، إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله.
(3) المصادر السابقة.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 380، فتح القدير 9 / 240.(28/351)
مِلْكِهِ، بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدِّكَّةِ، أَوْ بِنَائِهِ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ وَلاَ مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لأَِنَّهُ لاَ يَدُومُ وَلاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلاَ يَخْلُو الإِْخْرَاجُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ عَنْ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَظْلِمُ الطَّرِيقَ بِسَدِّ الضَّوْءِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الأَْرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالأَْحْمَال، وَمَا يُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَال يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إِلَى الطَّرِيقِ يَخْشَى وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهَا.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، لأَِنَّ الإِْمَامَ، نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ - وَفِي حُكْمِهِ نُوَّابُهُ - وَإِذْنُهُ كَإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ نَصَبَ مِيْزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَقَلَعَهُ، فَقَال الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ؟ فَقَال: وَاللَّهِ لاَ تَنْصِبُهُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِي، فَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَصَبَهُ، وَلأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ. (1)
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 551 - 552، كشاف القناع 3 / 406.(28/351)
مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ:
15 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ: كَالْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مِنْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ مَوْتِ نَفْسٍ فَمَضْمُونٌ وَإِنْ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَأَذِنَ الإِْمَامُ وَلَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَتَنَاهَى فِي الاِحْتِيَاطِ، وَحَدَثَ مَا لَمْ يُتَوَقَّعْ، كَصَاعِقَةٍ، أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، لأَِنَّ الاِرْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، وَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ، وَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَا إِنْ وَضَعَ تُرَابًا فِي الطَّرِيقِ لِتَطْيِينِ سَطْحِ مَنْزِلِهِ، فَزَل بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ، أَوْ بَهِيمَةٌ فَتَلِفَتْ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي تَلَفِهِ، فَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيمَةُ الدَّابَّةِ فِي مَالِهِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ الإِْمَامُ بِإِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَلاَ ضَمَانَ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَلَى الطَّرِيقِ لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ الْمُخْرِجُ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَضْمَنُ شَيْئًا أَذِنَ الإِْمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: قَال مَالِكٌ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 356، مغني المحتاج 4 / 84 وما بعده، والمحلي على القليوبي 4 / 148، والمغني 7 / 830.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 380 - 381، فتح القدير 9 / 246.(28/352)
فِي جَنَاحٍ خَارِجٍ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ. قَال مَالِكٌ: لاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ بَنَاهُ. (1)
مَا يَجِبُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
16 - إِنْ كَانَ بَعْضُ الْجَنَاحِ فِي الْجِدَارِ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ الْخَارِجُ وَحْدَهُ - كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ - فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، لأَِنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْرِجُ مَالِكَهُ أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ غَاصِبًا، وَإِنْ سَقَطَ مَا فِي الدَّاخِل وَالْخَارِجِ، وَتَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ مَالٌ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِدَارِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، إِنْ كَانَ التَّالِفُ إِنْسَانًا، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ مَالاً، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل بِسُقُوطِ مَا فِي دَاخِل الْجِدَارِ مِنَ الْجَنَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لأَِنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْرُوعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَهُوَ مَضْمُونٌ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ كُل الدِّيَةِ أَوِ الْقِيمَةَ فِي الْحَالَيْنِ، لأَِنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إِلَى الطَّرِيقِ فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطًا مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ شَيْئًا، وَلأَِنَّهُ إِخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ بَعْضَهُ فَيَضْمَنُ كُلَّهُ. (3)
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 173.
(2) مغني المحتاج 4 / 85.
(3) المغني 7 / 830.(28/352)
سُقُوطُ جِدَارٍ مَائِلٍ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ فَسَقَطَ فِيهِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا فَسَقَطَ بِغَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلاَ مَيْلٍ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي بِنَائِهِ، وَلاَ حَصَل مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ، وَإِنْ مَال قَبْل وُقُوعِهِ إِلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ وَإِصْلاَحُهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلاَ فَرَّطَ فِي تَرْكِهِ وَإِصْلاَحِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.
وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ وَإِصْلاَحُهُ، فَلَمْ يَفْعَل فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ إِلَى الضَّمَانِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَالِبَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْل الْمَصْلَحَةِ فِي الْخُصُومَةِ بِالنَّقْضِ، وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَضْمَنُ لِتَقْصِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ وَلَمْ يَشْهَدْ. (1)
إِلْقَاءُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
18 - لَوْ أَلْقَى قُمَامَاتٍ، أَوْ قُشُورَ بِطِّيخٍ وَرُمَّانٍ وَمَوْزٍ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ فَمَضْمُونٌ، مَا لَمْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 358، مغني المحتاج 4 / 186، ابن عابدين 5 / 384، وحاشية الدسوقي 4 / 356، ومواهب الجليل 6 / 321، والمغني 8 / 828.(28/353)
يَتَعَمَّدْ الْمَارُّ الْمَشْيَ عَلَيْهَا قَصْدًا، وَكَذَا إِنْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَتَلِفَ يَضْمَنُ. (1) (ر: مُصْطَلَح: ضَمَان)
إِحْدَاثُ بِئْرٍ فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ:
19 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوِ اسْتِخْرَاجِ مَاءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأَِنَّ الطَّرِيقَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَإِذْنُ كُلِّهِمْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنْ حَفَرَهَا وَتَرَتَّبَ عَلَى حَفْرِهَا ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَفْرُ لِمَصْلَحَةِ الْحَافِرِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
(ر: مُصْطَلَح: ضَمَان) .
ضَمَانُ الضَّرَرِ الْحَادِثِ مِنْ مُرُورِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
20 - الْمُرُورُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ حَقٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لأَِنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَمُبَاحٌ لَهُمْ بِدَوَابِّهِمْ، بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ (يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: ضَمَان)
__________
(1) المصادر السابقة.(28/353)
الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ:
21 - الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ مِلْكٌ لأَِهْلِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأَِنَّهُ مِلْكُهُمْ، فَأَشْبَهَ الدُّورَ.
وَأَهْلُهُ مَنْ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِيهِ إِلَى مِلْكِهِمْ مِنْ دَارٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ فُرْنٍ، أَوْ حَانُوتٍ، لاَ مَنْ لاَصَقَ جِدَارُهُ الدَّرْبَ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ فِيهِ، لأَِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ الاِرْتِفَاقَ فِيهِ. (1)
وَيَسْتَحِقُّ كُل وَاحِدٍ مِنْ أَهْل الطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الاِرْتِفَاقَ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ الدَّرْبِ وَبَابِ دَارِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَل تَرَدُّدِهِ، وَمُرُورِهِ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ فِيهِ كَالأَْجْنَبِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِكُلٍّ مِنْ أَهْل الدَّرْبِ غَيْرِ النَّافِذِ الاِرْتِفَاقُ بِكُل الطَّرِيقِ، لأَِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّرَدُّدِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ كُلِّهِ، لإِِلْقَاءِ الْقُمَامَاتِ فِيهِ عِنْدَ الإِْدْخَال وَالإِْخْرَاجِ.
أَمَّا الْبِنَاءُ فِيهِ وَإِخْرَاجُ رَوْشَنٍ، أَوْ جَنَاحٍ، أَوْ سَابَاطٍ، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ، إِلاَّ بِرِضَا الْبَاقِينَ، كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لأَِنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ قَوْمِ مُعَيَّنِينَ فَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِبَعْضِ أَهْل
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 398 وما بعدها، أسنى المطالب 2 / 221، كشاف القناع 3 / 410، حاشية ابن عابدين 5 / 382، حاشية الدسوقي 3 / 368، الزرقاني 6 / 65.(28/354)
الدَّرْبِ إِخْرَاجُ مَا ذُكِرَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الاِنْتِفَاعَ بِقَرَارِهِ فَيَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَوَائِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالأَْوَّل ضَعِيفٌ. (1)
طَعَامٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ، أَكْلٌ
__________
(1) المصادر السابقة، والمغني لابن قدامة 4 / 552 - 553.(28/354)
طَعْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّعْمُ - بِالْفَتْحِ - مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ، فَيُقَال: طَعْمُهُ حُلْوٌ أَوْ حَامِضٌ، وَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ إِذَا خَرَجَ عَنْ وَصْفِهِ الْخِلْقِيِّ.
وَالطَّعْمُ أَيْضًا مَا يُشْتَهَى مِنَ الطَّعَامِ يُقَال: لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَمَا فُلاَنٌ بِذِي طَعْمٍ إِذَا كَانَ غَثًّا.
وَقَال الْفَيُّومِيُّ فِي مَعْنَى قَوْل الْفُقَهَاءِ: (الطَّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا) كَوْنُهُ مِمَّا يُطْعَمُ أَيْ مِمَّا يُسَاغُ جَامِدًا كَانَ أَوْ مَائِعًا. (1)
وَالطُّعْمُ - بِالضَّمِّ - الطَّعَامُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الذَّوْقُ:
2 - الذَّوْقُ: إِدْرَاكُ طَعْمِ الشَّيْءِ بِاللِّسَانِ يُقَال: ذُقْتُ الطَّعَامَ أَذُوقُهُ ذَوْقًا وَذَوَقَانًا وَذَوَاقًا وَمَذَاقًا إِذَا عَرَفْتَهُ بِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح.(28/355)
فَالذَّوْقُ مُلاَبَسَةٌ يُحَسُّ بِهَا الطَّعْمُ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّعْمِ: -
أ - تَغَيُّرُ طَعْمِ الْمَاءِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي غَيَّرَتْ النَّجَاسَةُ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَلاَ الطُّهُورُ. (2)
كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يُغَيِّرْهُ، إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ فِي مَاءٍ بُل فِيهِ خُبْزٌ لاَ يُتَوَضَّأُ بِهِ (3) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ بِمَاءٍ خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ: طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ: إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا بِمُخَالِطٍ طَاهِرٍ يَسْتَغْنَى عَنْهُ الْمَاءُ تَغَيُّرًا يَمْنَعُهُ الإِْطْلاَقَ لاَ تَحْصُل بِهِ الطَّهَارَةُ. (4)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ الَّذِي أُلْقَى فِيهِ الْحِمَّصُ أَوِ الْبَاقِلاَّءُ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَطَعْمُهُ وَلَكِنْ لَمْ تَذْهَبْ رِقَّتُهُ، وَلَوْ طُبِخَ فِيهِ الْحِمَّصُ أَوِ الْبَاقِلاَّءُ وَرِيحُ الْبَاقِلاَّءِ
__________
(1) المصباح المنير والصحاح مادة (ذوق) والفروق ص 254.
(2) بداية المجتهد 1 / 23 (نشر دار المعرفة) .
(3) المغني 1 / 15.
(4) الشرح الصغير 1 / 31، وأسنى المطالب 1 / 7، والمغني 1 / 12.(28/355)
يُوجَدُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ بِهِ التَّوَضُّؤُ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل فِي الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ (ر: مِيَاه) .
ب - اعْتِبَارُ الطَّعْمِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الرِّبَا:
4 - الأَْعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فِيمَا عَدَا الأَْثْمَانَ هَل هِيَ الطَّعْمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبا ف 64 - 68) .
طِفْلٌ
انْظُرْ: صِغَر
طُفَيْلِيٌّ
انْظُرْ: تَطَفُّلٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 21، والمغني 1 / 12، والإنصاف 1 / 32 - 33.(28/356)
طِلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الطِّلاَءِ - بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِالْمَدِّ - فِي اللُّغَةِ: الشَّرَابُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُوَ الرُّبُّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ، وَأَصْلُهُ الْقَطِرَانُ الْخَاثِرُ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الإِْبِل (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطِّلاَءُ: هُوَ الْعَصِيرُ يُطْبَخُ بِالنَّارِ أَوِ الشَّمْسِ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَيَصِيرُ مُسْكِرًا (2) . وَقِيل: مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا. قَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ. (3)
وَيُسَمَّى الطِّلاَءُ أَيْضًا بِالْمُثَلَّثِ، يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: الْمُثَلَّثُ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى الثُّلُثُ. (4)
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ: وَسُمِّيَ بِالطِّلاَءِ لِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
__________
(1) لسان العرب مادة (طلى) .
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 290.
(3) تنوير الأبصار مع الدر المختار على هامش ابن عابدين 5 / 290، ويقول الحصكفي: في وجه التصويب إن الأول يسمى الباذق. (نفس المرجع) .
(4) تبيين الحقائق على الكنز للزيلعي 4 / 46 وانظر البدائع 5 / 112.(28/356)
مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلاَءِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ الْقَطِرَانُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْبَعِيرُ الْجَرْبَانُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَمْرُ: -
2 - الْخَمْرُ: هِيَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَقَذَفَا بِالزَّبَدِ، وَتُطْلَقُ الْخَمْرُ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى كُل مَا يُسْكِرُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَاءِ الْعِنَبِ (2) .
ب - الْبَاذِقُ وَالْمُنَصَّفُ:
3 - الْبَاذِقُ: هُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّاهِبُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَصِل ثُلُثَيْهِ.
وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ (3) .
ج - نَقِيعُ الزَّبِيبِ:
4 - نَقِيعُ الزَّبِيبِ: هُوَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ، بِأَنْ يُتْرَكَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ حَتَّى تَخْرُجَ حَلاَوَتُهُ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَشْتَدَّ وَيَغْلِيَ (4) .
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 5 / 290، وانظر الزيلعي 6 / 45.
(2) ابن عابدين 5 / 288، والزيلعي 6 / 45، 46، والموسوعة الفقهية 5 / 12 مصطلح (أشربه ف 4) .
(3) ابن عابدين 5 / 290، والزيلعي 6 / 45.
(4) الزيلعي 6 / 45، وابن عابدين 5 / 289، 290.(28/357)
د - السُّكَّرُ:
5 - السُّكَّرُ: هُوَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَكِرَتِ الرِّيحُ إِذَا سَكَنَتْ (1) .
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ الأَْشْرِبَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا لَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةٌ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الأَْشْرِبَةَ الْمُسْكِرَةَ كُلَّهَا حَرَامٌ، وَقَالُوا: كُل مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ. (3) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَل، وَكَانَ أَهْل الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ. (4) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 46، والموسوعة الفقهية مصطلح (أشربة) .
(3) حديث: " كل مسكر خمر. . ". أخرجه مسلم (3 / 1587) من حديث ابن عمر.
(4) حديث عائشة: " كل شراب أسكر فهو حرام. . " أخرجه البخاري (10 / 41) ، ومسلم (3 / 1585، 1586) .(28/357)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ.
(1) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى الطِّلاَءِ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَإِذَا كَثُرَ مِنْهُ أَسْكَرَ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُثَلَّثِ حَلاَلٌ، وَلاَ يَحْرُمُ مِنْهُ إِلاَّ الْقَدَحُ الأَْخِيرُ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الإِْسْكَارُ، أَمَّا مَا ذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ فَحَرَامٌ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
7 - وَمَحَل حِل الْمُثَلَّثِ عِنْدَهُمَا لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: فِي الْمُثَلَّثِ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا لاَ يُسْكِرُ يَحِل شُرْبُهُ، وَأَمَّا الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِل شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ، (3) لَكِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي زَمَانِنَا، كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " ما أسكر كثيره فقليله حرام. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1125) ، وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 43) .
(2) الزيلعي 6 / 46، 47، وابن عابدين وبهامشه الدر المختار 5 / 290، 292، 293.
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 5 / 116، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 46.
(4) ابن عابدين 5 / 292، 293، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 47.(28/358)
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الأَْشْرِبَةِ وَأَنْوَاعِهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 304 - 305.(28/358)
طَلاَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّلاَقُ فِي اللُّغَةِ: الْحَل وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَهُوَ اسْمٌ مَصْدَرُهُ التَّطْلِيقُ، وَيُسْتَعْمَل اسْتِعْمَال الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ: طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ فَهِيَ طَالِقٌ بِدُونِ هَاءٍ، وَرُوِيَ بِالْهَاءِ (طَالِقَةٌ) إِذَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَيُرَادِفُهُ الإِْطْلاَقُ، يُقَال: طَلَّقْتُ وَأَطْلَقْتُ بِمَعْنَى سَرَّحْتُ، وَقِيل: الطَّلاَقُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلُقَتْ، وَالإِْطْلاَقُ لِغَيْرِهَا إِذَا سُرِّحَ، فَيُقَال: طَلَّقْتُ الْمَرْأَةَ، وَأَطْلَقْتُ الأَْسِيرَ، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْفَرْقَ، فَقَالُوا: بِلَفْظِ الطَّلاَقِ يَكُونُ صَرِيحًا، وَبِلَفْظِ الإِْطْلاَقِ يَكُونُ كِنَايَةً.
وَجَمْعُ طَالِقٍ طُلَّقٌ، وَطَالِقَةٌ تُجْمَعُ عَلَى طَوَالِقَ، وَإِذَا أَكْثَرَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ كَانَ مِطْلاَقًا وَمِطْلِيقًا، وَطَلِقَةً (1) . وَالطَّلاَقُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَال أَوِ الْمَآل بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب والقاموس، والدر المختار 3 / 226.
(2) الدر المختار 3 / 226 - 227، وانظر الشرح الكبير 2 / 347، والمغني 7 / 296، ومغني المحتاج 3 / 279.(29/5)
وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا: النِّكَاحُ الصَّحِيحُ خَاصَّةً، فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الطَّلاَقُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مُتَارَكَةً أَوْ فَسْخًا.
وَالأَْصْل فِي الطَّلاَقِ أَنَّهُ مِلْكُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ بِإِنَابَتِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالتَّفْوِيضِ، أَوْ بِدُونِ إِنَابَةٍ، كَالْقَاضِي فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، قَال الشِّرْبِينِيُّ فِي تَعْرِيفِ الطَّلاَقِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ: تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ يُحْدِثُهُ بِلاَ سَبَبٍ، فَيَقْطَعُ النِّكَاحَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَسْخُ:
2 - الْفَسْخُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْضُ وَالإِْزَالَةُ (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَل رَابِطَةِ الْعَقْدِ (3) ، وَبِهِ تَنْهَدِمُ آثَارُ الْعَقْدِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ.
وَبِهَذَا يُقَارِبُ الطَّلاَقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّ الْفَسْخَ نَقْضٌ لِلْعَقْدِ الْمُنْشِئِ لِهَذِهِ الآْثَارِ، أَمَّا الطَّلاَقُ فَلاَ يَنْقُضُ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ يُنْهِي آثَارَهُ فَقَطْ.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 279.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس، والمغرب.
(3) الأشباه والنظائر والنظائر لابن نجيم في هامش حاشية الحموي عليه 2 / 195.(29/5)
الْمُتَارَكَةُ:
3 - الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّحِيل وَالْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، يُقَال: تَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَرْكُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، وَالتَّرْكُ بَعْدَ الدُّخُول لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْقَوْل عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، أَوْ تَرَكْتُكِ، وَكَذَلِكَ قَبْل الدُّخُول فِي الأَْصَحِّ.
وَالْمُتَارَكَةُ تُوَافِقُ الطَّلاَقَ مِنْ وَجْهٍ وَتُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ، تُوَافِقُهُ فِي حَقِّ إِنْهَاءِ آثَارِ النِّكَاحِ، وَفِي أَنَّهَا حَقُّ الرَّجُل وَحْدَهُ، وَتُخَالِفُهُ فِي أَنَّهَا لاَ تُحْسَبُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، أَمَّا الطَّلاَقُ فَمَخْصُوصٌ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ (2) .
الْخُلْعُ:
4 - الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: النَّزْعُ، وَخَالَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مُخَالَعَةً وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ إِذَا افْتَدَتْ مِنْهُ وَطَلَّقَهَا عَلَى الْفِدْيَةِ، وَالْمَصْدَرُ الْخَلْعُ، وَالْخُلْعُ اسْمٌ (3) . وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) ابن عابدين على الدر المختار 3 / 134.
(3) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.(29/6)
بِلَفْظِ الْخُلْعِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مُقَابِل عِوَضٍ تَلْتَزِمُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ غَيْرُهَا لِلزَّوْجِ (1) . وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ (2) .
التَّفْرِيقُ:
5 - التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَفِعْلُهُ الثُّلاَثِيُّ فَرَقَ، يُقَال: فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، أَيْ فَصَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي بِالتَّخْفِيفِ، يُقَال: فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فِي الأَْعْيَانِ، يُقَال: فَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ. وَقَال غَيْرُهُمَا: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ (3) . وَالتَّفْرِيقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِنْهَاءُ الْعَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحُكْمِ الْقَاضِي
__________
(1) الدر المختار 2 / 860، وبداية المجتهد 2 / 72، ومنح الجليل 2 / 182، ومغني المحتاج 2 / 262 والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 347.
(2) بدائع الصنائع 3 / 152، والدسوقي 2 / 351، وبداية المجتهد 2 / 75، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 180 - 181، والإقناع 3 / 54، ومغني المحتاج 3 / 268، وروضة الطالبين 7 / 375.
(3) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.(29/6)
بِنَاءً عَلَى طَلَبِ أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ، كَالشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ وَعَدَمِ الإِْنْفَاقِ. . أَوْ بِدُونِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ حِفْظًا لِحَقِّ الشَّرْعِ، كَمَا إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.
وَمَا يَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي: طَلاَقٌ بَائِنٌ فِي أَحْوَالٍ، وَفَسْخٌ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، وَهُوَ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال (1) .
الإِْيلاَءُ:
6 - الإِْيلاَءُ فِي اللُّغَةِ الْحَلِفُ، مِنْ آلَى يُؤْلِي إِيلاَءً، يُجْمَعُ عَلَى أَلاَيَا (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَلِفُ الزَّوْجِ عَلَى تَرْكِ قُرْبِ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً (3) . وَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (4) فَإِذَا انْقَضَتِ الأَْشْهُرُ الأَْرْبَعَةُ بِغَيْرِ قُرْبٍ مِنْهُ لَهَا طَلُقَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَحَقَّتِ الطَّلاَقَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ تَرْفَعُهُ الزَّوْجَةُ لِلْقَاضِي لِيُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْفِرَاقِ، فَإِنْ قَرِبَهَا انْحَل الإِْيلاَءُ، وَإِنْ رَفَضَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 396، والزرقاني 5 / 242.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.
(3) اللباب على القدوري 2 / 240، والدار المختار 2 / 245 ط. أولى.
(4) الآية / 226 / من سورة البقرة.
(5) المغني 7 / 498، ومغني المحتاج 3 / 348.(29/7)
اللِّعَانُ:
7 - اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمِسَبَّةُ، يُقَال: لَعَنَهُ لَعْنًا، وَلاَعَنَهُ مُلاَعَنَةً، وَلِعَانًا، وَتَلاَعَنُوا، إِذَا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: عَرَّفَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: بِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ بِالأَْلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ (2) . وَقَدْ سُمِّيَ بِاللِّعَانِ لِمَا فِي قَوْل الزَّوْجِ فِي الأَْيْمَانِ: إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَذَلِكَ وَفْقًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (3) . وَالتَّحْرِيمُ بَعْدَ اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ يَكُونُ عَلَى التَّأْبِيدِ، أَمَّا الطَّلاَقُ فَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ كَذَلِكَ.
الظِّهَارُ:
8 - الظِّهَارُ قَوْل الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) فتح القدير 3 / 247.
(3) الآية / 6 - 7 من سورة النور.(29/7)
كَظَهْرِ أُمِّي "، وَكَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ ضَرْبًا مِنَ الطَّلاَقِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ (2) كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، بِخِلاَفِ زَوْجَةِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَيُسَمَّى الظِّهَارُ بِذَلِكَ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُظَاهِرَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِ الْمُحَرَّمِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالتَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ.
وَلاَ تَفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الظِّهَارِ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ بِهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ الْمُظَاهِرُ، فَإِنْ كَفَّرَ حَلَّتْ لَهُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلطَّلاَقِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْل مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلاَقِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
1 - قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) .
2 - قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) .
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) تنوير الأبصار للتمرتاشي في هامش ابن عابدين 2 / 576 ط. أولى.
(3) الآية / 239 من سورة البقرة.
(4) الآية / 1 من سورة الطلاق.(29/8)
3 - قَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحَل اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلاَقِ (1) .
4 - حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا (2) .
5 - حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي حَيْضِهَا، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِارْتِجَاعِهَا ثُمَّ طَلاَقِهَا بَعْدَ طُهْرِهَا، إِنْ شَاءَ (3) .
6 - إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ - لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ لِلطَّلاَقِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الطَّلاَقِ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا فِي أَحْوَالٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَظْرُ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْحَظْرِ فِي أَحْوَالٍ. وَعَلَى كُلٍّ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ؛ فَيَكُونُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا،
__________
(1) حديث " ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق ". أخرجه أبو داود (2 / 361) من حديث محارب بن دثار مرسلا، ثم ذكره (2 / 631 - 632) من حديث ابن عمر موصولا بلفظ مقارب، ورجح غير واحد من العلماء إرساله كما في التلخيص لابن حجر (3 / 205) .
(2) حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلق حفصة ثم راجعها. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 712) والحاكم (2 / 197) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث ابن عمر " أنه طلق زوجته في حيضها. . . " أخرجه البخاري فتح الباري (9 / 345) ومسلم (2 / 1094) .(29/8)
كَمَا يَكُون مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا (1) ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالأَْحْوَال الَّتِي تُرَافِقُهُ، بِحَسَبِ مَا يَلِي: -
1 - فَيَكُونُ وَاجِبًا كَالْمُولِي إِذَا أَبَى الْفَيْئَةَ إِلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوقِعُونَ الْفُرْقَةَ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ حُكْمًا، وَكَطَلاَقِ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَرَأَيَا الطَّلاَقَ، عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالتَّفْرِيقِ لِذَلِكَ.
2 - وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ إِذَا فَرَّطَتِ الزَّوْجَةُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا - مِثْل الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا - وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ الطَّلاَقُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ لِلشِّقَاقِ.
3 - وَيَكُونُ مُبَاحًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ سُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، أَوْ لأَِنَّهُ لاَ يُحِبُّهَا.
4 - وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَقِيل: هُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْحَال، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ إِلَيْهِ.
5 - وَيَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ الطَّلاَقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَهُوَ
__________
(1) الدر المختار 3 / 227 - 228، وانظر المغني 7 / 296، ومغني المحتاج 3 / 279.(29/9)
الطَّلاَقُ الْبِدْعِيُّ، وَسَوْفَ يَأْتِي بَيَانُهُ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الأَْرْبَعَةُ: مِنْ حُرْمَةٍ وَكَرَاهَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ (1) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الطَّلاَقِ:
10 - لَقَدْ نَبَّهَ الإِْسْلاَمُ الرِّجَال وَالنِّسَاءَ إِلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الشَّرِيكِ وَالشَّرِيكَةِ فِي الزَّوَاجِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ، فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ (2) . وَقَال: لاَ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلاَ تَزَوَّجُوهُنَّ لأَِمْوَالِهِنَّ فَلَعَل أَمْوَالَهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلأََمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَل (3) وَقَال: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ
__________
(1) الدر المختار 3 / 227 - 229، والشرح الكبير 2 / 361، ومغني المحتاج 3 / 307، والمغني 7 / 296 - 297.
(2) حديث: " تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 633) من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في الفتح (9 / 125) وأشار إلى أن فيه مقالا، ثم عزاه إلى أبي نعيم من حديث عمر، ثم قال: ويقوى أحد الإسنادين بالآخر.
(3) حديث: " لا تزوجوا النساء لحسنهن. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 597) من حديث عبد الله بن عمرو، وفي إسناده راو ضعيف كما في ترجمته في الميزان للذهبي (2 / 562) .(29/9)
تَرِبَتْ يَدَاك (1) وَقَال لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عِنْدَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (2) . وَقَال: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ (3) ، وَقَال لأَِوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَْرْضِ وَفَسَادٌ (4) .
إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ - عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ - قَدْ لاَ يَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ السَّعَادَةِ وَالاِسْتِقْرَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَرُبَّمَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الأَْخْذِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُبَّمَا أَخَذَا بِهِ، وَلَكِنْ جَدَّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ الْهَانِئَيْنِ مَا يُثِيرُ بَيْنَهُمَا الْقَلاَقِل وَالشِّقَاقَ، كَمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ عَجْزِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَنَاصِرَ خَارِجَةٍ عَنِ الزَّوْجَيْنِ أَصْلاً، كَالأَْهْل وَالْجِيرَانِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ
__________
(1) حديث: " تنكح المرأة لأربع. . . " أخرجه البخاري فتح الباري (9 / 132) ومسلم (2 / 1086) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " أخرجه الترمذي (3 / 388) وقال: حديث حسن.
(3) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 258) من حديث أنس، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.
(4) حديث: " إذا جاءكم من ترضون دينه. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 386) من حديث أبي حاتم المزني وقال حديث حسن غريب.(29/10)
ذَلِكَ انْصِرَافَ الْقَلْبِ وَتَغَيُّرَهُ، فَيُبْدَأُ بِنُصْحِ الزَّوْجَيْنِ وَإِرْشَادِهِمَا إِلَى الصَّبْرِ وَالاِحْتِمَال، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ التَّقْصِيرُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) .
إِلاَّ أَنَّ مِثْل هَذَا الصَّبْرِ قَدْ لاَ يَتَيَسَّرُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعَانِهِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الشِّقَاقِ فَوْقَ الاِحْتِمَال، أَوْ كَانَا فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ لاَ تُسَاعِدُهُمَا عَلَى الصَّبْرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَال: إِمَّا أَنْ يَأْمُرَ الشَّرْعُ بِالإِْبْقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الشِّقَاقِ الَّذِي قَدْ يَتَضَاعَفُ وَيُنْتَجُ عَنْهُ فِتْنَةٌ، أَوْ جَرِيمَةٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الأَْقَل تَفْوِيتُ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ النِّكَاحُ، وَهِيَ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالنَّسْل الصَّالِحُ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ، وَهُوَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ التَّشْرِيعُ الإِْسْلاَمِيُّ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الطَّلاَقَ قَدْ يَتَمَحَّضُ طَرِيقًا لإِِنْهَاءِ الشِّقَاقِ وَالْخِلاَفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِيَسْتَأْنِفَ الزَّوْجَانِ بَعْدَهُ حَيَاتَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُرْتَبِطَيْنِ بِرَوَابِطَ زَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، حَيْثُ يَجِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ يَأْلَفُهُ وَيَحْتَمِلُهُ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ
__________
(1) آية 19 من سورة النساء.(29/10)
اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1)
وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: بِوُجُوبِ الطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ، وَبِنَدْبِهِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلضَّرَرِ الأَْخَفِّ عَلَى الضَّرَرِ الأَْشَدِّ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ (2) ". وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْقَائِلَةُ: " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ (3) " وَيُسْتَأْنَسُ فِي ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِْسْلاَمِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْبَل الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً (4) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الطَّلاَقِ:
11 - الطَّلاَقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرْقِ وَهُوَ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل يَمْلِكُ مُفَارَقَةَ زَوْجَتِهِ إِذَا وَجَدَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِعِبَارَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ
__________
(1) الآية 130 من سورة النساء.
(2) مادة 29 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) المادة 27 من مجلة الأحكام العدلية.
(4) حديث: " أتردين عليه حديقته. . . ". أخرجه البخاري فتح الباري (9 / 395) .(29/11)
طَلَبَ إِنْهَاءِ عَلاَقَتِهَا الزَّوْجِيَّةِ إِذَا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ، كَإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَغَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا تَوْسِعَةً وَتَضْيِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهَا، وَإِنَّمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَال تَمْلِكُهُ بِقَوْلِهَا أَيْضًا.
فَإِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْفِرَاقِ، جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الأَْسْبَابِ مَا يَدْعُوهُ لِذَلِكَ، حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - أَوْ إِسْلاَمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمَجُوسِيَّيْنِ وَامْتِنَاعِ الآْخَرِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. . إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لاَ يُسَمَّى طَلاَقًا سِوَى الأَْوَّل الَّذِي يَكُونُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ الْخَاصَّةِ وَعِبَارَتِهِ (1) . وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ هَذَا حَقُّ الزَّوْجِ خَاصَّةً قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (2) . ثُمَّ إِنَّ الرَّجُل الْمُطَلِّقَ لاَ يُسْأَل عَنْ سَبَبِ
__________
( x661 ;) ابن عابدين 3 / 242.
(2) حديث: " إنما الطلاق لمن أخذ الساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 358) .(29/11)
الطَّلاَقِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
1 - حِفْظُ أَسْرَارِ الأُْسْرَةِ.
2 - حِفْظُ كَرَامَةِ الزَّوْجَةِ وَسُمْعَتِهَا.
3 - الْعَجْزُ عَنْ إِثْبَاتِ الْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الأَْسْبَابِ؛ لأَِنَّ غَالِبَ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَكُونُ خَفِيَّةً يَصْعُبُ إِثْبَاتُهَا، فَإِذَا كَلَّفْنَاهُ بِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ كَلَّفْنَاهُ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ يُحْرِجُهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) .
4 - ثُمَّ إِنَّ فِي إِقْدَامِ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلاَقِ وَتَحَمُّلِهِ الأَْعْبَاءَ الْمَالِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ مَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهَا - وَأُجْرَةِ حَضَانَةٍ لِلأَْوْلاَدِ. . لَقَرِينَةٌ كَافِيَةٌ عَلَى قِيَامِ أَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّلاَقِ.
5 - وَلِكَوْنِ الطَّلاَقِ مُبَاحًا أَصْلاً عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِبَاحَةً مُطْلَقَةً عَنْ أَيِّ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ.
مَحَل الطَّلاَقِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل الطَّلاَقِ الزَّوْجَةُ فِي زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، حَصَل فِيهَا
__________
(1) الآية 78 من سورة الحج.(29/12)
دُخُولٌ أَمْ لاَ، فَلَوْ كَانَ الزَّوَاجُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ تَطْلُقْ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً (1) . وَهَل يُعَدُّ لَفْظُ الطَّلاَقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُتَارَكَةً؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، لَكِنْ لاَ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ طَلاَقًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: طَلَّقَ الْمَنْكُوحَةَ فَاسِدًا ثَلاَثًا، لَهُ تَزَوُّجُهَا بِلاَ مُحَلِّلٍ. . لِكَوْنِ الطَّلاَقِ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الْفَاسِدِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْقِصٍ لِلْعَدَدِ، بَل مُتَارَكَةً (2) . وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بَعْدَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، لاِنْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَصْلاً. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُول بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال لَهَا فِي عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَانِيَةً، كَانَتَا طَلْقَتَيْنِ، مَا لَمْ يُرِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الأُْولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرَائِنُ الْحَال تَمْنَعُ صِحَّةَ إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُنْهِي الْعَلاَقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بِدَلاَلَةِ جَوَازِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 134، والشرح 2 / 370.
(2) ابن عابدين 3 / 134.(29/12)
الْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ (1) . أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا وَالْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، وَذَلِكَ لاِنْقِضَاءِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْفَسْخِ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ بَيْنُونَةً صُغْرَى فِي عِدَّتِهَا زَوْجَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلاَلَةِ جَوَازِ عَوْدِهَا إِلَى زَوْجِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ زَوَاجُهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهَا مَحَلٌّ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا بَائِنًا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي عِدَّتِهَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، هَذَا مَا لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الأُْولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ.
وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا فَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وُقُوعَ الطَّلاَقِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا كَانَ سَبَبُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، والدسوقي 2 / 378، ومغني المحتاج 3 / 293، والإنصاف 9 / 152 والمغني 7 / 292، وكشاف القناع 5 / 428.
(2) مغني المحتاج 3 / 292 - 297، والمغني 7 / 261 - 262، والشرح الكبير 2 / 356.(29/13)
الْفَسْخِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحُرْمَةُ غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ، وَغَيْرَ مَحَلٍّ لَهُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فَقَال: وَمَحَلُّهُ الْمَنْكُوحَةُ، أَيْ وَلَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ غَيْرِ ثَلاَثٍ فِي حُرَّةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي أَمَةٍ، أَوْ عَنْ فَسْخٍ بِتَفْرِيقٍ لإِِبَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الإِْسْلاَمِ أَوْ بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا. . بِخِلاَفِ عِدَّةِ الْفَسْخِ بِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ كَتَقْبِيل ابْنِ الزَّوْجِ، أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ عِتْقٍ، وَبُلُوغٍ، وَعَدَمِ كَفَاءَةٍ، وَنُقْصَانِ مَهْرٍ، وَسَبْيِ أَحَدِهِمَا، وَمُهَاجَرَتِهِ، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ فِيهَا كَمَا حَرَّرَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْفَتْحِ (1) .
رُكْنُ الطَّلاَقِ:
13 - رُكْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ. أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ أَطْرَافَ التَّصَرُّفِ. وَالطَّلاَقُ بِالاِتِّفَاقِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، فَرُكْنُ الطَّلاَقِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلطَّلاَقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، هِيَ: أَهْلٌ، وَقَصْدٌ، وَمَحَلٌّ، وَلَفْظٌ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، 312، 314.(29/13)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَرْكَانٌ خَمْسَةٌ: مُطَلِّقٌ، وَصِيغَةٌ، وَمَحَلٌّ، وَوِلاَيَةٌ، وَقَصْدٌ. وَالأَْصْل فِي الصِّيغَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الطَّلاَقِ الْكَلاَمُ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْكِتَابَةُ أَوِ الإِْشَارَةُ، وَلاَ يَنْعَقِدُ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ نَوَى الطَّلاَقَ دُونَ لَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ لَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهَا بِقَصْدِ الطَّلاَقِ، لاَ يَكُونُ مُطَلِّقًا أَيْضًا (1) .
شُرُوطُ الطَّلاَقِ:
14 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ لَدَى الْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى أَطْرَافِ الطَّلاَقِ الثَّلاَثَةِ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلِّقِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْضُهَا بِالصِّيغَةِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلِّقِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلِّقِ لِيَقَعَ طَلاَقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ صَحِيحًا شُرُوطٌ، هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل - أَنْ يَكُونَ زَوْجًا:
15 - وَالزَّوْجُ: هُوَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ عَقْدُ زَوَاجٍ صَحِيحٍ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، والدسوقي 2 / 365، ومغني المحتاج 3 / 279.(29/14)
الشَّرْطُ الثَّانِي - الْبُلُوغُ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ الصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ، أُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلِيِّ أَمْ لاَ، عَلَى سَوَاءٍ، ذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَلاَ يَمْلِكُهُ وَلِيُّهُ (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل (2) . وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِل الطَّلاَقَ، فَقَالُوا: إِنَّ طَلاَقَهُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. أَمَّا مَنْ لاَ يَعْقِل فَوَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ. قَال فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ طَلاَقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْقِل الطَّلاَقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلاَقَهُ يَقَعُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ. . وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجُوزُ طَلاَقُهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) الدر المختار 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 279، والشرح الكبير 2 / 365.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أحمد (6 / 100 - 101) والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، وصححه ووافقه الذهبي.(29/14)
النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ. . وَرَوَى أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا عَقَل الطَّلاَقَ جَازَ طَلاَقُهُ مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَقَعُ لِدُونِ الْعَشْرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لأَِنَّ الْعَشْرَ حَدُّ الضَّرْبِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِذَا أَحْصَى الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ طَلاَقُهُ، وَقَال عَطَاءٌ: إِذَا بَلَغَ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا عَقَل وَحَفِظَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَقَال إِسْحَاقُ: إِذَا جَاوَزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ - الْعَقْل:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (2) إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ طَلاَقِ الْمَجْنُونِ (3) وَالْمَعْتُوهِ (4) لِفِقْدَانِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ فِي الأَْوَّل، وَنُقْصَانِهَا فِي
__________
(1) المغني 7 / 312 - 315.
(2) الدر المختار 3 / 230 و 243 و 235، ومغني المحتاج 3 / 279، والمغني 7 / 311، والشرح الكبير 2 / 365.
(3) عرف ابن عابدين الجنون نقلا عن التلويح فقال: قال في التلويح: الجنون اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب، بأن لا تظهر آثارها وتتعطل أفعالها، إما لنقصان. . . جبل عليه دماغه في أصل الخلقة، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال ب
(4) عرف ابن عابدين المعتوه بقوله: هو القليل الفهم، المختلط الكلام، الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون (ابن عابدين 3 / 243) .(29/15)
الثَّانِي، فَأَلْحَقُوهُمَا بِالصَّغِيرِ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَْدِلَّةِ.
وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الدَّائِمِ الْمُطْبِقِ، أَمَّا الْجُنُونُ الْمُتَقَطِّعُ (1) ، فَإِنَّ حُكْمَ طَلاَقِ الْمُبْتَلَى بِهِ مَنُوطٌ بِحَالِهِ عِنْدَ الطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَهُوَ مَجْنُونٌ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ طَلَّقَ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَ لِكَمَال أَهْلِيَّتِهِ. وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَجْنُونِ النَّائِمَ (2) ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (3) ، وَالْمُبَرْسَمَ (4) ، وَالْمَدْهُوشَ (5) ، وَذَلِكَ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ لَدَيْهِمْ وَلِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ. . . (6) وَحَدِيثِ: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (7) .
__________
(1) الجنون المتقطع هو الذي يغيب فترة عن صاحبه ثم يعود إليه، سواء كان ذلك بنظام أو لا.
(2) النوم حالة طبيعة معروفة تغيب فيها القوى الواعية في الإنسان لفترة محدودة.
(3) الإغماء هو: غياب القوى الواعية في الإنسان لفترة مؤقتة بسبب آفة لحقت به، فهو كالنوم في مدته، وكالجنون في كونه آفة (ابن عابدين 3 / 243) .
(4) مبرسم كما قال ابن عابدين من البرسام، ونقل عن البحر أنه: ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ثم يتصل بالدماغ. (ابن عابدين 3 / 243) .
(5) المدهوش هو من غلب الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته بسبب غضب اعتراه. (ابن عابدين 3 / 244) .
(6) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". سبق تخريجه فقرة 16.
(7) حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". أخرجه أحمد (6 / 276) والحاكم (2 / 198) من حديث عائشة، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بإعلاله لضعف أحد رواته.(29/15)
وَأَمَّا السَّكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، كَمَا إِذَا سَكِرَ مُضْطَرًّا، أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِقَصْدِ الْعِلاَجِ الضَّرُورِيِّ إِذَا تَعَيَّنَ بِقَوْل طَبِيبٍ مُسْلِمٍ ثِقَةٍ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ بِالاِتِّفَاقِ، لِفِقْدَانِ الْعَقْل لَدَيْهِ كَالْمَجْنُونِ دُونَ تَعَدٍّ، هَذَا إِذَا غَابَ عَقْلُهُ أَوِ اخْتَلَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ طَلاَقُهُ.
وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ، كَأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَةَ طَائِعًا بِدُونِ حَاجَةٍ، وَقَعَ طَلاَقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رَغْمَ غِيَابِ عَقْلِهِ بِالسُّكْرِ، وَذَلِكَ عِقَابًا لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ: الأُْولَى: بِوُقُوعِ طَلاَقِهِ كَالْجُمْهُورِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّل وَالْقَاضِي. وَالثَّانِيَةُ: بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدِ اسْتُدِل لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ(29/16)
الصَّحَابَةَ جَعَلُوا السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي الْحَدِّ بِالْقَذْفِ.
كَمَا اسْتُدِل لِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ بِأَنَّهُ فَاقِدُ الْعَقْل كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، وَبِأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ زَوَال الْعَقْل بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِدَلِيل أَنَّ مَنْ كُسِرَ سَاقَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَأَنَّ امْرَأَةً لَوْ ضَرَبَتْ بَطْنَ نَفْسِهَا فَنَفِسَتْ، سَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلاَةُ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ - الْقَصْدُ وَالاِخْتِيَارُ:
19 - الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: قَصْدُ اللَّفْظِ الْمُوجِبِ لِلطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الْهَازِل، وَهُوَ: مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ مَا يَدُل عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (2) وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ ذُو خَطَرٍ كَبِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ إِنْسَانٌ، وَالإِْنْسَانُ أَكْرَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ
__________
(1) رد المحتار 3 / 239 - 240، حاشية الدسوقي 2 / 365، مغني المحتاج 3 / 279، المغني 7 / 114 - 115 ط. دار المنار.
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 481) من حديث أبي هريرة، ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 292) عن ابن القطان تعليله بجهالة أحد رواته.(29/16)
فِي أَمْرِهِ الْهَزْل، وَلأَِنَّ الْهَازِل قَاصِدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي رَبَطَ الشَّارِعُ بِهِ وُقُوعَ الطَّلاَقِ، فَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِوُجُودِهِ مُطْلَقًا.
أَمَّا الْمُخْطِئُ، وَالْمُكْرَهُ، وَالْغَضْبَانُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ طَلاَقِهِمْ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي.
أ - الْمُخْطِئُ:
20 - الْمُخْطِئُ هُنَا: مَنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّلَفُّظَ بِالطَّلاَقِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا قَصَدَ لَفْظًا آخَرَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ: يَا جَمِيلَةُ، فَإِذَا بِهِ يَقُول لَهَا خَطَأً: يَا طَالِقُ وَهُوَ غَيْرُ الْهَازِل، لأَِنَّ الْهَازِل قَاصِدٌ لِلَفْظِ الطَّلاَقِ، إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْفُرْقَةِ بِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلاَقِ الْمُخْطِئِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (1) إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ قَضَاءً وَدِيَانَةً، هَذَا إِذَا ثَبَتَ خَطَؤُهُ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ خَطَؤُهُ وَقَعَ الطَّلاَقُ قَضَاءً، وَلَمْ يَقَعْ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2)
__________
(1) الدر المختار (3 / 230) ومغني المحتاج (3 / 287) ، والشرح الكبير (2 / 366) .
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس واللفظ لابن ماجه، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.(29/17)
وَلاَ يُقَاسُ حَالُهُ عَلَى الْهَازِل؛ لأَِنَّ الْهَازِل ثَبَتَ وُقُوعُ طَلاَقِهِ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الْمُخْطِئِ وَاقِعٌ قَضَاءً، ثَبَتَ خَطَؤُهُ أَمْ لاَ، وَلاَ يَقَعُ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِخُطُورَةِ مَحَل الطَّلاَقِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ، وَلأَِنَّ فِي عَدَمِ إِيقَاعِ طَلاَقِهِ فَتْحَ بَابِ الاِدِّعَاءِ بِذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ وَهُوَ خَطِيرٌ، وَذَرِيعَةٌ يَجِبُ سَدُّهَا.
ب - الْمُكْرَهُ:
21 - الإِْكْرَاهُ هُنَا مَعْنَاهُ: حَمْل الزَّوْجِ عَلَى الطَّلاَقِ بِأَدَاةٍ مُرْهِبَةٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ شَدِيدًا، كَالْقَتْل، وَالْقَطْعِ، وَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ (1) وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) وَلأَِنَّهُ مُنْعَدِمُ الإِْرَادَةِ
__________
(1) حديث: " لاطلاق ولا عتاق. . . ". تقدم تخريجه فـ 17.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". تقدم تخريجه فـ 20.(29/17)
وَالْقَصْدِ، فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، فَإِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ ضَعِيفًا، أَوْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأَثُّرِ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَقَعَ طَلاَقُهُ لِوُجُودِ الاِخْتِيَارِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ مُخْتَارٌ لَهُ بِدَفْعِ غَيْرِهِ عَنْهُ بِهِ، فَوَقَعَ الطَّلاَقُ لِوُجُودِ الاِخْتِيَارِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الإِْكْرَاهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ بِحَقٍّ، كَالْمُولِي إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ بِدُونِ فَيْءٍ فَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الطَّلاَقِ فَطَلَّقَ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالإِْجْمَاعِ (1) .
ج - الْغَضْبَانُ:
22 - الْغَضَبُ: حَالَةٌ مِنْ الاِضْطِرَابِ الْعَصَبِيِّ، وَعَدَمِ التَّوَازُنِ الْفِكْرِيِّ، تَحِل بِالإِْنْسَانِ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ أَحَدٌ بِالْكَلاَمِ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْغَضَبُ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الإِْنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ، وَمِنْهَا الطَّلاَقُ، إِلاَّ أَنْ يَصِل الْغَضَبُ إِلَى دَرَجَةِ الدَّهَشِ، فَإِنْ وَصَل إِلَيْهَا لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ، لأَِنَّهُ يُصْبِحُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَالْمَدْهُوشُ هُوَ: مَنْ غَلَبَ الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ بِسَبَبِ غَضَبٍ اعْتَرَاهُ.
وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْغَضَبَ أَقْسَامًا ثَلاَثَةً نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَقَال:
__________
(1) الدر المختار 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 289، والدسوقي 2 / 367، والمغني 7 / 118.(29/18)
طَلاَقُ الْغَضْبَانِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُل لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لاَ يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُول وَيَقْصِدُهُ، وَهَذَا لاَ إِشْكَال فِيهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ، فَلاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول وَلاَ يُرِيدُهُ، فَهَذَا لاَ رَيْبَ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِ.
الثَّالِثُ: مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ كَالْمَجْنُونِ، فَهَذَا مَحَل النَّظَرِ وَالأَْدِلَّةُ تَدُل عَلَى عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول، بَل يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ وَاخْتِلاَطِ الْجِدِّ بِالْهَزْل كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي السَّكْرَانِ. . ثُمَّ قَال: فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ: إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، فَمَا دَامَ فِي حَال غَلَبَةِ الْخَلَل فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال لاَ تُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا، لأَِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَالإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 243، والدسوقي 2 / 366، وكشاف القناع 5 / 235، وحاشية الجمل 4 / 324، وإغاثة اللهفان في طلاق الغضبان لابن القيم ص 38 وما بعدها.(29/18)
د - السَّفِيهُ:
23 - السَّفَهُ: خِفَّةٌ فِي الْعَقْل تَدْعُو إِلَى التَّصَرُّفِ بِالْمَال عَلَى غَيْرِ وَفْقِ الْعَقْل وَالشَّرْعِ (1) . وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلاَقِ السَّفِيهِ؛ لأَِنَّهُ مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِمَحَل الطَّلاَقِ، وَلأَِنَّ السَّفَهَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ فِي الْمَال خَاصَّةً، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ نَشَأَ عَنْ طَلاَقِ السَّفِيهِ آثَارٌ مَالِيَّةٌ كَالْمَهْرِ فَهِيَ تَبَعٌ لاَ أَصْلٌ.
وَخَالَفَ عَطَاءٌ، وَقَال بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ السَّفِيهِ (2) .
هـ - الْمَرِيضُ:
24 - الْمَرَضُ إِذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ انْصَرَفَ إِلَى مَرَضِ الْمَوْتِ غَالِبًا، إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الْمَرِيضِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَرَضَ مَوْتٍ أَمْ مَرَضًا عَادِيًّا، مَا دَامَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِيهَا دَخَل فِي بَابِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. إِلاَّ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ مَوْتٍ بِخَاصَّةٍ إِذَا
__________
(1) الموسوعة الفقهية جـ 25 مصطلح (سفه) .
(2) الدر المختار 3 / 238، والمغني 7 / 315، ومغني المحتاج 3 / 279، والدسوقي 2 / 365.(29/19)
طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا أَوْ رِضًا طَلاَقًا بَائِنًا، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقِهِ هَذَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا حُكْمًا، وَتَرِثُ مِنْهُ رَغْمَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطْلُبِ الطَّلاَقَ الْبَائِنَ، فَإِذَا طَلَبَتْ هَذَا الطَّلاَقَ فَلاَ تَرِثُ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ؛ وَقَالُوا بِعَدَمِ إِرْثِ الْبَائِنَةِ، أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ فَتَرِثُ بِالاِتِّفَاقِ.
أَمَّا الْمَرِيضُ بِغَيْرِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَرِيضِ فَلاَ يَتَأَتَّى فِي طَلاَقِهِمَا الْفِرَارُ مِنَ الإِْرْثِ (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلَّقَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلَّقَةِ لِيَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا شُرُوطٌ، هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا:
25 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ زَوْجَةً لِلْمُطَلِّقِ، أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقِهِ الرَّجْعِيِّ، فَإِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ فَسْخٍ، فَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 521، 522، 523، والدسوقي 2 / 352 - 353، وحاشية الجمل 4 / 336، ومغني المحتاج 3 / 294، والمغني 6 / 329 - 334.(29/19)
تَقَدَّمَ الاِخْتِلاَفُ فِيهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى مَحَل الطَّلاَقِ.
هَذَا فِي الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ، فَإِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا بِشَرْطٍ، كَأَنْ قَال: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ التَّعْلِيقِ زَوْجَةً صَحَّ الطَّلاَقُ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عِنْدَ التَّعْلِيقِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ.
فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ التَّعْلِيقِ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ حَصَل الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَضَافَ التَّعْلِيقَ إِلَى النِّكَاحِ - كَأَنْ قَال لِلأَْجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا - طَلُقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ النِّكَاحِ، بِأَنْ قَال لِلأَْجْنَبِيَّةِ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ، لَمْ تَطْلُقْ بِالاِتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ إِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ قَبْل الزَّوَاجِ، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَإِذَا عَلَّقَ طَلاَقَ الأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى غَيْرِ النِّكَاحِ، وَنَوَى فِيهِ النِّكَاحَ، مِثْل أَنْ يَقُول لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، طَلُقَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلنِّيَّةِ، وَلَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِعَدَمِ الإِْضَافَةِ لِلنِّكَاحِ لَفْظًا (1) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 344 - 345، ومغني المحتاج 3 / 292، والشرح الكبير 2 / 370.(29/20)
الشَّرْطُ الثَّانِي: تَعْيِينُ الْمُطَلَّقَةِ بِالإِْشَارَةِ أَوْ بِالصِّفَةِ أَوْ بِالنِّيَّةِ.
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ، وَطُرُقُ التَّعْيِينِ ثَلاَثَةٌ: الإِْشَارَةُ، وَالْوَصْفُ، وَالنِّيَّةُ، فَأَيُّهَا قُدِّمَ جَازَ، فَإِذَا تَعَارَضَ الثَّلاَثَةُ فَفِيهِ التَّفْصِيل التَّالِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ بِالإِْشَارَةِ وَالصِّفَةِ وَالنِّيَّةِ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ، كَأَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ الَّتِي اسْمُهَا عَمْرَةُ مُشِيرًا إِلَيْهَا: يَا عَمْرَةُ، أَنْتِ طَالِقٌ، قَاصِدًا طَلاَقَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِالاِتِّفَاقِ، لِتَمَامِ التَّعْيِينِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ لِمُتَعَدِّدَاتٍ دُونَ أَنْ يَصِفَهَا بِوَصْفٍ، وَلَمْ يَنْوِ غَيْرَهَا، وَقَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا بِالاِتِّفَاقِ أَيْضًا، لأَِنَّ الإِْشَارَةَ كَافِيَةٌ لِلتَّعْيِينِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَفَهَا بِوَصْفِهَا دُونَ إِشَارَةٍ وَدُونَ قَصْدِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ أَيْضًا، كَمَا إِذَا قَال: سَلْمَى طَالِقٌ. فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا وَلَمْ يَصِفْهَا، كَمَا إِذَا قَال: إِحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ، وَنَوَى وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ دُونَ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ.
فَإِنْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ،(29/20)
وَوَصَفَ غَيْرَهَا، بِأَنْ قَال لإِِحْدَى زَوْجَاتِهِ وَاسْمُهَا سَلْمَى: أَنْتِ يَا عَمْرَةُ طَالِقٌ، وَكَانَتِ الأُْخْرَى اسْمُهَا عَمْرَةُ، طَلُقَتِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَضَاءً، وَلَمْ تَطْلُقْ عَمْرَةُ لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: الْوَصْفُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ (1) وَكَذَلِكَ إِذَا أَشَارَ إِلَيْهَا وَوَصَفَهَا بِغَيْرِ وَصْفِهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ، كَمَا إِذَا قَال لاِمْرَأَتِهِ، أَنْتِ يَا غَزَالَةُ طَالِقٌ، لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ.
فَإِذَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ وَصَفَهَا بِوَصْفٍ هُوَ فِيهَا، وَعَنَى بِهَا غَيْرَهَا، كَأَنْ قَال: زَوْجَتِي سَلْمَى طَالِقٌ، وَقَصَدَ غَيْرَهَا، دُيِّنَ إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ اسْمُهَا سَلْمَى (وَوَقَعَ دِيَانَةً) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ عَلَيْهِ دِيَانَةً وَلاَ قَضَاءً، لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ أَصْلاً، وَعَدَمِ احْتِمَال اللَّفْظِ لِلنِّيَّةِ.
فَإِنْ قَال: نِسَاءُ الدُّنْيَا كُلُّهُنَّ طَوَالِقُ، وَنَوَى زَوْجَتَهُ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَال: نِسَاءُ مَحَلَّتِي كُلُّهُنَّ طَوَالِقُ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، نَوَاهَا أَمْ لَمْ يَنْوِهَا، فَإِنْ قَال: نِسَاءُ مَدِينَتِي كُلُّهُنَّ طَوَالِقُ، فَإِنْ نَوَى زَوْجَتَهُ فِيهِنَّ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ طَلاَقِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
__________
(1) المادة 65 / من مجلة الأحكام العدلية.(29/21)
أَنَّهَا تَطْلُقُ كَمَا فِي نِسَاءِ الْحَيِّ (1) . وَلَوْ قَال: نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ طَوَالِقُ لَمْ تَطْلُقِ امْرَأَتُهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ: سَلْمَى وَعَمْرَةُ، فَدَعَا سَلْمَى فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، فَظَنَّهَا سَلْمَى فَطَلَّقَهَا، طَلُقَتْ سَلْمَى دِيَانَةً وَقَضَاءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَصْدِ، أَمَّا عَمْرَةُ فَتَطْلُقُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً لِعَدَمِ الْقَصْدِ (2) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَلاَقِ الْمُجِيبَةِ فِي الأَْصَحِّ، أَمَّا الْمُنَادَاةُ فَلَمْ تَطْلُقْ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ تَطْلُقَا (3) . وَلَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ مَعَهَا: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: قَصَدْتُ الأَْجْنَبِيَّةَ، قُبِل قَوْلُهُ فِي الأَْصَحِّ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، لاِحْتِمَال كَلاَمِهِ ذَلِكَ وَلِكَوْنِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ قَابِلَةً - أَيْ لِلطَّلاَقِ - فَتُقَدَّمُ النِّيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ، لأَِنَّهَا مَحَل الطَّلاَقِ دُونَ الثَّانِيَةِ، فَلاَ يُصْرَفُ قَوْلُهُ إِلَى قَصْدِهِ، لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: إِعْمَال الْكَلاَمِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ (4) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلاً، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ قَوْلاً وَاحِدًا لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ وَرَجُلٍ: أَحَدُكُمَا طَالِقٌ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 293 - 294 والروضة 8 / 34.
(2) الشرح الكبير للدردير 2 / 366 - 367.
(3) مغني المحتاج 3 / 327.
(4) المادة 60 / من مجلة الأحكام العدلية، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142 - 143 ط. الحلبي.(29/21)
وَقَصَدَ الرَّجُل، بَطَل قَصْدُهُ، وَطَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، لأَِنَّ الرَّجُل لَيْسَ مَحَل الطَّلاَقِ أَصْلاً.
وَلَوْ قَال لإِِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ إِنْ فَعَلَتُ كَذَا، ثُمَّ فَعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ إِحْدَاهُمَا، تَعَيَّنَتِ الثَّانِيَةُ الْحَيَّةُ لِلطَّلاَقِ، طَلُقَتْ (1) . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لِزَوْجَاتِهِ الأَْرْبَعِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ طَلُقَتْ الَّتِي نَوَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا كَانَتْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ، وَقَال مَالِكٌ: طَلُقْنَ جَمِيعًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهَا مِنْهُنَّ لِلطَّلاَقِ.
فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَنَسِيَهَا، " أُخْرِجَتِ الْمُطَلَّقَةُ بِالْقُرْعَةِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) . وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لاَ يُعَوَّل عَلَى الْقُرْعَةِ لِبَيَانِ مَنْ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَعْيِينِهِ هُوَ.
وَتَطْلِيقُ جُزْءِ الْمُطَلَّقَةِ كَتَطْلِيقِهَا كُلِّهَا إِذَا كَانَ الْجُزْءُ شَائِعًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: نِصْفُكِ طَالِقٌ، أَوْ ثُلُثُكِ، أَوْ رُبُعُكِ، أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَلْفٍ مِنْكِ. . فَإِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 304 - 305.
(2) المغني 7 / 434 - 440.(29/22)
أَضَافَهُ إِلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ ثَابِتًا فِيهَا وَجُزْءًا لاَ يَتَجَزَّأُ مِنْهَا كَرَأْسِهَا، وَبَطْنِهَا. . . فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ كَلُعَابِهَا، وَعَرَقِهَا، وَسَائِرِ فَضَلاَتِهَا لَمْ تَطْلُقْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ طَلَّقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا عَادَةً كَالرَّأْسِ، وَالْوَجْهِ، وَالرَّقَبَةِ، وَالظَّهْرِ. . طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا عَادَةً كَالْيَدِ وَالرِّجْل لَمْ تَطْلُقْ فَإِنْ تَعَارَفَهُ النَّاسُ طَلُقَتْ بِهِ أَيْضًا (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِصِيغَةِ الطَّلاَقِ:
27 - صِيغَةُ الطَّلاَقِ هِيَ اللَّفْظُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَعَاضُ عَنِ اللَّفْظِ فِي أَحْوَالٍ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الإِْشَارَةِ. وَلِكُلٍّ مِنَ اللَّفْظِ وَالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا فِيهِ، وَإِلاَّ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
__________
(1) المغني 7 / 426، ومغني المحتاج 3 / 290 - 291، وروضة الطالبين 8 / 63، والشرح الكبير للدردير 2 / 388، والدر المختار 3 / 256 - 257، والاختيار 3 / 126.(29/22)
أ - شُرُوطُ اللَّفْظِ:
يُشْتَرَطُ فِي اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ شُرُوطٌ هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْقَطْعُ أَوِ الظَّنُّ بِحُصُول اللَّفْظِ وَفَهْمِ مَعْنَاهُ:
28 - الْمُرَادُ هُنَا: حُصُول اللَّفْظِ وَفَهْمُ مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ نِيَّةُ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّةُ الْوُقُوعِ شَرْطًا فِي أَحْوَالٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ الْمُطَلِّقُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ شَكَّ أَكَانَ حَلِفُهُ بِطَلاَقٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ وَلاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَكَّ أَطَلَّقَ أَمْ لاَ؟ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِنْ تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ طَلَّقَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْعَدَدِ، أَطَلَّقَ وَاحِدَةً، أَمْ ثِنْتَيْنِ، أَمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ بَنَى عَلَى الأَْقَل لِحُصُول الْيَقِينِ أَوِ الظَّنِّ بِهِ وَالشَّكِّ فِيمَا فَوْقَهُ، وَالشَّكُّ لاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِخِلاَفِ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَحَرَّى، فَإِنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ حُمِل بِأَشَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا فِي قَضَايَا الْفُرُوجِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ تَعْلِيقًا عَلَى ذَلِكَ: وَيُمْكِنُ حَمْل الأَْوَّل عَلَى الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى الدِّيَانَةِ (1) .
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين عليه 3 / 283 - 284، والشرح الكبير 2 / 401، ومغني المحتاج 3 / 280، 303، والمغني 7 / 318، والقوانين الفقهية ص 255.(29/23)
فَإِذَا نَوَى التَّلَفُّظَ بِالطَّلاَقِ ثُمَّ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، لَمْ يَقَعْ بِالاِتِّفَاقِ، لاِنْعِدَامِ اللَّفْظِ أَصْلاً، وَخَالَفَ الزُّهْرِيُّ، وَقَال بِوُقُوعِ طَلاَقِ النَّاوِي لَهُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ (1) . وَدَلِيل الْجُمْهُورِ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ (2) . وَلَوْ لُقِّنَ أَعْجَمِيٌّ لَفْظَ الطَّلاَقِ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَقَالَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ عَرَبِيٌّ إِذَا لُقِّنَ لَفْظًا أَعْجَمِيًّا يُفِيدُ الطَّلاَقَ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مُطْلَقًا (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: نِيَّةُ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ:
29 - هَذَا خَاصٌّ بِالْكِنَايَاتِ مِنَ الأَْلْفَاظِ، أَمَّا الصَّرِيحُ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهِ نِيَّةُ الطَّلاَقِ أَصْلاً، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ حَيْثُ أَوْقَعُوا الطَّلاَقَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ، وَهِيَ الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ، كَقَوْل الْمُطَلِّقِ لِزَوْجَتِهِ: سَرَّحْتُكِ، فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ: طَلَّقْتُكِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ
__________
(1) المغني 7 / 318، والقوانين الفقهية ص 255.
(2) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي. . . ". أخرجه البخاري فتح الباري (9 / 388) ومسلم (1 / 117) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) مغني المحتاج 3 / 289.(29/23)
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، خِلاَفًا لِمَا فُهِمَ مِنْ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَذُكِرَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ أَنَّ لَفْظَ: سَرَاحٍ مِنَ الْكِنَايَاتِ فَيَحْتَاجُ لِلنِّيَّةِ (1) . وَهَل تَقُومُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال وَالْعُرْفِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَاتِ؟ .
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ عِبْرَةَ. بِالْعُرْفِ وَقَرَائِنِ الْحَال، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلنِّيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ ظِهَارًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الطَّلاَقَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتَطْلُقُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَطْلُقُ ثَلاَثًا فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَيُنَوَّى (أَيْ يُسْأَل عَنْ نِيَّتِهِ) فِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا. وَهَل يَقَعُ الطَّلاَقُ بِلَفْظٍ لاَ يَحْتَمِلُهُ أَصْلاً كَقَوْلِهِ لَهَا: اسْقِنِي مَاءً؟ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلاَقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المغني 7 / 326، والدسوقي 2 / 365، والقوانين الفقهية ص 253، ونيل المآرب 2 / 237.
(2) كشاف القناع 5 / 253، والمغني 7 / 322، وابن عابدين 3 / 298 - 300 والاختيار 3 / 132، والروضة 8 / 26، والقوانين الفقهية ص252 - 253، 254 ومغني المحتاج 3 / 282 - 283، وبداية المجتهد 2 / 84.(29/24)
ب - شُرُوطُ الْكِتَابَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِتَابَةِ شَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً.
30 - وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً بِشَكْلٍ ظَاهِرٍ يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ يَثْبُتُ بِهِ، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ، أَوِ الأَْرْضِ، بِخِلاَفِ الْكِتَابَةِ فِي الْهَوَاءِ أَوِ الْمَاءِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ وَلاَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ، وَهَذَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لأَِحْمَدَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُستَبِينَةً (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً:
31 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْكِتَابَةُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً وَمَرْسُومَةً يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهَا، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ لاَ يَقَعُ مُطْلَقًا وَإِنْ نَوَى.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً غَيْرَ مَرْسُومَةٍ، فَإِنْ نَوَى يَقَعُ، وَإِلاَّ لاَ يَقَعُ وَقِيل: يَقَعُ مُطْلَقًا (2) . وَالْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَا كَانَ
__________
(1) المغني 7 / 424.
(2) ابن عابدين مع الدر المختار 3 / 246.(29/24)
مُعْتَادًا وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَمُعَنْوَنًا، مِثْل مَا يُكْتَبُ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ هِيَ: مَا يُكْتَبُ عَلَى الصَّحِيفَةِ وَالْحَائِطِ وَالأَْرْضِ، عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فَهْمُهُ وَقِرَاءَتُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَتَبَ الطَّلاَقَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، (نَاوِيًا لَهُ) ، أَوْ كَتَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَ، وَإِنْ كَتَبَهُ لِيَسْتَخِيرَ فِيهِ، كَانَ الأَْمْرُ بِيَدِهِ، إِلاَّ أَنْ يَخْرُجَ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ نَاطِقٌ طَلاَقًا وَلَمْ يَنْوِهِ فَلَغْوٌ، وَإِنْ نَوَاهُ فَالأَْظْهَرُ وُقُوعُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ بِمَا يَتَبَيَّنُ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَإِنْ نَوَى تَجْوِيدَ خَطِّهِ أَوْ غَمَّ أَهْلِهِ أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ لَمْ يَقَعْ، وَيُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ حُكْمًا. وَإِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ لاَ يَتَبَيَّنُ لَمْ يَقَعْ (2) .
ج - شُرُوطُ الإِْشَارَةِ:
32 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الطَّلاَقِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَالُوا: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِإِشَارَةِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ، كَالأَْخْرَسِ إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 568 - 569.
(2) مغني المحتاج 3 / 284، وكشاف القناع 5 / 249.(29/25)
الطَّلاَقُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَفِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ بِالنِّيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ بِالطَّلاَقِ كِنَايَةٌ لِحُصُول الإِْفْهَامِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ.
فَأَمَّا الأَْخْرَسُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِإِشَارَتِهِ، وَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ عَنِ الْكِتَابَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ لَمْ يَصِحَّ طَلاَقُهُ بِالإِْشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ (1) . ثُمَّ إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً لَدَى كُل النَّاسِ، وَقَعَ بِهَا الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْهُومَةً لَدَى بَعْضِهِمْ فَقَطْ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ فَقَطْ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (2) كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ أَنْ يَكُونَ خَرَسُهُ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى الْمَوْتِ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ، وَلِذَا كَانَ طَلاَقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَوْتِهِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: إِذَا دَامَ سَنَةً كَانَ كَمَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ.
__________
(1) الدر المختار 3 / 241، والقوانين الفقهية ص 255، والدسوقي 2 / 384، ومغني المحتاج 3 / 284، والمغني 7 / 423.
(2) مغني المحتاج 3 / 284.(29/25)
أَنْوَاعُ الطَّلاَقِ:
33 - لِلطَّلاَقِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٌ وَكِنَائِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ الأَْثَرُ النَّاتِجُ عَنْهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، وَالْبَائِنُ عَلَى نَوْعَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى - وَمِنْ حَيْثُ صِفَتُهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ وَقْتُ وُقُوعِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: مُنَجَّزٌ، وَمُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَمُضَافٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الصَّرِيحُ وَالْكِنَائِيُّ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (1) ، عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ هُوَ: مَا لَمْ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِيهِ غَالِبًا، لُغَةً أَوْ عُرْفًا، وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ بِلاَ نِيَّةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ تَنَافٍ، بَل تَكَامُلٌ، فَالأَْوَّل تَعْرِيفُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِيهِ، وَالثَّانِي بِحَسَبِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 247 - 296، والدسوقي 2 / 378، ومغني المحتاج 3 / 280، والمغني 7 / 318 - 319.(29/26)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاَقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ، وَاحْتَمَلَهُ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلاً لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ (1) . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَاقَضَةِ قَضَاءً فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ، وَقَال: لَمْ أَنْوِ بِهِ شَيْئًا وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ قَال: نَوَيْتُ غَيْرَ الطَّلاَقِ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَصُدِّقَ دِيَانَةً، هَذَا مَا لَمْ يَحُفَّ بِاللَّفْظِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا يَدُل عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ فِي إِرَادَةِ غَيْرِ الطَّلاَقِ، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِهِ الطَّلاَقَ صُدِّقَ قَضَاءً أَيْضًا، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ فَطَلَّقَ صَرِيحًا غَيْرَ نَاوٍ بِهِ الطَّلاَقَ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ دِيَانَةً وَلاَ قَضَاءً لِقَرِينَةِ الإِْكْرَاهِ (2) . وَهَذَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ مِنَ الْمُكْرَهِ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا الْكِنَائِيُّ فَلاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ مَعَ النِّيَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، فَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الطَّلاَقِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِالنِّيَّةِ فَلأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ بِهَا. وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ
__________
(1) المغني 7 / 329.
(2) الدسوقي 2 / 379.(29/26)
بِالصَّرِيحِ، فَأَوْقَعُوا الطَّلاَقَ بِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهِيَ الْكِنَايَاتُ الَّتِي تُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ تُوضَعْ لَهُ فِي الأَْصْل، وَهِيَ لَفْظُ: الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ. وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي قَوْل الْقَاضِي، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا.
35 - وَهَل يَحِل مَحَل النِّيَّةِ قَرَائِنُ الْحَال فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؟ . ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ قَرَائِنَ الْحَال كَالنِّيَّةِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ، كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ فِي حَالَةِ غَضَبٍ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَإِنَّهُ طَلاَقٌ وَلَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالَةِ مُسَاءَلَةِ الطَّلاَقِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِقَرَائِنِ الْحَال هُنَا، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ فِي الطَّلاَقِ هِيَ مَادَّةُ (طَلَّقَ) وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا لُغَةً وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ.
فَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ كِنَايَةً، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَنْزَلُوا(29/27)
الْكِنَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ مَنْزِلَةَ الصَّرِيحِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنَ الصَّرِيحِ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الصَّرِيحَ أَلْفَاظٌ ثَلاَثَةٌ هِيَ: الطَّلاَقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ، وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا لُغَةً وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ، فَلَوْ قَال: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ كِنَايَةً، لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الطَّلاَقِ. وَأَمَّا الْكِنَائِيُّ فَمَا وَرَاءَ الصَّرِيحِ مِنَ الأَْلْفَاظِ مِمَّا يَحْتَمِل الطَّلاَقَ كَلَفْظِ: اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك، وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَأَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِغَيْرِ تَشْدِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ الْمُصَحَّفِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَلَفْظِ: طَلاَغ، وَتَلاَغٍ، وَطَلاَكٍ، وَتَلاَكٍ. . . بِلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ عَالِمًا أَوْ جَاهِلاً، إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمُطَلِّقُ: تَعَمَّدْتُ التَّصْحِيفَ هَذَا لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، وَيَحُفُّ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا يُصَدِّقُهُ، كَالإِْشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ قَبْل
__________
(1) ابن عابدين 3 / 247 - 248، والدسوقي 2 / 378، المغني 7 / 322، 326، ومغني المحتاج 3 / 280.
(2) مغني المحتاج 3 / 280، والمغني 7 / 318 - 321، ونيل المآرب 2 / 237.(29/27)
الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَإِلاَّ وَقَعَ الطَّلاَقُ (1) . وَلَمْ يَحْصُرِ الْفُقَهَاءُ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، بَل أَطْلَقُوهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَذَكَرُوا أَلْفَاظًا بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ صَرِيحًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، مِثْل: " سان بوش " بِالتُّرْكِيَّةِ " وَبهشتم " بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بَعْضُ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، أَهِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَمْ مِنَ الْكِنَائِيِّ؟ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ مَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ وَالأَْعْرَافِ (2) .
مَا يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ مِنَ الطَّلاَقِ:
36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الزَّوْجِ يَكُونُ رَجْعِيًّا دَائِمًا وَلاَ يَكُونُ بَائِنًا إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلاَثٍ، وَهِيَ:
أ - الطَّلاَقُ قَبْل الدُّخُول، وَيَكُونُ بَائِنًا.
ب - الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ، وَيَكُونُ بَائِنًا ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمَال بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْهُ لَهُ إِلاَّ لِبَيْنُونَتِهَا.
ج - الطَّلاَقُ الثَّلاَثُ، وَذَلِكَ ضَرُورَةُ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى بِهِ، بِنَصِّ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {
__________
(1) ابن عابدين 3 / 249 ط. عيسى الحلبي.
(2) ابن عابدين 3 / 248، والحطاب 4 / 44، ومغني المحتاج 3 / 280، والمغني 7 / 124، 238.
(3) المغني 7 / 454، ومغني المحتاج 3 / 337.(29/28)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) . هَذَا إِلَى جَانِبِ أَحْوَالٍ يَكُونُ الطَّلاَقُ فِي بَعْضِهَا بَائِنًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْقَاضِي، كَالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْيلاَءِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ بَائِنًا مُطْلَقًا، إِلاَّ أَلْفَاظًا قَلِيلَةً قَدْرَ وُجُودِ لَفْظِ الطَّلاَقِ الصَّرِيحِ فِيهَا، فَيَكُونُ رَجْعِيًّا، مِثْل: اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةً. وَالتَّقْدِيرُ: طَلَّقْتُكِ فَاعْتَدِّي، وَطَلَّقْتُكِ فَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً (2) . أَمَّا الصَّرِيحُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
الأَْوَّل: يَكُونُ بَعْدَ الدُّخُول، فَإِذَا كَانَ قَبْل الدُّخُول وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَمْ بِلَفْظٍ كِنَائِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ، فَإِنْ قُرِنَ بِعِوَضٍ (طَلاَقٌ عَلَى مَالٍ) كَانَ بَائِنًا.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلاَثِ لَفْظًا أَوْ إِشَارَةً أَوْ كِتَابَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الثَّالِثُ
__________
(1) الآية / 230 من سورة البقرة.
(2) الاختيار 3 / 132.(29/28)
بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ سَابِقَتَيْنِ عَلَيْهِ، رَجْعِيَّتَيْنِ أَوْ بَائِنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الثَّالِثَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَائِنًا بَيْنُونَةً كُبْرَى.
الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنِ الْبَيْنُونَةِ، أَوْ تَدُل عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا، بِخِلاَفِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَبَائِنٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالأُْولَى طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَبِالثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً تَمْلِكِينَ بِهَا نَفْسَكِ، فَإِنَّهُ بَائِنٌ.
الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ تَدُل عَلَى الْبَيْنُونَةِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْل هَذِهِ وَيُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ بِثَلاَثِ طَلَقَاتٍ. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا (1) .
ثَانِيًا: الرَّجْعِيُّ وَالْبَائِنُ:
37 - الطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ هُوَ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، وَالْبَائِنُ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَال. هَذَا، وَالطَّلاَقُ الْبَائِنُ عَلَى قِسْمَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى. فَأَمَّا الْبَائِنُ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى فَيَكُونُ بِالطَّلْقَةِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 250، 3 / 278 - 281.(29/29)
الْبَائِنَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِالطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا، كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ كُبْرَى مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ أَصْل كُلٍّ مِنَ الثَّلاَثِ بَائِنًا أَمْ رَجْعِيًّا بِالاِتِّفَاقِ.
فَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا حَل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِالرَّجْعَةِ، دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْعِدَّةُ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَقَطْ.
فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً بَائِنَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ جَازَ لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، وَلَمْ يَحِل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَتَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُل بِهَا، ثُمَّ تَبِينُ مِنْهُ بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ حَل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) .
الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى:
38 - الْبَيْنُونَةُ عِنْدَ إِطْلاَقِهَا تَنْصَرِفُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 293، والدسوقي 2 / 385، ومغني المحتاج 3 / 396، والمغني 7 / 417.
(2) الآية / 230 من سورة البقرة.(29/29)
لِلصُّغْرَى، وَلاَ تَكُونُ كُبْرَى إِلاَّ إِذَا كَانَتْ ثَلاَثًا.
إِلاَّ أَنَّ طُرُقَ وُقُوعِ الثَّلاَثِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ حَسَبَ الآْتِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ أَوْ رَجْعَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مَرَّةً أُخْرَى رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ أَوْ رَجْعَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَانَ ثَلاَثًا، وَبَانَتْ مِنْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) . وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ الثَّانِيَةَ لاَ تَقَعُ عَلَيْهَا، لِعَدَمِ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ، لاِنْقِضَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالطَّلاَقُ خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَالِثَةً بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَقَعُ عَلَيْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَال تَكُونُ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَيَحِل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْل الدُّخُول بِهَا إِذَا طَلَّقَهَا: فَإِنَّ
__________
(1) الآية / 229 من سورة البقرة.
(2) لآية 230 من سورة البقرة.(29/30)
الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ اللَّفْظِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ عَلَيْهَا - كَالْمَدْخُول بِهَا - إِذَا عَطَفَهُنَّ عَلَى بَعْضِهِنَّ بِالْوَاوِ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لأَِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَتَكُونُ الأُْولَى غَيْرَ الثَّانِيَةِ، وَهُنَّ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ (1) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لِغَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بِالْعَطْفِ، أَوْ قَبْل وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلاَ تَلْحَقُهَا الثَّانِيَةُ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَطَفَهَا بِالْفَاءِ وَثُمَّ. وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، أَوْ قَبْلَهَا أَوْ مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدٌ ثِنْتَانِ، الأَْصْل: أَنَّهُ مَتَى أَوْقَعَ بِالأَْوَّل لَغَا الثَّانِي، أَوْ بِالثَّانِي اقْتَرَنَا، لأَِنَّ الإِْيقَاعَ فِي الْمَاضِي إِيقَاعٌ فِي الْحَال.
وَيَقَعُ بِأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ثِنْتَانِ لَوْ دَخَلْتِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالشَّرْطِ دَفْعَةً، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ إِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ، لأَِنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُنَجَّزِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال لِغَيْرِ مَوْطُوءَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَبِينُ
__________
(1) المغني 7 / 418، والدسوقي 2 / 385.
(2) الدر المختار 3 / 288.(29/30)
بِالأُْولَى، فَلاَ يَقَعُ مَا بَعْدَهَا، وَلَوْ قَال لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِالدُّخُول وَلاَ تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقَعَانِ مَعًا، وَالثَّانِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَقَعُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ عَطَفَ بِثُمَّ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَمْ يَقَعْ بِالدُّخُول إِلاَّ وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِحْدَى عَشْرَةَ طَلْقَةً طَلُقَتْ ثَلاَثًا، بِخِلاَفِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ طَلْقَةٌ لِلْعَطْفِ.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَةٍ، أَوْ مَعَهَا طَلْقَةٌ، فَثِنْتَانِ مَعًا فِي الأَْصَحِّ، وَقِيل عَلَى التَّرْتِيبِ وَاحِدَةٌ تَبِينُ بِهَا.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْل طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَةً بَعْدَهَا طَلْقَةٌ، فَطَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَبِينُ بِالأُْولَى، فَلاَ تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ نِكَاحًا (1) أَمَّا الْمَدْخُول بِهَا إِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأُْولَى رَجْعِيَّةً، فَقَدْ ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى وُقُوعِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَالِثَةً فِي الْعِدَّةِ - وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ رَجْعِيَّةً أَيْضًا - وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ وَبَانَتْ مِنْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى، هَذَا مَا لَمْ يَنْوِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ نَوَى تَأْكِيدَ الأُْولَى صُدِّقَ دِيَانَةً، وَلَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً، وَأُمْضِيَ عَلَيْهِ الثَّلاَثُ، مَا لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 297.(29/31)
تَحُفَّ بِهِ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ تُرَجِّحُ صِحَّةَ نِيَّتِهِ، فَإِنْ حَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ حَالٍ تُرَجِّحُ صِحَّةَ نِيَّتِهِ صُدِّقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً، كَمَا إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَسُئِل: مَاذَا فَعَلْتَ؟ فَقَال: طَلَّقْتُهَا، أَوْ قُلْتُ: هِيَ طَالِقٌ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، قَال فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ وَتَخَلَّل فَصْلٌ، فَثَلاَثٌ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ التَّأْكِيدَ أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، لَكِنْ إِذَا قَال: قَصَدْتُ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ، فَإِنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْخَبَرِ فَقَطْ، كَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَكَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْقَاضِي فِي قَوْلِهِ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّل فَصْلٌ، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدًا - أَيْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الأُْولَى بِالأَْخِيرَتَيْنِ - فَوَاحِدَةٌ. . . أَوْ قَصَدَ اسْتِئْنَافًا فَثَلاَثٌ. . وَكَذَا إِذَا أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدًا وَلاَ اسْتِئْنَافًا يَقَعُ ثَلاَثٌ فِي الأَْظْهَرِ (2) . وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا مَعَ الشَّافِعِيَّةِ (3) . وَالْمَالِكِيَّةُ مَذْهَبُهُمْ لاَ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ كَرَّرَهُ ثَلاَثًا بِلاَ عَطْفٍ لَزِمَهُ ثَلاَثٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا كَغَيْرِهَا، أَيْ غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا يَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ إِنْ نَسَّقَهُ وَلَوْ حُكْمًا، كَفَصْلِهِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 293.
(2) مغني المحتاج 3 / 296.
(3) المغني 7 / 417.(29/31)
بِسُعَالٍ، إِلاَّ لِنِيَّةِ تَأْكِيدٍ فِيهِمَا - أَيْ فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْرِهَا - فَيُصَدَّقُ بِيَمِينٍ فِي الْقَضَاءِ، وَبِغَيْرِهَا فِي الْفَتْوَى، بِخِلاَفِ الْعَطْفِ فَلاَ تَنْفَعُهُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، لأَِنَّ الْعَطْفَ يُنَافِي التَّأْكِيدَ (1) .
39 - فَإِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي عِدَّتِهَا، لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ أَوِ الثَّالِثَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِخُرُوجِهَا عَنِ الزَّوْجِيَّةِ بِالأُْولَى، فَلَمْ تَعُدْ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْولَى أَوِ الثَّانِيَةَ إِذَا كَانَتَا بِلَفْظٍ صَرِيحِ، لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَانَتْ أَوْ كِنَائِيٍّ، فَإِذَا كَانَتِ الأُْولَى أَوِ الثَّانِيَةُ بَائِنًا لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَقَطْ، فَإِذَا كَانَتْ بَائِنًا لَمْ تَلْحَقْهَا إِذَا أَمْكَنَ جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا لاِحْتِمَال ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ بَائِنٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا لَحِقَتْهَا أَيْضًا، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ بِأُخْرَى، فَإِنَّهَا تَلْحَقُهَا لِتَعَذُّرِ جَعْلِهَا إِخْبَارًا عَنْهَا (3) . فَإِذَا طَلَّقَهَا وَذَكَرَ أَنَّهُ ثَلاَثٌ لَفْظًا وَقَعَ ثَلاَثٌ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 385.
(2) مغني المحتاج 3 / 293.
(3) الدر المختار 3 / 309 - 310.(29/32)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا قَال: اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اثْنَتَانِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ (1) . فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَال لَهَا: (هَكَذَا) مَعَ الإِْشَارَةِ وَقَعَ الثَّلاَثُ، وَإِنْ قَال: مِثْل هَذِهِ، مَعَ الإِْشَارَةِ بِالثَّلاَثِ وَقَعَ ثَلاَثٌ إِنْ نَوَاهَا، وَإِلاَّ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقُل شَيْئًا مَعَ الإِْشَارَةِ بِالأَْصَابِعِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَلَغَتِ الإِْشَارَةُ.
فَإِنْ كَتَبَ لَهَا ثَلاَثًا بَدَل الإِْشَارَةِ بِالأَْصَابِعِ، فَمِثْل الإِْشَارَةِ.
فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلاَقِ أَوْ أَغْلَظَهُ. . فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلاَثًا، فَثَلاَثٌ لاِحْتِمَال اللَّفْظِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ وَقَعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ (2) . إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى عَدَدًا، وَقَعَ مَا نَوَاهُ وَاحِدَةً بِهِ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّ الْمَلْفُوظَ يُنَاقِضُ الْمَنْوِيَّ، وَاللَّفْظُ أَقْوَى، فَالْعَمَل بِهِ أَوْلَى. وَقِيل: يَقَعُ الْمَنْوِيُّ عَمَلاً بِالنِّيَّةِ (3) . وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ،
__________
(1) المغني 7 / 418.
(2) الدر المختار ابن عابدين عليه 3 / 274 - 277.
(3) مغني المحتاج 3 / 294 و 326.(29/32)
إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ بَرِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، أَوِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَهُوَ عِنْدِي ثَلاَثٌ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُفْتِيَ بِهِ، سَوَاءٌ دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل (1) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيُوقِعُونَ بِذَلِكَ ثَلاَثًا إِنْ نَوَاهَا، لاِحْتِمَال اللَّفْظِ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ الثَّلاَثَ لَمْ يَقَعْ بِهِ ثَلاَثٌ.
وَالْمَالِكِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الأَْخِيرَةِ يَقُولُونَ: يَقَعُ ثَلاَثٌ مُطْلَقًا، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ أَوْ قَبْل الدُّخُول، فَيَكُونُ وَاحِدَةً (2) . فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى بِهِ ثَلاَثًا، وَقَعَ وَاحِدَةٌ، وَبَطَلَتِ النِّيَّةُ، لِعَدَمِ احْتِمَال اللَّفْظِ لَهَا، فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَنَوَى بِهِ وَاحِدَةً، وَقَعَ عَلَيْهِ ثَلاَثٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ، فَلاَ تَعْمَل النِّيَّةُ بِخِلاَفِهِ.
فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ ثَلاَثًا، وَقَعَ بِهِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَقَعُ ثَلاَثٌ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (3) .
__________
(1) المغني 7 / 324.
(2) المغني 7 / 325، والدسوقي 2 / 364.
(3) الدسوقي 2 / 364، ومغني المحتاج 3 / 326، والمغني 7 / 420 - 421.(29/33)
ثَالِثًا - السُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ:
40 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ يُرِيدُونَ بِالسُّنِّيِّ: مَا وَافَقَ السُّنَّةَ فِي طَرِيقَةِ إِيقَاعِهِ، وَالْبِدْعِيُّ: مَا خَالَفَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَعْنُونَ بِالسُّنِّيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْمُنَفِّرَةِ مِنَ الطَّلاَقِ، وَأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلاَل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْوَال كُلٍّ مِنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي: قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطَّلاَقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَقَسَّمُوا السُّنِّيَّ إِلَى قِسْمَيْنِ: حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالأَْحْسَنُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُوقِعَ الْمُطَلِّقُ عَلَى زَوْجَتِهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ، وَلاَ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ أَيْضًا، فَإِنْ زَنَتْ فِي حَيْضِهَا ثُمَّ طَهُرَتْ، فَطَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ بِدْعِيًّا. وَأَمَّا الْحَسَنُ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ وَلاَ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فِي طُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ دُونَ وَطْءٍ، هَذَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْل الْحَيْضِ، وَإِلاَّ طَلَّقَهَا ثَلاَثَ طَلَقَاتٍ فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، كَمَنْ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ.
وَهَذَا فِي الْمَدْخُول أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا، أَمَّا غَيْرُ(29/33)
الْمَدْخُول أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا، فَالْحَسَنُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَلاَ يُهِمُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَضُرُّ أَنَّ طَلاَقَهَا يَكُونُ بَائِنًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ كَذَلِكَ.
وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَبِدْعِيٌّ عِنْدَهُمْ، كَأَنْ يُطَلِّقَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِي الْحَيْضِ قَبْلَهُ.
فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَانَ الثَّانِي بِدْعِيًّا أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمَا بِمَثَابَةِ طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حَيْضَهَا الثَّانِيَ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ طَلَّقَهَا إِنْ شَاءَ، وَيَكُونُ سُنِّيًّا عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ ارْتَجَعَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ بِدْعِيًّا فِي الأَْرْجَحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَال الْقُدُورِيُّ: يَكُونُ سُنِّيًّا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، أَوْ صَغِيرَةً دُونَ سِنِّ الْحَيْضِ، أَوْ آيِسَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ طَلاَقُهَا سُنِّيًّا، سَوَاءٌ مَسَّهَا أَمْ لَمْ يَمَسَّهَا؛ لأَِنَّهَا فِي طُهْرٍ مُسْتَمِرٍّ، وَلَكِنْ لاَ يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ زَادَ كَانَ بِدْعِيًّا.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ عَامَّةً: الْخُلْعَ، وَالطَّلاَقَ عَلَى مَالٍ، وَالتَّفْرِيقَ لِلْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ بِدْعِيًّا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَيْضِ، لِمَا(29/34)
فِيهِ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ تَخْيِيرُهَا فِي الْحَيْضِ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ، سَوَاءٌ أَخَيَّرَهَا فِي الْحَيْضِ أَمْ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ بِدْعِيًّا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْضِ (1) . وَقَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِلسُّنِّيِّ تَقْسِيمًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ قِسْمٌ وَاحِدٌ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَسَّمُوا الطَّلاَقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَمَا لَيْسَ سُنِّيًّا وَلاَ بِدْعِيًّا وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ، وَاَلَّذِي لَيْسَ سُنِّيًّا وَلاَ بِدْعِيًّا هُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَالسُّنِّيُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا يَشْمَل الْحَسَنَ وَالأَْحْسَنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعًا. وَالْبِدْعِيُّ عِنْدَهُمْ: مَا يُقَابِل الْبِدْعِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي أُمُورٍ، أَهَمُّهَا: أَنَّ الطَّلاَقَ الثَّلاَثَ فِي ثَلاَثِ حَيْضَاتٍ سُنِّيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ بِدْعِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ سُنِّيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين عليه 3 / 230 - 234.
(2) المغني 7 / 301، ومغني المحتاج 3 / 311 - 312، والدسوقي 2 / 361 وما بعدها.(29/34)
هَذَا، وَالْمَدَارُ عَلَى مَعْرِفَةِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ مِنَ الطَّلاَقِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لاَ جِمَاعَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (3) . وَمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: طَلاَقُ السُّنَّةِ تَطْلِيقَةٌ وَهِيَ طَاهِرٌ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ (4) .
__________
(1) الآية 1 من سورة الطلاق.
(2) المغني 7 / 298.
(3) حديث: " مرة فليراجعها. . . " تقدم فـ 9.
(4) المغني 7 / 298. وأثر عبد الله بن مسعود: طلاق السنة تطليقة، أخرجه النسائي (6 / 140) .(29/35)
وَالْمَعْنَى الْعَامُّ فِي السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ، أَنَّ السُّنِّيَّ يَمْنَعُ النَّدَمَ، وَيُقَصِّرُ الْعِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَقِل تَضَرُّرُهَا مِنْ الطَّلاَقِ.
حُكْمُ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ بَعْدَهُ:
41 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُقُوعِ الإِْثْمِ فِيهِ عَلَى الْمُطَلِّقِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُرَاجَعَتُهَا، رَفْعًا لِلإِْثْمِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَال الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لاَ وَاجِبَةٌ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَةَ مَنْ طَلَّقَهَا بِدْعِيًّا سُنَّةٌ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ ذَلِكَ بِالاِسْتِحْبَابِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعِيِّ إِلَى: حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ، فَالْحَرَامُ: مَا وَقَعَ فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ مِنَ الطَّلاَقِ مُطْلَقًا، وَالْمَكْرُوهُ: مَا وَقَعَ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، كَمَا لَوْ أَوْقَعَهُ فِي طُهْرِهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُجْبَرُ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عَلَى الرَّجْعَةِ رَفْعًا لِلْحُرْمَةِ، وَلاَ يُجْبَرُ غَيْرُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ وَإِنْ كَانَ بِدْعِيًّا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 233.
(2) الدسوقي 2 / 361 - 362.(29/35)
وَهَذَا كُلُّهُ مَا دَامَتِ الرَّجْعَةُ مُمْكِنَةً، بِأَنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، فَإِذَا كَانَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ وَاسْتَقَرَّ الإِْثْمُ.
دَلِيل ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِاسْتِرْجَاعِ زَوْجَتِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لِلْبَيْنُونَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِل عَنِ الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَقُول: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا. ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاَقِ امْرَأَتِكِ، وَبَانَتْ مِنْكَ (1) .
رَابِعًا - الطَّلاَقُ الْمُنَجَّزُ وَالْمُضَافُ وَالْمُعَلَّقُ:
الأَْصْل فِي الطَّلاَقِ التَّنْجِيزُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ تَفْصِيلاَتٌ وَأَحْكَامٌ كَمَا يَلِي:
أ - الطَّلاَقُ الْمُنَجَّزُ:
42 - تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلاَقُ الْخَالِي فِي صِيغَتِهِ
__________
(1) حديث: " أن ابن عمر كان إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته. . ". أخرجه مسلم (2 / 1094) .(29/36)
عَنِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَهْلِكَ، يَنْوِي طَلاَقَهَا.
حُكْمُهُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَال، وَيَعْقُبُهُ أَثَرُهُ بِدُونِ تَرَاخٍ مَا دَامَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ لِلْحَال وَبَدَأَتْ عِدَّتُهَا، هَذَا مَعَ مُلاَحَظَةِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
ب - الطَّلاَقُ الْمُضَافُ:
43 - تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلاَقُ الَّذِي قُرِنَتْ صِيغَتُهُ بِوَقْتٍ بِقَصْدِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عِنْدَ حُلُول ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّل الشَّهْرِ الْقَادِمِ، أَوْ آخِرَ النَّهَارِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ.
حُكْمُهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ الْمُضَافَ إِلَى الْمُسْتَقْبَل يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَال، وَلَكِنْ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول أَجَلِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ لِشُرُوطِهِ الأُْخْرَى، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ آخِرَ هَذَا الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ، وَلَوْ قَال: فِي أَوَّلِهِ طَلُقَتْ أَوَّلَهُ، وَلَوْ قَال: فِي شَهْرِ كَذَا، طَلُقَتْ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَخَالَفَ الْبَعْضُ وَقَالُوا يَقَعُ فِي آخِرِهِ. فَإِذَا أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى زَمَنٍ سَابِقٍ، فَإِنْ قَصَدَ وُقُوعَهُ لِلْحَال مُسْتَنِدًا إِلَى ذَلِكَ الزَّمَنِ(29/36)
السَّابِقِ، وَقَعَ لِلْحَال كَالْمُنَجَّزِ مُقْتَصِرًا عَلَى وَقْتِ إِيقَاعِهِ، وَقِيل: يَلْغُو، وَإِنْ قَصَدَ الإِْخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ، صُدِّقَ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ مُمْكِنًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلاً، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمْرُهَا أَقَل مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا (1) . هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَضَافَ طَلاَقَهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ مَوْتِي طَلُقَتْ لِلْحَال مُنَجَّزًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ مَاضٍ قَاصِدًا بِهِ الإِْنْشَاءَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ، فَإِنَّهَا، تَطْلُقُ لِلْحَال، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الإِْخْبَارَ دُيِّنَ عِنْدَ الْمُفْتِي (2) . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَلاَ نِيَّةَ لَهُ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ، وَقَال الْقَاضِي فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَقَعُ الطَّلاَقُ، وَإِنْ قَصَدَ الإِْخْبَارَ صُدِّقَ، وَوَقَعَ الطَّلاَقُ (3) . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِيمَا لَوْ أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ سَابِقٍ مُحَالٍ وَلَمْ
__________
(1) الدر المختار 3 / 265 - 268، ومغني المحتاج 3 / 314، والمغني 7 / 363 - 364.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 390.
(3) المغني 7 / 363 - 364.(29/37)
يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهُمْ، كَمَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْل أَنْ تُخْلَقِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلْحَال إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ (1) .
ج - الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ:
44 - التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ هُنَا هُوَ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى (2) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمَضْمُونُ مِنْ قِبَل الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْل أَحَدٍ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْل الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا سُمِّيَ يَمِينًا لَدَى الْجُمْهُورِ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ: تَقْوِيَةُ عَزْمِ الْحَالِفِ أَوْ عَزْمِ غَيْرِهِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ ذَهَبْتُ أَنَا إِلَى فُلاَنٍ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ زَارَكِ فُلاَنٌ. . . فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ مُعَلَّقًا لاَ عَلَى فِعْل أَحَدٍ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مَثَلاً، كَانَ تَعْلِيقًا، وَلَمْ يُسَمَّ يَمِينًا، لاِنْتِفَاءِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ مِثْل الْيَمِينِ، وَهُنَالِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 315.
(2) الدر المختار 3 / 341 ط. الحلبي.(29/37)
عَلَيْهِ الْيَمِينَ أَيْضًا (1) . وَأَدَوَاتُ الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ هِيَ: إِنْ، وَإِذَا وَإِذْ مَا وَكُل، وَكُلَّمَا، وَمَتَى، وَمَتَى مَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كُلُّهَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ بِدُونِ تَكْرَارٍ إِلاَّ: كُلَّمَا، فَإِنَّهَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ مَعَ التَّكْرَارِ (2) . وَقَدْ يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِدُونِ أَدَاةٍ، كَمَا إِذَا قَال - لَهَا: عَلَيَّ الطَّلاَقُ سَأَفْعَل كَذَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: عَلَيَّ الطَّلاَقُ إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا، وَهُوَ - التَّعْلِيقُ الْمَعْنَوِيُّ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْعُرْفُ.
حُكْمُهُ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْيَمِينِ بِالطَّلاَقِ أَوْ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ عَلَى شَرْطٍ مُطْلَقًا، إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَ التَّعْلِيقِ الآْتِيَةِ: فَإِذَا حَصَل الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَعَ الطَّلاَقُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُل لَمْ يَقَعْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْل الْحَالِفِ أَوِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْل أَحَدٍ، هَذَا إِذَا حَصَل الْفِعْل الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ طَائِعًا ذَاكِرًا التَّعْلِيقَ، فَإِنْ حَصَل مِنْهُ الْفِعْل الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ تَطْلُقْ (3) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 341، والمغني 7 / 369.
(2) ابن عابدين 3 / 350 - 352.
(3) مغني المحتاج 3 / 316 و 326، والمغني 7 / 379.(29/38)
ثُمَّ مَا دَامَ لَمْ يَحْصُل الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال مَالِكٌ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَل الْمُولِي.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّهُ إِنْ عُلِّقَ طَلاَقُهُ بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ مُمْتَنِعٍ عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا حَنِثَ لِلْحَال، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ مَاضٍ وَاجِبٍ فِعْلُهُ عَقْلاً أَوْ شَرْعًا أَوْ عَادَةً فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِنْ كَانَ مُحَقَّقَ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونَ الْوُجُودِ عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا لِوُجُوبِهِ نُجِّزَ لِلْحَال، كَمَا إِذَا قَال: هِيَ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أَمَسَّ السَّمَاءَ، أَوْ هِيَ طَالِقٌ إِنْ قُمْتُ، أَوْ إِنْ صَلَّيْتُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلاً، أَوْ نَادِرًا، أَوْ مُسْتَبْعَدًا عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا لِحُرْمَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ جَمَعْتِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، أَوْ إِنْ لَمَسْتِ السَّمَاءَ، أَوْ إِنْ زَنَيْتِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ:
يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ مَا يَلِي:
45 - 1 - أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَعْدُومًا عِنْدَ الطَّلاَقِ وَعَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 389 - 396.(29/38)
أَبُوكِ مَعَنَا الآْنَ، وَهُوَ مَعَهُمَا، فَإِنَّهُ طَلاَقٌ صَحِيحٌ مُنَجَّزٌ يَقَعُ لِلْحَال، وَلَيْسَ مُعَلَّقًا، أَمَّا أَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَمَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُمْكِنَ الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحِيل الْحُصُول لَغَا التَّعْلِيقُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي الْحَال وَلاَ فِي الْمُسْتَقْبَل، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: إِنْ عَادَ أَبُوكِ حَيًّا - وَهُوَ مَيِّتٌ - فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُقُوعِهِ مُنَجَّزًا، وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .
46 - 2 - أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ مُتَّصِلاً بِالْكَلاَمِ، فَإِذَا فُصِل عَنْهُ بِسُكُوتٍ، أَوْ بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ كَلاَمٍ غَيْرِ مُفِيدٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ الطَّلاَقُ مُنَجَّزًا، كَمَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ بُرْهَةً، ثُمَّ قَال: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال لَهَا: أَعْطِنِي مَاءً، ثُمَّ قَال: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي دَارَ فُلاَنٍ. إِلاَّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْفَاصِل الضَّرُورِيُّ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَنَفَّسَ لِضَرُورَةٍ، ثُمَّ قَال: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَلاَ يَقَعُ إِلاَّ بِدُخُولِهَا الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ: إِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ، أَوْ كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ
__________
(1) الدر المختار 3 / 342 - 348، والشرح الكبير 2 / 370، ومغني المحتاج 3 / 292.(29/39)
فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ وَيَقَعُ بِهِ بَائِنًا عِنْدَ الدُّخُول، فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ رَجْعِيًّا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ الرَّجْعِيُّ مُنَجَّزًا؛ لأَِنَّ كَلِمَةَ " رَجْعِيًّا " لَمْ تُفِدْ شَيْئًا، فَكَانَتْ قَاطِعًا لِلتَّعْلِيقِ، بِخِلاَفِ كَلِمَةِ " بَائِنٌ " فَإِنَّهَا أَفَادَتْ، فَلَمْ تَكُنْ قَاطِعًا، وَهَذَا الْمِثَال وَفْقَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يُوقِعُونَ بِكَلِمَةِ " بَائِنٌ " طَلاَقًا بَائِنًا (1) .
47 - 3 - أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِهِ الْمُجَازَاةَ، فَإِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُجَازَاةَ، وَقَعَ مُنَجَّزًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ، كَمَا إِذَا قَالَتْ لَهُ: يَا خَسِيسُ، فَقَال لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُرِيدُ مُعَاقَبَتَهَا، لاَ تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ عَلَى تَحَقُّقِ الْخَسَاسَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ هُنَا مُنَجَّزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ خَسِيسًا أَمْ لاَ، فَإِنْ أَرَادَ التَّعْلِيقَ لاَ الْمُجَازَاةَ تَعَلَّقَ الطَّلاَقُ، وَيُدَيَّنُ (2) .
48 - 4 - أَنْ يَذْكُرَ الْمَشْرُوطَ فِي التَّعْلِيقِ، وَهُوَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ فِي الرَّاجِحِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْلُقُ لِلْحَال (3) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 366 - 367، والمغني 7 / 240 و294 ومغني المحتاج 3 / 334.
(2) الدر المختار 3 / 343، ومغني المحتاج 3 / 334.
(3) الدر المختار 3 / 344.(29/39)
49 - 5 - وُجُودُ رَابِطٍ، وَهُوَ أَدَاةٌ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، إِلاَّ أَنْ يُفْهَمَ الشَّرْطُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِدُونِ رَابِطٍ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: عَلَيَّ الطَّلاَقُ سَأَذْهَبُ إِلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ الرَّابِطِ (1) .
50 - 6 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ مِنْ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَلاَ مُعْتَدَّتَهُ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ شَيْءٌ، كَمَا إِذَا قَال لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ التَّعْلِيقُ عِنْدَهَا عَلَى إِجَازَةِ زَوْجِهَا؛ لأَِنَّهُ فُضُولِيٌّ، فَإِنْ أَجَازَهُ الزَّوْجُ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثُمَّ إِنْ دَخَلَتْ بَعْدَ الإِْجَازَةِ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا، وَإِلاَّ فَلاَ.
هَذَا مَا لَمْ يُعَلَّقِ الطَّلاَقُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ صَحَّ التَّعْلِيقُ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَأَنْ يَقُول لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ هُنَا، فَإِذَا عَلَّقَ بِغَيْرِ نِكَاحِهَا لَمْ يَصِحَّ
__________
(1) الدر المختار 3 / 344.(29/40)
التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو الطَّلاَقُ، كَمَا إِذَا قَال لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا قَبْل زَوَاجِهَا مِنْهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو الطَّلاَقُ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَنْعَقِدُ الطَّلاَقُ هُنَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى غَيْرِ الزَّوَاجِ. فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمُقَارَنَةِ النِّكَاحِ لاَ عَلَيْهِ، لَغَا بِالاِتِّفَاقِ، كَأَنْ يَقُول لأَِجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِكِ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى انْتِهَاءِ النِّكَاحِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي، أَوْ مَعَ مَوْتِك، فَإِنَّهُ لَغْوٌ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ (1) .
51 - 7 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا عِنْدَ حُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ
__________
(1) الدر المختار 3 / 344، والدسوقي 3 / 370 - 376، والخرشي 4 / 32 ومغني المحتاج 3 / 392.(29/40)
طَلُقَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الْمُعَلَّقَةُ، لِعَدَمِ صَلاَحِيَّتِهَا لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا عِنْدَئِذٍ (1) .
52 - 8 - كَوْنُ الزَّوْجِ أَهْلاً لإِِيقَاعِ الطَّلاَقِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ حُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَال لَهَا الزَّوْجُ عَاقِلاً: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ جُنَّ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَتْهَا قَبْل جُنُونِهِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ أَيْضًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلاَقَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ (2) .
انْحِلاَل الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ:
53 - إِذَا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَنْحَل بِحُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، مَعَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِذَا عَادَتْ إِلَيْهِ ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لاِنْحِلاَلِهِ، هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيقُ بِلَفْظِ (كُلَّمَا) ، وَإِلاَّ وَقَعَ عَلَيْهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 292، والدسوقي 3 / 370 - 376، والدر المختار 3 / 345.
(2) الدسوقي 3 / 365، ومغني المحتاج 3 / 279، والدر المختار 3 / 348.(29/41)
بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لأَِنَّ كُلَّمَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ دُونَ غَيْرِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً قَبْل دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ مَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِزَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، جَازَ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهَا، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ، لاِنْحِلاَل الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّخُول الأَْوَّل بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا الثَّلاَثَ عَلَى دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ نَجَّزَ طَلاَقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا دُونَ أَنْ تَدْخُل الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا، وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَيْهَا، لِعَدَمِ انْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا تَنْحَل بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ تَنْحَل الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِزَوَال الْحِل بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا الثَّلاَثَ عَلَى دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلاَثًا مُنَجَّزَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيل، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْهَا مِنْ قَبْل، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ هُنَا لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِزَوَال الْحِل بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّلاَثِ عَلَيْهَا، عَلَى خِلاَفِ وُقُوعِ مَا دُونَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّهُ لاَ يُزِيل الْحِل، فَلاَ تَنْحَل بِهِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ إِلاَّ بِحُصُول الشَّرْطِ فِعْلاً مَرَّةً.(29/41)
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: الأَْوَّل: يَقَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: لاَ يَقَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يَقَعُ بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، وَلاَ يَقَعُ بَعْدَ الثَّلاَثِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِهِ فِي الْكُل.
كَمَا تَنْحَل الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِرِدَّةِ الْحَالِفِ مَعَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا مُعَلَّقًا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَعَادَ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَعَلَتِ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ بِذَلِكَ، لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِرِدَّتِهِ، وَهَذَا قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ الصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالاَ: لاَ يَنْحَل التَّعْلِيقُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا.
وَتَنْحَل الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَيْضًا بِفَوْتِ مَحَل الْبِرِّ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، ثُمَّ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَمَاتَ زَيْدٌ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الدَّارَ الْخَرِبَةَ بُنِيَتْ ثَانِيَةً فَإِنَّ الْيَمِينَ الْمُعَلَّقَةَ لاَ تَعُودُ، لأَِنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا (1) .
__________
(1) المغني 7 / 294 - 295، مغني المحتاج 3 / 293، والدسوقي 2 / 375 - 376، والدر المختار 3 / 352 - 353.(29/42)
تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ عَلَى شَرْطَيْنِ:
54 - إِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا عَلَى شَرْطَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا بِحُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كُلِّهِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّانِي أَوِ الأَْخِيرِ فَقَطْ فِي النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ حَصَل الشَّرْطُ الأَْوَّل فِي النِّكَاحِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي بَعْدَهُ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً، ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، لَمْ تَطْلُقْ ثَانِيَةً بِمَجِيئِهِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً إِثْرَ تَعْلِيقِهِ، ثُمَّ جَاءَ الأَْوَّل زَيْدٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَجَاءَ عَمْرٌو وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَقَعَ عَلَيْهَا الْمُعَلَّقُ، فَكَانَتَا اثْنَتَيْنِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلاَقِ:
تَعْرِيفُهُ وَحُكْمُهُ:
55 - الاِسْتِثْنَاءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الإِْخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ بِإِحْدَى أَخَوَاتِهَا، بَعْضًا مِمَّا يُوجِبُهُ عُمُومٌ سَابِقٌ، تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَالأَْوَّل هُوَ الْمُتَّصِل، وَالثَّانِي هُوَ الْمُنْقَطِعُ، وَالأَْوَّل هُوَ الْمُرَادُ هُنَا دُونَ الثَّانِي لَدَى الْفُقَهَاءِ، وَيُضَافُ إِلَى الأَْوَّل الاِسْتِثْنَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى (2) ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
__________
(1) الدر المختار 3 / 363 - 364.
(2) مغني المحتاج 3 / 300.(29/42)
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} (1) . وَالاِسْتِثْنَاءُ الشَّرْعِيُّ - وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى - مُبْطِلٌ لِلطَّلاَقِ، (أَيْ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ) لَدَى الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ لِلشَّكِّ فِيمَا يَشَاؤُهُ سُبْحَانَهُ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ يَبْطُل الطَّلاَقُ بِهِ - أَيْ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ (2) . أَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ اللُّغَوِيُّ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا فَمُؤَثِّرٌ وَمُلْغٍ لِلطَّلاَقِ بِحَسَبِهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ وَاحِدَةً، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا، وَقَعَ الثَّلاَثُ؛ لأَِنَّهُ إِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءٌ، وَالإِْلْغَاءُ بَاطِلٌ هُنَا.
شُرُوطُهُ:
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ مِنَ الطَّلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ اسْتِثْنَاءً لُغَوِيًّا أَمْ تَعْلِيقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، شُرُوطٌ هِيَ (3) :
__________
(1) الآية 17 - 18 من سورة القلم.
(2) المغني 7 / 402 - 403، والقوانين الفقهية ص 243، ومغني المحتاج 3 / 302، والدر المختار 3 / 366 - 368.
(3) الدر المختار 3 / 366 - 370، ومغني المحتاج 3 / 300 - 303، والشرح الكبير 2 / 388.(29/43)
56 - 1 - اتِّصَالُهُ بِالْكَلاَمِ السَّابِقِ عَلَيْهِ، أَيِ اتِّصَال الْمُسْتَثْنَى بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِحَيْثُ يُعَدَّانِ كَلاَمًا وَاحِدًا عُرْفًا، فَإِنْ فَصَل بَيْنَهُمَا بِكَلاَمٍ أَوْ سُكُوتٍ لَغَا الاِسْتِثْنَاءُ، وَثَبَتَ حُكْمُ الطَّلاَقِ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْفَصِلاً، طَلُقَتْ، أَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَغَا الاِسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَمْرٍ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ ثَلاَثًا، لإِِلْغَاءِ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْكَلاَمِ الْفَاصِل.
إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى هُنَا عَنِ الْفَاصِل الْقَصِيرِ الضَّرُورِيِّ، كَالسُّكُوتِ لِلتَّنَفُّسِ أَوْ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، كَمَا يُعْفَى عَنِ الْكَلاَمِ الْمُفِيدِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا يَا زَانِيَةُ إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ، لأَِنَّ لَفْظَةَ (زَانِيَةُ) بَيَانٌ لِسَبَبِ الطَّلاَقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا بَائِنًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَهُمْ، بِخِلاَفِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ رَجْعِيَّتَيْنِ إِلاَّ وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ اثْنَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ، وَيَلْغُو الاِسْتِثْنَاءُ لِعَدَمِ إِفَادَةِ هَذَا الْفَاصِل.
57 - 2 - نِيَّةُ الْحَالِفِ الاِسْتِثْنَاءَ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ التَّلَفُّظِ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ(29/43)
فِي الأَْصَحِّ، فَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِدُونِهِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ جَازَ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَعَلَّهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
58 - 3 - أَنْ يَكُونَ الاِسْتِثْنَاءُ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ لِنَفْسِهِ عَلَى الأَْقَل، فَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ، لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ، وَهِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ لِصِحَّتِهِ بِالاِتِّفَاقِ.
59 - 4 - عَدَمُ اسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِذَا قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ رُجُوعٌ وَإِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً.
وَهَل يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ؟ نَصَّ الْجُمْهُورُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ (1) . إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ قَال: طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِدًا الاِسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلاً لَغَا طَلاَقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَل يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى؟ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ ذَلِكَ، وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ، وَإِذَا قَال: أَنْتِ إِلاَّ وَاحِدَةً
__________
(1) المغني 7 / 354.(29/44)
طَالِقٌ ثَلاَثًا وَقَعَ ثِنْتَانِ أَيْضًا، وَإِذَا قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، صَحَّ الاِسْتِثْنَاءُ أَوْ قَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَذَلِكَ مَا دَامَ أَدْخَل الْفَاءَ عَلَى (أَنْتِ) فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَقَوْلاَنِ، الْمُفْتَى بِهِ مِنْهُمَا: عَدَمُ الْوُقُوعِ (1) . وَهَل يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ كَتَبَ مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً، وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَوْ كَتَبَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ اثْنَتَانِ أَيْضًا. فَإِنْ كَتَبَهُمَا مَعًا، ثُمَّ أَزَال الاِسْتِثْنَاءَ وَقَعَ اثْنَتَانِ فَقَطْ، وَلاَ قِيمَةَ لإِِزَالَةِ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ؛ لأَِنَّهُ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَالرُّجُوعُ هُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ (2) .
60 - 5 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةٍ، فَإِنِ اسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةِ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ ثَلاَثًا، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إِلاَّ ثُلُثَيْ طَلْقَةٍ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ أَيْضًا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَيُسْتَثْنَى بِجُزْءِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 300، والدر المختار 3 / 372.
(2) الدر المختار 3 / 373 - 377.
(3) الدر المختار 3 / 376، ومغني المحتاج 3 / 301.(29/44)
وَهَل يَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَلْفُوظَ دُونَ الْمَمْلُوكِ؟ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَيْنِ، الأَْصَحُّ مِنْهُمَا: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمَلْفُوظِ كَالْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَمْلُوكِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ ثَلاَثًا طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْل الشَّافِعِيَّةِ الثَّانِي طَلُقَتْ ثَلاَثًا؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثًا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ ثَلاَثًا كَانَ رُجُوعًا فَلَغَا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إِلاَّ تِسْعًا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَبِثَلاَثٍ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ. الرَّاجِحُ مِنْهُمَا اعْتِبَارُ الْمَلْفُوظِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُقَابِل الرَّاجِحِ اعْتِبَارُ الْمَمْلُوكِ، فَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الرَّاجِحِ يَلْزَمُهُ ثَلاَثٌ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ. (1)
الإِْنَابَةُ فِي الطَّلاَقِ:
62 - الطَّلاَقُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّجُل كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْلِكُهُ وَيَمْلِكُ الإِْنَابَةَ فِيهِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الأُْخْرَى الَّتِي
__________
(1) الدر المختار 3 / 375، ومغني المحتاج 3 / 301، والشرح الكبير 2 / 389.(29/45)
يَمْلِكُهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ. . . فَإِذَا قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلاَقِ زَوْجَتِي فُلاَنَةَ، فَطَلَّقَهَا عَنْهُ، جَازَ، وَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ نَفْسِهَا: وَكَّلْتُكِ بِطَلاَقِ نَفْسِكِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، جَازَ أَيْضًا، وَلاَ تَكُونُ فِي هَذَا أَقَل مِنَ الأَْجْنَبِيِّ. وَبَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
63 - إِذْنُ الزَّوْجِ لِغَيْرِهِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: تَفْوِيضٌ وَتَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّفْوِيضِ ثَلاَثَةَ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: تَخْيِيرٌ، وَأَمْرٌ بِيَدٍ، وَمَشِيئَةٌ. فَلَوْ قَال لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَالأَْوْلَى يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهَا صَرِيحًا بِدُونِ نِيَّةٍ، وَاللَّفْظَانِ الآْخَرَانِ مِنْ أَلْفَاظِ. الْكِنَايَةِ، فَلاَ يَقَعُ بِهِمَا الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
كَمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ عِنْدَهُمْ بِإِنَابَةِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ بِطَلاَقِ زَوْجَتِهِ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، بِأَنْ قَال لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ لَمْ يَقُل لَهُ: إِنْ شِئْتَ، كَانَ تَوْكِيلاً لاَ تَفْوِيضًا.
هَذَا، وَبَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّوْكِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فُرُوقٌ فِي الأَْحْكَامِ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَهَمُّهَا:
أ - مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي التَّفْوِيضِ؛ لأَِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى(29/45)
مَشِيئَةٍ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ لاَ رُجُوعَ فِيهَا، فَإِذَا قَال لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، أَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ نَاوِيًا طَلاَقَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا، أَمَّا الْوَكِيل فَلَهُ عَزْلُهُ مُطْلَقًا مَا دَامَ لَمْ يُطَلِّقْ.
ب - مِنْ حَيْثُ الْحَدُّ بِالْمَجْلِسِ: فَلِلْوَكِيل أَنْ يُطَلِّقَ عَنْ مُوَكِّلِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَحُدَّهُ الْمُوَكِّل بِالْمَجْلِسِ أَوْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنَيْنِ، فَإِنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ تَحَدَّدَ بِهِ، أَمَّا التَّفْوِيضُ فَمَحْدُودٌ بِالْمَجْلِسِ فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَغَا التَّفْوِيضُ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مُدَّةً، أَوْ يُعَلِّقْهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ مُدَّةً تَحَدَّدَ بِالْمُدَّةِ الْمُبَيَّنَةِ، كَأَنْ قَال لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ خِلاَل شَهْرٍ، أَوْ يَوْمٍ، أَوْ سَاعَةٍ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، فَإِنْ قَال ذَلِكَ تَحَدَّدَ بِمَا ذُكِرَ، لاَ بِالْمَجْلِسِ.
ج - مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الطَّلاَقِ الْوَاقِعِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي، وَقَعَ بِهِ بَائِنًا، هَذَا إِذَا نَوَيَا الطَّلاَقَ، وَإِلاَّ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ.
د - مِنْ حَيْثُ تَأَثُّرُهُ بِجُنُونِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فَوَّضَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّلاَقِ، ثُمَّ جُنَّ، فَالتَّفْوِيضُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ وَكَّلَهُ(29/46)
بِالطَّلاَقِ فَجُنَّ بَطَل التَّوْكِيل، لأَِنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ لاَ يَبْطُل بِالْجُنُونِ، عَلَى خِلاَفِ التَّوْكِيل، فَهُوَ إِنَابَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ تَبْطُل بِالْجُنُونِ.
هـ - مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ النَّائِبِ، فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ وَصَغِيرٍ، عَلَى خِلاَفِ التَّوْكِيل، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيل، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ فَوَّضَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِطَلاَقِ نَفْسِهَا فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَلَوْ وَكَّل أَخَاهُ الصَّغِيرَ بِطَلاَقِهَا، فَطَلَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ فَوَّضَهَا بِالطَّلاَقِ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ، ثُمَّ جُنَّتْ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا. (1)
ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
64 - النِّيَابَةُ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: تَوْكِيلٌ وَتَخْيِيرٌ وَتَمْلِيكٌ وَرِسَالَةٌ.
فَالتَّوْكِيل عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْل الزَّوْجِ الطَّلاَقَ لِغَيْرِهِ - زَوْجَةً أَوْ غَيْرَهَا - مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِ الْوَكِيل - بِعَزْلِهِ - مِنْ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ تَوْكِيلاً.
وَالتَّخْيِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْل الطَّلاَقِ الثَّلاَثِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ نَصًّا كَقَوْلِهِ لَهَا: اخْتَارِينِي أَوِ اخْتَارِي نَفْسَكِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 314 - 319.(29/46)
وَالتَّمْلِيكُ هُوَ: جَعْل الطَّلاَقِ حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ رَاجِحًا فِي الثَّلاَثِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ اتِّفَاقٌ وَاخْتِلاَفٌ عَلَى مَا يَلِي:
أ - فَمِنْ حَيْثُ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِيهِ، فِي التَّوْكِيل لِلزَّوْجِ حَقُّ عَزْل وَكِيلِهِ بِالطَّلاَقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَكِيل هُوَ الزَّوْجَةُ أَمْ غَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ زَائِدٌ عَنِ التَّوْكِيل، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ أَمْرُ الدَّاخِلَةِ عَلَيْكِ بِيَدِكِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ عَزْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَال، لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأََمْكَنَهُ عَزْلُهَا.
فَإِنْ فَوَّضَهُ بِالطَّلاَقِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْل الْمُفَوَّضِ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَرُدَّ التَّفْوِيضَ.
ب - وَمِنْ حَيْثُ تَحْدِيدُهُ بِمُدَّةٍ، فَإِنْ حَدَّدَ الزَّوْجُ النِّيَابَةَ بِأَنْوَاعِهَا بِالْمَجْلِسِ تَحَدَّدَ مُطْلَقًا، وَإِنْ حَدَّدَهَا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ إِنْ مَارَسَ النَّائِبُ حَقَّهُ فِي الطَّلاَقِ خِلاَل الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ مَا دَامَ الزَّمَانُ بَاقِيًا، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالاِخْتِيَارِ، فَإِنِ اخْتَارَ الطَّلاَقَ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْقَاضِي حَقَّهُ فِي ذَلِكَ،(29/47)
وَلاَ يُمْهِلُهُ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِالإِْمْهَال، وَذَلِكَ حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُحَدِّدْهُ بِالْمَجْلِسِ وَلاَ بِزَمَنٍ آخَرَ، فَلِلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ: الأُْولَى: يَتَحَدَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَتَحَدَّدُ بِهِ.
ج - مِنْ حَيْثُ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا مُطْلَقًا - وَقَدْ دَخَل بِزَوْجَتِهِ - فَلِلْمُفَوَّضَةِ إِيقَاعُ مَا شَاءَتْ مِنَ الطَّلاَقِ، وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُل بِهَا، أَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَمْلِيكًا، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ، إِنْ تَوَفَّرَتْ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَّتْ وَقَعَ مَا ذَكَرَتْ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
1 - أَنْ يَنْوِيَ مَا هُوَ أَقَل مِنَ الثَّلاَثِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً لَمْ تَمْلِكْ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا نَوَى اثْنَيْنِ مَلَكَتْهُمَا وَلَمْ تَمْلِكِ الثَّلاَثَ.
2 - أَنْ يُبَادِرَ لِلإِْنْكَارِ عَلَيْهَا فَوْرَ إِيقَاعِهَا الثَّلاَثَ، وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ وَوَقَعَ ثَلاَثٌ.
3 - أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا أَوْقَعَتْ، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا.
4 - عَدَمُ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ(29/47)
التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا، وَإِلاَّ وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَيْهِ إِنْ أَوْقَعَهَا مُطْلَقًا.
5 - أَنْ لاَ يُكَرِّرَ التَّفْوِيضَ، فَإِنْ كَرَّرَهُ بِأَنْ قَال لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، لَمْ يُقْبَل اعْتِرَاضُهُ عَلَى طَلاَقِهَا الثَّلاَثَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَيُقْبَل اعْتِرَاضُهُ.
6 - أَنْ لاَ يَكُونَ التَّفْوِيضُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مَلَكَتِ الثَّلاَثَ مُطْلَقًا.
فَإِنْ خَيَّرَهَا وَدَخَل بِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، لَمْ تَقَعْ وَسَقَطَ تَخْيِيرُهَا؛ لأَِنَّهَا خَرَجَتْ بِذَلِكَ عَمَّا فَوَّضَهَا، وَقَدِ انْقَضَى حَقُّهَا بِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهَا، فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ خِيَارُهَا.
(1) ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
65 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلزَّوْجِ إِنَابَةَ زَوْجَتِهِ بِالطَّلاَقِ، كَمَا أَجَازُوا لَهُ إِنَابَةَ غَيْرِهَا بِهِ أَيْضًا، فَإِنْ أَنَابَ الْغَيْرَ كَانَ تَوْكِيلاً، فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّوْكِيل مِنْ جَوَازِ التَّقْيِيدِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ.
وَلِلزَّوْجِ تَفْوِيضُ طَلاَقِهَا إِلَيْهَا، وَهُوَ تَمْلِيكٌ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُقُوعِهِ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 405 - 412.(29/48)
تَطْلِيقُهَا عَلَى الْفَوْرِ. . وَفِي قَوْلٍ تَوْكِيلٌ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فَوْرٌ فِي الأَْصَحِّ، وَعَلَى الْقَوْل بِالتَّمْلِيكِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهَا لَفْظًا الْخِلاَفُ فِي الْوَكِيل، وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول لَفْظًا.
وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: (التَّمْلِيكُ وَالتَّوْكِيل) لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ التَّفْوِيضِ.
وَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلاَثًا، فَقَالَتْ: طَلَّقَتْ وَنَوَتْهُنَّ: وَقَدْ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ، أَوْ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا فَثَلاَثٌ، لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل الْعَدَدَ، وَقَدْ نَوَيَاهُ.
وَإِذَا نَوَى ثَلاَثًا وَلَمْ تَنْوِ هِيَ عَدَدًا، أَوْ لَمْ يَنْوِيَا، أَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الأَْصَحِّ.
(1) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَهُوَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا بِالطَّلاَقِ وَلاَ يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ، بَل هُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ. وَفِي الأَْمْرِ بِالْيَدِ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلاَثًا، أَفْتَى بِهِ أَحْمَدُ مِرَارًا، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَا شِئْتِ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً.
وَإِنْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةٌ، لأَِنَّ: (اخْتَارِي) تَفْوِيضٌ مُعَيَّنٌ، فَيَتَنَاوَل أَقَل
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 285 - 287.(29/48)
مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ، وَهُوَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُول: اخْتَارِي مَا شِئْتِ، أَوِ اخْتَارِي الطَّلْقَاتِ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ اخْتَارِي عَدَدًا، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ. بِخِلاَفِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَيَتَنَاوَل جَمِيعَ أَمْرِهَا. وَلَيْسَ لِلْمَقُول لَهَا: اخْتَارِي أَنْ تُطَلِّقَ إِلاَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَتَمْلِكُهُ إِلَى انْقِضَاءِ ذَلِكَ. (1)
طَلاَقُ الْفَارِّ
66 - طَلاَقُ الْفَارِّ هُوَ: طَلاَقُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بَائِنًا فِي حَال مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ يُعَنْوِنُ الْفُقَهَاءُ لَهُ: بِطَلاَقِ الْمَرِيضِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ، كَصِحَّتِهِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرِ الْمَرِيضِ مَا دَامَ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ.
(2) كَمَا ذَهَبُوا إِلَى إِرْثِهَا مِنْهُ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَلَبِهَا
__________
(1) كشاف القناع 5 / 254، 255، والمغني 7 / 141، 146.
(2) الدر المختار 3 / 387 - 388، والمغني 8 / 79، ومغني المحتاج 3 / 294.(29/49)
أَمْ لاَ، وَأَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ لِذَلِكَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا عِنْدَ الطَّلاَقِ غَيْرَ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِالاِتِّفَاقِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ عِنْدَ الطَّلاَقِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَتَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ، وَيُعَدُّ فَارًّا بِهَذَا الطَّلاَقِ مِنْ إِرْثِهَا، وَاسْمُهُ طَلاَقُ الْفِرَارِ.
وَاشْتَرَطُوا لَهُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ طَلَبِهَا وَلاَ رِضَاهَا بِالْبَيْنُونَةِ، وَأَنْ تَكُونَ أَهْلاً لِلْمِيرَاثِ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ إِلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا كَالْمُخَالَعَةِ لَمْ تَرِثْ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِسَبَبِ تَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَرِثُ أَيْضًا؛ لأَِنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، فَلاَ يُعَدُّ بِذَلِكَ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا، فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلاَقَ مُطْلَقًا، أَوْ طَلَبَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا فَطَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْ مِنْهُ، لأَِنَّهَا لَمْ تَطْلُبِ الْبَيْنُونَةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا. فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ،(29/49)
وَلَمْ تَتَغَيَّرْ عِدَّتُهَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَلاَ يُعَدُّ فَارًّا بِطَلاَقِهَا، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِطَلَبِهَا كَالْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَالِعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ طَلَبِهَا، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا مِنْ غَيْرِهِ. (1)
مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ:
67 - هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَمَيَّزَتْ بِلَقَبٍ خَاصٍّ بِهَا لَدَى الْفُقَهَاءِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِمَّا يَلِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (2) عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَل بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا - دُونَ الزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ - أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلاَثِ فَقَطْ. فَإِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، فَتَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَل بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 353.
(2) الدر المختار 3 / 418، والشرح الصغير 1 / 467 ط. الحلبي، والمغني 7 / 443 - 444، ومغني المحتاج 3 / 293.(29/50)
بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى الثَّلاَثِ، فَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِوَاحِدَةٍ مَلَكَ عَلَيْهَا اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِاثْنَتَيْنِ مَلَكَ عَلَيْهَا ثَالِثَةً فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثًا، وَقَدِ انْهَدَمَ مَا أَبَانَهَا بِهِ سَابِقًا، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ الْهَدْمِ، وَقَوْل الشَّيْخَيْنِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الأَْرْجَحُ عِنْدَهُمْ - مَعَ الْجُمْهُورِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَمِنْهُمْ بَل أَكْثَرُهُمْ قَالُوا بِتَرْجِيحِ قَوْل مُحَمَّدٍ، كَالْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ، بَل إِنَّهُ قَال عَنْهُ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَالْبَحْرِ والشُّرنْبُلاَلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ قَوْل الشَّيْخَيْنِ كَالْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ، وَعَلَيْهِ مَشَتِ الْمُتُونُ(29/50)
حُكْمُ جُزْءِ الطَّلْقَةِ:
68 - إِذَا قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَةٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَعَ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. (1) لأَِنَّ الطَّلْقَةَ تَحْرِيمٌ، وَهُوَ لاَ يَتَجَزَّأُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يَحْسُنُ مَعَهُ ذِكْرُ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ: قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ. فَلَوْ زَادَتِ الأَْجْزَاءُ وَقَعَ أُخْرَى، وَهَكَذَا مَا لَمْ يَقُل: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَثُلُثُ طَلْقَةٍ وَسُدُسُ طَلْقَةٍ فَيَقَعُ الثَّلاَثُ؛ لأَِنَّ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الأَْوَّل، فَيَتَكَامَل كُل جُزْءٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَال: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُهَا، حَيْثُ تَقَعُ وَاحِدَةً؛ لأَِنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ عَيْنُ الأَْوَّل. فَإِنْ جَاوَزَ مَجْمُوعُ الأَْجْزَاءِ تَطْلِيقَةً - بِأَنْ قَال: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا - قِيل: تَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَقِيل ثِنْتَانِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَلَوْ بِلاَ وَاوٍ بِأَنْ قَال: نِصْفُ طَلْقَةٍ، ثُلُثُ طَلْقَةٍ، سُدُسُ طَلْقَةٍ، فَوَاحِدَةٌ، لِدَلاَلَةِ
__________
(1) المغني 7 / 426 - 428، ومغني المحتاج 3 / 298 - 299، والدسوقي 2 / 385 - 386، والشرح الصغير 1 / 460 ط. الحلبي.(29/51)
حَذْفِ الْعَاطِفِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ الأَْوَّل، وَالثَّالِثَ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِي.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا (1) ، وَيَقَعُ بِثَلاَثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَتَيْنِ ثَلاَثَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةٌ فَثَلاَثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَقِيل ثِنْتَانِ، لأَِنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إِذَا نُصِّفَتَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلاَثَةٌ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَتَكْمُل تَطْلِيقَتَيْنِ. وَيَقَعُ بِثَلاَثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَانِ فِي الأَْصَحِّ وَكَذَا فِي نِصْفِ ثَلاَثِ تَطْلِيقَاتٍ لأَِنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَل النِّصْفُ. وَفِي نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ يَتَكَامَل كُل نِصْفٍ فَيَحْصُل طَلْقَتَانِ. (2)
69 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ لَزِمَتْهُ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْجُزْءِ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ لِزِيَادَةِ الأَْجْزَاءِ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَلَوْ أَضَافَ الْجُزْءَ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، فَقَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ بِحَرْفِ
__________
(1) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 3 / 259، 260.
(2) ابن عابدين والدر المختار 3 / 360، 361.(29/51)
الْعَطْفِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ. وَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ. طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ وَنِصْفَ طَلْقَةٍ لَزِمَهُ ثَلاَثُ طَلَقَاتٍ؛ لأَِنَّ كُل كَسْرٍ أُضِيفَ لِطَلْقَةٍ أُخِذَ مُمَيَّزُهُ، فَاسْتَقَل بِنَفْسِهِ، أَيْ: حُكِمَ بِكَمَال الطَّلْقَةِ فِيهِ، فَالْجُزْءُ الآْخَرُ الْمَعْطُوفُ يُعَدُّ طَلْقَةً. (1)
70 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَتَبَعَّضُ، فَإِيقَاعُ بَعْضِهِ كَإِيقَاعِ كُلِّهِ، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَيِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُل نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ عَمَلاً بِقَصْدِهِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ قَوْل الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ نِصْفُهُمَا، مَا لَمْ يُرِدْ كُل نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَفِي أَجْزَاءِ الطَّلْقَةِ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: حَاصِل مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ لَفْظَ " طَلْقَةٌ " مَعَ الْعَاطِفِ، وَلَمْ تَزِدِ الأَْجْزَاءُ عَلَى طَلْقَةٍ، كَأَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ، كَانَ كُل جُزْءٍ طَلْقَةً، وَإِنِ اسْقَطَ لَفْظَ طَلْقَةٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ رُبُعَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَسْقَطَ الْعَاطِفَ كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 460، والشرح الكبير 2 / 385 - 386.(29/52)
طَلْقَةٍ، كَانَ الْكُل طَلْقَةً، فَإِنْ زَادَتِ الأَْجْزَاءُ كَنِصْفِ وَثُلُثِ وَرُبُعِ طَلْقَةٍ كَمُل الزَّائِدُ مِنْ طَلْقَةٍ أُخْرَى وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ، وَلَوْ قَال: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَنِصْفُهَا وَنِصْفُهَا فَثَلاَثٌ، إِلاَّ إِنْ أَرَادَ بِالنِّصْفِ الثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي فَطَلْقَتَانِ. (1)
71 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ كُلُّهُ، وَإِنْ قَال: ثَلاَثَةُ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ،؛ لأَِنَّ ثَلاَثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَكَمُل النِّصْفُ، فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ.
وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، لأَِنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ، لأَِنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ جَمِيعُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلاَثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لأَِنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يَكْمُل النِّصْفُ فَتَصِيرُ طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لأَِنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ فَقَال أَصْحَابُنَا: يَقَعُ ثَلاَثٌ، لأَِنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ طَلْقَةٍ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 289 - 299.(29/52)
جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ، وَلأَِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الأُْولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللاَّمُ التَّعْرِيفِ فَقَال: ثُلُثُ الطَّلْقَةِ وَسُدُسُ الطَّلْقَةِ، فَإِنَّ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: إِذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ الأَْوَّل، وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالأَْلِفِ وَاللاَّمِ فَالثَّانِي هُوَ الأَْوَّل. وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ طَلْقَةٍ سُدُسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ غَيْرُ مُتَغَايِرَةٍ، وَلأَِنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلاً مِنَ الأَْوَّل، وَالثَّالِثُ مِنَ الثَّانِي، وَالْبَدَل هُوَ الْمُبْدَل أَوْ بَعْضُهُ، فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيل لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَلْقَةً طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إِلاَّ طَلْقَةً، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدُسًا لَمْ يَقَعْ إِلاَّ طَلْقَةٌ، لأَِنَّ هَذِهِ أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُل طَلْقَةٍ جُزْءًا فَتَطْلُقُ ثَلاَثًا. وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا وَرُبُعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ نِصْفَ سُدُسٍ ثُمَّ يَكْمُل، وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُل طَلْقَةٍ جُزْءًا طَلُقَتْ ثَلاَثًا. (1)
الرَّجْعَةُ فِي الطَّلاَقِ:
72 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ
__________
(1) المغني 7 / 243 - 244.(29/53)
زَوْجَتَهُ بَائِنًا لاَ يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا، مَا دَامَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوَاجِ. فَإِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُل بِهَا، ثُمَّ يُفَارِقُهَا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
(1) كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ لَهُ الْعَوْدَ إِلَيْهَا بِالْمُرَاجَعَةِ بِدُونِ عَقْدٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} . (2) وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ. وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَجْعَة ج 22) .
(التَّفْرِيقُ لِلشِّقَاقِ:
73 - الشِّقَاقُ هُنَا: هُوَ النِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِسَبَبٍ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا، أَوْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا، فَإِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا
__________
(1) الآية 230 من سورة البقرة.
(2) الآية 228 من سورة البقرة.(29/53)
الإِْصْلاَحُ، فَقَدْ شُرِعَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا لِلْعَمَل عَلَى الإِْصْلاَحِ بَيْنَهُمَا وَإِزَالَةِ أَسْبَابِ النِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ، بِالْوَعْظِ وَمَا إِلَيْهِ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) وَمُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ هُنَا الإِْصْلاَحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحِكْمَةٍ وَرَوِيَّةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُهِمَّةِ الْحَكَمَيْنِ، وَفِي شُرُوطِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - مُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ:
74 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الإِْصْلاَحُ لاَ غَيْرُ، فَإِذَا نَجَحَا فِيهِ فَبِهَا، وَإِلاَّ تَرَكَا الزَّوْجَيْنِ عَلَى حَالِهِمَا لِيَتَغَلَّبَا عَلَى نِزَاعِهِمَا بِنَفْسَيْهِمَا، إِمَّا بِالْمُصَالَحَةِ، أَوْ بِالصَّبْرِ، أَوْ بِالطَّلاَقِ، أَوْ بِالْمُخَالَعَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَإِنْ فَوَّضَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّوْفِيقِ، كَانَا وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَاجِبَ الْحَكَمَيْنِ الإِْصْلاَحُ أَوَّلاً، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لِتَحَكُّمِ
__________
(1) لآية 35 من سورة النساء.
(2) تفسير روح المعاني 5 / 27.(29/54)
الشِّقَاقِ كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ تَوْكِيلٍ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا بِهَذَا التَّفْرِيقِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ ذَلِكَ اجْتِهَادَهُ.
وَإِنْ طَلَّقَا، وَاخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ فِي الْمَال، بِأَنْ قَال أَحَدُهُمَا: الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ، وَقَال الآْخَرُ: بِلاَ عِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَلْتَزِمْهُ الْمَرْأَةُ فَلاَ طَلاَقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، وَيَعُودُ الْحَال كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ مِنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَال أَحَدُهُمَا: طَلَّقْنَا بِعَشْرَةٍ، وَقَال الآْخَرُ: بِثَمَانِيَةٍ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الاِخْتِلاَفُ لِلزَّوْجِ خُلْعَ الْمِثْل وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ.
(1) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وَهُمَا وَكِيلاَنِ لَهُمَا فِي الأَْظْهَرِ، وَفِي قَوْلٍ: هُمَا حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَعَلَى
الأَْوَّل: يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّل الزَّوْجُ حَكَمَهُ بِطَلاَقٍ وَقَبُول عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّل الزَّوْجَةُ حَكَمَهَا بِبَذْل عِوَضٍ وَقَبُول طَلاَقٍ، وَيُفَرِّقُ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُهُمَا بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، وَعَلَى
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 346 - 347.(29/54)
وَيُحَكَّمَانِ، بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الأُْولَى التَّوْفِيقُ، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي قَوْلٍ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُمَا ذَلِكَ. (2)
ب - شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:
75 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَكَمَيْنِ شُرُوطًا هِيَ:
1 - كَمَال الأَْهْلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلاَ يَجُوزُ تَحْكِيمُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ.
2 - الإِْسْلاَمُ، فَلاَ يَحْكُمُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي الْمُسْلِمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الاِسْتِعْلاَءِ عَلَيْهِ.
3 - الْحُرِّيَّةُ، فَلاَ يَحْكُمُ عَبْدٌ، وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ بِجَوَازِ جَعْل الْعَبْدِ مُحَكَّمًا، مَا دَامَ التَّحْكِيمُ وَكَالَةً.
4 - الْعَدَالَةُ، وَهِيَ: مُلاَزَمَةُ التَّقْوَى.
5 - الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ هَذَا التَّحْكِيمِ.
6 - أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ لاَ الْوُجُوبِ.
ثُمَّ إِنْ وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 261.
(2) المغني 7 / 252.(29/55)
بِرِضَاهُمَا كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِي حَال التَّوْكِيل فِي التَّفْرِيقِ يُشْتَرَطُ إِلَى جَانِبِ مَا تَقَدَّمَ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ كَامِلَيِ الأَْهْلِيَّةِ رَاشِدَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنِ احْتِمَال رَدِّ بَعْضِ الْمَهْرِ.
فَإِنْ وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، ثُمَّ جُنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل التَّفْرِيقِ، لَغَا التَّوْكِيل، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ غَيْرُ التَّوْفِيقِ، فَإِنْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْل التَّفْرِيقِ لَمْ يَنْعَزِل الْحَكَمَانِ، وَيَكُونُ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي غَيْبَتِهِ؛ لأَِنَّ الْغَيْبَةَ لاَ تُبْطِل الْوَكَالَةَ، بِخِلاَفِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَكَمَيْنِ، وَمَعَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي الذُّكُورَةَ؛ لأَِنَّ الْحَكَمَيْنِ هُنَا حَاكِمَانِ، وَلاَ يَجُوزُ جَعْل الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ حَاكِمًا.
وَالْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِالتَّفْرِيقِ جَبْرًا عَنِ الزَّوْجَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا حَاكِمَانِ هُنَا وَنَائِبَانِ عَنِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَ الزَّوْجَانِ مُتَّفِقَيْنِ دَعْوَى التَّفْرِيقِ قَبْل حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ فَعَلاَ سَقَطَ التَّحْكِيمُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا الْحُكْمُ بِالتَّفْرِيقِ بِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ التَّحْكِيمِ هُنَا الدَّعْوَى، وَهَذَا إِذَا كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنْ قِبَل الزَّوْجَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ، فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا عَلَى(29/55)
الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلاَ بِهِ، مَا دَامَا لَمْ يَعْزِلاَهُمَا قَبْل الْحُكْمِ، فَإِنْ عَزَلاَهُمَا قَبْل الْحُكْمِ انْعَزِلاَ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا لَمْ يَنْعَزِلاَ.
(1) كَمَا أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزَا تَحْكِيمَ غَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنْ لاَ يُوجَدَ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّحْكِيمِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جَازَ تَحْكِيمُ جَارَيْهِمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَنُدِبَ أَنْ يَكُونَا جَارَيْنِ لِلْعِلْمِ بِحَالِهِمَا غَالِبًا.
ثُمَّ إِذَا وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ مُخَالَعَةً، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا مَا لَمْ يُقَيِّدَاهُمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ قَيَّدَاهُمَا تَقَيَّدَا بِهِ لَدَى الْجَمِيعِ.
فَإِذَا لَمْ يُوَكِّلاَهُمَا بِالتَّفْرِيقِ وَالْمُخَالَعَةِ، كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمَانِ التَّفْرِيقَ بِطَلاَقٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ رَأَيَا أَنَّ الضَّرَرَ كُلَّهُ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيَا أَنَّهُ كُلُّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا بِمُخَالَعَةٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ لَهُ كُل الْمَهْرِ، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ بَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَبَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجِ، فَرَّقَا بَيْنَهُمَا مُخَالَعَةً عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَهْرِ يُنَاسِبُ مِقْدَارَ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 343 - 347، والقليوبي وعميرة 3 / 306.(29/56)
قَضَاءُ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
76 - إِنْ كَانَ الْمُحَكَّمَانِ مُوَكَّلَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، فَلاَ حَاجَةَ لِحُكْمِ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِهِمَا، وَتَقَع الْفُرْقَةُ بِحُكْمِهِمَا مُبَاشَرَةً.
وَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، أُلْزِمَا بِرَفْعِ حُكْمِهِمَا إِلَيْهِ لِيُنَفِّذَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي إِنْفَاذِهِ، بَل هُوَ مُجْبَرٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ -
فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ عَزَلَهُمَا الْقَاضِي، وَعَيَّنَ حَكَمَيْنِ آخَرَيْنِ بَدَلاً مِنْهُمَا، وَهَكَذَا حَتَّى يَتَّفِقَ حَكَمَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَيُنَفِّذُهُ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ:
77 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لِلشِّقَاقِ طَلاَقٌ بَائِنٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَمْ مِنْ قِبَل الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، حَتَّى لَوْ أَوْقَعَ الْحَكَمَانِ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا لَمْ يَقَعْ بِحُكْمِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَفْرِيقُهُمَا طَلاَقًا أَمْ مُخَالَعَةً عَلَى بَدَلٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمَا إِنْ فَرَّقَا بِخُلْعٍ فَطَلاَقٌ بَائِنٌ، وَإِنْ فَرَّقَا بِطَلاَقٍ فَهُوَ طَلاَقٌ.
وَهَل لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَدَلاً مِنَ(29/56)
اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَابُ نَعَمْ، نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ. وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ لِوَلِيِّ الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا؟ تَرَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الاِكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ (1) لِلآْيَةِ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} . (2)
التَّفْرِيقُ لِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ:
78 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا أَضَرَّ بِهَا زَوْجُهَا كَانَ لَهَا طَلَبُ الطَّلاَقِ مِنْهُ لِذَلِكَ، سَوَاءٌ تَكَرَّرَ مِنْهُ الضَّرَرُ أَمْ لاَ، كَشَتْمِهَا وَضَرْبِهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا. . وَهَل تَطْلُقُ بِنَفْسِهَا هُنَا بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَنْهَا؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (3) وَلَمْ أَرَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الآْخَرِينَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ بِوُضُوحٍ، وَكَأَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهِ مَا لَمْ يَصِل الضَّرَرُ إِلَى حَدِّ إِثَارَةِ الشِّقَاقِ، فَإِنْ وَصَل إِلَى ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ.
التَّفْرِيقُ لِلإِْعْسَارِ بِالصَّدَاقِ:
79 - إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِرَاقُهُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 344، ونهاية المحتاج 6 / 385.
(2) الآية 35 من سورة النساء.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 345.(29/57)
بِسَبَبِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَالنَّظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَلَهَا كَامِل نَفَقَتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا طَلَبَ التَّفْرِيقِ إِلَى جَانِبِ مَالِهَا مِنْ: مَنْعِ نَفْسِهَا وَالنَّفَقَةِ مَا دَامَ لَمْ يَدْخُل بِهَا، وَيُؤَجَّل الزَّوْجُ لإِِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ عَجْزُهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وُجُوهٌ وَأَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: الْفَسْخُ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: الْفَسْخُ مَا لَمْ يَدْخُل بِهَا، وَإِلاَّ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ مُطْلَقًا، وَهِيَ غَرِيمٌ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
(1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَار ف 14) .
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ بِالإِْعْسَارِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
80 - يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ بِالإِْعْسَارِ شُرُوطٌ، هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبًا حَالًّا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَصْلاً،
__________
(1) البدائع 2 / 288، ورد المختار 2 / 656، 4 / 315 - 317، وجواهر الإكليل 1 / 307 - 308، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 299 - 300، والمهذب 2 / 62، والمغني 7 / 579 ط. الرياض الحديثة والمقنع 3 / 98.(29/57)
كَأَنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، أَوْ كَانَ وُجُوبُهُ مُؤَجَّلاً كَأَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَأْجِيلُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَعْضَ وَأَعْسَر بِالْبَعْضِ الْبَاقِي، فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الأَْقْوَى مِنْهُمَا: جَوَازُ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ب - أَنْ لاَ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْجِيل الْمَهْرِ قَبْل الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ بِالْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِإِعْسَارِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَسَكَتَتْ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ صَرَاحَةً، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ بَعْدَ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْعُنَّةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ بِهِ، أَوْ مُحَكَّمٍ؛ لأَِنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، هَذَا إِنْ قَدَرَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَيْهِمَا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقَتْ بِنَفْسِهَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
(1) وَإِنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَوْرًا، وَقِيل: يُنْظِرُهُ مُدَّةً يَرَاهَا مُنَاسَبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ أَنْظَرَهُ، وَقِيل: يَسْجُنُهُ حَتَّى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 444.(29/58)
يَدْفَعَ الْمَهْرَ، أَوْ يَظْهَرَ مَالُهُ فَيُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَثْبُتُ إِعْسَارُهُ فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِالإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ:
81 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ طَلاَقٌ بَائِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا فَسْخٌ، لاَ طَلاَقٌ. (1)
التَّفْرِيقُ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ:
82 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ تَمْتَنِعْ مِنَ التَّمْكِينِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِهَا لِغَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الزَّوْجَةِ كَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهَا مِنْهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَخْذُهَا جَبْرًا عَنْهُ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ دَفْعِ هَذِهِ النَّفَقَةِ لِمَانِعٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، كَنُشُوزِهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا.
وَهَل يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ مِنْهُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْهَا بِدُونِ سَبَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، وَاتَّفَقُوا فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى عَلَى مَا يَلِي: -
أ - إِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ لِلزَّوْجَةِ أَخْذُ نَفَقَتِهَا مِنْهُ، بِعِلْمِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 590، والدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 299، ومغني المحتاج 3 / 444، والمغني 8 / 881.(29/58)
الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، لِوُصُولِهَا إِلَى حَقِّهَا بِغَيْرِ الْفُرْقَةِ، فَلاَ تُمَكَّنُ مِنْهَا.
وَيَسْتَوِي هُنَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَأَنْ يَكُونَ مَال الزَّوْجِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أَيْضًا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَال نُقُودًا أَوْ مَنْقُولاَتٍ أَوْ عَقَارَاتٍ، لإِِمْكَانِ الأَْخْذِ مِنْهَا.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا فِي الأَْظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ مَالَهُ الظَّاهِرَ إِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلاَ تَفْرِيقَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَهَا طَلَبُ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ، وَلاَ فَسْخَ لَهَا، وَلَوْ غَابَ وَجُهِل حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ فَلاَ فَسْخَ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ أَحْمَدَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الإِْمْكَانِ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنَ الْمَال الْغَائِبِ، فَإِنَّ لَهَا طَلَبَ التَّفْرِيقِ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ كَانَ الْمَال حَاضِرًا فَلاَ تَفْرِيقَ.
ب - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ ظَاهِرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لإِِعْسَارِهِ، أَمْ لِلْجَهْل بِحَالِهِ، أَمْ لأَِنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ، فَرَفَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَى الْقَاضِي طَالِبَةً التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ هُنَا(29/59)
طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَالْقَاضِي يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَيَأْمُرُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا - لَوْلاَ زَوْجُهَا - بِإِقْرَاضِهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ حَتَّى يُقْرِضَهَا، ثُمَّ يَعُودَ بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَيْسَر إِنْ شَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْسَر بِالنَّفَقَةِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ بَقِيَتْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي طَالِبَةً فَسْخَ نِكَاحِهَا، وَالْقَاضِي يُجِيبُهَا إِلَى ذَلِكَ حَالاً، أَوْ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِلزَّوْجِ (1) ، رَجَاءَ مَقْدِرَتِهِ عَلَى الإِْنْفَاقِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ.
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
83 - يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول - بِهِ شُرُوطٌ، هِيَ:
__________
(1) التلَّوم لغة: الانتظار، وفي الاصطلاح: هو بهذا المعنى، وقال المالكية: هو تصبر الزوجة يومًا أو يومين أو أكثر بأمر القاضي برجاء يسار الزوج بالنفقة.(29/59)
أ - أَنْ يَثْبُتَ إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَرِدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ.
ب - أَنْ يَكُونَ الإِْعْسَارُ أَوْ الاِمْتِنَاعُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ هُوَ امْتِنَاعٌ عَنْ أَقَل النَّفَقَةِ، وَهِيَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَنِيَّةً، أَوِ الزَّوْجُ الْمُمْتَنِعُ غَنِيًّا أَيْضًا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يُثْبِتُ هُنَا ضَرُورَةَ دَفْعِ الْهَلاَكِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، لاَ النَّفَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهَا مُطْلَقًا.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَنِيًّا وَامْتَنَعَ عَنِ الإِْنْفَاقِ إِلاَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ - وَهِيَ الضَّرُورِيُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ وَلَوْ خَشِنًا - لَمْ يُفَرَّقْ.
هَذَا وَالإِْعْسَارُ وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الإِْنْفَاقِ يَشْمَل هُنَا الطَّعَامَ وَالْكِسَاءَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ الْحَيَاةَ لاَ تَقُومُ بِدُونِهِمَا.
أَمَّا الإِْعْسَارُ بِالْمَسْكَنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصَحَّ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ.
وَكَذَلِكَ الإِْعْسَارُ بِالأُْدْمِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ صَحَّحَ عَدَمَ الْفَسْخِ بِالإِْعْسَارِ بِالأُْدْمِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ لإِِدَامَةِ الْحَيَاةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ فِي التَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَسْكَنِ وَجْهَانِ:(29/60)
الأَْوَّل: أَنَّ لَهَا التَّفْرِيقَ بِهِ كَالطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ.
وَالثَّانِي: لاَ تَفْرِيقَ لَهَا بِهِ؛ لأَِنَّ الْبُنْيَةَ تَقُومُ بِدُونِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ التَّفْرِيقَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْمَسْكَنِ قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ.
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلزَّوْجِ مَالٌ ظَاهِرٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُهَا أَخْذُ نَفَقَتِهَا مِنْهُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِطَرِيقِ الْقَاضِي، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لَهَا التَّفْرِيقُ بِالاِتِّفَاقِ، فَإِذَا كَانَ الْمَال غَائِبًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الاِخْتِلاَفُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
د - أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الزَّوْجِ عَنِ النَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْحَاضِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّهَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً لِلإِْبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَمِّنَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَتَهَا مُدَّةَ غِيَابِهِ، فَإِذَا أَعْسَرَ بِذَلِكَ كَانَ لَهَا طَلَبُ الْفُرْقَةِ مِنْهُ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال: إِنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهَا فَقَطْ دُونَ التَّفْرِيقِ، فَإِذَا سَافَرَ وَنَفَّذَ مَا عِنْدَهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ آنَئِذٍ.
فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُقِيمًا فَلاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي(29/60)
نَفَقَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَبِالتَّالِي فَلاَ حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِمَنْعِهَا مِنْهَا.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ قَبْل وُجُوبِهَا عَلَيْهِ أَصْلاً، كَأَنْ لَمْ تُخَل بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ سَقَطَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ كَنُشُوزِهَا، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْحَقِّ فِي النَّفَقَةِ أَصْلاً.
هـ - أَنْ لاَ تَكُونَ قَدْ رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ أَوْ تَرْكِ إِنْفَاقِهِ مُطْلَقًا، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ إِلَى أَنَّ لَهَا طَلَبَ فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ قَبْل ذَلِكَ، لأَِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ يَتَجَدَّدُ فِي كُل يَوْمٍ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الإِْنْفَاقِ وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
84 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ فَسْخٌ مَا دَامَتْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَإِنْ طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الزَّوْجِ طَلاَقَهَا فَطَلَّقَهَا كَانَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا مَا لَمْ يَبْلُغِ الثَّلاَثَ، أَوْ يَكُنْ قَبْل الدُّخُول، وَإِلاَّ فَبَائِنٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ، وَلِهَذَا كَانَ لِلزَّوْجِ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ(29/61)
عِنْدَهُمْ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا هُنَا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَنْ يَجِدَ الزَّوْجُ يَسَارًا لِنَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ النَّفَقَةَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي فُرِّقَ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِذَا رَاجَعَهَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ.
وَأَمَّا طَرِيقُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَكُونُ بِغَيْرِ الْقَاضِي، ذَلِكَ أَنَّهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لاَ يَتِمُّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ، إِزَالَةً لِلْخِلاَفِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى الرَّفْعِ لِلْقَاضِي، فَإِنِ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَوْ مُحَكَّمٍ، أَوْ عَجَزَتْ عَنِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي نَفُذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلضَّرُورَةِ.
85 - وَأَمَّا وَقْتُ الْقَضَاءِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُنَجِّزُ الْفُرْقَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ - بِالتَّصَادُقِ أَوِ الْبَيِّنَةِ - دُونَ إِنْظَارٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْظْهَرَ لَدَيْهِمْ إِمْهَال الزَّوْجِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ لِلتَّحَقُّقِ مِنْ عَجْزِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ لِعَارِضٍ ثُمَّ يَزُول، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا مَضَتْ دُونَ الْقُدْرَةِ، فَرَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ.(29/61)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ ثُبُوتِ الإِْعْسَارِ دُونَ إِمْهَالٍ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِذَا رَفَعَتِ الزَّوْجَةُ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَل الزَّوْجَ، فَإِنِ ادَّعَى الإِْعْسَارَ وَأَثْبَتَهُ تَلَوَّمَ لَهُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُنْفِقْ، طَلَّقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ، أَوِ ادَّعَى الْيَسَارَ، أَوْ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالإِْنْفَاقِ أَوِ الطَّلاَقِ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ حَالًّا مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ أَيْضًا.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا غَيْبَةً قَرِيبَةً يَقِل بَعْدَهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، كَتَبَ الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالْحُضُورِ وَالْخِيَارِ بَيْنَ الإِْنْفَاقِ أَوِ الْفِرَاقِ، فَإِنْ حَضَرَ وَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَبِهَا، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ، هَذَا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مَكَانَهُ. فَإِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ مَكَانَهُ، أَوْ كَانَ مَكَانُهُ بَعِيدًا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَيْهِ فَوْرًا. (1)
التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ وَالْفَقْدِ وَالْحَبْسِ:
86 - الْغَائِبُ هُوَ: مَنْ غَادَرَ مَكَانَهُ لِسَفَرٍ وَلَمْ
__________
(1) رد المحتار 3 / 590 - 591 والدسوقي والشرح الكبير 2 / 518 - 520، ومغني المحتاج 3 / 442 - 444. والمغني 8 / 175 - 181.(29/62)
يَعُدْ إِلَيْهِ، وَحَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ، فَإِذَا جُهِلَتْ حَيَاتُهُ فَهُوَ الْمَفْقُودُ، أَمَّا الْمَحْبُوسُ فَهُوَ: مَنْ قُبِضَ عَلَيْهِ وَأُودِعَ السِّجْنَ بِسَبَبِ تُهْمَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَالْمَفْقُودِ وَالْمَحْبُوسِ إِذَا طَلَبَتِ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، هَل تُجَابُ إِلَى طَلَبِهَا؟ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
1 - التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ:
87 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَبْنَاهَا اخْتِلاَفُهُمْ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْوَطْءِ، أَهُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مِثْل مَا هُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْل الْقَاضِي، إِلَى أَنَّ دَوَامَ الْوَطْءِ قَضَاءُ حَقٍّ لِلرَّجُل فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَإِذَا مَا تَرَكَ الزَّوْجُ وَطْءَ زَوْجَتِهِ مُدَّةً لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهَا أَمَامَ الْقَاضِي، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي ذَلِكَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا، طَالَتْ غَيْبَتُهُ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ قَضَاءٌ يَنْقَضِي بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا اسْتَوْفَتْهَا لَمْ يَعُدْ لَهَا فِي الْوَطْءِ حَقٌّ فِي الْقَضَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَا مَهْمَا طَالَتْ، وَتَرَكَ لَهَا مَا تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ(29/62)
الْحَنَابِلَةَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا قَيَّدُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْوَطْءِ بِعَدَمِ قَصْدِ الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ، فَإِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ الإِْضْرَارَ بِهَا عُوقِبَ وَعُزِّرَ، لاِخْتِلاَل شَرْطِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي وَهُوَ الأَْظْهَرُ إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ وَاجِبٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا قَضَاءً، مَا لَمْ يَكُنْ بِالزَّوْجِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً بِغَيْرِ عُذْرٍ، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُل إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَفَرُهُ هَذَا لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لأَِنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ.
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا:
88 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَيْبَةِ لِيَثْبُتَ التَّفْرِيقُ بِهَا لِلزَّوْجَةِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ غَيْبَةً طَوِيلَةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّتِهَا:
__________
(1) المغني 7 / 234، والدر المختار 3 / 202 - 203، والدسوقي والشرح الكبير 2 / 339، القليوبي وعميرة 4 / 51.(29/63)
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ إِذَا تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الأُْخْرَى، وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَمَا كَانَ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ تَقُول:
تَطَاوَل هَذَا اللَّيْل وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ
وَطَال عَلَيَّ أَنْ لاَ حَبِيبَ أُلاَعِبُهْ
وَوَاللَّهِ لَوْلاَ خَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ
لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
فَسَأَل عُمَرُ عَنْهَا فَقِيل لَهُ: هَذِهِ فُلاَنَةُ زَوْجُهَا غَائِبٌ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، فَأَرْسَل إِلَى امْرَأَةٍ تَكُونُ مَعَهَا، وَبَعَثَ إِلَى زَوْجِهَا فَأَقْفَلَهُ، ثُمَّ دَخَل عَلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَال: يَا بُنَيَّةُ كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمِثْلُكَ يَسْأَل مِثْلِي عَنْ هَذَا؟ فَقَال: لَوْلاَ أَنِّي أُرِيدُ النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلْتُكِ، قَالَتْ: خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، يَسِيرُونَ شَهْرًا، وَيُقِيمُونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَسِيرُونَ شَهْرًا رَاجِعِينَ. (1)
__________
(1) المغني 7 / 235.(29/63)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهَا سَنَةٌ فَأَكْثَرُ، وَفِي قَوْلٍ لِلْغِرْيَانِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ لَيْسَتْ بِطُولٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ.
ب - أَنْ تَخْشَى الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا الضَّرَرَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّرَرُ هُنَا هُوَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَى كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَلَيْسَ اشْتِهَاءُ الْجِمَاعِ فَقَطْ، وَالْحَنَابِلَةُ وَإِنْ أَطْلَقُوا الضَّرَرَ هُنَا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ خَشْيَةَ الزِّنَى كَالْمَالِكِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ يَثْبُتُ بِقَوْل الزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهَا ظَاهِرُ الْحَال.
ج - أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ لِعُذْرٍ كَالْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِهَذَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمْ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى سَوَاءٍ.
د - أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا أَوْ نَقْلِهَا إِلَيْهِ أَوْ تَطْلِيقِهَا وَيُمْهِلَهُ مُدَّةً مُنَاسِبَةً، إِذَا كَانَ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا، أَوْ نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَوْ طَلَّقَهَا فَبِهَا، وَإِنْ أَبْدَى عُذْرًا لِغِيَابِهِ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ دُونَ(29/64)
الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ كُلَّهُ، أَوْ لَمْ يَرُدَّ بِشَيْءٍ وَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، أَوْ كَانَ عِنْوَانُهُ لاَ تَصِل الرَّسَائِل إِلَيْهِ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِطَلَبِهَا.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْغَيْبَةِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
89 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِنَّهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلاَ تُنَفَّذُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فَسْخٌ، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا طَلاَقٌ، وَهَل هِيَ طَلاَقٌ بَائِنٌ؟ لَمْ نَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، إِلاَّ أَنَّ إِطْلاَقَاتِهِمْ تُفِيدُ أَنَّهَا طَلاَقٌ بَائِنٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ قَوْلُهُ: إِنَّ كُل طَلاَقٍ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ طَلاَقٌ بَائِنٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمُولِي وَطَلاَقَ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَلاَقٌ لِلضَّرَرِ - وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - إِلاَّ أَنَّ الدُّسُوقِيَّ أَوْرَدَ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فِي ضِمْنِ الْكَلاَمِ عَنِ الْفُرْقَةِ لِلإِْيلاَءِ، وَهِيَ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ، فَاحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا، إِلاَّ أَنَّ الاِحْتِمَال الأَْوَّل هُوَ الأَْرْجَحُ.
2 - التَّفْرِيقُ لِلْفَقْدِ:
90 - إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً خَفِيَتْ فِيهَا أَخْبَارُهُ، وَجُهِلَتْ فِيهَا(29/64)
حَيَاتُهُ، فَهَل لِزَوْجَتِهِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ؟
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْغَائِبِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْقُودَ غَائِبٌ وَزِيَادَةٌ، فَيَكُونُ لِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ مَا لِزَوْجَةِ الْغَائِبِ مِنْ أَمْرِ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا لَمْ تَطْلُبْ زَوْجَتُهُ الْمُفَارَقَةَ، فَهَل تَكُونُ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ عُمْرَهَا كُلَّهُ؟
فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَحْوَالٌ وَشُرُوطٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: -
أ - إِذَا كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَةِ الزَّوْجِ السَّلاَمَةَ، كَمَا إِذَا غَابَ فِي تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ. . وَلَمْ يَعُدْ، وَخَفِيَتْ أَخْبَارُهُ وَانْقَطَعَتْ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ فِي الْحُكْمِ، وَلاَ تَنْحَل زَوْجِيَّتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَتَرَبَّصُ فِي هَذِهِ الْحَال أَرْبَعَ سِنِينَ مِنْ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ، فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَتَحِل بَعْدَهَا لِلأَْزْوَاجِ.
ب - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلاَكَ، كَمَنْ فُقِدَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، أَوْ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَعُدْ، أَوْ فُقِدَ فِي سَاحَةِ(29/65)
الْقِتَال. . . فَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، إِلَى أَنَّهَا لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمَوْتِ الأَْقْرَانِ، مَهْمَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ، كَمَنْ غَابَ وَظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلاَمَةُ عَلَى سَوَاءٍ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَقْسِيمٌ خَاصٌّ فِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ، هُوَ: أَنَّ الْمَفْقُودَ إِمَّا أَنْ يُفْقَدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ أَوْ حَالَةِ سِلْمٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَقْدُهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ دَارِ الشِّرْكِ، وَقَدْ يُفْقَدُ فِي قِتَالٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ طَائِفَةٍ مُسْلِمَةٍ وَأُخْرَى كَافِرَةٍ، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِي:
أ - فَإِذَا فُقِدَ فِي حَالَةِ السِّلْمِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تُؤَجَّل أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، هَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ.
ب - وَإِذَا فُقِدَ فِي دَارِ الشِّرْكِ، كَالأَْسِيرِ لاَ يُعْلَمُ لَهُ خَبَرٌ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى مُدَّةَ التَّعْمِيرِ أَيْ مَوْتِ أَقْرَانِهِ، حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ(29/65)
عِنْدَهَا مَوْتُهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِبُلُوغِهِ السَّبْعِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَقِيل: الثَّمَانِينَ، وَقِيل غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِلاَّ طَلُقَتْ عَلَيْهِ.
ج - فَإِنْ فُقِدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عَقِبَ انْفِصَال الصَّفَّيْنِ وَخَفَاءِ حَالِهِ، وَتَحِل بَعْدَهَا لِلأَْزْوَاجِ.
د - وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ طَائِفَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَأُخْرَى كَافِرَةٍ، فَإِنَّهُ يُكْشَفُ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُسْأَل عَنْهُ، فَإِنْ خَفَى حَالُهُ أُجِّلَتْ زَوْجَتُهُ سَنَةً، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ، ثُمَّ حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْفَقْدِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
91 - إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْمَفْقُودُ لِلْقَاضِي مِنْ قِبَل زَوْجَتِهِ أَوْ أَحَدِ وَرَثَتِهِ أَوِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي تَرِكَتِهِ، فَهُوَ حَيٌّ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ الْعُمْرَ كُلَّهُ بِالاِتِّفَاقِ.
فَإِذَا رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَقَضَى بِمَوْتِهِ، بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالأَْحْوَال وَالاِخْتِلاَفِ، انْقَضَتِ الزَّوْجِيَّةُ حُكْمًا مِنْ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِالْوَفَاةِ، وَبَانَتْ زَوْجَتُهُ وَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ جَبْرًا، وَهِيَ بَيْنُونَةُ وَفَاةٍ، لاَ بَيْنُونَةُ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ.
هَذَا وَلاَ بُدَّ لِحُلُول هَذِهِ الْفُرْقَةِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ، وَإِلاَّ فَهِيَ زَوْجَتُهُ الْعُمْرَ كُلَّهُ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحِل مَحَل الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِالْوَفَاةِ هُنَا عِنْدَ الْحَاجَةِ(29/66)
الْوَالِي، وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ. (1)
فَإِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ لَمْ تَتَزَوَّجْ غَيْرَهُ بَعْدَ عِدَّتِهَا فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ غَيْرَ صَحِيحٍ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْجَدِيدُ يَعْلَمُ بِحَيَاةِ الأَْوَّل، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا، وَلاَ يَعْلَمُ الزَّوْجُ الثَّانِي بِحَيَاةِ الأَْوَّل، فَهِيَ لِلثَّانِي إِنْ دَخَل بِهَا، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلاَّ فَهِيَ لِلأَْوَّل أَيْضًا.
3 - التَّفْرِيقُ لِلْحَبْسِ:
92 - إِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ مُدَّةً عَنْ زَوْجَتِهِ، فَهَل لِزَوْجَتِهِ طَلَبُ التَّفْرِيقِ كَالْغَائِبِ؟
الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ مُطْلَقًا، مَهْمَا طَالَتْ مُدَّةُ حَبْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُ حَبْسِهِ أَوْ مَكَانِهِ مَعْرُوفَيْنِ أَمْ لاَ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلأَِنَّهُ غَائِبٌ مَعْلُومُ الْحَيَاةِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِالتَّفْرِيقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلأَِنَّ غِيَابَهُ لِعُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ وَادَّعَتْ الضَّرَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَبْسِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) لمغني 8 / 94، والدسوقي والشرح الكبير 2 / 479 - 483، 441، ومغني المحتاج 3 / 397، والدر المختار 2 / 656.(29/66)
الْحَبْسَ غِيَابٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، كَمَا يَقُولُونَ بِهَا مَعَ الْعُذْرِ عَلَى سَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
(التَّفْرِيقُ لِلْعَيْبِ:
93 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْعُيُوبِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا التَّفْرِيقَ هَذَا بِعُيُوبِ الزَّوْجِ دُونَ عُيُوبِ الزَّوْجَةِ، وَجَعَلُوا التَّفْرِيقَ بِهِ حَقًّا لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، لاِمْتِلاَكِهِ الطَّلاَقَ دُونَهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِعَيْبِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ لِلْعَيْبِ حَقٌّ لَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى تَضْيِيقِ دَائِرَةِ التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَعَدَمِ التَّوَسُّعِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّفْرِيقِ عَلَى أَقْوَالٍ.
فَذَهَبَ الشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالْخِصَاءِ فَقَطْ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى ذَلِكَ: الْجُنُونَ.
(1) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِيقِ بِعُيُوبٍ اتَّفَقُوا
__________
(1) لبحر الرائق 4 / 126، وفتح القدير 3 / 267.(29/67)
فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَسَّمُوهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: قِسْمٌ مِنْهَا خَاصٌّ بِالرِّجَال، وَقِسْمٌ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَال.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ:
عُيُوبُ الرِّجَال وَهِيَ: الْجَبُّ (1) ، وَالْخِصَاءُ (2) وَالْعُنَّةُ (3) ، وَالاِعْتِرَاضُ (4) .
وَعُيُوبُ النِّسَاءِ هِيَ: الرَّتَقُ (5) ، وَالْقَرْنُ (6) ، وَالْعَفَل (7) ، وَالإِْفْضَاءُ (8) ،
__________
(1) لجب: هو عند الجمهور: قطع الذكر والأنثيين، ومثله في الحكم قطع الذكر وحده، فإذا كان الذكر صغيرًا كالزر فهو كالمجبوب في الحكم أيضًا. وعند المالكية هو قطع الذكر والأنثيين كالجمهور، ومثله قطع الأنثيين دون الذكر عند المالكية.
(2) الخصاء: هو عند الجمهور: قطع الأنثيين أو رضَّهما أو سلهما دون الذكر، وعند المالكية قطع الذكر دون الأنثيين.
(3) العنِّة: هي عند الجمهور: العجز عن الوطء مع سلامة العضو، وسمي بذلك لأن الذكر يعن يمنة ويسرة ولا يطأ في الفرج، وذهب المالكية إلى أن العنة هي صغر الذكر بحيث لا يتأتى به الجماع.
(4) الاعتراض: هو عند المالكية: عدم انتشار الذكر، ويقابله عند الجمهور العنة.
(5) الرُتق: هو انسداد محل النكاح، بحيث لا يمكن معه الوطء وربما كان ذلك لضيق في عظم الحوض أو لكثرة اللحم فيه.
(6) القرن: هو شيء ناتئ في الفرج يسده ويمنع الوطء، وربما كان ذلك من لحم أو عظم.
(7) العفل: رغوة في الفرج تحدث عند الجماع، أو هو ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة فيضيق به فرجها فلا ينفذ به الذكر. وقيل هو القرن.
(8) الإفضاء: هو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك البول، أو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك الغائط.(29/67)
وَالْبَخَرُ. (1)
وَالْعُيُوبُ الْمُشْتَرَكَةُ هِيَ: الْجُنُونُ (2) ، وَالْجُذَامُ (3) ، وَالْبَرَصُ (4) ، وَالْعِذْيَطَةُ (5) وَالْخَنَاثَةُ الْمُشْكِلَةُ. (6)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ:
عُيُوبُ الرِّجَال وَهِيَ: الْعُنَّةُ، وَالْجَبُّ.
وَعُيُوبُ النِّسَاءِ هِيَ: الرَّتَقُ، وَالْقَرْنُ.
وَالْعُيُوبُ الْمُشْتَرَكَةُ هِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ. (7)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ.
عُيُوبٌ خَاصَّةٌ بِالرِّجَال هِيَ: الْعُنَّةُ، وَالْجَبُّ.
وَعُيُوبٌ خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ هِيَ: الْفَتْقُ، وَالْقَرْنُ، وَالْعَفَل.
وَعُيُوبٌ مُشْتَرَكَةٌ، هِيَ: الْجُنُونُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجُذَامُ. (8)
إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبَا حَفْصٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
__________
(1) البخر: هو نتن الفرج، أو نتن الفم.
(2) الجنون: هو آفة تعتري العقل فتذهب به.
(3) الجذام: هو: علة يحمَّر منها العضو، ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، ويتصور ذلك في كل عضو من أعضاء الجسم، إلأ أنه في الوجه أكثر.
(4) البرص: هو: بقع بيضاء على الجلد تزداد اتساعًا مع الأيام، وربما نبت عليها شعر أبيض أيضًا، وربما كانت بقعا سوداء.
(5) العذيطة: هو التغوط عند الجماع، والتبول مثله.
(6) الخرشي 2 / 73.
(7) مغني المحتاج 3 / 202.
(8) المغني 7 / 582 مع الشرح الكبير.(29/68)
زَادَا عَلَى الْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ اسْتِطْلاَقَ الْبَطْنِ، وَسَلَسَ الْبَوْل، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بِهِ النَّاسُورُ وَالْبَاسُورُ، وَالْقُرُوحُ السَّيَّالَةُ فِي الْفَرْجِ؛ لأَِنَّهَا تُثِيرُ النُّفْرَةَ، وَتُعْدِي بِنَجَاسَتِهَا، وَقَال أَبُو حَفْصٍ: الْخِصَاءُ عَيْبٌ، وَفِي الْبَخَرِ وَالْخَنَاثَةِ وَجْهَانِ. (1)
94 - وَظَاهِرُ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ تُوحِي بِالْحَصْرِ فِي هَذِهِ الْعُيُوبِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ قَوْلُهُ: وَاخْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعُيُوبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ خِيَارَ فِيمَا عَدَاهَا، قَال فِي الرَّوْضَةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ.
وَجَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قُصِرَ الرَّدُّ عَلَى هَذِهِ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ، فَقِيل: لأَِنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَقِيل: لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَمَحْمَل سَائِرِ الْعُيُوبِ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا لاَ يَخْفَى، وَقِيل: لأَِنَّهَا يُخَافُ سِرَايَتُهَا إِلَى الأَْبْنَاءِ.
إِلاَّ أَنَّنَا إِلَى جَانِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ نَجِدُ نُصُوصًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْرِ الأَْئِمَّةِ التَّفْرِيقَ عَلَى الْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَيُلْحَقُ
__________
(1) ينظر في معاني هذه العيوب ابن عابدين 3 / 494. والشرح الكبير 2 / 277 ومغني المحتاج 3 / 202، والمغني 7 / 125.(29/68)
بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا فِي الضَّرَرِ.
مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الاِخْتِيَارَاتِ الْعِلْمِيَّةِ: وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ بِكُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ عَنْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ فِي زَادِ الْمَعَادِ: وَأَمَّا الاِقْتِصَارُ عَلَى عَيْبَيْنِ أَوْ سِتَّةٍ، أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا أَوْ مُسَاوٍ لَهَا فَلاَ وَجْهَ لَهُ، فَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالطَّرَشُ، وَكَوْنُهَا مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَوْنُ الرَّجُل كَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ كُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ الزَّوْجَ الآْخَرَ مِنْهُ، وَلاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ.
وَمَا قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَال مُحَمَّدٌ: خُلُوُّهُ مِنْ كُل عَيْبٍ لاَ يُمْكِنُهَا الْمَقَامُ مَعَهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، كَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ، حَتَّى يُفْسَخَ بِهِ النِّكَاحُ حَيْثُ جَاءَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ بِصِيغَةِ التَّمْثِيل.
هَذَا إِلَى جَانِبِ أَنَّ نُصُوصَ الْفُقَهَاءِ عَامَّةً كَانَتْ تُعَلِّل التَّفْرِيقَ لِلْعَيْبِ بِالضَّرَرِ الْفَاحِشِ وَبِالْعَدْوَى، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 327، وبداية المجتهد 2 / 55، ومغني المحتاج 3 / 203 نقلا عن الأم، والمغني 7 / 581 مع الشرح الكبير. وترى اللجنة أن هذه العيوب المنصوص عليها ليست للحصر، وإنما هي للتمثيل، ولذلك فإنه يلحق بها كل ما كان في معناها أو زاد عليها، كالإيدز وما شابهه من الأمراض التي تفوق بعض ما ذكر.(29/69)
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ لَدَى الْفُقَهَاءِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ، وَفْقَ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِالْعَيْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَلِي:
95 - أ - عَدَمُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، فَإِنْ رَضِيَ السَّلِيمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، كَأَنْ يَقُول: رَضِيتُ بِعَيْبِ الآْخَرِ، أَوْ يَطَأَهَا، أَوْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ. فَإِنَّهُ لاَ خِيَارَ لِهَؤُلاَءِ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِيهِ إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْعِنِّينِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ إِذَا رَضِيَتْ بِعُنَّتِهِ بَعْدَ الدُّخُول فَلاَ خِيَارَ لَهَا عِنْدَهُمْ خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ يُوَافِقُ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَهُوَ الْعِنِّينُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا مَكَّنَتْهُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِاعْتِرَاضِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لاِحْتِمَال أَنَّهَا كَانَتْ تَرْجُو بُرْأَهُ بِذَلِكَ. قَال الدَّرْدِيرُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: الْخِيَارُ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ وُجُودِ عَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ الآْتِي بَيَانُهَا. . إِنْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ. . أَوْ لَمْ(29/69)
يَرْضَ بِعَيْبِ الْمَعِيبِ صَرِيحًا أَوِ الْتِزَامًا حَيْثُ اطَّلَعَ. . . إِلاَّ امْرَأَةَ الْمُعْتَرِضِ إِذَا عَلِمَتْ قَبْل الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ بِاعْتِرَاضِهِ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ، حَيْثُ كَانَتْ تَرْجُو بُرْأَهُ فِيهِمَا وَلَمْ يَحْصُل.
(1) وَهَل يُعَدُّ الرِّضَا بِالْعَيْبِ قَبْل النِّكَاحِ مُسْقِطًا لِلْخِيَارِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَهَا بِعُنَّتِهِ فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً؟ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ كَذَلِكَ، إِلاَّ فِي الْعِنِّينِ، فَإِنَّهُ قَال: يُؤَجَّل؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنِّينًا فِي نِكَاحٍ دُونَ نِكَاحٍ، ثُمَّ إِنَّ عَجْزَهُ عَنْ وَطْءِ امْرَأَةٍ لَيْسَ دَلِيلاً عَلَى عَجْزِهِ عَنْ وَطْءِ غَيْرِهَا.
(2) ب - سَلاَمَةُ طَالِبِ الْفَسْخِ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْجُمْلَةِ:
96 - الْمَبْدَأُ الْعَامُّ لَدَى الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِطَلَبِ التَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ سَلاَمَةُ طَالِبِ التَّفْرِيقِ مِنَ الْعُيُوبِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، عَلَى مَا يَلِي:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِيمَا فَصَّلَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 277.
(2) المغني 7 / 128 - 129، ومغني المحتاج 3 / 203.(29/70)
مَذْهَبِهِمْ - إِلَى أَنَّ طَالِبَ التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ إِذَا كَانَ فِيهِ عَيْبٌ مُمَاثِلٌ لِلآْخَرِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ التَّفْرِيقَ دُونَ الْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ بَذْل الصَّدَاقِ لِسَالِمَةٍ، دُونَهَا هِيَ، قَال اللَّخْمِيُّ: وَإِنِ اطَّلَعَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِي صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَجُذَامٍ، أَوْ بَرَصٍ أَوْ جُنُونٍ صَرِيحٍ لَمْ يَذْهَبْ، فَإِنَّ لَهُ الْقِيَامَ دُونَهَا، لأَِنَّهُ بَذَل صَدَاقًا لِسَالِمَةٍ، فَوَجَدَهَا مِمَّنْ يَكُونُ صَدَاقُهَا أَقَل مِنْ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ كَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ طَلَبُ التَّفْرِيقِ مُطْلَقًا وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ: لَهُ التَّفْرِيقُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِ عَيْبِهِ، أَمْ لاَ، أَمْ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، إِلَى أَنَّ لِلْمَعِيبِ أَنْ يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ لِعَيْبِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِ عَيْبِهِ أَمْ لاَ، وَقِيل: إِنْ وُجِدَ بِهِ مِثْل عَيْبِهِ مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، قَدْرًا وَفُحْشًا مَثَلاً، فَلاَ خِيَارَ لَهُ لِتَسَاوِيهِمَا. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ طَالِبَ الْفَسْخِ، إِذَا كَانَ مَعِيبًا بِعَيْبٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ عَيْبِ الآْخَرِ، كَالأَْبْرَصِ يَجِدُ الْمَرْأَةَ مَجْنُونَةً، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 277.
(2) مغني المحتاج 3 / 203 - 204.(29/70)
الْخِيَارُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إِلاَّ أَنْ يَجِدَ الْمَجْبُوبُ الْمَرْأَةَ رَتْقَاءَ، فَلاَ يَنْبَغِي ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُمَا؛ لأَِنَّ عَيْبَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعُ لِصَاحِبِهِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ.
فَإِنْ كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِ عَيْبِ صَاحِبِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لاَ خِيَارَ لَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَلاَ مَزِيَّةَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَأَشْبَهَا الصَّحِيحَيْنِ. وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ. (1)
ج - وَهَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا؟
97 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ السَّابِقَ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُرَافِقَ لَهُ، وَالْحَادِثَ بَعْدَهُ، سَوَاءٌ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ بِهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الإِْجَارَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمْ نَوْعُ اخْتِلاَفٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى مَا يَلِي:
فَالْمَالِكِيَّةُ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ السَّابِقَ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْمُقَارِنَ لَهُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْخِيَارِ، أَمَّا الْعَيْبُ الطَّارِئُ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ خِيَارٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُصِيبَةٌ حَلَّتْ بِهِ، وَبِإِمْكَانِهِ التَّخَلُّصُ مِنْهَا بِالطَّلاَقِ، وَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فَاحِشًا كَثِيرَ الضَّرَرِ فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تُمْكِنُ مَعَهُ الْعِشْرَةُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ تُخَيَّرْ.
__________
(1) المغني 7 / 112.(29/71)
وَالْعُيُوبُ الْفَاحِشَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ: الْجُذَامُ الْبَيِّنُ الْمُحَقَّقُ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، وَالْبَرَصُ الْفَاحِشُ دُونَ الْيَسِيرِ، وَالْعِذْيَطَةُ، فَقَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا عَيْبٌ فَاحِشٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، وَالاِعْتِرَاضُ، وَالْخِصَاءُ، وَكِبَرُ الذَّكَرِ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ، هَذَا إِذَا حَدَثَتْ قَبْل الْوَطْءِ، فَإِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلاَ خِيَارَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الزَّوْجِ كَأَنْ جَبَّ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ يُخَيَّرُ بِهِ مُطْلَقًا، أَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ حَادِثًا بِالزَّوْجِ، كَالْجَبِّ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بِهِ إِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول جَزْمًا، وَبَعْدَ الدُّخُول عَلَى الأَْصَحِّ، وَذَلِكَ لِحُصُول الضَّرَرِ بِهِ كَمَا فِي الْعَيْبِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ، وَلاَ خَلاَصَ لَهَا إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِذَلِكَ، وَيَسْتَوِي هُنَا أَنْ تَجُبَّهُ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْعِنِّينَ، فَقَالُوا: إِنْ وَصَل إِلَى زَوْجَتِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَعَنَّنَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي الْقَوْل الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يُخَيَّرُ الزَّوْجُ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْخَلاَصِ مِنْهَا بِالطَّلاَقِ، بِخِلاَفِهَا. وَفِي
__________
(1) الدسوقي 2 / 278 - 279 - 280.(29/71)
الْقَوْل الْجَدِيدِ: أَنَّهُ يُخَيَّرُ كَالزَّوْجَةِ، لِتَضَرُّرِهِ بِالْعَيْبِ الطَّارِئِ كَتَضَرُّرِهِ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَلاَ مَعْنَى لإِِمْكَانِ تَخَلُّصِهِ مِنْهَا بِالطَّلاَقِ دُونَهَا، لأَِنَّهُ سَيَغْرَمُ نِصْفَ الصَّدَاقِ لَهَا قَبْل الدُّخُول، دُونَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ. (1)
وَذَهَبَ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَأْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَبْدَأِ عَلَى إِطْلاَقِهِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَابْنَ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالاَ: إِنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ بِالْعَيْبِ السَّابِقِ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُرَافِقِ لَهُ، دُونَ الْعَيْبِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلاَ يَنْفَسِخُ، فَأَشْبَهَ الْعَيْبَ الطَّارِئَ عَلَى الْمَبِيعِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى رِوَايَةِ الْخِرَقِيِّ - الْعُنَّةَ، فَإِنَّ الْعِنِّينَ إِنْ وَصَل إِلَى زَوْجَتِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَعَنَّنَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ. (2)
د - التَّأْجِيل فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُرْجَى الْبُرْءُ مِنْهَا:
98 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَأْجِيل الْعِنِّينِ سَنَةً كَالْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَاقِي الْعُيُوبِ عَلَى مَا يَلِي:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ التَّأْجِيل فِيهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّأْجِيل فِيمَا يُرْجَى الْبُرْءُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 203 - 204.
(2) المغني 7 / 130 - 131.(29/72)
مِنْهُ، فَقَالُوا بِالتَّأْجِيل فِي الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَالرَّتَقِ، وَالْقَرْنِ، وَالْعَفَل، وَالْبَخَرِ، فَإِذَا كَانَ الْبُرْءُ مِنْهَا مَرْجُوًّا يُؤَجِّلُهُ الْقَاضِي بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا، شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، وَلَمْ يَحُدُّوا لِذَلِكَ حَدًّا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبُرْءُ مِنْ ذَلِكَ مَرْجُوًّا، كَالْجَبِّ، فَرَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِدُونِ تَأْجِيلٍ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. (1)
99 - هـ - أَنْ يَطْلُبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ التَّفْرِيقَ وَيَثْبُتَ عَيْبُ الآْخَرِ، لأَِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَا حَقُّهُ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَفِي الْعِنِّينِ يَجِبُ طَلَبُ الزَّوْجَةِ التَّفْرِيقَ قَبْل ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا.
قَال فِي الْمُغْنِي: وَلاَ يُفْسَخُ حَتَّى تَخْتَارَ الْفَسْخَ، وَتَطْلُبَهُ، لأَِنَّهُ لِحَقِّهَا، فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ كَالْفَسْخِ بِالإِْعْسَارِ. (2) وَقَال فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: فَإِذَا تَمَّتْ تِلْكَ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلزَّوْجِ، وَلَمْ يَطَأْ عَلَى مَا يَأْتِي، وَلَمْ تَعْتَزِلْهُ فِيهَا، رَفَعَتْهُ ثَانِيًا إِلَيْهِ، أَيِ الْقَاضِي، فَلاَ يُفْسَخُ بِلاَ رَفْعٍ، إِذْ مَدَارُ الْبَابِ عَلَى الدَّعْوَى وَالإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ وَالْيَمِينِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرِ الْقَاضِي وَاجْتِهَادِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلتَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 279، ومغني المحتاج 3 / 206، والمغني 7 / 126.
(2) المغني 7 / 127.
(3) مغني المحتاج 3 / 206.(29/72)
نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّرُوطِ: الأَْوَّل عَامٌّ فِي الْعُيُوبِ كُلِّهَا، وَالثَّانِي خَاصٌّ بِعُيُوبٍ مُعَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
فَالشُّرُوطُ الْعَامَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هِيَ:
100 - أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ جَاهِلَةً بِالْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ، وَلَمْ تَرْضَ بِهِ بَعْدَهُ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِهِ لِرِضَاهَا بِهِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَرَضِيَتْ بِهِ صَرَاحَةً، كَأَنْ قَالَتْ: رَضِيتُ بِعَيْبِهِ هَذَا، أَوْ دَلاَلَةً بِأَنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي التُّحْفَةِ: وَإِذَا خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ فَوَجَدَ فِيهَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ، يَبْطُل خِيَارُهَا كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ.
وَلَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعُنَّةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَرَضِيَتْ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا، كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ.
(1) وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا خَيَّرَهَا الْقَاضِي فَاخْتَارَتِ الْمَقَامَ مَعَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ يَبْطُل حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ لَهَا خُصُومَةٌ أَبَدًا فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، لِرِضَاهَا بِالْعَيْبِ. (2)
__________
(1) تحفة الفقهاء 2 / 338 - 339.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 337 - 338.(29/73)
101 - أَنْ تَطْلُبَ الزَّوْجَةُ إِلَى الْقَاضِي التَّفْرِيقَ؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ حَقُّهَا، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي طَلاَقُهَا دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا. وَطَلَبُهَا هَذَا شَرْطٌ فِي الْعِنِّينِ قَبْل ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا. (1)
102 - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَالِيَةً مِنْ أَيِّ عَيْبٍ يَمْنَعُ الْوَطْءَ كَالرَّتَقِ وَالْقَرْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً بِعَيْبٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ لِعَيْبِ الرَّجُل؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْوَطْءِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ فَقَطْ، وَالاِمْتِنَاعُ قَائِمٌ مِنْ جِهَتِهَا عَلَى فَرْضِ سَلاَمَةِ الزَّوْجِ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَعَ عَيْبِهِ.
أَمَّا الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْعُنَّةِ فَهِيَ:
103 - أ - الْعَجْزُ عَنِ الإِْيلاَجِ فِي الْقُبُل، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الْعُنَّةِ بِالإِْيلاَجِ فِي الدُّبُرِ.
ب - الْعَجْزُ عَنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ نَفْسِهَا، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى وَطْءِ غَيْرِهَا وَعَجَزَ عَنْ وَطْئِهَا هِيَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعُنَّةِ فِي حَقِّهَا؛ لأَِنَّ الْعُنَّةَ مَرَضٌ نَفْسِيٌّ غَالِبًا، وَهُوَ قَدْ يَخْتَلِفُ مِنِ امْرَأَةٍ إِلَى أُخْرَى.
ج - الْعَجْزُ عَنْ إِيلاَجِ الْحَشَفَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعُنَّةِ إِلاَّ بِإِدْخَال بَاقِي الذَّكَرِ كُلِّهِ، إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 263 - 264.(29/73)
فَهِيَ: قَطْعُ الذَّكَرِ، فَإِذَا قُطِعَ الذَّكَرُ وَالْخُصْيَتَانِ ثَبَتَ التَّفْرِيقُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يُقْطَعِ الذَّكَرُ وَلَكِنَّهُ كَانَ قَصِيرًا كَالزِّرِّ، فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ فِي الْحُكْمِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِدْخَال مِثْلِهِ فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي الْفَرْجِ فَلَيْسَ بِمَجْبُوبٍ وَلاَ تَفْرِيقَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل إِلَى آخِرِ الْفَرْجِ.
فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ فَقَطْ وَلَهُ مَا يُدْخِلُهُ فِي الْفَرْجِ بَعْدَهَا، لَمْ يَكُنْ مَجْبُوبًا، وَلاَ تَفْرِيقَ.
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (جَبّ ج 15 ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
105 - وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْخِصَاءِ:
فَهِيَ الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْعُنَّةِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هَذَا إِذَا نُزِعَتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ رُضَّتَا أَوْ سُلَّتَا وَعَجَزَ عَنْ الاِنْتِشَارِ، فَإِذَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الاِنْتِشَارِ فَلَيْسَ خَصِيًّا فِي الْحُكْمِ، وَلاَ تَفْرِيقَ.
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ:
106 - إِذَا أَقَرَّ الْمَعِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْبِهِ الْمُدَّعَى بِهِ ثَبَتَ عَيْبُهُ بِإِقْرَارِهِ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ.
فَإِذَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ وَادَّعَى السَّلاَمَةَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْجَسِّ مِنْ فَوْقِ الإِْزَارِ، كَالْجَبِّ، أَمَرَ الْقَاضِي مَنْ يَجُسُّهُ مِنَ(29/74)
الرِّجَال مِنْ فَوْقِ الإِْزَارِ، وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ عَدْلاً؛ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ.
فَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الْعَيْبُ بِالْجَسِّ أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُبَاحٌ هُنَا لِلضَّرُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَرْأَةِ كَالْقَرْنِ وَالرَّتَقِ، أَمَرَ الْقَاضِي امْرَأَةً تَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ بِقَوْلِهَا مَا دَامَتْ عَدْلَةً.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ كَالْعُنَّةِ، فَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا بِكْرٌ، أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قَالَتِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ - وَالْمَرْأَتَانِ أَوْثَقُ -: إِنَّهَا بِكْرٌ، فَالْقَوْل قَوْلُهَا، وَيُؤَجَّل سَنَةً، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَال شَاهِدٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، وَإِنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ الثِّقَةُ: إِنَّهَا ثَيِّبٌ حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ حَلَفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْعُنَّةِ، وَخُيِّرَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ التَّأْجِيل.
وَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا ثَيِّبٌ، حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ حَلَفَ صُدِّقَ وَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْعُنَّةِ وَأُجِّلَتْ أَوْ خُيِّرَتْ.
فَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا بِكْرٌ فَوُجِدَتْ ثَيِّبًا، فَادَّعَتْ أَنَّهُ أَزَال بَكَارَتَهَا بِأُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صُدِّقَ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهَا تَدَّعِي غَيْرَ الأَْصْل
هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ (1)
__________
(1) الدر المختار 3 / 499، وتحفة الفقهاء 2 / 336.(29/75)
وَالْحَنَابِلَةُ مِثْل الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ فِي الْعِنِّينِ، فَإِنَّ لَهُمْ فِي قَبُول قَوْل الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا رِوَايَتَيْنِ الأُْولَى: أَنَّ الْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَال شَاهِدٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُخَلَّى مَعَهَا وَيُقَال: أَخْرِجْ مَاءَكَ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّ الْعِنِّينَ يَضْعُفُ عَنِ الإِْنْزَال، فَإِنْ أَنْزَل تَبَيَّنَ صِدْقُهُ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا، حَكَاهَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ الرِّوَايَةَ الأُْولَى، وَضَعَّفَ مَا عَدَاهَا، فَقَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ، كَمَا لَوِ ادَّعَى الْوَطْءَ فِي الإِْيلاَءِ.
(1) وَالشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي الْعِنِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا ادَّعَتِ الْبَكَارَةَ أُرِيَتِ النِّسَاءَ، وَلَمْ يُقْبَل بِأَقَل مِنْ أَرْبَعٍ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِبَكَارَتِهَا فَالْقَوْل قَوْلُهَا لِلظَّاهِرِ، وَهَل تَحْلِفُ؟ وَجْهَانِ، رُجِّحَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ التَّحْلِيفُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، مَا لَمْ يَدَّعِ الزَّوْجُ عَوْدَةَ الْبَكَارَةِ إِلَيْهَا فَإِنْ قَال ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَهَا، حَلَفَتْ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
__________
(1) المغني 7 / 132 - 133، وكشاف القناع 5 / 106 - 108.(29/75)
فَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا ثَيِّبٌ وَأَنْكَرَتْ الْوَطْءَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ لَهُ، فَإِنْ نَكَل حُلِّفَتِ الزَّوْجَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَنَّ الْيَمِينَ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهَا. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (2) فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى الْجَسِّ فِيمَا يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، وَكَانَ مِمَّا لاَ يَرَاهُ الرِّجَال وَلاَ النِّسَاءُ كَالاِعْتِرَاضِ، وَبَرَصِ الْفَرْجِ، فَإِنَّ الْقَوْل فِيهِ قَوْل الْمَعِيبِ بِيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَرَاهُ الرِّجَال، كَالْبَرَصِ فِي الْيَدِ أَوِ الْوَجْهِ فِي الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُل عَلَى سَوَاءٍ، لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِل جِسْمِ الْمَرْأَةِ دُونَ الْفَرْجِ، كَفَى فِيهِ امْرَأَتَانِ. (3)
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِالْعَيْبِ وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
107 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْعَيْبِ طَلاَقٌ بَائِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا فَسْخٌ وَلَيْسَتْ طَلاَقًا.
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْعَيْبِ لاَ تَقَعُ بِغَيْرِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي ثُمَّ الْقَاضِي يُكَلِّفُ الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ فَبِهَا، وَإِلاَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 205 - 206.
(2) الدسوقي 2 / 284.
(3) ما سبق من كلام الفقهاء في العيوب عامة يمكن أن ترفع بعض هذه الخلافات بأهل الاختصاص، ووسائل المعرفة الحديثة التي يتمكن بواسطتها من كشف كثير من العيوب الخفية. (اللجنة) .(29/76)
طَلَّقَهَا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ: أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ نَفْسِهَا بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْعُنَّةِ بِدُونِ قَضَاءٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي رِوَايَتِهِمُ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا إِذْنَ الْقَاضِي لَهَا بِالتَّطْلِيقِ إِذَا كَانَ بِقَوْلِهَا، وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْخِلاَفِ، وَالْحُكْمُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِلإِْشْهَادِ وَالتَّوْثِيقِ، لاَ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّهُ وَقَعَ بِقَوْلِهَا. (2)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ،
الأَْوَّل: أَنَّهَا تَسْتَقِل بِالْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهَا فِيهِ لَدَى الْقَاضِي بِيَمِينِهَا أَوْ إِقْرَارِهِ.
وَالثَّانِي: لاَ بُدَّ مِنْ فَسْخِ الْقَاضِي رَفْعًا لِلْخِلاَفِ.
(3) أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الْفَسْخَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِحُكْمِ الْقَاضِي. (4)
وَهَل تَكُونُ الْحُرْمَةُ الْوَاقِعَةُ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ مُؤَبَّدَةً؟
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُؤَبَّدَةٍ، وَلَهُمَا الْعَوْدُ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ ثَانِيَةً بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ الْوَاقِعَةَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ مُؤَبَّدَةٌ. (5)
__________
(1) البحر الرائق 4 / 125.
(2) الشرح الكبير 2 / 282 - 283.
(3) مغني المحتاج 3 / 207.
(4) المغني 7 / 126 - 127.
(5) المغني 7 / 127، والبحر الرائق 4 / 127.(29/76)
التَّفْرِيقُ لِفَوَاتِ الْكَفَاءَةِ:
108 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الاِعْتِدَادِ بِالْكَفَاءَةِ فِي الزَّوَاجِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي اعْتِبَارِهَا سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَاءَة) .
صُوَرٌ أُخْرَى مِنَ التَّفْرِيقِ:
109 - هُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى مِنَ التَّفْرِيقِ يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَهَا طَلاَقٌ، وَمِنْهَا:
أ - التَّفْرِيقُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُلُوغ) ف 39 وَمَا بَعْدَهَا.
ب - التَّفْرِيقُ لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة) ف 44.
ج - التَّفْرِيقُ لِلِّعَانِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (فُرْقَة، وَلِعَان) .
د - التَّفْرِيقُ لِفَسَادِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ لِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .
هـ - التَّفْرِيقُ لِلتَّحْرِيمِ الطَّارِئِ بِالرَّضَاعِ أَوِ الْمُصَاهَرَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (رَضَاع) ف 27، (وَمُصَاهَرَة) .
و التَّفْرِيقُ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر) .(29/77)
طَلَبُ الْعِلْمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّلَبُ فِي اللُّغَةِ: مُحَاوَلَةُ وِجْدَانِ الشَّيْءِ وَأَخْذِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (1)
وَالْعِلْمُ لُغَةً: الْيَقِينُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ.
وَاصْطِلاَحًا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ: فَتَارَةً عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا عِلْمُ الْخَالِقِ فَهُوَ الإِْحَاطَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهْل:
2 - الْجَهْل لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ وَالْخَطَأِ، يُقَال جَهِل عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ.
وَالْجَهْل اصْطِلاَحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ
__________
(1) لسان العرب مادة (طلب، والكليات 3 / 153) .
(2) الكليات 3 / 204.(29/77)
عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. (1)
ب - الْمَعْرِفَةُ:
3 - الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ يُقَال عَرَّفَهُ الأَْمْرَ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَعَرَّفَهُ بَيْتَهُ: أَعْلَمَهُ بِمَكَانِهِ. (2)
وَالْمَعْرِفَةُ اصْطِلاَحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، قَال صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ بِخِلاَفِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ دُونَ الْعَارِفِ.
وَفَرَّقَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُقَال لِلإِْدْرَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ، وَلِثَانِي الإِْدْرَاكَيْنِ إِذَا تَخَلَّلَهُمَا عَدَمٌ، وَلإِِدْرَاكِ الْجُزْئِيِّ، وَلإِِدْرَاكِ الْبَسِيطِ. وَالْعِلْمُ يُقَال لِحُصُول صُورَةِ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْل، وَلِلاِعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ الثَّابِتِ، وَلإِِدْرَاكِ الْكُلِّيِّ، وَلإِِدْرَاكِ الْمُرَكَّبِ. (3)
حُكْمُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ.
أ - طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
4 - طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير والتعريفات للجرجاني مادة (جهل) .
(2) لسان العرب مادة (عرف) .
(3) التعريفات للجرجاني 283، والكليات 4 / 219، 296.(29/78)
الْجُمْلَةُ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ طَلَبِهَا بِاخْتِلاَفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
فَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا لاَ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَحَمَل عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ.
(1) قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ يَجِبُ طَلَبُهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَيَجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، كَمَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُول، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ غَالِبًا، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ
__________
(1) حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 81) من حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف، ولكن له طرقا كثيرة يتقوى بها، ذكر بعضها السخاوي في المقاصد الحسنة (ص275 - 276) وله شواهد عن جماعة من الصحابة، ونقل عن المزي أنه حسنه كما نقل عن العراقي أنه قال: صحح بعض الأئمة بعض طرقه.(29/78)
كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَعَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا، وَالأُْصُول، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالإِْجْمَاعِ، وَالْخِلاَفِ.
وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيل ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيَعُمُّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُل بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ جَمْعٌ تَحْصُل الْكِفَايَةُ بِبَعْضِهِمْ فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ فِي الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ فَالْكُل يَقَعُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلَوْ أَطْبَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمَ كُل مَنْ لاَ عُذْرَ لَهُ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ نَفْلٌ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُول الأَْدِلَّةِ، وَالإِْمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ.
(1)
__________
(1) المجموع 1 / 24 وما بعدها ط. المكتبة السلفية المدينة المنورة، إحياء علوم الدين 1 / 21، 23 ط. مصطفى الحلبي 1939م، الأداب الشرعية 2 / 36، مكتبة الرياض الحديثة حاشية ابن عابدين 1 / 27، 29 وما بعدها.(29/79)
ب - الْعُلُومُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ:
5 - يَعْتَرِي طَلَبُ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ الْخَمْسَةَ، إِذْ مِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالْعُلُومِ الَّتِي لاَ يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا، كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ الأَْبْدَانِ، وَالْحِسَابِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ طَلَبُهُ فَضِيلَةً وَهُوَ التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ مُحَرَّمٌ، كَطَلَبِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَكُل مَا كَانَ سَبَبًا لإِِثَارَةِ الشُّكُوكِ، وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ. (1)
فَضْل طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ:
6 - تَكَاثَرَتِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ وَالآْثَارُ فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.
فَمِنَ الآْيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ،
__________
(1) المجموع 1 / 26، إحياء علوم الدين 1 / 23، حاشية ابن عابدين 1 / 29 وما بعدها.
(2) سورة التوبة / 122.(29/79)
وَقَوْل مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي نَدْبَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالإِْلْزَامِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ وَهُوَ أَبْيَنُ.
وَمِنَ الآْيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْل طَلَبِ الْعِلْمِ قَوْله تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . (1)
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيل اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّل اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. (4)
وَمِنَ الآْثَارِ قَوْل مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَِهْلِهِ قُرْبَةٌ.
وَمِنَ الآْثَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) سورة المجادلة / 11.
(2) حديث: " من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 164) ومسلم (2 / 718) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) حديث: " من خرج في طلب العلم ". أخرجه الترمذي (5 / 29) وأعله المناوي في فيض القدير (6 / 124) براو متكلم فيه.
(4) حديث: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2074) من حديث أبي هريرة.(29/80)
: مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُدُوَّ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ فِي رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ.
وَقَوْل الشَّافِعِيِّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَل مِنَ النَّافِلَةِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ لاَ يُوَازِيهَا عَمَلٌ. (1)
تَرْجِيحُ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى فَاعِلِهَا:
7 - حَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَالاِشْتِغَال بِهِ أَفْضَل مِنْ الاِشْتِغَال بِنَوَافِل الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَوَافِل عِبَادَاتِ الْبَدَنِ.
فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْل الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ (2) وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: الْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالاَ: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةِ تَطَوُّعٍ؛ وَلأَِنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ يَعُمُّ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 19ط. المكتبة السلفية، إحياء علوم الدين 1 / 15، 16 ط. مصطفى الحلبي 1939، الأداب الشرعية 2 / 39 ط. مكتبة الرياض الحديثة، تفسير القرطبي 8 / 293 وما بعدها ط. دار الكتب المصرية 1939م.
(2) حديث أبي أمامة: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 50) وقال: " حديث غريب ".(29/80)
صَاحِبَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالنَّوَافِل الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلأَِنَّ الْعِلْمَ مُصَحِّحٌ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْعَكِسُ، وَلأَِنَّ الْعِلْمَ تَبْقَى فَائِدَتُهُ وَأَثَرُهُ بَعْدَ صَاحِبِهِ، وَالنَّوَافِل تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ صَاحِبِهَا. (1)
كَمَا أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ، وَعَدَمَ الاِجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَل بِهِ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَنِ: كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الآْخِرَةِ. (2)
وَقْتُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
8 - لَيْسَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، بَل هُوَ مَطْلُوبٌ فِي جَمِيعِ مَرَاحِل الْعُمْرِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَضَّلُوا الطَّلَبَ فِي مَرْحَلَةِ الصِّغَرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاحِل، لِصَفَاءِ الذِّهْنِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى رُسُوخِ الْعِلْمِ فِي الذَّاكِرَةِ، قَال الْعَدَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْمُنَاوِيِّ: وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، فَقَدْ تَفَقَّهَ الْقَفَّال وَالْقُدُورِيُّ بَعْدَ الشَّيْبِ فَفَاقَا الشَّبَابَ.
وَأَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ.
__________
(1) المجموع 1 / 20، حاشية ابن عابدين 1 / 27، مغني المحتاج 1 / 8.
(2) الموافقات للشاطبي 1 / 76 ط. المكتبة التجارية.(29/81)
قَال النَّوَوِيُّ: عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمْ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُل فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَبْلُغُ بِهِ، وَقِيل: هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَدَلِيل تَعْلِيمِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. (2)
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ وُجُوبَ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ يَبْدَأُ بَعْدَ اسْتِكْمَال سَبْعِ سِنِينَ، لِحَدِيثِ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ بَعْدَ اسْتِكْمَال السَّبْعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ
__________
(1) سورة التحريم / 6.
(2) حديث ابن عمر: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 380) ومسلم (3 / 1459) .
(3) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 334) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171) .(29/81)
بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: يَجِبُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ.
كَمَا حَضَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِدَامَةِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَوْ مَعَ التَّقَدُّمِ فِي السِّنِّ، أَوِ التَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ، قِيل لاِبْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ قَال: حَتَّى الْمَمَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَسُئِل سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَال: أَعْلَمُهُمْ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ أَقْبَحُ. (1)
الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:
9 - الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَال: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دَخَل عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ فَقَال: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْل الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا قَبِلْنَا يَا رَسُول اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 32، 35، المجموع 1 / 26، حاشية الجمل 1 / 390، روضة الطالبين 1 / 190، كشاف القناع 1 / 225، جامع بيان العلم وفضله 1 / 84، 96.(29/82)
وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّل هَذَا الأَْمْرِ، قَال: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ. ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَال: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ، أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ. (1)
قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ السُّؤَال عَنْ كُل مَا لاَ يَعْلَمُهُ، وَجَوَازُ الْعُدُول عَنْ سَمَاعِ الْعِلْمِ إِلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ، وَجَوَازُ إِيثَارِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ رَحَل إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَمَّا قَدِمَ مِصْرَ أَخْبَرُوا عُقْبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، قَال أَبُو أَيُّوبَ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَتَى أَبُو أَيُّوبَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَهَا وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا حَل رَحْلَهُ (2) :
وَسُئِل الإِْمَامُ أَحْمَدُ: تَرَى الرَّجُل أَنْ يَرْحَل لِطَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَال: نَعَمْ، رَحَل أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
__________
(1) حديث: عمران بن حصين: " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 286، 13 / 403) ، والنص الموجود في البحث ملفق من روايتين للحديث.
(2) حديث: أبي أيوب أنه رحل إلى عقبة بن عامر. . . أخرجه الحميدي في مسنده (1 / 190) .(29/82)
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كُنْتُ لأَُسَافِرُ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالأَْيَّامِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
وَقَال الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِل مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفَرَهُ ضَاعَ.
قَال الْحَطَّابُ: يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لاَ عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ. (1)
اسْتِئْذَانُ الأَْبَوَيْنِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:
10 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بَيْنَ خَوْفِ الْهَلاَكِ بِسَبَبِ هَذَا الْخُرُوجِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْهَلاَكِ.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ كَانَ خُرُوجُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنَ الضَّيْعَةِ عَلَى الأَْبَوَيْنِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِأَنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَمَا لَهُ لاَ يَفِي بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَتِهِمَا، فَإِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَيْهِمَا بِأَنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَلَمْ
__________
(1) الأداب الشرعية لابن مفلح 2 / 57، 59، جامع بيان العلم وفضله 1 / 94، مواهب الجليل 2 / 139.(29/83)
تَكُنْ نَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكَ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، فَلاَ يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ إِنْ كَرِهَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا خُرُوجَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ أَوْ لاَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ.
وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْلاَدٌ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ وَحِفْظِ الْعِيَال فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلأَْبَوَيْنِ مَنْعَ وَلَدِهِمَا مِنَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ فِي سَفَرِهِ خَطَرٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فُرُوضُ الْكِفَايَةِ كَالْعِلْمِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَاجَةِ، كَالتِّجَارَةِ، فَلَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ لِتَحْصِيلِهِ إِذَا كَانَ لَيْسَ فِي بَلَدِهِمَا مَنْ يُفِيدُهُ حَيْثُ كَانَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبِرِّ خَطَرًا وَإِلاَّ فَلاَ مَنْعَ.
وَصَرَّحَ الْعَدَوِيُّ: بِأَنَّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ أَهْلاً، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ لِتَعَلُّمِ الْفَرْضِ وَكُل وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ مُتَّسِعًا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الأَْبَوَانِ، كَمَا أَجَازُوا السَّفَرَ لِطَلَبِ الْفَرْضِ(29/83)
الْكِفَائِيِّ، كَدَرَجَةِ الْفَتْوَى، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَبَوَاهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ آمِنًا أَوْ قَلِيل الْخَطَرِ، وَلَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِكَمَال مَا يُرِيدُهُ، أَوْ رَجَا بِغُرْبَتِهِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ، أَوْ إِرْشَادَ أُسْتَاذٍ، وَيُشْتَرَطُ لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا، وَلَوْ لَزِمَتْهُ كِفَايَةُ أَصْلِهِ احْتَاجَ لإِِذْنِهِ، إِنْ لَمْ يَنُبْ مَنْ يَمُونُهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ، وَمِثْلُهُ الْفَرْعُ لَوْ لَزِمَتْ أَصْلَهُ مُؤْنَتُهُ امْتَنَعَ سَفَرُ الأَْصْل إِلاَّ بِإِذْنِ فَرْعِهِ إِنْ لَمْ يَنُبْ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَاجِبٍ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلاَةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُل مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلاَ إِذْنِ أَبَوَيْهِ (1) .
آدَابُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
11 - لِطَلَبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَكُونَ الطَّلَبُ فِي أَفْضَل صُورَةٍ وَتَكُونُ الإِْفَادَةُ مِنْهُ أَكْبَرَ، وَهَذِهِ الآْدَابُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَلِّمِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 189، 5 / 365، 366 ط. الأميرية 1310 هـ حاشية الدسوقي 2 / 175، 176، حاشية العدوي على شرح الخرشي 3 / 111 حاشية الجمل 5 / 190، 191، كشاف القناع 3 / 45، الإنصاف 4 / 123.(29/84)
أَوَّلاً: آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي الْمُعَلِّمِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي دَرْسِهِ، أَوْ مَعَ طَلَبَتِهِ.
12 - أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ:
أ - دَوَامُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَا أُودِعَ مِنَ الْعُلُومِ.
قَال الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ، وَمِنْ ذَلِكَ دَوَامُ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعُ لِلَّهِ تَعَالَى.
ب - أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَيَقُومَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ، فَلاَ يُذِلُّهُ بِذَهَابِهِ وَمَشْيِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَكَبِرَ قَدْرُهُ. قَال الزُّهْرِيُّ: هَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعَالِمُ إِلَى بَيْتِ الْمُتَعَلِّمِ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَوْ ضَرُورَةٌ أَوِ اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ بَذْلِهِ وَحَسُنَتْ فِيهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
ج - أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّل مِنْهَا بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعِيَالِهِ.
د - أَنْ يُنَزِّهَ عِلْمَهُ عَنْ جَعْلِهِ سُلَّمًا يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الأَْغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ،(29/84)
أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ خِدْمَةٍ، أَوْ تَقَدُّمٍ عَلَى أَقْرَانِهِ.
هـ - أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ دَنِيءِ الْمَكَاسِبِ وَرَذِيلِهَا طَبْعًا، وَعَنْ مَكْرُوهِهَا عَادَةً وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ يَتَجَنَّبُ مَوَاضِعَ التُّهَمِ وَإِنْ بَعُدَتْ.
و أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَظَوَاهِرِ الأَْحْكَامِ، كَإِمَامَةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الأَْذَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، صَادِعًا بِالْحَقِّ عِنْدَ السَّلاَطِينِ بَاذِلاً نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ بِإِظْهَارِ السُّنَنِ، وَإِخْمَادِ الْبِدَعِ، وَالْقِيَامِ لِلَّهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا فِيهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ.
ز - أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيُلاَزِمُ تِلاَوَةَ الْقُرْآنِ، وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَنَوَافِل الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
ح - أَنْ يُدِيمَ الْحِرْصَ عَلَى الاِزْدِيَادِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالاِشْتِغَال بِهِ، وَأَنْ لاَ يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَا لاَ يَعْلَمُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لاَ يَزَال الرَّجُل عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَل مَا يَكُونُ، وَأَنْ يَشْتَغِل(29/85)
بِالتَّصْنِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ لَكِنْ مَعَ تَمَامِ الْفَضِيلَةِ وَكَمَال الأَْهْلِيَّةِ (1) .
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ هِيَ:
13 - أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَيَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ إِذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَارِزًا لِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَيُوَقِّرَ فَاضِلَهُمْ، وَيَتَلَطَّفَ بِالْبَاقِينَ، وَيُكْرِمَهُمْ بِحُسْنِ السَّلاَمِ، وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ.
وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبَحْثِ وَالتَّدْرِيسِ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا.
وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الدُّرُوسُ قَدَّمَ الأَْشْرَفَ فَالأَْشْرَفَ، وَالأَْهَمَّ فَالأَْهَمَّ، وَلاَ يَذْكُرُ شُبْهَةً فِي الدِّينِ فِي دَرْسٍ وَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا إِلَى دَرْسٍ آخَرَ؛ بَل يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُطِيل الدَّرْسَ تَطْوِيلاً يُمَل، وَلاَ يُقَصِّرَهُ تَقْصِيرًا يُخِل.
وَأَنْ يَصُونَ مَجْلِسَهُ عَنِ اللَّغَطِ وَعَنْ رَفْعِ الأَْصْوَاتِ.
وَأَنْ يُلاَزِمَ الإِْنْصَافَ فِي بَحْثِهِ وَخِطَابِهِ.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ص 15 وما بعدها ط. جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد 1353 هـ، المجموع للنووي 1 / 28، أدب الدنيا والدين 35 ط. المطبعة الأدبية 1317.(29/85)
وَأَنْ لاَ يَنْتَصِبَ لِلتَّدْرِيسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لَهُ (1) .
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ مَعَ طَلَبَتِهِ هِيَ:
14 - أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَشْرَ الْعِلْمِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرْعِ.
وَأَنْ لاَ يَمْتَنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ الطَّالِبِ، لِعَدَمِ خُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مَرْجُوٌّ لَهُ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، قَال بَعْضُ السَّلَفِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَلأَِنَّ إِخْلاَصَ النِّيَّةِ لَوْ شُرِطَ فِي تَعْلِيمِ الْمُبْتَدَئِينَ فِيهِ مَعَ عُسْرِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى تَفْوِيتِ الْعِلْمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ يُحَرِّضُ الْمُبْتَدِئَ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَأَنْ يُرَغِّبَ الطَّالِبَ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ فِي أَكْثَرِ الأَْوْقَاتِ.
وَأَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَفْهِيمِهِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ أَهْلاً لِذَلِكَ، وَيُحَرِّضَهُ عَلَى طَلَبِ الْفَوَائِدِ، وَحِفْظِ الْفَرَائِدِ وَلاَ يَدَّخِرُ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَتَأَهَّل لَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُبَدِّدُ ذِهْنَهُ وَيُفَرِّقُ فَهْمَهُ.
وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعْلِيمِ الطَّالِبِ وَتَفْهِيمِهِ
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 30 وما بعدها، والمجموع 1 / 28 وما بعدها، إحياء علوم الدين 1 / 6 وما بعدها.(29/86)
بِبَذْل جَهْدِهِ، وَتَقْرِيبِ الْمَعْنَى لَهُ.
وَإِذَا سَلَكَ الطَّالِبُ فِي التَّحْصِيل فَوْقَ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَخَافَ الْمُعَلِّمُ ضَجَرَهُ أَوْصَاهُ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، وَالأَْنَاةِ، وَالاِقْتِصَادِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ نَوْعُ سَآمَةٍ أَوْ ضَجَرٍ أَمَرَهُ بِالرَّاحَةِ وَتَخْفِيفِ الاِشْتِغَال.
وَأَنْ لاَ يُظْهِرَ لِلطَّلَبَةِ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يُوحِشُ صُدُورَهُمْ وَيُنَفِّرُ قُلُوبَهُمْ.
وَأَنْ يَسْعَى فِي مَصَالِحِ الطَّلَبَةِ وَجَمْعِ قُلُوبِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا غَابَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ زَائِدًا عَنِ الْعَادَةِ سَأَل عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَرْسَل إِلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ مَنْزِلَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَفْضَل.
وَأَنْ يَتَوَاضَعَ مَعَ الطَّالِبِ وَكُل مُسْتَرْشِدٍ سَائِلٍ (1) فَفِي الْحَدِيثِ: لِينُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ (2) .
ثَانِيًا: آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ مُعَلِّمِهِ أَوْ فِي دَرْسِهِ.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 47 وما بعدها، إحياء علوم الدين 1 / 61 ط. مصطفى الحلبي 1939م، المجموع 1 / 30 وما بعدها.
(2) حديث: " لينو لمن تعلمون. . . " عزاه العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (بشرحه الإتحاف 8 / 27) إلى ابن السني في رياضة المتعلمين، وقال: " بسنده ضعف ".(29/86)
آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ:
15 - أ - أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ لِيَصْلُحَ بِذَلِكَ لِقَبُول الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَل بِهِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَلاَ يَقْصِدُ بِهِ الأَْغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ، لأَِنَّ الْعِلْمَ عِبَادَةٌ، فَإِنْ خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ قُبِل وَنَمَتْ بَرَكَتُهُ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى حَبَطَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُهُ.
ب - أَنْ يُبَادِرَ شَبَابَهُ وَأَوْقَاتَ عُمْرِهِ إِلَى التَّحْصِيل، وَأَنْ يَقْنَعَ مِنَ الْقُوتِ بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَمِنَ اللِّبَاسِ بِمَا يَسْتُرُ.
ج - أَنْ يَقْسِمَ أَوْقَاتَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهَا.
د - أَنْ يُقَلِّل نَوْمَهُ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ وَذِهْنِهِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ وَذِهْنَهُ إِذَا كَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ضَعُفَ، وَأَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْوَرَعِ فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ وَيَتَحَرَّى الْحَلاَل فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَسْكَنِهِ (1) .
آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ مُعَلِّمِهِ:
16 - أ - يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ، كَمَا قَال
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 67 وما بعدها. إحياء علوم الدين 1 / 55، المجموع 1 / 35 ط. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.(29/87)
بَعْضُ السَّلَفِ: هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ب - أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَعْتَمِدُ وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ تَوَاضُعَهُ لِمُعَلِّمِهِ عِزٌّ، فَقَدْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ نَسَبِهِ وَعِلْمِهِ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَال: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَل بِعُلَمَائِنَا،
وَأَنْ لاَ يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلاَ يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ، بَل يَقُول يَا أُسْتَاذِي، وَيَا شَيْخِي، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
ج - أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفْوَةٍ تَصْدُرُ مِنْ شَيْخِهِ أَوْ سُوءِ خُلُقٍ، وَلاَ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ مُلاَزَمَتِهِ وَحُسْنِ عَقِيدَتِهِ، وَيَتَأَوَّل أَفْعَالَهُ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ خِلاَفُهَا، وَيَبْدَأُ هُوَ عِنْدَ جَفْوَةِ الشَّيْخِ بِالاِعْتِذَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْقَى لِمَوَدَّةِ شَيْخِهِ وَأَنْفَعُ لِلطَّالِبِ.
د - أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ جِلْسَةَ الأَْدَبِ، وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِطَابَهُ مَعَهُ، وَأَنْ لاَ يَسْبِقَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابٍ، وَلاَ يَقْطَعَ عَلَى الْمُعَلِّمِ كَلاَمَهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِمَحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ بَيْنَ يَدَيْهِ (1) .
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 85 وما بعدها، المجموع 1 / 36، إحياء علوم الدين 1 / 56 جامع بيان العلم وفضله 1 / 129.(29/87)
آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ:
17 - أ - أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلاً بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ فَيُتْقِنَهُ حِفْظًا، وَيَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِ تَفْسِيرِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ.
ب - أَنْ لاَ يَشْتَغِل فِي أَوَّل أَمْرِهِ بِمَسَائِل الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يُحَيِّرُ الذِّهْنَ.
ج - أَنْ يُصَحِّحَ مَا يَقْرَؤُهُ قَبْل حِفْظِهِ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا، إِمَّا عَلَى مُعَلِّمِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
د - أَنْ يَلْزَمَ مُعَلِّمَهُ فِي التَّدْرِيسِ وَالإِْقْرَاءِ، بَل وَجَمِيعِ مَجَالِسِهِ إِذَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ خَيْرًا وَتَحْصِيلاً.
هـ - أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ حَاضِرِي مَجْلِسِ الْمُعَلِّمِ فَإِنَّهُ أَدَبٌ مَعَهُ وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ.
و أَنْ لاَ يَسْتَحِيَ مِنْ سُؤَال مَا أَشْكَل عَلَيْهِ وَيَتَفَهَّمَ مَا لَمْ يَتَعَقَّلْهُ بِتَلَطُّفٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ وَأَدَبٍ (1) .
ثَالِثًا: الآْدَابُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ:
18 - أ - يَنْبَغِي لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لاَ يُخِل بِوَظِيفَتِهِ لِطُرُوءِ فَرْضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الاِشْتِغَال، وَأَنْ لاَ يَسْأَل أَحَدًا تَعَنُّتًا
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم 112 وما بعدها، إحياء علوم الدين 1 / 57 وما بعدها، المجموع 1 / 36.(29/88)
وَتَعْجِيزًا، فَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنِ الْغُلُوطَاتِ (1) .
ب - أَنْ يَعْتَنِيَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَحْصِيل الْكُتُبِ شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ لِئَلاَّ يَفُوتَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِئَلاَّ يَكْسَل عَنْ تَحْصِيل الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَمْتَنِعَ مِنْ إِعَارَتِهِ غَيْرَهُ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الإِْعَارَةِ لِمَنْ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مَعَ مَا فِي مُطْلَقِ الْعَارِيَّةِ مِنَ الْفَضْل، وَيُسْتَحَبُّ شُكْرُ الْمُعِيرِ لإِِحْسَانِهِ (2) .
طُلُوعٌ
انْظُرْ: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، صَوْمٌ
__________
(1) حديث: " نهى عن الغلوطات ". أخرجه أبو داود (4 / 65 ط. استانبول) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وفي إسناده جهالة كما في فيض القدير للمناوي (6 / 301) .
(2) المجموع للنووي 1 / 39، تذكرة السامع والمتكلم 164 وما بعدها.(29/88)
طُمَأْنِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّمَأْنِينَةُ لُغَةً: السُّكُونُ، يُقَال: اطْمَأَنَّ الرَّجُل اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً: أَيْ سَكَنَ، وَاطْمَأَنَّ الْقَلْبُ: إِذَا سَكَنَ وَلَمْ يَقْلَقْ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (1) أَيْ لِيَسْكُنَ إِلَى الْمُعَايَنَةِ بَعْدَ الإِْيمَانِ بِالْغَيْبِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} (2) أَيْ إِذَا سَكَنَتْ قُلُوبُكُمْ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: اطْمَأَنَّ بِالْمَوْضِعِ أَقَامَ بِهِ وَاتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوْضِعٌ مُطْمَئِنٌّ مُنْخَفِضٌ.
وَالطُّمَأْنِينَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ اسْتِقْرَارُ الأَْعْضَاءِ زَمَنًا مَا (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حَدِّ هَذَا الزَّمَنِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْحُكْمِ الإِْجْمَالِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْدِيل:
2 - التَّعْدِيل فِي اللُّغَةِ: إِقَامَةُ الْحُكْمِ،
__________
(1) سورة البقرة / 260.
(2) سورة النساء / 103.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (طعن) ، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 241.(29/89)
وَالتَّزْكِيَةُ، وَتَسْوِيَةُ الْمِيزَانِ.
وَاصْطِلاَحًا: اسْتَعْمَل الْحَنَفِيَّةُ التَّعْدِيل بِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ، فَيَعُدُّونَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ تَعْدِيل الأَْرْكَانِ، وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ تَسْكِينَ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ الْمَفَاصِل (1) .
فَالتَّعْدِيل بِهَذَا الْمَعْنَى مُرَادِفٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ وَهُوَ أَنَّ رَجُلاً دَخَل الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَصَل فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل، فَعَل ذَلِكَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى
__________
(1) القاموس المحيط مادة (عدل) ، وحاشية ابن عابدين 1 / 312، وتبيين الحقائق 1 / 106.(29/89)
تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَل ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) .
وَمَحَل الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ: فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالاِعْتِدَال مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا أَبِي يُوسُفَ - إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَيُسَمُّونَهَا " تَعْدِيل الأَْرْكَانِ " وَهِيَ سُنَّةٌ فِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ، وَهُوَ تَخْرِيجُ الْكَرْخِيِّ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَتَّى تَجِبَ سَجْدَتَا السَّهْوِ بِتَرْكِهِ، كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ وَالْمُلْتَقَى وَهُوَ مُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ.
وَمَحَل التَّعْدِيل عِنْدَهُمْ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبَ التَّعْدِيل فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَيْضًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وُجُوبُ تَعْدِيل الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ وَتَعْدِيلُهُمَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيَّةُ، وَرُوِيَ وُجُوبُهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلأَْدِلَّةِ وَعَلَيْهِ الْكَمَال وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
__________
(1) حديث: المسئ صلاته. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 277) ومسلم (1 / 298) من حديث أبي هريرة.(29/90)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: بِفَرْضِيَّةِ الْكُل، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمَعِ وَالْعَيْنِ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الثَّلاَثَةِ، وَقَال فِي الْفَيْضِ: إِنَّهُ الأَْحْوَطُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ خِلاَفٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْقَوْل بِفَرْضِيَّتِهَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا قَال زَرُّوقٌ وَالْبَنَّانِيُّ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيل: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ (1) .
أَقَل الطُّمَأْنِينَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَقَل الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ سُكُونُ الأَْعْضَاءِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: أَقَلُّهَا ذَهَابُ حَرَكَةِ الأَْعْضَاءِ زَمَنًا يَسِيرًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ يَمْكُثَ الْمُصَلِّي حَتَّى تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ وَتَنْفَصِل حَرَكَةُ هُوِيِّهِ عَنِ ارْتِفَاعِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ زَادَ فِي الْهُوِيِّ ثُمَّ ارْتَفَعَ وَالْحَرَكَاتُ مُتَّصِلَةٌ وَلَمْ يَلْبَثْ لَمْ تَحْصُل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، حاشية الدسوقي 1 / 241، جواهر الإكليل 1 / 49، المجموع 3 / 408، 409، مغني المحتاج 1 / 164، كشاف القناع 1 / 387، الإنصاف 2 / 113، تبيين الحقائق 1 / 106.(29/90)
الطُّمَأْنِينَةُ، وَلاَ يَقُومُ زِيَادَةُ الْهُوِيِّ مَقَامَ الطُّمَأْنِينَةِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَقَلُّهَا حُصُول السُّكُونِ وَإِنْ قَل، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: هِيَ بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ، أَوْ فِي سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ، وَقُلْنَا: هُوَ سُنَّةٌ، وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لاَ يَتَّسِعُ لَهُ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ قَدْرَ تَسْبِيحَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
طَمْثٌ
اُنْظُرْ: حَيْض.
__________
(1) المراجع السابقة.(29/91)
طَهَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَال: طَهُرَ الشَّيْءُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا يَطْهُرُ بِالضَّمِّ طَهَارَةً فِيهِمَا، وَالاِسْمُ: الطُّهْرُ بِالضَّمِّ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ الأَْدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ (1) .
وَفِي الشَّرْعِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْل أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
وَعُرِفَتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا: زَوَال حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةُ النَّجِسِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى صُورَتِهِمَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ، أَوْ فِيهِ، أَوْ لَهُ. فَالأَْوَّلاَنِ يَرْجِعَانِ لِلثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَالأَْخِيرُ لِلشَّخْصِ (4) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (طهر) .
(2) التعريفات للجرجاني ص 142 ط. الكتب العلمية - بيروت.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 11، وكفاية الأخيار للحصني ص 6، وكشاف القناع 1 / 24.
(4) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34.(29/91)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَسْل:
2 - الْغَسْل بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ غَسَل، وَالْغُسْل بِالضَّمِّ: اسْمٌ مِنَ الْغَسْل - بِالْفَتْحِ - وَمِنْ الاِغْتِسَال، وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الاِغْتِسَال.
وَيُعَرِّفُونَهُ لُغَةً: بِأَنَّهُ سَيَلاَنُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.
وَشَرْعًا: بِأَنَّهُ سَيَلاَنُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ (1) .
وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَسْل.
ب - التَّيَمُّمُ:
3 - التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْقَصْدِ، وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لإِِزَالَةِ الْحَدَثِ (2) .
وَالتَّيَمُّمُ أَخَصُّ مِنَ الطَّهَارَةِ.
ج - الْوُضُوءُ:
4 - الْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ: اسْمٌ لِلْفِعْل، وَهُوَ: اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَبِفَتْحِهَا: اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ،
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح ومغني المحتاج 1 / 68، وانظر مراقي الفلاح ص 52، والقليوبي 1 / 61، وكشاف القناع 1 / 138.
(2) التعريفات للجرجاني 71 ط. دار الكتب العلمية بيروت.(29/92)
وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ وَالضِّيَاءُ مِنْ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ.
وَفِي الشَّرْعِ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ (1) .
وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.
تَقْسِيمُ الطَّهَارَةِ:
5 - الطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.
فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الأَْكْبَرُ وَالأَْصْغَرُ؛ أَمَّا الأَْكْبَرُ فَهُوَ: الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَأَمَّا الأَْصْغَرُ فَمِنْهُ: الْبَوْل وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالْهَادِي وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وِلاَدَتِهَا.
وَأَمَّا النَّجِسُ (وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَثِ أَيْضًا) فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.
وَالأُْولَى مِنْهُمَا - وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ - شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 39 ط. محمد على صبيح وأولاده.(29/92)
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) الآْيَةَ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (2) .
وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا - وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ - شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (4) وقَوْله تَعَالَى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (5) وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (6) .
وَالطَّهَارَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ (7) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". أخرجه مسلم (1 / 204) من حديث ابن عمر.
(3) سورة المدثر / 4.
(4) سورة المائدة / 6.
(5) سورة البقرة / 125.
(6) حديث: " اغسلي عنك الدم وصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 409) ومسلم (1 / 262) من حديث عائشة.
(7) المصباح المنير، والاختيار شرح المختار 1 / 43 ط. مصطفى الحلبي، مراقي الفلاح ص 59 - 60، فتح القدير والعناية بهامشه 1 / 151، 179، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34، 175 - 176، جواهر لإكليل 1 / 38، الشرح الكبير 1 / 33، 200، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 66 - 67، الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 169 - 170، والمغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 660، منار السبيل في شرح الدليل 1 / 36، 98 نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 73، 120، 127 تحقيق د / محمد سليمان الأشقر ط. الفلاح.(29/93)